ترصد الدراسة أحد جوانب تدبير الدولة المغربية لجائحة كورونا ومواجهة تداعياتها، وقد استعانت بنظرية الأَمْنَنَة في محاولة لتفسير الخطر الوجودي الذي شكَّلته الجائحة على الصحة العامة في المغرب. واعتمدت الدراسة منهج دراسة الحالة لتحليل عملية الأمننة وأبعادها في المقاربة المغربية لمواجهة كوفيد-19؛ إذ إن طبيعة نظام الحكم القائم على أهمية الاعتبارات الأمنية، وكذا خبرته في توظيف الأمن في الإدارة الداخلية والخارجية جعلت مخرجات هذا التدبير يتمظهر في أربع قضايا “مُؤَمْنَنَة”: حالة الطوارئ الصحية، وأعمال الشرطة الإدارية، ومشاركة الجيش، ومشروع القانون 22.20.
كلمات مفتاحية: الأمننة، الصحة، كوفيد-19، المغرب.
This study examines one of the aspects of the Moroccan state’s management of the coronavirus pandemic and confrontation of its implications using the theory of “securitisation” in an attempt to explain the existential threat posed by the pandemic to public health in Morocco. The study applies the case study method to analyse the process and dimensions of securitisation in the Moroccan approach to confronting COVID-19. The nature of the system of government based on the importance of security considerations, and its experience in employing security in managing domestic and foreign issues caused the outcomes of this management to appear in four security issues: the state of health emergency, the police’s administrative work, the participation of the army, and bill 22.20.
Keywords: Securitisation, Health, Covid-19, Morocco.
مقدمة
تكمن خصوصية جائحة كوفيد-19 في فتحها مواجهة جديدة غير خاضعة للقواعد التي أقرَّها الإنسان لتوجيه نزعاته الحربية والقتالية، ومنفلتة من قوانين الصراع التاريخية التي أَلِفَها واعتاد عليها، ومردُّ ذلك عدو خفي مجهري، وسلاح فتاك غير مرئي، وساحة معركة هي الإنسان نفسه؛ أعضاؤه الحيوية وأنفاسه، وحركاته وسكناته، وعلاقاته وبيئته. لقد أحدث فيروس كوفيد-19، والحالة الوبائية التي صاحبت تفشيه وسرعة انتشاره في أغلب دول العالم، صدمة كبرى وتحولًا دراماتيكيًّا في بنيات السياسة والاقتصاد والمجتمع والأمن والثقافة والدين، ناهيك عن الصحة العامة التي أصبحت في مرمى استهداف الجائحة وعلى رأس قائمة أهدافها. سارعت كل الدول إلى إغلاق حدودها البرية والبحرية والجوية وإيقاف الحركة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية العادية والطبيعية التي اعتاد عليها الناس لعقود من الزمن، حتى تحولت إلى عقيدة للإنسان الحديث.
وإذا كان مقبولًا البحث عن بعض “حسنات” هذه الجائحة، فإنها حفَّزت بشكل غير مسبوق التفكير الفردي والجماعي حول مختلف جوانب الجائحة وقضاياها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، وانبرى الباحثون ومراكز الدراسات والجامعات لتحويل فضاءات التواصل الاجتماعي لمنصات للتثاقف والتفاكر حول الموضوع، وتعددت وتنوعت مقاربات وزوايا التحليل التي سلَّطت الضوء على مظاهر وتداعيات الجائحة.
ونسعى من خلال هذه الدراسة إلى تقديم مقترب تحليلي يركز على رصد إحدى أهم “صفات” الجائحة، وهي “التهديد” الذي باتت تشكِّله على حياة الناس وأيضًا البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات وللأنظمة الحاكمة. وقد وجد الباحث في “الأَمْنَنَة” إطارًا نظريًّا وتطبيقيًّا ملائمًا قد يمكِّن بشكل عام من فهم التحوُّل التاريخي الذي طرأ على دراسات الأوبئة، وانتقالها من دائرة الاهتمامات الصحية والعلمية البحتة، إلى دائرة التهديدات والتحديات الأمنية، وهو توجه ليس وليد اليوم أو مرتبطًا فقط بظهور جائحة كوفيد-19؛ فلطالما كانت الأوبئة جزءًا من تاريخ البشرية؛ حيث عملت كقوى مزعجة أعادت تشكيل المخاوف السياسية والاقتصادية والأمنية.
لقد سجَّل المغرب أول إصابة بفيروس كوفيد-19 في الثاني من مارس/آذار 2020، وفي حينه اتخذت السلطات سلسلة من الإجراءات والتدابير الاحترازية والوقائية، فقررت إغلاق الحدود وتعليق الدراسة بمختلف أسلاكها ومستوياتها، وإيقاف جُلِّ الأنشطة الاقتصادية والمؤسسات العمومية والخاصة، وحظر السفر والتجمعات الكبيرة وإغلاق الفضاءات العمومية وتعليق الصلاة في المساجد. وأُنشِئ صندوق أسهمت فيه كل المؤسسات والشركات العامة والخاصة والمواطنين بهدف توفير المعدات والبنيات التحتية الصحية الضرورية ومساعدة القطاعات المتضررة. كل هذه الإجراءات والقرارات جرت بتغطية قانونية عبر سنِّ قانون يفرض حالة الطوارئ الصحية في البلاد، فُرِض بموجبها حجر صحي شامل، في 20 مارس/آذار 2020، مَنَعَ التنقل وقَصَره على التزود بالغذاء والأدوية، والتوجه للعمل بالنسبة للقطاعات الحيوية بعد الحصول على تصريح صادر عن السلطات العمومية.
لم تكن هذه الإجراءات لتؤتي مفعولها بالحد من انتشار جائحة كوفيد-19، دون وجود أجهزة قادرة على فرض حالة الطوارئ ومراقبة وتتبع الالتزام بها، ودون الارتكاز على خطاب إقناعي ينقل انتشار جائحة كوفيد-19 من مجرد معضلة مرتبطة بالصحة العامة إلى تهديد قد تلحق آثاره التدميرية مختلف مناحي الحياة. وهنا، يرصد البحث مختلف مظاهر الأمننة التي لجأت إليها الدولة لمواجهة الجائحة.
وتحيل التوصيفات والتشبيهات التي أُطْلِقت على فيروس كوفيد-19 من قِبَل أعلى الأجهزة الرسمية في الدول -بوصفه فيروسًا خفيًّا أو عدوًّا، وأن مواجهته ترقى إلى درجة الحرب- إلى الطابع الأمني الذي أصبحت تتخذه إجراءات المواجهة، وهو ما يتسق مع الاتجاهات النظرية التي برزت خلال السنوات الأخيرة، والتي جعلت من الأَمْنَنَة (Securitization) عاملًا رئيسيًّا محللًا وموجِّهًا ومفسِّرًا للصحة العامة. فمن المعلوم أن ظهور فيروسات فتاكة، مثل: إيبولا، وزيكا، وسارس، وإنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور وغيرها، صُنِّفت من قِبَل المنظمات العالمية باعتبارها تهديدات حقيقية محدقة بالصحة العامة والأمن الإنساني والسلم والأمن الدوليين. واستنادًا إلى هذه التصنيفات، أصبحت أَمْنَنَة الصحة تشكِّل استراتيجية شمولية وتصورًا يرمي إلى مواجهة تهديدات وجودية تستلزم اتخاذ إجراءات استثنائية وتدابير إدارية وتقنية ناجعة.
في المغرب، وهو إحدى الدول التي بلغت فيها الإصابات أرقامًا مرتفعة، وشكَّل انتشار جائحة كوفيد-19 تحديًا حقيقيًّا، بالنظر إلى المشاكل البنيوية التي يعاني منها قطاع الصحة، أثارت تجربته في محاربة الجائحة الاهتمام. فبالإضافة إلى إجراءات الرفع من جاهزية وقدرة بنيات الاستقبال الصحية، وإغلاق مجالاته الجوية وحدوده البحرية والبرية، وسنِّ قانون فُرِضت بموجبه حالة طوارئ صحية، كما ذُكِر سابقًا، فإن الدولة المغربية لجأت إلى تحريك ترسانتها الأمنية، ومختلف أجهزة وزارة الداخلية. وقد بدت الدولة من خلال ذلك تتحرك ضمن إحدى مجالاتها “المفضلة” بالنظر إلى الدور الكبير والمحوري الذي تضطلع به الأجهزة الأمنية وأجهزة وزارة الداخلية في المغرب.
