تتضمن الدراسة دعوة إلى التفكير مع ماكلوهان ضد الماكلوهانية في البيئة الرقمية. وتطالب بمراجعة أبرز مرتكزات فكر مارشال ماكلوهان التي تضمنتها منشوراته. لقد حاولت الدراسة تقديم الأسباب التي أدت إلى إعادة اكتشاف “ماكلوهان” في العصر الراهن. ودفعت إلى مساءلة ما يزعمه الكثير من الكُتَّاب والباحثين الذين يرون أن ما تعيشه الميديا اليوم من تحولات في البيئة الإعلامية يُثبِت صحة ما تنبَّأ به ماكلوهان في حياته. وتحاول الدراسة أن تُبيِّن أيضًا مكانة ماكلوهان في الدرس الإعلامي العربي بما يخدم تطور البحوث الإعلامية في المنطقة العربية.
كلمات مفتاحية: الرسالة المُضَعَّفة، البيئة الإعلامية، الحتمية التكنولوجية، الإنسان غير المجسم، القدارة، المنظومة الإعلامية، نظرية الوسيط.
This study calls for the reflection with McLuhan against McLuhanism in the era of digital media and a review of the foundations of McLuhan’s thought presented in his work. It presents the reasons that led to the rediscovery of McLuhan in the contemporary era. It also questions the claims of writers and researchers that are convinced that the changes in the media ecosystem are proof of the accuracy of McLuhan’s predictions. Moreover, the study reveals McLuhan’s position in the Arab media lesson, which serves the development of media research in the Arab region.
Keywords: Dual Message, Media Ecosystem, Technological Determinism, Discarnate Man, The Affordance, The Media Device, Medium Theory.
مقدمة
ماذا لو امتد العمر بالباحث الأميركي، إليهو كاتز (Elihu Katz)، فما عساه أن يقول عن ماكلوهان بعد أن تزايد الاهتمام بأفكاره؟ لقد قال عنه في 1987: “الآن، بعد أن أصبح “ماكلوهان النيزك”(1) بعيدًا، يجب أن نأخذه مأخذ جد”. لقد فرضت عودة السجال من جديد حول أفكار ماكلوهان، التي توحي بميلاد ماكلوهانية جديدة (New Mcluhanism)(2)، التعامل مع كتاباته بكل جدية وبصيرة. هذا ما يُستشف من جهود بعض الباحثين، مثل جوشوا ميرويتز (Joshua Meyrowitz)، الذي بعث الحياة في تراث ماكلوهان من خلال أطروحته العلمية: “لا معنى للمكان”(3)، والتي قدَّم فيها تصورًا متكاملًا لما أحدثته وسائل الإعلام الإلكترونية من تغيير في المجتمعات على الصعيدين الاجتماعي والثقافي. وحاول فيها الفصل في الرهان على نهاية أفكار ماكلوهان نتيجة التراجع في استخدام التكنولوجيا التناظرية التي كرَّس الكثير من حياته للتنظير لها.
لقد مرَّت 41 سنة بعد أن غيَّب الموت ماكلوهان، وهي مدة كافية لإعادة التفكير في مؤلفاته بتروٍّ. لقد كانت مهمة الباحثين في علوم الإعلام والاتصال في ستينات القرن الماضي وسبعيناته يسيرة، إلى حدٍّ ما؛ إذ اقتصرت على فهم أفكار ماكلوهان، لاسيما أن البعض اعتبرها معقدة جدًّا. أما اليوم فقد أصبحت مهمتهم أعسر؛ إذ ليس المطلوب فحص أفكاره فقط للتحرِّي عن صحة ما يدِّعيه بعض الباحثين، مثل القول: إن تنبؤات مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) لم تكن مفهومة قبل ظهور “الميديا الجديدة”(4)، أو بعبارة أدق: إن تنبؤاته أصبحت اليوم أكثر وضوحًا ومستوعبة بشكل أفضل مما كانت عليه بيئة الاتصال التناظري(5)، وإن أفكاره تنطبق على الثقافة الإعلامية المعاصرة بشكل أفضل، وتلائم اندماج التكنولوجيا المتنقلة في حياتنا اليومية(6)، بل يجب اليوم الكشف عن الرهانات العلمية لــ”الماكلوهانية في البيئة الرقمية”.
تتسم كتابات ماكلوهان بالتعبير المكثف عن أفكاره في جمل أو فقرات قصيرة تحوَّلت إلى أقوال مأثورة. وتتميز بالاستخدام المفرط للاستعارات “الساحرة”، مثل: “الإنارة في، والإنارة على” من أجل التمييز بين التليفزيون والسينما. و”الإنسان غير المجسم” (Discarnate Man) للحديث عن مُستَخدِم الهاتف، والمتحدث في الإذاعة والتليفزيون، والفضاءين “الصوتي والإلكتروني” للكشف عن الاختلاف بين بيئة الاتصال الشفهي والاتصال البصري(7). وأفرط في الاستنتاجات المدهشة كالإقرار مثلًا بأن المصباح الكهربائي وسيط -حامل- بدون محتوى أو محمول! وأن الكهرباء هي مِيتا وسيط (Meta medium)(8)، لأن جلَّ وسائط الاتصال تعتمد عليها، وينتفي وجودها بدونها، وأن الكتاب أكثر مرؤئية من التليفزيون(9). واستند في نظريته إلى التطابقات والتشبيهات التاريخية “الجريئة”، مثل تشبيه عصر ما قبل الحروف الهجائية بعصر الاتصال الإلكتروني(10).
وانفرد ماكلوهان بإسقاطاته التاريخية من خلال ربط بعض الظواهر بوسائط الاتصال، كالقول مثلًا: إن النمط الخطي الذي فرضته المطبعة أثَّر في مختلف الممارسات الاجتماعية حتى على طريقة اصطفاف التلاميذ في المدرسة، وعلى جلوسهم في القاعة بشكل خطي بعد أن كانوا يجلسون متحلِّقين في التعليم الديني الذي ساد في عصر ما قبل المطبعة(11)! ولم يلجأ ماكلوهان إلى البحوث الأمبريقية لإثبات صحة حدسه الافتراضي أو أطاريحه “النظرية”، ولم يستعن بما توصلت إليه البحوث الإعلامية الأمبريقية في عصره، بل لم يتردَّد في وصف روادها في الولايات المتحدة الأميركية بعدم المعرفة؛ إذ رأى أنهم ضحية جهلهم الإبستمولوجي في تحليلهم للتليفزيون (بالنسبة لولبر شرام (Wilbur Schramm)) والإذاعة (بالنسبة لبول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld))، واعتبر نفسه مجدِّدًا للبحوث في مجال الميديا(12).
إذن، تأسيسًا على استعارات ماكلوهان التي تشي بتنبؤاته في مجال الإعلام والاتصال يمكن أن نفترض -على غرار ما ذهب إليه رو باتريك (Roy Patrick)(13)- وجود اختلاف كبير، في بعض الأحيان، بين بلاغة خطاب ماكلوهان ومختلف تأويلاته. هذا، إن لم نؤكد أن أفكاره تعرضت للتشويه(14)، وقُوِّلَت ما لم تقله(15)، لاسيما في الدرس الإعلامي العربي. لقد تُوِّجت هذه التأويلات بإلصاق بعض النعوت بماكلوهان، مثل: “نبي الميديا”(16)، و”نبي الإنترنت”(17)، والفيلسوف(18)، ومُنَظِّر الميديا(19) و”الفنان”(20) و”القديس”(21). هل تشير هذه النعوت إلى أننا أمام شخص متعدد الأوجه أم تعبِّر عن غياب التوافق في تحديد مكانة ماكلوهان في بحوث الإعلام والاتصال؟ مهما كانت الإجابة عن هذا السؤال فإنها تعجز عن إخفاء اللُّبس الذي اكتنف بعض أفكار مارشال ماكلوهان. لذا، نسأل: هل أسهمت البيئة الإعلامية الرقمية في إزالة هذا اللُّبس وكشفت عن خطورة تأويلات خطابه، وأكدت صواب القوانين التي اعتقد أنها تتحكَّم في الميديا الاجتماعية؟ وما القيمة المعرفية التي تقدِّمها أفكار ماكلوهان اليوم لفهم التحولات التي يعيشها قطاع الإعلام والاتصال؟ وما مكانة ماكلوهان في الدرس الإعلامي في المنطقة العربية؟ وهل ساعدت أفكاره فعلًا في تطوير هذا الدرس؟
- التموقع الإبستمولوجي والمنهجي
تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة، والتحري في صحة الافتراض المذكور أعلاه، تسليط الضوء على أبرز مرتكزات أطروحات ماكلوهان ومناقشة بعض تأويلاتها في ظل التحولات التي تعيشها البيئة الإعلامية الحالية، والإفصاح عن اختيار تموقعنا الإبستمولوجي في براديغم البناء الاجتماعي للتكنولوجيا (Social Construction of Technology) وما يفرضه من مقاربة استقرائية، وبراديغم التعقد (Complexity Paradigm). ويختلف هذان البراديغمان جذريًّا عن براديغم الحتمية التكنولوجية، لأننا نعتقد أن أية قراءة نقدية “للماكلوهانية” تكون قاصرة ما لم تقم بتفكيك آليات التفكير التي تدير براديغم الحتمية التكنولوجية وكل الحتميات.
انطلق عالما الاجتماع، تريفور بنش (Trevor Pinch) وويب بيجكر (Wiebe Bijker)، في صياغتهما لبراديغم “البناء الاجتماعي للتكنولوجيا” من نقدهما للتفكير الخطي للمسار التعاقبي والمتواصل للتكنولوجيا، الذي يؤمن بأن للعلوم سلطتها المحايثة على المخترعات التقنية. وتملك هذه المخترعات بدورها سلطة محايثة تؤثِّر على الناس فيستسلمون لها بشكل كامل فتعيد صياغة المجتمع. وركَّزا تفكيرهما على أن التكنولوجيا ليست معطى خارج المجتمع، بل تُعد ثمرة بناء اجتماعي تجب دراسته بدل القيام بتحليل التأثير الاجتماعي للتكنولوجيات(22). فإذا كانت التكنولوجيا عبارة عن علبة سوداء فيجب النفاذ إلى داخلها من أجل استيعاب كيف يؤثر العامل الاجتماعي على صياغتها وصقلها وتكييفها(23). ولا يمكن اختزال العامل الاجتماعي في سياق الاستخدام الفردي للتكنولوجيا في راهنيته لكونه يجمع حزمة من التفاعلات التي يتدخل فيها الموروث الثقافي والتنظيم الاجتماعي بتفرعاته. وينتهي البناء الاجتماعي للتكنولوجيا إلى الاقتناع بجدلية التأثير المتبادل بين العُدَّة التكنولوجية والمستخدمين في السياق الاجتماعي والسياسي للاستخدامات.
يؤكد إدغار موران (Edgar Morin) أن “هدف البحث عن منهج ليس العثور على مبدأ موحد لكل معرفة، لكن في الإشارة إلى بروز الفكر المعقَّد الذي لا يُختصر في العلم أو الفلسفة، بل يكمن فيما يسمح بتواصلهما الداخلي وتشغيل حلقات الحوار بينهما”(24). ففهم الظاهرة الإعلامية والاتصالية في بيئة رقمية سريعة التغيير -يتداخل فيها العديد من المتغيرات ويتفاعل، مثل: العُدَّة التقنية، والاقتصاد، والسياسة، والقانون، والاجتماع (الجماعة، والبنى الاجتماعية والثقافية)، وإرادة الفرد ورغباته (حاجاته ودوافعه ومزاجه النفسي)- يتطلب فكرًا معقَّدًا يُطلِّق التفكير التبسيطي والاختزالي السببي.
لقد وضع أسامة بويس(25) مجموعة من المبادئ للفكر المعقَّد نعتقد أنها تنطبق، بهذا القدر أو ذاك، على التفكير في بيئة الاتصال الرقمية، منها التخلي عن الخطاطة الذهنية الموروثة من الماضي واستبدال تلك المالِكة للقابلية على إدراك التغيير وتقبله بها، والربط (ربط وجهات النظر، والتخصصات، ومستويات التحليل) وعدم الاختزال (الإلمام بمختلف الأبعاد)، واستبدال معطى الحوار بمعطى التناقض، وتجاوز ثنائية العون/البنية لدراسة الظواهر قصد الانتقال إلى تقديم صورة ثلاثية الأبعاد للظواهر الإعلامية والاتصالية.
- مارشال ماكلوهان ومصادر إلهامه
التحق مارشال ماكلوهان (1911-1980) بجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة لدراسة الأدب. وعاد إلى موطنه، كندا، في 1944، لتدريس الأدب الإنجليزي في كلية بجامعة وندسور بأونتاريو، ثم في جامعة تورونتو. وابتعد عن تدريس الأدب بعد أن هُمِّش ليتجه إلى دراسة وسائل الإعلام، فأسَّس مدرسة تورونتو للاتصال بكندا، بمعية إريك هفلوك (Eric Havelock)، وإدموند كاربنتر (Edmund Carpenter)، وأصبح من أبرز مفكريها.
