ملخص:
يهدف إلى استكشاف تأثير المدرسة الفرانكفورتية على فهمنا لمفهوم الأمن الدولي في سياق التحولات العالمية المعاصرة. تبرز المدرسة الفرانكفورتية كإحدى التيارات الفكرية الرائدة التي أسهمت في توسيع نطاق النقدية الدولية؛ حيث استخدمت رؤى نقدية لتحليل العوامل الهيكلية والثقافية والاقتصادية التي تؤثر في العلاقات الدولية.
ينطلق البحث من فرضية مفادها أن المدرسة الفرانكفورتية أسهمت في تحويل مفهوم الأمن من منظور تقليدي يركز على الدولة إلى منظور أكثر شمولية يأخذ في الاعتبار التحديات الاجتماعية والاقتصادية. يستعرض البحث عدة نماذج تطبيقية من دول مثل جنوب إفريقيا، والهند، وجزر المالديف، وليبيا، وتونس، والسودان، حيث يُظهر كيف يمكن تطبيق الأفكار الفرانكفورتية لمعالجة القضايا الأمنية في هذه السياقات المختلفة.
يخلص البحث إلى أن المدرسة الفرانكفورتية لا تقدم فقط رؤية نقدية لتحديات الأمن العالمي، بل تعزز أيضًا من فهمنا للأبعاد المعقدة للأمن. من خلال التحليل النقدي، تسهم الأفكار الفرانكفورتية في إعادة تشكيل السياسات الأمنية بحيث تكون أكثر
شمولية ومرونة؛ مما يوفر أطرًا فعالة لمواجهة التحديات الأمنية الراهنة. تعتبر هذه النتائج ذات أهمية كبيرة لصانعي السياسات والباحثين في مجال العلاقات الدولية؛ حيث تؤكد على ضرورة إدماج الرؤى النقدية في التفكير الأمني لضمان استقرار مستدام وشامل.
____________
* باحثة في العلاقات الدولية، متخصصة في قضايا الأمن والتنمية.
هذه الأفكار لم تكن بمنأى عن النقد، فقد تعرضت المدرسة الفرانكفورتية لانتقادات تتعلق بميلها إلى التجريد النظري؛ مما قد يصعِّب تطبيقها عمليًّا في بعض السياقات الأمنية، إلى جانب أن تركيزها على العوامل الهيكلية والاجتماعية قد يؤدي إلى تهميش الاعتبارات الفورية للأمن التقليدي. علاوة على ذلك، أُثيرت تساؤلات حول مدى ملاءمة التحليل الفرانكفورتي للتعامل مع التحديات الأمنية المتسارعة، مثل الإرهاب أو الأمن السيبراني، التي تتطلب استجابات آنية وعملية.
الكلمات المفتاحية: مدرسة فرانكفورت، مفهوم الأمن، النقدية، العلاقات الدولية، الأمن الدولي
Abstract
The aim of this research is to explore the impact of the Frankfurt School on our understanding of the concept of international security in the context of contemporary global transformations. The Frankfurt School is recognised as one of the leading intellectual movements that contributed to broadening the scope of international critique. It employed critical perspectives to analyse the structural, cultural and economic factors that influence international relations.
The research begins with the hypothesis that the Frankfurt School has played a role in transforming the concept of security from a traditional state-cantered view to a more holistic approach that considers social and economic challenges. The study examines several case studies from countries such as South Africa, India, the Maldives, Libya, Tunisia and Sudan, demonstrating how Frankfurt School ideas can be applied to address security issues in these various contexts.
The research concludes that the Frankfurt School not only provides a critical perspective on global security challenges but also deepens our understanding of the complex dimensions of security. Through critical analysis, the ideas of the Frankfurt School contribute to reshaping security policies to be more inclusive and flexible, thus offering effective frameworks to tackle contemporary security challenges. These findings are highly significant for policymakers and scholars in the field of international relations, emphasising the importance of integrating critical perspectives into security thinking to ensure sustainable and comprehensive stability.
Keywords: Frankfurt School, security concept, critical, international relations, international security
مقدمة
تُعدُّ مدرسة فرانكفورت أحد أبرز التيارات الفكرية التي أسهمت بعمق في تطوير النقدية الاجتماعية والسياسية في القرن العشرين. وفي سياق العلاقات الدولية، كان لها تأثير كبير على إعادة صياغة مفهوم الأمن الدولي؛ حيث أتاحت هذه المدرسة إمكانية فهم أوسع وأعمق للعوامل التي تؤثر في الأمن العالمي من خلال توظيف مقاربات نقدية مبتكرة. يستعرض هذا البحث دور المدرسة الفرانكفورتية في بناء الأسس النقدية لمفهوم الأمن، متتبعًا كيف أسهمت في تحويل الفكر الدولي نحو فهم أوسع يتجاوز الحدود التقليدية التي ركزت على القوة العسكرية وأمن الدولة.
المدرسة الفرانكفورتية، المعروفة بتوجهها النقدي، تحدَّت الأطروحات التقليدية في الأمن الدولي التي اقتصرت على التهديدات العسكرية فقط، عبر توسيع نطاق التحليل ليشمل الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تؤثر في تشكيل الأمن العالمي. هذا التحول سمح بفهم أعمق للتحديات الأمنية المعاصرة مثل الفقر، عدم المساواة، والتغيرات المناخية، مؤكدًا على الأبعاد البنيوية التي تتجاوز التحليل العسكري البحت.
يهدف البحث إلى دراسة كيفية تأثير المدرسة الفرانكفورتية في إعادة تعريف مفهوم الأمن الدولي، من خلال تحليل نماذج واقعية لتطبيق هذه الرؤى النقدية في دول مثل جنوب إفريقيا، والهند، وجزر المالديف. وسيُظهر البحث كيف يمكن لهذه المقاربات النقدية أن توفر أطرًا شاملة لمواجهة التحديات الأمنية الراهنة بشكل أكثر مرونة وفعالية؛ مما يبرز مدى إسهام الفكر النقدي الفرانكفورتي في صياغة تصورات جديدة للأمن الدولي.
أهمية البحث
تكمن أهمية هذا البحث في تسليط الضوء على الإسهامات النقدية لمدرسة فرانكفورت في إعادة تشكيل مفهوم الأمن الدولي، وهي إسهامات تكتسب أهمية متزايدة في ضوء التحولات الجيوسياسية والاقتصادية والبيئية المعاصرة. يعالج البحث الفجوة الموجودة بين الأطروحات التقليدية حول الأمن الدولي، التي تركز غالبًا على الجوانب العسكرية والسياسية، وبين الاحتياجات الحديثة لفهم أوسع وشامل يشمل الجوانب الهيكلية، والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية التي تؤثر على الأمن. كما يبرز البحث أهمية النقد الاجتماعي والثقافي في تحليل التهديدات المعاصرة التي تواجه الدول والمجتمعات، ويوضح كيف أن هذه الرؤى النقدية قادرة على تقديم حلول أكثر شمولية وفعالية للتحديات الأمنية الراهنة.
أهداف البحث
- تحليل الإسهامات الفكرية للمدرسة الفرانكفورتية: يهدف البحث إلى توضيح كيفية تأثير النقد الفرانكفورتي في إعادة صياغة مفهوم الأمن الدولي من خلال مقاربة نقدية شاملة تراعي البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
- تقديم رؤية نقدية جديدة للأمن الدولي: يسعى البحث إلى استعراض كيفية تجاوز المدرسة الفرانكفورتية للأطروحات التقليدية حول الأمن الدولي، من خلال توسيع مفهوم الأمن ليشمل الجوانب الثقافية والبيئية والاقتصادية.
- دراسة نماذج تطبيقية: يهدف البحث إلى تطبيق الرؤى النقدية للمدرسة الفرانكفورتية على واقع دول مثل جنوب إفريقيا والهند وجزر المالديف، بهدف إبراز كيف يمكن لهذه المقاربات أن تسهم في مواجهة التحديات الأمنية المعاصرة.
- تطوير إطار نظري متكامل: يهدف البحث إلى تطوير إطار نظري متكامل يعتمد على النقد الفرانكفورتي لتحليل الأمن الدولي، وتقديم توصيات حول كيفية الاستفادة من هذه الرؤى في تعزيز الأمن العالمي بطرق شمولية ومستدامة.
