ملخص

تتناول هذه الدراسة ظاهرة انزياح مركز الثِّقل في النظام الدولي من الغرب الأطلسي إلى الشرق الآسيوي/الأوراسي، من منظور الجغرافيا السياسية. وهي تضع هذا الانزياح ضمن سياق الصراع التاريخي بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى، ومعادلةِ العلاقة بين القوة الصاعدة والقوة السائدة. كما تتلمَّس الدراسة موقع العالم الإسلامي من هذا التحول في موازين القوى الدولية، داعيةً إلى شحْذ العزائم لمواجهة هذا التحدي بوعي سياسي وحاسَّة إستراتيجية.

كلمات مفاتيح: الشرق والغرب، الجغرافيا السياسية، صعود الصين، أوراسيا، العالم الإسلامي.

Abstract:

This is a geopolitical study of the shift in global power from the

____________________________________________________

د. محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الشؤون الدولية المشارك، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر.

Dr. Mohamed El-Moctar El-Shinqiti, Associate Professor of International Affairs, Department of International Affairs, Qatar University.

Atlantic West to the Asian/Eurasian East, within the context the historic clash between the great land powers and great sea powers, as well as the relationship between emerging and established powers. The study also explores the impact of this shift on the Islamic World, emphasizing the need to face this challenge with determination, political awareness and strategic sense.

Keywords: East and West, Geopolitics, Rise of China, Eurasia, Islamic World.

المقدمة

تتناول هذه الدراسة تجدُّد الانشطار في النظام الدولي في العَقدين الأخيرين، مع تركيز خاص على ما يفرضه هذا الانشطار الجديد من تحدِّيات على العالم الإسلامي. وقد ذهبنا هنا إلى أن هذا الانشطار الدولي الجديد سيعمِّق انزياح القوة من الغرب الأطلسي إلى الشرق الآسيوي/الأوراسي. ورغم أن هذه الظاهرة بدأت منذ عقود، وتسارعت منذ مطلع القرن الحادي والعشرين مع النهضة الاقتصادية في الصين، والصحوة الدينية-القومية في روسيا، فإن حرب أوكرانيا الحالية ستعجِّل بحركة التاريخ فيما يبدو، وستزيد تسارع هذه الظاهرة الجديرة بالتأمل، التي سمَّيناها هنا “شروق الشرق وغروب الغرب”.

ونحن ندين بهذا المصطلح البديع لأحد بُلَغاء اللغة العربية المعاصرين، هو الكاتب المصري، أحمد حسن الزيات (1885-1968)، الذي استخدم هذا التعبير ضمن مقال له عام 1938 دفاعًا عن فلسطين، ختَمه مهدِّدًا المستعمر الإنكليزي المتواطئ مع الاحتلال اليهودي لفلسطين: “وفلسطين كانت منذ أنشأها الله بلاءً على المعتدي، وشؤمًا على الظالم. وقد التقى عندها الغرب والشرق مرَّةً في عهد عمر [بن الخطاب]، ومرة في عهد صلاح الدين [الأيوبي]، فكانت العاقبة في كلتا المرَّتين غروبُ الغرب وشروقُ الشرق“(1). وقد استخدم الزيات هذا التعبير المجازي ضمن حديثه عن التدافعات الحضارية بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، ونحن نستخدمه في سياق التدافعات والصراعات الحضارية الحالية.

على أن المقصود بالشرق في عنوان هذه الدراسة ليس الشرق الإسلامي الذي قصده الزيات في مقاله، بل الشرق الآسيوي/الأوراسي، خصوصًا الصيني منه، ولا مشاحَّة في الاصطلاح. والسبب هو أن العالم الإسلامي -بمنطق الجغرافيا السياسية- ليس جزءًا من الشرق ولا من الغرب، وإنما هو منطقة بيْنِيَّة وسيطة بين الاثنين، وفضاء حضاري متميز له سماته الجيوستراتيجية الخاصة. وسنشرح ملامح الجغرافيا السياسية الإسلامية فيما بعد.

لقد انسكب الكثير من الحبر في الأعوام الأخيرة في الحديث عن صعود آسيا بشكل عام، والصين بشكل خاص، إلى الصدارة العالمية، على حساب القوى الغربية السائدة، وفي الحديث عن الانبعاث الإستراتيجي الروسي في عهد فلاديمير بوتين، بعد أعوام التخبط والوهَن في ظل حكم ميخائيل غورباتشوف (1931-2022) وبوريس يلتسن (1931-2009). ويمكن اعتبار النهضة الصينية والصحوة الروسية، في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي، آخر تجليات الصراع التاريخي بين القوى البرية والقوى البحرية في العالم، ذلك الصراع الذي يسميه الفيلسوف السياسي الروسي، ألكسندر دوغين، “الثنائية الجيوبولتيكية الخالدة”(2).

وقد كتب الدارسون المهتمون بهذا الشأن انطلاقًا من خلفيات ودوفع شتى، فمنهم الآسيوي المتحمِّس لدولة حضارية آسيوية جديدة، ومنهم الغربي المتوجِّس من “العاصفة الصينية المتحفِّزة” بتعبير جون مِيرْشايْمَرْ الذي سنعود إليه فيما بعد، ومنهم المحايد الساعي إلى صياغة أسس جديدة للتعايش الدولي. لكن جميعهم متفقون على أن صعود آسيا، وتصدُّر الصين للمشهد العالمي، أمران آتيان لا محالة. على أن مجال الإضافة في هذه الدراسة للجدل الأكاديمي الغربي والآسيوي في هذا الموضوع هو تأثير هذا التحول العميق على العالم الإسلامي، بمعناه الجغرافي-السياسي، منظورًا إليه هنا باعتباره حيِّزًا حضاريًّا واحدًا، وامتدادًا جغرافيًّا متقاربًا، ووحدة تحليل يمكن النظر في مآلاتها الإستراتيجية ضمن سياق واحد.

والمنهج الذي نعتمده في هذه الدراسة هو منهج الجغرافيا السياسية(3)، لا باعتبارها حقلًا معرفيًّا فقط، بل باعتبارها أيضًا منهجية خاصة لتحليل النظام الدولي، تحليلًا يعتمد العوامل الجغرافية منطلَقًا له، على نحو ما نبَّه عليه عدد من علماء الجغرافيا السياسية(4). فالجغرافيا هي أهم محدِّد من محددات السياسة، لأنها العنصر الثابت في الدولة، والمعبِّر عن اطِّراد قوَّتها وضعْفها. وقد عبَّر عن ذلك عالم الجغرافيا المصري، جمال حمدان (1928-1993)، بالقول: “الجغرافيا السياسية هي أساسًا العِلم الذي يضع الدولة في إطارها الطبيعي الباقي، ويردُّها إلى أصولها الجغرافية الدائمة الوثيقة”(5). كما عبَّر عنه المفكر الإستراتيجي الأميركي، نيكولاس سبيكمان (1893-1943)، في قوله الذي دار على ألسنة المختصين في هذا الشأن، حتى أصبح كالمثَل السائر: “الوزراء يتغيَّرون، وحتى الديكتاتوريون يموتون، لكن سلاسل الجبال تظل راسخة”(6).

لقد لاحظ مالك بن نبي منذ أكثر من سبعة عقود أن “العالم الإسلامي.. لكي يقوم بدور مؤثر فعال في حركة التطور العالمي، ينبغي أن يَعْرِف العالم، وأن يَعْرِف نفسه، وأن يُعرِّف الآخرين بنفسه”(7). فعسى أن تسهم هذه الدراسة في تعريف العالم الإسلامي بنفسه وبالعالم، وأن تفتح بابًا للتأمل الجاد في الإمكان المتاح للعالم الإسلامي بين القوى الغربية المتشبثة بمواقعها ونفوذها التاريخي، رغم أن قوتها في إدبار، والقوى الشرقية المقبلة، المتحفزِّة إلى ملء الفراغ الإستراتيجي في هذه المنطقة، ووراثة النفوذ الغربي الآفل فيها. فالعالم الإسلامي في مسيس الحاجة إلى أفكار واضحة عن هذه المعادلات المتحولة في موازين القوى الدولية، لكي ينتقل من موقع المنفعل إلى موقع الفاعل.

القوَّتان الصاعدة والسائدة

منذ نحو ألفين وخمسمئة عام، كتب المؤرخ اليوناني، ثوسيديد (460-400 ق.م.)، عن أسباب الحرب بين إسبرطة وأثينا، وبعد أن شرح الأسباب المباشرة للحرب، قدَّم تفسيرًا أعمق لجذور الأزمة بين الطرفين، فكتب: “في رأيي أن السبب الحقيقي الذي قاد إلى الحرب، وإن لم يكن معترَفًا به علنًا، هو تصاعد القوة الأثينية، والخوف الإسبرطي من تلك القوة”(8). وقد صاغ المفكر السياسي الأميركي، غراهام أليسون، من مقولة ثوسيديد نظرية في العلاقات الدولية، سمَّاها “شِراك ثوسيديد” Thucydides’s Trap، تقول بحتمية المواجهة بين القوة الصاعدة والقوة السائدة، وطبَّقها على العلاقات الأميركية-الصينية، فذهب إلى أن مآل القوة الصينية الصاعدة والقوة الأميركية السائدة هو الحرب بينهما، حتى وإن لم يكن ذلك برغبة أي منهما.

والسبب في ذلك -كما يذهب أليسون- هو أن أميركا لن ترضى بصعود الصين، وأن الصين لن تتنازل عن طموحها إلى الهيمنة العالمية. فالمواجهة بين الصين والولايات المتحدة أمر حتمي وطبيعي في تقديره، وهو المآل الذي يزكِّيه استقراء التاريخ، حسب رأيه. وقد ألَّف أليسون كتابه: الحرب الحتمية: هل تستطيع الصين والولايات المتحدة تفادي شراك ثوسيديد؟ لتسويغ هذه الفكرة وتسويقها، فبدأ الكتاب هذه البداية المتوعِّدة: “منذ مئتي عام قال نابليون مُنذِرًا: (دَعُوا الصين تغطُّ في نومها، فإنها إذا استيقظت ستُزلْزِل العالم). وقد استيقظت الصين الآن، وبدأ العالم يتزلزل”(9). ثم قدَّم استقراء لستِّ عشرة حالة من العلاقات بين القوى الصاعدة والقوى السائدة خلال القرون الخمسة المنصرمة، فوجد أن اثنتي عشرة منها انتهت بالحرب.

وقد ظهرت أطروحة أليسون ضمن جدل ساخن بين المفكرين الإستراتيجيين منذ عَقدين من الزمان حول مآلات العلاقات بين الصين والولايات المتحدة. حيث ذهب عدد من المنظرين الغربيين إلى حتمية الحرب بين العملاقين الدوليين، وذهب عدد من المنظرين الآسيويين إلى أن حالة التلاقي وتحقيق المصالح المشتركة هي التي ستسود بينهما، وأن لا مصلحة للصين في تحدي التوازن الدولي السائد، بينما رجَّح آخرون شيئًا من التنافس السلمي المنضبط الذي لا يصل درجة الحرب، وذهبوا إلى أن “الصين يمكن أن تكون -بالتوازي- سندًا لبعض مكونات التوازن الدولي الحالي، وتحديًا لمكوناته الأخرى”(10).

فمن القائلين بحتمية الصدام بين الصين والولايات المتحدة -إضافة إلى أليسون- منظِّر العلاقات الدولية الشهير، الأستاذ بجامعة شيكاغو، جون ميرشايمر، الذي سنُفيض في شرح رأيه لاحقًا. ومن النَّافين لكون الصين تهديدًا للولايات المتحدة عدد من الأكاديميين الصينيين، الذين يلحُّون على أن الصِّدام ليس جزءًا من ثقافة الصين التاريخية، لأنها ثقافة تُعلِي من قِيَم التعاون والسِّلم والروح الجماعية(11). ومن الآملين بالتعايش السلمي بين الطرفين، مع الاقتناع بأن العلاقات بينهما ستكون علاقة تنافس إستراتيجي، المفكر والدبلوماسي السنغافوري، كيشور محبوباني، الذي أفْردْنا له قسمًا من هذه الدراسة، والمفكر والسياسي الأسترالي، كيفين رَادْ، وهو مؤلف كتاب عن الموضوع بعنوان: الحرب التي يمكن تفاديها(12). وسنتناول نماذج من هذا التنظير بتفصيل، ضمن سياقها المناسب من هذه الدراسة.

لقد عرف التاريخ البشري منذ آلاف السنين صراعًا دائمًا بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى، بدوافع مادية ومعنوية كثيرة، وحدد هذا الصراع مصائر العديد من الشعوب والحضارات. وقدَّم الآباء المؤسسون لعلم الجغرافيا السياسية المعاصرة نظريات مهمة، تحولت مفاتيح تحليلية في هذا المضمار. ومن هذه النظريات نظرية “قلب الأرض” Heartland التي صاغها البريطاني، هالفورد ماكيندر (1861-1947)، في كتابه الـمُثُل والوقائع الديمقراطية الصادر عام 1919. وخلاصتها أن أهم منطقة في العالم هي منطقة أوراسيا التي دعاها “قلب الأرض”، وهي تطابق مساحة الاتحاد السوفيتي السابق تقريبًا، ومفتاحها السيطرة على أوروبا الشرقية. وذهب ماكيندر إلى أن من سيطر على تلك المنطقة انفتحت أمامه أبواب السيطرة على العالم، فصاغ معادلته الشهيرة في جمل ثلاث:

  • “من حكَم أوروبا الشرقية فقد تحكَّم في قلب الأرض.
  • ومن تحكَّم في قلب الأرض، فقد تحكَّم في الجزيرة العالمية.
  • ومن تحكَّم في الجزيرة العالمية فقد سيطر على العالم”(13).

ولنظرية “قلب الأرض” سابقةٌ في كتابات الأميركي، ألفريدْ ماهانْ (1840-1914)، عن “اللُّبِّ الأوراسي”(14). لكن المفكر الإستراتيجي الأميركي، نيكولاس سبيكمان، سرعان ما تعقَّبَ ماكيندر، واعتبر معادلاتِه خاطئة تمامًا؛ إذ توصَّل إلى أن أهم منطقة إستراتيجية في العالم ليست “قلب الأرض” الذي أشاد به ماكيندر، بل “حافة الأرض” Rimland المحيطة بذلك القلب، وهي تشمل الهلال الممتد من شمال غرب أوروبا، مرورًا بالشرق الأوسط، وصولًا إلى جنوب شرق آسيا. وقد صاغ سبيكمان رؤيته في معادلة جديدة من جملتين اثنتين، هما:

  • “من حكَم حافة الأرض فقد تحكَّم في أوراسيا.
  • ومن تحكَّم في أوراسيا فقد سيطر على مصائر العالم”(15).

ومن فكرة “حافة الأرض” عند سبيكمان نبعت إستراتيجية الاحتواء الأميركية للقوتيْن الشيوعيتيْن العُظمييْن في القرن العشرين: الاتحاد السوفيتي والصين. وهي الإستراتيجية التي غذَّاها كل من هنري كيسنجر (1923—) وزبيغنيو بريجنسكي (1928-2017) بأفكارهما، واعتبرها بريجنسكي -بحقٍّ- امتدادًا للصراع التاريخي العتيق بين القوى البرية والقوى البحرية(16).

على أن ما يهمنا أكثر في هذه الدراسة هو ما انتبه إليه ونبَّه عليه جمال حمدان وآخرون من أن القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى كثيرًا ما تجعل من منطقة العالم الإسلامي الحالية -خصوصًا قلبها الشرق أوسطي- ساحة حرب، بحكم توسُّطها بين الطرفين؛ حيث “تحاول كل من قوة البر والبحر الاستيلاء على المنطقة البيْنية في الشرق الأوسط”(17).

والسبب في ذلك هو أن العالم الإسلامي منطقة وسِيطة؛ “فحدوده ترسم على الخريطة في الواقع قارة حقيقية هي (القارة الوسيطة) كما سماها من قبلُ نابليون، رجل الفكر الإستراتيجي”(18). وهي تُغري كلًّا من قوى البر وقوى البحر، وتجذب كل الأمم التي تتصدر التاريخ العالمي، بحكم موقعها الإستراتيجي المتميز. وقد عبَّر حمدان عن ذلك بقوله: “أصبحت هذه المناطق البَيْنيَّة… منطقةَ صراع، وأرضَ معركة، بين الطرفين القُطبيَّيْن. أصبحت محصورة بين شِقَّي الرَّحَى، تتنازعها هذه مرة وتلك أخرى، واتضحت حساسية موقعها الإستراتيجي في هذا الإطار. ولا تتمثل هذه الخاصية ]في أي منطقة[ كما تتمثل في منطقة الشرق الأوسط بحكم وقوعها بين فارس ووسط آسيا في جانب، وروما في جانب آخر”(19).

لقد تواتر الصراع التاريخي بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى في هذه المنطقة وعليها، ابتداء من الصراع الروماني الفارسي قبل الإسلام، مرورًا بالصراع بين العرب المسلمين والأوروبيين المسيحيين، ثم بين الترك المسلمين والأوروبيين المسيحيين. وفي العصور الحديثة تجدد الصراع على المنطقة بين الإمبراطوريتين، البريطانية والروسية، في القرن التاسع عشر، ثم بين الولايات المتحدة والاتحاد والسوفيتي في القرن العشرين. ويبدو أن الصراع الجديد على المنطقة بين الصين و(حليفتها روسيا) وأميركا (وحلفائها الأوروبيين) سيكون مَعْلمًا من معالم القرن الحادي والعشرين. وربما يشبه هذا الصراع اليوم تَوازِي العاصفة المغولية التي هبَّت على العالم الإسلامي من الشرق مع الاختراقات الصليبية لقلبه من الغرب، خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.