يوجد العديد من المصادر التي تضافرت في تكوين شخصية ماكلوهان الفكرية، أولها هو دراسته للنقد الأدبي الحديث الذي أتاح له الاطلاع على أهمية الإدراك في تشكيل ثقافة المرء؛ إذ اعتقد أن “الحس المرئي ينتمي إلى نمط التفكير المنطقي والخطي، بينما يرتبط الإحساس السمعي بعالم حدسي أكثر شمولية”(26). وقادته دراسته الأدبية إلى الاهتمام بالشاعر جيمس جويس (James Joyce)، ساحر الكلمات، ومفجِّر اللغة؛ فتأثر بأسلوبه الثري بالدلالات الذهنية. وهذا ما تجلَّى في باكورة أعماله: “العروس الميكانيكية، فلكلور الرجل الصناعي”، الذي صدر في 1951، وقدَّم فيه نقدًا اجتماعيًّا للمجتمع المعاصر من خلال استجلاء المعاني المتلبدة في الإعلان والشريط المرسوم والنصوص الصحفية. وثانيها: اطلاعه على كتابات المؤرخ لويس ممفورد (Lewis Mumford)، لاسيما كتابه: “التقنيات والحضارة”، الذي نشره في 1934. لقد ساعده هذا الكتاب في فهم تطور التكنولوجيا ودورها التاريخي في المجتمعات. وثالثها، وهو الأهم، يتمثَّل في لقائه بعالم الاقتصاد، هارولد إينيس (Harold Innes)، في نهاية أربعينات القرن الماضي، الذي انشغل بدور المؤسسات في احتكار المعرفة بفضل الاتصال. لقد حاول هذا العالم التفكير في دور وسائل الاتصال في بروز الحضارات المهيمنة من خلال مكانة الوسيط في المكان (الفضاء) والزمن. لقد رأى أن ألواح الفخار، على سبيل المثال، تحافظ على التقاليد لصعوبة تغيير ما يُكتب عليها ونقلها، فلا تسمح بممارسة السلطة بالوكالة. وهذا خلافًا لورق البَرْدِي الذي يتسم بخفته مما يسهِّل نقله وتبديل ما يُكتب عليه، ويُمكِّن من بسط السلطة على العديد من الأقاليم وفرضها(27). ويعتقد البعض أن ماكلوهان تأثر بكتابي هارولد إينيس: “الإمبراطورية والاتصالات”، و”تحيز الاتصال”، إلى درجة يمكن اعتبار كتابه: “مجرَّة غوتنبرغ” بمنزلة تهميش في أسفل صفحاتهما(28).
- مرتكزات الفكر الماكلوهاني
تصب مختلف كتابات ماكلوهان في إشكالية العلاقة بين البشر والتكنولوجيا التي شدَّت اهتمام الكثير من الباحثين. فوظَّف أطروحة هارولد إينيس التي تعتمد على عنصرين: الفضاء والزمن، لتفسير دور وسائط الاتصال في نشوء الإمبراطوريات واستمرارها. لقد آمن ماكلوهان بأن كل وسيط يملك خصائص تسمح له بالتحكُّم في أحد العنصرين المذكورين. ومن أجل ديمومة الإمبراطوريات يجب إحداث التوازن بين الوسيط الذي يروم التحكُّم في الفضاء، والوسيط الذي يسعى إلى إعادة إنتاجه عبر التحكُّم في الزمن مستثمرًا الخصائص التالية: الخفة/الثقل، والديمومة/شدة الزوال(29). وإن كان ماكلوهان استوحى أطروحاته من تبعات هذه الثنائية على النظام المركزي، وبسط النفوذ، واحتكار المعرفة، والسرعة في نقل الأوامر والمعلومات، فإن قوة مقاربته تكمن في فكرة التحول الذي يطرأ على الوسيلة وما تحدثه من تغيير في البيئة في الوقت الذي كانت البحوث الإعلامية عاكفة على دراسة قدرتها على نقل الرسائل(30)، وتحليل مضمون ما تنقله.
من الصعوبة بمكان تلخيص جُلِّ أفكار مارشال ماكلوهان التي تضمَّنتها كتبه ومقالاته التي حررها في مجلة “إكسبلوريشنز” (Explorations)(31)، ومقابلاته الصحفية. لذا سنكتفي بعرض أبرز أطروحاته في المحاور المتداخلة التالية:
أولًا: من الوسيط كامتداد للإنسان إلى البيئة الإعلامية
آمن ماكلوهان بأن “الوسيط (Medium) هو امتداد للإنسان”(32). ولم يحصره في وسائل الإعلام التي تحظى بالإجماع، مثل: الصحيفة، والمجلة، والمذياع، وجهاز التليفزيون، بل رآه في كل وسائل النقل والمواد والتجهيزات التي تُمدِّد حواس الإنسان، وتوسِّع نشاطه، ووصفها بأنها امتداد للإنسان لكونها تتوسل بأحد مؤهلاتنا البدنية أو الحسية.
في تأويل مقولة: “إن الميديا امتداد للإنسان” في البيئة الرقمية، ذهب بعض الكتَّاب، مثل: بول لفينسون (Paul Levinson) وروبرت لوغان (Robert Logan) إلى التأكيد أن “مستخدم الميديا الاجتماعي أصبح عبارة عن محتوى”، أي إن الإنسان الذي يستخدم الويب 2، على سبيل المثال، قادر على إنتاج المحتوى أو يسهم فيه(33)، بل إن الإنسان ذاته تحول إلى ميديا، وهذا يحيلنا إلى كتاب “نحن الميديا”(34).
وعندما يتحدث ماكلوهان عن الوسيط فيقصد به البيئة أحيانًا، والتي تعنى أن ظهور أي ميديا جديد يخلق بيئته الخاصة التي تسعى إلى تغيير شروط الإدراك الحسي الخاص الذي يميز هذه الثقافة(35). وغني عن القول: إن هذا المعنى الذي منحه ماكلوهان للبيئة الإعلامية، في سبعينات القرن الماضي، يختلف عن المعنى الذي اكتسبته في مطلع الألفية الحالية، “أي إنها منظومة الفاعلين، والتكنولوجيات، ومحتويات المنتجات في مجال مخصوص أو المتعلق بموضوع معين”(36).
في انتقاله من التفكير في الوسيط إلى البيئة الإعلامية، توصل ماكلوهان إلى فكرة مهمة جدًّا مفادها أن كل ميديا لا تولد مكتملة، بل تسعى في بدايتها إلى استعمال محتويات الميديا التي سبقتها وحتى لغتها. وهذا ينطبق تمامًا على كل وسائل الإعلام تقريبًا. لقد لخَّص أول معدٍّ لشبكة البرامج في التليفزيون الفرنسي، في 1946، هذه الفكرة في الجملة التالية: “إن التليفزيون يتوجه بإمكانيات الإذاعة إلى جمهور ينتظر منه أن يُقدِّم له ما يعادل السينما”(37)، وبالتدريج تستقل الميديا عمَّا سبقها من وسائط الاتصال بعد أن تفرض خصوصيتها، أي تشكِّل بيئتها الخاصة.
ثانيًا: الرسالة المُضَعَّفة
على الرغم من الطابع المطاطي الذي يتسم به تعريف ماكلوهان للوسيط، إلا أنه تضمن فكرة أصيلة، لم يلتفت إليها مجايلوه أو من سبقوه إلى الدراسات الاتصالية والإعلامية، تجسدها المقولة التالية: “إن الوسيلة هي الرسالة”. لقد شكَّلت هذه المقولة مركز الثقل في فكر ماكلوهان. ففي الوقت الذي هيمنت فيه المدرستان: الوظيفية والسلوكية على بحوث الإعلام والاتصال لغاية سياسية (الدعاية) أو تجارية (الإعلان)، طرح ماكلوهان “إشكالية ظلَّت غائبة عن بحوث زمانه وترتبط بعلاقة أنماط الاتصال في المجتمعات. لقد ورد الوسيط في مخطط الاتصال الذي وضعه هارولد لازويل (Harold Lasswell) بيد أن معظم النظريات لم تركز عليه، ولم تسأل قط عن البعد التقني المحض في الاتصال الاجتماعي. لقد ظل الوسيط (الوسيلة)، بشكل ما، علبةً سوداء تُرِكَت مُهِمَّة شرحها وطريقة تشغيلها وبثها لمؤرخي التقنية والمهندسين”(38).
لتوضيح فكرته هذه، ضرب مارشال ماكلوهان مثلًا بمصنع الصناعات الميكانيكية الذي يؤثِّر على عماله وعلى المجتمع بصرف النظر عمَّا ينتجه، بل إن تأثير وجوده في حدِّ ذاته يكون أكثر أهمية من تأثير منتجاته(39). ففي هذا الإطار، يمكن أن نفهم كيف ربط ماكلوهان المطبعة بتشكُّل القوميات ونشوء الإمبراطوريات (الرومانية على سبيل المثال) والحروب “الدينية” في القرن السادس عشر.
إن الميديا من منظور ماكلوهان تتضمن في الغالب رسالة مُضَعَّفة. فالقول بأن تأثير الوسيط قوي وكثيف، لأننا مَكَّناه من وسيط ثان كـ”محتوى”. فمحتوى الفيلم هو رواية، أو أوبرا، وتأثير الفيلم لا علاقة له بمحتواه(40).
ثالثًا: من الخصائص التاريخية للميديا إلى الخصائص الميدياتيكية للتاريخ(41)
لم تكن غاية ماكلوهان التحقيب التاريخي لوسائل الاتصال، بل سعى إلى الكشف عن التحول الذي أحدثته وسائل الاتصال في نماذج الإدراك لدى البشر وتأثيرها الاجتماعي والثقافي على المجتمعات. لذا قسَّم التاريخ البشري إلى ثلاث مراحل أساسية انطلاقًا من هيمنة وسيلة الاتصال في كل مرحلة، وهي: المرحلة الشفوية، تسيطر فيها الكلمة، التي يعتبرها ماكلوهان أول ميديا وأول تكنولوجيا في تاريخ البشرية، والتي تنجز التواصل عن طريق الصوت. لقد سيطرت فيها حاسة السمع لإدراك الكلام، وشكَّلت بذلك الفضاء الصوتي الذي يمنح له ماكلوهان الكثير من الأهمية في تفسير العديد من الظواهر العلمية، مثل الهندسة الإقليدية.
ومرحلة الكتابة والطباعة (مجرًّة غوتنبرغ): تُشكِّل الكتابة في نظر ماكلوهان مرحلة انتقال حاسمة في تاريخ البشرية؛ إذ أزاحت هيمنة الاتصال السمعي لصالح الاتصال المرئي: بروز الثقافة المرئية بعد الثقافة السمعية، التي رُسِّخَت أكثر بفعل اكتشاف المطبعة التي مَكْنَنَة الثقافة، وعملت على توطيد التصور الخطي للزمن والفضاء، ورسخت التفكير العقلاني، وأحدثت التخصصات المعرفية، وأقامت نظامًا من التراتيب الاجتماعية في المجتمع، وأسهمت في تطوير القوميات وتعزيز الديمقراطية.
وأعادت وسائط الاتصال الإلكترونية البشرية إلى مرحلتها الأولى، وفق ما ذهب إليه ماكلوهان، أي المرحلة الشفوية. فدمجت ما شذَّرته المطبعة، وبعثت أشكال التنظيم الاجتماعي القديمة ممثلة في القبيلة. فالميديا الإلكترونية لا تعتبر في نظر ماكلوهان امتدادًا لحاسة واحدة، مثل القول: إن الكتاب امتداد للعين، والكلام امتداد للأذن، بل تُعد عبارة عن شبكة عصبية بأكملها(42). فالثقافة المرئية والسمعية سمحت ببعث النزعة الجماعية والمصلحة العامة التي تشكِّل “القرية العالمية”(43). بالطبع، لقد تجلَّت صورة هذه القرية لماكلوهان في مجرة “ماركوني” عبر التكنولوجيا التناظرية. فماذا عن هذه القرية في ظل التكنولوجيا الرقمية؟ يعتقد الكثير من الباحثين أن التكنولوجيا الرقمية، وشبكة الإنترنت تحديدًا، جعلت من هذه القرية واقعًا ملموسًا(44). وبهذا، تحققت تنبؤات ماكلوهان.
لم يطعن الباحث روبرت لوغان في التقسيم الذي وضعه ماكلوهان لوسائل الإعلام، بل حاول تكييف أفكار هذا الأخير مع التطور التكنولوجي ما بعد العصر الإلكتروني، واقترح إضافة مرحلتين إليه، وهما: مرحلة الاتصال عبر الميمات (memes) قبل المرحلة الشفوية، ومرحلة “الميديا الجديدة”. ففي نظره أن الاتصال الإلكتروني الذي تحدَّث عنه ماكلوهان يشمل عصر الاتصال الجماهيري، وعصر التكنولوجيات الرقمية التفاعلية(45).
يعتقد ديريك دي كيركوف (Derrick de Kerckhove)(46)، من جهته، أن التأمل في الميديا الرقمية يساعد على فهم حدود أفكار ماكلوهان، ويدعو إلى الاستعانة بها في الوقت ذاته للمضي إلى أبعد مما وصل إليه ماكلوهان. واقترح إضافة مرحلة رابعة، وهي مرحلة اللاسلكي التي تستند إلى الوظيفية التقنية للميديا الرقمية، والتي تُحَرِّر الجسد من إكراهات الوقت والمكان بإدماج مستخدميها في المسار الإعلامي.
ومن “مجرة ماركوني” استوحى ماكلوهان استعارة “الإنسان غير المجسم” للدلالة على أن الشخص الذي يتكلَّم عبر الهاتف أو الإذاعة يتحوَّل عبر هذا الجهاز إلى مجرد صوت دون بدن. ويصبح الذي يتحدث في التليفزيون مجرد صوت وصورة! لقد أُوِّلت هذه الاستعارة وكُيِّفت مع البيئة الرقمية لتدل على مقدرة التكنولوجيا الرقمية على جمع أكبر عدد من البيانات عن مستخدم الإنترنت من خلال ما يخلِّفه من آثار في إبحاره في هذه الشبكة. وأضحى باستطاعة محركات البحث، وتطبيقات التجسس في الإنترنت، جمع أكبر عدد من البيانات التي تشكِّل “المستخدم غير المجسم”(47). وفي إطار هذا المعنى، استُلهمت بعض الاستعارات التي تؤكد سيطرة التكنولوجيا على الإنسان، مثل: الإنسان الرقمي (Homo Numericus)(48)، و”الإنسان العاري”، والإنسان وثيقة كأي وثيقة أخرى(50).
