ملخص: تبحث الدراسة إشكالية العلاقة بين التحديات التي تفرضها آثار نازلة كورونا “كوفيد-19” واستجابات المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الإقليمية والدولية. وتهدف للتعامل علميًّا معها عبر الإجابة على أسئلة من قبيل: كيف أثَّرت أزمة كورونا على هذه المبادئ المؤسِّسة للمنظمات الإقليمية؟ وكيف استجابت بدورها؟ وإلى أي مدى وفي أي اتجاه كان هذا التأثير والاستجابة؟ وما أسباب هذا التأثير والاستجابة؟ وما طبيعة واتجاه أدوارهما في وجودها ومدى فعاليتها المستقبلية؟
كلمات مفتاحية: كوفيد-19، المبادئ المُؤَسِّسَة، المنظمات الإقليمية والدولية، التضامن الدولي، التعاون الإقليمي، الاعتماد المتبادل.
Abstract: The research problem address the relationship between the challenges of Covid-19 impacts and the responses of the Institutional Principles of Regional and International Organizations. The research aims to answer the following questions: How did Covid-19 affect these principles? To what extent did it affect them and in which way? Why did it have such impact? What role does affect play and what are the potential future consequences?
Keywords: Covid-19, Institutional Principles, Regional and International Organizations, ‘International Solidarity’, ‘Regional Co-operation’, ‘Interdependence’.
مقدمة
تُعدُّ نازلة كورونا من أخطر النوازل والكوارث الشاملة التي تواجه الإنسانية في القرن الحالي، وتمثِّل دراسة آثارها وانعكاساتها على المنظمات الدولية والإقليمية أحد أهم أولويات القضايا على أجندة البحث في الجامعات ومراكز التفكير والدراسات، وأجهزة صنع القرار واتخاذه، ويتمثَّل إسهام هذا البحث في محاولة تقديم “إضافة نوعية” متواضعة على المستويين المنهجي والمعرفي للجهود البحثية الضخمة انطلاقًا من تناول القضية بالدراسة عبر النقاط الأربعة التالية:
أولًا: مسلَّمة الدراسة وفرضيتها: تنطلق الدراسة من مسلَّمة أساسية مفادها أن نشأة المنظمات الدولية والإقليمية جاءت في سياق أزمات وحروب عالمية كبرى، كاستجابة وتجسيدًا لمجموعة من “الدعوات” و”المبادئ المُؤَسِّسَة” التي استهدفت منع تكرار وقوع “حروب جديدة”، و”تحقيق السلم والأمن الدوليين” و”تعزيز التعاون والتضامن الدولي والإقليمي” في مواجهة النوازل والكوارث الإنسانية، ولنتذكَّر مبادئ وودرو ويلسون (Woodrow Wilson) الأربعة عشر، وما تتضمنه إعلانات ومواثيق المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة في هذا الصدد(1).
وتحاول الدراسة اختبار فرضية مفادها أن التزام المنظمات الدولية والإقليمية -ولو نسبيًّا- بتطبيق مبادئها المُؤَسِّسَة أدى إلى عدم وقوع حروب عالمية جديدة: أي تحقيق السلْم والأمن الدوليين ولو جزئيًّا، هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر فإن الفشل النسبي في تطبيق المبادئ المُؤَسِّسَة الخاصة بالتضامن الدولي والتعاون الإقليمي كان من الأسباب الأساسية وراء انتشار النوازل والكوارث الإنسانية، مثل نازلة كورونا في أوضاعنا الراهنة.
ثانيًا: التساؤلات الأساسية للدراسة: تسعى الدراسة للتأكد من مدى صحة الفرضية السابقة عبر الإجابة على تساؤلين أساسين: أولهما ذو طبيعة وصفية وتحليلية؛ يدور حول المدى الذي “كشفت” فيه الأزمة عن فشل المبادئ المُؤَسِّسَة لنظام “التعاون والتضامن العالمي” والمنوط تحقيقه بالمنظمات الدولية والإقليمية، بينما التساؤل الثاني ذو الطبيعة التفسيرية والمستقبلية يدور حول تفسير أسباب الفشل: إلى أي مدى تعود الأزمة إلى “الفجوة” الموجودة بين “المبادئ المُؤَسِّسَة”، و”الممارسات الواقعية” للمنظمات الدولية والإقليمية؛ حيث تكون الأولى مجرد “غطاء أيديولوجي” للثانية(2)، أو أن هذا الفشل يرجع إلى طبيعة المبادئ المُؤَسِّسَة باعتبارها تتضمن في سياق نشأتها واستمراريتها، وبنيتها وتكوينها الداخلي، ما يخلق ذلك ويؤدي إليه؛ إذ يذهب البعض إلى أن المبادئ المُؤَسِّسَة التي قامت عليها المنظمات الدولية والإقليمية تُعَدُّ -كما سنرى- امتدادًا لمنطق الوفاق الأوروبي (Concert of Europe)، والذي قام على أساسه “نظام فيينا” (Vienna System) بحمولته التاريخية ومنظومته القيمية الكلية المضمَّنة(3)؟ وإلى أي مدى يؤثر ذلك على مستقبل المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية؟
ثالثًا: منهجية الدراسة ومصادرها: يترتب على ما سبق تحديد الاختيار المنهجي للدراسة في إطار الاتجاهات الثلاث السائدة في علم العلاقات الدولية بصدد دراسة النوازل والأزمات(4)، وهي: أ) الواقعيون (Realists): الذين يؤكدون على التوزيع العادل للقوة، والمصالح الذاتية للدول. ب) الليبراليون (Liberals): الذين يركزون على قدرة المنظمات الدولية على التخفيف من آثار الفوضى الدولية التي يؤكد عليها الواقعيون ولمساعدة “الدول” على تحقيق أهدافها. ج) البنائيون (Constructors): الذين يؤكدون على أهمية الهويات الجماعية العابرة للحدود التي تتشكَّل منها القضايا المشتركة.
ويتمثَّل الاختيار المنهجي الأساس للدراسة في الاتجاه الثاني (الليبرالي)، أي التركيز على مدى قدرة المنظمات على التخفيف من آثار النوازل، ومساعدة الدول والمجتمعات في كيفية التعامل معها، مع اعتبار أن الاتجاه الأول (الواقعي) يمثِّل “تهديدًا” يضع حدودًا على الاختيار، وأن الاتجاه الثالث (البنائي) يمنح فرصًا وبدائل أمامه، هذا من جانب، ومن جانب آخر تتبع الدراسة الخطوات العلمية الخمسة المعروفة منهجيًّا في تناول موضوعها(5)، وهي: التوصيف، والتحليل، والتفسير، والتنبؤ ورسم السيناريوهات المستقبلية، والتعامل معها ضبطًا وتحكمًا، كما تتعامل مع المصادر الأساسية المتمثلة في الوثائق التأسيسية للمنظمات الدولية والإقليمية وممارساتها إزاء النازلة، و”البيانات” و”الخطاب السياسي والإعلامي والأكاديمي” حولها.
رابعًا: تقسيم الدراسة: تسعى الدراسة انطلاقًا من التساؤلين السابقين لمقاربة قضيتها البحثية عبر الإجابة على سؤالين، الأول: سؤال المنهج ويضع الضوابط المنهجية لدراسة القضية علميًّا وبحثيًّا، ويقدم مراجعة نقدية للخطاب السائد معرفيًّا حول كيفية الدراسة، والثاني: سؤال الموضوع الذي يبحث “آثار” النازلة على “المبادئ المُؤَسِّسَة” للمنظمات الدولية والإقليمية التي قامت عليها، ومنحتها المشروعية القانونية والشرعية السياسية.
- سؤال المنهج: كيفية دراسة آثار نازلة كورونا على المنظمات الدولية والإقليمية
تُحدِّد الإجابة على سؤال المنهج “الأبعاد الغائبة” في بحث موضوع “آثار نازلة كورونا وانعكاساتها على المنظمات الدولية والإقليمية”؛ إذ تتمثَّل في مجموعة من الضوابط “المنهجية” و”المعرفية” المحددة لكيفية دراسة الموضوع علميًّا.