- المساهمة في النقاش الأكاديمي: يسعى البحث إلى إغناء النقاش الأكاديمي حول مفاهيم الأمن والنقد الاجتماعي، وفتح آفاق جديدة لدراسة الأمن الدولي بطرق أكثر شمولية وتنوعًا.
الإشكالية الرئيسية
كيف أسهمت المدرسة الفرانكفورتية في إعادة تشكيل مفهوم الأمن الدولي وتطوير التصورات النقدية لهذا المفهوم من خلال تحليل العوامل الهيكلية والاجتماعية والثقافية في سياق التحديات الأمنية المعاصرة؟
الأسئلة الفرعية التي تندرج ضمن الإشكالية الرئيسية:
- كيف تعيد النظرية النقدية صياغة مفهوم الأمن الدولي في مواجهة التحديات البنيوية؟
- ما الفروقات الجوهرية بين النظريات التقليدية والنقدية في معالجة الأمن الدولي؟
- كيف تسهم النظرية النقدية في تقديم رؤية أكثر شمولية للتحديات الأمنية الناشئة عن التكنولوجيا؟
الفرضية الأساسية
تسعى المدرسة الفرانكفورتية إلى إعادة تعريف مفهوم الأمن الدولي من خلال تقديم إطار نقدي يركز على العوامل الهيكلية والاقتصادية والثقافية؛ مما يؤدي إلى تطوير تصورات جديدة للأمن تتجاوز الأبعاد التقليدية وتتيح معالجة فعالة للتحديات الأمنية الراهنة في مختلف السياقات الدولية.
المحور الأول: مدرسة فرانكفورت: النشأة الفكرية والمرتكزات النظرية للنقد الاجتماعي
1– مدرسة فرانكفورت: النشأة والتطور
برزت النظرية النقدية في قالب نظري نقدي تهدف إلى إعادة هيكلة وإعادة بناء التنظير في مجال العلاقات الدولية بطريقة تتميز أنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا ومنهجيًّا عن النهج التفسيري التقليدي. تقوم هذه النظرية بتحليل السلطة والهوية والثقافة والاقتصاد من منظور نقدي؛ مما يسمح بفهم أعمق للعوامل التي تؤثر في العلاقات الدولية. تتنوع وسائل هذه النظرية في التحليل والتفسير(1).
لقد نشأت مدرسة فرانكفورت منذ بداياتها كمشروع لبناء فلسفة اجتماعية؛ حيث استمدت مشروعيتها مباشرةً من الفلسفة الماركسية والهيجيلية. يُعتبر هذا المشروع الاجتماعي الفلسفي، الذي أعلن عن تأسيسه من قبل هوركهايمر في درسه الافتتاحي، إطارًا عامًّا لجهود جميع رواد المدرسة عبر مختلف أجيالها. وعلى الرغم من اختلاف الأطروحات الفلسفية لهؤلاء الرواد، إلا أن هذا التباين لا يعني غياب التواصل بين أجيال المدرسة. فمدرسة فرانكفورت تحتل اليوم مكانة بارزة بفضل ثراء وتنوع كتاباتها، التي تتفتح على مختلف المرجعيات الفلسفية الكبرى من جهة، وتواكب التحولات الفكرية والاجتماعية والسياسية لعالمنا المعاصر من جهة أخرى(2).
تعود جذور النظرية النقدية في العلاقات الدولية إلى الفكر الماركسي والأعمال التي نشأت من مدرسة “فرانكفورت”. تمتزج هذه النظرية بشكل كبير مع نظرية النظام العالمي؛ حيث تقدم تحليلًا نقديًّا للهياكل السياسية والاقتصادية العالمية. يشير “كيمبرلي هاتشينجز” Kimberly Hutchings)) إلى وجود أربعة مواقف على الأقل تُعتبر نماذج للنظرية النقدية في مجال العلاقات الدولية؛ حيث تركز هذه المواقف على تحليل السلطة والهوية والثقافة والاقتصاد بعين النقد، وتقدم رؤى مختلفة لفهم السياسة الدولية وتحليلها بمنظور شامل وتفاعلي(3).
تتنوع المدارس النقدية في مجال العلاقات الدولية؛ حيث يتجلى ذلك من خلال مختلف الممثلين والمفكرين الذين يندرجون تحت هذه التوجهات النظرية. من بين هذه المدارس:
- أحد أبرز الممثلين للنيوغرامشية هو “روبرت كوكس” (Robert w.cox)، الذي عمل على تقديم التحليلات النقدية في مجال الاقتصاد السياسي والسياسة العالمية. يُعتبر كوكس رمزًا بارزًا لهذه المدرسة النقدية وقدم العديد من الأفكار الجديدة حول تأثير الهيمنة والسلطة في النظام الدولي.
- بالنسبة للنظرية المعيارية، يشتهر “أندرو لينكلايتر” (Andrew linklater) الذي استند إلى أعمال مدرسة “فرانكفورت”، وبشكل خاص أعمال “يورغن هابرماس” ((Jürgen Habermas. يركز لينكلايتر على التحليلات الفلسفية والسوسيولوجية للسياسة الدولية؛ مما يضفي على نظريته بعدًا فلسفيًّا مميزًا.
- فيما يتعلق بالنهج ما بعد الحداثة، يُمثل كل من “ريتشارد أشلي” (Richard Ashley)، و”جيمس دير داريان” (James Der Darian) ، و”جينس بارتيلسون” (Jens Bartelson) ، الذين اعتمدوا على أفكار المفكرين ما بعد البنيويين مثل “فوكو” و”دريدا”، نموذجًا لهذا التوجه النقدي. يركز هؤلاء المفكرون على تحليلات السلطة واللغة في السياسة الدولية، مما يعكس تفردهم في التقديمات النظرية.
- أما في سياق النسوية، فقدمت “جين إلشتاين” (Jen Elshtain)، و”سينثيا إينلوي” Cynthia) Enloe، و”كريستين سيلفستر”(Christine sylvester) ، إلى جانب “ريبيكا غرانت” (Rebeka Grant) و”آن تيكنر” (Ann tichner) ، تحليلات نقدية مستوحاة من الفكر الماركسي ومدرسة فرانكفورت، مع التركيز على تحليل النوع الاجتماعي والسياسي في العلاقات الدولية. تتسم مناهجهن بتقديم التحليل النقدي للأحكام والتفسيرات التقليدية في السياسة الدولية؛ مما يمثل جانبًا أساسيًّا من تطور النظرية النقدية في هذا المجال(4).
وعمومًا، هناك مجموعتان أساسيتان من المؤثرات على نشأة وتطور النظرية النقدية للعلاقات الدولية، الأول: هي تأثير النقدية لمدرسة فرانكفورت، والثانية هي حياة وأعمال “أنطونيو غرامشي” ((Antonio Gramisci، والذين تأثروا بغرامشي أخذوا منحى الاقتصاد السياسي، أما الذين تأثروا بمدرس فرانكفورت فأخذوا منحى النظرية السياسية والمعيارية(5)
لقد اتضحت معالم النظرية النقدية لأول مرة في مقاله لـ “ماكس هوركهايمر” سنة 1937 الموسومة بـ:
In traditional and critical theory”” ، ليصبح لها تأثير قوي بعد ذلك في ثمانينات القرن الماضي على يد كل من “أندرو لينكلاتير” و”روبرت كوكس”(6).
جوهر النظرية النقدية يتمثل في إشكالية طبيعة النظام العالمي السائد، وذلك من خلال اعتماد موقف معارض يُقابل الإطار العام لهذا النظام بتحليل نقدي. يسعى المفكرون النقاد إلى إعادة النظر في القواعد والمبادئ التي يستند إليها هذا النظام، وكيفية تفسيرها وتشكيلها، وهذا يشمل إعادة النظر في أصول وشرعية المؤسسات السياسية والاجتماعية، والتفكير بتطورها عبر الزمن(7) .
