ملخص:

يندرج الكتاب ضمن موجة تحليلات جيوسياسية تنصب على توازنات القوى في مخاض نظام دولي تخيّم عليه احتمالات الانتقال من نظام أحادي القطبية إلى مشهد جديد لم تتضح معالمه بعد. بعد سنوات من الصدارة المطلقة أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي، دخلت الولايات المتحدة مرحلة جديدة توالت فيها إشارات التحدي لمركزها في العالم. اعتمادا على مختلف مؤشرات القياس، تحدد أدبيات التحليل الاستراتيجي القوى المرشحة لزعزعة هذه الهيكلة الأحادية للنظام العالمي في قوة آسيوية: الصين، وقوة أوراسية: روسيا.

إنه تحدٍّ تتعاظم أبعاده ومآلاته في ظل تحالف استراتيجي أثبت حتى الآن صلابته بين القوتين المتحديتين اللتين تتحركان بباعث اقتناع واسع لدى قادتهما بأن الغرب يمشي على منحدر أفول اقتصادي منذ الأزمة المالية سنة 2008، وسياسي في سياق أزمة الديمقراطيات وصعود الشعبويات بأوروبا وأمريكا. إلى جانب هذين الباعثين الموضوعيين، يتعلق الأمر، حسب الكاتب بعامل نفسي عنوانه الثأر للإهانات التاريخية التي تجرعتها الصين وروسيا في تدافعهما مع الغرب.

يبني الكاتب مقاربته لمآلات الصراع على الزعامة على ساحتي تماسّ حارقتين. إحداهما مشتعلة في أوكرانيا، والأخرى مرشحة للاشتعال في تايوان. يفكك الكاتب عناصر القوة التي يتوفر عليها كل طرف، واحتمالات الصدام والتوافق، ولا يغفل العودة إلى التاريخ، خصوصا في القرن العشرين، ليقارن واقع النظام الدولي بلحظات تصعيد مماثلة.

تحليل غني بتعددية زوايا التحليل ونباهة تركيب المؤشرات، لكنه لا ينفلت من مركزية غربية تصل إلى لَيِّ أعناق المعطيات من أجل تفسير يخدم الرؤية الجيوسياسية للعالم الغربي، على حساب سردية الآخرين، في الشرق والجنوب أيضا.

الكلمات المفتاحية: توازن القوى، النظام الدولي، النظام أحادي القطبية، الصين، روسيا.

Abstract

This book falls within the wave of geopolitical analyses that focus on the power balances during a transitional period in the international system, overshadowed by the potential shift from a unipolar world to a new, still unclear order. After years of absolute dominance following the collapse of the Soviet Union, the United States has entered a new phase, marked by increasing challenges to its central position in the world. Based on various measurement indicators, strategic analysis literature identifies the powers likely to disrupt this unipolar structure as an Asian power—China—and a Eurasian power—Russia.

This challenge is further intensified by the growing strength of the strategic alliance between the two opposing powers, which so far has proven robust. Both are driven by a widespread conviction among their leaders that the West has been on a downward economic slope since the 2008 financial crisis, and politically, is grappling with the crisis of democracies and the rise of populism in Europe and America. Beyond these objective factors, the author suggests there is also a psychological element: the desire for revenge for the historical humiliations endured by China and Russia in their confrontations with the West.

The author structures his analysis of the struggle for leadership around two critical points of conflict: one already ignited in Ukraine and the other potentially erupting in Taiwan. He dissects the elements of power available to each side, the possibilities of confrontation or cooperation, and revisits history—especially the 20th century—to compare the current state of the international system with similar moments of escalation.

The analysis is rich in its multiplicity of perspectives and astute assessment of the indicators, yet it does not escape the Western centrality that bends the facts to fit the geopolitical vision of the Western world, to the detriment of the narratives of others, both in the East and the Global South.

Keywords: balance of power, international system, unipolar system, China, Russia.

عنوان الكتاب

حرب العوالم: عودة الجيوبوليتكس وصدام الإمبراطوريات

العنوان الأصلي

La Guerre des mondes: Le retour de la géopolitique et le choc des empires

المؤلف: برونو تيرتري     Bruno Tertrais

دار النشر: منشورات لوبسرفاتوار

تاريخ النشر:  أكتوبر/تشرين الأول 2023

اللغة: الفرنسية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 288

السياق الجيوسياسي ومرجعية الباحث

موضوع الكتاب ليس جديدا، لكن مظاهره أصبحت أكثر تجسيدا في ساحة الاستقطاب الدولي وبالتالي أكثر إثارة لشهية البحث والاستشراف. يرصد الخبير الاستراتيجي الفرنسي برونو تيرتري في كتاب “حرب العوالم: عودة الجيوبوليتكس وصدام الإمبراطوريات” يقظة الإمبراطوريات لمنازعة الولايات المتحدة في استفرادها بزعامة النظام العالمي. نقرأ في تقديم الكتاب ما يلي: ” بدأت الصفائح التكتونية الجيوسياسية تتحرك مرة أخرى. استيقظت الإمبراطوريات الجديدة من سباتها وها هي تسائل النظام الدولي. تسعى الصين وروسيا إلى الثأر من الغرب، وإعادة تشكيل العالم وفق ما يتطلعان إليه”.