يجادل هذا البحث إذن في كون المنظومة الأمنية في المغرب، ومن منطلق خصوصياتها وبنيتها ووظائفها التاريخية المستمدة من طبيعة النظام السياسي المغربي، وُجدت في مقدمة جبهة محاربة جائحة كوفيد-19، ليس فقط من خلال أدوارها الأمنية الصرفة، ولكن استنادًا إلى مهام أخرى ذات طابع اجتماعي واقتصادي، وهو ما يؤكد وجود عملية أَمْنَنَة شاملة للمقاربة المغربية في هذا الإطار. ويعتمد البحث في دراسة أبعاد هذه العملية نهجًا تحليليًّا يستند إلى دراسة الحالة انطلاقًا من المقاربة المغربية لمواجهة انتشار جائحة كوفيد-19، نظرًا لطبيعة نظام الحكم القائم على أهمية الاعتبارات الأمنية، وخبرته في توظيف الأمن في الإدارة الداخلية والخارجية.
- الأمننة: المنطلقات النظرية والمفاهيمية
يعتبر “الأمن” مفهومًا مركزيًّا شائع الاستخدام والتداول بين الساسة والأكاديميين والعسكريين وغيرهم، لذلك فإن الأدبيات، التي جعلت منه محورها الرئيس غنية ومتعددة، تتناسق ومختلف القضايا والإشكالات الدولية. فالسياسات الخارجية والاستراتيجيات العسكرية والتوجهات الاقتصادية العالمية، والبنية العامة للعلاقات الدولية، تتقاطع كلها في حقل الأمن، سواء على المستوى الداخلي/الوطني، أو على المستوى الخارجي/الدولي. ويظل هذا الأخير محور اهتمام الدراسات الأمنية الدولية المنبثقة من الجدل الأكاديمي حول كيفية حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية(1).
برزت الدراسات الأمنية ضمن الأجندة الأمنية لحقبة ما بعد الحرب الباردة معتمدة على تقديم مفاهيم ومستويات تحليل جديدة للظاهرة الأمنية. فمن المعلوم أنه خلال هذه الحقبة وقبلها، ظلت المقاربات المستمدة من أدبيات المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية تُوجِّه الاجتهادات الأكاديمية المهتمة بمفاهيم القوة والأمن(2)، جاعلة من البعد العسكري مرتكزها الأساس ومتخذة من الدولة المرجع الرئيسي للتحليل(3)، إلا أن التحولات التي شهدتها المجالات الاقتصادية والتحديات البيئية التي تعاظم أثرها خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى بروز القضايا المرتبطة بالهوية، وتفاقم التهديدات غير التقليدية، مثل: الإرهاب والجريمة المنظمة عبر الوطنية خلال التسعينات، أنتجت إطارات أوسع لتناول القضايا الأمنية، تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والبيئية والاجتماعية للأمن بالإضافة إلى الأبعاد السياسية والعسكرية.
لقد شكَّل هذا النقاش حول “الأمن الموسَّع” وأبعاده الاجتماعية، الأساس النظري لما سُمِّي بمدرسة كوبنهاغن في العلاقات الدولية؛ إذ نجح منظِّروها في إحداث تحوُّل جوهري في تاريخ الدراسات الأمنية من خلال توسيع وتعميق مفهوم الأمن. وتأسست أفكار هذه المدرسة على إدماج مقاربات حديثة في الدراسات الأمنية، ونعتقد أن ثمة أربع مفاهيم رئيسية تمثِّل الأساس الفكري والنظري لهذه المدرسة وهي: الهوية، والمجتمع، والتهديد، والاستجابة.
وتتمحور نقطة البداية في إعادة بناء الدراسات الأمنية في التمييز بين الدولة والمجتمع، فمنظِّرو هذا التيار الفكري، مثل: باري بوزان (Barry Buzan) وأولي ويفر (Ole Waever) وجاب دي وايلد (Jaap De Wild) وغيرهم، يجادلون بأن الدراسات الأمنية تحتاج لتبني ثنائية الأمن: أمن الدولة الذي يتعلق بالسيادة، والأمن المجتمعي الذي يهتم بالهوية(4). وإعادة صياغة مفهوم الأمن وفق هذه الثنائية لا تعتبر المجتمع مجرد قطاع تابع لأمن الدولة، ولكنه كيان مستقل بذاته وموضوع مرجعي للأمن. فإذا كانت الدولة هي الهدف المرجعي للأمن السياسي والعسكري والبيئي والاقتصادي، فإن المجتمع هو الهدف المرجعي للأمن المجتمعي، كما أن بروز رهانات وتحديات جديدة في النظام العالمي، جعلت المجتمع هو المعني بالتهديد أكثر من الدولة(5). ويُعرِّف ويفر وبوزان الأمن المجتمعي (Societal Security) بـ”قدرة المجتمع على الاستمرار في سماته الأساسية في ظل الظروف المتغيرة والتهديدات المحتملة أو الفعلية”(6).
وباعتماد مفهوم الأمن المجتمعي، أحدثت مدرسة “كوبنهاغن” تحولًّا جوهريًّا في مفهوم التهديد؛ حيث حوَّلت الهوية والثقافة لرهانات أمنية، والتعامل معهما باعتبارهما قضية بقاء يجب الدفاع عنها وحمايتها من الأخطار والتهديدات. وهذا البناء “الخطابي” للتهديد الذي يضفي على قضيةٍ ما الصفة الأمنية هو ما يجري التعبير عنه بنظرية “الأمننة”.
ويضطلع الفاعل الأمني، وهو الجهة التي تقوم بإعلان قضية ما مُهَدِّدة وجوديًّا في سبيل أَمْنَنَتِها، بتوظيف الوسائل والمفاهيم غير الاعتيادية، وكسر القواعد السياسية المتعارف عليها، مثل: اللجوء للسرية، وفرض الضرائب، والتجنيد الإجباري، والحجر الصحي، وفرض حالة الطوارئ، ووضع قيود على الحقوق غير القابلة للانتهاك، وتركيز طاقة وموارد المجتمع في مهمة محددة، ويتحول الأمن إلى ممارسة مرجعية ذاتية، لأنه من خلال هذه الممارسة تصبح قضية ما أمنية ليس لأنها تمثِّل بالضرورة تهديدًا وجوديًّا حقيقيًّا، ولكنها تُقَدَّم على أنها تهديد ويجري قبولها من طرف الجمهور. وبطبيعة الحال هناك دول تكون السرية فيها وانتهاك الحقوق هي القاعدة ولا يحتاج الفاعل لأية حجج أمنية لإضفاء الشرعية على مثل هذه الأفعال، وفي هذه الحالة، وأخذًا بعين الاعتبار القواعد الخاصة لهذا المجتمع، فإن الخطاب الذي يستبعد قضية ما عن الشروط والسياسات والخصائص السياسية العادية، يحيلنا كذلك إلى وجود عملية أمننة. لقد لخص بوزان الأمننة بأنها “عملية التفاهم الموضوعي التي تحدث داخل مجتمع سياسي باعتبار قضية ما تهديدًا وجوديًّا يستدعي تدابير استعجالية تتناسب وطبيعة التهديد، وقد تكون غير خاضعة للإجراءات السياسية الطبيعية”(7).
- كوفيد-19 وأمننة الصحة
خلال العقدين الأخيرين أصبحت الأمننة واحدة من أبرز وأهم الباراديغمات المفسِّرة للصحة العالمية، وقد استخدم هذا النهج التحليلي في بداية الأمر خلال سبعينات القرن الماضي بعد ظهور تهديدات باللجوء لهجمات بيولوجية من قِبَل جماعات متطرفة كان أبرزها الهجوم بغاز السارين على مترو الأنفاق في طوكيو 1995، والذي أسفر عن مقتل 13 شخصًا وإصابة المئات. وخلال هذه السنة كذلك، وبالموازاة مع تفجير أوكلاهوما سيتي في الولايات المتحدة الأميركية، ظهرت دعوات لتوسيع التدابير الكفيلة بمواجهة خطر التهديدات الإرهابية بما في ذلك استخدام نظام الصحة العامة. وهي دعوات تكمن أصولها في محاولة تطوير أجندة أمنية جديدة في أعقاب الحرب الباردة؛ ركزت على المخاطر الأمنية الجديدة ومن أبرزها الأمراض المعدية الناشئة والمنبعثة (Emerging and Re-emerging Infectious Diseases)، والتي من منطلق قدرتها على الانتشار الواسع والتفشي وعبور الحدود، أصبحت تهدد رفاهية السكان كما القدرات الاقتصادية والعسكرية للدول. على سبيل المثال، وفي عام 2000، حَّدد مجلس الأمن القومي الأميركي مجموعة من المخاطر الناجمة عن انتشار الأمراض المعدية بما فيها زيادة الانقسام الاجتماعي والاستقطاب السياسي، والتراجع الاقتصادي، وهي عوامل قد تؤدي لعدم الاستقرار(8).