رابعًا: تصنيف وسائل الإعلام
صنَّف ماكلوهان وسائل الإعلام إلى صنفين: ساخنة (Hot) وباردة (Cool). واستند في تصنيفه إلى مدى مشاركة الجمهور بحواسه في تعامله مع الوسيلة. فتلك التي تتطلب مشاركة ضعيفة من قِبَل المتلقي/الجمهور، وهي ذات مستوى عال من الوضوح، صُنِّفت ساخنة على غرار الإذاعة، والطباعة، والصور الفوتوغرافية، والأفلام، والقراءة، لكونها تركز على حاسة واحدة تسخنها وتخدِّر بقية الحواس؛ بمعنى أن الحواس تفقد توازنها في استخدامها. وهذا خلافًا للوسيلة الباردة التي تتطلب مشاركة قوية، مثل الهاتف، والخطابة، وأفلام الكارتون، والتليفزيون، التي تستدعي كل الحواس. وتحقِّق توازنها. لقد توصل ماكلوهان من تصنيفه هذا إلى نتائج مذهلة؛ إذ يقول على سبيل المثال: إن التليفزيون يجذب، ويقود انتباهنا بشكل مكثف يكاد يكون تنويميًّا، فيتفاعل إحساسنا وعقلنا معه عبر الإنارة والبلورات الزجاجية(51).
- عودة الاهتمام بنظرية ماكلوهان
توجد العديد من العوامل التي ساعدت على عودة الاهتمام بأفكار ماكلوهان إلى درجة بات الاعتقاد راسخًا بـ”إعادة اكتشاف” ماكلوهان في العصر الحالي. سنقتصر على عاملين فقط يبدوان غير مفصليين، وهما:
أولًا: تطور التكنولوجيا الرقمية
في استحضار دور العامل التقني في عودة نجم ماكلوهان إلى السطوع لا يسعنا سوى القول: ما أشبه اليوم بالبارحة. يرى الكاتب الأميركي، سدني فنكلستين (Sideny Finkelstein)، أن قطاعًا واسعًا من الأميركيين كانوا يعيشون في ستينات القرن الماضي حالة شديدة الاضطراب إِنْ لم تكن أزمة، نتيجة تنامي القلق الكبير الذي انتابهم من تجدُّد الحرب الساخنة والباردة والتسابق نحو التسلح، وتزايد البطالة والخوف من تفشيها بعد أتمتة الإنتاج، وسطوة التليفزيون على المجتمع والإدمان على مشاهدة برامجه السطحية والمبتذلة… وكانوا يتساءلون: هل التطور التقني الذي يعيشونه يخدم ازدهار البشرية أو يُسبِّب خرابها؟ لقد وجدوا في كتاب ماكلوهان: “كيف نفهم وسائل الإعلام؟” الإجابة التي تُطمئِنهم، وهذا ما يفسر كثرة الإقبال عليه ساعة صدوره. إذا كان الناس يخشون من سطوة التليفزيون في العقد السادس من القرن الماضي، فقد بدأوا يخشون من سطوة شبكة الإنترنت وتطبيقاتها، التي لا تكفُّ عن التطور، في مطلع الألفية الحالية. هكذا عاد الاهتمام بأفكار ماكلوهان لعلها تُهدِّئ من روعهم(53).
حقيقة، هناك من يعتقد أن الميديا، التي تحدث عنها ماكلوهان في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، لا وجود لها اليوم، لذا لم يكن باستطاعته التكهُّن بالكمبيوتر وتطبيقاته(54) وما تُحدثه من تغيرات على الصعيدين الماكرو والميكرو اجتماعي، لكن الكثير من الكُتَّاب انصرفوا إلى سحب ما قاله ماكلوهان عن المطبعة في بداية اختراعها، والهاتف والتليغراف والإذاعة والتليفزيون في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، على شبكة الإنترنت والمنصات الرقمية، ورأوا أنها تجمع كل هذه الوسائط. وبلغ الحماس بتلميذه الوفي، بول ليفينسون، درجة جعلته لا يرى ماكلوهان إلا في صورته الرقمية(55).
ثانيًا: انتشار الفكر ما بعد الحداثي
لم يكن لمؤلفات ماكلوهان تأثير في الأوساط الأكاديمية الأميركية التي انشغلت بالاتصال والإعلام إلا بعد أن تبنَّاها منظِّرو ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة الفرنسيون، في مطلع سبعينات القرن الماضي. حقيقة، لقد اعترف ماكلوهان بأن كتاباته لا تمتُّ بأية صلة لبنيوية فرديناند دو سوسير (Ferdinand de Saussure)، ويعارضها جملة وتفصيلًا، لكن الباحث الأميركي، دونالد ثيال (Donald Theall)، رأى أن مؤلفات ماكلوهان تشكِّل كتابات ما قبل البارثية (نسبة إلى رولان بارث- Roland Barthes) والدريدية (نسبة إلى جاك ديريدا- Jacques Derrida) والليوتارية (نسبة إلى فرنسوا ليوتار- François Lyotard) والبودريارية (نسبة إلى جون بودريار- Jean Baudrillard). ولشرح هذه الفكرة، يمكن القول: إن ماكلوهان نشر كتابه “العروس الميكانيكية” في 1951، أي قبل أن ينشر رولان بارث مؤلفه: “ميثولوجيا” في 1956، لكنهما تشابها بشكل مذهل، فكلاهما تضمَّن نقدًا اجتماعيًّا من خلال معالجة وقائع الحياة الثقافية الشعبية وتأثيرها على المجتمع. لذا وُصف ماكلوهان بأنه “بارثي” قبل رولاند بارث. واعتقد جون فكيت (John Fekete) أن جاك دريدا استعار الكثير من الموضوعات والمفاهيم التي تناولها ماكلوهان في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، مثل: “التمركز العقلي” (Logocentrism)، و”التمركز الصوتي” (Phonocentrism)، والحروف الصوتية وأثرها، و”التتابع الخطِّي” (linearity) الكابح للفكر متعدِّد الأبعاد، والحس المتزامن (Simultaneity Synaesthesia). لذا اعْتُبِر ماكلوهان “داريدي” قبل الأوان. وبناء عليه، تسأل الباحث، باتريس فليشي (Patrice Flichy)، قائلًا: ألا يعتبر ماكلوهان، في آخر المطاف، أول مفكر في تيار ما بعد الحداثة؟
أكد بعض الباحثين تأثر بودريار بماكلوهان -لذا قيل: إن ماكلوهان “بودرياري” قبل الأوان- لكن الباحثة مرجوري فرغيسون (Marjorie Ferguson) استنتجت أن بودريار “نقل حتمية ماكلوهان التكنولوجية إلى عدمية تقنية (…) وقد نتج عن هذا النقل نموذج أكثر حتمية لم يتنبَّأ به ماكلوهان قط. فوسائل الإعلام فائقة الواقعية أورولية (نسبة إلى جورج أورويل- George Orwell) في العالم الشمولي والاستبدادي الذي وصفه في روايته الشهيرة”(59).
وعاد الاهتمام بأفكار ماكلوهان أيضًا بعد أن تأسست مجموعة “الميديولوجيا” (La médiologie) -من قِبَل نخبة من الكُتَّاب والفلاسفة والفنانين الفرنسيين، مثل: دانيال بونيو (Daniel Bongnoux)، ولويز مرزو (Louise Merzeau)، وكاترين بيرتو-لافنير (Catherine Bertho-Lavenir) بقيادة الفيلسوف ريجيس دوبري (Régis Debray)- التي اهتمت بالوساطة التقنية والعديد من المواضيع والأفكار التي تضمنتها كتابات ماكلوهان، لاسيما موضوع الوسيط الذي نحتت منه اسمها. وعلى الرغم من أن ريجيس دوبري أكد أن مشروع “الميديولوجيا” لا صلة له بأطروحات ماكلوهان، ووجَّه نقدًا لاذعًا لهذا الأخير؛ إذ وصفه بـ”النبي الدجال، والمُشَوِّش والمهرج”(60) إلا أنه سعى ومجموعته إلى إضفاء الطابع “الميدياتيكي على التاريخ البشري”. فقسَّمه إلى “لوغوسفير” (Logosphere) و”الغرافوسفير” (Graphosphere) و”الفيديوسفير” (Videosphere) محاكيًا في ذلك التقسيم الماكلوهاني للتاريخ البشري إلى المراحل التالية: العصري الشفاهي، ومجرة غوتنبرغ، ومجرة ماركوني(61).
- ماكلوهان في الدرس الإعلامي “العربي”
للبحث عن موقع ماكلوهان في الدرس الإعلامي العربي استبعدنا من الدراسة الكتب المترجمة إلى اللغة العربية، وهي قليلة جدًّا. واعتمدنا عينة قصدية من الكتب قوامها 32 كتابًا، يعتبر الكثير منها مرجعًا في تدريس نظريات الإعلام والاتصال في كليات وأقسام الإعلام في المنطقة العربية. ولم نعثر سوى على ثمانية كتب فقط! تطرقت، بهذا القدر أو ذاك، إلى مارشال ماكلوهان وأطروحاته، كما هو مُبيَّن في هذا الجدول.
الجدول (1): ماكلوهان في بحوث ودراسات الإعلام والاتصال بالمنطقة العربية
المرجع | التعريف | مُلهمو ماكلوهان | أطروحات ماكلوهان | مرتكزات النقد |
نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري(62) | التعريف بماكلوهان | – هارولد إينيس – سيغفريد غيديون – لويس ممفورد | – الوسيلة هي الرسالة – الوسيلة امتداد للإنسان – مراحل في تاريخ وسائل الاتصال وتطور المجتمعات | |
الأسس العلمية لنظريات الإعلام(63) | التعريف بماكلوهان | – هارولد إينيس – سيغفريد غيديون – لويس ممفورد | – الوسيلة هي الرسالة – وسائل الإعلام امتداد للإنسان – مراحل تطور وسائل الاتصال – تصنيف وسائل الإعلام: ساخنة/باردة | |
نظريات الاتصال(64) | – تصنيف وسائل الإعلام: ساخنة/باردة – مراحل تطور وسائل الاتصال | نقد ريتشارد بلاك: القرية العالمية(65) | ||
نظريات التأثير الإعلامية(66)
| عُرفت بنظرية وسائل الاتصال كامتداد للحواس وليس نظرية ماكلوهان | – وسائل الاتصال امتداد لحواس الإنسان – الوسيلة هي الرسالة -تصنيف وسائل الإعلام: ساخنة/باردة | نقد ريتشارد بلاك: القرية العالمية | |
نظريات الاتصال(67) | عرفت كنظرية التأثيرات التراكمية | – هارولد إينيس | – وسائل الاتصال امتداد للحواس – مراحل تطور وسائل الاتصال – الوسيلة هي الرسالة – تصنيف وسائل الإعلام: ساخنة/باردة | نقد ريتشارد بلاك: القرية العالمية |
نظرية الحتمية التكنولوجية(68) | عرفت كنظرية الحتمية التكنولوجية | – طبيعة وسائل الإعلام التي يتصل بها الإنسان تُشكِّل المجتمعات أكثر مما يُشكِّلها مضمون ما تبثه – ذكر مراحل تطور وسائل الاتصال – تصنيف وسائل الإعلام – وسائل الإعلام امتداد لحواس الإنسان – الانجراف التكنولوجي | نقد ريتشارد بلاك: القرية العالمية – التفاعلية تنفي تصنيف ماكلوهان لوسائل الإعلام واستبدال حتمية بأخرى | |
الاتصال الجماهيري والإعلام: التطور، الخصائص، النظريات(69) | – من قرية ماكلوهان العالمية إلى المدينة العالمية لبريجنسكي – شرح مراحل تطور وسائل الاتصال – الوسيلة هي اللغة | – نقد مفهوم القرية العالمية والدعوة إلى مراجعتها نتيجة التشتت والانعزال بفعل التكنولوجيا | ||
الاتصال: المهارات والنظريات وأسس عامة(70) | – شرح مراحل تطور الاتصال – الوسيلة هي الرسالة – تصنيف وسائل الإعلام |
لا ندري لماذا استُبعدت أطروحات ماكلوهان من 24 مرجعًا يتعلق بتدريس نظريات الإعلام والاتصال! هل إن مصممي الخطة الدراسية في أقسام الإعلام وكلياته تجنبوها عن سهو أو لاعتقادهم بأنها فقدت أهميتها، وأن التطور التكنولوجي تجاوزها، علمًا بأن هذه المراجع اهتمت بنظرية القذيفة أو الطلقة السحرية وتأثير وسائل الإعلام المطلق.
على ضوء قراءة ما كُتِب عن ماكلوهان في الكتب المذكورة في الجدول، استنتجنا ما يلي:
- إن القسم الأكبر من محتوى ما كُتِب عن أطروحات ماكلوهان مكرَّر ومستنسخ من مُؤَلَّف جيهان رشتي(71). ومن المحتمل أن يكون البعض لم ينسخها مباشرة من هذا المُؤَلَّف، بل نسخها من مصدر ثالث نسخها بدوره من المُؤَلَّف المذكور. والنتيجة أنه جرى تدوير المعلومات ذاتها في أغلب الكتب المدروسة!
- لا تساعد الكتب المدروسة في معرفة ماذا قال ماكلوهان بالضبط، وربما السبب في ذلك يعود إلى ضعف توثيق ما تضمنته من معلومات، إن لم نقل: غيابه في بعضها. فهناك تداخل، إن لم يكن خلطًا، بين ما نُسِب إلى ماكلوهان دون ذكر المصدر، وبين ما كتبه البعض عن ماكلوهان، وبين ما يُفكِّر فيه صاحب الكتاب عمَّا قاله ماكلوهان!(72).