وكما لاحظ حمدان، فإن تواتر الصراع بين قوى البر وقوى البحر في هذه المنطقة وعليها طبع تاريخها بطابع خاص، وجعل الوعي الإستراتيجي بموقع هذه المنطقة على الساحة العالمية، وإدراك أهميتها لأهلها وللآخرين، أمرًا متعيِّنًا؛ إذ “النتيجة المهمة التي يمكن أن نخرج بها من هذه الصورة المتواترة في الصراع بين قوى البر والبحر هي أنها، وقد تضخَّمت وتطاولت أذرعتها إلى أبعاد شِبْه قارِّية، قد أصبحت حساسة بالنسبة للمواقع البينية التي تفصل بينها، وواعية بإستراتيجية الموقع”(20). وغاية هذه الدراسة هي توسيع مساحة الوعي بالموقع لدى أبناء هذه المنطقة، في لحظة تحوُّلٍ في النظام الدولي يتحفَّز الجميع لاقتناص فرصها، واجتناب مخاطرها.

قبولُ ما ليس منه بدٌّ

ينطلق المفكر والدبلوماسي السنغافوري، كيشور محبوباني، من موقع التحيز الصريح للهوية الآسيوية والقوة الآسيوية، وإن كان ذلك لا يطعن في عمق تحليلاته السياسية، ونفاذ بصيرته الإستراتيجية، فهو مفكر بارع، ودبلوماسي حصيف. وقد كتب محبوباني عدة كتب عن صعود آسيا والصين، منها:

  • نصف العالَم الآسيوي الجديد، وهو مترجم إلى العربية(21)؛
  • القرن الحادي والعشرون الآسيوي؛ هل فازت الصين؟ التحدي الصيني للهيمنة الأميركية؛
  • هل خسِر الغرب؟ أطروحة استفزازية؛
  • هل يستطيع الآسيويون التفكير؟(22).

وتتردد أطروحات محبوباني عن التراجع الغربي والصعود الآسيوي (خصوصًا الصيني) في كتبه كلها. لذلك سنكتفي برسم خطوطها العريضة، بقدر ما يسمح المقام والمساحة. يلاحظ محبوباني أنه “على مدار القرون الثلاثة الماضية، كانت شعوب آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية موادَّ للتاريخ العالمي، وكانت القرارات التي شكَّلت التاريخ تُتَّخذ في بضع عواصم غربية…، أما الآن فإن بقية شعوب العالم… لن تقبل أن يتم اتخاذ القرارات نيابة عنها في العواصم الغربية”(23).

ويجادل محبوباني بأن “العالم اليوم يقف على أحد أهم مفترقات الطرق في تاريخه” بحكم أننا “نبتعد عن تلك اللحظة الوجيزة التي هيمن فيها الغرب على التاريخ العالمي”(24). فالعالم يعيش اليوم “صحوة الحضارات والمجتمعات التي كانت في حالة هجوع مدة مديدة”، حسب تعبيره(25). وهو يلح على أن الإنسان الآسيوي -على وجه الخصوص- قد انتقل من طور المنفعل السلبي بالمبادرات الغربية، إلى طور الفاعل المشارك في صناعة تاريخ العالم المعاصر. وقد تجلى هذا الأمر في الصين أكثر من غيرها خلال العقود الأربعة الماضية؛ حيث استعاد الصينيون الثقة في حضارتهم واحترام ذاتهم.

وينصح محبوباني الغرب بقبولِ ما ليس منه بدٌّ، وهو -في نظره- التسليم بأن الصدارة الغربية للعالم قد أصبحت من الماضي، وأن القوة الآسيوية الصاعدة هي التي ستحدِّد مصائر البشر في المستقبل. وهو يتبنى الرؤية الصينية والروسية الساعية إلى تفكيك الحلف الأطلسي، وفصْل الضفة الأوروبية من المحيط الأطلسي عن الضفة الأميركية. علمًا بأن روسيا والصين تحاولان تحقيق هذه الغاية بطرائق مختلفة. ففي التنظير الإستراتيجي الروسي -الذي يعبِّر عنه دوغين- يأتي هذا المسعى في صيغة تصادمية فاقعة، بينما يسعى الصينيون إلى تحقيق ذلك الانفكاك بين أوروبا والولايات المتحدة بطريقة ناعمة، من خلال تشجيع الأوروبيين على الاعتماد على الذات، وبناء هويتهم الإستراتيجية المستقلة عن المظلة الأميركية. وقد عبَّر محبوباني عن الرؤية الصينية -كعادته- فنصح الأوروبيين بالحياد في التعاطي مع التنافس الصيني-الأميركي، قائلًا: “إن أفضل ما تفعله أوروبا هو أن تكون فاعلًا مستقلًّا: إذا كنتَ كبيرًا بما فيه الكفاية، فلستَ بحاجة إلى الدوران في فلَك طرف آخر”(26).

وقدَّم محبوباني النصيحة ذاتها لأستراليا، التي هي امتداد حضاري غربي في المحيط الهادئ، يكاد يلامس القارة الآسيوية، وقد انضمت في الأعوام الأخيرة لحلف أنكلوساكسوني معاد للصين هو حلف “أوكوس” (AUKUS). فقد نصح محبوباني أستراليا بالاعتراف بالبيئة الآسيوية التي تنتمي إليها مكانًا، بدل المراهنة على القوة الأميركية البعيدة، تأسِّيًا بدول أميركا الجنوبية في تكيُّفها مع قوة جارتها الشمالية القوية، الولايات المتحدة: فقال: “في حالة أستراليا، نصيحتي هي أنه بما أن أستراليا محاطة بأربعة مليارات آسيوي، فعليها التكيف مع هذه الحقيقة”(27).

ويبقى التحدي الأساسي بالنسبة لمصائر النظام الدولي والسِّلم العالمي هو مستوى قبول الغرب للصعود الآسيوي عمومًا، والصيني خصوصًا؛ حيث يذهب محبوباني إلى أن الدول الغربية “قد شعرت بالاضطراب مع نهوض دول آسيا”(28)، رغم أنه “من غير المجدي أن يتصور 12% من سكان العالم أنهم يمكنكم أن يقرروا مصائر النسبة الباقية التي تمثل 88% من سكان العالم. وحتى الآن ترغب الأغلبية في العمل مع الغرب. ومع ذلك فإذا ما حاول الغرب أن يستمر في سيطرته، فسيكون هناك رد فعل عنيف لن يمكن تجنبه. هذا هو السبب في وقوف البشرية عند مفترق طريق حاسم للتاريخ”(29).

ورغم أن محبوباني ليس معاديًا للغرب عداءً أيديولوجيًّا -على غرار دوغين مثلًا- فإن نصيحته للغرب بالتسليم تنطوي على تهديد ضمني بأن أي مسعى في التصدي لصعود آسيا عمومًا، والصين خصوصًا، سينتهي بالغرب خاسرًا مكانته الدولية، ومنكفئًا على نفسه. وقد قدَّم دوغين نصيحة مشابهة لأوروبا بأن تكون أكثر من مجرد رأس جسر أميركي، وميَّز بين حافتها الأطلسية وقلبها القارِّي(30). ومن الواضح أن نصيحة محبوباني للغرب بالتسليم لصعود آسيا، ولأوروبا بالتحرر من المظلة الإستراتيجية الأميركية، ولأستراليا بالتكيف مع محيطها الآسيوي، ليست بريئة، ولا هي مدفوعة بدوافع السلم والتعايش فقط، وإنما لها مآرب أخرى، أهمها تسهيل الصعود الآسيوي عمومًا، والصيني خصوصًا، دون عوائق. إنه منطق القوى الصاعدة، التي تسعى إلى طمأنة القوى السائدة، حرصًا على التمكُّن بأقل ثمن مُمْكِن. لكن الغرب الذي اعتاد التصدُّر لا يستمع لهذه النصائح كثيرًا، وهو لن يرضى بالمقاعد الخلفية دون مواجهات ومدافعات على الراجح، كما سنرى في التوجس الأميركي من صعود الصين في الفقرة التالية من هذه الدراسة.

وقد اهتمَّ محبوباني اهتمامًا إيجابيًّا بالعالم الإسلامي، باعتباره -في نظره- جزءًا من القوة الآسيوية، بعيدًا عن نوازع التعصب التي تظهر لدى بعض المثقفين الآسيويين غير المسلمين أحيانًا، وهذا مما يُحسَب له. فآسيا التي يبشر محبوباني بصعودها إلى الصدارة العالمية تتألف من ثلاثة مكونات أساسية، هي: الصين والهند والعالم الإسلامي. وهو يركز على الشطر الآسيوي من العالم الإسلامي، وهذا أمر مفهوم لأسباب أيديولوجية وإستراتيجية، فضلًا عن أن الشق الآسيوي من العالم الإسلامي هو مركز ثقله البشري والجغرافي.

بيد أننا نتحفظ على اعتبار محبوباني العالمَ الإسلاميَّ مجردَ مكون من مكونات الظاهرة الآسيوية، ونرى ضرورة اعتبار العالم الإسلامي حيِّزًا حضاريًّا واحدًا، وكتلة جيوستراتيجية متميزة عن غيرها، دون أن ينفي ذلك تداخله مع العالم الآسيوي حيث يتمدد جناحه الشرقي، أو تداخلَه مع العالم الإفريقي حيث يتمدد جناحه الغربي، كما سنبيِّنه لاحقًا. فالعالم الإسلامي أكبر من جناحه الآسيوي، ومن جناحه الإفريقي، حتى وإن كان بينه وبين كلٍّ من هذين الحيِّزين الجغرافيَّين عمومٌ وخصوصٌ.

ويجب التذكير في هذا السياق بأن عددًا من المثقفين المسلمين الآسيويين سبقوا محبوباني إلى التبشير بفجر النهضة الآسيوية. ومنهم المفكر والسياسي الماليزي، أنور إبراهيم، الذي أصدر كتابًا بهذا العنوان منذ أكثر من ربع قرن(31). كما أن تمايز العالم الإسلامي عن الهوية الآسيوية إشكال قديم، نجد صداه منذ نحو قرن في الخلاف السياسي بين شاعر الإسلام، محمد إقبال (1877-1938)، والزعيم الهندي، ماهاتما غاندي (1869-1948)، رغم الاحترام الشخصي العميق بينهما. فقد أصرَّ غاندي على جعل الهوية القومية الهندية أساس الاجتماع السياسي في الهند، بينما آمن إقبال بأن العقيدة والثقافة أهم للاجتماع السياسي السليم من الرابطة القومية، وتوصَّل إلى أن الفجوة الثقافية بين المسلمين والهندوس تجعل من الأسلم للطرفين أن يعيشا في كيانين سياسيين منفصلين(32). فكان خطابه الشهير في مدينة “الله آباد”، عام 1930، الذي يعتبره المؤرخون وثيقة الميلاد لجمهورية باكستان الإسلامية.

فرغم أن محبوباني لا ينطلق من أرضية التحيز ضد العالم الإسلامي، وأن إدراجه إيَّاه ضمن المنظومة الآسيوية صادر عن موقف متعاطف، فإن الثمرة العملية المترتبة على تحليله هنا تلتقي -بحسن نية- مع الثمرة العملية التي انتهى إليها المنظِّرون الغربيون بسوء نية. وهم الذين اعتبروا العالم الإسلامي مجرد ساحة لحروبهم، أو أداة لترسيخ قوتهم، لا كيانًا حضاريًّا مترابطًا، ومجالًا جيوستراتيجيًّا واحدًا، له ماهيته وهويته ومطامحه على الساحة الدولية. وسنستعرض لاحقًا نظريات هؤلاء المنظرين الغربيين وموقع العالم الإسلامي في كل منها.

منطق الواقعية الهجومية

وفي مقابل هذا الخطاب السياسي الساعي إلى الكفْكَفة من مخاوف الغرب، الذي نجده عند محبوباني وعددٍ من الأكاديميين الصينيين، يوجد خطاب آخر متوجِّس من الصعود الصيني، إذ يراه نذير شؤم على القوة الغربية عمومًا، والأميركية خصوصًا. وليس الخوف الغربي من صعود الصين بالأمر الجديد، فقد أوردنا من قبل مقولة نابليون بونابرت (1769-1821) في مطلع القرن التاسع عشر، التي يحذِّر فيها من يقظة الصين. كما ظهر التوجس من صعود الصين في مطلع القرن العشرين لدى منظِّر الجغرافيا السياسية البريطاني، هالفورد ماكيندر، وبنبرة عنصرية فجَّة؛ حيث حذر ماكيندر مما دعاه “الخطر الأصفر” الصيني في خطابه الشهير: “المحور الجغرافي للتاريخ”(33) الذي ألقاه أمام “الجمعية الملكية الجغرافية” مطلع العام 1904، وتحول نصًّا تأسيسيًّا في علم الجغرافيا السياسية. لكن تلك التحذيرات المبكِّرة، الصادرة عن رجال من أمثال نابليون وماكيندر، كانت مبنية على افتراضات لا أكثر، إذ لم تكن الصين يومذاك قوة يُحسب لها حساب جديٌّ. لذلك فإن ما يهمنا هنا هو التوجس الغربي الحالي من القوة الصينية الصاعدة، بعد أن أصبح هذا الصعود واقعا مَعيشًا. وسنأخذ أحد أبرز المنظرين الأميركيين لعلم العلاقات الدولية في عصرنا، وهو الأستاذ بجامعة شيكاغو، جون ميرشايمر، مثالًا على هذا المنحى من التفكير.

اشتهر جون ميرشايمر بأنه أحد أبرز المدافعين عن المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية. وهو معروف بعدد من النظريات المشتقة من تلك المدرسة، أهمها لموضوعنا هنا نظرية “الواقعية الهجومية”(34) التي تقضي بأن أي قوة عظمى تسعى بطبيعتها إلى تحصيل أعظم قدر من القوة على حساب القوى العظمى الأخرى، وبأن العالم في حال تعدُّد الأقطاب القوية أقربُ إلى اندلاع الحرب منه في حال القطب الواحد المهيمن. وتطبيقًا لهذه النظرية، ذهب ميرشايمر في كتابه مأساة سياسة القوى العظمى، الصادر منذ أكثر من عَقدين، إلى أن الصين “ستترجم على الراجح قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية، ثم تسعى إلى الهيمنة على جنوب شرق آسيا”(35). وهذا أمر لن تقبله الولايات المتحدة في رأيه، ولذلك فإن “الصين والولايات المتحدة محكوم عليهما بأن يكونا خصمين مع تعاظم القوة الصينية”(36).

ولا يزال ميرشايمر مدافعًا عن هذا المنحى من التحليل في كتاباته المتأخرة، وفي محاضراته الوافرة، حتى اليوم. فقد وسَّع كتابه الصادر عام 2001 فأضاف إلى طبعته الموسَّعة، الصادرة عام 2014، فصلًا ختاميًّا بعنوان: “هل يمكن أن تتصَّدر الصين سلميًّا؟”(37). كما نشر أكثر من مقالٍ أكاديمي ومقالِ رأيٍ دفاعًا عن هذه الأطروحة، أهمها بحث منشور في المجلة الصينية للسياسة الدولية بعنوان: “العاصفة المتحفِّزة: تحدِّي الصين للقوة الأميركية في آسيا”(38).

إن مفتاح الهيمنة الدولية من منظور الواقعية الهجومية التي يؤمن بها ميرشايمر هو أن تتمكن دولة كبرى من الهيمنة على إقليمها أوَّلًا، ثم تَحْرِم الدول القوية الأخرى من الهيمنة على أقاليمها الخاصة. ويرى ميرشايمر أن الولايات المتحدة “لأسباب إستراتيجية وجيهة”(39) قضت القرن الأول من عمرها، وهو القرن التاسع عشر، في السعي لاحتكار السيطرة في محيطها الإقليمي، وطرد القوى الأوروبية (البريطانية والإسبانية والفرنسية) من القارة الأميركية. فلما تحققت لها الهيمنة الإقليمية في القارة الأميركية -طِبقًا لما عُرف بـــ”عقيدة مونرو”-(40) قضت القرن الثاني من عمرها، وهو القرن العشرون، في السعي إلى حرمان أي دولة أخرى من الهيمنة في أي إقليم آخر من أقاليم العالم، سواء اليابان الإمبراطورية، أو ألمانيا النازية، أو روسيا السوفيتية. وقد نجحت في الحالتين خلال هذين القرنين، حسب تحليل ميرشايمر.

ويذهب ميرشايمر إلى أن ما ستفعله الصين بعد تصاعد قوتها هو “الاقتداء بالعمِّ سام”(41)، أي انتهاج نفس النهج الإستراتيجي الذي سبقتها إليه الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر، فالصين تسعى اليوم إلى الهيمنة على إقليمها، خصوصًا سواحل المحيط الهادئ الآسيوية، وزيادة فجوة القوة بينها وبين جيرانها الإقليميين الأقوياء: الهند واليابان وروسيا، ثم “رسْم حدود السلوك المقبول من طرف جيرانها”(42)، كما فعلت الولايات المتحدة في جوارها من قبل، والاجتهاد في إضعاف هؤلاء الجيران، كما حرصت الولايات المتحدة على إضعاف جارتيها الإقليميتين، كندا والمكسيك.