إلا أن هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، في الولايات المتحدة الأميركية، ورسائل “الجمرة الخبيثة” عبر البريد، دفعت لتبني سياسات وتدابير أمنية على عدة مستويات، فقد تبنَّت مجموعة الثماني، سنة 2006، ما سُمِّي بـ”مبادرة الأمن الصحي العالمي” التي هدفت إلى توحيد الجهود من أجل مواجهة خطر التهديدات البيولوجية وتفشي الأمراض والأوبئة، وفي ربيع 2002 أصدرت أمانة منظمة الصحة العالمية تقريرًا حول “الاستخدام المتعمد للعوامل البيولوجية”، الذي أكد على ضرورة تعزيز أنظمة الإنذار بأمراض الصحة العامة(9).
مع تفشي الفيروسات والأمراض المعدية والأوبئة في مناطق واسعة من العالم خلال السنوات الأخيرة، وإصابتها للملايين من البشر، خاصة مرض نقص المناعة المكتسبة، تلاه عودة ظهور الأمراض الناجمة عن الميكروبات، مثل: الملاريا والسل والتهاب السحايا والحصبة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وحمى الضنك وكروتزفيلد-جاكوب في أوروبا، وفيروس نيباه في ماليزيا، وفيروس غرب النيل في الأميركيتين، والسارس في كندا، اتجه علم الأوبئة ومعه الدراسات الأمنية في الغرب للتركيز على السياقات التي يصبح فيها الوباء تهديًدا لصحة المواطنين وللاستقرار الاقتصادي بعدما تأكد له أنه ليس محصنًا ضد هذا الخطر، وهو ما شجَّع على تطوير استجابات من منظور الأمن القومي. وتعتبر الولايات المتحدة الأميركية من الدول السبَّاقة في مجال مراقبة الأمراض والاستجابة لها؛ حيث تمتلك وزارة الدفاع مختبرات خارجية لأبحاث الأمراض المعدية في أكثر من 20 دولة، كما أحدثت نظامًا متنقلًا للمراقبة والاستجابة العالمية للأوبئة المعدية. وضمن نفس السياق، طوَّرت أستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي أنظمة تخطيط لمراقبة ومواجهة الأمراض المعدية والأوبئة سواء تلك التي تبرز بشكل طبيعي أو نتيجة هجمات بيولوجية، وكلها مؤطَّرة بالأبعاد الأمنية(10).
أما على مستوى منظمة الصحة العالمية، فإن تعريف الأمراض المعدية بوصفها قضية تهم الأمن القومي تحدد من خلال جعل التنظيم الحالي للأمراض المعدية متلائمًا مع مقتضيات التعاون الدولي وشبكة النظام الصحي العالمي للمراقبة. ففي مايو/أيار من العام 1995، صادقت المنظمة على إصلاح اللوائح الصحية الدولية من قِبَل 191 دولة عضوًا، والتي جسدت ولاية منظمة الصحة العالمية لإدارة عمليات الاستجابة لتفشي الأمراض المعدية الثلاث التي تقع ضمن اختصاص هذه اللوائح: الكوليرا، والحمى الصفراء، والطاعون، والتي يتعيَّن على الدول إخطار المنظمة في حالة ظهورها حتى تباشر عملية إخبار الدول المجاورة وتنسيق إجراءات الحجر الصحي وإغلاق المجالات الجوية والبرية والبحرية إن اقتضى الحال(11).
لقد أكدت جائحة كوفيد-19 ديناميات أمننة الصحة العالمية على ثلاثة مستويات: الخطاب، ونماذج التحليل الأكاديمية، والإجراءات.
على مستوى الخطاب الرسمي وغير الرسمي اعتُبر الفيروس تهديدًا لحياة البشر، وللأداء العادي والمنتظم للمجتمعات، خاصة أن معدل الإماتة أعلى من معدل الإنفلونزا من الصنف “أ”، ومدة حضانته تصل إلى 14 يومًا، وينتقل بسهولة عبر الرذاذ واللمس والاحتكاك، وهذه الخاصيات سمحت بإضفاء صفة الأمننة على انتقال الأشخاص والاتصال الاجتماعي وكل العوامل والسلوكيات التي يمكن أن تؤدي لانتقال العدوى وارتفاع الإصابات بما يؤدي لانهيار النظام الصحي(12). تمظهرت عملية الأمننة هاته بالدرجة الأولى في الخطاب المستخدم لتوصيف الفيروس، فقد صنَّفته منظمة الصحة العالمية جائحة، وتنوعت التوصيفات التي وظَّفها زعماء ورؤساء حكومات العالم. ففي الخطاب الرسمي الذي وجَّهه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في 16 مارس/آذار 2020، لمواطنيه، وصف وضعية البلاد بـ”حالة الحرب” ضد الفيروس، معتبرًا إياه “العدو الخفي”، ومُشبِّهًا المستشفيات بـ”خطوط المواجهة في المعركة الحاسمة”. وقام ماكرون بترجمة الفكرة المجردة للحرب الصحية إلى تهديد ملموس للمواطنين وللنظام الصحي، وأطلق عملية عسكرية سمَّاها “الصمود” هدفها تقديم الدعم والمساندة للساكنة والخدمات العمومية في مواجهة كوفيد-19، لاسيما قطاعات الصحة واللوجستيك والحماية(13). وأحال رئيس الوزراء الإيطالي، جيسيبي كونتي، على الحرب العالمية الثانية عندما استعار في خطاب له، في 9 مارس/آذار 2020، توصيف وينستون تشرشل “أحلك الأوقات”. كما استخدم المفوض الإيطالي العام مصطلح “اقتصاد الحرب” في وصفه للأزمة الاقتصادية الناجمة عن الجائحة في إيطاليا. وفي نفس السياق، استخدمت ملكة بريطانيا، في خطاب للشعب البريطاني، في 5 أبريل/نيسان 2020، كلمات أغنية اشتُهرت إبَّان الحرب العالمية الثانية “سوف نلتقي مجددًا”(14).
لم يختلف الأمر كثيرًا في الولايات المتحدة الأميركية التي تبنَّى رئيسها، دونالد ترامب، خطابًا عسكريًّا مماثلًا للخطاب الفرنسي، على الرغم من التردد الأولي في الاعتراف بخطورة الموقف خشية ارتدادات تمس اقتصاد البلاد. لكن مع اقتراب التهديد من أوروبا لم تعد الإدارة الأميركية قادرة على تجاهل الأمر أو عدم التفاعل معه. استدعى ترامب قانون الإنتاج الدفاعي الذي يعود لحقبة الحرب الباردة، والذي يتيح للرئيس توجيه الإنتاج الصناعي في حالة الطوارئ، وتمَّ اللجوء إليه لحشد الموارد الكافية لمواجهة الجائحة وللزيادة في عدد الاختبارات وتوسيع نطاقها، ولدفع شركة جنرال موتورز لإنتاج المزيد من أجهزة التنفس الاصطناعي(15).
في الصين، طغت غريزة النظام السياسي الأمنية في بداية الأمر على الاعتبارات الصحية لما تجاهلت كل التحذيرات بخصوص خطورة الفيروس، إلا أنها في مرحلة لاحقة تفردت باستجابتها القوية والجذرية لتفشي الجائحة بفعل الثقافة الاجتماعية والبنيات الأمنية والسياسية الموجودة مسبقًا، خاصة على مستوى تقنيات المراقبة وأنظمة التتبع الإلكتروني، التي مكَّنت من ضبط خريطة انتشار الفيروس. كما ساعدت البيروقراطية الصارمة في الصين في تنفيذ تدابير الإغلاق، وتعبئة القوى العاملة لبناء وتعزيز البنية التحتية الصحية، وتمكن الحزب الشيوعي من تشكيل تمثُّلات الأزمة باعتبارها “معركة مشتركة وعلى كل فرد مسؤولية المشاركة في القتال”(16).
وفيما يتعلق بالنماذج الأكاديمية التفسيرية، فعلاوة على الإطار النظري العام المتمثل في نظرية الأمننة التي وظَّف الباحث أبرز أفكارها في هذه الدراسة، فقد برزت محاولات لتحليل الحالة الأمنية إبان تفشي جائحة كوفيد-19 من خلال توظيف نموذجين نظريين: الأول: هو نظرية العدالة الإجرائية (Theory of Procedural Justice) التي طوَّرها توم تايلر (Tom Tyler)(17). وترتكز هذه النظرية على تقديم تحليل اجتماعي نفسي للإجابة عن سؤال: لماذا يطيع الناس القانون؟ وذلك من منظور علم الجريمة ومهام الشرطة. وتفترض هذه النظرية أن القبول الجماعي بالتوجيه والتدبير الأمنيين ناجم عن امتثال ذاتي يرجع إلى الخوف من قدرة السلطة على فرض العقوبة على وضعية الانتهاك، وامتثال معياري من منطلق الاقتناع بإجراءات السلطة وبعدالة إجراءات التطبيق. أما الثاني فهو نموذج الهوية الاجتماعية (The Social Identity Model) وافتراضاته حول ديناميات الصراع بين الجماعات في المواقف التي تمارس فيها الشرطة القوة. وفقًا لهذا المقترب، عندما يُنْظَر للإكراه الذي تمارسه قوة الأمن على أنه غير شرعي، فإن ذلك يمكن أن يخلق ردَّ فعل نفسيًّا قد يدفع فئات من الناس للشعور بالتبرير بما يكفي لمواجهة سلوك السلطة والأمن(18).