يبدو العالم بالنسبة للباحث ساحة حرب متعددة الجبهات، من أوكرانيا إلى تايوان، ومن أعماق البحار إلى الفضاء الخارجي، في مناجم الليثيوم وفي الفضاء الإلكتروني. الصدام هذه المرة بين كتلة غربية ليبرالية وأخرى أوراسية سلطوية. إنه صراع على النفوذ على نطاق عالمي، تتخلله الأزمات والصراعات الإقليمية.

هي معطيات جديدة تصب في جدلية: “الغرب والآخرون”. الغرب يجدد أعداءه في صدامات حول القوة المادية، وحول القيم أيضا. من الملفت أن الكاتب يبدأ تحليله لمعالم هذا الاستقطاب من 1999 مستدعيا هجوم الناتو على بلغراد. بالنسبة إليه، الصين وروسيا لن تنسيا هذا الحدث الذي تعرضت له عاصمة شيوعية سابقة.

لاشك أن المؤلف وهو يحدد عنوانا لكتاب في العلاقات الدولية كان يستحضر عنوانا أدبيا خالدا ومرجعيا هو رواية “حرب العوالم” للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز التي صدرت للمرة الأولى بشكل مسلسل عام 1897، ونشرت بشكل متزامن في مجلة بيرسون في المملكة المتحدة ومجلة كوزموبوليتان في الولايات المتحدة، قبل أن ينشرها وليام هاينمان أول مرة في شكل كتاب في لندن عام 1898.

وكانت الرواية التي تنتمي إلى صنف الخيال العلمي تحكي قصة غزو فضائي للكوكب من قبل كائنات وافدة من المريخ. إنه تناص يحيل إلى فكرة الخوف على مصير العالم من حرب مدمرة. والفرق في مصدر التهديد. فالكاتب برونو تيرتري يحلل اتجاهات الصراع في الواقع الدولي ويستشرف احتمالات الصدام الكبير بين قوى الكوكب في سياق التنافس على زعامة النظام العالمي.

يعد الكتاب تتويجا للأعمال البحثية للكاتب برونو تيرتري بوصفه خبيرا فرنسيا متخصصا في التحليل الجيوسياسي والاستراتيجي، اشتغل طويلا على دراسة الأزمات والصراعات، واستراتيجيات الولايات المتحدة والعلاقات عبر الأطلسي، والأمن في الشرق الأوسط وآسيا، وإشكالية الردع النووي.

وهو خريج معهد باريس للدراسات السياسية. ونال الدكتوراه من المعهد الأوروبي للدراسات السياسية في باريس، بأطروحة حول “استراتيجية الناتو النووية: الردع الموسع ودور الأسلحة النووية الأمريكية في أوروبا، 1949-1992″، تحت إشراف المحلل الاستراتيجي المعروف بيار هاسنر.

وتمتاز المسيرة المهنية لمؤلف الكتاب بجمعه بين العمل الأكاديمي والممارسة الاستشارية السياسية؛ مما يضفي على أعماله حسا واقعيا براغماتيا ملحوظا. فقد بدأ حياته المهنية في مديرية الشؤون الاستراتيجية بوزارة الدفاع الفرنسية (1993-2001). وعمل مستشارا علميا للمفوض السامي للتخطيط. وفي عام 2017، خلال الحملة الرئاسية، كان برونو تيرتري عضوا في مجموعة الخبراء الذين قدموا المشورة لإيمانويل ماكرون في القضايا الدبلوماسية والعسكرية. وللقارئ أن يلاحظ أن هذه المرجعية المهنية بالغة التأثير في زوايا التحليل وفي تحقق موضوعية المقاربة بشكل عام.

للباحث كتب سابقة هي: “الأسلحة النووية بعد الحرب الباردة. أوروبا والحلف الأطلسي ومستقبل الردع” (1994)، “السياسات النووية في أوروبا” (1999)، “الحرب التي لا نهاية لها” (2004)، “أربع سنوات لتغيير العالم. أمريكا بوش، 2005-2008 (2005)، “أوروبا/الولايات المتحدة: قيم مشتركة أم طلاق ثقافي؟” (2006)، “إيران، الحرب القادمة” (2007)، “نهاية العالم ليست غدا” (2011)، “ثأر التاريخ” (2017).

اهتزاز الطبقات الجيوسياسية

كتاب “حرب العوالم” سليل سياقه الاستراتيجي الدولي بامتياز. ففي اللحظات الفارقة لتطور العلاقات الدولية واحتدام التنافس بين القوى الكبرى واهتزاز التوازنات الجيوسياسية، تنتعش التحليلات الاستشرافية حول شكل النظام المتولد عن التنافس وجدول الرابحين والخاسرين مما يسميه الكاتب اهتزاز الطبقات التكتونية للجيوبوليتيكس. يقودنا الكتاب إلى استعادة مرحلة ما بعد انهيار القطب السوفياتي وتناسل الإصدارات حول مصير اللحظة الأحادية القطبية بزعامة الولايات المتحدة وأفق ديمومتها والقوى المرشحة للصعود. اليوم، يكاد الخبراء يحددون القائمة المختصرة لهذه القوى في قوة آسيوية هي الصين، وأخرى أوراسية هي روسيا.