أولًا: الضوابط المنهجية لكيفية دراسة آثار نازلة كورونا
تنبع الضوابط المنهجية من فهم طبيعة موضوع الدراسة ذاته، ويقود اتباعها لجعل نتائجها موضع ثقة ومصداقية علمية، وتتمحور حول طبيعة النازلة وآثارها كما يلي:
أ- صعوبة دراسة آثار النازلة علميًّا
تُعَدُّ “دراسات الأثر” (The effect studies)، وفقًا لمنهجية البحث العلمي، من الدراسات “الصعبة” أو “المستحيلة”، والتي عادةً ما يُنْصَح بعدم القيام بها إلا في ظل ضوابط منهجية ومعرفية محددة وصارمة، وذلك لسببين، أولًا: عدم الثقة في النتائج التي يتم التوصل إليها، وثانيًا: عدم القدرة على إثباتها عبر تقديم الأدلة والبراهين عليها. وينتمي موضوع البحث لهذه النوعية من الدراسات؛ إذ يبحث في تأثير العامل “المستقل” (Independent Variable) (آثار نازلة كورونا) على “العامل التابع” (Dependent Variable)، أي “المبادئ المؤسِّسة للمنظمات الدولية والإقليمية”؛ حيث يتخذ بحث العلاقة أحد صور ثلاثة(6):
الأولى: العلاقة السببية المباشرة (Causal Relationship)، بحيث تكون آثار نازلة كورونا المباشرة وغير المباشرة هي “السبب” الذي يخلق “تغييرات” محددة في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية. والثانية: العلاقة التوافقية (Correlation Relationship) وتعني أن آثار نازلة كورونا، والتغيرات في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية، توجدان وتختفيان معًا دون إمكانية إثبات علاقة بينهما. والثالثة: علاقة الاعتماد المتبادل (Interdependence Relationship)، أي تتوقف التغيرات في المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية وتعتمد على الآثار التي تُحدثها نازلة كورونا.
يمكن القول إذن: إن ثمة اتفاقًا بين الباحثين على صعوبة إثبات وجود العلاقة أو إرجاع “التغيرات” في العامل التابع المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية إلى العامل المستقل (آثار نازلة كورونا)، فهي مستحيلة في (الصورة الأولى)، ولا معنى لها في (الصورة الثانية)، وبالغة الصعوبة في (الصورة الثالثة) إلى درجة تصل إلى حد الاستحالة.
ب- كيفية دراسة الآثار النابعة من طبيعة الظاهرة “المربع الاستراتيجي” للنازلة
تُعَدُّ نازلة كورونا ظاهرة مُرَكَّبة في جوهرها تمتلك أبعادًا استراتيجية أربعًا لازمة لوجود وبقاء المجتمعات والدول، ويجب فهمها وتحليلها من خلال هذا “المربع الاستراتيجي” الذي يتضمن الأبعاد: الصحية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية. فالنازلة وإن بدأت نازلة صحية إلا أنها سرعان ما انتقلت تأثيراتها إلى الأبعاد الاقتصادية، ثم الأبعاد السياسية، لتصبح إشكالية مجتمعية شاملة عالمية، وفي الوقت ذاته تمتلك النازلة أبعادًا إقليمية ومحلية تختلف من منطقة ودولة لأخرى، والإشكالية أن “العدو/الفيروس” العامل المحوري في بناء الاستراتيجية ما زالت حقيقته خافية، وأساليب التعامل معه غير واضحة للجميع. لقد شهدت البشرية “تاريخيًّا” نوازل صحية مشابهة، إلا أن هذه النازلة تتمتع بقدر من التفرد والخصوصية في سياقها مما يجعل من عملية بناء “نموذج تاريخي” كأداة للمقارنة والقياس أمرًا موضع شك حتى الآن، مما يتطلب وضع ضوابط منهجية لكيفية التعامل العلمي، وعلى الجانب الآخر تتطلب دراسة “نازلة كورونا” فهم طبيعة آثارها؛ إذ هي أولًا: من الظواهر الدينامية المتغيرة وغير الثابتة، وثانيًا: من الظواهر الرجراجة التي تتسم بدرجة عالية من السيولة (Liquidity)، وثالثًا: من الظواهر غير المكتملة (Unfinished Business). وتضع السمات الثلاث لآثار النازلة ضوابط منهجية صارمة على كيفية دراستها علميًّا: توصيفًا وتحليلًا وتفسيرًا وصولًا إلى التنبؤ باتجاهات المستقبل ومن ثم بصدد كيفية التعامل معها ضبطًا وتحكمًا، كما أسلفنا.
ثانيًا: كيفية دراسة الخطاب السائد بصدد آثار نازلة كورونا “المثلث المعرفي”
يدور الخطاب السائد بصدد آثار نازلة كورونا حول ثلاثة أضلاع مترابطة تُعَدُّ بمنزلة “المثلث المعرفي” المطلوب فهمه وتحليله نقديًّا، ومن ثم وضع الضوابط “المعرفية” لكيفية التعامل معه، فوفقًا لهذا الخطاب السائد، أولًا: تمثِّل آثار نازلة كورونا تعبيرًا عن نقطة “تحوُّل تاريخية فاصلة” (Point Historical Turning) في مسار تاريخ العلاقات الدولية، مثل بقية الأحداث التاريخية الكبرى كالحروب العالمية، والثورات، والكوارث، وثانيًا: تضع آثار النازلة النهايات المختلفة (The ends) لأوضاع ومنظمات معينة قائمة وبالتالي سيكون للنازلة ثالثًا “الما بعديات” (The Post). ونفصل هذه الأضلاع المعرفية الثلاثة فيما يلي:
أ- النازلة نقطة تحوُّل تاريخي فارقة
يُعَدُّ وصف “نازلة كورونا الحالية” بنقطة التحول التاريخية أحد أهم أضلاع المثلث المعرفي لفهم هذا الخطاب السائد حاليًّا، لكن مراجعة الدراسات السابقة ذات دلالة، فلو رجعنا للتاريخ القريب سنجد خطابًا سائدًا مماثلًا، فقبل عقدين من الزمن كانت “أحداث سبتمبر/أيلول 2001″، وما تلاها من إعلان الحرب على الإرهاب وغزو أفغانستان والعراق، في نظر من كتبوا عنها نقطة تحوُّل تاريخية عالمية يمكن أن تشكِّل بداية انهيار الإمبراطورية الأميركية(7)، ليتكرر الأمر ذاته قبل عقد من الزمان عندما كتبنا عن ظاهرة “الثورات العربية” كنقطة تحوُّل تاريخية إقليمية قبل توالي الانقلابات والثورات المضادة(8).
يفرض ذلك على الباحث الجاد التوقف أمام الأحداث الكبرى مُتَأَمِّلًا في منهجية استدعائها التي قد تتشابه شكليًّا لكن تختلف موضوعيًّا فتكون المقارنة مُضَلِّلَة إن لم يتم بناء “النموذج التاريخي” أداة للمقارنة المنهجية المنضبطة(9)، وأن يدرك أيضًا ضرورة وجود ضوابط علمية محددة لاعتبار النازلة نقطة تحوُّل تاريخية تضع النهاية لأوضاع معينة، وتشكِّل قطيعة بنيوية ومعرفية مع الواقع القائم، وبالتالي لها “ما بعدها”، ولعل أهم هذه الضوابط أن تقود نقطة التحوُّل التاريخي الحقيقية حسب طبيعتها ولو تدريجيًّا إلى تغيير البنية السياسية والاقتصادية المجتمعية والدولية، رغم صعوبة إثبات وجود علاقة سببية مباشرة بين نقطة التحوُّل التاريخي وحدوث تغيير بنيوي ومعرفي داخل العلاقة المجتمعية والدولية(10).
لقد قدمت دراسات تاريخ العلاقات الدولية أكثر النماذج اقترابًا من الاكتمال من مقولة: “نقطة التحول التاريخي”، وهي ظواهر “الحروب” و”الثورات”، ومنها “الحرب الأميركية” والحربان العالميتان، الأولى والثانية، والثورات الفرنسية، والسوفيتية، والإيرانية. والملاحظة الجديرة بالاعتبار أن هذه الأحداث التاريخية الكبرى استغرق بعضها فترات زمنية طويلة لكي يفرز آثاره، ومن ثم يمثِّل نقطة التحوُّل التاريخي، البعض منها استغرق أجيالًا كاملة، وبالتالي يجب على الباحثين الجادين التواضع قليلًا والتساؤل عن الكيفية والمدى اللذين يمكن أن تؤثر بهما نازلة كورونا على المبادئ المؤسِّسة للمنظمات الدولية والإقليمية وفي ضوء وجود ضوابط منهجية ومعرفية محددة.