وبالمجمل، فإن الصين ستكون لها “عقيدة مونرو” الخاصة بها، كما يرى ميرشايمر. لكنها لن تحقق مقتضيات تلك العقيدة الإستراتيجية، وهي الهيمنة الإقليمية، إلا بعد مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة. فمنطق “الواقعية الهجومية” الذي يؤمن به ميرشايمر يستلزم حرمانَ الولاياتِ المتحدةِ الصينَ من الهيمنة الإقليمية في شرق آسيا، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. وهكذا سيؤول الأمر إلى وقوع هذين العملاقين في “شراك ثوسيديد”، ونشوب حرب إستراتيجية باردة أو ساخنة بينهما، طبقًا لمعادلة الصراع المعتاد بين القوة الصاعدة والقوة السائدة. ويتفق المفكر الإستراتيجي الأميركي، روبرت كابلان، مع ميرشايمر في أن “القوة الاقتصادية الصينية -التي تترافق على نحو متزايد مع القوة العسكرية- ستؤدي إلى درجة محورية من التوتر خلال السنوات المقبلة”(43)، وأن من أسباب ذلك أن “الولايات المتحدة بوصفها قوة إقليمية مهيمنة في نصف العالم الغربي، سوف تسعى إلى منع الصين من أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة على جزء كبير من نصف العالم الشرقي”(44).

وتبدو لنا نظرية ميرشايمر في الواقعية الهجومية وصفًا أمينًا لقرنين من صعود الولايات المتحدة، من مستعمرة أوروبية صغيرة متحصِّنة وراء المحيطين الأطلسي والهادئ، إلى قوة عالمية مهيمنة على العالم. لكن هذه النظرية قد لا تصلح بالضرورة لتفسير المسار التي ستتَّبعه النهضة الصينية، أو الصحوة الروسية، أو صعود أي قوة دولية أخرى في المستقبل، بما فيها الكتلة الإسلامية. ولعل بعض القوى الصاعدة الجديدة تستخلص العبرة من التاريخ الأميركي، فتتبنى “واقعية دفاعية”، بدل “الواقعية الهجومية” التي سادت في التاريخ الأميركي. فإصرار ميرشايمر على قراءة مسار كل قوة صاعدة جديدة بعيون التاريخ الأميركي يحتاج التعاملَ معه بتحفظ، إذ قد يكون مجرد أثر من آثار المركزية الثقافية الأميركية.

ومما يهم مقاصد دراستنا هذه، مكانة العالم الإسلامي في الصراع الآتي بين الصين والولايات المتحدة. وهنا يزودنا ميرشايمر ببعض الملاحظات الثمينة، فهو يعتبر العالم الإسلامي جزءًا من ساحة الصراع بين الشرق والغرب. حيث يذهب ميرشايمر إلى أن الصراع الآتي بين الصين والولايات المتحدة لن يتوقف عند سواحل المحيط الهادئ، مثل مشكلة تايوان، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي. بل سيتمدد إلى مناطق أخرى تتزاحم فيها مصالح الدولتين ومطامحهما، ومنها مناطق مهمة من العالم الإسلامي، مثل منطقة جنوب شرق آسيا، وإقليم الشرق الأوسط، وخصوصًا سواحل الخليج، وقد كتب عن ذلك يقول:

نظرًا لاعتماد الصين على نفط الخليج، فمن الراجح أنها ستتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، بنفس المنحى التي نحاه الاتحاد السوفيتي من قبل. وليس اجتياح الصين للشرق الأوسط بالأمر المرجَّح، لأنه بعيد عن الصين، ولأن الولايات المتحدة ستسعى لإفشال هذا الهجوم يقينًا. ولكن من الراجح أن الصين ستؤسس لحضور عسكري دائم في المنطقة إذا استعان بها حليف مقرَّب. على سبيل المثال من الممكن تصور إيران والصين وقد رسَّخا العلاقات بينهما، ثم إذا بإيران تطالب باستقرار قوات صينية على أرضها. وباختصار، فإذا كان الأميركيون والسوفيت قد تنافسوا بقوة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، فإن الصين والولايات المتحدة ستتنافسان غالبًا في آسيا والشرق الأوسط فقط“(45).

وكأنما يتنبأ ميرشايمر هنا منذ العام 2010 باتفاقية “الشراكة الإستراتيجية الشاملة” بين الصين وإيران، التي وقَّعتها الدولتان عام 2021، وتضمنت التعاون الإستراتيجي لمدة ربع قرن في كل المجالات، بما فيها المجال العسكري(46). وقد توقع ميرشايمر أيضًا أن تكون “الخطوط البحرية الرابطة بين الصين والشرق الأوسط”(47) ضمن جبهات المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، خصوصًا مضيق مَلَقَة الفاصل بين ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وهو شريان الحياة بالنسبة للتجارة الدولية الصينية، ولذلك يتحدث المنظِّرون الإستراتيجيون الصينيون على الدوام عن “معضلة ملَقَة”(48). إن الملاحظات الثمينة من ميرشايمر تقرِّبنا أكثر من قلب الجغرافيا السياسية الإسلامية التي سنتحدث عنها بتفصيل، لكن بعد التعريج على مكان روسيا ومكانتها في الانزياحات الجديدة للقوى الدولية.

صحوة روسيا الأوراسية

في يوم 25 يناير/كانون الثاني 1991، أعلن ميخائيل غورباتشوف استقالته من رئاسة الاتحاد السوفيتي، وأُنزل العلَمُ الأحمر من فوق مبنى الكرملين، في إعلان رسمي لوفاة الدولة السوفيتية، التي أقضَّت مضاجع الغرب لسبعة عقود، بالخصومة الأيديولوجية، والتحدِّي الإستراتيجي. كان غورباتشوف يومها شابًّا (60 عامًا) بمعايير الشيخوخة السياسية السائدة في القيادة السوفيتية؛ حيث رحل قبله عدد من القادة الشيوعيين الهَرِمين الذين كانوا يتربَّعون على هرَم السلطة في موسكو، ومنهم ليونيد بريجنيف (1906-1982)، ويوري أندروبوف (1914-1984)، وقسطنطين تشرنينكو (1911-1985). وقد مكث كل من الأخيريْن في السلطة عامًا واحدًا فقط قبل أن يتخطَّفه الموت.

وكان غورباتشوف مثاليًّا حالمًا، مع شيء من السذاجة السياسية في نظرته إلى الغرب. فقد تصوَّر أن الاتحاد السوفيتي سيصبح دولة أوروبية بدون اعتراض من القوى الغربية، خصوصًا الولايات المتحدة الغريم التقليدي للروس الذي تستظل أوروبا بمظلته الإستراتيجية منذ ختام الحرب العالمية الثانية. فقد كتب غورباتشوف في كتابه البيريسترويكا -الذي ضمَّنه مراجعاتِه الأيديولوجية ورؤيته المستقبلة- هذا النص المعبِّر عما كان يختلج في نفسه من أحلام تكشَّفت فيما بعد عن أوهام:

“يحاول البعض أن يستبعد الاتحاد السوفيتي من أوروبا. ومن حين لآخر، وكما لو كان عن غير قصد، يساوون مفهوميْ أوروبا وأوروبا الغربية. ومع ذلك، فإن مثل هذه الألاعيب لا يمكنها أن تغير الحقائق التاريخية والجغرافية. إن علاقات روسيا الثقافية والتجارية والسياسية مع شعوب أوروبا ودولها الأخرى لها جذور عميقة في التاريخ. ونحن أوروبيون. لقد كانت المسيحية توحِّد روسيا القديمة مع أوروبا، وسوف نحتفل في العام القادم (1988) بمرور ألف عام على دخول المسيحية أرض أسلافنا. وتاريخ روسيا هو جزء عضوي من تاريخ أوروبا العظيم. لقد أسهم الروس، والأوكرانيون، والبيلوروسيون، والمولدافيون، والليثيون، والأستونيون، والكاريليون، وغيرهم من شعوب بلادنا [السوفيتية]، إسهامًا ذا شأن في تطور الحضارة الأوروبية. ولذلك فإنهم يعتبرون أنفسهم ورثتَها الشرعيين”(49).

من العسير أن نجد نصًّا أبلغ تعبيرًا عن التحول الأيديولوجي الذي كان يعيشه الاتحاد السوفيتي في ختام الثمانينات من هذا النص. فغورباتشوف الذي كان لا يزال يومها رئيسًا للاتحاد السوفيتي، وأمينًا عامًّا للحزب الشيوعي السوفيتي، يكتب هنا عن الإرث الديني والتاريخي المشترك بين روسيا وخصومها الأوروبيين، ويعتز بالهوية المسيحية لروسيا، ويراهن على أنها ستصبح دولة أوروبية. وقد كرر غورباتشوف في كتابه الإلحاح على مفهوم “البيت الأوروبي المشترك“(50) الذي يتَّسع لروسيا، ولدول أوروبا الشرقية، التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي أو دائرةً في فلكه. كما دعا إلى “حل كافة الأحلاف العسكرية”(51) وهو يقصد في المقام الأول الحلفيْن المهيمنيْن على الفضاء الأوروبي، حلف الناتو وحلف وارسو.

لكن ما لم يدركه غورباتشوف -لسذاجته السياسية- هو أن القوة الأميركية، الممسكة بالقرار الإستراتيجي الأوروبي منذ خواتيم الحرب العالمية الثانية، لن تسمح بتحول روسيا إلى دولة أوروبية، مهما يكن منطق التاريخ والجغرافيا. لأن انضمام روسيا إلى أوروبا يجعلها الدولة المهيمنة داخل الإقليم الأوروبي، ويُغني الأوروبيين عن المظلة الإستراتيجية الأميركية، ويُرجِّح كفة القوى البرية الكبرى على كفة القوى البحرية الكبرى، في ذلك الصراع الأبدي بينهما.

فقَدَ غورباتشوف منصبه ودولته السوفيتية في يوم واحد، وتحطَّم حُلمه الأوروبي الساذج على صخرة المعادلات الإستراتيجية الصلبة، واستغلَّت الولايات المتحدة حالة الضعف والفوضى الروسية، فوسَّعت مساحة حلف الناتو شرقًا إلى تخوم روسيا، ضاربة عرض الحائط بتحذير غورباتشوف من أن “الحواجز القائمة [بين روسيا والغرب] لا يمكن تخطِّـيـها إذا ما فرض الغرب طوقه على الشرق“(52). واستمر الأميركيون في توسيع الناتو الذي بدأ عام 1949 باثنتي عشرة دولة فقط، ثم توسَّع عشر مرات، ابتداء من التوسعة الأولى عام 1952، إلى التوسعة العاشرة هذا العام (2023) التي انضمت إليه بمقتضاها جمهورية فنلندا، فأصبحت جزءًا مهمًّا من الطوق الإستراتيجي الغربي على روسيا. وهو الطوق الذي حذَّر منه غورباتشوف منذ ثلث قرن، ويسعى بوتين إلى فَكِّه اليوم بأي ثمن. وقد تنضم مملكة السويد في القريب العاجل إلى الناتو، ليصل بذلك عدد أعضاء الحلف إلى اثنتين وثلاثين دولة.

وكان توسُّع الناتو شرقًا مصدر شكوى وقلق روسي دائم، بحكم أن الحلف لم يتأسس أصلًا إلا لمواجهة روسيا، وبحكم التفاهم الضمني بين غورباتشوف والقادة الأميركيين في ختام الحقبة السوفيتية على عدم توسيع الناتو فيما وراء ألمانيا، مقابل سماح غورباتشوف بتوحيد شطريْ ألمانيا، وباستقلال الشعوب التي كانت جزءًا من الإمبراطورية السوفيتية. والأهم من ذلك أن توسُّع الناتو شرقًا يعدُّ مناقضة تامة للمنظور الإستراتيجي الروسي، المستمَدِّ من تجربة الروس المريرة مع غزو نابليون لبلادهم مطلع القرن التاسع عشر، وغزو هتلر لها منتصف القرن العشرين. لقد توصل الروس إلا أن بلادهم ذات الأراضي المترامية الواسعة، والسهوب المكشوفة الشاسعة، لا يتحقق لها الأمان الإستراتيجي إلا بمبدأ النواة والغلاف: النواة السلافية وغلافها من دول الجوار التابعة، أو الصديقة على الأقل: غربًا في شرق أوروبا، وجنوبًا في آسيا الوسطى.

وهكذا صعد فلاديمير بوتين إلى قيادة روسيا، عام 2000، وهو مشحون بالروح الانتقامية الساخطة على ما آلت إليه أمور روسيا من تضعْضُعٍ وهَوان، بعد عَقْد من الاضطراب والفوضى، وتراجع المكانة، وانحسار المكان، أثناء حكم غورباتشوف ويلتسن. وقد عبَّر بوتين أكثر من مرة عن حزنه العميق على ضياع المجال الإمبراطوري الروسي على أيدي القادة الضعاف الذين سبقوه، ففي خطاب له عام 2005، قال بوتين: “ينبغي أن نعترف بأن انهيار الاتحاد السوفيتي كان كارثة جيوبوليتيكية في ذلك القرن [العشرين]. وبالنسبة للأمة الروسية تحول الأمر إلى مأساة حقيقية، فعشرات الملايين من مواطنينا وقومِنا وجدوا أنفسهم خارج حدود الدولة الروسية. بل إن داء التفكك لامسَ روسيا ذاتَها… وتحطَّمت المُثُل القديمة… وأصبح الفقر هو الحال السائد بين جماهير الشعب“(53).

فهنا نجد بوتين يشخِّص الأزمة البنيوية التي كانت تعاني روسيا منها يومذاك، وهي أزمة مركَّبة تشمل انحسار الجغرافيا السياسية، وتضعْضُع المكانة الإستراتيجية، وتراجع القيم الاجتماعية، وتفاقم المعضلات الاقتصادية. واللافت للنظر أن خطاب بوتين، عام 2005، جاء بعد التوسعة الخامسة لحلف الناتو، عام 2004، والتي انضمت بمقتضاها سبع من الدول الأوروبية التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفيتي أو مجاورة له إلى الحلف. وبناء على هذا التشخيص قرر بوتين استعادة المجد الروسي الضائع بأي ثمن، ولم يراهن -وهو رجل الاستخبارات ذو القلب الجليدي- على الأوهام التي راهن عليها غورباتشوف ويلتسن من قبل، وهي تحويل روسيا إلى دولة أوروبية بل راهن على إعادة بناء القوة الروسية، رغم أنف أوروبا والغرب، من خلال إحياء المسيحية الأرثوذكسية، والاعتزاز بالتاريخ الروسي، وتدعيم النواة السلافية الصلبة، واستعادة ما أمكن من الغلاف الإستراتيجي الذي تحتمي به روسيا، وهو الغلاف الذي يسميه الباحث، جيرالدْ تُولْ، “الخارج القريب”، مقابل “الخارج الداخلي”، الذي يقصد به إقليم الشيشان وغيره من مناطق الحكم الذاتي في الداخل الروسي(54).

وبخلاف غورباتشوف المتجه غربًا، تبنَّى بوتين أفكار ألكسندر دوغين، وسلفِه بيوتر سافيتسكي (1895-1968) الذي يصَفه دوغين بأنه “الكاتب الروسي الأول (والوحيد) الذي يمكن وصفه بالعالِم الجيوبوليتيكي، بكل ما في الكلمة من معنى”(55). فقد دعا سافيتسكي الروس إلى التوجه جنوبًا وشرقًا، أي في اتجاه الشعوب التركية والصينية، بدل التعلق بأذيال الغرب، وأشاد -على غير عادة الكتَّاب الروس- بالعلاقات التاريخية بين الروس والشعوب التركية في وسط آسيا، باعتبار هذه العلاقة هي التي أبعدت روسيا ثقافيًّا عن أوروبا، وحققت لها “استقلالها الروحي عن العالم الرومانو-جرماني العدواني”، حسب تعبيره(56). وقد نحا دوغين المنحى ذاته في تنظيره الإستراتيجي.

وليست ملاحظات سافيتسكي اعتباطية، بل لها أساس تاريخي وثقافي؛ إذ يمكن القول: إن روسيا ذات روح مشرقية نسبية، تقرِّبها من آسيا ومن العالم الإسلامي أكثر مما هي الحال مع الغرب، ونجد ذلك -مثلًا- في استلهام الأدباء الروس من الإسلام وثقافته خلال القرن التاسع عشر، الذي هو العصر الذهبي للأدب الروسي. ومن هؤلاء الأدباء ألكسندر بوشكين (1799-1837)، وميخائيل ليرمنتوف (1814-1841)، وليو تولستوي (1828-1910)، وإيفان بونين (1870-1953). وقد قدَّمت باحثتان عربيتان، هما: مكارم الغمري من مصر ونعمات طه من السودان، خدمة جليلة للثقافة الإسلامية بتتُّبع هذا التأثير الإسلامي في الأدب الروسي، بجدٍّ وجلَد علمي(57). ونبَّهني أيضًا على هذه الروح المشرقية الأديب والمترجم العراقي البارع، عبد الله حبَّه، الذي نقَل أمَّهاتٍ من الأدب الروسي إلى اللغة العربية. لكن الوشائج الثقافية لا تعني دائمًا التقارب الإستراتيجي، خصوصًا إذا وُجدت مناقضات دينية وثقافية أخرى لهذه الوشائج، أو مطامح سياسية إمبراطورية تتستَّر خلفها.