لقد أدى توظيف مفهوم الأمن في بعده “الضيق” إبان جائحة كوفيد-19، أي ذاك الذي يعبِّر فقط عن سلطة الدولة، إلى تجاهل اعتبارات الصحة العامة في البعد الأمني، وإغفال مرجعية المنفعة العامة في إقرار إجراءات الحجر الصحي والطوارئ وشرعيتها. وما هو مطلوب في هذا السياق هو الاستناد إلى “عقد اجتماعي” يجري فيه الاعتراف بالمخاوف والهواجس الأمنية والدفاع عن شرعيتها ضمن استجابة الصحة العامة(19).
على مستوى الإجراءات، دفعت جائحة كوفيد-19 بشكل مباشر الدول إلى تبني سياسات تقوم على توسيع نطاق مهمات القوى الأمنية والجيش، والتي انخرطت في تطبيق إجراءات الحجر الصحي، وتقييد تنقل الناس وتطبيق حالة الطوارئ إما عبر تفويضها بصلاحيات إضافية استنادًا للإعلانات والقرارات الحكومية أو الرئاسية التي تؤهلها لتقييد عمليات الاتصال والتواصل والحركة والتداول، أو من خلال تفعيل اختصاصات ومهام هذه الأجهزة في استعمال القوة العمومية، أو في سياق وظائفها الإنسانية والصحية، مثل: دور الجيش في إقامة المستشفيات الميدانية، وتوفير الكوادر الطبية العسكرية، وتطوير علاجات في المختبرات العسكرية، وتوفير التموين الغذائي والدوائي، وكذا دور الأجهزة الأمنية في تفعيل إجراءات الإغلاق والإشراف على حملات التضامن الاجتماعي، وتفعيل مساطر متابعة مخالفي حالة الطوارئ، والتصدي لكل ما من شأنه إثارة الخوف أو الفوضى أو الإشاعة.
لقد تعرضت نظرية أمننة الصحة لانتقادات شديدة بسبب تركيزها على الأبعاد الأمنية الصرفة أكثر من النظر في البيئة الاقتصادية والاجتماعية التي تتفشى فيها هذه الأمراض. تقليديًّا، كانت الأوبئة تشكِّل موضوع تحليل أمني عندما كان لها تأثير على القوة النسبية للدولة، خاصة خلال فترات الحروب والنزاعات، إلا أن تيارًا من المدافعين عن مفهوم “الأمن الإنساني” دافعوا عن مقاربة موضوعية للأمن، بمعنى أن أي مرض يشكِّل تهديدًا أمنيًّا ما دامت له قدرة على التأثير المباشر في حياة الأفراد وجودتها وعلى نمط الرفاه الاجتماعي، بغضِّ النظر عن الاختلاف بين المجتمعات المتأثرة بالمرض(20).
ما يدعم هذا الطرح أن العامل الرئيسي المحدد لعملية الأمننة يخضع للتقييمات والتصورات الأمنية للدول الغربية، والتي تملك ميكانيزمات وأدوات توجيه صيرورة الأمننة في حال تفشي وباء أو مرض معدي. ففي سبتمبر/أيلول 2014، وافق مجلس الأمن على إنشاء بعثة الأمم المتحدة للاستجابة الطارئة لفيروس إيبولا؛ حيث اعتبرت تفشي هذا الوباء تهديدًا للسلم والأمن الدوليين. أما منظمة الصحة العالمية فقد فقدت مكانتها حينذاك باعتبارها السلطة الرائدة ومنسقة العمل الدولي في المجال الصحي، وسُحبت اختصاصاتها وفق المنطق الأمني/السياسي للدول الممثلة في مجلس الأمن، وهذه الخطوة فتحت النقاش حول التدابير الاستثنائية والإجراءات الفنية والإدارية المصاحبة والتي قد تفلت من المراقبة الديمقراطية والقانونية(21).
- أمننة الصحة من خلال حالة الطوارئ الصحية
تقتضي سُنَّة الله ألا تستمر الحياة على وتيرة أو منوال أو نهج واحد، بل إن من سماتها الطبيعية والفطرية التقلب والتنوع والتغير ما بين الشدة والرخاء؛ بين الخوف والأمن؛ بين الحرب والسلم، وغيرها من التقابلات. لذلك، تعاملت المجتمعات والنظم السياسية والقانونية والدستورية الحاكمة مع الحالات الاستثنائية بما يلزم من التقنين والتأطير والتشريع بغية التمكُّن من تقديم إجابات وبدائل وحلول سريعة، وخاصة غير مألوفة في الظروف العادية، تتناسب والأوضاع والظروف المستجدة، وتمنحها إمكانية التحرر من بعض الالتزامات والقيود الدستورية والقانونية. وتعتبر حالة الطوارئ الصحية وما ينتج عنها من حجر صحي من الحالات التي تلجأ الدول لفرضها في مواجهة تهديد ناتج عن تفشي فيروس أو مرض مُعْدٍ أو هجوم بيولوجي يشكِّل خطرًا على الصحة العامة، ويتطلب استجابة سريعة ومنسقة.
في 30 يناير/كانون الثاني 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة طوارئ صحية بعد انتشار فيروس كورونا في عدد من الدول، وهو نفس القرار الذي اتخذته بلدان عدة عرف فيها الفيروس تفشيًا واسعًا وخطيرًا.
في المغرب، وجدت الدولة نفسها أمام حالة فراغ دستوري وتشريعي بشأن حالة الطوارئ الصحية؛ ذلك أن الدستور لا يتحدث إلا عن حالتين: الاستثناء، والتي يمكن أن يعلنها الملك بظهير “إذا كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث ما يعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية”(22)، وحالة الحصار التي يمكن إعلانها لمدة ثلاثين يومًا بمقتضى ظهير يوقِّعه بالعطف رئيس الحكومة(23).
وأمام هذا الوضع الاستثنائي، لجأت الحكومة المغربية، في 24 مارس/آذار 2020، إلى التسريع بإصدار مرسوم يعلن حالة الطوارئ الصحية، وقبله صدر مرسوم -في 23 من نفس الشهر- يتعلق بسنِّ أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها. حدَّد هذا المرسوم مبررات اللجوء إلى إعلان حالة الطوارئ الصحية، والإجراءات المتبعة من أجل ذلك وتمديدها، كما حدَّد صلاحيات الشرطة الإدارية التي جرى تأهيل السلطات العمومية لاتخاذها في سبيل مواجهة تفشي الجائحة، فضلًا عن تجريمه للمخالفات المتعلقة بحالة الطوارئ وتحديد العقوبات المخصصة لها. كما تضمن المرسوم مقتضى بوقف سريان الآجال المنصوص عليها في المقتضيات التشريعية والتنظيمية خلال فترة الطوارئ الصحية على أساس استئناف احتسابها من اليوم الموالي لرفع حالة الطوارئ(24).
أثارت الطريقة التي أُصدرت بها هذه المراسيم وصودق عليها نقاشات قانونية ودستورية، خاصة أن المشرِّع المغربي وجد نفسه بين مطرقة جائحة كوفيد-19 وسندان البحث عن مخرج قانوني يمكِّن السلطات والأجهزة التنفيذية على وجه الخصوص من غطاء قانوني يمنحها صلاحيات تدبير الأزمة، وهو ما رسخ خاصية أمننة حالة الطوارئ الصحية من خلال عدد من المؤشرات.
- يتمثَّل أول هذه المؤشرات في اعتبار حالة الطوارئ نفسها نوعًا من الأمننة ما دامت تنص على تدابير وإجراءات تكسر القواعد السياسية والمجتمعية المتعارف عليها، وتضع قيودًا على الحقوق غير القابلة للانتهاك، وتركز طاقة وموارد المجتمع في مهمة محددة وهي مواجهة كوفيد-19.
بشكل عام، يعتبر اللجوء لحالة الطوارئ في كل الأنظمة السياسية المعاصرة مدخلًا لإحداث تغييرات على النظام القانوني “العادي”، وعلى التوزيع “الطبيعي” للسلط. تصف ماري لور بازيليان كانش (Marie-Laure Basilien-Gainche) حالة الطوارئ بـ”التقنيات القانونية” التي تلجأ إليها الدولة زمن الحرب أو في سياق أزمات كبرى، تستخدم من خلالها أساليب الإكراه للحفاظ على النظام العام، وتتسم بتركيز السلطات وتقييد الحقوق(25). علاوة على ذلك، أضحى مفهوم الطوارئ أطروحة فكرية تعبِّر بشكل واضح عن تحولات الأنظمة الليبرالية(26)، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول و”الحرب العالمية على الإرهاب”؛ ذلك أن التعذيب والاختطاف والاغتيال والاعتقال خارج إطار القانون وغيرها من الممارسات حدثت برعاية من الأنظمة الرسمية وتحت غطاء الطوارئ. وقد تشكَّلت قناعة لدى هذه الأنظمة بكون حالة الطوارئ يمكن أن تمثِّل “الإطار البديل” الوحيد الذي قد يُبرِّر ممارسات العنف المتطرفة التي تمارسها الدولة.