يعتبر روبرت كوكس أحد المفكرين الذين قاموا بإعادة الاختبار والتشكيك في أسس وشرعية هذه المؤسسات، مؤكدين على أن عملية التغيير تعد جزءًا أساسيًّا من التطور التاريخي للنظام العالمي. وبالتالي، يتمحور الاهتمام بالمسألة بشكل خاص حول استجواب كيفية نشوء الأنظمة الاجتماعية أو العالمية القائمة، وكيفية ظهور المعايير والمؤسسات والممارسات التي تحكمها. كما يركز النقاد على تحليل القوى التي قد تمتلك القدرة التحررية لتغيير أو تحويل هذا النظام السائد(8).
النظرية النقدية تسعى بوضوح إلى التقدم نحو تحرير الإنسان من القيود التي فرضتها النظريات الوضعية، التي انحصر اهتمامها في كشف الحقائق والأنماط الموجودة مسبقًا في عالم خارجي مستقل. يُفهم من هذا أن الحقائق يمكن كشفها وإدراكها بشكل مستقل عن الإطار الاجتماعي الذي يحدث فيه الإدراك. في هذا السياق، تسعى النظرية النقدية إلى تحليل السلطة والهيمنة والتفكير بشكل نقدي في البنية الاجتماعية التي تشكل وتؤثر على تشكيل الحقائق والمعرفة(9). بالإضافة إلى ذلك، تسعى النقدية أيضًا إلى تحقيق الحرية والمساواة على النطاق العالمي، وذلك من خلال خلق أشكال جديدة من الجماعة السياسية تتجاوز الإطار المحدود الذي تمثله الدولة القومية الحديثة. يُعزى هذا التوجه إلى القيود التي تفرضها الدولة القومية على تحقيق هذين الهدفين؛ حيث تعتبر النقدية أن البنى الوطنية القائمة تعجز عن تحقيق الحرية والمساواة بشكل شامل وعادل(10). لذلك، يتكون دور المشرع النقدي من جانبين رئيسيين: الأول يتعلق بإعادة هيكلة الدولة الحديثة ونظام الدول عبر تطوير مؤسسات تتعدى السيادة الوطنية وتكون أعلى من مجرد النطاق الوطني، من خلال استنزاف الدولة من السلطات التي تعتبرها حصرية لها واستبدال نظام دولي بها للحكم. الهدف هو تجريد الدولة من سلطاتها المطلقة وإحلال نظام دولي للحكم يعمل على مستوى العالم(11).
أما الجانب الثاني، فيتعلق بزيادة الاحترام للتنوع الثقافي على المستوى العالمي بهدف تحقيق التوافق بين واجبات المواطن كمواطن وواجباته كإنسان في المقام الأول. يهدف هذا الجانب إلى التحرك نحو تطوير أشكال جديدة من التنظيم السياسي تؤمن بالتعددية الثقافية وتحترم حقوق الإنسان والمواطن على قدم المساواة، وتعمل على تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات المختلفة في سبيل بناء مجتمعات أكثر شمولًا وعدالة(12).
بهذا الشكل، يسعى المشرع النقدي إلى تحقيق تحولات جذرية في النظام العالمي، سواء من خلال إصلاح الهياكل السياسية القائمة أو من خلال تعزيز التفاهم والتعاون بين الثقافات المتنوعة على المستوى العالمي.
2- المرتكزات الأساسية للنظرية النقدية
- كل نظرية في المجال السياسي والاجتماعي تعكس مصلحة اجتماعية محددة؛ حيث تخلقها وتشكِّلها بناءً على العوامل والقوى التي تؤثر فيها. يقع على عاتق الباحث النقدي مهمة كشف هذه العلاقات والمصالح الاجتماعية التي تكمن وراء النظريات السياسية والاجتماعية الراسخة.
- فهم النظرية لا يمكن أن يكتمل إلا داخل سياقها التاريخي، حيث يتطلب ذلك النظر إلى التناقضات الاجتماعية التي تأثرت وتحولت بسببها. ينبغي فحص النظرية في سياق الزمان والمكان الذي نشأت فيه، وكيفية تأثرها بالظروف الاجتماعية والتاريخية المحيطة بها.
- لا وجود لحقائق مطلقة في مجال نظرية الاجتماع، أو نظرية مطلقة قادرة على شرح الواقع الاجتماعي؛ حيث يتعارض ذلك مع الطبيعة الجدلية للبشرية. يتمثل دور الباحث النقدي في السعي إلى تحقيق أقصى تطابق ممكن بين النظرية ومصالح الأغلبية الاجتماعية، التي غالبًا ما يتم تجسيدها في الطبقات الاجتماعية المحددة(13) .
استنادًا إلى هذا السياق، تمتنع النظرية النقدية عن قبول ثلاث فرضيات أساسية للوضعية، حيث تشمل هذه الفرضيات:
- رفض وجود الواقع الخارجي الموضوعي؛ حيث لا يُعتبر الواقع كيانًا مستقلًّا يمكن تحليله بشكل محايد وموضوعي، بل يُفهم أنه يتأثر بالقوى والعوامل الاجتماعية والثقافية المختلفة.
- رفض التمييز بين الذاتية الموضوعية؛ حيث يعتبر أن المعرفة والحقائق ليست مجرد منتجات محايدة تعكس الواقع كما هو، بل تُشكل وتؤثر عليها العوامل الاجتماعية والسياسية والثقافية المحيطة.
- رفض وجود علوم اجتماعية محررة من القيم؛ حيث تُعتبر القيم والمعتقدات والمصالح الاجتماعية جزءًا لا يتجزأ من عملية البحث والتحليل الاجتماعي، ولا يمكن فصلها عن النظرية والممارسة البحثية(14).
“روبرت كوكس” كان من بين الرواد في مجال النظرية الدولية؛ حيث أسهمت أعماله في تحدي ونقد الفرضيات الأساسية للواقعية الجديدة، وذلك بسبب التزامها العميق بالمعايير القياسية(15)، يقول “كوكس”: فالنظريات هي دومًا من أجل شخص ما ولهدف معين، فجميع النظريات لها تصور، وتنبع هذه التصورات من وضعية في الزمان والمكان وبدرجة أخص الزمان والمكان الاجتماعي والسياسي، فالعالم ينظر إليه من وجهة نظر معرفة بمصطلحات الأمة أو الطبقة الاجتماعية بمصطلحات الهيمنة أو التبعية، فتصاعد أو أفول القوة، بالخبرات السابقة وبالآمال والتوقعات المستقبلية”(16).
المحور الثاني: النظرية النقدية في مواجهة الأمن التقليدي: مقارنات وإسهامات
1- النظرية النقدية ضمن الدراسات الأمنية
في بداية التسعينات من القرن الماضي، تمت إضافة النظرية الدولية النقدية إلى مجال الدراسات الأمنية. قدَّم “كين بوث” Ken booth)) دراسات أمنية نقدية تُعتبر مساهمة مهمة في هذا المجال، وهذه الدراسات تُعرف بمصطلح “Critical Security Studies”(17). انطلقت النظرية النقدية بالنقد الشامل لكل جوانب النظرية التقليدية، ولاسيما الواقعية، وذلك من حيث الدولة الوحيدة كمفهوم أساسي والمبادئ العقلانية المفترضة التي تقوم عليها، وتحليل الحروب الدولية وفهم الطبيعة الإنسانية، وغيرها من الجوانب(18).
يعتبر “كين بوث” أن مفهوم الأمن يتصل بشكل أساسي بالخطاب المهيمن والمقبول حول التهديدات، والذي يعكس بنية سياسية معينة تُعرف بسياسة الأمن. كما أشار إلى عدم الموضوعية في تقدير هذه التهديدات، حيث تنعكس دائمًا بوجهة نظر معينة؛ مما يجعلها تحمل معاني ودلالات تختلف عبر الزمان والمجتمعات(19). وقد اعتمد “بوث” على مقولة “كوكس”: النظرية دومًا لشخص ما، ولهدف ما(20)، يؤكد “كين بوث” على أن تعريف الأمن والتهديدات يستمد أساسًا من العمليات النفسية للإدراك وسوء الإدراك المرتبط بها، إلى جانب التأثيرات التي تفرضها وجهات النظر السياسية المعينة(21).