ب- النازلة تضع “النهايات”
يتداول الخطاب السائد مقولة: “النهايات”؛ بمعنى أن النازلة ستضع النهاية للكثير من الأوضاع المستقرة، ويذهب البعض إلى أن آثار أزمة كورونا ستضع “النهاية” للنظام الدولي القائم عبر تغييرات هيكلية في بنيته وقواه الأساسية وقواعده المختلفة…إلخ.
وتُعَدُّ مراجعة الدراسات السابقة مجددًا بهذا الصدد ذات دلالة؛ إذ قبل ثلاثة عقود من الزمان شهد الخطاب السائد نفس الجدل حول عدد من “النهايات”؛ ولنتذكَّر الجدل الذي أثارته كتابات المستشرق المخضرم، برنارد لويس (Bernard Lewis)، صاحب الصلات الوثيقة بدوائر صنع القرار الأميركي والصهيوني حول مستقبل المنطقة العربية والإسلامية وشرق الأوسطية وتقسيم خرائطها(11). ولنتذكَّر في نفس السياق كتابات صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) حول صدام الحضارات وصراعها واستجابات جامعاتنا ومفكرينا حولها برفع رايات حوار وتواصل وتلاقح الحضارات(12)؛ تلك الموجة التي سادت الخطاب والواقع في نهاية التسعينات من القرن الماضي، دون أن ننسى أيضًا الخطاب السائد عن “النهايات” والغوغائي أحيانًا في أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية وانهيار حائط برلين الشهير والجدل حول “نهاية التاريخ” ذاته والتبشير بالانتصار النهائي للرأسمالية والديمقراطية والليبرالية الغربية(13).
تساؤل الدراسة، ونحن إزاء فترة ليست بعيدة بمقاييس التاريخ في حياة الأمم والشعوب، إلى أي مدى تُعَدُّ الكتابات أضغاثَ أحلامٍ أو سرابًا يحسبه الظمآن ماء؟ وهل يكرر خطابنا السائد حاليًّا بشأن نازلة كورونا ذات الجدل البيزنطي والحوار البابلي مجددًا؟
ج- النازلة والمابعديات
تسود مقولة: “ما بعد نازلة كورونا” في الخطاب السياسي والإعلامي إقليميًّا وعالميًّا، ولم تبتعد عن ذلك الإصدارات الرصينة، مثل مجلة “الإيكونوميست”، ومجلات أخرى ترى أن “الجميع اتفق على أن عالم ما بعد جائحة كوفيد-19 لن يكون كما كان قبلها”(14) مؤكدة سياق الخطاب “السائد” بأن المسألة محل “اتفاق”، و”موضع” إجماع، أي إن عالم “ما بعد كورونا” لن يكون مثل ما كان قبلها.
تقطع هكذا غالبية الدراسات بالأمر بـ”ثقة”، وقدرة على “التنبؤ” ورسم السيناريوهات المستقبلية، أليس من المنطقي -إذا انطلقنا من صحة ما سبق- أن نؤكد على التحليل القائل بأنه “ألم يكن من الأجدى بهؤلاء القائلين بـ”المابعديات” التنبؤ العلمي بهذه النازلة “الأزمة” قبل وقوعها لكي نتفاداها؛ وبذلك نتجنب “المعاناة” من آثارها بداية”(15) بدلًا من التأكيد “الواثق” وبمنطق “الإجماع” على رسم السيناريوهات المابعدية بعد وقوع النازلة، والمعاناة من آثارها؟
وهكذا، يمكننا أن نخلص إلى إمكانية الدراسة العلمية لآثار نازلة كورونا على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية في ضوء هذين المستويين من الضوابط: المستوى الأول: وهو الضوابط المنهجية التي تتعلق بضرورة فهم طبيعة الظاهرة موضع الدراسة “ظاهرة آثار نازلة كورونا”، وضوابط دراسة الأثر على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية، والمستوى الثاني من الضوابط المعرفية التي تتعلق بفهم مرتكزات الخطاب المعرفي حول الظاهرة باعتبارها نقطة تحوُّل تاريخي يضع النهايات لأوضاع قائمة في بنية النظام الدولي وأنه سيكون لها ما بعدها؛ وبالتالي وضع هذا الحادث موضع المقارنة مع أحداث تم التعامل معها بنفس منطق الخطاب لكي تتم الاستفادة منه في التعامل مجددًا قبل أن ننتقل إلى تقديم مساهمة الدراسة في موضوع دراسة الظاهرة.
- سؤال الموضوع: آثار النازلة على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية
يأتي تناول كيفية تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مع آثار النازلة إجابة على سؤال الموضوع عبر مستويين، الأول: يفرضه الإطار العلمي كما أسلفنا توصيفًا للنازلة كظاهرة مركَّبة و”مربع استراتيجي” يمتلك أبعادًا أربعة متكاملة(16) تشمل : أ): النواحي الصحية، ب) الاقتصادية، ج) السياسية، د) المجتمعية، وتتعامل معه “المنظمات الدولية والإقليمية” وفقًا لرؤيتها ومبادئها المؤسسة، ومجال اختصاصاتها، والمستوى الثاني: تفسير آثار النازلة على المبادئ المؤسسة للمنظمات الدولية والإقليمية، وتحديدًا على قدرتها المستقبلية للتعامل مع هذه الآثار.
المستوى الأول: كيفية تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مع آثار نازلة كورونا: توصيف وتحليل
جاء تأسيس “المنظمات الدولية الحديثة”، مثل الأمم المتحدة، استنادًا للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية في 12 أبريل/نيسان 1944، كمنظمة صاحبة إرادة مستقلة عن الدول الأعضاء، والتي قامت على أنقاض عصبة الأمم التي تأسست بعد الحرب العالمية الأولى بهدف الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، غير أن المنظمات الإقليمية العامة والمتخصصة والمعنية بالتعامل مع الكوارث والنوازل كانت الأسبق وجودًا، نتناولها فيما يلي:
- منظمة الصحة العالمية: تقوم المنظمة بأدوار دولية في مواجهة الأزمات الصحية، والكوارث والأوبئة العالمية؛ إذ تتحدد مسؤوليتها في إعلان وتحديد مستوى الأزمات، وتصنيفها حسب درجة انتشارها، وتقديم التنسيق والدعم الفني وتحديد أنواع التدابير المشتركة التي ينبغي اتخاذها من طرف الدول مجتمعة، ومراقبة وتقييم الوضع باستمرار، وتقديم المساعدة للدول الفقيرة، وتنسيق جهود البحث عن حلول صحية. وقد قدَّمت منظمة الصحة العالمية في التعامل مع نازلة كورونا نموذجًا واضحًا للفشل؛ كان له تداعياته العالمية؛ الأمر الذي سمح للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، باستغلالها سياسيًّا بداية من تجميد الولايات المتحدة الأميركية لمساهمتها المالية في الميزانية انتقالًا للانسحاب واتهامها بالتقصير والانحياز(17).
- منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية: تُعَدُّ هذه المنظمة أكبر تجمع دولي للدول المانحة التي تتمتع بقدرات خاصة تؤهلها لتقديم المساعدات، وتحقيق التعاون والتضامن الدولي، ومن هذه القدرات: الأنظمة الصحية المتطورة، والموارد المالية الكبيرة، والمراكز البحثية المرموقة، والإمكانيات اللوجستية الهائلة، والموارد البشرية الهائلة، والقدرات الأمنية العالية…إلخ، والواقع أنه رغم توافر كل هذه الأمور -بدرجات متفاوتة- لدى هذه الدولة المانحة، فإن نازلة كورونا لم تحقق التعاون والتضامن الدولي بين هذه “الدول المانحة” ذاتها، والتي تُعَدُّ “النواة الصلبة” للمنظمة؛ فانعكس فشلها على فشل المنظمة ككل(18).