وجاءت الأزمة الأوكرانية لتشكل نقطة تقاطع حساسة في سباق كسب نقاط التموقع في سلم القوى الكبرى، بقراءات مختلفة، بين من يراها اختبارا ناجحا لترشيح روسيا بوتين، ومن يرى أنها كابح حقيقي عطل الحلم الروسي الإمبراطوري. وعلى منوال حرب روسيا على أوكرانيا، يطرح الكاتب وغيره من الخبراء محاكاة مع فرضية غزو صيني لتايوان يكون بمثابة إعلان صعود رسمي للصين إلى سدة الزعامة العالمية، على حساب الولايات المتحدة، والغرب عموما، أو، في حال الفشل في الحسم العسكري، مستنقع تخبط قاتل ينهي أو يؤجل مسيرة الصين نحو الاحتفال بالزعامة العالمية، وفقا لما هو مبرمج في مئوية الثورة الشيوعية في أفق 2049.

لا يطل برونو تيرتري بأطروحة جديدة تماما حين يحصر قائمة الصراع على الزعامة العالمية في الثلاثي الأمريكي الصيني الروسي. إنها نفس القائمة التي رشحها الباحث اللبناني الفرنسي جيلبير أشقر قبل ربع قرن في كتابه “الحرب الباردة الجديدة” (1999) بعنوان فرعي “العالم ما بعد كوسوفو”1. يمكن أن نقترح لكتاب برونو تيرتري عنوانا فرعيا وفق متغير جيوسياسي بديل حاسم: العالم ما بعد حرب أوكرانيا. إن تطورات العقد الأخير في المحيط الجيوسياسي لروسيا منذ ضم شبه جزيرة القرم وصولا إلى غزو أوكرانيا، وفي المحيط الجيوسياسي والجيواقتصادي للصين مع تزايد السلوك الضاغط لبكين اتجاه قضية استعادة تايوان فضلا عن ممارساتها “الشرسة” ذات النزعة المهيمنة في سوق المبادلات الاقتصادية، تحمل الباحث على الحديث عن “حرب عالمية دافئة” تنطوي على احتمالات الاصطدام الساخن على حدود التماس بين مجالات النفوذ الإمبراطوري.

 

الإمبراطوريات الجديدة والثأر للتاريخ

يفضل الكاتب الانطلاق من البنية الذهنية لصناعة القرار الاستراتيجي في روسيا والصين، مفصلا في الذكريات الحية للشعور بالإهانة، التي تسكن عقول وقلوب قادة موسكو وبكين منذ وقائع سنة 1999 في الساحة اليوغوسلافية. لقد قصف الحلف الأطلسي بلغراد في مارس/آذار 1999 قبيل 5 أيام من تعيين فلاديمير بوتين، مدير الكي جي بي، أمينا عاما لمجلس الأمن القومي الروسي. وقصفت طائرات أمريكية سفارة الصين ببلغراد في مايو/أيار من نفس العام. “لم تنس موسكو ولا بكين حرب كوسوفو وقصف بلغراد. إنها عاصمة تجسد العالم الشيوعي القديم، وأيضا الأرثودوكسية السلافية بالنسبة لروسيا، وعدم الانحياز بالنسبة للصين. ما الدرس بالنسبة لهما؟ هو أن الغرب لن يتردد في استخدام القوة لخدمة مصالحه، حتى دون موافقة الأمم المتحدة”. يورد الكاتب تصريحا لبوتين نفسه: “من هناك، بدأ كل شيء”. حتى إنه ذكّر سنة 2022 بسابقة كوسوفو في تبرير الاعتراف بجمهورية دونباس. أما الصين فقد دشنت عام 2023 في مكان سفارتها ببلغراد أحد أكبر مراكزها الثقافية في أوروبا. هي عناصر مما يعده الباحث “الأساطير المؤسسة” لمسار الثأر من التاريخ في بكين وموسكو(2).

يرتبط بهذا العامل النفسي الثقافي انقلاب الشعور بالانتصار الإيديولوجي والعسكري والاقتصادي للغرب في تسعينيات القرن الماضي إلى سيادة تمثلات تحوم حول ضعف الغرب وفقدان جاذبية نموذجه الكوني. إنه زمن انفجار جديد للقوميات ضد العولمة وضد التغريب والتحديث، خلافا للمقولة التبشيرية لنهاية التاريخ كما طرحها فرنسيس فوكوياما. من الصدمة المالية والنقدية سنة 2008 إلى عجز الإدارة الأمريكية عن تدبير الأزمات من سوريا إلى أوكرانيا، ساد الشعور بأن الغرب إلى أفول(3)، ومقابل الشك في فاعلية واستدامة النموذج الليبرالي الغربي، انبعث الشعور القومي، الذي يعلي قيمة القيادة والنظام والتقاليد… أصبح الرهان في دول خارج المجال الجغرافي والحضاري الغربي مثل البرازيل والهند، يتمثل في “استعادة التحكم في الأمور” ضد اختراق العولمة وفوضى الديمقراطية الزائفة.