وبناءً على ذلك، ينظر أصحاب النظرية النقدية إلى مفهوم الأمن كمصطلح اشتقاقي يحمل مضامين سياسية. يقول “بوث”، في هذا السياق: “فكرة أن الأمن مصطلح اشتقاقي أساسي بالنسبة لنظرية نقدية للأمن، ومن الكافي القول: إن التعميق يتضمن الكشف عن فكرة أن نتائج الأمن (سياسات، وضعيات…) تشتق من وقع المفهوم المختلفة لميزة وهدف السياسة”(22).
في سعيهم للرد على الأسئلة المتعلقة بمن يجب أن يؤمن بالأمن، والتهديدات، والوسائل الممكنة، عمل النقاد على نقض الفكرة التي طرحها الواقعيون الجدد، والتي تقول: إن الدولة مسؤولة عن حماية القيم الأساسية من التهديدات العسكرية الخارجية. بالنسبة للنقاد، فإن هناك مجموعة واسعة من التهديدات تشكل تحديًا للأمن، وتشمل التهديدات البيئية، والاقتصادية، والفقر، والأمراض، والاستبداد السياسي، إلى غير ذلك(23). يعتبر أنصار النظرية النقدية أن الفرد أو الإنسان يجب أن يكون وحدة المرجعية للتحليل، بدلًا من الدولة، التي أصبحت، بعد الحرب الباردة، وفقًا لرؤية “دانييل بل”، أصغر من أن تتعامل مع المشكلات الكبرى وأكبر من أن تتعامل بفاعلية مع المشكلات الصغرى(24). في كثير من الأحيان، تصبح الدولة أحد أهم مصادر تهديد أمن الأفراد. بالإضافة إلى ذلك، تعمل صعوبة التمييز بين التهديدات الحقيقية والتهديدات المتخيلة، بالإضافة إلى الصعوبة في التمييز بين التقييم الذاتي والتقييم الموضوعي، على أن تجعل الأمن مفهومًا نسبيًّا. ونتيجة لذلك، أشار “بوث” إلى ضرورة البحث عن الأمن من خلال السياسات التحررية التي تساعد الأفراد أو الجماعات على التغلب على القمع الهيكلي والظروف الاقتصادية المحيطة بهم، مثل الفقر، والحروب، والأمراض، وغيرها(25). يصف “بوث” الانعتاق بأنه كخطاب سياسي يسعى إلى حماية الأفراد من القيود التي تحد من قدرتهم على تنفيذ اختياراتهم بحرية، مع الاهتمام بحرية الآخرين أيضًا. يُقدم الانعتاق إطارًا ثلاثيًّا للسياسة؛ حيث يعتبر مرسىً فلسفيًّا للمعرفة، ونظريةً لتطوير المجتمع، وممارسةً لمقاومة الظلم. وبالتالي، يُعتبر الانعتاق مرسىً نظريًّا وفلسفيًّا يهدف إلى استكشاف الإنسانية(26).
من وجهة نظر “كين بوث”، يُعتبر الانعتاق أساسًا للنظرية النقدية للأمن العالمي، والذي يُعتبر مترادفًا لمفهوم الأمن. يُفسر “بوث” الأمن على أنه غياب للتهديدات، بينما يعنى الانعتاق بتحرير الأفراد والجماعات من القيود التي تعيق حريتهم في تحقيق اختياراتهم بحرية. ومن بين هذه القيود يأتي التهديد بالحروب، والفقر، وسوء التعليم، والاضطهاد السياسي. ويؤكد “بوث” على أن الأمن والانعتاق يشكلان وجهين لعملة واحدة؛ حيث ينتج الانعتاق الأمن، وليس القوة أو النظام(27).
بشكل عام، يتطلب تعريف مفهوم الأمن فهمًا لمفهوم التهديدات وتفاعلها مع التحولات الدولية والإقليمية؛ حيث أدت هذه التحولات إلى تغيرات في مصادر التهديد، مما أثار تساؤلات حول عدم اليقين وصعوبة تحديد مصادر التهديد بدقة. وبناءً على ذلك، أصبح مفهوم الأمن محل جدل في مجال العلاقات الدولية؛ حيث يتسم بالغموض وعدم التوافق بين المختصين حول تعريفه ومعناه.
2- المقارنة بين النظرية النقدية والنظريات الأمنية الأخرى
لفهم الدور المحوري للنظرية النقدية في دراسات الأمن، ينبغي مقارنتها بالنظريات الرئيسية الأخرى مثل الواقعية، والليبرالية، والبنائية. تُعد الواقعية واحدة من أبرز النظريات التقليدية في مجال الأمن، حيث تركز على مفهوم البقاء في نظام دولي فوضوي، وترى أن القوة العسكرية هي الوسيلة الأساسية لتحقيق الاستقرار. ومع ذلك، تنتقد النظرية النقدية هذا النهج الضيق، معتبرة أن التركيز المفرط على القوة والإكراه يغفل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي قد تكون السبب الجوهري لانعدام الأمن. من جهة أخرى، تعتمد الليبرالية على التعاون الدولي والمؤسسات متعددة الأطراف لضمان الأمن، غير أن النظرية النقدية تكشف أوجه القصور في هذا التعاون، مشيرة إلى أن هذه الأطر غالبًا ما تخدم المصالح الاقتصادية للقوى الكبرى على حساب الدول النامية. أما البنائية، التي تركز على بناء الهويات والخطابات الأمنية، فإنها تتقاطع مع النظرية النقدية في انتقاد الهياكل القائمة، إلا أن النقدية تضيف بعدًا أعمق يتمثل في التركيز على الاقتصاد السياسي والهيمنة الثقافية، مما يتيح لها تقديم تفسير أكثر شمولية للظاهرة الأمنية.
ترتبط مدرسة فرانكفورت بالنظريات الأمنية الأخرى من خلال نقدها الجذري للتصورات التقليدية للأمن، مثل الواقعية والليبرالية، التي تتمحور حول القوة العسكرية والدولة القومية. بينما ترى الواقعية أن الأمن يتعلق أساسًا ببقاء الدولة في بيئة دولية فوضوية، وتعزز الليبرالية دور التعاون بين الدول والمؤسسات الدولية في تحقيق الأمن، تقدم مدرسة فرانكفورت منظورًا شاملًا يعتبر أن الأمن يجب أن يشمل الأبعاد الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية التي تؤثر على الأفراد والمجتمعات. من خلال نقدها للرأسمالية العالمية والعلاقات الاقتصادية غير المتكافئة، تعتبر المدرسة أن التهديدات الأمنية الحديثة، مثل التفاوتات الاجتماعية والتدهور البيئي، هي نتاج لهياكل سياسية واقتصادية سائدة. وبالتالي، تسهم النظرية النقدية في توسيع مفهوم الأمن ليشمل التهديدات البنيوية غير التقليدية، مما يجعلها عنصرًا أساسيًّا في النقاشات المعاصرة حول الأمن الإنساني والنقدي.
الإضافات الفريدة للنظرية النقدية
تتميز النظرية النقدية عن غيرها من النظريات الأمنية بقدرتها على تقديم تحليل نقدي وشامل للهياكل السلطوية التي تقوم بتشكيل وصياغة المفاهيم الأمنية. بينما تركز النظريات التقليدية مثل الواقعية والليبرالية على حماية الدولة وأمن حدودها من التهديدات الخارجية، تعيد النظرية النقدية تعريف مفهوم الأمن من خلال تسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية، والاقتصادية، والاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على الأفراد والمجتمعات. فالنظرية النقدية لا تكتفي بالتساؤل حول الكيفية التي يتم بها تشكيل سياسات الأمن، بل تتساءل أيضًا حول القوى المستفيدة من هذه السياسات، والغايات الخفية وراء تبني هذه المفاهيم الأمنية.
من خلال هذا الإطار النقدي، توفر النظرية النقدية رؤية بديلة تكشف عن أن الأمن غالبًا ما يُستخدم أداة لتعزيز سيطرة القوى المهيمنة على النظام الدولي. فهي تفكك الأيديولوجيات التي تبرر وتغذي الانقسامات الطبقية والعرقية، وتكشف عن أن الهياكل الاقتصادية والسياسية الظالمة تسهم في خلق التهديدات الأمنية، سواء داخل الدول أو على المستوى الدولي. وتوضح النظرية النقدية أن تحقيق الأمن الحقيقي لا يتحقق عبر تعزيز القدرات العسكرية أو حماية الحدود فحسب، بل من خلال معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تولد الصراعات وتؤدي إلى عدم الاستقرار. إذ ترى أن السياسات الأمنية التقليدية غالبًا ما تعزز الفجوات بين الدول الغنية والفقيرة، وبين الطبقات الاجتماعية داخل الدول، بدلًا من تقليصها.