ومهما يكن من أمر، فإن الصحوة الروسية التي يقودها فلاديمير بوتين، والإصرار الأميركي على إقصاء روسيا وتحجيمها وحصارها، جعلا الصدام بين القوة الروسية البوتينية الصاعدة والقوة الأميركية الأطلسية السائدة أمرًا لا مناص منه. وهنا صَدَقتْ نظرية الأستاذ ميرشايمر في “الواقعية الهجومية”، ونظرية أليسون عن “شراك ثوسيديد”؛ فالوطنيون الروس الذين يمثلهم بوتين سياسيًّا، ودوغين فكريًّا، يحسون اليوم بمرارة شديدة تجاه توسُّع الناتو في مجالهم الحيوي، ويعتبرون ذلك غدرًا بروسيا، واستغلالًا للحظة ضعفها أثناء تفكك الاتحاد السوفيتي مطلعَ التسعينات. أما الأميركيون فلم يضيِّعوا فرصة قط لاستنزاف روسيا أو تطويقها، وجاءت حرب أوكرانيا الحالية تتويجًا لمسار التصادم بين الطرفين.

وإذا كان بوتين قد وقع في سوء التقدير التكتيكي، باجتياحه أوكرانيا في هذه الظروف، آملًا الحصول على مكاسب رخيصة، على نحو ما حصل في جورجيا، عام 2008، وفي شبه جزيرة القرم، عام 2014، فإن سوء التقدير الإستراتيجي الأكبر جاء من الأميركيين وحلفائهم الأوروبيين، حين حشروا روسيا في الزاوية، ودفعوها إلى حلف إستراتيجي مع العملاق الصيني الناهض. فلا هم سمحوا لروسيا بالاندماج في الحضارة الغربية، والتحول دولةً أوروبية عادية على نحو ما أراد غورباتشوف، ولا هم قبلوا بها إمبراطورية دولية طامحة، بل سعوا إلى إقصائها وتحجيمها في الحالتين.

إن انتصار روسيا في أوكرانيا صعب، لكن هزيمتها مستحيلة، بغضِّ النظر عن المصاعب والمتاعب التي تواجهها، وهذا هو لبُّ المفارقة الكبرى في هذه الحرب. والسبب في ذلك هو أن حرب أوكرانيا بالنسبة لأميركا حرب نفوذ، أما بالنسبة لروسيا فهي حرب وجود. فأوكرانيا تنتمي إلى النواة السُّلافية التي تقع في القلب من الرؤية الإستراتيجية الروسية، فضلًا عن أهميتها الإستراتيجية لروسيا، جغرافيًّا واقتصاديًّا، وهذا ما عبَّر عنه بريجنسكي منذ مطلع التسعينيات بقوله: إن روسيا من غير أوكرانيا تصبح دولة عادية، وبأوكرانيا -جزءًا منها أو تابعة لها- تصبح إمبراطورية(58).

فأقلُّ ما سترضى به روسيا من هذه الحرب هو اقتطاع الجزء الشرقي الثريّ من أوكرانيا وتملُّكه، وضمُّ سكانه ذوي الغالبية الروسية الأرثوذكسية إلى روسيا، وربما تتملَّك أيضًا جزءًا من الساحل الأوكراني المطل على البحر الأسود، مع الاحتفاظ لنفسها بجزيرة القِرْم وبحر آزوف لأهميتهما الإستراتيجية. فليس في وسع روسيا -إستراتيجيًّا- التسليم بالخسارة الكاملة في أوكرانيا، مهما يكن ثمن الحرب، حتى وإن اقتضى الأمر انشطار أوكرانيا إلى شطرين -على نحو ما حدث لألمانيا في خواتيم الحرب العالمية الثانية- وتحوُّل نهر (الدَّنِيبَر) الأوكراني إلى جدار برلين مائي بين الشرق والغرب. فمنطق الجغرافيا والتاريخ في صالح روسيا في هذه الحرب، لأنها تحارب في بلد متاخم لها، وبينها وبينه تداخل بشري وتاريخي وثقافي، بينما يحارب الأميركيون حربًا غير مباشرة من بعيد، حيث تفصل بينهم وبين أوكرانيا نحو خمسة آلاف كيلومتر. والأمر نفسه يَصْدُق على الصراع بين الصين والولايات المتحدة على تايوان؛ حيث منطق الجغرافيا والتاريخ في صالح الصين التي لا تبعد عنها تايوان سوى نحو مئة وستين كيلومترًا، بينما تبعد عن الولايات المتحدة أكثر من اثني عشر ألف كيلومتر.

ويتعين التأكيد أخيرًا على أن الصين لن تسمح بهزيمة إستراتيجية لروسيا أمام الغرب، بشكل يغيِّر من طبيعة نظام الحكم الروسي، أو يحجِّم روسيا ويفكِّكها، أو يجعلها دائرة في الفلك الغربي. فالحدود بين الصين وروسيا تزيد على أربعة آلاف كيلومتر، وأي سقوط لموسكو في فلَك الغرب سيكشف ظهر الصين أمام حصار إستراتيجي غربي في البر، مع الحصار البحري الذي تسعى واشنطن لضربه عليها، من جهة بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي. وهذا العمق الإستراتيجي الصيني، الذي قد يتحول في أي لحظة إلى مَدَد لا ينقطع، يكفي وحده لجعْل هزيمة روسيا في أوكرانيا مستحيلة عمليًّا. صحيح أن الصين ستستفيد إستراتيجيًّا من استنزاف الطرفين، الروسي والغربي، كما ستستفيد اقتصاديًّا من اعتماد روسيا عليها، ومن تراجع النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، كما لاحظ بعض الباحثين(59). لكن انهيار روسيا، أو تغيير عقيدتها الإستراتيجية، أو هزيمتها الكاملة أمام الغرب، أمر لا تستسيغه الإستراتيجية الصينية.

ويبدو أن الصينيين تعاملوا بحكمة مع ما دعاه أبو إستراتيجية الاحتواء الأميركية، جورج كينان (1904-2005)، “عدم الإحساس بالأمان المتأصِّل لدى القادة الروس”(60)، بينما فشِل الغرب في ذلك التعامل. فجنى الصينيون ثمار حكمتهم السياسية ترسيخًا لصعودهم، وانشغالًا للغرب عنهم، والتجاءً من الروس إليهم. وهكذا لم يعد الشرق الصاعد هو الصين وحدها، بل الصين مدعومة بحليفها الروسي. لقد كان ماكيندر “يخشى أن تتمكن الصين في يوم ما من قهر روسيا”(61)، لكن الصين المحظوظة إستراتيجيًّا -على ما يبدو- ليست بحاجة إلى ذلك، فقد قدَّم الغرب روسيا إلى الصينيين على طبق من ذهب فارتمت في أحضانهم. وشغل بوتين الأميركيين عن الصين في مطلع العَقْد الثالث من القرن الحادي والعشرين بإشعاله حرب أوكرانيا، كما شغلهم عنها أسامة بن لادن في مطلع العَقْد الأول منه بهجمات 11 سبتمبر/أيلول الهوجاء، التي فتحت على العالم الإسلامي أبوابًا واسعة من الاستباحة الإستراتيجية لم تنسدَّ حتى اليوم. وهنا يحسن بنا الانتقال إلى موقع العالم الإسلامي من ظاهرة “شروق الشرق وغروب الغرب”، التي أفَضْنا في شرحها فيما سلف من هذه الدراسة.

مورفولوجية العالم الإسلامي

وُلد الإسلام في شبه الجزيرة العربية، عند تلاقي القارات الثلاث التي كانت أساسَ المعمور من الأرض آنذاك، وهي آسيا وإفريقيا وأوروبا، ثم ساح من الجزيرة العربية مشرِّقًا في جنوب آسيا، ومغرِّبًا في شمال إفريقيا، حتى انتهى العالم الإسلامي إلى هيكله الجغرافي الذي نعرفه اليوم. وقد اندرجتْ شعوب عديدة في ظلال الإسلام، وكان لكل منها إسهامُها الخاص في الحضارة الإسلامية. وحافظ الفضاء الحضاري الإسلامي على وحدته المعنوية وتناصره السياسي على مدى القرون وإلى غاية العصور الحديثة، رغم تنوعه القومي والثقافي واللغوي، وانفتاحه على كل الأديان والمِلَل والنِّحَل.

ولعل رحلة ابن بطوطة (1304-1377) من أهم الوثائق التاريخية الدالَّة على الوحدة المعنوية والثقافية بين الشعوب الإسلامية، فقد وجد هذا الرحالة المغربي في كل الأراضي التي زارها لغةً مشتركة وقِيَمًا مشتركة مع أقوام مسلمين، يختلف أكثرهم عنه في العِرق والموطن والتقاليد، لكن تجمعه بهم عقيدة توحيدية كونية هي العقيدة الإسلامية، وثقافة إنسانية عالمية هي الثقافة الإسلامية. واستقبلته وجوهٌ مسلمة مبتسمة في كل مكان، خلال رحلته الطويلة التي دامت أكثر من خمسة وعشرين عامًا، قطَع خلالها نحو مئة وأربعين ألف كيلومتر، وجابَ مساحة من الأرض تضمُّ اليوم أربعًا وأربعين دولة معاصرة، أغلبها أعضاء في منظمة التعاون الإسلامي.

أقام ابن بطوطة مكرَّمًا في كل مكان من الخريطة الإسلامية: في المساجد، والمدارس، والزوايا الصوفية، والقصور. وتقلَّد منصب القضاء في كل من الهند وجزر المالديف، وعُيّن سفيرا لملك الهند المسلم إلى ملك الصين، وأخذ علوم الشريعة عن علماء في مصر والشام والحجاز، وأصبح مقرَّبًا من عدة ملوك، وتعلَّم اللغتين، التركية والفارسية، وجمَع ثروة عظيمة، وتزوج عدة زِيجات. وقد لاحظ المؤرخ المصري، حسين مؤنس، في حديثه عن ابن بطوطة أن “هذا الرجل قطع العالم الإسلامي كله من المغرب إلى إندونيسيا التي يسميها بلاد جاوة أو سومطرة، وجزر الفلبين التي يسميها بلاد طوالسي، و]زار[ الجاليات الإسلامية في مدن السواحل الشرقية والجنوبية في الصين، وتمادى في الرحلة حتى دخل بكينْ. هذا الرجل قطَع هذه المسافات الطويلة دون أن يشعر أنه خرج من بلده، أو فارق أهله. ووجد في كل مكان من يستقبله ويؤويه، ويقدِّم له الطعام”(62).

يغطي العالم الإسلامي اليوم ربع اليابسة تقريبًا، حيث تمتد مساحته اثنين وثلاثين مليون كلم مربَّع، ويصل عدد المسلمين خُمْس سكان العالم تقريبًا. أما من حيث البنية الهيكلية للجغرافيا الإسلامية، فقد قدَّم جمال حمدان بذور نظرية تشرح ما دعاه هو “مورفولوجية العالم الإسلامي”(63)، أي بنْيته الجغرافية ومعالمها الأساسية؛ حيث سعى حمدان إلى دراسة الإسلام، لا من حيث هو “غطاء روحي واسع الانتشار”(64)؛ فقد فعل ذلك كثيرون، بل “من حيث هو ظاهرة في المكان”(65)، وقدَّم نظرية متماسكة في الجغرافيا السياسية الإسلامية.

فمن حيث الموقع، لاحظ حمدان أن العالم الإسلامي “قارة داخل القارات، قارة وُسْطى”(66) تربط بين القارات الثلاث التي كانت أساس المعمور من العالم القديم، وهي إفريقيا وآسيا وأوروبا. وقد نسب حمدان وصف “القارة الوسطى” للمستشرق الفرنسي، فينسان مونتيْ (1913-2005)، وإن كان مالك بن نبي سبق حمدان إلى وصف العالم الإسلامي بأنه “قارة وسَطِيَّة”، كما نسب ابن نبي إلى الإمبراطور نابليون بونابرت وصْفه للعالم الإسلامي بأنه “القارة الوسِيطَة”(67). وهي كلها أوصاف متقاربة اشتقاقيًّا ودلاليًّا. وقد ذهب حمدان إلى أن العالم الإسلامي -في تشكُّله الجغرافي- هلالٌ أو قوسٌ “يتألف من قلب وجناحين”(68)، وأن هذا الهلال/القوس موزَّع ما بين جنوب آسيا وشمال إفريقيا: “فمن هذا الشكل القوسي تنبثق حقيقة أساسية، وهي أن دار الإسلام في إفريقيا تتركز في الدرجة الأولى في نصفها الشمالي، بينما تقع في آسيا في نصفها الجنوبي”(69) (الخريطة 1). ويبدو أن صامويل هنتنغتون (1927-2008) يوافق حمدان في فكرة الهلال الإسلامي، فقد أشار إشارة عرضية إلى أن “الكتلة الإسلامية تبدو في شكل هلال يمتد من عمق إفريقيا إلى وسط آسيا”(70). وفكرة الجناحين، الإفريقي والآسيوي، للعالم الإسلام تزكيها وقائع الجغرافيا السياسية اليوم، حيث تشتمل منظمة التعاون الإسلامي على ستٍّ وعشرين دولة إفريقية، وسبعٍ وعشرين دولة آسيوية. وفيما وراء هذا القلب والجناحين، لا يوجد امتداد إسلامي متماسك، رغم أن اثنتين من دول أميركا اللاتينية عضوان في منظمة التعاون الإسلامي؛ ذلك أن “الإسلام جنوبَ خط الاستواء أطرافٌ وأصابعُ ثانوية، وهو في العالم الجديد شظايا سديمية متطايرة”(71).

وقد أحسن حمدان إذ جعل المحيط الهندي بمنزلة النجمة في جوف الهلال الإسلامي العملاق، وذهب إلى أن المسلمين عوَّضوا تاريخيًّا خسارتهم للبحر الأبيض المتوسط، أمام القوى الأوروبية الزاحفة، بالسيطرة على المحيط الهندي، وذلك بفضل حركية وحيوية سكان الساحل الجنوبي من الجزيرة العربية، أهل اليمن وعُمان، الذين نقلوا الإسلام بحرًا إلى الطرف الجنوبي الغربي من الهند، وإلى جزر جنوب شرق آسيا، ومنها ماليزيا، وإندونيسيا التي هي اليوم كُبرى دول العالم الإسلامي من حيث عدد السكان.

يقول حمدان في حديثه عن مكانة المحيط الهندي في الجغرافيا السياسية الإسلامية: “ففي قلبه [أي الهلال الإسلامي] -ونكاد نقول كنجمته- يستقر المحيط الهندي، الذي هو منطقيًّا وبالضرورة محيط الإسلام. وإذا كان الإسلام قد فقدَ البحر المتوسط كبُحيرة إسلامية أو شبه إسلامية تقليدية، فقد كسب المحيط الهندي الذي أصبح البحر المتوسط الجديد في العالم الإسلامي: الحضارمة والعُمانيون إغريقُه وبنادقتُه، وإن لم يكونوا رُومانَه…”(72). وتشبيه حمدان للحضارمة والعُمانيين بالإغريق والبنادقة (نسبة إلى مدينة البندقية الإيطالية)، ورفْضه تشبيههم بالرومان، إشارة ذكيَّة منه إلى أنهم نقلوا الإسلام إلى جنوب شرق آسيا بالدعوة السلمية والتعامل التجاري، لا بالفتح العسكري.

ويتفق عدد من الباحثين الغربيين مع حمدان في أهمية المحيط الهندي ومركزيته في الجغرافيا السياسية الإسلامية؛ فهو بحرٌ تتقاطع فيه خطوط الملاحة الدولية، وتتنافس القوى الدولية الصاعدة والسائدة على إيجاد موطئ قدم لها فيه أو على شواطئه، وهذا ما يزيد من الأهمية الإستراتيجية للجغرافيا السياسية الإسلامية. ومن هؤلاء الباحثين، الأميركي روبرت كابلان، والكندي ساباستيانْ رانجْ، اللذان خصَّص كلاهما كتابًا لهذا الموضوع (73). وقد تناولنا في دراسة خاصة دلالة رحلة ابن بطوطة وأفكار حمدان على وحدة المعنى والمبنى في العالم الإسلامي(74)، فيمكن الرجوع إليها لمن أراد التوسع في هذا الموضوع.

        لكن نظرية حمدان -على وجاهتها وريادتها- يشوِّش عليها الانقطاع الكبير داخل هذا الهلال الإسلامي، بسبب وجود بلدان أخرى داخله ليست منه، منها دول ضخمة كالهند والصين، وهذا ليس بالانقطاع السهل. ولذلك فنحن نقترح تصورًا أكثر واقعية وملاءمة للجغرافيا السياسية الإسلامية، وهو تقسيم العالم الإسلامي جغرافيًّا إلى عالمَين: العالم الإسلامي البري، والعالم الإسلامي البحري.

فالعالم الإسلامي البريُّ (الخريطة 2) كتلة متماسكة لا تفصل بينها فواصل بحرية كبرى، والأدق القول إنه على شكل طير عملاق، لا على شكل هلال أو قوس، على نحو ما تصوره حمدان وهنتنغتون. ورأس هذا الطير العملاق في الأناضول، وقلبُه في الجزيرة العربية (بمعناها الواسع الذي يشمل دول الخليج واليمن والعراق والشام)، وله جناحان، يمتد أحدهما في جنوب آسيا، والثاني في شمال إفريقيا. والطريف في الأمر وجودُ أثر في التراث الإسلامي ذي صلة بمجاز الطير العملاق هذا؛ حيث يُروَى عن التابعيِّ كعب الأحبار (ت 652م) قوله: “إن الله خلق الدنيا بمنزلة الطائر، فجَعَلَ الجناحين المشرق والمغرب، وجعَلَ الرأس الشام”(75). وقد يكون هذا الأثر جزءًا من المختلَقات الكثيرة في فضائل البلدان، لكنه يوحِي بوجود تصوُّر قديم في المخيال الجغرافي لدى المسلمين، يرى العالم كله -لا العالم الإسلامي فقط- في شكل طير رأسه في بلاد الشام، وهي بلاد متداخلة مع شبه جزيرة الأناضول؛ حيث يوجد رأس الطير الإسلامي العملاق كما رأينا.