يورد الكاتب مقولة ريمون آرون: “الذين يعتقدون أن الشعوب تتبع مصالحها لا مشاعرها لم يفهموا شيئا من القرن العشرين”، وهي مقولة تبدو مفسرة لفكرة سيادة الشعور بالانتقام من إهانات الغرب، واستعادة للنظرية الهوبسية عن فاعلية شعورين أساسيين في الكيان البشري: الخوف والشرف(4). هنا، لا ينفلت برونو تيرتري، تحت دثار آرون، من إرث نقدي غربي يقدم طروحات تزعم التفسير الثقافي والسيكولوجي لسلوكيات الشعوب والنخب غير الغربية، بناء على دواعٍ غير عقلانية. في هذا المقطع، كما في مقاطع أخرى من الكتاب، لا جنوح عن المركزية الغربية الاستعلائية التي بمقتضاها تبدو السلوكيات المناهضة للمصالح الغربية تعبيرا عن احتقانات أيديولوجية ونفسية وثقافية. إنها ترديد لفكرة أن الديمقراطيات لا تخوض الحروب بينما الآخرون يتصرفون برغبة في الانتقام.

 

سقوط أوهام السلام العالمي

يتحدث الكاتب في سياق تفكيك التربة النفسية لمناهضة الغرب عن سقوط أوهام العولمة الحاملة لوعود التقدم والتحديث والرفاه العابر للحدود. أصبحت العولمة مشكلة بعد أن كانت حلا، وسقط اقتران التنمية بالديمقراطية والحداثة بالتغريب. جاءت تجارب تركيا والهند والصين لتكشف الطابع التبسيطي لهذه الأفكار وتهافتت فكرة أن نهاية الحرب البادرة ستفضي إلى نشر السلام في النظام العالمي وإلى إرساء منظومة متعددة الأطراف للتعاون، وأن الدولة الأمة ستفقد أهميتها لصالح المؤسسات الدولية والشركات المتعددة الجنسيات، وأن الاعتماد المتبادل الاقتصادي سينتج السلام.

يتساءل الكاتب: من المذنب في تهافت هذه الأوهام؟ ثم يدعو تبعا لذلك إلى تنسيب فكرة تحميل الغرب مسؤولية فشل العولمة وتراجع جاذبية الفكر الليبرالي وانبعاث القوميات والتسلطية الجديدة ونقمة نخب الجنوب على الغرب على خلفية تدخلاته العسكرية وغير العسكرية. يمضي الباحث إلى تساؤل غريب لتبرير ما لا يبرر: “ماذا كانت ستكون حصيلة عدم التدخل في الكويت، يوغوسلافيا، أفغانستان، العراق، ليبيا أو مالي؟”، ثم يقول إنه من غير الانسجام المنطقي مؤاخذة الغرب بدعم الدكتاتوريات وبإسقاطها في نفس الوقت. للمرء أن يستغرب تفسيرا يفترض أنه “أكاديمي” لمبدأ مجرد واضح في القانون الدولي: عدم التدخل. فما الذي ينافي المنطق في انتقاد موقف الغرب دعما للدكتاتوريات أو تدخلا لإسقاطها. ففي السلوكين معا انتهاك لحقوق الشعوب ولمبادئ القانون الدولي. والحال أنه داخل المنتظم الغربي نفسه، تعلو أًصوات كثيرة من الحقل العلمي والفكري متبرئة من خيانة الغرب لنفسه.

يتواصل هذا النفس التبريري لدى الباحث في معرض تحليله لدواعي اشتعال الوضع على جبهة التماس بين روسيا والغرب. فبخصوص توسيع الناتو، يقول الكاتب إن الدول الأعضاء السابقة في حلف وارسو هي التي دقت أبواب الناتو وليس العكس(5). من يصدق قراءة سطحية ساذجة من هذا القبيل؟ كأن قبول عضوية هذه الدول جاء من قبيل حرج في رد ضيف، لا حساب استراتيجي مكشوف لاحتواء روسيا وتوسيع مظلة “السلام الأمريكي” شرقا.

باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يقول الباحث إن العالم عاد إلى حالته “العادية” التي تكرس مركزية الرؤية الكيسنجرية لواقع دولي طبيعته الصراع والتنافس. يقصد بذلك أن حسابات الواقعية السياسية استعادت هيمنتها(6). إنها حقيقة الجيوبوليتيكس ضد أحلام الحكامة العالمية. يرى برونو تيرتري أن الإمبراطوريات الجديدة (أي الصين وروسيا..)  لم تعد تكترث لقواعد اللعب التي ساهمت هي نفسها في إرسائها: حرمة الحدود، عدم الانتشار النووي، الحد من التسلح، حرية الملاحة في أعالي البحار، التبادلية في التجارة… أما القارئ فيمكنه التساؤل هل هذه الخروقات بدأت مع روسيا والصين؟

لقد كسر غزو روسيا لأوكرانيا، حسب المؤلف، ثلاثة تابوهات في أوروبا من خلال عودة الحرب الكبرى بين الجيران، وإعادة رسم الحدود بالقوة، والانبثاق الصريح للتهديد النووي. يتعلق الأمر بهجوم مضاد تشنه الإمبراطوريات الجريحة: روسيا والصين، ومعهما أيضا تركيا وإيران، حسب جيفري مانكوف(7).

يحاول المؤلف أن يجد قواسم مشتركة بنيوية بين روسيا والصين. يجد أنهما تشتركان في عبادة الشخصية وتصفية المعارضين والإعجاب بستالين وأن البلدين يعتقدان أن الظرفية في صالحهما من أجل التوسع شرقا وجنوبا بالنسبة لروسيا وفي المجال البحري (بحر الصين وغرب الهادي) بالنسبة للصين.