أضافت مدرسة فرانكفورت إلى هذا الطرح بُعدًا إضافيًّا من خلال تحليلها النقدي للبنى الاقتصادية والاجتماعية التي تُشكل مصدر التهديدات الأمنية. وفقًا لهذه المدرسة، التهديدات لا تنبع فقط من القوى الخارجية أو الجهات الفاعلة العسكرية، بل تنشأ أيضًا من الهياكل الظالمة داخل النظام الرأسمالي العالمي. وتعد هذه الرؤية إسهامًا رئيسيًا في توسيع مفهوم الأمن ليشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، متجاوزة النظريات التقليدية التي ركزت فقط على التهديدات العسكرية والصراعات بين الدول.
من خلال تحليل النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي، تطرح مدرسة فرانكفورت مفهوم “الأمن الإنساني”، وهو إطار جديد يهدف إلى معالجة قضايا مثل التفاوت الاقتصادي، والفقر، وانتهاكات حقوق الإنسان، التي تعتبرها المدرسة عوامل رئيسية تؤثر على الاستقرار العالمي. بعكس النظريات الواقعية والليبرالية التي تميل إلى التركيز على القوة العسكرية والتعاون الدولي بين الدول، تُركز النظرية النقدية على العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع السلطة كوسيلة لتحقيق أمن عالمي أكثر استدامة؛ فهي تعتبر أن التهديدات الأمنية الحقيقية تنبع من غياب العدالة الاجتماعية واستمرار الاستغلال الاقتصادي؛ مما يجعل ضرورة معالجة هذه القضايا الأساسية شرطًا لتحقيق أمن إنساني شامل ومستدام.
في ضوء هذا النهج، تقدم النظرية النقدية إطارًا شاملًا لفهم التحديات الأمنية الحديثة؛ حيث يتجاوز هذا الإطار الفهم التقليدي للصراعات العسكرية ليشمل الأبعاد البنيوية غير التقليدية التي تؤثر بشكل عميق على حياة الأفراد والمجتمعات.
لقد أحدثت التطورات التكنولوجية السريعة، وعلى رأسها الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، تحولًا كبيرًا في طبيعة التحديات الأمنية التي تواجهها الدول في العصر الحديث. فالتكنولوجيا الحديثة لا تقتصر على كونها أداة تسهم في التقدم الاجتماعي والاقتصادي فحسب، بل أصبحت أيضًا مصدرًا لتهديدات جديدة ومعقدة للأمن الدولي. هذه التحديات تتطلب مقاربات جديدة لفهم تداعياتها على النظام الأمني العالمي. وفي هذا السياق يمكن ربط هذه التحديات بنظريات نقدية، مثل نظرية مدرسة فرانكفورت، لتقديم إطار نقدي يسلط الضوء على أبعاد هذه التحديات وارتباطاتها بالبنى الهيكلية للسلطة.
- تحديات الأمن السيبراني
من أبرز التحديات الأمنية الناشئة عن التكنولوجيا الأمن السيبراني، الذي أصبح من القضايا المحورية في السياسة الدولية. لقد أسهم الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية في تعقيد المشهد الأمني؛ حيث باتت الهجمات السيبرانية قادرة على تعطيل البنية التحتية الحيوية للدول، مثل شبكات الطاقة، والاتصالات، والخدمات المصرفية. يمكن ربط هذه التطورات بنظرية فرانكفورت النقدية، التي تدعو إلى فحص الهيمنة الاقتصادية والسياسية في سياق التقنيات الحديثة. على سبيل المثال، تسيطر بعض الشركات الكبرى على معظم التقنيات الرقمية؛ مما يخلق فجوات في الوصول إلى المعلومات ويعزز من الهيمنة الرقمية على المستويات الوطنية والدولية. هذه الهيمنة تؤدي إلى تهديدات على مستوى الأمن السيبراني؛ حيث قد تستغل الدول أو الشركات الكبرى هذه التقنيات لتحقيق مصالحها الخاصة؛ ما يشكل تهديدًا للأمن القومي.
- تحديات الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي هو أحد أكثر التطورات التكنولوجية تأثيرًا على النظام الأمني العالمي. يتم استخدامه في العديد من المجالات مثل مراقبة البيانات، والتنبؤات الأمنية، واتخاذ القرارات في الحروب والسياسات. إلا أن هذه التطبيقات تثير قضايا خطيرة تتعلق بالخصوصية، والشفافية، والمسؤولية. من منظور النظريات النقدية، يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة جديدة للهيمنة الاجتماعية والسياسية. فعلى الرغم من الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي في تعزيز الأمن، إلا أن استخدامه في تطبيقات مثل المراقبة الشاملة والتجسس على الأفراد يفتح المجال للتهديدات المتعلقة بالتحكم الاجتماعي والسياسي. يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال إطار النقد الاجتماعي الذي يشير إلى أن التكنولوجيات الجديدة غالبًا ما يتم استخدامها من قبل القوى الكبرى لتكريس أنماط جديدة من السيطرة والهيمنة.
- الآثار الهيكلية للتكنولوجيا على الأمن الدولي
النظريات النقدية، بما في ذلك تلك التي قدمتها مدرسة فرانكفورت، تسعى إلى تحليل البنى الهيكلية التي تسهم في تشكيل السياسات الأمنية. في سياق التحديات التكنولوجية، تركز هذه النظريات على كيفية تأثير التكنولوجيا في إعادة توزيع القوة والموارد على الصعيدين المحلي والدولي. على سبيل المثال، الشركات الكبرى مثل “جوجل” و”فيسبوك” تتحكم في البيانات الشخصية للأفراد على نطاق واسع، مما يعزز من نفوذها السياسي والاقتصادي، ويشكل تهديدًا جديدًا للأمن القومي. من هذه الزاوية، تسلط النظريات النقدية الضوء على الفجوات بين الدول والشركات الكبرى، ومدى تأثير هذه الفجوات على الاستقرار الأمني، خاصة في ظل التدفق غير المتوازن للتكنولوجيا في العالم.
إن التطورات التكنولوجية مثل الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي قد أعادت تشكيل التحديات الأمنية التي تواجهها الدول في العصر الحديث. ومن خلال ربط هذه التحديات بالنظريات النقدية، يمكن فهم كيف تسهم هذه التقنيات في تعزيز الهيمنة والسلطة على المستويات الوطنية والدولية، بينما تثير في الوقت نفسه قضايا جديدة حول الخصوصية والرقابة. يتطلب ذلك تطوير أطر نظرية وعملية جديدة لمواكبة هذه التحديات، وفتح آفاق جديدة لفهم العلاقة بين التكنولوجيا والأمن في سياق النظام العالمي المعاصر.
الانتقادات الموجهة للنظرية النقدية
تُعدُّ النظرية النقدية، خاصة في إطار مدرسة فرانكفورت، واحدة من أبرز التيارات الفكرية التي أسهمت في إعادة تعريف الأمن والعلاقات الدولية. ومع ذلك، فإن هذه النظرية قد واجهت العديد من الانتقادات، التي تمس جوانبها التطبيقية والفكرية. سنعرض في هذه الفقرة أبرز الانتقادات الموجهة لهذه النظرية، مع تحليل كل نقطة على حدة.
- ضعف قابليتها للتطبيق العملي في معالجة القضايا الأمنية المباشرة
من أبرز الانتقادات الموجهة للنظرية النقدية ضعف قابليتها للتطبيق في معالجة القضايا الأمنية الفعلية والمباشرة التي تواجه الدول والمجتمعات. تتسم هذه النظرية بنهجها المعقد والفلسفي، مما يجعل من الصعب استخدامها إطارًا عمليًّا لتطوير إستراتيجيات أمنية قابلة للتطبيق في السياقات الواقعية. ففي الوقت الذي تركز فيه النظرية النقدية على تحليل الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل نقدي، فإنها لا تقدم أدوات عملية محددة للتعامل مع تهديدات أمنية مباشرة مثل النزاعات المسلحة، والإرهاب، أو الهجمات السيبرانية. وهذا يقود إلى انتقاد مفاده أن النظرية تظل في إطار التحليل الأكاديمي البحت دون إسهام فعلي في حل المشكلات الأمنية اليومية التي تواجهها الدول.