في هذا السياق، يلتقي مفهوما الأمننة والطوارئ عند أفكار المفكر الألماني، كارل شميت (Carl Schmit)، الذي يعتبر أن كل ما هو “سياسي” لا يمكن استخلاصه من المضمون الموضوعي المحدد لقضية ما، وإنما يتحدد بالطريقة التي يشعر بها الفواعل تجاه القضية، فكل شأن ديني أو اقتصادي أو أخلاقي يتحوَّل إلى خانة “السياسي” إذا ما أحدث تمييزًا وتقسيمًا واضحًا للناس بين صديق وعدو. ويقترب هذا التعريف للسياسي من تعريف الأمن باعتباره قضية بقاء ووجود يهدده أعداء متصوَّرون، والأمننة هي توسيع لفكرة الأخطار الوجودية وسحبها على مجالات الحياة المختلفة على نحو يجعلها قائمة على منطق الحالة القصوى أو الطوارئ، ومن هنا تصبح السياسة هي ممارسة لإجراءات الطوارئ(27).
- المؤشر الثاني للأمننة يتمثل في التأطير المفاهيمي لحالة الطوارئ الصحية؛ حيث يلاحَظ أن المفاهيم الواردة في مختلف البلاغات الصادرة عن الجهات والمؤسسات الرسمية وكذلك الخطاب الرسمي العام، تبتعد عن التوصيفات ذات الحمولة الأمنية أو العسكرية القوية؛ حيث لم يسجل أن جرى الحديث عن فيروس كورونا في الحالة المغربية باعتباره “عدوًّا”، وأن مواجهته ترقى إلى درجة “الحرب” كما هي الحال بالنسبة لعدد من الدول. طغت “النبرة الوقائية والاحترازية” على اللغة الرسمية المستعملة في التعامل مع جائحة كوفيد-19، لأنها كانت موجهة للداخل، حيث اعتُبِر الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية “وضعية استثنائية”، وجائحة كورونا “أزمة صحية” تستلزم التحلي بأقصى درجات “اليقظة والتتبع والتقيد الصارم” بالتدابير الوقائية والاحترازية(28).
- فرضت جائحة كوفيد-19 على المغرب، كما على باقي دول العالم، تطوير القدرة على الاستجابة الفورية والسريعة والفعالة بدءًا من البحث عن التأطير القانوني والتشريعي والدستوري لمختلف الإجراءات والتدابير المتخذة. وقد حدثت هذه العملية في المغرب بسرعة؛ حيث جرت المصادقة على مشروع قانون حالة الطوارئ الصحية في مجلس الحكومة بتاريخ 22 مارس/آذار 2020، وقُدِّم في اليوم الموالي إلى البرلمان وبالتحديد أمام لجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدينة بمجلسي البرلمان، وحصل في نفس اليوم على مصادقة اللجنتين ونُشِر في الجريدة الرسمية، في 24 مارس/آذار، ليدخل حيز التطبيق. وإذا كان مفهومًا ومقبولًا تسريع وتيرة الفعل التشريعي بالنظر للتحولات المتسارعة لانتشار جائحة كوفيد-19، فإن هذه العملية شابتها اختلالات يبرز من خلالها بوضوح طغيان وهيمنة هاجس أمننة الإجراءات والتدابير الصحية؛ حيث إن إعلان حالة الطوارئ الصحية تم في 19 مارس/آذار 2020 من قِبَل وزارة الداخلية دون أي سند دستوري أو تشريعي، وبدأ تطبيقه في 20 مارس/آذار، أي قبل أن يأخذ مرسوم القانون بإعلان حالة الطوارئ مساره التشريعي الطبيعي ويُنشر في الجريدة الرسمية! كما أن البرلمان لم يقم بدوره الرقابي، وصادق على المشروع دون تعديل أو مناقشة. ولم يقتصر ضعف البرلمان على أدائه في إقرار حالة الطوارئ الصحية، بل تخلى عن أدوار كثيرة أدَّت إلى استئثار السلطة التنفيذية بالتدبير وغياب السلط الأخرى(29).
وقد يكون مفهومًا بالنسبة لدولة مثل المغرب، ذات بنية تحتية صحية متواضعة وتعاني من اختلالات هيكلية عميقة في هذا المجال، أن تولي أهمية خاصة في إطار تدبير أزمة كورونا للإجراءات الاحترازية والوقائية القائمة على ضبط حركة الناس من خلال تفويض هذه “المهمة” وبصلاحيات موسعة لأحد أقوى أجهزتها، وهو وزارة الداخلية، إلا أن هذا التوسع في حدِّ ذاته كانت له ارتدادات متعلقة بحقوق الإنسان ووضعية الحريات الفردية والعامة. فقد صنَّفت الأمم المتحدة المغرب من الدول التي استغلت حالة الطوارئ الصحية لارتكاب خروقات في مجال حقوق الإنسان، وهو ما تثبته الأرقام الكبيرة للموقوفين والمعتقلين والمتابعين بسبب خرق حالة الطوارئ؛ حيث أفاد بلاغ لرئاسة النيابة العامة، بتاريخ 22 مايو/أيار 2020، أن عدد الموقوفين بلغ -بدءًا من دخول مرسوم قانون حالة الطوارئ حيز التنفيذ- ما مجموعه 91623، من بينهم 4362 جرى اعتقالهم احتياطيًّا(30).
وفي نفس السياق، سجلت جمعيات حقوقية (مرصد الشمال لحقوق الإنسان، وجمعية الدفاع عن حقوق الإنسان) وجود انتهاكات وخروقات لبعض الحقوق الإنسانية الأساسية بسبب سلوكات بعض رجال السلطة ورجال الأمن، والتي نقلتها فيديوهات موثقة بالصوت والصورة تظهر تعرض مواطنين للسب والشتم والصفع والركل، وتصوير ونشر الحياة الخاصة للأفراد وانتهاك حرمتها(31)، وهو ما يتنافى مع مبدأ التناسب الذي يفرض ضرورة الملاءمة بين التدابير والإجراءات المتخذة من قبل السلطة الإدارية، والظروف التي دفعت بالإدارة لاتخاذ قرار الضبط والزجر، مع ضرورة احترام الحقوق والحريات الفردية كمبدأ لا يمكن المساس به حتى في سياق الجائحة مما يعني كذلك تحصين المؤسسات العمومية من الشطط في استعمال السلطة.
- أمننة كوفيد-19 من خلال أعمال الشرطة الإدارية
تتعدد تعريفات الشرطة الإدارية من مدرسة قانونية لأخرى، ولكنها تلتقي جميعها في كونها تسعى إلى حماية النظام العام، وهي بذلك تمثِّل الوسيلة القانونية التي تتيح للإدارة التدخل للحفاظ على النظام العام بكافة مدلولاته الثلاث، وهي: الأمن العام، والسَّكينة، والصحة العامة (المديرية العامة للجماعات المحلية بوزارة الداخلية المغربية، 2009). وتعتبر تدابير الشرطة الإدارية بمنزلة نظام وقائي تتولى فيه الإدارة حماية المجتمع من كل ما من شأنه أن يُخِلَّ بأمنه وسلامته وصحة أفراده وسكينتهم(32).
في المغرب، يوجد مستويان أو نوعان من الشرطة الإدارية، وطنية ومحلية. يشمل اختصاص الأولى نطاق الدولة ككل، حيث يمارسها رئيس الحكومة والوزراء، غير أن الدستور المغربي لا يسند للوزراء سلطة تنظيمية عامة على غرار ما يتوفر عليه رئيس الحكومة، وبالتالي لا يمكنهم أن يمارسوا مهام الشرطة الإدارية العامة، إلا أن نصوصًا تشريعية وتنظيمية تسند إليهم صلاحية ممارسة مهام الشرطة الإدارية الخاصة كل في مجال اختصاصه. وهكذا -وفيما له علاقة بموضوع البحث- يمارس وزير الداخلية استنادًا للمرسوم المتعلق بتنظيم اختصاصات وزير الداخلية، الصادر في 15 ديسمبر/كانون الأول 1997، مهام الشرطة الإدارية في مجال المحافظة على الأمن العام، ويمارس وزير الصحة مهام الشرطة الإدارية في مجال المحافظة على الصحة العمومية. أما المستوى الثاني المحلي، فقد فصَّل القانون التنظيمي رقم 14-113 المتعلق بالجماعات مهام الشرطة الإدارية لرئيس الجماعة في ميادين الوقاية الصحية والنظافة والسكينة العمومية، كما يضطلع رجال السلطة المحلية، وهم الوالي وعامل العمالة والأقاليم، ورئيس الدائرة الحضرية ورئيس الدائرة القروية والقائد ورئيس الملحقة الإدارية، باختصاصات من صميم عمل الشرطة الإدارية وتتعلق بالمحافظة على النظام والأمن العمومي(33).