إن اتساع المجال التحليلي وذكاء التركيب وتعددية عناصر القياس والمؤشرات في مقاربة توازنات القوة ومناورات الفرقاء في هرم النظام الدولي تقابلها لدى الكاتب غلبة أحكام القيمة كلما تعلق الأمر بتوصيف سلوك القوى موضوع البحث من قبيل روسيا والصين (ومعهما أيضا الهند وتركيا). يتحدث عن “اغتصاب” أوكرانيا وإمبراطورات “مفترسة” وممارسات “مافيوزية” على غرار سلوك روسيا في إفريقيا في إشارة إلى مرتزقة فاغنر، وعن دبلوماسية ثقافية وصحية هجومية للصين ونشاط اقتصادي في القارة السمراء يعتبره الكاتب استغلالا(8)، وكأن تدخلات القوى الأوروبية كانت ورودا في مزرعة الديمقراطية والتنمية، وكأن حكومات الجنوب ساذجة حين تبحث في عروض التعاون الصينية والروسية عن شركاء جدد.

 

روسيا: العنف حمضها النووي

يسعى الكاتب إلى استخلاص بذور العنف من بنية النظام السياسي الروسي فيما يبدو محاولة لتقديم حتمية متوقعة في السلوك الروسي اتجاه محيطه الإقليمي والدولي. بالنسبة له، روسيا مزيج من النظام القيصري والستاليني، أوتوقراطية مسكونة بالرهاب والعنف. إنه “الحمض النووي السياسي لروسيا”(9). من هذا المنطلق، تحرص موسكو -حسب تيرتري- بشكل منهجي على تضخيم التهديد الخارجي (الغربي) و”اختراعه”. فبوتين مهووس بلحظة انهيار النظام الشيوعي، ويتملكه رعب من تجدد المأساة.

لقد حددت السياسة الخارجية الروسية الجديدة سنة 2023 باقة من الأهداف الاستراتيجية في محورها القضاء على أركان هيمنة أمريكا والدول المعادية في الشؤون العالمية وتحييد محاولات فرض المبادئ الأيديولوجية المزعومة إنسانية ونيوليبرالية… في هذا السياق يستدعي الكاتب خلاصة مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبينغيو بريجنسكي الذي يجزم بأنه “دون أوكرانيا، لا تظل روسيا إمبراطورية أوراسية”. أوكرانيا هي الحبوب والغاز وصناعات الصلب، وأكثر من ذلك بكثير على الصعيد الجيواستراتيجي.

ويتوغل الكاتب في عقل بوتين الذي يستحضر الدور التاريخي للقرم في ميلاد الأسطول الروسي للبحر الأسود، ويتبنى قراءة للتاريخ تضع كييف في قلب المجد الروسي وتعتبر إنشاء أوكرانيا ثمرة لمؤامرة غربية. إنها سردية الكرملين التي تستبطن دافعا آخر يتمثل حسب الكاتب في العامل الديموغرافي: لقد مكن ضم شبه جزيرة القرم من تعزيز النسيج الاجتماعي الروسي الذي يعاني تدهورا في الخصوبة(10).

تنكشف مبالغات الكاتب في الشخصنة وتأويل الدوافع النفسية بما يحمل على استخدام مصطلحات غير علمية وأحيانا تشبيهات تخلو من الرصانة كما في قوله إن سيد الكرملين تصرف كزوج لم يتحمل أن تهجره زوجته.

تشمل خريطة المشروع الروسي ضم القرم، معاقبة الريادة الأرمينية، التمركز في القوقاز، إخضاع بيلاروسيا. إنها أهداف جيوسياسية لا تلبث أن تصبح بالنسبة للكاتب مشروعا شخصيا لبوتين. يستدعي قول مستشارة دونالد ترامب، فيونا هيل: “إنها مسألة شخصية. إرثه، صورته عن نفسه، رؤيته للتاريخ الروسي. بوتين يرى نفسه بطلا في التاريخ الروسي، ويضع نفسه على خطى الزعماء الروس الذين سعوا في الماضي إلى توحيد ما اعتبروه ترابا روسيا”(11). الواقع أن شهادة من مستشارة ترامب ليس من شأنها أن تزكي مصداقية مقاربة من هذا النوع.

يرتبط الموقف الشخصي لبوتين بالبعد الحضاري للصراع. وهنا يعتبر برونو تيرتري أن صمويل هنتنغتون أخطأ حين صنف روسيا ضمن الحظيرة الغربية. فالراهن ساحة صراع بين الغرب الليبرالي وأوراسيا السلطوية. يجد من يزكي هذا البعد في الفكر اليميني الروسي كما يجسده المنظر ألكسندر دوغين الذي يبشر بأن المعركة الأخيرة بين الأنوار والظلمات بدأت. تمجيد العنف مستوطن في الذات الروسية، حسب الكاتب والآخر يصبح شيطانا ينبغي محاربته بلا هوادة. هكذا تبدو أوكرانيا تجسيدا للشر. يحق لنا أن نعقب بأن كل هذه التوصيفات تنطبق على أمريكا والغرب عموما في رؤيته المركزية التي تجعل الآخرين بمثابة “برابرة” يسببون له رهابا أزليا، على منوال ما يفضحه المفكر والناقد الفرنسي البلغاري تزفيتان تودوروف في كتابه “الخوف من البرابرة”(12).