- منظمات المجتمع المدني العالمي: يشمل هذا القطاع شبكة واسعة من المنظمات والجمعيات الناشطة على المستويين، الدولي والإقليمي، وعادة ما تكون مسجَّلة بالأمم المتحدة، وتعود نشأة بعضها إلى عقود طويلة قبل نشأة المنظمات الدولية الحكومية الرسمية، وغالبها يُعَدُّ أكثر فعالية وكفاءة في مواجهة الكوارث والنوازل الإنسانية مقارنة بالدولية والحكومية رغم ضعف مواردها المالية والبشرية. والواقع أنه لا تتوافر لدينا معلومات كافية عن الأدوار التي قامت بها منظمات، مثل: الصليب الأحمر الدولية، أو الهلال الأحمر الدولي، أو الأوكسفام، في التعامل مع هذه النازلة؛ ونرى أن هذه المنظمات هي المؤهلة مستقبلًا للقيام بنفس الوظيفة، والأدوار في تحقيق “التضامن” و”التعاون الدولي” و”تعزيز قدرة” الدول الفقيرة على حماية وإنقاذ حياة رعاياها(19).
- الاتحاد الأوروبي: يُعَدُّ الاتحاد الأوروبي منظمة إقليمية فعالة؛ لها دستور يحمي “الحركة” و”الانتقال” بين الدول الأعضاء، ويمتلك الاتحاد عملة موحدة، وكذلك بنكًا، وعلمًا ورئاسة واحدة…إلخ، ومع وجود هذا الأساس القوي فإن التعامل مع “آثار نازلة كورونا” جرى بشكل أحادي؛ حيث تصرفت كل دولة بمفردها، وغاب عن ممارستها واعتبارها وجود “المبادئ الأساسية” حول برامج “التعاون” و”التضامن” الجماعي لمصلحة السياسات القُطرية لكل دولة من دول الاتحاد(20).
- منظمة التعاون الإسلامي: وهي منظمة إقليمية تضم مجموعة واسعة من الدول الأعضاء الذين تتباين مستوياتهم الاقتصادية؛ وغالبًا ما يشتركون في الانتماء إلى “الهوية” الإسلامية ودون اشتراط ذلك، ورغم أن هذه المنظمة تمتلك بنكًا في جدة “بنك التنمية الإسلامي” كان من الممكن أن يقوم بدور تضامني وتقديم مساعدات على مستوى الدول الأعضاء (مثل دور البنك أو صندوق النقد الدولي)، لم توجه منظمة التعاون الإسلامي أية دعوة للتضامن أو التعاون بين أعضائها لمواجهة آثار النازلة، وطغت الخلافات السياسية، ووجدنا بعض المساعدات من بعض الدول للبعض الآخر دون أن يكون للمنظمة أية أدوار حقيقية في مواجهة نازلة كورونا(21).
6. المنظمات الإقليمية العربية: جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي
تُعَدُّ المنظمات الإقليمية العربية من أضعف المنظمات الإقليمية في مواجهة النوازل والكوارث، وقد اتضح ذلك جليًّا في نازلة كورونا؛ حيث كان ما يجمع بينهما هو “ضعف التعاون والتضامن الصحي والاقتصادي”، وانعدام أية برامج لتبادل الخبرات والإدارة المشتركة. فقد غابت الجامعة العربية تمامًا عن أي تحرك على كل المستويات، وتركت كل “دولة” تُدِير أمورها اعتمادًا على ذاتها؛ وظلت دول عربية فقيرة، مثل: الصومال، وجزر القمر، وجيبوتي، والسودان، تكافح آثار نازلة كورونا بإمكانياتها الضئيلة والمتواضعة، وتجد بعض الدعم من خارج “جامعة الدول العربية”، وذلك من دول، مثل: الصين، وتركيا، ودول الاتحاد الأوروبي.
لم تكن “المنظمات الإقليمية” السابقة عند المقارنة أفضل حالًا من مثيلاتها “المنظمات الدولية”؛ فالأولى سواء “المنظمات الإقليمية” المتماسكة النشطة “الاتحاد الأوروبي”؛ أو العاجزة الخاملة كـ”منظمة التعاون الإسلامي”، تفاجأت بالنازلة ولم تتحسَّب لها قبل وقوعها، كما أنها لم تقم بإدارتها وتركت معالجة آثارها المختلفة للدول الأعضاء التي تصرفت بشكل “أحادي” تمامًا وفق منطق تغلب عليه “الأنانية” و”إغلاق الحدود”.
وقد كشفت النازلة عن فشل المنظمات الدولية والإقليمية في القيام بأدوارها الأساسية المتوقعة في مثل هذه النوازل؛ التحذير منها بداية، والتنسيق فيما بينها في مواجهتها والحد من آثارها على المستوى العالمي حتى الآن، كما كشف التعامل مع آثار النازلة “الضعف” و”البيروقراطية” الداخلية في “المنظمات الدولية” و”الإقليمية”؛ إذ لم تستطع المنظمات القيام بالحدود الدنيا من أدوارها الأساسية مما أثار التساؤلات حول جدوى (الوجود) ذاته وفائدته، وهكذا.
وتضع آثار النازلة العالم في تعامله مع المنظمات الإقليمية والدولية أمام أحد خيارين، الأول: استغلال آثار النازلة لتطوير مؤسسات النظام الدولي والإقليمي باتجاه “التعاون” و”الرفاه” و”تبادل المصالح”. والثاني: استغلال النازلة لتعزيز أنماط القوة، والقيادة والسيطرة داخل هذه المنظمات ولو بالقوة؛ الأمر الذي يرتبط بالسيناريوهات المستقبلية التي ستتخذها المنظمات الدولية والإقليمية، ويذهب البعض إلى أن أمامها ثلاثة سيناريوهات:
– الأول: “الاحتواء” لآثار النازلة بشكل سريع وتداعيات محددة.
– الثاني: “التعايش” مع آثار النازلة وتداعياتها الخطرة.
– الثالث: “الفوضى” والفشل في احتواء آثار النازلة وبالتالي خروجها عن حدود التحكم.
غير أن الانطلاق إلى إجابة سؤال المستقبل وسيناريوهاته لابد أن يسبقه ضرورة طرح السؤال التفسيري: لماذا فشلت المنظمات الدولية والإقليمية في التعامل مع آثار النازلة التي تقع في صلب رؤيتها، ومبادئها المؤسِّسة؟ وبالتالي يمكن الحديث عن السيناريوهات المستقبلية للتعامل مع النازلة والنوازل القادمة المشابهة.
المستوى الثاني: كيفية تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مستقبليًّا مع آثار نازلة كورونا
لم يكن الفشل الذي بدا واضحًا في تعامل المنظمات الدولية والإقليمية مع آثار “نازلة كورونا” بمنزلة دلالة على عدم قيامها بأدوارها المطلوبة ووظائفها المنوطة بها فقط؛ فقد يكون ذلك عَرَضًا للمرض الأصلي الذي تعانيه وليس حقيقته، والذي تتمثَّل أسبابه المحورية وفقًا للبعض في “غياب” رسالتها، وعدم وضوح رؤيتها، وعدم الالتزام بالمبادئ المُؤَسِّسَة التي قامت عليها، ومعها اكتسبت أساس وجودها ومشروعيتها القانونية، وشرعيتها الفعلية السياسية. لقد نشأت المنظمات “الدولية” و”الإقليمية” تعبيرًا نظاميًّا يجسد عالمًا من “الأفكار” و”المبادئ” المُؤَسِّسَة المعروفة على المستوى الدولي من حماية السلم والأمن الدوليين إلى تحقيق التعاون والتضامن الجماعي والدولي…إلخ، وعلى المستوى الإقليمي من السعي نحو “تحقيق الوحدة الأوروبية” بكل المراحل التي مرّت بها؛ إلى تحقيق التعاون العربي والوحدة العربية؛ ناهيك عن “التضامن الإسلامي”، دون الحديث عن التعاون الخليجي.
قدَّمت المبادئ المُؤَسِّسَة بداية “المشروعية القانونية” لميلاد المنظمات الدولية والإقليمية، ومع تكرار الفشل في مواجهة النوازل المتتالية، فإن الكثير من هذه المبادئ المُؤَسِّسَة بدأ يفقد شرعيته السياسية والأخلاقية وفعاليته وفي الوقت نفسه بدأت المنظمات الدولية والإقليمية تعاني من فقدان الدور والهوية وتغلغل البيروقراطية والفساد الإداري والمالي.