ويبقى أن نبيِّن أن الجناح الآسيوي من العالم الإسلامي أضخم جغرافيًّا وسكانيًّا من الجناح الإفريقي، وإن كانت نسبة المسلمين من مجموع سكان القارة الإفريقية أكبر. وكما لاحظ جمال حمدان فإن “الجناح الإفريقي لا يقاس البتَّة وزنًا وثقلًا بالجناح الآسيوي”(76). ومثله مالك بن نبي الذي لاحظ انزياحَ الإسلام شرقًا(77)، وانتقالَ مركز ثقله البشري إلى آسيا(78)، وسنعود إلى كلام مالك فيما بعدُ، ضمن الحديث عن مركز الثقل الإسلامي في العصر الحديث. ولعل ضخامة الجناح الآسيوي من الإسلام، مقارنة مع جناحه الإفريقي، هو ما أغرى محبوباني باعتبار العالم الإسلامي مكوِّنًا من مكوِّنات الظاهرة الآسيوية، كما بيَّنَّاه سلفًا.

وأما العالم الإسلامي البحري (الخريطة 3) فهو يشمل مناطق منفصلة عن هيكل الجغرافيا الإسلامية الأساسي، وهو يتألف من مناطق وصَلها الإسلام “راكبًا البحر” -بتعبير جمال حمدان- لا عن طريق التمدُّد البري، الذي توقَّف أمام حاجز جبال الهملايا الشاهقة، وهو الحاجز الذي “أوقف تقدُّم الإسلام فيما بعد في هذا الاتجاه، حتى جاء راكبًا البحر من الجنوب”(79). ويشمل العالم الإسلامي البحري بِضع دول، هي: بنغلاديش، وإندونيسيا، وماليزيا، وبروناي، وجزر المالديف. ويمتاز العالم الإسلامي البحري بالضِّيق الجغرافي والسَّعة الديمغرافية، حيث تتركَّز كثافة سكانية كبيرة من المسلمين.

ويشكِّل إقليم الشرق الأوسط (الخريطة 4) صورة مصغَّرة من العالم الإسلامي البري، وشكله شكل طير أصغر داخل الطير الإسلامي الأكبر. وهو يشتمل على أعلى نسبة مئوية من المسلمين بالنظر إلى عدد سكانه الإجمالي، رغم أنه لا يشتمل على العدد الأكبر من مسلمي العالم. والأهم من ذلك أن المقدسات الإسلامية توجد في الشرق الأوسط؛ حيث مكة والمدينة والقدس، وهو منطقة إسلامية جاذبة بحكم وجود القِبلة ومشاعر الحج فيه. ويتَّسم هذا الإقليم بأهمية إستراتيجية عالمية، ولذلك تنافست -ولا تزال تتنافس- الأمم الصاعدة من أجل وضع اليد على هذا الإقليم منذ فجر التاريخ وحتى اليوم. وفي داخل الشرق الأوسط وعلى تخومه بحار مهمة، ذات موقع إستراتيجي في الخريطة العالمية، يمكن أن ندعوها “البحار الملوَّنة” بناء على تسمياتها (البحر الأسود، والأبيض، والأحمر). كما يشتمل الشرق الأوسط على أهم المضايق البحرية (أو “الـمَخانِق” بالاصطلاح الإنكليزيcheckpoints ) التي تعتمد عليها أغلب دول العالم في النقل التجاري والتحرك العسكري. وهي: مضيق البوسفور، ومضيق الدردنيل، وقناة السويس، وباب المندب، ومضيق هرمز. وإذا توسَّعنا في الخريطة الإسلامية الكبرى فيمكن أن نضيف مضيق ملَقَة في جنوب شرق آسيا، ومضيق جبل طارق في شمال غرب إفريقيا (الخريطة 5). وهكذا نجد أن سبعة من أصل أهم ثمانية مضايق بحرية في العالم توجد في العالم الإسلامي؛ فلا يخرج عنه من المضايق الإستراتيجية الحيوية سوى قناة بنما في جنوب القارة الأميركية(80). ولمنطقة الشرق الأوسط مكانة خاصة في خرائط الجغرافيا السياسية والحضارية:

  • فمن المنظور التاريخي، ظهرت الحضارة البشرية في هذه المنطقة، كما ظهر فيها عدد من الديانات العالمية التي غيَّرت وجه الأرض ومسار التاريخ، حتى ليكاد تاريخ المنطقة يشتمل على الخطوط العريضة للتراث الديني للبشرية كلها، بما في ذلك الدين الإسلامي الذي هو أعظم الديانات العالمية فتوَّةً، وأوسعها انتشارًا.
  • ومن المنظور الجغرافي، تتلاقى في هذه المنطقة وحولَها أهمُّ البحار والمحيطات، وتوجد فيها أهم المضايق الإستراتيجية التي يعتمد عليها أغلب البشر في تبادلاتهم التجارية، وتتنافس القوى الدولية على إيجاد موطئ قدم لها فيها، ضمن لعبة الصراع على النفوذ، والسعي إلى التحكم في مصائر البشر.
  • ومن المنظور الاجتماعي، تشتمل هذه المنطقة على شعوب فتية، ذات ديناميكية اجتماعية كبيرة تغلب فيها نسبة الشباب، بينما تعاني مجتمعات أخرى من الإرهاق الاجتماعي والشيخوخة، وتكاد تفقد حيويتها وطاقتها الدافعة، بسبب التفكك الاجتماعي، والاستغراق في الترف.
  • ومن المنظور الاقتصادي، تشتمل المنطقة على ثروات إستراتيجية تعتمد عليها الصناعة العالمية، أهمها ثروة النفط والغاز الطبيعي. وقد دأبت الامبراطوريات الاستعمارية على التنافس من أجل وضع اليد على هذه الثروات، وهي لا تزال في القلب من الإستراتيجيات الدولية المتناقضة.

كل هذه المعطيات تدل على أن الإمكان الكامن في العالم الإسلامي إمكان عظيم ومتعدد الأوجه، لو توافرت له القيادات الحازمة ذات العزائم السياسية والحاسة الإستراتيجية.

الحزام الإسلامي المتصدِّع

رغم كل ما تحدثنا عنه من إمكان وافر في العالم الإسلامي، فإن هذا الإمكان مُهدَر إلى حدٍّ بعيد. ويرجع ذلك إلى أسباب تاريخية هي السرُّ في محنة الحضارة الإسلامية في العصور الحديثة، وخصوصًا مهدها الشرق أوسطي. كانت الدولة العثمانية، التي شاهد ابن بطوطة بذرتها الأولى في الأناضول خلال القرن الرابع عشر الميلادي، آخر مظلة سياسية ناظمة لجزء كبير من هذا الفضاء الحضاري الإسلامي الواحد، خصوصًا ما دعوناه هنا العالم الإسلامي البري. كما كانت أطول دول الإسلام الكبرى عُمْرًا، ومن أقدرِها على الذَّبِّ عن حياضه قرونًا مديدة. وبسقوط الدولة العثمانية مطلعَ القرن العشرين دخل العالم الإسلامي مرحلة صعبة من شتات الكلمة في الداخل، والانكشاف الإستراتيجي أمام الخارج. وهكذا فقَدَ الجزء الأكبر من العالم الإسلامي منذ أكثر من مئة عام مركز الثِّقل الذي كان يجمع شتاته، ويركِّز قوَّته، ويوحِّد كلمته.

وبسبب هذا الانقطاع التاريخي الناتج عن تمزيق الدولة العثمانية فقدَ المسلمون روح المبادرة والعمل المشترك، وتقطَّعت الأرحام الإنسانية والسياسية والثقافية بين الشعوب المسلمة، وأدبر بعضها عن بعض، بل أصبح ارتباطها الثقافي والسياسي والاقتصادي بمراكز القوى الاستعمارية السابقة أقوى من ارتباط بعضها ببعض؛ وهذا خذلانٌ لمبادئ الإسلام التي جعلت المسلمين إخوةً، وألزمتهم بالتعاضد والتعاون والتوادِّ والتراحم.

ولا يزال العالم الإسلامي اليوم يعيش هذه الحالة من الاستباحة والانكشاف الإستراتيجي. وقد أدرك الفيلسوف السياسي الأميركي، صامويل هنتنغتون، هذا الأمر، وشرحه بإطناب في كتابه الذائع الصيت صدام الحضارات، حيث لاحظ هنتنغتون حالة اليُتْم التي تعيشها الحضارة الإسلامية في هذا العصر، لأنها لا تملك “دولة مركزٍ” تتصدَّر مسيرتها، وتضبط خلافاتها الداخلية، وتدرأ عنها سهام الأعداء. وأوضح أن “عدم وجود دولةِ مركزٍ إسلامية يمثل مشكلات مهمة لكل من المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية”(81)، وأن هذا الأمر “مصدر ضعف بالنسبة للإسلام، ومصدر تهديد للحضارات الأخرى”(82).

كما لاحظ هنتنغتون أن حالة الانكشاف الإستراتيجي هذه بدأت منذ تفكيك الدولة العثمانية على أيدي المستعمرين الأوروبيين مطلعَ القرن العشرين؛ ذلك أن “نهاية الامبراطورية العثمانية تركت الإسلام دون دولةِ مركزٍ…، وهكذا فإنه على معظم القرن العشرين لم يكن لدى أية دولة إسلامية قوة كافية، ولا ثقافة كافية، ولا شرعية دينية، للاضطلاع بهذا الدور، لكي تصبح مقبولة من الدول الإسلامية والمجتمعات غير الإسلامية، كزعيم للحضارة الإسلامية”(83). وسنعود لأفكار هنتنغتون مرة أخرى في حديثنا عن مركز الثقل الإستراتيجي في العالم الإسلامي.

وبسبب فقدان المظلة السياسية الجامعة، تحوَّل العالم الإسلامي ساحةَ صراعٍ للآخرين، تنقصها المناعة الذاتية، والحاسة الإستراتيجية، والقيادة الحكيمة. ولعل مصطلح “الحزام المتصدِّع”shatterbelt  هو أدقُّ توصيف لحال العالم الإسلامي اليوم، وهو مصطلح يُستخدم في علم الجغرافيا السياسية وصفًا لمناطق من العالم تتَّسم بالهشاشة والتمزق الداخلي، مع الاستباحة من القوى العظمى في الوقت ذاته(84). وهذا أمر يصدُق بشكل خاص على القسم العربي والإفريقي من العالم الإسلامي، الذي يعاني اليوم انشطارات سياسية وفكرية عميقة، كما أنه مستباحٌ مكانًا وإمكانًا؛ حيث تحوَّلت أكثر دوَلِه ملحقاتٍ تابعةً لهذه القوة أو تلك من القوى الدولية الطامعة في الأرض الإسلامية، أو الطامحة إلى السيطرة العالمية. ويكفي إلقاء نظرة على نظريات الجغرافيا السياسية المعاصرة ومكانة العالم الإسلامي فيها لإدراك حالة الاستباحة النظرية والعملية للجغرافيا الإسلامية:

  •  ففي نظرية “منطقة التنازع” Debated and Debatable Zone التي صاغها الأميركي، ألفريد ماهان (1840-1914)، يشكِّل قسمٌ مهم من العالم الإسلامي الجزء الغربي من المنطقة المتنازع عليها بين القوى الكبرى المستقرة، وهو الجزء الممتد من تركيا غربًا إلى حدود الصين شرقًا، ويشمل الأناضول وجزءًا من وسط آسيا وغربها. وهو ينصح الغرب بحرمان روسيا من أي موطئ قدم في هذه المنطقة(85).
  • وفي نظرية “قلب الأرض” Heartland Theoryالتي صاغها البريطاني، هالفورد ماكيندر، يقع جزء كبير من العالم الإسلامي ضمن منطقة “الهلال الداخلي” على سواحل أوراسيا. وقد أوصى ماكيندر في مطلع القرن العشرين الإمبراطورية البريطانية بالسيطرة على هذه السواحل، وانتزاعها من روسيا القيصرية، أملًا في استكمال السيادة على العالم، بشقيه البحري والبري(86).
  • وفي نظرية “حافة الأرض” Rimland Theory التي بشَّر بها الأميركي، نيكولاس سبايكمان، يمثل العالم الإسلامي جزءًا رئيسيًّا من السواحل الأوراسية الحاجزة بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى. وهو ينصح أميركا باستغلال هذه المنطقة، لاحتواء القوة السوفيتية وتطويقها. وهو ما حدث خلال النصف الثاني من القرن العشرين ضمن “إستراتيجية الاحتواء” الأميركية للشيوعية. وقد شرحنا نظرية “حافة الأرض” من قبل.
  • وفي نظرية “المنطقة الوسطى” La Région Intermédiaire التي صاغها اليوناني، ديميتري كيتسيكيس (1935-2021)، تظهر أهمية العالم الإسلامي مع العالم الأرثوذكسي كتلة وسطى، تفصل بين الغرب الأميركي-الأوروبي والشرق الهندي-الصيني، وتتميز حضاريًّا عن كل منهما. لكن كيتسيكيس -رغم تفهمه للمسلمين وتعاطفه معهم- يكاد يجعل العالم الإسلامي مُلحَقًا حضاريًّا وإستراتيجيًّا بالثقافة الأرثوذوكسية واليونانية(87).
  • وفي نظرية “لوحة الشطرنج العظمى” The Grand Chessboard التي ابتكرها الأميركي، زبيغنيو بريجنسكي (1926-2017)، في تحليله الإستراتيجي للصراع على أوراسيا، يوصَف قسم كبير من العالم الإسلامي -يمتد من سيناء إلى حدود الصين- بأنه “البلقان العالمي” و”البلقان الأوراسي”(88)، وهي منطقة ثرية، تمزقها الانشطارات الداخلية، ويرهقها عدم الاستقرار، بحسب توصيف بريجنسكي. وهو ينصح أميركا بوضع اليد عليها بمزيج من القوة الناعمة والتدخل الخشن.
  • وفي نظرية “صراع الحضارات” التي صاغها الأميركي، صامويل هنتنغتون، يمثل العالم الإسلامي وحدة حضارية متميزة، لكنها حضارة ذات “حدود دامية”، لأنها في صراع ثقافي شامل مع غيرها من الحضارات، حسب زعمه، علمًا بأن هنتنغتون يحمِّل المسلمين مسؤولية كل الحروب التي هم طرف فيها، حتى ولو كانوا فيها مظلومين مضطهَدين. وقد حذر هنتنغتون من ظهور “حلف كونفوشي-إسلامي”، يتحول كتلة إستراتيجية كبرى تسحب البساط من تحت المظلة الإستراتيجية الأميركية(89).
  • وفي النظرية “الأوراسية” Eurasianism التي يروج لها الروسي، ألكسندر دوغين، يشكِّل قسم من العالم الإسلامي -وهو آسيا الوسطى- جزءًا من الغلاف الإستراتيجي الذي تحتمي به روسيا، وليس معترفًا به جزءًا من الفضاء الإستراتيجي الإسلامي. أما دعوة دوغين إلى تحالف تركي-سلافي ضد الحلف الأطلسي الأميركي-الأوروبي فهي سعي إلى احتواء جزء من العالم الإسلامي ضمن الطموحات الجيوستراتيجية الروسية، باعتبار روسيا هي “الأخ الأكبر” في المنظومة الأوراسية(90).

وهكذا يدل استعراض النظريات الجيوستراتيجية السائدة على أن العالم الإسلامي لا يزال في موقع المنفعِل بالأفكار والخطط الإستراتيجية التي يصوغها الآخرون، ولم يتبوأ بعدُ موقع الفاعل الذي يملك نظرية جيوسياسية واضحة المعالم، وخططًا عملية لتوحيد إرادته الإستراتيجية، وانتزاع مكانه اللائق به بين الأمم. لقد أُهدِر الكثير من الإمكان التاريخي والجغرافي والاجتماعي الكامن في العالم الإسلامي، ولم يُستثمَر في العصور الحديثة، من أجل استئناف الحضارة الإسلامية. ويرجع إهدار هذا الإمكان إلى أسباب عدة، منها:

  • أن بعض مظاهر الضعف المزمنة الموروثة عن الماضي لا تزال قائمة، ولم يواجه أبناء المنطقة هذه المظاهر بما تستلزمه من شجاعة أخلاقية وحكمة سياسية. فرغم محاولات الإصلاح التي بدأت منذ قرنين تقريبًا فإن بعض أمراض الماضي لا تزال متحكِّمة في المنطقة. ومن غير إصلاح يضمن الانتقال من الماضي إلى المستقبل فلن تخرج المنطقة من أزمتها.
  • أن المنطقة لم يُتَح لها في العصور الحديثة أن تتطور تطورًا طبيعيًّا، طبقًا لقيمها وثقافتها التاريخية والاجتماعية الخاصة، بل اقتحمت عليها القوى الاستعمارية سكينتها بعنف، فرسمت خرائط المنطقة على هواها، بما يؤدي إلى تمزيقها من الداخل، والتحكم فيها من الخارج. ولا تزال معالم الفساد والإفساد الناتجة عن ذلك الاقتحام الدامي ماثلة للعيان.
  • أن شعوب المنطقة ورثت عن الاستعمار الأوروبي ثقافة التمايز القومي الذي شاع في مطلع القرن العشرين، فابتعدت عن بعضها البعض، ونسيت حضارتها المشتركة، وفرَّطت فيما يجمع بينها من أرحام الدين والثقافة والتاريخ والجغرافيا، رغم أن الفضاء الحضاري الإسلامي أفضل حالًا من الناحية الهيكلية من الفضاء الغربي، الذي تفصل بين مكوناته مسافات شاسعة ومحيطات واسعة.