قراءة برونو تيرتري تستعجل سقوط روسيا في مستنقع أوكرانيا. ففي فصل بعنوان: “السقوط النهائي”، يعتبر الكاتب أن غزو أوكرانيا لإعادة تشكيل مجال نفوذ روسيا تحول إلى كارثة. في المقابل، تنحدر الدولة إلى الفاشية. إنه الموت الثاني للاتحاد السوفياتي، انهيار المشروع الإمبراطوري الجديد لروسيا. والانهيار ليس فقط على مستوى القوة الصلبة، بل أيضا في القوة الناعمة. فالدول الصغيرة التي تقع في فلك روسيا مصابة بالهلع من النيات الروسية والعقوبات التي أصبحت سمات بالنسبة للاقتصاد الروسي، وثروات الطبقة الأوليغارشية نزحت إلى ملاذات آمنة، والديموغرافيا في تقهقر؛ إذ تفقد البلاد مليون شخص سنويا. لا يتورع الباحث عن وصف روسيا بأنها “الرجل المريض في أوراسيا”، بل يتحدث عن سيناريو كوري شمالي للانغلاق والتشدد نتيجة الهزيمة، واحتمال انفجار روسيا من الداخل والوقوع في الهاوية(13).

 

 

التحدي الصيني.. الحسم في تايوان

لئن أصبحت روسيا دولة فاشية، فإن الصين أصبحت دولة شمولية، حسب المؤلف. وحيث تلجأ موسكو إلى تدخلات عسكرية مباشرة فإن بكين تتصرف بشكل أكثر استتارا وصبرا. روسيا تلعب لعبة تكتيكية قصيرة المدى بينما تجسد الصين البعد الاستراتيجي على الأمد الطويل(14).

هكذا ترتسم الصين اليوم في نظر الكاتب دكتاتورية مشخصنة تستند على الحزب-الدولة. جينبينغ وريث لماو تسيتونغ. حسب ميثاق الحزب، الصين لا تزال في المرحلة الأولية من الاشتراكية في الطريق نحو تحقق الشيوعية. يوجز برونو تيرتري بأن الحالة الصينية دحض لمقولة نهاية التاريخ لدى فوكوياما. إنها تقدم اليوم نموذجا بديلا للحداثة خارج المدار الغربي خصوصا منذ الأزمة المالية 2008، كما أن سياسة عدم التدخل تجتذب دول وشعوب الجنوب(15).

تريد الصين ابتلاع تايوان بعد أن هضمت هونغ كونغ. وهي تشعر بأن وقتها قد حان. عام 2013، أطلقت طريق الحرير الجديد، تجسيدا لهذه التطلعات الكونية. نسجت شبكة من العلاقات الاقتصادية والمالية والعسكرية التي تنحو إلى موازنة الأحلاف الغربية. سنة 2010 أصبحت الصين مقرضا ضخما للدول النامية، وفي ذلك تطور لا يخلو من دلالة.

كما في مقاطع أخرى، يبرع الكاتب في تجميع الوقائع والعناصر، لكنه لا يتخلص من غربيته حين يقول إن تنامي قوة الصين يستند على نهب الموارد الطبيعية والفكرية، وإنها أول مصدر للغازات الدفيئة. لا يختلف طرح الباحث هنا عن الدعايات المتداولة في وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية حول سعي الصين لإغراق شركائها بالديون وتكبيل مستقبلهم، والحال أن القوى الغربية ما زالت تضع يدها على ثروات مستعمراتها السابقة، وما زالت المؤسسات الدولية تلتهم نصيب الأسد من موازنات الدول الفقيرة.

يرى الكاتب أن السباق الأمريكي الصيني تسارع في التسعينيات مع انكشاف عمليات تجسس الصين في أمريكا ودورها في نشر التكنلوجيا النووية وممارساتها في المبادلات التجارية، في حين جاءت مناوراتها التوسعية في بحر الصين لتوقظ الرد الأمريكي. سنة 2018، جسد خطاب نائب الرئيس مايك بنس إطلاق سياسة احتواء جديدة اتجاه الصين. وبحسابات القوة، يعتقد الكاتب أن الصين حققت الامتياز من حيث حجم التجارة، لكنها أصبحت تعاني تراجع منحاها الديموغرافي، بينما تتفوق أمريكا في الجانب العسكري وحتى في القوة الناعمة، مع تراجع صورة الصين في الغرب(16). للمرء أن يعقب بالقول إن صورة أمريكا ليست بالنصاعة المفترضة في ضمير النخب الفكرية الغربية بالرغم من قوة الروابط السياسية والاقتصادية. أما على مستوى التمثلات الذهنية في الجنوب، فلا شك أن الكفة تواصل الميل لفائدة الصين، بوصفها شريكا جديدا ليس له تاريخ عدواني اتجاه الدول والشعوب.

إن مدى ومآل المنافسة الأمريكية الثنائية مع الصين ومع روسيا يتحدد إلى حدّ بعيد بناء على مستوى وزخم العلاقة الصينية الروسية. هل يتعلق الأمر بتحالف ظرفي أو شراكة استراتيجية مستدامة؟ الواقع أن هذه العلاقة صمدت على مدى سنوات طويلة رغم ثقل ذكريات الصدام الذي اتخذ في بعض المراحل حدة فاقت الصراع مع أمريكا. يستدعي الكاتب في هذا السياق قول أليس إكمان: “اليوم، ثمة ما يكفي من العناصر للقول إن الأمر لا يتعلق بتقارب ظرفي أو زواج مصلحة”(17). ومع ذلك يصر الكاتب على وصف العلاقة الصينية الروسية بأنها تواطؤ حذر، ويصور الوضع وكأن الصين بصدد التهام روسيا.