وهكذا، بدا أن الوَهَج الذي رافق عمليات الإنشاء يخفت وينطفئ، والأماني والآمال التي رافقت التأسيس ورعت عمليات التطور والازدهار تستنفد أغراضها، وبالتالي تتحول إلى زخرف من “القول” و”ركام” من الأفكار الميتة والمميتة بتعبير المفكر مالك بن نبي، في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، فقد تحولت المبادئ إلى نقائضها، وتحولت مجالس التعاون والتضامن إلى أدوات حصار وعدوان.
التساؤل: هل نحن بصدد اختفاء هذه المبادئ انتظارًا لبروز وميلاد مبادئ مُؤَسِّسَة جديدة؟ يقول بذلك فريق من الباحثين بيد أن ثمة فريقًا آخر يرى أن الأمر لا يتعلق بدورة حياة هذه “الأفكار والمبادئ المُؤَسِّسَة” ووصولها إلى نهايتها، لكن يذهبون إلى أن هذه المنظمات الدولية والإقليمية منذ البداية تستبطن في جوهرها نقيض الفكرة، وبالتالي لم تصمد أمام النوازل. ويظل هذا الجدل التفسيري قائمًا، وهو ما سنلقي عليه الأضواء وصولًا لنوع من التفسير للظاهرة، وبالتالي سنعرض الاتجاهين ونتائجهما.
ماهية “المبادئ المُؤَسِّسَة“ للمنظمات الدولية والإقليمية الحديثة
تتمثَّل المبادئ المُؤَسِّسَة في مبدأين أساسين، الأول: تحقيق السلم والأمن الدوليين المنوط بالأمم المتحدة “وتحديدًا مجلس الأمن” عبر منع نشوب حرب عالمية جديدة بالمعايير التقليدية للحربين، الأولى والثانية، والمبدأ الثاني: تحقيق التعاون والتضامن الدوليين في مواجهة النوازل والكوارث عبر المنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة كما سيأتي.
أ- ماهية “نظام التعاون والتضامن الدولي” و”الإقليمي”
يعود نظام التعاون والتضامن الدولي الحالي بجذوره إلى فترة الحرب العالمية الثانية، 1945، وقد تأسَّس هذا النظام لكي تقوم الدول الداعمة “الغنية” بدعم الدول الفقيرة المحتاجة؛ وذلك ليس فقط لمواجهة النوازل والكوارث التي تحدث فجأة وعلى سبيل الاستثناء، ولكن من أجل تحقيق أهداف أخرى من قبيل: تحقيق التنمية والاستقلال الحقيقي، ومن ناحية ثانية: توفير تدفقات ومخصصات مالية وفنية للدول حديثة الاستقلال لبناء قدراتها الذاتية المختلفة “في مرحلة تصفية الاستعمار”، وقد انتُقدت هذه المساعدات في إطار دراسات ونظريات التبعية باعتبارها إعادة صياغة جديدة للعلاقات الاستعمارية القديمة في أشكال جديدة بين دول المركز والأطراف. ومن ناحية ثالثة: توجيه جزء من هذا الدعم لتحقيق الاستقرار السياسي خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك هدفًا أمينًا أيضًا. ومن ناحية رابعة: كانت هذه المساعدات إحدى أدوات الصراع والاستقطاب السياسي إبان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، بقيادة أميركا والاتحاد السوفيتي، قبل أن ينهار في نهاية التسعينات من القرن الماضي(22).
ب- تكوين نظام التعاون والتضامن الدولي
يتكون نظام التعاون والتضامن الدولي من مستويين متكاملين، الأول: الحكومي الرسمي الذي تجسده المنظمات الدولية المعروفة، والثاني: غير الحكومي المدني، والذي يجسده القطاع المدني العالمي، ويفترض أن هناك سعيًا لشراكة بينهما، وبالذات في مواجهة النوازل والكوارث العالمية، ويتخذ المستوى الرسمي الحكومي صورتين للتضامن والتعاون؛ وهما: الأول: التعاون “الثنائي” بين دولتين بشكل يجري فيه تبادل المنافع والتضامن في أوقات النوازل والكوارث. والثاني: التضامن والتعاون “متعدد الأطراف”، والذي تجسده المنظمات الدولية والإقليمية التي تنسق جهودها لتحقيق أهداف معينة على النحو الذي شهدناه في الوكالات الدولية المتخصصة مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
والخلاصة أن المنظمات الدولية والإقليمية التي تعاملت مع آثار نازلة كورونا فشلت حتى الآن غير أن تفسير هذا الفشل وإرجاعه لأسبابه الحقيقية يظل موضع جدل علمي، خاصة بصدد المبادئ المُؤَسِّسَة لنظام التضامن والتعاون الدولي، ويمكن أن نرصد الاتجاهين الأساسين في التالي:
أولًا: نظام “التضامن الدولي المستجد”: إعادة صياغة لنظام فيينا التأسيسي
يرى القائلون بهذا الاتجاه أن نظام التضامن الدولي “المستجد” يحمل في طياته بذور فشله وتراجعه؛ إذ هو مجرد إعادة صياغة للوضع القديم، والذي كان سائدًا ويُعرَف بـ”نظام فيينا”، ويتكوَّن النظام المستجد من مجموعة من الاتفاقيات، والمنظمات، والمعايير، والآليات، والخطط والبرامج التي يتم بموجبها تقديم المساعدات للدول والشعوب المحتاجة -وبالذات في أوقات النوازل والكوارث- كتعبير عن نوع من التضامن الدولي.
وُلِد النظام القديم بعد انتصار القوى العظمى حينئذٍ (إنجلترا وروسيا وبروسيا والنمسا) على نابليون بونابرت عام 1815، وعلى أساسه جاءت المبادئ المُؤَسِّسَة لاتفاقية فيينا، وبالتالي أُطْلِق عليه “نظام فيينا” إشارة لمؤتمر فيينا الشهير الذي انعقد على مدار عامي (1813-1814)، والذي أدى إلى ما أُسمي لاحقًا “نظام الوفاق الأوروبي”. وقد استمر نظام فيينا أو “نظام الوفاق الأوروبي” طوال القرن التاسع عشر باعتباره يحقق توازن القوى في أوروبا، وقد أثبت نجاحه في العديد من القضايا عبر آليات المؤتمرات والتحكيم وصولًا إلى إنشاء عصبة الأمم، وكان هذا النظام يقوم على أربعة أسس(23)، أولًا: الاعتراف بوضع خاص للجهات الفاعلة الأكثر قوة في النظام بحيث تملي على أوروبا مصيرها وأن يكونوا وحدهم المسؤولين عن الحفاظ على السلام. ثانيًا: إقرار القوى العظمى بترسيخ الوضع السياسي والإقليمي الراهن في القارة، وإعادته وتجديده حسب الضرورة. ثالثًا: اتفاق الأطراف الأساسية السامية المتعاقدة على تجديد اجتماعاتها لفترات محددة عبر آلية التشاور، وحل النزاعات من خلال اجتماعات دورية. رابعًا: الاعتراف بالسيادة والحماية المتضمنة في نظام فيينا، وتبدي الدول الكبرى سياسة إيجابية تجاه الدول التي تتمتع بمؤسسات سياسية داخلية محافظة غير ليبرالية وغير ثورية. أما النظام المستجد “نظام التضامن الدولي الحالي”، فيؤكد الكثيرون أنه يُعَدُّ في جوهره امتدادًا لنظام الوفاق والتضامن الأوروبي، ويترجم المركزية الأوروبية والغربية في نسختها الأميركية الأكثر ضراوة وتوحشًا، وأن القيم المضمنة والمضمرة تتمثَّل في “عبء الرجل الأبيض” الذي يحمل مهمة “تحضير وتحديث العالم”؛ وذلك عبر إعادة استعماره وتقسيمه، وتُعَدُّ هي جوهر المشكلة التي تستبطن العنصرية في حقيقة الأمر بكل أشكالها وفي جوهرها الحقيقي، ويشكِّل ذلك لُبَّ الإشكال وأساس تفجره الداخلي، والذي اتضح في النازلة الأخيرة بقوة حين رفع الجميعُ ولكن كلٌّ بطريقته مضمون شعار “أميركا أولًا” ومارس في الوقت ذاته عقلية السطو والقرصنة الأوروبية على المستلزمات الطبية المهداة من الصين مثلًا إلى بعض الدول الأوروبية الأكثر تضررًا؛ الأمر الذي يعيد للذاكرة قراصنة جزيرة صقلية وفرسان القديس يوحنا مجددًا.