إن هذه الاختصاصات تحتضنها منظومة مجالية مثيرة للاهتمام؛ ذلك أن التنظيم الإداري للمملكة المغربية مقسم إلى وحدات مجالية ذات تراتبية قانونية وسياسية وإدارية دقيقة، وهو ما يسمح ويسهِّل تنفيذ استراتيجيات الدولة بطريقة واسعة وسلسة، بالإضافة إلى السماح بتغذية راجعة مرتدة نحو مراكز صنع القرار(34). منح هذا التنظيم الإداري المجالي للسلطات العمومية خلال جائحة كوفيد-19 مجالًا واسعًا لتوظيف حالة الطوارئ الصحية لإضفاء صفة التهديد الوجودي المباشر على الجائحة، وأمننة مختلف الإجراءات والتدابير المتخذة. لقد شكَّل إعلان حالة الطوارئ في المغرب كما في باقي بلدان العالم؛ تقييدًا للحقوق والحريات الأساسية، ولاسيما حركة التنقل والحركة والتجمع. كما لعبت أجهزة الشرطة الإدارية، ونخص بالذكر السلطة المحلية ضمن تشكيلاتها التنفيذية “الدنيا” أي رؤساء الدوائر والقياد وأعوانهم والقوات المساعدة، أدوارًا رئيسية في تنزيل أحكام حالة الطوارئ والسهر على الالتزام بالحجر الصحي. وبموجب المادة الثالثة من مرسوم 2.20.293 بإعلان حالة الطوارئ الصحية، مُنحت وزارة الداخلية اختصاصات وصلاحيات واسعة؛ حيث “يتخذ ولاة الجهات وعمال العمالات والأقاليم، بموجب الصلاحيات المخولة لهم طبقًا للنصوص التشريعية والتنظيمية، جميع التدابير التنفيذية التي يستلزمها حفظ النظام العام الصحي في ظل حالة الطوارئ المعلنة، سواء كانت هذه التدابير ذات طابع توقعي أو وقائي أو حمائي، أو كانت ترمي إلى فرض أمر بحجر صحي اختياري أو إجباري، أو فرض قيود مؤقتة على إقامة الأشخاص بمساكنهم، أو الحد من تنقلاتهم، أو منع تجمعهم”(35).
واللافت للانتباه أن تحركات السلطة المحلية انتقلت إلى مستوى وصيغ من التدخل لم تكن معهودة لدى المواطنين، حيث يحدث لأول مرة الاستعانة بالتقنيات السمعية البصرية لتصوير هذه التدخلات، ومخاطبة المواطنين عبر مكبرات الصوت، ونقلت الكاميرات لأول مرة التدخلات الميدانية ومتابعة مخالفي الحجر الصحي في الأزقة الضيقة كما في الشوارع والميادين الكبرى، وكذلك إجراءات الاعتقال ومراقبة تصاريح التنقل الاستثنائية في مشاهد لا تخلو من أبعاد استعراضية. سعت كذلك هذه الأجهزة التي كانت تقود التدبير الأمني الميداني للحجر الصحي بالتنسيق مع عناصر الأمن الوطني في المدن والحواضر والدرك الملكي في القرى والمداشر، لاستثارة مشاعر التضامن الجماعية بالإقدام على عزف النشيد الوطني في الشارع العام بواسطة مكبرات الصوت، وتقديم التحية العسكرية للساكنة.
بدا واضحًا أن الحضور التنفيذي والميداني لرجال السلطة كان يتجاوز في الواقع الصلاحيات المخولة لهم بموجب قانون حالة الطوارئ الصحية، لقد كان يقترب ويتلاءم والأدوار التاريخية والضمنية التي أنيطت بوزارة الداخلية التي كانت توصف إلى عهد قريب بـ”أم الوزارات” بسبب شمول تدخلها في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية، وحضورها الطاغي في بنية النظام المغربي. لقد شملت مهام السلطة المحلية خلال فترة الحجر الصحي مراقبة الحياة العامة؛ إذ باتت تراقب الأسعار وتنظم الأسواق وتحرص على تزويدها بالسلع والمواد الغذائية الأساسية، وتشرف على توزيع مختلف أشكال الدعم الاجتماعي المالي والعيني الموجه للفئات المعوزة والمتضررة من الجائحة.
إن ما يثبت تعامل وزارة الداخلية المغربية مع جائحة كوفيد-19 باستدعاء “تراث أم الوزارات” مفهومًا وتطبيقًا أن ممارسة الاختصاصات القانونية لرجال السلطة سواء تلك المؤطرة بموجب الأنظمة الأساسية، أو تلك المخولة لهم بموجب حالة الطوارئ الصحية، جرت في إطار نوع من “الأحادية والهيمنة” في التدبير، خاصة في إطار العلاقة مع الشرطة الإدارية الجماعية المتمثلة في المجالس المنتخبة. فمن بين أهم القرارات وأكثرها إثارة للجدل تأجيل انعقاد دورة مايو/أيار العادية لمجالس الجماعات بموجب منشور لوزير الداخلية صدر بتاريخ 22 أبريل/نيسان 2020، كما أرجأ منشور آخر انعقاد الدورة العادية لمجالس العمالات والأقاليم ومجالس المقاطعات بدعوى احترام التدابير التنفيذية التي تستلزم حفظ “النظام العام”(36). علاوة على ذلك، حدَّد وزير الداخلية مجالات صرف أموال الجماعات الترابية بدقة، وخلافًا للحصر القانوني الجاري به العمل في القوانين التنظيمية فيما يخص “النفقات الإجبارية” جاءت دورية وزير الداخلية حول التدبير الأمثل لنفقات الجماعات الترابية برسم سنة 2020 بلائحة جديدة للنفقات الإجبارية منها ما يتناسب مع ضرورة الاستعجال التي تقتضيها محاربة الجائحة منها مثلًا النفقات الضرورية كالأجور، ومنها نفقات ضرورية، ولكنها أكثر استعجالًا تهم لائحة يجري إعدادها بتشاور مع العمال وترسل إلى المحاسبين العموميين التابعين للخزينة العامة، وهو ما يعني تجميدًا لكل الاختصاصات الأخرى التي لا تدخل في سياق المجالات المحصورة بالدورية، وهو ما يرفع هذه الأخيرة من مجرد توجيه إلى تشريع غير مباشر، ووضع قواعد اشتغال جديدة غير تلك المنصوص عليها في القانون التنظيمي(37). هذا التعطيل للمجالس المنتخبة جعل أدوارها خلال الجائحة هامشية ولا تتم إلا في إطار مساعدة السلطات، إذا سُمِح لها بالمساعدة بطبيعة الحال.
- أمننة الصحة من خلال مشاركة الجيش
يعتبر الجيش بصفة عامة أداة الدولة الرئيسية التقليدية التي تواجه بها التهديدات الخارجية، وتدافع بها عن حدودها وحوزتها. لكن، ومع بداية السبعينات، واجه هذا المنظور الكلاسيكي تحديات عدة؛ فرضتها خطورة التهديدات الناشئة، خاصة بعد الحرب الباردة مثل تجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية والهجمات الإلكترونية والإرهاب وغسيل الأموال وتدهور الأوضاع البيئية، بالإضافة إلى انتشار الأوبئة والأمراض المعدية. هذه التحولات شهدت معها أدوار الجيوش توسعًا ملحوظًا ضمن اتجاه عالمي يرمي إلى أمننة القضايا المدنية. وتتحقق هذه الوضعية عندما تصبح الهياكل والمؤسسات والأجهزة المدنية غير قادرة وحدها على مواجهة التحديات أو التهديدات، فيتدخل الجيش ضمن ما يُسمَّى بمبدأ “اقتسام المسؤولية” باعتبار خبرته وإمكاناته وتدريبه للمساعدة في تدبير أزمات أو كوارث.
في المغرب، لطالما حضر الجيش بكثافة في الحياة المدنية؛ حيث تنخرط القوات المسلحة الملكية في الشأن العام الداخلي من خلال توسيع نطاق دور العسكريين، أو من خلال استخدامهم من جانب السلطات المدنية كأداة لتحقيق غايات معينة(38). فنجد الجيش مثلًا حاضرًا في مواجهة الكوارث الطبيعية، ومنخرطًا في إقامة المستشفيات العسكرية الميدانية في المناطق الجبلية والنائية، وإيصال المساعدات الإنسانية لسكانها خلال فترات البرد، كما يسهم الجيش المغربي في برنامج “حذر” إلى جانب الأمن الوطني والقوات المساعدة من خلال تسيير دوريات مشتركة في إطار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب.