- تركيزها المفرط على التحليل الفلسفي دون تقديم حلول عملية ملموسة
الانتقاد الثاني الموجه للنظرية النقدية يتعلق بتركيزها المفرط على التحليل الفلسفي والنظري، مما يجعل من الصعب تحويل هذه التحليلات إلى حلول عملية قابلة للتنفيذ. تقوم النظرية النقدية بتقديم قراءات عميقة للمفاهيم والظواهر الاجتماعية، مثل السلطة، والهيمنة، والعدالة الاجتماعية، ولكنها نادرًا ما تخرج من هذا الإطار الفلسفي إلى تطبيقات عملية مباشرة في السياسة الأمنية أو العلاقات الدولية. على سبيل المثال، في مجالات مثل الحرب، الإرهاب، أو الأمن السيبراني، تفتقر النظرية النقدية إلى إستراتيجيات مفصلة أو نهج ملموس يعالج هذه القضايا بشكل فعَّال. تركز النظرية على نقد الهياكل الاجتماعية الكبرى، مثل النظام الرأسمالي أو السلطة الإمبريالية، دون اقتراح خطوات محددة لتقليل الآثار السلبية لهذه الهياكل في الواقع الأمني.
- قصورها في معالجة التحديات الأمنية المتسارعة مثل الإرهاب والأمن السيبراني
النقد الثالث والأكثر وضوحًا للنظرية النقدية يتمثل في قصورها في معالجة التحديات الأمنية المستجدة والمتسارعة مثل الإرهاب العالمي والأمن السيبراني. في عصر تتسم فيه التهديدات الأمنية بالتعقيد والتطور السريع، مثل الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية الحساسة أو التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، تظل النظرية النقدية قاصرة عن تقديم أطر أو إستراتيجيات واضحة لمواجهة هذه التحديات. كما أن التركيز على العوامل الهيكلية والسياسية الكبرى قد يؤدي إلى إغفال الجوانب الأمنية التكنولوجية أو التكتيكية التي أصبحت محورية في السياسات الأمنية المعاصرة. وبالتالي، فإن النظرية النقدية تفتقر إلى القدرة على التكيف مع هذه المتغيرات السريعة والحديثة؛ مما يجعلها أقل فاعلية في تقديم حلول للأزمات الأمنية المعاصرة.
إذن رغم أهمية النظرية النقدية في تقديم تحليلات معمقة للأوضاع الاجتماعية والسياسية، فإنها تواجه انتقادات قوية تتعلق بتطبيقها العملي في معالجة القضايا الأمنية المباشرة. إن تركيزها على الفلسفة والتحليل النظري دون تقديم حلول عملية ملموسة، فضلًا عن قصورها في التفاعل مع التحديات الأمنية الحديثة مثل الإرهاب والأمن السيبراني، يشير إلى ضرورة إعادة النظر في كيفية دمج هذه النظرية مع أطر نظرية وعملية أخرى لتقديم حلول أمنية أكثر شمولًا وواقعية.
المحور الثالث: مدرسة فرانكفورت وتحديات الأمن العالمي: رؤى نقدية وتطبيقات عملية
يتناول هذا المحور ستة نماذج ثلاثة منها دولية وثلاثة عربية، وهي تعكس تطبيقات مدرسة فرانكفورت في مواجهة تحديات الأمن العالمي. أولًا: النموذج الاقتصادي والاجتماعي، الذي يركز على دراسة التفاوتات الاقتصادية وتأثيرها على الاستقرار في دول مثل جنوب إفريقيا، حيث تتجلى الفجوات الاجتماعية مصدرًا رئيسيًّا للتهديدات الأمنية. ثانيًا: النموذج الثقافي والهوياتي، الذي يعكس تجربة الهند؛ حيث تُظهر الانقسامات العرقية والدينية كيف يمكن أن تؤثر على الأمن المجتمعي وتزيد من الصراعات الداخلية. أخيرًا، النموذج البيئي، الذي يسلط الضوء على التحديات التي تواجه دولًا مثل المالديف نتيجة للتغير المناخي، موضحًا كيف يمكن أن تؤثر المخاطر البيئية على الأمن القومي.
من خلال استعراض هذه النماذج، يسعى هذا المحور إلى تقديم رؤى نقدية وتطبيقات عملية تساعد في فهم كيفية الاستفادة من معطيات مدرسة فرانكفورت لبناء إستراتيجيات أمنية مستدامة. يتضح من ذلك أن الأمن لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ مما يتطلب إعادة التفكير في السياسات الحالية وتطوير إستراتيجيات مبتكرة تسهم في تحقيق أمن شامل ومترابط.
1– النموذج الاقتصادي والاجتماعي للأمن: جنوب إفريقيا
تُعدُّ جنوب إفريقيا نموذجًا بارزًا في تحليل التحديات الأمنية المرتبطة بالتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية، وهي التحديات التي تُعزى إلى إرث نظام الفصل العنصري. هذا النظام خلَّف آثارًا اجتماعية واقتصادية عميقة أدت إلى استمرارية الفجوات بين مختلف الفئات الاجتماعية؛ حيث تستمر قلة من الأفراد في السيطرة على الموارد الاقتصادية في حين يعاني جزء كبير من السكان، خصوصًا من الأصول الإفريقية، من الفقر المدقع. نتيجة لهذا، تتزايد معدلات الجريمة والنزاعات الاجتماعية؛ مما يهدد الاستقرار الداخلي والأمن الاجتماعي.
من خلال تحليل الرؤية النقدية لمدرسة فرانكفورت، يمكن استعراض السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي أُقيمت بعد تفكك نظام الفصل العنصري بهدف تقليص الفجوات الاقتصادية والاجتماعية بين الفئات المختلفة. فالتوجه نحو العدالة الاجتماعية، التي تشمل تحسين التعليم والرعاية الصحية، يمثل أحد الأعمدة الأساسية لتحقيق الأمن الشامل. تطبيق برامج تنموية إستراتيجية، مثل تلك التي تستهدف تحسين فرص التعليم والرعاية الصحية للفئات الفقيرة، يمكن أن يسهم بشكل كبير في معالجة التحديات التي يعاني منها المجتمع من الفقر والبطالة. إن تعزيز فرص العمل وتحسين مستويات التعليم يمكن أن يسهم في تعزيز الاستقرار الاجتماعي ويقلل من التوترات.
ويقتضي نجاح هذه البرامج نهجًا شموليًّا يتضمن تعاونًا بين الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني، مع التركيز على ضرورة توفير التمويل المستدام لضمان استمرارية المبادرات التنموية. كما أن إدماج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في السياسات الأمنية لا يعزز الأمن فقط، بل يسهم في بناء مجتمع عادل ومستدام يضمن حقوق الأفراد واحتياجاتهم الأساسية؛ مما يسهم في بناء الأمن طويل الأمد.
2- النموذج الثقافي والهوياتي للأمن: الهند
تمثل الهند مثالًا معقدًا يعكس التفاعل بين التنوع الثقافي والديني والتحديات الأمنية المرتبطة بالانقسامات العرقية والدينية. على الرغم من أن التنوع يُعدُّ مصدرًا للقوة الثقافية والاجتماعية، إلا أنه في الوقت ذاته يُعزز من الصراعات والهويات المتنازعة التي تؤدي في بعض الأحيان إلى أعمال عنف وصراعات داخلية. وقد أسهمت الأيديولوجيات المتطرفة في تفاقم هذه التوترات؛ مما جعل الأمن المجتمعي مهددًا.