- يتفق الكثير من الكُتَّاب والنقاد على أن أفكار ماكلوهان تعرَّضت إلى التأويل حتى من لدن الناطقين باللغة الإنجليزية، وفي أوساط أبناء الثقافة الأنغلوساكسونية(73)، مما يُبعد تهمة سوء ترجمة كتبه أو ضعفها. لقد فسَّر بعضهم مقولته المشهورة: “الوسيلة هي الرسالة”، على سبيل المثال، بأن الرسالة لا قيمة لها في الإعلام والاتصال(74) أو لا تضاهي أهمية الوسيلة!، وأن “القرية العالمية” هي صنيعة التليفزيون(75). ولئن كان التأويل حقًّا مشروعًا في البحث العلمي، فإنه يُوسِّع الهوة الفاصلة بين قصد المُؤَلِّف والمعنى الذي يستخلصه المُؤَوِّل إلى درجة نسف ما أراد المُؤَلِّف قوله أو تقويل هذا الأخير ما لم يقله. وهذا ما حدث إلى حدٍّ كبير، مع الكتب التي درسناها(76).
- تنظر مختلف الكتب التي درسناها إلى ماكلوهان بعيون جيهان رشتي. فقد أصدرت كتابها في 1978، أي قبل عشر سنوات من صدور كتاب ماكلوهان: “رباعية قوانين الميديا”(77) الذي يُعد كتابًا مهمًّا للتقييم الملموس لنشاط وسائل الإعلام. لذا، لم تتضمن الكتب في العينة المدروسة أية إشارة إلى هذه الرباعية. ولم تلتفت إليها المقالات العلمية التي كتبت باللغة العربية محاولة الحديث عن ماكلوهان اليوم!(78).
- لم يَسْعَ الدرس الإعلامي العربي، مع الأسف، إلى الاستفادة من مساهمات بعض الكُتَّاب العرب الذين استعانوا ببعض أطروحات ماكلوهان في كتاباتهم على غرار عبد الله الغذامي(79)، وعبد السلام بنعبد العالي(80).
- لم يُشر أي مرجع من المراجع التي اعتمدنا عليها كعيِّنة في هذه الدراسة إلى كتاب ماكلوهان الوحيد الذي تُرجِم إلى اللغة العربية: “كيف نفهم وسائل الاتصال؟”(81) بعد إحدى عشر سنة من صدور نسخته الأولى باللغة الإنجليزية! فهذا الكتاب، الذي بفضله اكتسب ماكلوهان شهرته العالمية، لم يلتفت الدارسون العرب إلى طبعته العربية، فأصبحت نسيًا منسيًّا! وبالتالي، لم تؤد إلى بعث النقاش عن “الماكلوهانية” في الفضاءين العربيين: الأكاديمي والصحفي. وهذا خلافًا لترجمة كتابه “مجرة غوتنبرغ” إلى اللغة الفرنسية بعد سنة فقط من صدوره بلغته الأصلية. لقد دشَّنت هذه الترجمة النقاش عن “الماكلوهانية” في فرنسا، وأسهمت في استلهام رواد ما بعد الحداثة الفرنسيين من أفكار ماكلوهان في كتاباتهم، مثلما ذكرنا آنفًا.
وما وُجِّه من نقد إلى أطروحات ماكلوهان في الكتب التي درسناها، على قِلَّته، يكرِّر، هو الآخر، النقد الذي وَجَّهَه ريتشارد بلاك (Richard Black) إلى مقولة: “القرية العالمية”؛ إذ يرى أنها لم يعد لها وجود حقيقي في المجتمع المعاصر، موضحًا ذلك بأن التطور التقني الذي استند إليه ماكلوهان عند وصفه للقرية العالمية استمر في مزيد من التطور، وأدى إلى تحطيم هذه القرية العالمية وتحويلها إلى شظايا، مُبيِّنًا أن العالم الآن أقرب ما يكون إلى البناية الضخمة التي تضم عشرات الشقق السكينة يقيم داخلها أناس كثيرون، وكل منهم يعيش في عزلة ولا يدري شيئًا عن جيرانه الذين يقطنون معه في البناية.
وانفرد كتاب واحد(82) بنقد كتابات ماكلوهان انطلاقًا من بعض ممارسات البيئة الرقمية التي أضحت “حسًّا مشتركًا” في الدرس الإعلامي، مثل: التفاعلية والتشتت والانعزال، بيد أن هذا النقد لا يخرج عن منطق الحتمية. فإبراز ظاهرة التَّشذُّر والعزلة الاجتماعية ونسبتها إلى عامل وحيد وهو التكنولوجيا، والحديث عن الانجراف التكنولوجي يدعمان رؤية ماكلوهان المعظمة للتكنولوجيا وسطوتها في المجتمع، وإغفال دور هذه التكنولوجيا يعني، أيضًا، الهروب من حتمية إلى أخرى.
واعترض كتاب واحد(83) من الكتب المدروسة على تصنيف وسائل الإعلام إلى باردة وساخنة، بالقول: إن التطور التقني، مثل التليفزيون التفاعلي، يطعن في هذا التصنيف(84).
لم تغامر جيهان رشتي وتنقد بعمق أطروحات ماكلوهان، بل أشارت بنغمة يشوبها الاعتذار، إلى أنها لم تقدم أفكار ماكلوهان منظمة لأن “ماكلوهان نفسه يؤمن بالتعمق والاستكشاف أكثر من إيمانه بتقديم تعريفات نهائية. لهذا، نادرًا ما يقدِّم أي فكرة من أفكاره على أنها حقيقة قاطعة. فنادرًا ما يبلور ماكلوهان فكرة من أفكاره حتى تكتمل، وهو يحتقر الأدلة التي يتم التوصل إليها بالأساليب العلمية للبحث، لأنه يشعر أن الأبحاث متحيزة لصالح المطبوع والسطري”(85).
وحتى نعفي جيهان رشتي من كل اعتذار أو حرج نشير إلى أن أفكار ماكلوهان لم تكن أبدًا منظمة ومتسلسلة؛ إذ وُصِفَت كتابته للتاريخ البشري بالفسيفساء(86). “لقد رسم، في كتابه: “كيف نفهم وسائل الإعلام؟”، جدارية لتاريخ البشرية، بثوراته العِرقية وبالتطور في اللغة والتقنيات والاختراعات والفنون والعلوم. وعرض هذا التاريخ بشكل مشوَّش، فَقَرَّب العصور والمواضيع المتباعدة جدًّا وكأن هذا التقريب أفرزته آلة مجنونة تعمل على استعادة الزمن”(87).
ولم يلجأ أي كتاب من الكتب التي درسناها إلى وضع مقولات ماكلوهان على محكِّ التاريخ الثقافي والإعلامي في بعض البلدان العربية؛ فلم نعثر على أي تحليل للعوامل التقنية والدينية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي أخَّرت طباعة المخطوطات العربية في البلدان العربية(88). لذا، لا يمكن تعميم ما ذكره ماكلوهان عن دور المطبعة في أوروبا وتطبيقه في المنطقة العربية بعد أن وصلتها على يد القوات الاستعمارية. ولم نعثر أيضًا في الكتب المدروسة على بداية تشكُّل “مجرة غوتنبرغ” في المنطقة العربية على غرار ما قام به فرانز فانون (Frantz Fanon)، على سبيل المثال. لقد درس تطور علاقة الجزائري بالمذياع قبل الثورة التحريرية وإبانها بشكل دقيق يدحض ما طرحه ماكلوهان عن الإذاعة(89). ولم تناقش الكتب المدروسة أطروحات ماكلوهان على ضوء الدراسات الميدانية التي أُجريت في بعض البلدان العربية، على قِلَّتها. فلم يكن تصور هذا الأخير للصحيفة والكتاب والتليفزيون والأفلام السينمائية، حتى في مجازيته، ينطبق على تصور الجزائريين في القرى والأرياف لهذه الوسائط في مطلع الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ولا يتطابق حتى مع نظرة السُّلطة السياسية لوسائل الإعلام آنذاك، لأن علاقة هؤلاء الجزائريين بوسائل الإعلام كانت صنيعة المصادفة والظروف العابرة نظرًا لضيق ذات اليد وانتشار الأمية(90).
يتضح مما سبق أن ما تضمنه الدرس الإعلامي في المنطقة العربية عن ماكلوهان لا يساعد في مجمله الدراس كثيرًا على فهم نظريته، ولا يرتقي إلى مستوى ما هو مطروح في كليات الإعلام الأجنبية الذي تعكسه المراجع التي استعنَّا بها لإعداد هذه الدراسة.
- الماكلوهانية في البيئة الرقمية
يمكن أن نرصد اتجاهين للماكلوهانية في البيئة الرقمية. الاتجاه الأول ظل وفيًّا لنزعة ماكلوهان الاستعارية؛ إذ اتجه إلى تكييف أطروحاته مع معطيات البيئة الرقمية وتعميقها. واتجاه آخر سعى إلى إعطاء بُعد تطبيقي لها من خلال تنزيل “قانون الميديا” على العُدَّة الرقمية، كالهاتف الذكي، ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك.
يمثِّل الاتجاه الأول مجموعة من الكُتَّاب، مثل: جيفري ريبورت (Jeffrey Report) وويل بروكر (Will Brooker) وشيري توركل (Sherry Turkle)، وغيرهم من الذين اجتهدوا في تفسير ما كتبه ماكلوهان منذ أزيد من نصف قرن على ضوء الواقع الراهن.
ويؤكد ماكلوهان “أننا وجدنا أنفسنا مغمورين في عالم يحدث فيه كل شيء في آن واحد، أي بطريقة كهربائية. فالمعلومة أو الخبر ذاته متوافر في اللحظة عينها في مختلف أطراف العالم… وأنظمة البحث الكهربائية تَعِدُنا بأننا نتذكر أي شيء بشكل آني”(91).
لقد استنتج بعض الكتَّاب من هذه الفقرة أن ماكلوهان تنبَّأ بالهاتف المحمول وبتأثيره الاجتماعي. ورأى جيفري ريبورت أن استخدام هذا الجهاز يجعل منه امتدادًا لذاكرتنا(92). وأكدت شيري توركل أننا نستعمل الهاتف المحمول كامتداد لعقلنا، وكأننا نحمل معنا “أنا” ثانية(93). ورأى ويل بروكر أن الناس يستعملون الهاتف المحمول كواجهة بين العالم الحقيقي والفعلي و”العالم الرقمي”، فتُحوِّل العالم الفعلي إلى بيانات، تُحَسِّنه هذه الواجهة، وتَعْرِضه كطبعة أسمى من العين المجردة(94).
لعل أبرز من يمثِّل هذا الاتجاه هو بول ليفينسون، الذي خصص كتابه: “ماكلوهان الرقمي: دليل للإعلام في الألفية” للبحث عن خصائص العصر الرقمي على ضوء سمات وسائل الإعلام المختلفة من المنظور الماكلوهاني؛ إذ أكد في هذا الصدد أن “جذور العصر الرقمي توجد في الهاتف والمطبعة. إنها أقوى من التليفزيون على الرغم من أن هذا العصر الذي يُعرض علينا في الشاشات أصبح مألوفًا بفضل التليفزيون”(95).
لقد سار هذا الكاتب على خطى أستاذه في مطابقاته التاريخية واستعاراته؛ إذ يذكر أن “الفضاء الصوتي” الماكلوهاني ليس سوى الفضاء السيبري. ويشرح فكرته هذه بالربط بين التواصل عبر الخط (Online) والاتصال الشفهي من خلال سهولة كتابة النصوص على الشاشة وتغييرها، وسرعة إرسالها بشكل تزامني لتُضاهي الاتصال الشفهي. وهذا خلافًا للاتصال المطبوع على الورق. وبهذا يرى أن الاتصال عبر الخط يشبه إلى حدٍّ كبير الاتصال الشفهي؛ فـ”الأصابع لا تتحرك فقط عبر الشاشة بل تفكر”(96).
بالفعل، يعتقد البعض أن التكنولوجيا الرقمية تمنح الفرصة لإثبات صحة رؤية ماكلوهان لوسائل الإعلام؛ إذ يذكر أن كل وسيلة إعلام جديدة تستعين بخصائص الوسيلة التي سبقتها في الوجود وحتى لغتها، مثلما ذكرنا آنفًا، وتستغلها لصقل خصوصيتها وتشكيل لغتها الخاصة. وهذا ما حصل فعلًا مع شبكة الإنترنت التي تَشَكَّل محتواها من وسائل الإعلام التي سبقتها إلى الوجود، وأنتجت “وسيلة هجينة” تجمع خصائص الوسائل السمعية، والسمعية-البصرية، والمكتوبة، وفرضت شكلًا مبتكرًا من الكتابة والقراءة والمشاهدة. ومكَّنت مناصري ماكلوهان من نقل “الأخوَّة الكهربائية” التي بشَّر بها في قريته العالمية إلى “الأخوة الرقمية” التي يعبِّر عنها مصطلح “الوعي الفائق” (Hyper consciousness) الذي يقول عنه الكاتب هيرفي فيشر (Hervé Fischer)” إنه “جماعي ومترابط عبر شبكة الإنترنت، ويشترك فيه الجميع رقميًّا. لقد نتج هذا الوعي من مضاعفة المعارف والمعلومات الطافحة في مواقع التواصل الاجتماعي التي تغيِّر قيمنا وسلوكنا وتمس عواطفنا وتحمِّلنا المزيد من المسؤولية تجاه الآخرين البعيدين عنَّا جغرافيًّا والمختلفين عنَّا ثقافيًّا، فنصبح أكثر تسامحًا واحترامًا للآخرين”.