 

الآخرون في معترك الاستقطاب

يراهن الكاتب على صحوة جيوسياسية لأوروبا بحيث لا تبقى، حسب جوسيب بوريل، الممثل السامي السابق للاتحاد الأوروبي في الشؤون الخارجية والأمن، حديقة وسط الغابة. يلاحظ في هذا الصدد أن الاتحاد الأوروبي أصبح يكثف مهاجمته للصين داخل منظمة التجارة العالمية، ويُخضع الاستثمارات الصينية لمراقبة أكثر تشددا، ضمن مؤشرات على بداية تجرد أوروبا من أوهام الليبرالية والاعتماد المتبادل وقبول واقع المواجهة كحالة طبيعية في النظام الدولي.

تشير دراسة واسعة النطاق إلى أنه على مدى السنوات العشر الأخيرة، تجد المجتمعات الديمقراطية نفسها أقرب إلى الولايات المتحدة، في حين تزداد شعبية روسيا والصين في العالم النامي. لنلاحظ أن الكاتب يقابل منظومة سياسية (الديمقراطيات) بمفهوم جيو اقتصادي بالأساس (العالم النامي). كأن الكاتب يتبنى بدوغمائية حتمية ارتباط الديمقراطية بالتقدم والرخاء، وكأن التخلف حالة قدرية في الجنوب. تمارس الصين الإغراء على أعضاء مجموعة 77. ومن جنوب إفريقيا إلى الهند، تظل موسكو حليف مناهضة الاستعمار بينما ينظر إلى الدول الغربية على أنها مصدر المشاكل الاقتصادية في المستعمرات القديمة(18).

أدارت أوروبا وجهها صوب أمريكا والنرويج لشراء الغاز بدل الإمدادات الروسية، وأوقفت إبرام اتفاق تبادل حر مع الصين عام 2021(19). في لعبة الاستقطاب، يظل موقف الهند حاسما ومرجحا. فهي دولة لها ارتباط تقليدي بروسيا إيديولوجيا وعسكريا، لكن خصامها قديم مع الصين حول بعض المناطق الحدودية. هي أكبر دولة تمنع تيك توك. وسيرجح موقفها إلى حد بعيد اتجاهات المواجهة بين الأقطاب في المستقبل(20).

 

خطر تحول المنافسة إلى صدام

ماذا عن خطر حرب عالمية ثالثة؟ انبعث الشبح الذي يخيم على العالم منذ خمسينيات القرن الماضي، من جديد. ليس مستبعدا أن لحظة الثأر الصينية الروسية لإهانات الماضي قد حلّ أوانها، حسب المؤلف.

بعد أوكرانيا، هل تكون تايوان حلقة ثانية في استكمال مسلسل تحدي النظام القائم؟ من وجهة النظر العقلانية، يبقى اندلاع حرب كبرى وهمًا كبيرا بالنظر إلى تشابك المصالح الاقتصادية بين الصين والغرب رغم حدة التنافس. يقال في بكين: “تايوان مثل كأس كريستال. نريد الكأس لا قطعه المتناثرة إلى ألف قطعة”(21).

يتأمل الكاتب في جدول الحلفاء ليخلص إلى أن الولايات المتحدة معتدة بـ60 حليفا، مقابل 5 لروسيا وحليف واحد للصين. روسيا والصين هاجمتا مناطق ترابية غير محمية أو متنازع عليه، لكنهما لم تجرؤا على مجال ترابي محل ضمانات أمنية صريحة من قبل أمريكا أو حلف الناتو عموما.

يرى برونو تيرتري أن الردع النووي أثبت فاعليته في تفادي الحروب الكبرى؛ إذ لا بلد محمي بضمانة نووية تعرض لهجوم كبير. لقد أكدت الدراسات الإحصائية أن السلاح النووي يقلص احتمال الانتقال إلى الاستفزاز المادي من قبل دولة غير نووية. وغزو أوكرانيا ليس استثناء لأنها لم تكن محمية بأي التزام بالدفاع عنها. كانت بلا مظلة نووية. وكان ستين تونيسون قد أوضح عام 2015 أن الاعتماد المتبادل في الاقتصاد والردع النووي من شأنه أن يقلص إلى حد كبير خطر المواجهة بين واشنطن وبكين(22).

مع ذلك، ينبه الكاتب إلى أن شي جينبينغ حدد إعادة توحيد الصين أولوية وطنية في أفق 2049. ارتفعت الميزانية العسكرية بثلاثة أرباع في عهده. قادة بكين يعرفون أخطار غزو تايوان في كسر الارتقاء الصيني، لكنهم واعون أيضا أنه يوما بعد يوم، تبتعد تايوان عن الحضن الصيني الإمبراطوري. ينبه إلى أن ضعف الردود الغربية عام 2020 إثر استعادة هونغ كونغ قد يشجع بكين على انتهاز “ضعف الغرب”(23).