لقد أُهْدِر هذا الإمكان الهائل الذي يشتمل عليه العالم الإسلامي في أمور مدمِّرة لمستقبل شعوبه: إما في حروب عدمية بين شعوب المنطقة، تحول فيها أهلها وقودًا لصراع القوى الدولية الطامعة، فدفعوا ثمنها الفادح من دمائهم وثرواتهم وإما في حماية أنظمة مستبدة فاسدة، لا تحمل همَّ الشعوب، وليس لديها همَّةٌ لاستئناف الحضارة الإسلامية، وانتزاع مكانة لأمة الإسلام بين الأمم الصاعدة.

بناء المناعة الذاتية

إن الجرد التحليلي لانزياحات القوى العالمية، الذي عبَّرنا عنه هنا مجازًا بـ”شروق الشرق وغروب الغرب”، يحمل بين جنبيه دلالة لا تخطئها العين، وهي أننا نعيش عصر الفضاءات الحضارية الكبرى التي تترجم وشائجها الثقافية إلى قوة عسكرية وسياسية، وحضورٍ كثيف على الساحة العالمية. ويكفي التأمل في حالة الولايات المتحدة التي يحميها محيطان عند خاصرتيها، الشرقية والغربية، ويجاورها من الشمال والجنوب جيران ضعاف يخشون سطوتها. ومع ذلك فهي لم تقنع بقوتها الذاتية، بل نسجت حولها حلفًا من الفضاء الحضاري الغربي، الذي تجمعه عقائد المسيحية البروتستانتية والكاثوليكية، وجذور الثقافة اليونانية والرومانية. ويمكن التأمل أيضًا في حال الصين وروسيا اللتين تدركان اليوم حاجة كل منهما للأخرى في مواجهة التحدي الغربي، رغم الحجم الهائل لكل منهما، وما تحت يدها من قوة جبارة.

إن شروق الشرق وغروب الغرب الذي نعيش بوادره اليوم يوجب على العالم الإسلامي البدء الفوري في بناء المناعة الذاتية، من خلال تشكيل قوة دولية إسلامية، لا شرقية ولا غربية، تدرأ عنه خطر التحول إلى ساحة مواجهة جديدة بين القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى. ومن دون بناء هذه المناعة الذاتية، وتحقيق وحدة الإرادة الإستراتيجية، فإن العالم الإسلامي سيظل “منطقة ارتطام” Crush Zone بين القوى الشرقية والقوى الغربية، على النحو الذي وصفه عالِم الجغرافيا السياسية البريطاني، جيمس فيرغريف (1870-1953)، الذي صاغ هذا المصطلح، وصفًا للمناطق الهشَّة من العالم التي تتكالب عليها القوى البرية الكبرى والقوى البحرية الكبرى(91).

ويستطيع المسلمون أن يستلهموا تاريخهم في هذا السياق؛ فالطير الإسلامي العملاق -بحكم توسُّطه بين الشرق والغرب- قد عَرف في تاريخه الطويل حالاتِ قبضٍ وبسْطٍ دائميْن: فهو في فترات القوة ينبسط ويمدُّ أجنحته مشرِّقًا ومغرِّبًا، على نحو ما حدث أيام الفتوحات الإسلامية الأولى، ثم خلال قوة الإمبراطورية العثمانية. أما في فترات ضعفه فينقبض وينحشر بين القوى البرية الكبرى على تخومه الشرقية، والقوى البحرية على تخومه الغربية. وربما وصل الأعداء إلى قلبه أحيانًا كما حدث أثناء العاصفة المغولية، والحملات الصليبية، والاستعمار الحديث. فالخيار الإستراتيجي الصحيح للعالم الإسلامي دائمًا هو خيار القوة والانبساط، لا خيار الضعف والانقباض.

بيْدَ أن بناء قوة دولية إسلامية ذات شأن يستلزم شروطًا عسيرة التحقُّق، منها تجاوز عدد من المعضلات البنيوية داخل الدول الإسلامية، وتحقيق استقلال القرار الإستراتيجي لدُوَله المحورية، وتعميق التعاون بينها، على نحو ما حدث في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المؤكد أن تحقُّق هذه الشروط سيستغرق وقتًا، لكن الفجوة الشاسعة بين الإمكان والتحقُّق في الجغرافيا السياسية الإسلامية اليوم ليست ضربةَ لازبٍ، أو قَدَرًا مقدورًا لا يتبدل، وإنما هي حصاد مسار تاريخي اتَّسم بصعود القوى الأخرى، بالتزامن مع تراجع قوة المسلمين العسكرية، ووهَن عزائمهم السياسية، وضعف حاسَّتهم الإستراتيجية، والحرب سِجال، والأيام دولٌ، وموازين القوى الدولية لا تفتأ تتبدَّل.

على أن التحولات التاريخية الكبرى تبدأ دائمًا بأحلام عسيرة المنال. ومن التجارب الغنية بالخبرة والعبرة في هذا المضمار تجربة الاتحاد الأوروبي؛ وهي تجربة نرى أنها نجحت نجاحًا باهرًا، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار الظروف المأساوية السابقة عليها، وهي ظروف الحربين العالميتين. فقد بدأ الاتحاد الأوروبي في شكل حُلم لدى فلاسفة ومثقفين منذ القرن الثامن عشر، أحيوا من خلاله الذاكرة الوحدوية الأوروبية التي ترجع إلى عصر الملك شارلمان (ت 814)، موحِّد أوروبا الغربية والوسطى لأول مرة منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476. ثم تحول حُلم الوحدة الأوروبية مسارًا عمليًّا تحت صدمة الحربين العالميتين في القرن العشرين، والخوف من الخطر السوفيتي. وقد ظهرت مدارس ثلاث ضمن الوعي بالوحدة الأوروبية والسعي إليها، منتصفَ القرن العشرين:

  • مدرسة فيدرالية دعت إلى وحدة اندماجية كاملة تمحو الحدود بين الدول الأوروبية.
  • ومدرسة كونفيدرالية أرادت وحدة تنسيقية مرنة، وتعاونًا بين دول ذات سيادة كاملة.
  • ومدرسة وظيفية فضَّلت البدء بتوحيد قطاعات اقتصادية عابرة للحدود الوطنية.

لكن المنطق العملي الذي تبنَّته المدرسة الوظيفية هو الذي ساد في نهاية المطاف، فسارت الوحدة الأوروبية سيرًا تدريجيًّا عبر توحيد القطاعات الاقتصادية، ابتداءً من قطاعيْ الفحم والحديد، عام 1951. ثم توالت المسيرة في شكل لبِنات صلبة ومتراكمة، إلى أن وصلت الوحدة مرحلة النضج ممثَّلةً في الحدود المفتوحة والتنسيق الإستراتيجي. ولعل أهم الأسباب وراء نجاح فكرة الاتحاد الأوروبي هو أن “الفكرة في الأساس تطورية وتطوعية، وتقوم على التوسيع السِّلمي لنطاق القِيَم المشتركة”(92).

وقصة نجاح الاتحاد الأوروبي جزء من قصة نجاح أكبر، هي وحدة الفضاء الحضاري الغربي، الذي يشمل دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا، وهي دول تفصل بين بعضها مساحات شاسعة لا نظير لها في الجغرافيا الإسلامية. فقد نجحت الكتلة الحضارية الغربية في توحيد الإرادة الإستراتيجية بين دولها، مع احتفاظ كل دولة باستقلالها السياسي. ولعل نجاح الغرب في توحيد إرادته الإستراتيجية -رغم المسافات الشاسعة التي تفصل مكوناته- وفشل العالم الإسلامي المعاصر في ذلك، يدل على أن قضية الوحدة تتوقف على الإرادة السياسية والحيوية الثقافية أكثر مما تتوقف على أي أمر آخر. فحتى الفاصل الكبير الذي تحدثنا عنه من قبل بين العالم الإسلامي البري والعالم الإسلامي البحري، لا يمنع وحدة الإرادة الإستراتيجية، تمامًا كما لم تمنع ذلك المحيطاتُ العريضة التي تفصل أميركا الشمالية عن أوروبا، وتفصل أستراليا ونيوزيلندا عن بقية الفضاء الحضاري الغربي، ولا مثل لهذه المسافات الشاسعة بين مكونات العالم الإسلامي. ولبيان ذلك يكفي أن نعرف أن أستراليا، التي هي جزء من المنظومة الغربية، تبعد عن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر من خمسة عشر ألف كيلومتر، وهما أقرب الدول الغربية أرحامًا ثقافية واجتماعية إلى الأستراليين، وأوثقهم حلفًا سياسيًّا وعسكريًّا معهم.

فوحدة الإرادة الإستراتيجية ممكنة رغم بُعد المسافات، بشرط أن تكون طوعية وعملية، ويكون لها أساس ثقافي متين. ولعل أكثر التنظيرات جدِّية في موضوع الوحدة الإسلامية بهذا المعنى هي ما تقدَّم به عبد الرحمن الكواكبي (1849-1903)، وعبد الرزاق السنهوري (1895-1971)، ومالك بن نبي (1905-1973)، لأن كلًّا من المفكرين الثلاثة انطلق من استلهام مثال وحدوي عمليٍّ معاصر، ولم ينشغل بترديد المواعظ النظرية عن الأخوَّة الإسلامية، أو بالسعي إلى استنساخ تاريخ إمبراطوري إسلامي مضى وانقضى.

فقد استلهم الكواكبي فكرة الوحدة الفيدرالية الأميركية والألمانية، فنظَّر للوحدة الإسلامية في شكل “اتِّحاد إسلامي تضامني تعاوني، يقتبس ترتيبَه من قواعد اتحاد الألمانيين والأمريكانيين”(93). واستلهم السنهوري مثال عصبة الأمم -المنظمة الدولية التي نشأت في حقبة ما بين الحربين العالميتين- فدعا إلى تأسيس “عصبة أممٍ شرقية” تجمع شتات الشعوب المسلمة، وتضمن لها مكانة دولية، مع احترام الخصوصيات الثقافية واللغوية لجميع الشعوب المسلمة(94). ثم استلهم مالك بن نبي فكرة الكومنولث البريطاني، فدعا إلى “فكرة كومنولث إسلامي” يتألف من كتل إسلامية تجمع بين كل منها جوامعُ الجوار الجغرافي والقُرْبَى الثقافية، على أن ينسق بين هذه الكتل الإسلامية مؤتمر جامع، في شكل منظمة دولية إسلامية(95).

وقد تأسست منظمة التعاون الإسلامي OIC منذ أكثر من نصف قرن، وجمعت تحت مظلتها كل الدول ذات الغالبية المسلمة، وهي تعتبر نفسها “الصوت الجماعي للعالم الإسلامي”(96). ورغم ذلك فإن هذه المنظمة لم تحقق ما طمح إليه المفكرون الرواد من منظِّري الوحدة الإسلامية. فهي تتسم بضعف الأداء، والتنازع الداخلي، والوهَن العام. ومن أسباب ذلك أن غالبية دول المنظمة محكومة بالاستبداد، والأنانية السياسية، والتبعية للقوى الدولية. كما أن المنظمة لم تسلك أساليب منهجية عملية تدريجية لتحقيق الوحدة، فغلَبت الشعارات والحشد الكمِّي على عملها، وغابت عنه الفاعلية النوعية. وهذا يدل على أن قضية الوحدة بين شعوب الفضاء الحضاري الإسلامي تحتاج تفكيرًا جديدًا.

يوجد أساس صلب لتوحيد العالم الإسلامي مستقبلًا، لا بالمعنى السياسي المركزي في شكل خلافة جامعة، بل بمعنى التعاضد والتناصر، ووحدة الإرادة الإستراتيجية، بين دول وشعوب يجمعها فضاء حضاري واحد، فيما يشبه التعاضد والتناصر القائم اليوم بين دول وشعوب الفضاء الحضاري الغربي. فوحدة الغرب المتجسِّدة اليوم في حدوده المفتوحة، وتداخل شعوبه، وأحلافه العسكرية، وتعاونه الاقتصادي، هي حصاد وعي تاريخي وثقافي بوحدة الحضارة الغربية، وسعي عملي وإجرائي إلى ترجمتها ترجمة سياسية.

إن جوهر الفضاء الحضاري الجامع هو الاشتراك في رؤية واحدة للكون والإنسان وأمَّهات القيم، وفي تجربة تاريخية خاصة، كما هي حال العالم الإسلامي. فإن انضاف إلى ذلك الامتداد الجغرافي الواحد كان ذلك أدعى لتبلور وحدة إستراتيجية. وليست وحدة الفضاء الحضاري بوحدة اللغة أو العرق كما يعتقد المنظِّرون القوميون المعاصرون؛ فقد تحققت وحدة الفضاء الحضاري الغربي دون أن تجمع أهلَه قومية واحدة، أو لغة واحدة، ففي الاتحاد الأوروبي وحده أربع وعشرون لغة رسمية، وعدد وافر من القوميات. وقد نبَّه على ذلك ابن خلدون منذ قرون؛ فقال: “النَّسَب أمرٌ وهميٌّ لا حقيقة له، ونفعُه إنما هو في هذه الوُصْلة والالتحام”(97). كما انتبه له مالك بن نبي من المعاصرين، مستدلًّا عليه بحالة الغرب، فقال:

إن التاريخ لا يتحدَّد ضرورةً باللغة أو بالجنس، فإن الحضارة الغربية التي اتخذناها مقياسًا في هذا الميدان، ليست ثمرة لغة أو جنس، بل إننا نجد حتى في حدود المستوى القومي شذوذًا عن القاعدة حين نلاحظ الوضع في سويسرا مثلًا؛ حيث لا يربط بين العناصر التي تكونها لا الجنس ولا اللغة، وإذن فإن إمكان الحل موجود مع اختلاف اللغات أو الأجناس… فكلمة (الغرب) ليست مجرد لفظ، أو صناعة لغوية أو دبلوماسية، أو تلفيقًا يَدِين بوجوده لبعض الملابسات، وإنما هي قاعدة لعقلية رجل الغرب وثقافته، واستمرار شخصيته. فهي التعبير المركَّز عن دور حضارة بأكملها، وهي تلخيصٌ لألْفين من سني التاريخ المنطبع في ذاته، وهي في النهاية كلمة تحمل عبءَ مصيره”(98).

وبالمثل، فإن المشتركات في العقيدة وأمَّهات القيم والتجربة التاريخية هي التي جعلت من العالم الإسلامي عالمًا واحدًا، “فثلاثة عشر قرنًا قد فصَّلت نموذجًا اجتماعيًّا مسلمًا، يتصرَّف ويفكر حسب كيفيات لا تغيب عنَّا ملاحظة سِماتها المشتركة من طنجة إلى جاكرتا”(99)؛ وذلك “راجعٌ لما بينها من قاسم مشترك، ليس متأتيًا من الطقس ولا من التراب في بلادهما، ولكن من وراثة معيَّنة”(100). ومن غير هذا الوعي الحضاري المدرِك لسياقات الزمان والمكان، المتجاوز لعصبيات الأعراق واللغات، ستظل الوحدة الإسلامية مجرد شعار عاطفي، وعمل ارتجالي “يخضع لمؤامرات الكبار، وتخريب تلاميذهم الصغار”(101)، حسب تعبير مالك بن نبي الذي ينطبق -إلى حدٍّ بعيد- على عمل منظمة التعاون الإسلامي اليوم.

مركز الثِّقل الإستراتيجي

إن من أهم أسباب هذا النجاح في الوحدة الإستراتيجية الغربية وجود دولة مركزية، تقود هذا المسار وترعاه، وهي الولايات المتحدة التي كانت -ولا تزال- مركز الثقل الإستراتيجي في الحضارة الغربية المعاصرة. فقد أنقذت الولايات المتحدة أوروبا من الفناء في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ومن السقوط بأيدي النازية والفاشية، كما قدَّمت العون الاقتصادي لأوروبا المحطَّمة بعد الحرب العالمية الثانية في (مشروع مارشال)، ووفَّرت المظلة العسكرية الحامية بتأسيس حلف الناتو وقيادته. فمن المهم لخروج الفضاء الحضاري الإسلامي من مأزقه الحالي ظهور دولة (أو مجموعة دول) محورية قوية، تتصدر مسيرته بجدارة.

وهنا يثور سؤال جوهري وهو: أين مركز الثقل الإستراتيجي في هذا الامتداد الجغرافي والثقافي الضخم الذي ندعوه اليوم: العالم الإسلامي؟ وهل يمكن أن يكون للعالم الإسلامي رأسٌ واحد، وقلبٌ واحد، ومركزُ ثِقَل واحد أم أنه بطبيعته عالَم متعدد الأبعاد، موزَّع الأقطاب، وله أكثر من قلب ورأس وجاذبية؟ توجد أطروحات ثلاث تستحق الوقوف عندها في هذا المضمار، وهي: نظرية مالك بن نبي الاجتماعية التي تؤمن بأن مركز ثِقَل الإسلام أصبح في جنوب شرق آسيا، ونظرية محمد المبارك الثقافية التي تتمسَّك بمركزية العالم العربي في الفضاء الحضاري الإسلامي، ونظرية صامويل هنتنغتون الجيوستراتيجية التي ترشِّح تركيا لتكون دولة المحور في العالم الإسلامي.