ويمثِّل الاتجاه الثاني، الذي اتخذ طابعًا تطبيقيًّا، كل من “إيان بوغوست” (Ian Bogost) وغودن تورنس (Godden torrance) اللذين انطلقا في بحثيهما من “القانون” الذي صاغه ماكلوهان، والذي يبدو أنه أكثر منهجية وتبصُّرًا من كل مقولاته لكونه يوفر أداة عملية لدراسة الميديا ويضع أفكاره موضع التنفيذ. وينص هذا القانون على أن لكل وسيط اتصالي أو إعلامي تأثيرًا يمكن حصره في أربع فئات، وهي: التحسين والتعزيز، والتقادم، والاسترجاع، والتحويل(98). بمعنى أن دراسة أي “ميديا” تتطلب النظر إلى تكنولوجيا الاتصال التي سبقتها، وبماذا تجاوزتها، وما الإضافات التي قدَّمتها أو التعديلات التي أدخلت عليها. فالإذاعة وفق هذا القانون حسَّنت الأخبار (مقارنة بالصحافة، لكن لا نعرف كيف؟ هل على المستوى الكمي أم الكيفي؟ ربما الأصح على مستوى النقل الآني للأحداث) وحسَّنت الموسيقى. وقلَّلت من أهمية المطبوع والصورة (هل تقدَّمت عليهما؟)، واسترجعت مكانة الكلام (أعادت مكانة الاتصال الشفهي).
يُصحِّح إيان بوغوست تقييمنا لقانون الميديا المذكور، ويرى أنه استعارة تلائم جدران موقع شبكة فيسبوك. ويدعونا إلى مساءلة دور هذا الموقع، وتخيُّل التغيير الثقافي والاجتماعي الذي يمكن أن يحدثه في امتداد الأجساد والأذهان من خلال الفئات الأربعة المذكورة أعلاه، ويستنتج في الأخير أن موقع فيسبوك ليس مجرد وسيط، بل إنه بيئة إعلامية. واقترح إضافة فئة خامسة إلى قانون الميديا المذكور، تتمثَّل في تطوير موقع فيسبوك ذاته(99).
الجدول (2) يبيِّن ما أحدثه موقع فيسبوك
من تأثير وفق القانون الرباعي لماكلوهان(100)
يهمل/يزيل | يسترجع | يتحول إلى | يعزِّز/ يحسن |
الاجتماعات الوقت، الذاكرة، الماضي، السر. | البلدة الصغيرة، القرية، والشارع الرئيسي، والتسكع، ومحل المشروبات الغازية، الممرات، تدوين اليوميات الحميمية، والصحف. | حياة جامعية، المراهقة، المدرسة الثانوية | – دليل الهاتف – جهاز الرد الآلي – لوحة إعلانات – سجل الأسماء، كتابة اليوميات – الآنية (الجدة) والشهرة |
وعلى الرغم من تأكيد ماكلوهان أن قانونه هذا يستند إلى مقاربة بنيوية ومتزامنة ويضمن وجودًا آنيًّا للفئات الأربعة(101) إلا أن تطبيقه أسفر عن نتائج بسيطة جدًّا وفوقية وعامة. والسبب في ذلك لا يكمن في تحييده لمستخدم فيسبوك وسياق استخداماته، بل بالنظر إلى ما توصلت إليه البحوث الاجتماعية التي تناولت بالدراسة دور مواقع التواصل في تشكيل رأس المال الاجتماعي(102)، والتنشئة الاجتماعية، والدراسات النفسية التي ركزت على “تخريج ما هو حميمي” (extimacy) “في مواقع التواصل الاجتماعي، ودكِّ الحدود بين ما هو خاص وما هو عام(103)، والدراسات السياسية التي لم تكتف بالإشارة إلى قدرة مواقع التواصل الاجتماعي على التنظيم، وسرعة تداول الأخبار وتقاسم المعلومات التي تُنَشِّط الفعل النضالي. هذا إن صرفنا النظر عن مبالغتها في القدرة التجنيدية والنضالية للعُدَّة التقنية إلى درجة أن المناضلين أصبحوا يُعَرفون بالمنصات الرقمية التي يستعملونها في نضالهم أكثر من القضايا التي يدافعون عنها. وأصبحت بعض الثورات توصف بهذه العُدَّة، مثل ثورة “تويتر” في بلد يقِلُّ فيه عدد المشتركين في هذا الموقع(104).
فعلى الرغم من تأكيد ماكلوهان على مفهوم البيئة إلا أن تطبيق قانونه على الميديا الرقمية لا يُمكِّن الدارسين من الغوص في عمق ما أفرزته، أي فيما أصبح يُعرَف بالميديا الهجينة التي تسعى إلى تحقيق التوازن، بهذا القدر أو ذاك، بين منطق وسائل الإعلام التقليدية المتمثل في التوزيع والتلقي، ومنطق الميديا “الجديدة” القائم على الانتشار والتفاوض(105).
وبتركيزه على العُدَّة التقنية، أغفل “قانون الميديا الماكلوهاني” القطب المهم في الظاهرة الإعلامية، أي المتلقي/المستخدم، وطابق بالتالي، من حيث لا يدري، بين جمهور الميديا التقليدية (صحف، ومجلات، وإذاعة، وتليفزيون)، الذين يقتصر نشاطهم على القراءة والاستماع والمشاهدة، ومستخدمي الميديا الاجتماعية الذين اتسعت ممارساتهم، وتعمَّقت وتنوَّعت، لتشمل المراقبة، والتحري، والمسح الضوئي، والنظر، ومشاهدة ما يُعرَض في الشاشة عبر الخط، والقراءة، والاستماع، والبحث، والتحميل والتخزين، والنقر على الأيقونات والروابط الرقمية، والتعليق، والتعبير عن الإعجاب، وإعادة التوزيع أو النشر، والتشارك، وكل ما ينجرُّ عن هذه الممارسات على الصعيد الاجتماعي والثقافي.
يسمو قانون “الميديا” الماكلوهاني، في تعميمه، على المجتمع، ويغفل أن الاتصال “يتموضع في نهاية المطاف داخل مجتمع معين، ويُنفَّذ بأدوات مجتمعية معينة”(106). وهذا يعني عمليًّا أن ما تفعله العُدَّة التقنية في هذا المجتمع على سبيل المثال لا يتطابق حرفيًّا مع ما تُحدثه في ذاك المجتمع، لأنها تنغرس في التقاليد الاتصالية في المجتمع فتحيي موروثه الثقافي أو تفكِّكه أو تستغني عنه(107).
- نقد الماكلوهانية
لم تفلت أية أطروحة من أطاريح ماكلوهان من النقد على ضوء الحقائق التي تضمَّنها التاريخ البشري، وتاريخ وسائل الإعلام، والمخترعات التقنية، ودراسات علم النفس الإدراكي، والاقتصاد السياسي.
لقد أقصى ماكلوهان في مقولته: “إن الميديا امتداد للإنسان” مكسبًا من المكاسب المعرفية التي تحقَّقت في عصر الأنوار، والمتمثل في التمييز بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي(108). وبالتالي، الوقوع في الخلط الذي حذَّر منه البنيويون، وعلى رأسهم كلود ليفي شتراوس (Claude Lévi-Strauss)، والمتمثل في أن عدم التمييز هذا يؤدي، في آخر المطاف، إلى الإخفاق في إدراك ما هو إنساني(109)، وإلى القفز على ما يُجْمِع عليه الأنثربولوجيون ويختصرونه في القول بأن ما هو طبيعي وثقافي هو نتيجة بناء اجتماعي.
ركَّز النقاد على المغالطات التاريخية التي بنى عليها ماكلوهان تحليله واستنتاجاته. لقد كشف سدني فنكلستين العديد منها، نورد بعضها في شكل أسئلة من باب التوضيح فقط(110): عندما يذكر ماكلوهان أن الفضاء الإقليدي هو نتيجة مباشرة لظهور الحروف الصوتية، فهل كان يجهل أن الفينيقيين هم الذين اخترعوا هذه الحروف، وأنهم عاشوا قبل المسيح بعشرة قرون، وأن أقليدس عاش قبل المسيح بثلاثة قرون، أم أن لعبارة “مباشرة” معنى خاص لدى ماكلوهان؟ وإن كان ورق البَرْدِي وراء قيام الإمبراطورية الرومانية، مثلما يزعم ماكلوهان، فلماذا لم يؤدِّ هذا الورق بالمصريين إلى إنشاء إمبراطوريتهم قبل الرومان بحكم أنهم كانوا الأسبق في استخدامه؟ وإذا كانت الحركات القومية أدت إلى إسقاط حكومات نتيجة توزيع الأخبار بفضل المطبعة ذات الحروف المتحركة، مثلما يؤكد ذلك ماكلوهان، فلماذا لم تنطلق الثورة من الصين التي استخدمت المطبعة ذات الحروف المتحركة منذ القرن الثامن الميلادي؟
تشاطر الباحثة إليزابيث إزنستين (Elizabeth Eisenstein) ماكلوهان في فكرته التي تنص على أن انتقال الكتاب من المخطوط إلى المطبوع قد أحدث انقلابًا في المعرفة، لكنها لا تعتبر، بأية حال من الأحوال، أن الأداة التقنية هي العنصر المحدِّد والحتمي للتغيرات الاجتماعية في الأزمنة المعاصرة. وترى أن للمطبعة علاقات بالسلطات الدينية والسياسية التي تشرف على الإنتاج الفكري أو تحظر نشره(111). لذا، نلاحظ أن المطبعة في أوروبا أسهمت في تعزيز النزعة الفردانية والنهضة بينما أدت إلى مركزية المعرفة والسلطة في الصين(112).
وإن كانت الرقمنة قد طالت مختلف وسائط الاتصال، وأخضعتها لمنطق المواءمة الذي فتح المجال لبروز ظاهرة “العَبْر الميديا” (transmedia)، مما يبطل تصنيف ماكلوهان لوسائل الإعلام بالساخنة والباردة، فإن الكثير من الباحثين حكموا على هذا التصنيف بالسطحي وحتى الأسطوري. فالميديا الساخنة، على سبيل المثال، ثرية في البيانات والمعلومات، حسب ماكلوهان الذي لم يقس هذا الثراء بكمية المعلومات وتنوعها التي تنقل الواقع أو التجربة الاجتماعية التي تعبِّر عنها، بل قاسها بالأثر النفسي الذي تتركه على الحواس مما يؤدي إلى إضعاف مشاركة الجمهور. لقد صنَّف المطبوع بالساخن لضعف مشاركة حواس القارئ في القراءة. فلننظر إلى قراءة أي نص، حتى وإن كانت قراءة صامتة، ألا تتطلب جهدًا بصريًّا وذهنيًّا لفكِّ الحروف وإعادة تركيبها في جمل وربطها لإنتاج المعنى، وقد يرافق هذا الجهد تركيز الأذن الباطنية؟(113)
إن تصنيف ماكلوهان للتليفزيون بأنه وسيلة باردة، نظرًا إلى فقر محتواه الذي يدفع المشاهد إلى تشغيل حاستي السمع والنظر من أجل إعادة تشكيل الصور التي يبثُّها، دفع بعض الكُتَّاب إلى التندُّر بالقول: إن جهاز التليفزيون الذي يملكه ماكلوهان بحاجة إلى من يصلح عطبه(114)!
يفتقد تصنيف ماكلوهان لوسائل الإعلام إلى ساخنة وباردة التماسك والانسجام الذي ميَّز تصنيف “جون فيسك” (John Fiske)(115)، على سبيل المثال، والذي قسمها إلى ثلاثة أقسام، وهي:
- ميديا التقديم: الصوت، والوجه، والجسد: وتستعمل اللغات الطبيعية، والكلمات والتعابير والإيماءات. وتشترط وجود متصل (communicator)، لأنها مجرد وسيط.
- ميديا التَمَثُّل: الكتب، والفن التشكيلي، والصور الفوتوغرافية، التي تستعين بالمدونات الثقافية والجمالية لإنتاج نص بمعزل عن المتصل ومواد للاتصال.
- الحوامل الميكانيكية: الهاتف، والإذاعة، والتليفزيون، وهي فئات ناقلة للفئتين الأولى والثانية، تخضع أكثر للإكراهات التقنية.
وتتضمن مقولة: “الوسيلة هي الرسالة” فكرةَ حق أُريدَ بها باطلٌ في البيئة الرقمية؛ إذ لا يمكن الحديث عن قوة الميديا الاجتماعية وفاعليتها بمعزل عن المستخدم وتَمَلُّكه لها، لكنها فتحت آفاقًا للبحث في علوم الإعلام والاتصال وفق مفهومين مركزيين، وهما: “منظومة الميديا” (The media device)، والذي يختلف عن مفهوم البيئة الإعلامية الذي ذكرناه آنفًا؛ إذ يُقصد به “الأداة المفهومية والمنهجية التي تسمح باستيعاب موضوع الميديا المعقد من خلال المساهمة في تحديد أبعادها التنظيمية والمنمذجة الملازمة لتصور الإنسان لنشاطه. وأخيرًا، “التمفصل” الذي يحدث بين الإشكاليات التقنية والاجتماعية والرمزية والاقتصادية والوجودية أو الإدراكية”(116).