يدفع الكاتب السيناريو إلى أبعد حدود التنبؤ ليقول إنه في حال صدام صيني أمريكي، فإن من جوانب عجز الصين أنها لا تعرف الحرب، كما أن روح المقاومة في تايوان عالية. والتفوق بالعتاد والبشر ليس ضمانة أكيدة لتحقيق النصر في ساحات من هذا النوع.

على الجانب الآخر، تبقى فرضية الانفجار من الداخل مطروحة بالنسبة لروسيا، بالنظر إلى المأزق الاقتصادي والتراجع الديموغرافي. روسيا تواجه خطر انهيار الأسطورة الوطنية الجامعة. يستدعي الكاتب مقولة الباحث سيرجي ميدفيديف: “ليست هناك أمة روسية. هناك فقط ساكنة تحكمها دولة”. يمضي الكاتب في تنبؤاته التي تبدو ذات طابع رغائبي أكثر من كونها تحليلا موضوعيا، إلى القول إن انهيار روسيا لن يشبه انهيار الاتحاد السوفياتي. ستكون مثل الرجل المريض لأوراسيا، تنشب إثره نزاعات جديدة في ذلك المجال القاري الواسع(24).

عن أسئلة طرحها الكاتب في مقدمات كتابه بصدد مقارنة اللحظة الدولية للصراع الإمبراطوري وتنافس الزعامة، بسابقاتها في القرن الماضي، يخلص الكاتب إلى أن العالم يعيش ظرفية سباق الإمبراطوريات كما بعد 1910، وتهديد الدول الفاشية في سنوات 1930، والحرب الباردة كما في 1950. ويرى أن الدول الهادفة إلى تعديل التوازنات القائمة ستكون مسؤولة عن نزاعات وأزمات كبرى. لن يكون عالما ثنائي القطبية ولا متعدد الأقطاب، بل سيكون عالما هجينا مسرحا لحرب نفوذ مستمرة(25).

باختصار، يميل الكاتب إلى التفاؤل باستمرار الغرب بقيادة الولايات المتحدة في هيمنته على المعادلات. ويرى أنه كلما تنامت قوة الصين الاقتصادية تعززت مصلحتها في استقرار النظام الدولي وحرية الملاحة التجارية وعدم الانتشار النووي. نعم، تعرض الحلم بالكونية والحكامة العالمية للتآكل بفعل صعود النزعات القومية، لكن فوكوياما يعتقد أن الأوتوقراطيات معرضة أكثر من غيرها للقرارات الخاطئة في غياب النقاش على مستوى القمة، وهي هشة بالنظر إلى غياب توزيع السلطة. من السابق لأوانه إذن، حسب الباحث، الاحتفال بصعود الدول القوية والفرح بأفول الدول الديموقراطية. الديمقراطية الليبرالية تظل نظاما ينطوي على دينامية التقويم الذاتي. يذكر في هذا الصدد بأن أطروحات أفول أمريكا سقطت مع المؤرخ المعروف بول كينيدي في توقعه انهيار الولايات المتحدة نتيجة ثقل الانتشار العسكري والمديونية(26).

من قلب الانتماء إلى الاستراتيجيا الغربية، يشدد برونو تيرتري على ضرورة أن يقبل الغرب المواجهة وصراع الإرادات وألا ينزع بالضرورة إلى خفض التصعيد في مواجهة استفزازات القوى المتحدية: الصين وروسيا. يدعو الكاتب إلى محاور عمل متعددة الجبهات لتثبيت امتياز القوة، تشمل إنقاذ الديمقراطية وترميم بنياتها ونجاعتها، وإنهاء وهم استمالة روسيا إلى جانب الغرب ضد الصين، وإبقاء أوروبا على تحالف دينامي مع واشنطن، والانخراط في ردع الصين عن غزو تايوان، والقبول بواقع انفصال أوروبا عن روسيا.

المراجع

(1)   Gilbert Achcar, La Nouvelle Guerre froide : Le monde après le Kosovo. Paris, PUF, Novembre 1999.

(2)  Bruno Tertrais, La Guerre des mondes: Le retour de la géopolitique et le choc des empires. Paris, L’Observatoire, 2023, p. 12.

(3) حسن أوريد، أفول الغرب، (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، 2018).

(4)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 23.

(5)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 29.

(6)  Pierre Buhler, La guerre d’Ukraine et l’histoire de l’Europe : la fin d’une illusion. Le grand continent, 14 septembre 2023.

(7)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 39.

(8)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 45.

(9)  Idem., p. 50.

(10)  Idem., p. 69.

(11)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 74.

(12)  Tzvetan Todorov, La peur des barbares : Au-delà du choc des civilisations. Paris, Robert Laffont, 2008, 320 p.

 (13)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 104.

(14)  Idem., p. 105.

(15) نزار الفراوي، الصين.. زعامة القرن من الحزام والطريق إلى ما بعد كورونا، (دار فضاءات، عمان، 2022)، ص 17.

(16)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 121.

(17)  Idem., p. 127.

(18)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 160.

(19)  Idem., p. 159.

(20)  Idem., p. 171.

(21)  Idem., p. 179.

(22)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 200.

(23)  Idem., p. 204.

(24)  Idem., p. 222.

  (25)  Bruno Tertrais, Op. cit., p. 227.

(26)  Paul Kennedy, The Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict from 1500 to 2000. New York, Random House, 1987