مع تفشي فيروس كوفيد-19، وفور إعلان حالة الطوارئ الصحية، في 19 مارس/آذار 2020، قام الجيش المغربي بوضع مخطط عمل استباقي يأخذ بعين الاعتبار الوضع على المستوى الوطني واحتياجات مختلف الهيئات (الصحة، الأمن الداخلي)، وأُلحقت فرق طبية لتعمل إلى جانب الفرق المدنية الصحية شملت إقامة ثلاثة مستشفيات ميدانية وخمسة مواقع للعزل(39). وفضلًا عن هذا الانخراط في تدبير الإشكالات الصحية، نُشرت مدرعات الجيش في كبريات المدن المغربية بالتنسيق مع قوات الأمن، ناهيك عن التعاون في مجالات البحث العلمي بين مركز علم الفيروسات التابع للمستشفى العسكري في الرباط، ومؤسسات مدنية، مثل: معهد باستور، والمختبر الوطني للإنفلونزا والفيروسات التنفسية بالمعهد الوطني للصحة.
لقد ارتبط النزول الميداني للجيش في الشوارع في أذهان المغاربة بالتدخلات القمعية العنيفة التي تمت بها مواجهة الاحتجاجات والانتفاضات التي عرفها المغرب خلال سنوات 1965 و1981 و1984 و1990؛ حيث استعمل الجيش الرصاص الحي، ورابطت المدرعات في مراكز المدن بهدف تخويف المتظاهرين وردع الاحتجاجات، بالإضافة إلى تاريخ الجيش في تورط بعض قياداته في محاولتين انقلابيتين فاشلتين على الملك الحسن الثاني، سنتي 1971 و1972. غير أن المؤسسة الملكية تمكَّنت خلال العقدين الأخيرين من إزاحة هذه التمثُّلات من أذهان المواطنين بما أناطته للجيش من مهام مدنية ذات طابع إنساني، وبالإصلاحات الهيكلية التي طالت هذه المؤسسة بتحييد النفوذ السياسي للعسكريين وإلغاء منصب وزير الدفاع وتولي الملك القيادة العليا للقوات المسلحة(40). هذه الفلسفة الجديدة لأدوار الجيش وتقاطع مهامه مع القضايا المدنية تكرست خلال جائحة كورونا، حيث ارتبط دوره من ناحية بطمأنة المواطنين بخصوص قدرة الدولة على توظيف كل إمكاناتها المتاحة بهدف الحفاظ على الصحة العامة وحمايتهم من الأخطار والتهديدات، وهي خطوة يُقصد بها إحداث نوع من التداخل بين الدفاع والأمة بالمعنى الذي يفيد أن العمل العسكري لا يندرج حصرًا في منظور الحرب أو حماية النظام السياسي من المعارضة، بل أيضًا في منظور حفظ قيم الأمة وصونها(41)، ومن ناحية إيصال رسالة مفادها إمكانية اللجوء للقوة والصرامة اللازمتين بما فيها العسكرية لفرض الالتزام بالحجر الصحي وضبط المخالفين.
- الأمننة من خلال التشريع (مشروع القانون 22.20)
في أبريل/نيسان 2020، وفي عز أزمة كورونا، سرَّب مدونون مغاربة مسودة من مشروع قانون أعدته وزارة العدل وصادقت عليه الحكومة، في 19 مارس/آذار 2020، وهو القانون 22.20 المتعلق بـ”استعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة”. ويتكون مشروع هذا القانون من 25 مادة، لكن المواد التي أثارت ضجة واسعة هي تلك التي تخص تجريم الدعوة إلى مقاطعة المنتوجات، ونشر وترويج الأخبار الزائفة، فمثلًا نصَّت المادة (14) على عقوبة السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات و/أو غرامة مادية بحق من يدعو إلى مقاطعة منتوجات أو بضائع أو خدمات. ونصَّت المادة 16 على عقوبة السجن من ثلاثة أشهر إلى سنتين و/أو غرامة مادية بحق كل من قام عمدًا بنشر أو ترويج محتوى إلكتروني يتضمن خبرًا زائفًا. ويعيد مشروع القانون هذا إلى الأذهان حملة المقاطعة الشعبية التي انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي سنة 2018، واستهدفت ثلاث علامات تجارية مشهورة وكان لها صدى واستجابة واسعان، وذلك من منطلق ارتفاع أسعار هذه المنتجات، والتي لا تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الصعبة لشرائح واسعة من المجتمع، والأرباح الخيالية التي تحققها في ظل غياب تنافسية حقيقية.
لقد أثار مشروع القانون 22.20 موجة واسعة من الاستنكار والتنديد من طرف المجتمع المدني والجمعيات الحقوقية وبعض أحزاب المعارضة (الاستقلال، التقدم والاشتراكية، فيدرالية اليسار الديمقراطي…) وحتى بعض المكونات داخل الأغلبية الحكومية؛ حيث إن المصادقة عليه في المجلس الحكومي جرت بالإشارة إلى ملاحظة مضمونها “الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات المثارة في شأنه التي سيتم دراستها من قِبَل اللجنة التقنية ثم اللجنة الوزارية المشكَّلة لهذا الغرض”، وهو ما يؤكد بحسب البعض أن الخلاف بشأنه لم يكن تقنيًّا فقط، ولكنه خلاف عميق يستدعي منطقيًّا إعادة عرضه على المجلس الحكومي، لأن موضوعه حساس جدًّا ويهم الحقوق والحريات(42). أضف إلى ذلك أن حزب العدالة والتنمية الحاكم دعا إلى تأجيل عرض هذا المشروع على البرلمان، وأكد “الموقف المبدئي للحزب الذي يقضي بأن أي تشريع في هذا المجال يجب أن يراعي ضمان ممارسة الحقوق والحريات الأساسية”(43).
يطرح توقيت ومضمون وصيغة مشروع القانون المذكور تساؤلات حول أهدافه الحقيقية؛ ذلك أن قانونًا يرمي إلى “تقنين” و”ضبط” فضاءات التواصل الاجتماعي يفترض أن يخضع لمسار من التشاور، وأن يُعرَض لنقاش عمومي مفتوح تشارك فيه القطاعات المعنية، مثل: المجلس الوطني للصحافة، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان، وهي شروط شكلية ومنهجية وديمقراطية لم تتحقق في نص قانوني يحمل تشريعات وتقنينات تحتمل تأويلات وتطبيقات وتقييدات تنطوي على خطورة معتبرة على حرية الرأي والتعبير، خاصة في ظل نظام سياسي لا يزال يقدم رِجْلًا ويؤخر أخرى في ترسيخ معالم ممارسة ديمقراطية وسياسية وقانونية وحقوقية حقيقية.
وتوجد أهم التفسيرات وراء الإقدام على طرح مشروع القانون 22.20 في تمثُّل بعض دوائر صنع القرار في المغرب لجائحة كورونا وحالة الطوارئ الصحية إن كانت ظرفًا استثنائيًّا ووضعية أزمة تفترض تركيز الجهود والموارد في تدبير الجائحة ومواجهتها، أو “فرصة” لتمرير قوانين أو فرض إجراءات مستغلة في ذلك حالة الانشغال العام بالجائحة، وهو ما يعبِّر عن نزعة أمننة حاضرة بقوة في تصورات صنَّاع القرار في المغرب تجاه مختلف التعبيرات الاجتماعية والسياسية التي قد تبتعد عن التوجهات الرسمية، أو تنفلت من رغبة الضبط والتحكُّم والتوجيه.