ويمكن الإشارة إلى أن بيار بورديو (Pierre Bourdieu) شغل مفهوم “المنظومة” في كتابه الشهير الذي ينقد التليفزيون الفرنسي. ومفهوم القَدَارة (The Affordance)، الذي يُعرَّف بأنه “مجمل الإمكانات للفعل في بيئة ما، التي تكون موضوعية لكنها ذات علاقة بالفاعل الذي يستخدمها”(117). فقدارة الميديا الاجتماعية تتمثَّل فيما تتيحه للفعل وما تفرضه عليه وعلى الفاعلين من إكراهات. فالقدرة على الفعل والتأثير لا تتوقف على العُدَّة التقنية، على أهميتها، ولا على الفاعلين ونشاطهم، بل إنها موزعة على الاثنين في سياق الاستخدام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. يوجد العديد من الباحثين الذين تأكدوا من أن قدارات التكنولوجيا الرقمية تسهم في تطوير ديناميكية وثقافة معينة تتطلب مناهج وأدوات بحث مخصوصة(118)، بعيدًا عن الحدس الماكلوهاني الذي يستند إلى الزمن الدائري: العودة إلى العصر الشفهي، وإلى القبيلة، الذي يتنافى مع فكرة التقدم. فالبحث عن قدارة مواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، دفعت بالتفكير إلى أبعد من حدود المنصة الرقمية؛ حيث يستطيع مستخدموها من البشر وغير البشر تقديم إضافات إليها(119). لذا، يعتقد علماء الاجتماع أن مواقع التواصل الاجتماعي “لا تشكِّل بذاتها موضوعًا مبنيًّا للدراسة، وكل خطاب يُحَمِّلها مسؤولية التغيرات الاجتماعية ينزاح، بالضرورة، إلى الحتمية التكنولوجية”(120). وتُعد هذه الأخيرة، في أبسط تعريف لها، عبارة عن موقف فكري يجسده الإيمان بأن التكنولوجيا تحدِّد، بشكل أساسي وفي أول مقام، التنظيم الاجتماعي والسلوك البشري(121). وبهذا فهي التي ترسم القَدَرَ التاريخي المحتوم العالق بالإنسان وبتاريخه، والذي لا مندوحة عنه.
ويعتقد أنصار هذه الحتمية أن لوجود موقع التواصل الاجتماعي تأثيرًا اجتماعيًّا بالقوة ذاتها والشكل ذاته في أي مجتمع، أي إن هناك علاقة سببية بين المتغير المستقل (العُدَّة التقنية) والمتغير التابع (التأثير الاجتماعي). يصعب على هذه السببية الصمود أمام الواقع، لأن “الأحداث لا تصنعها تكنولوجيا الإعلام والاتصال، ولا تقودها، بقدر ما تكون وليدة لنسيج مُعَقَّد لتفاعلات إنسانية-تقنية”(122). وتستبعد هذه الحتمية كل تفكير في إنتاج العُدَّة التقنية ذاتها، أي التَّفكُّر في ديناميكية العلاقة بين العلم والتقنية والسوق، وتملُّكها من قبل المستخدم.
تغيَّرت النظرة في البيئة الرقمية إلى ثنائية الزمن والمكان التي استوحاها ماكلوهان من هارولد إينيس، وبنى عليها صرحه النظري في قراءته لتأثير وسائل الإعلام على المجتمع، ليس من ناحية إحداثيات الاتصال: الوقت، والمسافة، بل ضمن رؤية أشمل يتضمَّنها مفهوم “الحضورية” (Presentism The) الذي صاغه المؤرخ فرانسوا هارتوغ (François Hartog). فمقولة: “هنا والآن”، التي كان الاتصال يخضع لها، أصبحت “هنا وهناك والآن”، والإنترناتي أصبح يتصل داخل الزمن وخارجه. لقد تغيَّرت علاقة الإنسان بالزمن الذي يتسارع. فالحاضر يسرع ويدفع التاريخ نحو المستقبل، والماضي لم يعد يملك قيمته المرجعية(123).
هل يمكن اعتبار ماكلوهان من مؤسسي أيديولوجيا الاتصال؟ هذا ما يُستَشف من تفسير العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية المُعقَّدة بعامل يتيم وحاسم، إنه الاتصال وعُدَّته التكنولوجية، مثل: الحروب(124)، والقوميات، والإمبراطوريات، والثقافة، والكتابة، والفنون، وتشتُّت الحواس وتنافسها وتوازنها. فالميديا من هذا المنظور سبب ونتيجة في آن واحد. فالورق من منظور ماكلوهان كان سبب قيام الإمبراطورية الرومانية وسبب فنائها!(125)
تتجدَّد الخطابات الطوباوية مع كل مبتكر جديد في تكنولوجيا الاتصال فتَعِد البشرية بثورة عارمة تقضي على كل مشاكلها وما تعانيه من صعوبات في شتى المجالات. وما انفكت قائمة منتجي هذه الخطابات تتمدد، يأتي في صدارتها كل من هاورد رينغولد (Howard Rheingold)، وجويل دي روزناي (Joël de Rosnay)، وبيار ليفي (Pierre Lévy)، وومانويل كاستلز (Manuel castells)، ولن يكون آخرها دان غيلمور (Dan Gillmor). إنها الخطابات التي تغذِّي المخيال التقني المنفصل عن الممارسات الاجتماعية الفعلية والملموسة التي تدفع إلى الإيمان بأن التكنولوجيا ليست كيانًا ماديًّا فحسب، بل إنها معطى أيديولوجي أيضًا “يمنح تقنيات الاتصال سلطة معيارية تجعلها العامل الأول في تنظيم المجتمع وإعطائه معنى”(126). فالمبالغة في دور التكنولوجيا الحاسم في المجتمع هو ضرب من “الأيديولوجيا غير المرئية”(127) التي تَعِدُ البشرية بوعود وردية تروم تفسير الواقع بإخفائه. فوراء الخطاب الاحتفائي بــ”الويب التشاركي” على سبيل المثال -وإظهاره بأنه يجسد التحول التكنولوجي الحاسم، والتطور الثقافي الكبير، ومؤسس عصر سياسي ومجتمعي جديد- يختفي واقع آخر، يندمج فيه “الويب 2” مع الصناعات الاتصالية والثقافية التي تتكيَّف باستمرار مع السوق(128). والخطاب الذي يروِّج للميديا الاجتماعية، مثل موقع فيسبوك، ويبرزها كمنصة رقمية للتحرر من الوساطة الاجتماعية والسياسية ومؤسساتها المتسلطة ذات التراتيبية الهرمية(129)، يحجب ما يثبت بأنها تسهم، أيضًا، بفاعلية في إعادة إنتاج الذاتيات التي تجدِّد تكيُّفها مع المجتمع التجاري، فقدارتها تُمكِّنها من رسم “بروفايل” المستخدم بناء على ذوقه، وما يستهلكه، وعادات هذا الاستهلاك. وبهذا يسهم هذا الموقع في بناء هوية المستخدم/الزبون/المستهلك أكثر من المواطن/المناضل. وإِنْ ظهر نضاله في “بروفايله” العام فإنه لا يُسقط “هويته الاستهلاكية” بل يخدمها. ففي مواقع التواصل الاجتماعي كل شيء يتحوَّل إلى سلعة لها قيمتها التبادلية.
قد يعتقد البعض أن ماكلوهان لم يجانب الصواب في حديثه عن الحرب الأبدية بين وسائط الإعلام نظرًا للتحولات التي تجري في عالم الإعلام والاتصال اليوم، والتي يصفها البعض بالفوضى أو الأزمة التي وقعت الصحافة الورقية ضحية لها. لكن بالمقابل، لا أعتقد أنه يوجد اليوم من يفسر توقف الكثير من الصحف الورقية عن الصدور، أو “موت” بعض مواقع التواصل الاجتماعي، مثل موقع شبكة التواصل المهني “ريس دوت كوم” (Ryse.com) وموقع “سكند لايف” (Second life)، بأنه نتيجة حرب الحواس التي تمزق نفسية المرء، مثلما فسر ذلك ماكلوهان نظرًا لأن وسائط الاتصال هي امتداد لهذه الحواس، وأن ما يوصف بالفوضى في العالم الافتراضي لا يعبِّر عن الحرب الميدياتيكية بالمفهوم الماكلوهاني، بل يفصح عن التوجس من مآل التحولات المتسارعة التي تعيشها وسائل الإعلام وتبعاتها السياسية والثقافية والتي أدت إلى زعزعة “هيمنة النظام الرمزي” بالمفهوم البوردوي -نسبة إلى بورديو- في المجتمع، وذلك لأن السلطة في ظل “الثورة الرقمية” تبدو حسب مُنَظِّر براديغم الفوضى، بريان ماك ناير (Brian McNair)، سائلة ودائمة التغيير ومنتشرة عبر قنوات الاتصال والإعلام. تتراكم، تتبخر، تذوب عندما تتغير شروط البيئة(130).
حقيقةً، إن التطور السريع الذي يعيشه “الويب” بمختلف تطبيقاته يبدو فوضويًّا، لكن مفهوم الفوضى يظلُّ نسبيًّا، لأن المواقع في شبكة الإنترنت والمنصات الرقمية تخضع للوائحها التنظيمية والمعلن عنها ولـ”ضبط الخوارزميات” التي تغربل وتنتقي ما تنشره. لقد أصبحت الخوارزميات تضطلع بالدور الذي كان “حراس البوابة الإعلامية” يقومون به في وسائل الإعلام التقليدية. ولم يؤدِّ هذا التغيير إلى فتح النقاش عن فوضى المعلومات والأخبار بقدر ما طرح بإلحاح الأسئلة التالية: ما مدى تعدُّد الأخبار والمعلومات وتنوعها في شبكة الإنترنت؟ وما مدى صدقيتها؟ وهل تخدم حرية التعبير والفكر أم تعمل على استقطاب الآراء وتعزيز “التوحد الرقمي” (Homophilia)؟
خاتمة
يتضح مما سبق أن هناك أكثر من حاجة ملحَّة لإعادة النظر في موقع ماكلوهان في الدرس الإعلامي في المنطقة العربية، وذلك بالفصل بوضوح بين ما قاله ماكلوهان وبين ما نفكِّر فيه عن ماكلوهان تجنبًا لتشويه أفكاره ومن أجل عَقْلَنَة تأويلها، وإلى دفع هذا الدرس ليشمل كتابات الكُتَّاب العرب سواء تلك التي استلهمت أفكارها من أطروحات ماكلوهان أو عارضتها، والتي ذكرنا بعضها في ثنايا هذا النصِّ. ويتطلب هذا الدرس الاستعانة بالكُتَّاب الذين أسهموا في إعادة قراءة مؤلفات ماكلوهان في البيئة الرقمية، والتي ذكرنا بعضها آنفًا. فليس من المعقول أن تظل مرجعيته لفهم ماكلوهان تقتصر على كتاب جيهان رشتي الذي صدر في نهاية سبعينات القرن الماضي.
إن إعادة النظر في تدريس ماكلوهان يحرِّر الدارسين العرب من القراءة الانطباعية لمقولاته التي حوَّلتها الكتابة الصحفية إلى أنماط مقولبة، ويفتح المجال لإعادة كتابة تاريخ الميديا في المنطقة العربية، ومواقع التواصل الاجتماعي، بعيدًا عن سطوة التكنولوجيا وهيمنة الأفكار الجاهزة التي لم تتحرَّر من منطق التأثير المطلق الذي يساوي بين الميديا الاجتماعية ووسائل الإعلام التقليدية. وهذا يعني نفي الطابع الديناميكي والمتحوِّل لمواقع التواصل الاجتماعي حسب سياقات الاستخدام. فمواقع التواصل الاجتماعي في آخر المطاف هي ثمرة ما ينشره مستخدموها. لقد شكَّل موقع فيسبوك فضاء بديلًا للإعلام ولإدارة النقاش السياسي أثناء الإطاحة بالرئيس ابن علي من السلطة في تونس، لكنه تحوَّل إلى وسيلة للقدح والتهكُّم السياسي(131). الأمر لا يختلف كثيرًا في الجزائر؛ فموقع فيسبوك كان مسرحًا لنقاش النخب حول مستقبل البلاد وآليات التغيير في الحراك الشعبي، في فبراير/شباط 2019، لكنه تحوَّل بعد الانتخابات الرئاسية، في ديسمبر/كانون الأول 2019، إلى أداة للوشاية والتخوين، وممارسة ما يُسمِّيه مانويل كاستيلز بـ”سياسة المُفَاضَحَة”(132)، أي التشهير بالخصم كأسلوب وحيد للمعارضة أو معارضة المعارضة لغياب برنامج واضح يمكن نقده.
على الرغم من النقد الذي وُجِّه لمؤلفات ماكلوهان إلا أنها تتضمَّن أفكارًا مفيدة يمكن توظيفها في البحوث الأمبريقية في المنطقة العربية حتى ترسخ نظرية الوسيط (Medium Theory) في الدرس الإعلامي العربي. ومن المعلوم أن هذه النظرية، التي حدَّد معالمها الباحث جوشوا ميرويتز في مُؤَلَّفِه المذكور أنفًا استنادًا إلى أطروحة ماكلوهان، دفعت الدراسات الإعلامية إلى التركيز على الوسيط الإعلامي، وعدم الاكتفاء بتحليل مضمون ما يبثه. فالوسيط ليس ناقلًا محايدًا للمضمون، بل مؤثرًا بنجاعة فيه ويسمح بأشكال من تفاعل المتلقي مع الميديا. لقد توطدت هذه النظرية في البيئة الرقمية بعد اعتمادها على المفهوم الإجرائي لقدارة الميديا الاجتماعية.
لعل أكبر خدمة يقدِّمها نقد الماكلوهانية للدرس الإعلامي في المنطقة العربية هي تحريره من الفكر الاختزالي والتبسيطي الذي تقع فيه بعض البحوث، ربما لا شعوريًّا، في دراستها للظواهر الإعلامية. فما يميز كل حتمية أنها تهمش بعض المتغيرات الفاعلة في دراسة الميديا إِنْ لم تلغها، فتسدُّ الطريق أمام كل فكر انعكاسي، ومعقد، وتغلق أبواب الاستكشاف، مما يؤدي إلى اجترار التبرير وتقديم الإجابة الجاهزة العابرة للأزمنة والسياقات.
المراجع
(1) Elihu Katz, “La recherche en communication depuis Lazarsfeld,” Revue Hermès, no. 4, (1989/1): 77-91.