يقدِّم مالك بن نبي تحليلًا ذا طبيعة اجتماعية، فيتوصل إلى أن مركز ثقل العالم الإسلامي المعاصر قد انتقل إلى جنوب وشرق آسيا، وتحديدًا إلى باكستان والهند وإندونيسيا وماليزيا. فعلى عكس السردية الشائعة في العالم العربي تقليدًا بليدًا للسردية الاستعمارية، والقائلة بأن اليقظة المعاصرة في العالم الإسلامي بدأت بحملة نابليون على مصر، عام 1798، يرى مالك بن نبي أن هذه اليقظة لم تبدأ إلا بعد ستين عامًا من ذلك، وفي آسيا تحديدًا، لا في الشرق الأوسط. فالبداية في تقدير مالكٍ كانت بتمرد الجنود المسلمين الهنود على الاستعمار الإنكليزي، عام 1858، ذلك التمرد الذي أحدث هزة في الضمير المسلم، حوَّلها جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، ثم تلميذه محمد عبده (1849-1905) فيما بعد، إلى خطاب توعية وتحفيز للجماهير المسلمة الراكدة(102).

كما ذهب مالك إلى أن من ثمار التحولات الاجتماعية والسياسية في القرن العشرين أن “أصبح الإسلام نفسه واقعًا آسيويًّا”(103)؛ فالإسلام “لا يكفُّ مركز ثِقَله السكاني عن التحول إلى الشرق”(104). ولذلك لم يعد مركز العالم الإسلامي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، كما كانت الحال في الماضي، بل أصبح في جنوب شرق آسيا، أو على الأقل أصبح قطبه الآسيوي أثقل وزنًا من مجاله المتوسطي حسب رأيه: “لقد أصبح العالم الإسلامي يخضع لجاذبية جاكرتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق. وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية لابد أن يُحدث نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، سيكون لها أن تتحكم في حركته وفي مستقبله، بل في تشكيل الإرادة الجماعية لهذا العالم [الإسلامي] أولًا وقبل كل شيء”(105). وقد بَنَى مالك هذا التحليل على عوامل اجتماعية، منها الكثافة السكانية في آسيا الإسلامية، ومنها -وهو الأهم في رأيه- محافظة الشعوب الإسلامية الآسيوية على فِطريَّتها، وبُعدها عن أعباء التاريخ التي تثقل كاهل المسلمين على ضفاف المتوسط، وهو يبسط هذه الفكرة بتفصيل في قوله:

“فنهاية العهد الذي تركزت فيه الجاذبية الإسلامية على البحر الأبيض، تسجِّل تحرر العالم الإسلامي من معوقاته وقيوده الداخلية. وهذا الاتجاه واضح في باكستان، كما أنه واضح في جاوة (إندونيسيا)، وهي بلاد توطَّن فيها الإسلام منذ عهد قريب نسبيًّا؛ أعني أنها بلاد جديدة فتيَّة، يتفوق فيها جانب الفكر والعمل على جانب العلم التقليدي المغلقوالرجل في جاوة دقيق الحِسِّ، يحترم النظام والتنظيم، وهو مغرمٌ بتعميق جزئيات الأشياء، فهو بذلك رجل مادِّي إيجابيٌّ، ذو طاقة ضخمة، وهو أيضًا رجل عمليٌّ، ماهر في صنعته، ذوَّاقة لشتى أنواع الفنون”(106).

بيْدَ أن المفكر الإسلامي السوري، محمد المبارك (1912-1981)، تحفَّظ على هذه الرؤية في تقديمه لكتاب مالك بن نبي وجهة العالم الإسلامي، وتمسَّك بمركزية العالم العربي في الفضاء الحضاري الإسلامي، بحكم ارتباط اللغة العربية بالدين الإسلامي مصادرَ وشعائرَ. يقول محمد المبارك:

“يعتقد [مالك بن نبي] أن مركز الثقل في هذا العالم سينتقل من البحر المتوسط إلى آسيا…، [و]على تقديري للنهضة الرائعة التي تبدو في إندونيسيا وبعض البلاد الآسيوية الإسلامية، أرى أن للعالم العربي مكانته ووظيفته الحيوية في قلب هذا العالم الإسلامي، وأنه أوتي القدرة على التوفيق بين القيم المادية والروحية، وإقامة التوازن بينهما، وأنه بحسن تفهمه للغة القرآن الكريم ولرسالة الحياة الجامعة بين المقاييس المادية والروحية، والجهد المادي والخُلُقي، لا يزال محط الأمل وموضع الرجاء، دون أن ينقص ذلك من قيمة الشعوب الإسلامية الأخرى، ومن خصائص عبقريتها”(107).

وقد كان في وسع الأستاذ المبارك أن يضيف الجغرافيا الدينية الإسلامية معضِّدًا لهذا المنحى من التحليل، أقصد وجود مكة والمدينة والقدس في العالم العربي. وذلكم هو المنظور الثقافي اللغوي الذي يضع بلاد العرب في الصدارة من العالم الإسلامي.

أما النظرية الثالثة عن مركز الثقل الإسلامي فهي نظرية صامويل هنتنغتون الذي يرى أن مركز العالم الإسلامي ومستقبله في تركيا. وقد أشرنا من قبل إلى أن تركيا تقع في منطقة الرأس من الطير الإسلامي العملاق، وهو أمر منسجم مع تاريخها السياسي؛ حيث كانت موطن أُخْرى الإمبراطوريات العظيمة في تاريخ الإسلام، وهي الإمبراطورية العثمانية. وعلى خلاف المنظور الاجتماعي الذي صاغه مالك بن نبي، والمنظور الثقافي الذي تبنَّاه محمد المبارك، فإن هنتنغتون ينظر للقضية من منظور جيوستراتيجي.

فقد صاغ هنتنغتون نظرية خاصة في العلاقات الدولية تعتمد العامل الثقافي والديني، أو الفضاء الحضاري المشترك كما نعبِّر عنه هنا، أساسًا لها. وأبرز هنتنغتون الأهمية الإستراتيجية لما دعاه “القُرْبى الثقافية”(108) بين الدول المنتمية إلى حضارة واحدة؛ ذلك أن “الحضارة أُسْرة ممتدَّة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنًّا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب. وفي غيبة القُرْبى هذه، فإن قدرة الدولة الأقوى على حلِّ الصراعات في منطقتها أو فرض النظام فيها تصبح محدودة”(109). وبناء عليه، صنَّف هنتنغتون دول العالم إلى ثماني كُتَل حضارية كبرى، مؤكدًا ضرورة وجود دولة محورية قوية في كل كتلة حضارية، تكون فيها بمنزلة الرأس القائد، والعنصر الضابط لشأن ذلك الفضاء الحضاري المشترك، والذَّابِّ للأعداء عن حياضه.

وليس بالضرورة أن تشترك هذه الدولة المحورية مع دول فضائها الحضاري في القومية أو اللغة، فالقرابة الثقافية تعوِّض ذلك؛ إذ “العوامل الثقافية المشتركة تعطي شرعيةً للقيادة، ولدور دولة المركز في فرْض النظام، بالنسبة لكل من الدول الأعضاء، والقوى والمؤسسات الخارجية”(110). وقد أدرك هنتنغتون وحدة الفضاء الحضاري الإسلامي، وصنَّفه ضمن الحضارات الثماني التي تتقاسم العالم اليوم، لكنه لاحظ حالة الانكشاف التي تعيشها الحضارة الإسلامية في هذا العصر، لأنها لا تملك “دولة مركز” تملك القدرة والإرادة، لكي تتصدَّر العالم الإسلامي، وتضبط خلافاته الداخلية، وتدرأ عنه سهام الأعداء. وكنَّا أوردنا بعض ملاحظاته من قبلُ.

واستعرض هنتنغتون ستَّ دول إسلامية، وقدَّم تقييمه لإمكانية اضطلاع أي منها بدور “دولة المركز” في حضارة إسلامية معاصرة، وهي: السعودية، وإيران، ومصر، وباكستان، وإندونيسيا، وتركيا. فوجد أن خمسًا منها تعاني من موانع تحول بينها وبين هذا الدور، إما لعدد سكانها الصغير نسبيًّا وضعف حصانتها الجغرافية (السعودية)، أو للفوارق المذهبية بينها وبين جمهور المسلمين (إيران)، أو لفقرها في الموارد الطبيعية (مصر)، أو لعدم استقرارها السياسي (باكستان)، أو لبُعدها الجغرافي عن مركز العالم الإسلامي (إندونيسيا). فلم يبق من الدول الست سوى تركيا التي رآها هنتنغتون مؤهلةً لدور دولة المركز في العالم الإسلامي، وتوصَّل إلى أن “تركيا لديها التاريخ، وعدد السكان، والمستوى المتوسط من النمو الاقتصادي، والتماسك الوطني، والتقاليد العسكرية، والكفاءة.. لكي تكون دولة مركز…”(111).

ولسنا نعتقد بوجود تناقض بين هذه النظريات الثلاث، لأنها لا تتوارد على نفس المحل بتعبير علماء المنطق، بل يتناول كلٌّ منها مركزَ الثقل الإسلامي من زاوية نظر مخصوصة. ويبدو لنا أن كلًّا من النظريات الثلاث تتضمن جزءًا من حقيقة الجغرافيا السياسية الإسلامية، فما ذكره مالك بن نبي من حيوية اجتماعية وروح عملية لدى الشعوب المسلمة في جنوب شرق آسيا -فضلًا عن كثافتها الديمغرافية- أمر صحيحٌ، وما أبرزه محمد المبارك من جاذبية العالم العربي -بحكم ارتباط لغته بالوحي الإسلامي ووجود المقدسات الإسلامية على أرضه- صحيح أيضًا. ومثل ذلك يقال عن حديث هنتنغتون عن الأهمية الجيوستراتيجية والتاريخية لتركيا. فتركيا قوة فتيَّة ناهضة، والشعب التركي ذو تاريخ عريق في قيادة العالم الإسلامي، وهو قادر على تكرار مأثرته في المستقبل.

ونحن نميل إلى رأي هنتنغتون في أن تركيا مؤهلة اليوم أكثر من غيرها لتكون “دولة المركز” في العالم الإسلامي، وقد تناولنا موضوع الرِّيادة التركية وجذورِها التاريخية بتوسُّع في دراسة سابقة باللغة الإنكليزية(112)، لكن العالم الإسلامي يحتاج أكثر من دولة محورية، وأكثر من بؤرة إستراتيجية صاعدة، ليقف على قدميه، ولعل ماليزيا وإندونيسيا قد قطعتا شوطًا بعيدًا في هذا الاتجاه. كما أن دولًا إسلامية أخرى لديها الإمكان لتكون دُوَلَ مركزٍ في العالم الإسلامي خلال العقد الحالي والذي يليه. ومن هذه الدول مصر وباكستان والسعودية والجزائر. فهذه الدول السبع قد تتحول في المستقبل المنظور رافعاتٍ إستراتيجيةً متوازيةً لنهضة إسلامية جديدة، إذا حققت ما يكفي من النضج السياسي الداخلي، والوعي الإستراتيجي الخارجي.

فالعالم الإسلامي أكبر من أن يتمحور حول دولة واحدة من دوله، أو إقليم واحد من أقاليمه. وحتى أوروبا ذات الحجم الجغرافي والديمغرافي الصغير -مقارنةً مع العالم الإسلامي- ليس فيها دولة مركز واحدة، بل ثلاث دول هي ما يُعرف بمثلَّث القوة الأوروبي: فرنسا وألمانيا وبريطانيا(113). فلا داعي للجدل حول مركز الثِّقل الإستراتيجي في العالم الإسلامي، فهو عالَم يتَّسع اليوم لأكثر من مركز ثقل، كما اتَّسع في الماضي لبلدان شاسعة، وشعوب عديدة، كان لكل منها إسهامه المجيد في الحضارة الإسلامية.

خلاصات للزمن الآتي

بعد هذا التجوال في انزياحات القوى العالمية، وأثرها على العالم الإسلامي، هذه بعض الخطوط العريضة لما ورد فيها، وبعض الخلاصات للزمن الآتي: يبدو أن الصراع التاريخي بين القوى البرية الكبرى والقوة البحرية الكبرى يدخل منعطفًا جديدًا في هذه الأيام، وهو صراع تتحكم فيه معادلة العلاقة بين القوى الصاعدة والقوى السائدة. وأبرز مظاهر هذا الصراع اليوم هو الصعود المطَّرد للشرق الآسيوي-الأوراسي بقيادة الصين (مع حليفتها روسيا)، على حساب الغرب الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة (مع حلفائها الأوروبيين).

وقد كثَّفت حرب أوكرانيا الحالية هذا الصراع، وسرَّعت وتيرته. وهي حرب سيكون حصادها الإستراتيجي -في تقديرنا- لصالح الشرق الآسيوي-الأوراسي، رغم المصاعب والمتاعب التي تواجهها روسيا اليوم، والثمن الفادح الذي تدفعه. وقد أوضحنا اختلاف المنظِّرين الإستراتيجيين في تلقِّي صعود الصين، بين متحمِّسٍ مثل محبوباني يراه توازنًا مرغوبًا في النظام الدولي، ومتوجِّسٍ مثل ميرشايمر يراه طريقًا مفتوحًا إلى الصِّدام العالمي، وثالثٍ مثل كَفِينْ رَادْ يسعى إلى إرساء التعايش والتوفيق بين القوى الصاعدة والقوى السائدة.

ولا يزال العالم الإسلامي في موقع “المنفعِل” بالتنظير الإستراتيجي والمبادرات الإستراتيجية التي يصوغها الآخرون، وهو لم يتبوأ بعدُ موقع “الفاعل” الذي يملك وعيًا جيوسياسيًّا واضح المعالم، رغم أن بِنْية الجغرافيا السياسية الإسلامية وموقعها يمنحانها مكانة إستراتيجية عظيمة على الخريطة العالمية، يمكن استثمارها إذا تحرَّر العالم الإسلامي من وضعية “الحِزام المتصدِّع” التي يعيشها اليوم. فالعالم الإسلامي يقع اليوم في تقاطع النيران بين الشرق الصاعد والغرب السائد. وهو معرَّض لخطر التحول إلى “منطقة ارتطام” بين شرق متحفِّز للهيمنة، وغرب متشبث بمواريثه الاستعمارية.

إن الشروخ التي تنفتح بين القوى الكبرى تمنح الشعوب الضعيفة هامشًا للمناورة، وقد دفع العالم الإسلامي ثمنًا فادحًا للأحادية القطبية في العراق وأفغانستان، وفي ثورات الربيع العربي. وقد يفتح الانشطار الدولي الجديد مزيدًا من الخيارات التكتيكية أمام العالم الإسلامي، مِن حيث القدرة على بناء مساحات ظرفية مشتركة مع هذا الطرف أو ذاك من المتنافسين الدوليين الكبار اتِّقاءً لشرِّهم. ويبقى بناء قوة إستراتيجية إسلامية تمنح المناعة الذاتية للشعوب الحضارة الإسلامية وتحصِّنها من الاستباحة الخارجية هو الخيار الإستراتيجي الصحيح على المدى البعيد.

بيد أنه لا مناعة من غير وحدة. ووحدة الإرادة الإستراتيجية الإسلامية ممكنة، على غرار وحدة الإرادة الإستراتيجية الغربية، بشرط قيامها بطريقة طوعية، وطبق معطيات الزمان والمكان والإمكان. ولعل مما يعين على الوحدة والتحصين الإستراتيجي صعود دولة (أو مجموعة دول) محورية تقود العالم الإسلامي. ويبدو أن تركيا من أحسن الدول تأهيلًا لهذه المهمة. وتوجد دول إسلامية أخرى قطعت شوطًا طيبًا في هذا المسار، كما توجد دول لديها الإمكان الكامن للاضطلاع بهذا الدور، بعد شيء من النضج السياسي والإستراتيجي. فظهور بؤر إستراتيجية متزامنة صاعدة في العالم الإسلامي أمر ضروري للإقلاع الحضاري من جديد.

ليس من الحكمة السياسية مطالبة جميع الدول الإسلامية بالانحياز المطلق للشرق أو للغرب، لكن وحدة الإرادة الإستراتيجية تمنح العالم الإسلامي القدرة على التعاطي مع الطرفين بندِّيَّة. ويبدو لنا أن الاقتراب التكتيكي من الصين قد يمنح العالمَ الإسلاميَّ فُسحةً أوسعَ للمناورة في الأمد المنظور، كما حدث خلال حروب التحرير الوطني منتصف القرن العشرين. ولا يعني هذا الاقتراب التكتيكي أن الصين أفضلُ في ذاتها من الغرب، أو أنها أقربُ إلى الثقافة والقيم الإسلامية من الغرب. فالغرب يشترك مع الثقافة الإسلامية في بعض المواريث الدينية، وفي جوهر القيم السياسية الديمقراطية. ولكن الغرب يملك من وسائل الاختراق الإستراتيجي في العالم الإسلامي ما يجعله أعظمَ خطرًا، وأشدَّ ضررًا عليه من الصين التي لا يعكِّر علاقاتها مع العالم الإسلامي سوى تعاملها الفظ مع الأقلية الإسلامية فيها، وهو أمر يمكن إصلاحه ضمن تفاهمات أكبر مع دول إسلامية ذات وزن. ومثل الغرب روسيا في اختراقها الإستراتيجي للعالم الإسلامي، وإن كان بدرجة أقل، وذلك بالنظر إلى نفوذها التاريخي في آسيا الوسطى، وما ارتكبته من فظائع في أفغانستان خلال الثمانينات، وفي سوريا خلال العَقْد الأخير.