خاتمة
تحليل التجربة المغربية في مواجهة جائحة كوفيد-19 يشير إلى أن أمننة الجائحة اتخذ أربعة مظاهر رئيسية: أولها: حالة الطوارئ الصحية، فهي بالإضافة لطبيعتها القانونية؛ إذ تم إعلانها والعمل بمقتضياتها بموجب مرسوم قانون صادقت عليه الحكومة والبرلمان؛ عبَّرت من خلال بعض مخرجاتها وبعض انزلاقات تطبيقها، عن وجود مواصفات أمننة متعاظمة ومتجذرة في البناء العام للدولة. ثانيها: توجيه وتركيز أعمال الشرطة الإدارية في منحى ضبط السلم الاجتماعي الداخلي، والتحكُّم في السلوك الجماعي وتنميطه خلال هذه الأزمة. لذلك، وسَّع مرسوم قانون حالة الطوارئ الصحية من مهام واختصاصات وزارة الداخلية ومصالحها غير الممركزة (الولاة والعمال والباشوات والقياد)، التي تكاد تكون قد انفردت بتدبير الجائحة، وهو خيار قد يكون “مفهومًا” إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الأدوار التاريخية التي اضطلعت بها وزارة الداخلية، والنفوذ المؤثر الذي تحوزه في منظومة الحكم بالمغرب. ثالثها: مشاركة الجيش المغربي، وهو التدخل الذي جاء ليرسخ مسارًا طويلًا من تصحيح دور القوات المسلحة وإعادة هيكلتها، بما يخدم الأبعاد المدنية والإنسانية دون إلغاء أبعاد أمننة حضوره المتمثلة في تأكيد طابع التهديد الوجودي، الذي تشكِّله جائحة كوفيد-19، والذي يستدعي درجة من الضبط والحزم. رابعها: وهو محاولة الحكومة استغلال انشغال الرأي العام بأزمة كورونا وتداعياتها لتمرير قانون يحمل في طياته تقييدًا مباشرًا وغير مباشر على حرية الرأي والتعبير عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهذه الخطوة تنم عن تمثُّل الدولة المغربية لجائحة كورونا كظرفية “يجوز” من خلالها اعتبار الأمننة القاعدة الأساسية وربما الوحيدة الموجهة لسلوكها وخياراتها وقراراتها.
المراجع
(1) Barry Buzan and Lene Hansen, The Evolution of International Security Studies (New York: Cambridge University Press, 2009), 8.
(2) Barry Buzan, People, States and Fear: The National Security Problem in International Relations, 1st ed. (Brighton: Wheatsheaf, 1983), 1.
(3) Ibid, 36.
(4) Ole Waever et al., Identity, Migration and the New Security Agenda in Europe (New York: St. Martin’s Press, 1993), 17-18.
(5) سليم قسوم، الاتجاهات الجديدة في الدراسات الأمنية: دراسة في تطور مفهوم الأمن في العلاقات الدولية، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2018)، ص 118.
(6) Waever et al, Identity, Migration and the New Security Agenda in Europe, 23.
(7) Barry Buzan et al., Security: A New Framework for Analysis, (Colorado: Lynn Rienner Publishers, 1998), 23-24.
(8) Colin McInnes and Kelley Lee, “Health, Security and foreign policy,” Review of International Studies, no. 32, (2006): 10.
(9) Alexander Kelle, “Securitization of International Public Health: Implications for Global Health Governance and the Biological Weapons Prohibition Regime,” Global Governance, Vol. 3, no. 2. (April-June 2007): 224-225.
(10) Sara E. Davies, ‘‘Securitizing infectious disease’,’ International Affairs, no. 84:2, (2008): 298-302.
(11) Ibid, 303.
(12) Joao Nunes, ‘‘The COVID-19 pandemic: securitization, neoliberal crisis, and global vulnerabilization’’, Scielo, May 08, 2020, ‘‘accessed August 6, 2020’’, https://bit.ly/35bdPox.
(13) Salma Daoudi, ‘‘Covid-19: The 9/11 of Health Security?,’’ Policy Center for the New South, Policy Paper, (April 2020): 9.
(14) Anna Molnar et al., ‘‘Securitization of the COVID-19 pandemic by metaphoric discourse during the state of emergency in Hungary,’’ International Journal of Sociology and Social Policy, Vol. 40, no. 9/10, (2020): 1167.
(15) Ibid, 10.
(16) Ibid, 10.
(17) E. Allan Lind and Tom R. Tyler, The Social Psychology of Procedural Justice, (New York: Springer Science, Business Media New York, 1988).
(18) Clifford Stott et al., ‘‘A Turning Point, Securitization, and Policing in the Context of Covid-19: Building a New Social Contract between State and Nation?,’’ Policing: A Journal of Policy and Practice, Vol. 14, issue. 3, (2020): 575.
(19) Ibid, 576.
(20) Melissa G. Curley and Jonathan Herington, ‘‘The securitization of avian influenza: international discourse and domestic politics in Asia’’, Review of International Studies, Vol 37, Issue 01,( 2011): 143-144.
(21) Nunes, ‘‘The COVID-19 pandemic,” op, cit.
(22) الفصل 59 من الدستور المغربي.
(23) الفصل 74 من الدستور المغربي.
(24) حميد ولد البلاد، “طبيعة المرسوم بقانون: تأملات في ضوء المرسوم بقانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية”، في الدولة والقانون في زمن جائحة كورونا، تحرير: نبيل محمد بوحميدي، عبد المهيمن حمزة، (الرباط، مكتبة دار السلام للنشر والتوزيع، 2020)، ص 4.
(25) Marie-Laure Basilien-Gainche, Etat de droit et Etat d’exception: Une conception de l’Etat (France: PUF, 2013), 9.
(26) للاستزادة حول هذا الموضوع، انظر:
Didier Bigo et al., ‘‘La mondialisation de l’(in)sécurité?,’’ Cultures & Conflits, 58 (été 2005), “accessed 14, December 2020”. https://bit.ly/3iFkIVm.
(27) محمد مسعد العربي، “نظرية الأمننة وتصاعد الجدل حول التوسع في مفهوم الأمن”، مجلة مفاهيم المستقبل (أبو ظبي، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، العدد 8، 2015)، (تاريخ الدخول: 14 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/38mYAte.
(28) “الموقع الخاص بالبلاغات المتعلقة بفيروس كورونا المستجد وبعملية الدعم المؤقت للأسر العاملة في القطاع غير المهيكل المتضررة من فيروس كورونا”، وزارة الداخلية المغربية، 2020، (تاريخ الدخول: 14 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/3e63jBp.
(29) عمر أحرشان، “الحقوق والحريات في ظل حالة الطوارئ: أعطاب التشريع والملاءمة والتنزيل”، في حالة الطوارئ الصحية: التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها، تحرير: عبد الرحيم العلام، (أكادير، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، 2020)، ص 180.
(30) “بلاغ حول خرق حالة الطوارئ الصحية”، رئاسة النيابة العامة، 22 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 14 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/34v6ZcC.
(31) “تفاخر الأمن بتعنيف مواطنين خرقوا الحجر الصحي في المغرب: حالة الطوارئ لا تبرر انتهاك الكرامة الإنسانية”، موقع المفكرة القانونية، 30 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 29 أغسطس/آب 2021): https://bit.ly/3zsJfmK.
(32) حسن صحيب، “الشرطة الإدارية في حالات الطوارئ: الطوارئ الصحية بالمغرب”، في حالة الطوارئ الصحية: التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها، تحرير: عبد الرحيم العلام، (أكادير: منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، 2020)، ص 322.
(33) عبد الكريم الجلابي، “الشرطة الإدارية والشرطة القضائية: أية علاقة؟”، موقع العلوم القانونية، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 12 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/2TcvoNZ.
(34) Abdelaaziz Ait Ali et autres, ‘‘La stratégie du Maroc Face au Covid-1,’’ Policy Center for the New South, Avril 2020, ‘‘accessed December 12’’. https://bit.ly/3g5RnTk.
(35) “مرسوم رقم 2.20.293 صادر في 29 رجب 1441 (24 مارس/آذار 2020) بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا-كوفيد 19″، الجريدة الرسمية، عدد 6867 مكرر، ص 1783.
(36) عبد الرحيم العلام، “تشريعات الزمن الوبائي المغربي: “الظروف الخاصة” وقيم الديمقراطية”، في حالة الطوارئ الصحية: التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها، تحرير: عبد الرحيم العلام، (أكادير، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، 2020)، ص 89.
(37) إدريس جردان، ” التنظيم الإداري الترابي بالمغرب في زمن كورونا: من نظام إداري للأزمة إلى فرصة لبناء طريق ثالث للامركزية ترابية”، في حالة الطوارئ الصحية: التدابير القانونية والاقتصادية والسياسية وأبعادها، تحرير: عبد الرحيم العلام، (أكادير، منشورات مركز تكامل للدراسات والأبحاث، 2020)، ص 292.
(38) نبيل زكاوي، “العلاقات المدنية العسكرية بالمغرب: حدود العقم السياسي للجيش وسؤال الخضوع للسيطرة الديمقراطية”، مجلة لباب (مركز الجزيرة للدراسات، قطر، العدد 6، مايو/أيار 2020)، ص 116.
(39) Ait Ali, et autres, 30.
(40) زكاوي، “العلاقات المدنية العسكرية بالمغرب”، ص 121.
(41) Rachid El Houdaigui, ‘‘Moroccan Armed Forces in the Face of Geopolitical Mutations,’’ Journal of Studies and Advanced Researches on Third Sector, Special Issue, no. 2, (2019): 43.
(42) أحرشان، “الحقوق والحريات في ظل حالة الطوارئ”، ص 244.
(43) “بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية المغربي”، موقع حزب العدالة والتنمية، 2 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 18 ديسمبر/كانون الأول 2020): https://bit.ly/35Hn2U8.