(2) هذا ما يستشف من قراءة الفصل السادس المعنون بــ”استخدام أدوات ماكلوهان”، في كتاب (Mcluhan: A Guide for the Perplexed) لـ”تيرونس غوردن” (W. Terrence Gordon)، الذي حاول فيه الإجابة عن 68 سؤالًا تتعلق بأفكار ماكلوهان، وقدَّم من خلالها قراءة معاصرة للفكر “الماكلوهاني” وتجديده ليستوعب التكنولوجية الرقمية وممارساتها معتمدًا في ذلك على مُؤَلَّفات كُتَّاب سيرته ومن يعتبرون ورثة ماكلوهان. انظر:
- Terrence Gordon, Mcluhan: A Guide for the Perplexed (New York: Ed Continuum, 2010), 151-165.
(3) انظر:
Joshua Meyrowitz, No Sense of Place, The Impact of Electronic Media on Social Behavior (USA: Oxford University Press, 2005), 432.
(4) Paul Levinson, McLuhan Digital: A Guide to the Information Millennium (New York: Routledge 1999), 3.
(5) W. Terrence Gordon , Mcluhan: A Guide for the Perplexed, 151.
(6) Raphael Peter, “The Medium in Your Pocket’: A McLuhanian Approach to New Media,” in Carmen Birkle et al., McLuhan’s Global Village Today (UK: Pickering & Chatto, 2014), 197.
(7) يذكر بول ليفنسن، تلميذ ماكلوهان ومتابعيه، أن رهانات الاستعارات التي يستخدمها ماكلوهان “تسهم في توجيهنا إلى المعارف التي لم نحصل عليها بعد، لكنها تتضمن حِمْلًا يمكن أن يشكِّل حاجزًا أمام معارفنا عندما نحاول فحصه وإثباته، فنخلط بين الحمل واللباس الذي يلفه”. للتوسع، راجع:
Levinson, McLuhan Digital, 26.
(8) Ibid, 26.
(9) Patrick Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “théorie”” (Mémoire de maîtrise ès arts (M.A.) à la Faculté des études supérieures de l’université Laval, Canada, 1999).
(10) Levinson, McLuhan Digital, 2.
(11) Gordon , Mcluhan: A Guide for the Perplexed, 153.
(12) نقلًا عن:
Liss Jeffrey, “The Heat and the Light: Towards a Reassessment of the Contribution of H. Marshall McLuhan,” Canadian Journal of communication, Vol. 14, no. 4, (1989), “accessed June 1, 2021”. https://bit.ly/3izCNnY.
(13) Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “Théorie””, op, cit.
(14) ربما لهذا السبب بادر كل من ستيفاني ماكلوهان وديفيد ستنس بإصدار كتاب: “مارشال ماكلوهان، افهموني”. وهو عنوان يحاكي كتاب ماكلوهان: “كيف نفهم وسائل الإعلام؟”، انظر:
Stephanie McLuhan & David Staines, Marshal McLuhan: Understanding Me, Lectures and Interviews (Toronto: McClelland & Stewart, 2003), 344.
(15) انظر:
Robert Macmillan, “Marshall McLuhan at the Mercy of his Commentators,” Philosophy of the Social Sciences, vol. 22, no. 4, December, (1992): 483.
(16) Bernhard J. Dotzler, “Cambridge was a Shock: Comparing Media from a Literary Media from a Literary Critic’s Point of View,” in Carmen Birkle et al., McLuhan’s Global Village Today (UK: Pickering & Chatto, 2014), 86.
(17) Mark A. McCutcheon, “Dubjection: A Node (Reflections on web- conferencing, McLuhan and intellectual Property),” in Carmen Birkle et al., McLuhan’s Global Village Today, 66.
(18) Ibid.
(19) Oumar Kane, “Marshall McLuhan et la théorie médiatique: genèse, pertinence et limites d’une contribution contestée,” tic & société, vol. 10, no. 1 , 1er semestre 2016. “accessed June 1, 2021”. https://bit.ly/3xGJqJt.
(20) Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “théorie””, op, cit.
(21) Gary wolf, “The Wisdom of Saint Marshall, the Holy Fool,” Wired. vol. 4, no. 1, (Janvier 1996): 122-126.
(22) Pierre Doray, “Construction sociale des technologies,” in Frédéric Bouchard et al., Sciences, technologies et sociétés de A à Z (Canada: Presses de l’Université de Montréal, 2017), 57.
(23) Ibid.
(24) Nelson Vallejo-Gomez. La pensée complexe: Antidote pour les pensées uniques Entretien avec Edgar Morin,” Synergie Romanie, no. 3, (2008): 77-90.
(25) Ousama Bouiss, “Dix principes pour penser dans le “monde complexe” d’Edgar Morin, latribune.fr, Janvier 2, 2019, “accessed June 2, 2021”. https://bit.ly/2VLOajS.
(26) Jean Paré, Conversations avec McLuhan (Montréal: Boréal, 2010), 45.
(27) Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “Théorie””, op, cit.
(28) Philip Marchand, Marshall McLuhan: The Medium and the Messenger (Toronto: Random House, 1989), 123.
(29) Gaëtan Tremblay , “De Marshall McLuhan à Harold Innis ou du village global à l’empire Mondial,” Tic & société, vol. 1, no. 1, (2007): 106-129.
(30) Kane, “Marshall McLuhan et la théorie médiatique,” op, cit.
(31) يقول الكاتب فيليب مارشون (Philippe Marchand): “إن جوهر مقاربة ماكلوهان للواقع التي عبَّر عنها بقوة لا مثيل لها لا توجد سوى في هذه المجلة الغريبة والرائعة”، انظر:
Marthe Pelletier, “De la médianomie à l’autonomie: Explorations éthiques et christologiques de la pensée de Marshall McLuhan” (PhD thesis, Université de Laval, Canada, 2000).
(32) Marshall McLuhan and Eric McLuhan, Laws of Media: The New Science (University of Toronto Press, 1988), 93.
(33) Peter, “The Medium in Your Pocket’,”, 197.
(34) Dan Gillmor, We the Media: Grassroots Journalism By the People, For the People, (O’Reilly Media, 2006), 334.
(35) philippe Breton, Proulex Serge: l’explosion de la communication; introduction aux théories et aux pratiques de la communication (France: 4 édition la découverte ,1992), 194.
(36) Victor Wiard, “News Ecology and News Ecosystems,” oxfordre.com, February 25, 2019, “accessed June 2, 2021”. https://bit.ly/2VHvFge.
(37) François Jost, “Nouveaux comportements pour d’anciens médias ou anciens comportements pour de nouveaux medias?,” Matrizes, no. 2 (Janvier- Juin 2011): 93-109.
(38) إريك ميغري، سوسيولوجيا الاتصال والميديا، ترجمة نصر الدين لعياضي، (هيئة البحرين للثقافة والآثار، البحرين، 2018)، ص 199.
(39) Marshall McLuhan, Understanding Media (New York: McGraw-Hill, 1964), 7.
(40) Marshall McLuhan, Pour comprendre les médias: les prolongements technologiques de l’homme, traduction de Jean Pare (Montréal: Bibliothèque Québécoise, 1993), 52.
(41) بهذه الجملة ميَّز بول عطا الله الفرق بين رؤيتي مارشال ماكلوهان وملهمه هارولد إينيس للميديا؛ إذ وصف الأول بأنه يضفي الطابع الميدياتيكي على التاريخ، بينما يضفي الثاني الطابع التاريخي على الميديا. انظر:
Paul Attalah, Théories de la communication: Histoire, contexte, pouvoir (Québec: Presses de l’université du Québec 1989), 275.
(42) Kane, “Marshall McLuhan et la théorie médiatique,” op, cit.
(43) Marshall McLuhan, The Gutenberg Galaxy: The Making of Typographic Man (University of Toronto Press, 1962), 31.
(44) Peter, “The Medium in Your Pocket’,”, 196.
(45) Robert Logan, Understanding New Media: Extending Marshall McLuhan (New York: Peter Lang Publishing, 2010), 29.
(46) نقلًا عن:
Peter, “The Medium in Your Pocket’,”, 189-191.
(47) انظر:
Peter, “The Medium in Your Pocket’,”, 198.
(48) Nicolas Negroponte, L’Homme numérique (Paris: Pocket, 1997), 290.
(49) Marc Dugain, Christophe Labbé, L’homme nu. La dictature invisible du numérique (France, Plon, 2016), 186.
(50) انظر:
Olivier Ertzscheid, L’homme est un document comment les autres: du Word Wide Web au Word life Web, Hermes 53, (2009): 33-40.
(51) نقلًا عن :
Levinson, McLuhan Digital, 6.
(52) Sideny Finkelstein, McLuhan prophète ou imposteur? (France: Maison Mame,1 970), 12.
(53) Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “Théorie””, op, cit.
(54) نقلًا عن:
Peter, “The Medium in Your Pocket’,”, 197
(55) انظر:
Levinson, McLuhan Digital, 226.
(56) Donald. F. Theall, The Virtual Marshall McLuhan (McGill-Queen’s University Press, UK, 2001), 26-28.
(57) John Fekete, “Massage in the Mass Age: Remembering the McLuhan Matrix,” “Canadian Journal of Political and Social Theory, no. 63, (March 1982): 50-66.
(58) باتريس فليشي، الاتصال وأوهام الحتمية التقنية والاجتماعية، ترجمة نصر الدين لعياضي، (مجلة الرافد، 2013)، ص 25-35.
(59) نقلًا عن فليشي، الاتصال وأوهام الحتمية التقنية والاجتماعية، المرجع السابق.
(60) Régis Debray, Manifestes médiologiques (France: Gallimard, 1994), 94.
(61) Kane, “Marshall McLuhan et la théorie médiatique,” op, cit.
(62) نضال فلاح الضلاعين، وآخرون، نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري، (دار الإعصار العلمي للنشر والتوزيع، الأردن، 2006).
(63) جيهان أحمد رشتي، الأسس العلمية لنظريات الإعلام، (دار الفكر العربي، 1978).
(64) بسام عبد الرحمن المشاقبة، نظريات الاتصال، (دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، 2005).
(65) لا وجود للقرية العالمية، العالم أقرب ما يكون إلى البناية التي تضم عشرات الشقق السكنية التي يقيم فيها أناس كثيرون، ولكن كل فرد منهم يعيش في عزلة ولا يدري شيئًا عن جيرانه الذين يقيمون معه في البناية. انظر: بسام عبد الرحمن المشاقبة، مرجع سابق، ص 161.
(66) عبد الحافظ عواجي صلوي، نظريات التأثير الإعلامية (محاضرات)، جمع وتنسيق أسامة بن مساعد المحیا، أبريل/نيسان 2012، موقع scribd، (تاريخ الدخول: 2 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3jNLGtl.
(67) منال هلال المزاهرة، نظريات الاتصال، (دار المسيرة للنشر والتوزيع، الأردن، 2012).
(68) حيدر فالح زايد، نظرية الحتمية التكنولوجية، السنة الجامعية 2009-2010، جامعة قار يونس، researchgate.net، أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 3 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3Az3SOc.
(69) كامل خورشيد مراد، الاتصال الجماهيري والإعلام: التطور، الخصائص، النظريات، (دار المسيرة للنشر والتوزيع، الأردن، 2014).
(70) خضرة عمر المفلح، الاتصال: المهارات والنظريات وأسس عامة، (الحامد للنشر والتوزيع، الأردن، 2014).
(71) معظم ما كُتب عن ماكلوهان في الكتب التي درسناها سُلِخ حرفيًّا من كتاب جيهان رشتي دون الإشارة إليه. وهنا، نكتفي بإيراد فقرة واحدة من باب التوضيح: “كانت طريقة تنغيم الكلمات تنقل الغضب والموافقة أو الرعب أو السرور أو التهكم…إلخ. وكان ردُّ فعل الرجل القبلي -الذي يعتمد على حاسة السمع- على المعلومات يتسم بقدر أكبر من العاطفة. فكان من السهل مضايقته بالإشاعات، كما أن عواطفه كانت تكمن دائمًا قريبة من السطح لكن ريشة الكتابة وضعت نهاية للكلام وساعدت في تطوير الهندسة وبناء المدن وجعلت الطرق البرية والجيوش والبيروقراطية من الأمور الممكنة”، والتي نُشرت في المراجع التالية:
– رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام، مرجع سابق، ص 375.
– الضلاعين، وآخرون، نظريات الاتصال والإعلام الجماهيري، مرجع سابق، ص 188.
– المفلح: الاتصال: المهارات والنظريات وأسس عامة، مرجع سابق، ص 179.
(72) توحي الفقرة التالية بأن هذا ما استنتجته جيهان رشتي من فكر ماكلوهان؛ إذ تقول فيها: “وفي الواقع بدل الحديث عن الحتمية التكنولوجية قد يكون من الأدق أن نقول: إن المتلقي يجب أن يشعر بأنه مخلوق له كيان مستقل قادر على التغلب على الحتمية والتي تنشأ نتيجة تجاهل الناس ما يحدث حتمًا ولا مفرَّ منه”. انظر، رشتي: الأسس العلمية لنظريات الإعلام، مرجع سابق، ص 374.
وقد استنسخ مُؤَلِّفو الكتب المدروسة هذه الفقرة دون ذكر مصدرها، مما يوحي بأنها من بنات أفكارهم، بيد أن بسام عبد الرحمن المشاقبة، يقول: إن ماكلوهان هو الذي طالب بالابتعاد عن مصطلح الحتمية التكنولوجية والاستعاضة عنه بمصطلح آخر، وهو أن المتلقي يجب أن يشعر…”. انظر: المشاقبة: نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 157.
(73) شمل تأويل ما كتبه ماكلوهان بطريقة مغلوطة حتى الكُتَّاب الأنجلوسكسونيين. للاطلاع، انظر:
Robert Macmillan, “Marshall McLuhan at the Mercy of his Commentators,” Philosophy of the Social Sciences, vol. 22, no, 4, (December,1992): 483.