ثانيًا: وصول نظام التضامن الدولي المستجد إلى طريق مسدود
يرى كثيرون أن المنظمات الدولية والإقليمية التي قامت لتحقيق المبادئ المُؤَسِّسَة لـ”نظام التعاون والتضامن الدولي” في نسخته المستجدة قد استنفدت أغراضها ووصلت إلى طريق مسدود؛ إذ واجهت العديد من النوازل والكوارث الكبرى في العقود الأربعة المنصرمة، وكان آخرها مواجهة آثار نازلة كورونا؛ وقد أثبتت في تعاملها فشلًا متتاليًا -في احتواء هذه الآثار أو حتى التعايش معها- الأمر الذي جعل مشروعية وجودها فضلًا عن شرعيتها موضع اختبار وتساؤل حقيقي. وقد انسحب هذا التساؤل على المبادئ المُؤَسِّسَة لـ”نظام التضامن الدولي والتعاون الإقليمي” الذي قامت عليه المؤسسات الدولية والإقليمية؛ وصولًا لحالة فقدان المشروعية والشرعية السياسية والصدقية الأخلاقية.
ويمكن أن نقدِّم أربعة نماذج لنوازل كبرى مختلفة الطبيعة والخطورة تعرَّض فيها هذا النظام لاختبار حقيقي على مدى العقود الأربعة الماضية كان الفشل حصاده النهائي؛ فلنتذكَّر هذه النوازل الأربعة(24):
– الأولى: نازلة ذات طبيعة اقتصادية: بدأت هذه الأزمة الحادة، التي عُرفت فيما بعد بأزمة الديون العالمية في الثمانينات من القرن الماضي؛ عندما أعلنت المكسيك (كأول دولة) عن عجزها عن سداد ديونها، 1982، وقد تلا ذلك تقريبًا جميع دول أميركا الجنوبية؛ وظهرت الآثار الكارثية للأزمة على الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي عانت أشد المعاناة؛ حيث انتشر الجوع والمرض، وتجاوز عدد الوفيات يومها ما خلَّفته نازلة كورونا من الضحايا، وكانت الآثار كارثية على اقتصادات هذه البلدان التي أعلنت إفلاسها، ثم عمدت هذه الدول لتنفيذ برامج لإعادة الهيكلة، والخصخصة…إلخ، ووضعت برامج لرعاية ومساعدة الطبقات الفقيرة أُطْلِقَت للانتباه لأن نظام التضامن الدولي بكافة مؤسساته لم يقم بالأدوار المطلوبة منه في مثل هذه النازلة، وكان ذلك بالفعل إفقادًا لمصداقيته ومشروعيته الحقيقية.
– الثانية: نازلة ذات طبيعة سياسية: بدأت بانهيار الاتحاد السوفيتي، وفي أعقابه سقطت أيضًا دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وقد كان سقوط حائط برلين دلالة على نهاية هذه الحقبة، والإشكالية هنا أن هذا الانهيار السريع والمتتالي كان تعبيرًا عن أزمة ضخمة ونازلة كبيرة؛ إذ عجزت الأنظمة السياسية في ذلك الوقت عن أن تسد الفراغ الكبير الذي حدث من زاوية الوفاء بالحاجات الأساسية والضرورية للشعوب؛ حيث انتشر الجوع، والمرض وعانت فئات كثيرة من انقطاع الكهرباء والتدفئة…إلخ، وهكذا كانت مؤسسات النظام الدولي ونظام التضامن الاجتماعي أمام نازلة وكارثة إنسانية حقيقية قضى فيها عشرات الآلاف نحبهم جوعًا، أو مرضًا، أو تجمدًا من البرد. ومرة أخرى يثبت نظام التضامن الاجتماعي وهذه المؤسسات فشلها الحقيقي في هذا التعامل مع هذه النازلة والكارثة.
– الثالثة: نازلة ذات طبيعة قيمية وأخلاقية: تُعَدُّ نازلة إبادة جماعية وتطهير عرقي وكارثة هزَّت الضمير الإنساني كله. حرب أهلية انزلقت لعملية إبادة جماعية في صراع بين قبائل الهوتو والتوتسي؛ إذ في غضون ثلاثة أسابيع فقط قُتِل نحو 80 ألف مواطن رواندي في مذابح بشعة، كان موقف الأمم المتحدة برئاسة أمينها العام، بطرس غالي(*) مخزيًا؛ إذ قامت بسحب قوات حفظ السلام الأممية، وتركت القبائل تلقى مصيرها ذبحًا وقتلًا، ولم يحفظ ماء وجه النظام الدولي سوى بعض المنظمات الدولية غير الرسمية والصليب الأحمر التي قامت بدور هامشي في حمايتهم من المذابح الجماعية.
– الرابعة: ذات طبيعة صحية عالمية: نازلة كورونا: لم يكن موقف نظام التضامن الاجتماعي الدولي ولا المنظمات الدولية والإقليمية، كما أسلفنا، بأحسن حالًا من النوازل السابقة، فالنظام الدولي يواجه نازلة شاملة تعدت آثارها النواحي الصحية لتمتد للجوانب الاقتصادية والسياسية والمجتمعية. واللافت للانتباه أن المنظمات الدولية والإقليمية تركت الجميع يواجهون مصيرهم دون تمييز بين الدول والمجتمعات الفقيرة والغنية بدعوى أنهم يجابهون نفس النازلة العالمية؛ وفي ذلك تجاهل لحجم الكارثة في الدول الفقيرة، والتي تجعل من وقع وآثار النازلة عليها أخطر بكثير من الدول الأخرى الغنية والمتقدمة، وذلك لخمسة أسباب(25)، أولها: أن غالبية سكان هذه الدول من “الفقراء” الذين يعتمدون على العمل اليومي خارج المنزل للحصول على دخولهم من القطاعات غير المنظمة وغير الحكومية، وثانيهما: أن القطاع الاقتصادي الأساس في هذه البلدان هو القطاع الشعبي، أي غير المصنَّف، وهذا من أكثرها معاناة لتوقفه شبه الكامل أثناء النازلة، ثالثها: أن النظام الصحي في هذه الدول بالغ الضعف، يفتقر إلى مقومات الصحة العامة، وصحة الطوارئ اللازمة في هذه الأزمات، ورابعها: ضعف الوعي الصحي نتيجة الضعف الإعلامي، وانتشار الاعتماد على العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة، وخامسها: ضعف النظام البنكي والرقمي في هذه البلدان، وضعف سلاسل التوريد للاحتياجات الأساسية في هذه المجتمعات والدول.
يفرض كل ما سبق على المنظمات الدولية والإقليمية توجيه جهودها نحو هذه الدول والمجتمعات الفقيرة؛ حيث تعيش شعوبها إشكالية حقيقية وما زالت؛ فهي لا تستطيع البقاء في البيوت وممارسة الانعزال؛ لأنها خائفة من الموت جوعًا، وهي أيضًا خائفة إذا خرجت كالمعتاد فقد تصاب بالمرض وتموت؛ لأنها لن تجد الرعاية الصحية الملائمة. وهكذا لم تستطع المنظمات الدولية والإقليمية التعامل مع آثار النازلة سوى بتكرار الفشل التاريخي. إن تفاعل الآثار المستقبلية التي أفرزها “التعامل الفاشل” لتلك المنظمات الدولية والإقليمية مع النازلة حتى الآن، هو من سيحدد مصيرهما مستقبليًّا: نظام التضامن الجماعي، والمنظمات الدولية والإقليمية العاملة في إطاره.