والمؤكَّد أنه لا يمكن تحقيق استقلال القرار الإستراتيجي الإسلامي، فضلًا عن وحدة الإرادة الإستراتيجية الإسلامية، مع وجود الاختراق الإستراتيجي الغربي والروسي الذي عُمْرُه قرنان من الزمان. ولا عجبَ أنْ صدَّرنا هذه الدراسة بحديث الكاتب أحمد حسن الزيات عن شروق الشرق الإسلامي وغروب الغرب المسيحي على أرض فلسطين مرتين في التاريخ: الأولى على عهد الخليفة، عمر بن الخطاب (586-644)، والثاني على يد القائد، صلاح الدين الأيوبي (1138-1193). فلا تزال القدس في قلب الصراع بين العالم الإسلامي والغرب؛ حيث يصرُّ الغرب على تهشيم البيئة الإستراتيجية الإسلامية المحيطة بالدولة اليهودية التي أسَّسها ورعاها، وإبقاء العالم الإسلامي -خصوصًا مهده العربي- في وضع “الحزام المتصدِّع” إلى الأبد.

ولا يزال الغرب أيضًا يعبث بالمصائر السياسية للشعوب الإسلامية، مستغلًّا مواريث نفوذه الاستعماري التي لا تملك القوى الدولية الشرقية مثلها داخل العالم الإسلامي، ويَجْهَدُ في حِرمان هذه الشعوب من أي تحول ديمقراطي يحقق لها استقلال قرارها الإستراتيجي، كما رأيناه -ولا نزال نراه- في تعامله الـمُرائِي مع ثورات الربيع العربي. فلا مستقبل للعالم الإسلامي إلا إذا وضَع حدًّا لهذا العبث الغربي بمصائر شعوبه وإمكانات دُوَله. ويومها سيبدأ شروق الشرق الإسلامي -كما بدأ شروق الشرق الآسيوي-الأوراسي في أيامنا- ويندرج المسلمون بجدارة ضمن الانزياحات الكبرى في موازين القوى الدولية التي دعوناها هنا “شروق الشرق وغروب الغرب”.

إن مصائر العالم الإسلامي في الأمد المنظور تتوقَّف على حسن إدراك النخب السياسية والثقافية فيه لانزياحات القوى الدولية في الزمن الحاضر، وحسن تعاطيها معها، بوعي سياسي عميق، وحاسَّة إستراتيجية مرهَفة. وأتمنى أن يكون ما كَشَفَتْه هذه الدراسة من تحوُّلات كبرى في النظام الدولي، ومن وحدة الجغرافيا السياسية الإسلامية، باعثًا على مزيد من الوعي، ومستنهِضًا لمزيد من السعي، لتحقيق وحدة الإرادة الإستراتيجية الإسلامية، بما يحقِّق التناصر والتعاضد بين المسلمين، بناءً على الأرحام الحضارية الوثيقة، والمعطيات الجغرافية الصلبة، دون قفز على فِعل الزمان، وتباعُد المكان. كما أتمنَّى أن تكون ثمار هذه الدراسة حافزًا على مزيد من التفكير فيما يفتحه “شروق الشرق وغروب الغرب” أمام العالم الإسلامي من فرص وتحديات. فالعالم الإسلامي بحاجة اليوم إلى رصْد كل باب يُفتَح، واقتناص كل فرصة تَسْنح، في ظرف دولي حرج لا يرحم الضعفاء والمتبطِّلين.

 

المراجع

(1)  أحمد حسن الزيات، “في سبيل فلسطين: المؤتمر البرلماني للأمم العربية والإسلامية،” مجلة الرسالة، العدد 275 (10 أكتوبر/تشرين الأول 1938)، ص 1642. (والإبراز في النص مضاف من طرف كاتب هذه الدراسة، ومثله جميع الإبرازات التالية).

(2)  ألكسندر دوغين، أسس الجيوبولتيكا: مستقبل روسيا الجيوبولتيكي، ترجمة عماد حاتم (دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت: 2004)، ص 64.

(3)  ثمة جدل واسع بين الباحثين الغربيين حول الفرق بين مفهومgeopolitics  الذي يركز على الإستراتيجيات الدولية، ومفهوم  political geographyالذي يدرس بنية الدول داخليًّا، ومساعٍ للتمييز بينهما تمييزًا غالبًا ما ينتهي بغموض أكبر. أما في اللغة العربية فلا يوجد مرادف منفصل لكلا المصطلحين، ولذلك فقد آثرنا هنا استعمال “الجغرافيا السياسية” ترجمةً للعبارتين، بدل التكلُّف في تعريبها وفي التمييز بينهما، والسياق هو الذي يحدد المقصود في الحالتين.

(4)  ممن بيَّنوا أهمية الجغرافيا السياسية أداةً ومنهجًا لتحليل النظام الدولي جمال حمدان، وإفِّيلْ كِيلي، وساؤول كوهين. انظر: جمال حمدان، إستراتيجية الاستعمار والتحرير (بيروت: دار الشروق: 1983)، ص 9. وكذلك:

Phil Kelly, Classical Geopolitics: a New Analytical Model (Stanford: Stanford University Press, 2016), p. 7; Saul Bernard Cohen, Geopolitics: the Geography of International Relations (Lanham: Rowman & Littlefield, 2015), p.15.

(5) جمال حمدان، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى: دراسة في الجغرافيا السياسية (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1996)، ص 11.

(6) Nicholas J. Spykman, “Geography and Foreign Policy, I” The American Political Science Review, Vol. 32, No. 1 (Feb., 1938), p. 29.

(7) مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، 1986)، ص 165.

(8) Thucydides, The Peloponnesian War, Translated by Martin Hammond (New York: Oxford University Press, 2009), p.13.

(9) Graham Allison, Destined for War: Can America and China Escape Thucydides’s Trap? (Boston: Houghton Mifflin Harcourt, 2017).

(10) Huiyun Feng and Kai He (edits.), China’s Challenges and International Order Transition: Beyond “Thucydides’ Trap”, (Ann Arbor: University of Michigan Press, 2020), p. 3.

(11)  ممن يدفعون بهذه الأطروحة إلى الفضاء العام -على سبيل المثال- الأكاديمية الصينية، جِيشنغْ صنْ، انظر:

Jisheng Sun, “Chinese Culture, Ideas, and Approaches to Influence the International Order,” in Feng and He (edits.), China’s Challenges and International Order Transition, p. 203.

(12) Kevin Rudd, The Avoidable War: The Dangers of a Catastrophic Conflict between the US and Xi Jinping’s China (New York: PublicAffairs, 2022).

(13) Sir Halford John Mackinder, Democratic Ideals and Reality: A Study in the Politics of Reconstruction (Washington, D.C.,: National Defense University Press, 1996), p. 106.

(14) John O’Loughlin and Jan Nijman, “Heartland,” in Dictionary of Geopolitics, edited by John O’Loughlin, (Westport: Greenwood Press, 1994), p. 115.

(15) Nicholas John Spykman, The Geography of the Peace (New York: Harcourt, Brace and Company, 1944), p.43.

(16) Jan Nijman, “Brzezinski, Zbigniew” in Dictionary of Geopolitics, p.31.

(17)  حمدان، إستراتيجية الاستعمار والتحرير، ص 22.

(18)  مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، 2001)، ص 226.

(19)  حمدان، إستراتيجية الاستعمار والتحرير، ص 23.

(20)  المرجع السابق، ص 22.

(21) كيشور محبوباني، نصف العالم الآسيوي الجديد: التحول الجارف للقوة العالمية نحو الشرق، ترجمة سمير كريم (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009).

(22) Kishore Mahbubani: The Asian 21st Century (New York: Springer, 2022); Has China Won? The Chinese Challenge to American Primacy (New York: PublicAffairs, 2020); Has the West Lost It? A Provocation (London: Allen Lane, 2018); Can Asians Think? (Singapore: Marshall Cavendish, 2009).

(23)  محبوباني، نصف العالم الآسيوي الجديد، ص 39-40.

(24) Mahbubani, The Asian 21st Century, p. 63.

(25)  المرجع السابق، ص 240.

(26) المرجع السابق، ص 144.

(27) المرجع السابق، ص 144.

 (28)محبوباني، نصف العالم الآسيوي الجديد، 149.

(29) المرجع السابق، ص 180.

(30) Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, translated by Nina Kurpianova et al. (Moscow: Eurasian Movement 2012), p.156.

(31) Anwar Ibrahim, The Asian Renaissance (Malaysia: Times Books International, 1996).

(32) انظر على سبيل المثال:

Khurram Ali Shafique, Iqbal: His Life and Our Times (Lahore: Iqbal Academy, 2014), p.147; Doris Ahmad, Iqbal as I knew him (Lahore: Iqbal Academy, 2018), p. 9.

(33) H. J. Mackinder, “The Geographical Pivot of History,” The Geographical Journal, no. 4 (April 1904), p.437.

(34) John J. Mearsheimer, The Tragedy of Great Power politics (New York: W. W, Norton & Company, 2001), p.5.

(35)  نفس المرجع، ص 4.

(36)  نفس المرجع، ص 4.

(37) John J. Mearsheimer, The Tragedy of Great Power politics, (New York: W. W, Norton & Company, 2014), Chapter 10.

(38) John J. Mearsheimer, “The Gathering Storm: China’s Challenge to US Power in Asia,” The Chinese Journal of International Politics, Vol. 3, (2010), p.381-396.

(39) John Mearsheimer, “China’s Unpeaceful Rise,” Current History, (April 2006), p.161.

(40) عن “عقيدة مونرو”، راجع:

John O’Loughlin, “Monroe Doctrine,” in Dictionary of Geopolitics, 166-168.

(41) Mearsheimer, “The Gathering Storm,” p. 389.

(42)  نفس المرجع، ص 389-390.

(43)  روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا: ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير؟، ترجمة إيهاب عبد الرحيم علي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2014)، ص 270.

(44) نفس المرجع، ص 270.

(45) Mearsheimer, “The Gathering Storm,” p.392.

(46) Bethany R. Kauffman, “Motivations and Limitations in Iran-China Relations,” (Masters’ Thesis in Security Studies, Naval postgraduate School, Monterey, California, 2022), p.122-123.

(47) Mearsheimer, “The Gathering Storm,” p.392.

(48) نفس المرجع، 395.

(49) ميخائيل غورباتشوف، البيريسترويكا: تفكير جديد لبلادنا والعالم، ترجمة حمدي عبد الجوَّاد (القاهرة: دار الشروق، 1988)، ص 230.

(50) نفس المرجع، ص 234، 235، 238، على سبيل المثال لا الحصر.

(51) نفس المرجع، ص 233.

(52) نفس المرجع، ص 234.

(53) Gerald Toal, Near Abroad: Putin, the West and the Contest over Ukraine and the Caucasus (New York: Oxford University Press 2017), p. 55.

(54) نفس المرجع، ص 1.

(55) دوغين، أسس الجيوبولتيكا، ص 126.

(56) المرجع السابق، ص 129.

(57) مكارم الغمري، مؤثرات عربية إسلامية في الأدب الروسي (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1991)؛ نعمات عبد العزيز طه، “تأثير الإسلام في الأدباء الرُّوس”، (رسالة دكتوراه بجامعة الخرطوم، 2010). وقد خصص المفكر والسياسي البرتغالي برونو ماساجْ الفصل السابع من كتابه فجر أوراسيا لشرح هذا المنحى المشرقي في الهوية الروسية، ودلالاته الإستراتيجية اليوم. انظر:

Bruno Maçães, The Dawn of Eurasia: On the Trail of the New World Order (New Heaven: Yale University Press, 2018), 168-206.

(58) Zbigniew Brzezinski, “The Premature Partnership,” Foreign Affairs, Vol. 73, No. 2 (Mar. – Apr., 1994), p. 80.

(59) على سبيل المثال:

Dmitry Shlapentokh, “Dugin, Eurasianism, and Central Asia,” Communist and Post-Communist Studies 40 (2007), p.155.

(60) George Kennan, Memoirs 1950-1963 (Boston: Little, Brown and Company, 1972), p. 331.

(61) كابلان، انتقام الجغرافيا، ص 226.

(62) حسين مؤنس، ابن بطوطة ورحلاته: تحقيق ودراسة وتحليل (القاهرة: دار المعارف، 1980)، ص 22.

(63)  جمال حمدان، العالم الإسلامي المعاصر (القاهرة: عالم الكتب، 1971)، ص 19.

(64)  نفس المرجع، ص 11.

(65)  نفس المرجع، ص 6.

(66)  نفس المرجع، ص 25.

(67)  ابن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، ص 226.

(68)  حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، ص 20.

(69)  نفس المرجع، ص 20.

(70)  Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations?” Foreign Affairs (Summer 1993), 35.

(71)  حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، ص 15.

(72)  حمدان، نفس المرجع، ص 19-20.

(73)  انظر كتابيهما:

Robert D. Kaplan, Monsoon: The Indian Ocean and the Future of American Power (Random House, New York, 2010); Sebastian R. Prange, Monsoon Islam: Trade and Faith on the Medieval Malabar Coast (Cambridge: Cambridge University Press, 2018).

(74) محمد المختار الشنقيطي، “من طنجة إلى جاكرتا: وحدة المعنى والمبنى في العالم الإسلامي بين ابن بطوطة وجمال حمدان”، مجلة الثقافة الدولية، كوالالمبور، المجلد 12، العدد 1 (يوليو/تموز 2002)، 153-173.

(75) علي بن الحسن ابن عساكر، تاريخ دمشق (دمشق: دار الفكر، 1995)، ج 1، ص 192.

(76) حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، 20.

(77) ابن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، 255.

(78) نفس المرجع، ص 255.

(79)  حمدان، العالم الإسلامي المعاصر، ص 42-43.

(80)  توجد ثمانية مضايق أخرى، لكنها ليست بأهمية المضايق التي تحدثنا عنها هنا. عن مجموع المضايق الستة عشر، راجع:

Patrick O’Sullivan, “Chokepoints,” in O’loughlin, Dictionary of Geopolitics, p.41.

(81) صامويل هنتنغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب (بغداد: سطور، 1999)، ص 221.

(82) نفس المرجع، ص 289.

(83) نفس المرجع، ص 289.

(84) عن مفهوم “الحزام المتصدع” في الجغرافيا السياسية، راجع:

Kelly, Classical Geopolitics, 185.

(85)  عن مفهوم “منطقة التنازع” عند ماهان، راجع:

  1. Mahan. The Problem of Asia and It’s Effects upon International Policies (Boston: Little, Brown and Company 1900), p. 21-22.

(86) H. J. Mackinder, “The Geographical Pivot of History,” p. 312.

(87) تناول ديميتري كيتسيكس مفهوم “المنطقة الوسطى” في عملين له باللغة الفرنسية، هما كتابه: الدولة العثمانية، ومقاله: “رؤية جيوبوليتيكية: المنطقة الوسطى” بمجلة العلاقات الدولية، انظر:

Dimitri Kitsikis, L’Empire Ottoman (Paris: Presse Universitaire de France, 1985), p.14-18; Dimitri Kitsikis, “Une Vision Géopolitique: la Région Intermédiaire,” Relations Internationales, N°109 (2002/1), p.99-116.

(88) تناول بريجنسكي هذا المفهوم في أكثر من عمل من أعماله. انظر على سبيل المثال، لا الحصر:

Zbigniew Brzezinski, The Grand Chessboard: American Primacy and Its Geostrategic Imperatives (New York: Basic Books, 1998), p.123-147; Zbigniew Brzezinski, “Hegemonic Quicksand,” The National Interest (Winter 2003/04), p. 5-16.

(89)  هنتنغتون، صدام الحضارات، 413.

(90)  دوغين، أسس الجيوبولتيكا، ص 129. وللاطلاع على رؤية نقدية لأفكار بوتين عن الحلف السلافي-التركي، راجع:

Shlapentokh, “Dugin, Eurasianism, and Central Asia,” p.143-156.

(91) James Fairgrieve, Geography and World Power (London: University of London Press, 1927), p. 329.

(92)  عبد المنعم سعيد، الجماعة الأوروبية: تجربة التكامل والوحدة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1986)، ص 16.

(93)  عبد الرحمن الكواكبي، أم القرى (بيروت: دار الرائد العربي، 1982)، ص 237.

(94)  انظر: عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية (دمشق: مؤسسة الرسالة ناشرون، دون تاريخ)، ص 340.

(95) مالك بن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، ترجمة الطيب الشريف (دمشق: دار الفكر، 2000)، ص 15.

(96)  هكذا ورد في تعريف المنظمة بنفسها، على موقعها الإلكتروني، عبر هذا الرابط الذي روجع يوم 18 أبريل/نيسان 2023:

https://www.oic-oci.org/page/?p_id=56&p_ref=26&lan=ar

(97) ابن خلدون، المقدمة، وهي الجزء الأول من تاريخه: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر (بيروت: دار الفكر، 1988)، ج1، ص 162.

(98)  مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، ص 126.

(99)  ابن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، ص 70.

(100)  نفس المرجع، ص 71.

(101)  ابن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، ص 126.

(102)  انظر: مالك بن نبي، القضايا الكبرى (دمشق: دار الفكر، 2000)، ص 46.

(103)  مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية، ص 255.

(104)  نفس المرجع، ص 255.

(105)  ابن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 182.

(106)  نفس المرجع، ص 183.

(107)  نفس المرجع، ص 13 من تقديم محمد المبارك.

(108)  هنتنغتون، صدام الحضارات، ص 254.

(109)  نفس المرجع، ص 255.

(110)  نفس المرجع، ص 254.

(111)  نفس المرجع، ص 291.

(112) Mohamed El-Moctar El-Shinqiti, “Defensive Jihad: Islamization of the Turks and the Turkification of Islam.” İnönü University International Journal of Social Sciences, Turkey, (June 2017), p.1-21.

(113) عن مثلث القوة الأوروبي وتوازناته التقليدية، انظر: حمدان، إستراتيجية الاستعمار والتحرير، ص 147.