(74) Levinson, McLuhan Digital, 2.
(75) Gordon , Mcluhan: A Guide for the Perplexed, 158.
(76) عن مقولة “الوسيلة هي الرسالة” يقول حيدر فالح زايد ما يلي: “يشير ماكلوهان إلى أن لكل وسيلة خصائص خاصة بها ولها جمهور من الناس الذين يفوق حبهم لهذه الوسيلة اهتمامهم بمضمونها، فالتليفزيون كوسيلة هو محور لاهتمام كبير”. انظر: نظرية الحتمية التكنولوجية، مرجع سابق.
وعن المقولة ذاتها، تقول خضرة عمر المفلح: “إن الرسالة هي الوسيلة تعني أشياء أخرى؛ فقول ماكلوهان يشير أيضًا إلى أن لكل وسيلة جمهورها الخاص الذي يفوق حبهم لهذه الوسيلة اهتمامهم بها، بمعنى آخر التليفزيون كوسيلة هو محور لاهتمام كبير…”. انظر: الاتصال: المهارات والنظريات وأسس عامة، مرجع سابق، ص 183.
وتفسِّر خضرة عمر المفلح المدينة العالمية بدل القرية بالقول: بالطبع إن تطور المطبوع يسبِّب تماثلًا بين أبناء البلد الواحد، ويقرب البعيد وبهذا تحل المدينة محل القرية وتحل دولة الأمة محل دولة المدينة. انظر: المرجع السابق، ص 189.
وهو التفسير ذاته الذي قدَّمته منال هلال المزاهرة للمدينة ذاتها. انظر: نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 373.
(77) الكتاب من تأليف مارشال ماكلوهان وابنه إريك، انظر:
Marshall McLuhan, Eric McLuhan, Laws of Media, 93.
(78) ينطبق هذا القول على:
نور الدين تواتي، “ماكلوهان مارشال: قراءة في نظرياته بين الأمس واليوم”، (مجلة الباحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة قاصدي مرباح ورقة، العدد 10، مارس/آذار 2013)، ص 177-190.
(79) تبنَّى عبد الله الغذامي التقسيم التاريخي للميديا ذاته تقريبًا الذي طرحه ماكلوهان؛ إذ يقول: “مرَّت الصيغ التعبيرية في الثقافة البشرية بأربع صيغ جذرية تمثِّل أربع مراحل مختلفة في التصور البشري، وهي مرحلة الشفاهية، ثم مرحلة التدوين، وتتلوها مرحلة الكتابية، وأخيرًا مرحلة ثقافة الصورة، ولكل مرحلة من هذه المراحل خصائصها المميزة، وهي خصائص لا تزول مع ظهور مرحلة جديدة بل إن آثارًا من الصيغ تبقى وتظل فاعلة حتى ظهور صيغ جديدة، (ص 8-9). وغالى في دور الصورة عندما أكد أنها “ستكون حتمًا هي العلامة الثقافية ومصدر الاستقبال والتأويل، ولسوف يجري تغيير جذري في الذهنية البشرية تبعًا لذلك، (ص 10). كما أن استقبال الصورة أدى “إلى زعزعة مفهوم النخبة وصار الجميع سواسية في التعرف على العالم واكتساب معارف جديدة للتواصل مع الوقائع والثقافات”.
للتوسع، راجع: عبد الله الغذامي، الثقافة التليفزيونية: سقوط النخبة وبروز الشعبي، (المركز الثقافي العربي، المغرب، 2005)، ص 11.
(80) عبد السلام بنعبد العالي، ثقافة الأذن وثقافة العين، ط 2 (دار توبقال، المغربية، 2008)، ص 140.
يمكن أن نذكر من باب الطرافة أن موقع مكتبة “نور”، في شبكة الإنترنت، صنَّف هذا الكتاب ضمن كتب الطب، تخصص أمراض الأنف والحنجرة!
(81) مارشال ماكلوهان، كيف نفهم وسائل الاتصال؟، ترجمة خليل صابات، محمد محمود الجوهري، (دار النهضة العربية، القاهرة، 1975).
(82) زايد، نظرية الحتمية التكنولوجية، مرجع سابق.
(83) المرجع السابق.
(84) المرجع السابق.
(85) رشتي، الأسس العلمية لنظريات الإعلام، مرجع سابق، ص 394.
(86) ذكر الكاتب سيدني فنكلستين، ما يلي “رُسم في واجهة إحدى المحلات التجارية رسم ساخر مرفق بما يلي: هنا نتحدث بالطريقة الماكلوهانية”!
Finkelstein, McLuhan prophète ou imposteur?, 9.
(87) Ibid, 10.
(88) ظهرت المطبعة على يد يوحنا غوتنبرغ، في 1454، ولم تشرع في بث المخطوطات العربية إلا في منتصف القرن التاسع عشر.
(89) يذكر فرانس فانون أن 95% من الفرنسيين كانوا يملكون المذياع قبل 1945 مقابل 5% فقط من الجزائريين الميسورين، ولم تُفلح فرنسا في رفع هذه النسبة الأخيرة رغم التشجيعات. لقد كانت محطة الإذاعة الفرنسية من الجزائر أداة ربط المعمرين بالدولة الأم (فرنسا) ووسيلة ضغط سياسي وثقافي ونفسي على الجزائريين، الذين كانوا يتحرجون من الاستماع إليها داخل أسرهم، لكن بمجرد انطلاق “صوت الجزائر الحرة” تزايد عدد الجزائريين المالكين للمذياع فاضطر الاستعمار إلى تجريم مالكيه من الجزائريين بدءًا من 1957. لقد جعل المذياع من الجزائريين الذين يستمعون إلى صوت الثورة الجزائرية أمة.
Frantz Fanon, L’an V de la révolution algérienne (France: La Découverte, 2011), 53-82.
(90) لتوضيح هذه الفكرة، يذكر فرانسوا شفالدوني أن الفلاح الجزائري لا يدخل قاعة السينما إلا عندما ينتقل إلى المدينة لزيارة أقاربه وتسمح له ظروفه المادية، ولا يتصفح الصحيفة إلا في قاعة الانتظار في العيادة الطبية. فهناك تفاوت صارخ في “الاستهلاك الثقافي والإعلامي” ليس بين بلدان الشمال والجنوب، بل داخل البلد الواحد، مثل الجزائر. انظر:
François chevaldonné, La communication inégale, l’accès aux médias dans les campagnes algériennes (France, éd CNRS, 1981), 36-40.
(91) نقلًا عن:
Ian Bogost, “Ian became a fan of Marshall McLuhan on Facebook and suggested you become a fan too,” in D.E. Wittkower, Facebook and Philosophy, What’s on your Mind? (USA: Carus Publishing Company, 2010), 195.
(92) Ibid, 195.
(93) Ibid, 195.
(94) Ibid, 195.
(95) Levinson, McLuhan Digital, 5.
(96) Ibid, 33.
(97) Hervé Fischer, “À l’âge numérique, l’émergence de la “conscience augmentee”,” Société, no. 129, (Mars 2015): 63 -71.
(98) انظر:
Marshall McLuhan, Eric McLuhan, Laws of Media, 98-99.
Eric McLuhan, Frank Zingrone, Essential McLuhan (UK, Routledge, 1997), 372.
(99) Ian Bogost, “Ian became a fan of Marshall McLuhan on Facebook and suggested you become a fan too,” in D.E. Wittkower, Facebook and Philosophy, What’s on your Mind?, 32.
(100) Ibid, 32.
(101) Roy, “Le “retour” de Marshall McLuhan: ré-explication et positionnement de sa “Théorie””, op, cit.
(102) انظر على سبيل المثال:
Nicole B. Ellison et al., The Benefits of Facebook ‘‘Friends:’’ Social Capital and College Students’ Use of Online Social Network Sites, Journal of Computer-Mediated Communication, vol. 12 issue. 4, (July 2007). “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3AGvVLL.
Hubert Guillaud, Comprendre Facebook: “Les réseaux sociaux ont pris le pas sur l’internet. Ils sont désormais le vecteur de nos usages quotidiens du web” (France, éd, publie.net, 2011), 70.
(103) انظر على سبيل المثال:
Serge Tisseron, L’intimité surexposée, (Hachette Littérature, 2002), 182.
Georges Teyssot, Fenêtres et écrans: entre intimité et extimité, Trans. Marion Delage de Luget, Appareil, (2010). “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3s8RTnA.
(104) JeanLuc Manise, De l’activisme numérique au militantisme de terrain: de nouvelles formes d’engagement (France: Etude, 2012), 26.
(105) نقلًا عن:
Berta García-Orosa et al., “Journalism in Digital Native Media: Beyond Technological Determinism,” Media and Communication, 2020, vol. 8. “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3fX20a8.
(106) جون مارك فيري، فلسفة التواصل، ترجمة وتقديم عمر مهيبل، (الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، 2006)، ص 9.
(107) استطاع الباحث أن يرصد بعض الإشكالات التي طرحتها الميديا الاجتماعية على الاتصال داخل المجتمع الجزائري، منها: السعي إلى جعل الاتصال صريحًا بعد أن كان ذا طابع ضمني، وتراجع مرجعية الاتصال التي كانت تستند إلى أرضية التراتبية التي تقوم على السن، والمستوى العلمي، والمكانة الاجتماعية، وانمحاء المسافة الفيزيائية الفاصلة بين المتصلين والعجز عن تعويضها باللفظ، وتراجع الاتصال المكتوب لصالح الاتصال المرئي، فالكاميرا بدأت تحل محل لوحة المفاتيح، والأيقونات بدأت تعوض اللفظ مما يعسِّر عملية الاتصال ويعقِّد تأويلها. للتوسع راجع:
نصر الدين لعياضي: “رهانات الاتصال في العصر الرقمي”، (ورقة بحثية قُدِّمت في اليوم الدراسي عن الفلسفة والاتصال، الذي نظمته الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية، في 26 مارس/آذار 2017، الجزائر، غير منشورة).
(108) Andre Stangl, “La Nature Artificielle de l’Homme: Marshall McLuhan et le post-humanisme,” Trans. Michel Colin, Les Cahiers européens de L’Imaginaire, vol. 1, (2011): 126-133.
(109) جون ستروك: البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى جاك دريدا، ترجمة محمد عصفور، (سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 206، فبراير/شباط 1996)، ص 12.
(110) Finkelstein, McLuhan prophète ou imposteur?, 19-21.
(111) فليشي، الاتصال وأوهام الحتمية التقنية والاجتماعية، مرجع سابق، ص 25-35.
(112) ميغري، سوسيولوجيا الاتصال والميديا، مرجع سابق، ص 204.
(113) Finkelstein, McLuhan prophète ou imposteur, 93.
(114) ميغري، سوسيولوجيا الاتصال والميديا، مرجع سابق، ص 203.
(115) John Fiske, Introduction to communication studies, Second edition (UK: Routledge, 1990), 18.
(116) Louis-Claude Paquin, “Le dispositive-média de creation, lcpaquin.com, “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3lYbpC0.
(117) Simone Morgagni, “Repenser la notion d’affordance dans ses dynamiques sémiotiques,” Intellectica, no. 1, (2011): 241-267.
(118) Duque Nina, “Les usages numériques adolescents : vers une ethnographie multisite de la “chambre numérique”,” in Mélanie Millette et al., Méthodes de recherche en contexte numérique, Une orientation qualitative (Les Presses de l’Université de Montréal, 2020), 160.
(119) Taina Bucher,Anne Helmond, “The Affordances of Social Media Platforms,” in The SAGE Handbook of Social Media, eds., Jean Burgess et al., (London and New York: SAGE Publications Ltd, 2018), 252.
(120) David Buxton, “Activement soumis: réseaux sociaux et capitalisme. Imaginaires du néolibéralisme,” docplayer.fr, (2019). “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3jNsRX9.
(121) Attallah, Théories de la communication, 290.
(122) عبد الله الزين الحيدري، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة لصناعة الرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 3 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3yHvOyS.
(123) Pascal Payen, “François Hartog, Régimes d’historicité. Présentisme et expériences du temps,” Anabases, Traditions, no. 1, (2015). “accessed June 3, 2021”. https://bit.ly/3sbnqFf.
(124) عن تدخل الولايات المتحدة في فيتنام وطريقة حلِّ النزاع، يقول ماكلوهان: “إن الحرب باعتبارها طريقة قاهرة في التربية وفرض التوجه الغربي، تتمثَّل في تعليم الشرق تقنية العصر الصناعي”. نقلًا عن:
Finkelstein, McLuhan prophète ou imposteur, 120.
(125) Ibid, 20.
(126) محمد الراجي، “مراجعة كتاب أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، 27 ديسمبر/كانون الأول 2015، (تاريخ الدخول: 3 يونيو/حزيران 2021): https://bit.ly/3scxzBR.
(127) Maxime Ouellet et al., “Médias sociaux, idéologie invisible et réel: pour une dialectique du concret,” tic & société, vol. 8. no. 1-2. 1er semestre 2014 et 2ème semestre 2014, “accessed June 4, 2021”. https://bit.ly/2XmAPPD.
(128) Philippe Bouquillion, Jacob T. Matthews, Le Web collaboratif. Mutations des industries de la culture et de la communication Grenoble (Presses Universitaires de Grenoble 2010), 5.
(129) Maxime Ouellet et al., “Médias sociaux, idéologie invisible et reel,”: 58-82
(130) Brian McNair, Cultural Chaos: Journalism, News, and Power in a Globalised World, (UK: Routledge, 2006), 200.
(131) الصادق الحمامي: فيسبوك تونس تهكمي، حوار أدلي به لمحمد معمري، العربي الجديد، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.
(132) نقلًا عن:
Dominique Cardon, “Pourquoi l’internet n’a-t-il pas changé la politique,” Le Monde, 8 Octobre 2010.