استنتاجات
كشف التعامل الفاشل مع آثار نازلة كورونا من قبل المنظمات الدولية والإقليمية عن احتمالات مستقبلية لتغيرات تشمل المبادئ المُؤَسِّسَة للمنظمات الدولية والإقليمية على مستويات أربع أساسية:
أولًا: مراجعة البناء القيمي المُؤَسِّس للمنظمات الدولية والإقليمية
يفترض أن تمتد تأثيرات نازلة كورونا إلى إحداث تغييرات في البناء القيمي المُؤَسِّس للمنظمات الدولية والإقليمية، يتضمن مراجعة مفهوم القيمة ذاته؛ ففي نظرية القيم يكون التساؤل حول ماهية القيمة بداية، ومنظومة القيم والقيمة العليا التي تتربع على قمة البناء القيمي وتُعَدُّ محوره الذي يدور معه وجودًا وعدمًا: هل هي قيمة “الحرية”، أو “المساواة”، أو “العدالة”؟ تفرض آثار نازلة كورونا تحديد ماهية القيمة ومفهومها: هل هي الموارد المالية، الثروة، النقود -أيًّا كان الغطاء: الذهب أو الدولار أو الهيبة والقوة الأميركية- أم هي الموارد البشرية: جهد الإنسان وعمله؟
فقد تبيَّن أن عقول الناس وجهدهم الإنساني، سواء أكانوا الأطباء أو العمال، يظل الأهم مقارنة بالمال في مواجهة آثار النازلة، وتبيَّن أيضًا أن “الفقر” لا يحدده فقط مقدار الأرصدة من “المال والذهب”، بل مدى الحاجة لأشياء بسيطة مثل “الكمامات” التي أشعلت معارك وحروبًا برزت فيها الأنانية من أجل حب البقاء، وبالتالي أصبحت القيمة مرادفًا للقدرة على الوفاء بالحاجة، أي مسألة “الإشباع” المادي والمعنوي والنفسي، والذي يقدره عامل “الندرة” النسبية مقارنة بالموارد -أيًّا كانت نوعيتها- وفي هذا برزت أهمية “القطاع الرقمي” الذي منع من موت المجتمعات والدول بـ”السكتة الكبرى”، وهذا لم يكن يتم لولا “عقول” أبناء “الدول الفقيرة” التي أسهمت في العملية(26).
يرتبط بالقيمة العليا النموذج السياسي الذي يجسدها، وبالتالي يدور التساؤل بهذا الصدد حول مدى الارتباط بين طبيعة النظم السياسية (ديمقراطية وتسلطية)، ومدى الكفاءة والفعالية في التعامل مع آثار نازلة كورونا، ومن ثم النموذج السياسي المستقبلي الأفضل؛ فما أفضل النظم والنماذج السياسية في التعامل مع آثار هذه النوازل؟ فإذا كانت قيمة “الحرية”، و”الديمقراطية” هي القيمة المحورية والعليا كانت “الحالة الديمقراطية” هي المقياس الذي على أساسه تتحدد “المساعدات الدولية” في كل دولة وتنفيذ برامج “التضامن الجماعي” للدول الفقيرة؛ وفقًا لمؤشر يحدد موقع كل دولة بين “ديمقراطية كاملة” إلى “سلطوية كاملة”؛ بالتركيز على حالة “الحقوق السياسية” و”الحريات المدنية” التي على أساسها تحدد المنظمات الدولية برامج المساعدات التي بالطبع تخضع للتسييس. التساؤل الأساسي: إلى أي مدى بعد هذه النازلة ستظل قيمة “الحرية” في ضوء ما يحدث “معيارًا مركزيًّا” في هذا التصنيف وإلى أي مدى ستتراجع؟
يُثار التساؤل الأعمق حول وظيفة الدول: هل هي تحقيق الحرية والسعادة أم حفظ حق الحياة والنفس أولًا؟ وبالتالي يفتح الباب أمام مقاييس جديدة، وتطرح تساؤلات أمام بناء مقاييس ومؤشرات جديدة، وعن مدى الارتباط بين طبيعة النظم السياسية (ديمقراطية-تسلطية) ومدى الكفاءة، والفعالية في إدارة مثل هذه النوازل عبر إعادة ترتيب النظام القيمي(27). يرتبط بذلك الاختيار بين النماذج القائدة للمنظمات الدولية في إطار النظام الدولي المستجد، ونقدم تصورًا عن أربعة نماذج واقعية تعاملت مع النازلة وآثارها بأشكال مختلفة، وهي(28):
أ- النموذج الصيني: يرشحه البعض ليكون قائدًا في مؤسسات النظام الدولي والإقليمي القادم، والبعض يذهب إلى العكس بصدد النموذج الاشتراكي اسمًا والتسلطي حقيقة وواقعًا(29).
ب- النموذج الأنجلوسكسوني الأميركي-البريطاني، واللذان تعاملا مع النازلة بطريقة فاشلة بدرجات متفاوتة.
ج- النموذج القاري الأوروبي: (يشمل الفرنسي، والإيطالي، والإسباني) وبدورهم قدموا نموذجًا سيئًا لإدارة آثار الأزمة وللفشل حتى الآن.
د- النموذج الاشتراكي الديمقراطي: قدَّم إدارة ناجحة متوازنة للتعامل مع آثار النازلة، وهو يشمل طيفًا واسعًا يمتد من ألمانيا والنمسا إلى دول الشمال الأوروبي، مثل: آيسلندا والدنمارك، والسويد، ويضم دولًا تتبنى نظام الرفاهية الشاملة والمفاوضة الجماعية على المستوى الوطني، فهذه البلاد تعرف “الرأسمالية المهذبة” ومستويات منخفضة من عدم المساواة وعدم تركز الدخول، ورفاهية سخية.
ثانيًا: إعادة تعريف مفهوم “الفاعلون الدوليون”
يعتبر علمُ العلاقاتِ الدوليةِ الدولَ والمنظماتِ الدولية الفاعلَ الدولي الأساس الرسمي، البعض أضاف فاعلين دوليين غير رسميين جددًا، مثل: الدِّين، والإرهاب، والشركات متعددة الجنسيات، والواقع أن أهم فاعل دولي حاليًّا يُعَدُّ غير معروف وغير محدد الملامح هو “فيروس كورونا-19” الذي سيفرض خلال الفترة المقبلة تأثيراته المختلفة؛ وهذا هو التحدي الأساس(30).
ثالثًا: إعادة هيكلة التفاعلات وبناء القوة الدولية
أثارت نازلة كورونا وانعكاساتها المتعدية عالميًّا التساؤلات حول “بنية” و”هيكل” القوة الدولية، و”قيادة النظام الدولي” في المستقبل ليس فقط بمعنى “الدولة” وإنما “النموذج” أو “المنظمة” القائد بتعبيرها الحضاري، وأنماطها الاقتصادية. وهناك بالفعل جدل حقيقي حول مستقبل “القوة” و”القيادة” الأميركية، وإلى أي مدى يمكن أن تمثِّل “الصين” تهديدًا حقيقيًّا. ولنتذكَّر أن النموذج الأميركي قام على عدة مبادئ مؤسِّسة معروفة، هي: الثروة، والقوة، والشرعية، والاستعداد لحشد استجابة عالمية للكوارث والنوازل…إلخ. وبالتالي، إلى أي مدى يمكننا الحديث عن فشل أميركي ونجاح صيني أم أن الأمر ما زال مبكرًا؟ وفي هذا الصدد، ما مدى مسؤولية الصين عن النازلة؟ وتأثير ذلك على إمكانية وفرص وجودها في قيادة العالم بكل إشكالياته؟ وإلى أي مدى تمثل “الاشتراكية الديمقراطية” حلًّا بعد فشل النموذج الأنجلوسكسوني، وتراجع اللاتيني، ورفض النموذج الشمولي الروسي أو الصيني؟
رابعًا: مراجعة مفهوم الاعتماد المتبادل
تراجعت كثافة التفاعلات الدولية والمحلية نتيجة سياسة العزل والانعزال، كأحد آثار التعامل مع نازلة كورونا؛ وكان ذلك أول تأثير مباشر على مفهوم التفاعل والاعتماد المتبادل (Interdependence)، كما فشلت المنظمات الدولية والإقليمية في التعامل مع آثار النازلة، مما آثار تساؤلًا حول مفهوم الاعتماد المتبادل، وما يرتبط به من مفاهيم، مثل: العولمة الاقتصادية، والتعاون، والتضامن العالمي، والانفتاح والعدالة، والحرية…إلخ.