من خلال تطبيق النموذج الثقافي في إطار الرؤية النقدية لمدرسة فرانكفورت، يُمكن التركيز على ضرورة تعزيز الحوار الثقافي بين المجتمعات المختلفة كأداة أساسية لتحويل هذه التوترات إلى فرص للتفاهم. يعدُّ الحوار وسيلة فعالة لتقريب وجهات النظر المتباينة، وبالتالي التقليل من مخاطر النزاعات. من هنا تأتي أهمية تنفيذ برامج تعليمية تهدف إلى تعزيز القيم الثقافية المشتركة مثل التسامح والاحترام المتبادل، والتفاعل البناء بين الأفراد من خلفيات عرقية ودينية متنوعة.
إلى جانب ذلك، تبرز أهمية تنظيم ورش عمل وبرامج تعليمية داخل المدارس والجامعات للتعرف على الثقافات المختلفة وتوجيه الشباب نحو تقدير التنوع. وهذا يعزز من خلق بيئة منفتحة تحفز على الحوار البناء وتقليل المخاطر المرتبطة بالأيديولوجيات المتطرفة. من خلال تطبيق هذه السياسات التعليمية، تُسهم الهند في بناء مجتمع آمن ومتماسك يحقق التعايش السلمي، ويسهم في تعزيز الأمن الاجتماعي.
3- النموذج البيئي للأمن: جزر المالديف
تُعتبر جزر المالديف إحدى الدول الأكثر تعرضًا للتحديات الأمنية الناجمة عن التغير المناخي، خاصةً فيما يتعلق بارتفاع مستوى سطح البحر. يمثل هذا التحدي تهديدًا جسيمًا للأمن القومي في جزر المالديف؛ حيث يُسهم في زيادة الفيضانات وتهجير السكان، مما يؤثر سلبيًّا على استقرار المجتمع واقتصاده. ومن هنا تبرز ضرورة تطبيق النموذج البيئي للأمن، الذي يعزز من قدرة البلاد على التكيف مع آثار التغير المناخي ويضمن استدامة الموارد الطبيعية.
يتطلب هذا النموذج إستراتيجيات شاملة لتحسين البنية التحتية لمواجهة الفيضانات، مثل تصميم المباني والشوارع بطرق تتماشى مع التغيرات المناخية، إضافة إلى تحسين أنظمة صرف المياه. كما يتعين تطوير تقنيات حصاد المياه وإدارة الموارد المائية بفعالية؛ مما يسهم في تعزيز القدرة على مواجهة نقص المياه العذبة. إن هذه الاستراتيجيات البيئية تسهم في تعزيز الأمن البيئي، وهو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي.
من خلال تحليل الرؤية النقدية لمدرسة فرانكفورت، يُمكن فحص البنى الاقتصادية والاجتماعية التي قد تسهم في تفاقم آثار التغير المناخي. إن الاستجابة الفعالة لهذه التحديات تتطلب مشاركة فاعلة للمجتمع المحلي في صنع القرارات السياسية المتعلقة بالتغير المناخي. إن بناء هذا النوع من المشاركة المجتمعية يضمن أن السياسات المعتمدة ليست فقط شاملة، بل أيضًا فعَّالة في التصدي لتحديات التغير المناخي. وبالتالي، يُعزز الاستثمار في هذه السياسات البيئية الأمن القومي في جزر المالديف، ويُسهم في تأمين الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي بشكل مستدام.
التجارب العربية: دراسة تطبيقية للنموذج الفرانكفورتي
- السودان: تأثير النزاعات المسلحة والصراعات الإثنية على الأمن الإنساني
يواجه السودان تحديات أمنية كبيرة نتيجة النزاعات المسلحة المستمرة والصراعات الإثنية التي تهدد الأمن الإنساني. تتمثل إحدى القضايا الجوهرية في السودان في التوزيع غير العادل للموارد، حيث تستفيد بعض المناطق من موارد طبيعية وسياسات تنموية موجهة، بينما تظل مناطق أخرى، خاصة في الأطراف والأقاليم النائية، مهمشة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. هذا التفاوت في توزيع الموارد يُسهم في تأجيج مشاعر التفرقة والتمييز بين الجماعات الإثنية المختلفة؛ ما يؤدي إلى تصاعد النزاعات المسلحة.
في هذا السياق، يمكن تطبيق مفاهيم المدرسة الفرانكفورتية لفهم الأسباب الجذرية لهذا الوضع، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالـهيمنة الاقتصادية والاجتماعية. وفقًا لهذه المدرسة، يتم اعتبار أن النزاعات المسلحة ليست مجرد صراع على السلطة، بل هي نتيجة لفشل النظام الاجتماعي والاقتصادي في تقديم فرص متكافئة لجميع أفراد المجتمع. وبالتالي، فإن الأمن في السودان يتطلب نهجًا متكاملًا يعالج التوزيع غير المتكافئ للموارد ويعزز من العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
يتطلب تحقيق الأمن الإنساني المستدام في السودان معالجة العوامل الهيكلية التي تسهم في إدامة النزاعات، مثل الفقر، التهميش، وغياب العدالة في توزيع الموارد. في إطار الفهم الفرانكفورتي، يجب أن تتضمن السياسات الأمنية تصورات تنموية تعمل على تحسين العدالة الاجتماعية، وتحقيق توازن اقتصادي يُمكِّن من الحد من الأزمات العرقية والإثنية. فقط من خلال معالجة هذه القضايا يمكن بناء أمن اجتماعي مستدام.
2- ليبيا: تأثير الانقسامات الاجتماعية والقبلية بعد الثورة على الأمن المجتمعي
بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي في عام 2011، شهدت ليبيا تدهورًا في الاستقرار الأمني بسبب الانقسامات القبلية والاجتماعية العميقة التي تزايدت بعد الثورة. في ظل غياب حكومة مركزية قوية، اتسعت الانقسامات القبلية والتنافس على النفوذ السياسي؛ مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، فقد عانت ليبيا من تدخلات دولية أدت إلى تدهور إضافي للأمن الداخلي؛ حيث إن بعض القوى الدولية دعمت أطرافًا محلية أو مجموعات مسلحة معينة؛ مما أسهم في تعزيز الانقسام الداخلي وزيادة هشاشة الدولة.
من خلال الفلسفة الفرانكفورتية، يمكن فهم هذه الانقسامات على أنها انعكاس للمشاكل الهيكلية التي خلَّفها النظام السابق؛ إذ يعتبر الفكر الفرانكفورتي أن التفاوت الاجتماعي والسياسي يُسهم في تعميق الصراعات ويؤدي إلى هشاشة الأمن الداخلي. التقييم الفرانكفورتي يركز على دور السلطة والهيمنة في إعادة تشكيل المجتمع. وبناءً على ذلك، يطرح التحليل الفرانكفورتي أن الأمن في ليبيا لن يُبنى إلا من خلال معالجة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي تديم الانقسامات، وإرساء العدالة الاجتماعية بما يعزز التماسك الداخلي.
إن الحلول الفرانكفورتية هنا تركز على إعادة بناء النسيج الاجتماعي من خلال العدالة السياسية والاجتماعية. ينبغي على السياسات الأمنية أن تتوجه نحو بناء مؤسسات قادرة على تجاوز الانقسامات القبلية والسياسية من خلال تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم الديمقراطية التي تضمن التعايش السلمي بين مختلف الجماعات. كما ينبغي أن تركز التدخلات الدولية على دعم الحوار الوطني بدلًا من تعزيز الهويات الفرعية التي تزيد من تمزيق المجتمع.
3- تونس: الفجوات التنموية بين المناطق الداخلية والساحلية وتأثيرها على الأمن الاجتماعي والاقتصادي
في تونس، لا يزال هناك تفاوت تنموي كبير بين المناطق الداخلية والمناطق الساحلية. تتسم المناطق الساحلية بوجود بنية تحتية متطورة وفرص اقتصادية أكبر، في حين تعاني المناطق الداخلية من التهميش الاقتصادي، ونقص الخدمات الأساسية، وضعف فرص التعليم والتوظيف. هذا التفاوت أدى إلى شعور عام بالإحباط الاجتماعي في المناطق الداخلية؛ مما أسهم في نشوء حركات احتجاجية كان أبرزها الاحتجاجات التي جرت في عام 2010، والتي أسفرت عن اندلاع الثورة التونسية.
تتطلب معالجة هذه الفجوات التنموية من منظور المدرسة الفرانكفورتية رؤية نقدية تتجاوز الأبعاد السياسية التقليدية للأمن. يرى الفلاسفة الفرانكفورتيون أن عدم العدالة الاجتماعية هو أحد الأسباب الجذرية لتهديد الأمن الداخلي. وبالتالي، يشير التحليل إلى أن الأمن الاجتماعي والاقتصادي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إصلاحات تنموية شاملة تعمل على تقليص هذه الفجوات بين المناطق المختلفة.
في هذا السياق، تقترح المدرسة الفرانكفورتية تبني سياسات تنموية عادلة تركز على تقليل التفاوتات الاقتصادية بين المناطق الساحلية والداخلية. من خلال إدماج العدالة التنموية كأحد محاور الأمن الشامل، يمكن بناء مجتمع أكثر استقرارًا وتلاحمًا. ويتطلب هذا استثمارات في التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، فضلًا عن تعزيز اللامركزية في إدارة الموارد الحكومية لضمان استفادة جميع المناطق بشكل متساوٍ.
تُظهر النماذج الستة السابقة كيف يمكن لمدرسة فرانكفورت النقدية أن تسهم في إعادة تشكيل مفهوم الأمن الشامل من خلال معالجة التحديات الأمنية في سياقات متنوعة، سواء كانت اقتصادية، أو ثقافية، أو بيئية، فـالأمن لا يقتصر على الجوانب العسكرية أو السياسية، بل يتطلب معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي تسهم في تهديد الاستقرار. إن تبني سياسات عادلة تهتم بـالعدالة الاجتماعية والتوزيع المتوازن للموارد يعد أمرًا أساسيًّا لبناء أمن مستدام وشامل في هذه السياقات. ويُعدُّ تطبيق هذه الرؤى في سياقات الدول المختلفة خطوة مهمة نحو فهم أعمق للأمن، لاسيما في مواجهة التحولات المعاصرة التي يواجهها العديد من الدول على المستوى العالمي والإقليمي.
خاتمة
خلصت هذه الدراسة إلى أن المدرسة الفرانكفورتية قد أحدثت تحولًا جوهريًّا في مفهوم الأمن الدولي من خلال تقديم إطار نقدي يتجاوز المنظور التقليدي القائم على الدولة والقوة العسكرية، ليشمل الأبعاد الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. فقد أتاحت هذه المقاربة النقدية فهمًا أعمق للتحديات الأمنية المعاصرة، خاصة في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم اليوم.
وقد أبرز البحث أن المدرسة الفرانكفورتية قد أسهمت في إعادة صياغة مفهوم الأمن ليصبح أكثر شمولية ومرونة، وذلك عبر تحليل العوامل البنيوية التي تسهم في تشكيل التهديدات الأمنية، مثل التفاوتات الاقتصادية، والصراعات العرقية، والتغيرات البيئية. ومن خلال استعراض نماذج تطبيقية من دول مختلفة، تبين أن تطبيق الرؤى النقدية للأمن يتيح للدول التعامل مع قضاياها الأمنية من خلال التركيز على معالجة الأسباب الجذرية بدلًا من الاقتصار على الحلول الأمنية التقليدية.
كما أكدت الدراسة على أهمية دمج التحليل النقدي في السياسات الأمنية الوطنية، حيث أثبتت النتائج أن الأمن لا يمكن تحقيقه من خلال الإجراءات العسكرية وحدها، بل من خلال نهج شامل يتضمن التنمية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والحوار الثقافي. لقد أظهرت النماذج التطبيقية أن معالجة الفجوات الاقتصادية والاجتماعية، وتعزيز الحوار بين مكونات المجتمع، والتعامل مع التحديات البيئية، تُعد خطوات أساسية لتحقيق الأمن المستدام.
من جهة أخرى، أشارت الدراسة إلى بعض التحديات التي تواجه تطبيق مقاربة المدرسة الفرانكفورتية، حيث إن التركيز على العوامل البنيوية والاجتماعية قد يجعل هذه الرؤية أقل فاعلية في مواجهة التهديدات الأمنية العاجلة مثل الإرهاب والأمن السيبراني. ومع ذلك، فإن تبني الرؤية النقدية يمكن أن يوفر حلولًا طويلة الأمد قادرة على معالجة الأسباب الجذرية لهذه التهديدات.
وفي ضوء هذه النتائج، فإن إعادة النظر في سياسات الأمن الدولي من خلال عدسة المدرسة الفرانكفورتية يُمثل ضرورة ملحة لضمان استجابة أكثر فاعلية وشمولية للتحديات الأمنية المعاصرة. لذا، يوصي البحث بضرورة تعزيز التفكير النقدي في السياسات الأمنية، وإدماج العوامل الاقتصادية والاجتماعية في استراتيجيات الأمن، وتوسيع نطاق الحوار المجتمعي والثقافي لضمان استدامة الحلول الأمنية.
ختامًا، فإن الدراسة تبرز أهمية المدرسة الفرانكفورتية كإطار فكري يمكن من خلاله تعزيز الفهم النقدي للأمن الدولي في عالم يشهد تغيرات متسارعة، ما يتيح بناء سياسات أكثر استدامة وعدالة تعزز من استقرار الدول والمجتمعات على المدى الطويل.
المراجع
(1) عبد الناصر جندلي، التنظير في العلاقات الدولية بين الاتجاهات التفسيرية والنظريات التكوينية، (دار الخلدونية للنشر والتوزيع، الجزائر، 2005)، ص 313.
(2) هشام دراجي، المدارس النقدية للأمن في العلاقات الدولية: المفاهيم والمقاربات، مجلة الناقد للدراسات السياسية، مجلد 6 العدد 2، 2022، ص 109.
(3) Kimberly Hutchings, “The nature of critique in critical international relations theory”, In: Richard w Jones (ed) critical theory and world politics, USA: Lynne rienner publishers, 2001، p.80.
(4) Ibid.
(5) Richard w Jones, “Introduction: locating critical international relations theory”, in: Richard wyn jones (ed), critical theory and world politics, p.05.
(6) جون بيليس، ستيف سميث، عولمة السياسة العالمية، ترجمة: مركز الخليج للأبحاث، الإمارات العربية المتحدة 2006، ص 374.
(7) هشام دراجي، مرجع سبق ذكره، 109.
(8) المرجع نفسه.
(9) جون بيليس، ستيف سميث، مرجع سبق ذكره، صص 374-377.
(10) أنور محمد فرج، النظرية الواقعية في العلاقات الدولية: دراسة نقدية مقارنة في ضوء النظريات المعاصرة السلمانية، (مركز كردستان للدراسات الاستراتيجية، 2007)، ص 450.
(11) Andrew Linklater, the transformation of political community, (Uk: policy press, 1998), p.16.
(12) Ibid.
(13) Ibid.
(14) Ibid.
(15) جون بيليس، ستيف سميث، مرجع سبق ذكره، ص 377.
(16) Robert w.Cox, “Social forces, states and world Order: Beyond international theory”, Richarch Little and Michael smith, In: prespectives on world politics (ed), New york: Routledge, 3rd ed, 2006, p.394.
(17) Ken Booth, “Security and Emancipation”, Review of International Sstudies, vol 17, N 4,( 1991), p.55.
(18) Ken Booth, “security self: reflection on fallen realist”, in: Keith krause, Mechael C. Williams (eds), critical security studies: concept and cases, U.S.A: university of minnesota press, 1997, p.106.
(19) Ken booth, Theory of world security، UK: combridge university press, 2007، p.107.
(20) Pinar Bilgin, “Critical theory” In: Paul D.Willaims,: Security Studies (ed), USA، Routledge 2008، p.90.
(21) Ibid, p.91.
(22) Ken Booth, Theory of world security, idem, p.109.
(23) Keit Krause, Mechael C. Williams, “Broadening the Agenda of security studies: politics and methods”, Mershon International studies review, vol 40 N° 02,( October 1996), p 231,232.
(24) مازن غرايبية، العولمة وسيادة الدولة الوطنية، من أعمال الملتقى الدولي بعنوان الدولة الوطنية والتحولات الدولية الراهنة، جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والإعلام، 2004، ص 7.
(25) Ken Booth, Theory of world security, idem, p.110.
(26) Ibid, p.112.
(27) Ken Booth, “security and Emancipation”, idem, p.319.