وفي خلاصة خاتمة، توجد مؤشرات واقعية على انهيارات قادمة في الهياكل المؤسسية للنظام الدولي، ولكنها ليست حاسمة، وفي نفس الوقت بروز ظواهر جديدة وفاعلين جدد، وأشكال جديدة للتفاعل غير معهودة من قبل، ولكنها غير واضحة. إن الأطر المنهجية السائدة في تحليل المنظمات الدولية والإقليمية لم تعد قادرة على تقديم فهم حقيقي لها عبر توصيفها، وتحليلها، وتفسيرها ورسم اتجاهاتها المستقبلية، وبالتالي، فإن التساؤل يغدو مشروعًا: هل نحن على أبواب “حدوث ثورة علمية”، نتيجة عدم قدرة الإطار المنهجي والمعرفي على تقديم إجابات كافية ومُرضية لآثار هذه النازلة على مؤسسات النظام الدولي والإقليمي وأننا على مشارف بزوغ إطار تفسيري أعلى جديد، أي تغيير في “البراديغم السائد” لدراسة العلاقات والمنظمات الدولية بداية بإعادة تجديد المبادئ المُؤَسِّسَة؟ سؤال تظل إجابته مفتوحة على كل الاحتمالات.
المراجع
(1) راجع حول المبادئ المُؤَسِّسَة لنشأة المنظمات الدولية الحديثة:
John Morton Blum, Woodrow Wilson and the Politics of Morality (Boston: Little Brown, 1956), 20 addition, Barbra Feinberg, Woodrow Wilson, America’s 28th President (New York: Child Press, 2006), 110.
وكذلك قارن: السيد أمين شلبي، آراء سولجنتسين في أبعاد الوفاق الدولي، مجلة السياسة الدولية (مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، العدد 48، 1977)، ص 112-116.
(2) راجع بصدد الفجوة بين المبادئ المُؤَسِّسَة والممارسة العملية للمنظمات الدولية والإقليمية:
Barry Busan, Richard Little, International System in World History; Remaking the study of International Relations (Oxford University Press, 2012), 56-99.
كذلك دراسة الباحث عبد ربي بن صحراء، “هل كشفت جائحة كورونا هشاشة نظام التضامن الدولي؟”، (ورقة غير منشورة)، ص 3-5.
(3) حول العلاقة بين المبادئ المؤسسة التي قامت عليها المنظمات الدولية الحديثة و”نظام فيينا” الذي يجسد الوفاق الأوروبي، راجع: كايل لاسكوريتس، “نظام دول الوفاق الأوروبي وحوكمة القوى العظمى اليوم: ماذا يمكن لنظام أوروبا في القرن التاسع عشر أن يعلِّم صانعي السياسات حول النظام الدولي للقرن الحادي والعشرين؟”، مؤسسة راند، 2017، ص 10-25، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/tBNX7.
(4) حول الاتجاهات أو المدارس الأساسية في دراسة العلاقات الدولية، راجع: محمد طه بدوي، مدخل إلى علم العلاقات الدولية، (القاهرة، دار النهضة العربية، بدون تاريخ)، ص 34-43. وقارن: “نظام دول الوفاق الأوروبي وحوكمة القوى العظمى اليوم”، مرجع سابق، ص 9-12.
(5) حامد عبد الماجد، منهجية بحث ودراسة الظواهر السياسية، (القاهرة، دار نشر جامعة القاهرة، 2000)، ص 15-25.
(6) المرجع السابق، ص 35-36.
(7) حامد عبد الماجد، المشروع الأمريكي في المنطقة العربية واستراتيجية مقاومته (القاهرة، دار الشروق الدولية، 2009)، ص 18- 25.
(8) حامد عبد الماجد (محرر)، التحولات والثورات الشعبية في العالم العربي: الدلالات الواقعية والآفاق المستقبلية، (عمان، مركز دراسات الشرق الأوسط، 2011)، ص 7-26.
(9) راجع حول فكرة ومنهجية “بناء النماذج” كأداة للمقارنة أو القياس، سواء “النموذج المرجعي” أو “النموذج التاريخي”، نظرية التحليل السياسي (محاضرات غير منشورة ألقيت على طلاب الفرقة الرابعة قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد، 1979). وراجع محاولة تطبيق فكرة النماذج واتخاذها أداة للمقارنة المنهجية في دراسة، حامد عبد الماجد، الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية: دراسة في النظرية السياسية، (القاهرة، دار النشر والتوزيع الإسلامية، 1992)، ص 351- 361.
(10) المرجع السابق، ص 362-365.
وراجع أيضًا:
Geopolitics after Covid -19: is the pandemic a turning point?” the Economist (Intelligence UNIT), (2020).
(11) حول كتابات برنارد لويس عن تاريخ المنطقة ومستقبلها، راجع:
Bernard Lewis, What Went Wrong? Western Impact and Middle Eastern Response, Released in January 2002, shortly after the September 11 attack, but written shortly before. The nucleus of this book appeared as an article published in The Atlantic Monthly in January 2002 also see: Bernard Lewis, The Arabs in History (Oxford University Press, 1993).
(12) راجع حول صدام الحضارات الدراسة الأشهر لصامويل هنتنغتون:
– Samuel P. Huntington, The Clash of Civilizations, Foreign Affairs, no. 72, (1993.
– Shireen T. Hunter, the future of Islam and the West: Clash of Civilizations or peaceful Coexistence? (Washington: the center for Strategic international Studies, 1995).
(13) للمقارنة راجع: وسيلة خراز، “نهاية التاريخ: فرانسيس فوكوياما نموذجًا”، مجلة العلوم الإنسانية (الجزائر، العدد 30)، ص 27-44.
Francis Fukuyama, The End of History and the Last Man (New York: Free press, 1993).
(14) “Geopolitics after Covid-19 is the pandemic a turning point,” The Economist (Intelligence Unit), (May 6, 2020).
(15) خليل العناني، “كورونا وسؤال “المابعديات” مخاطر القفز نحو المجهول”، الجزيرة. نت، 16 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/pHSW2.
(16) راجع حول نموذج “المربع الاستراتيجي” كمدخل لدراسة وتناول إدارة الأزمة تحليليًّا وسياسيًّا: حامد عبد الماجد (محرر)، دور جامعة قطر تجاه الدولة والمجتمع القطري في إدارة أزمة كورونا (ورقة غير منشورة)، جامعة قطر، مكتب الاستراتيجية: رئاسة جامعة قطر، يونيو/حزيران 2020.
(17) حول موقف الولايات المتحدة الأميركية من المنظمات الدولية المتخصصة وتحديدًا من تعامل منظمة الصحة العالمية مع النازلة، راجع: “فيروس كورونا: منظمة الصحة العالمية تطالب العالم بالتأهب وتبحث إعلان الطوارئ الصحية عالميًّا”، بي بي سي، 30 يناير/كانون الثاني 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/fuJN0. وراجع للمقارنة، “فيروس كورونا: انتقادات لقرار الرئيس ترامب بشأن تعليق تمويل منظمة الصحة العالمية”، بي بي سي، 15 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/fltR5.
(18) إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي، “الأمم المتحدة تدير التعاون العالمي استجابة لفيروس كورونا مرتكزة على العلم”، الأمم المتحدة، 20 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/jkwDL. راجع أيضًا: إدارة الأمم المتحدة للتواصل العالمي، “تمويل من أجل محاربة جائحة كورونا في دول العالم الفقيرة”، الأمم المتحدة، 6 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/glvzP.
(19) حول دور منظمات المجتمع المدني العالمي غير الحكومية في مواجهة النوازل والكوارث، راجع:
– “هشاشة النظام الدولي: هل تنهي جائحة كورونا العولمة التي نعرفها أم تدخل مرحلة أخرى؟”، الجزيرة نت، 21 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/syzCD. وفي هذا الإطار تأتي دراسة غير منشورة في بابها حول الموضوع للباحث، عبد ربي بن صحراء، “هل كشفت جائحة كورونا هشاشة نظام التضامن الدولي؟”، مرجع سابق، ص 3-5.
(20) مجموعة من المؤلفين، “أزمة كورونا.. التداعيات على العالم العربي واستراتيجية المواجهة”، مجلة دراسات شرق أوسطية (مركز دراسات الشرق الأوسط، عمَّان، العدد 92، صيف 2020)، ص 3-4.
(21) انظر: المرجع السابق، ص 4-5. وانظر: شريفة جتين، “كورونا يكشف اهتراء مبدأ التضامن بين دول الاتحاد الأوروبي”، وكالة الأناضول، 23 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/buzMV.
(22) راجع حول استخدام “المساعدات الدولية” إبَّان فترة الحرب الباردة كأحد أدوات الصراع السياسي: حسين بلخيرات، النظرية السياسية للمجتمع الدولي: اتجاهات العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة، (الجزائر، مركز الكتاب الأكاديمي، 2004)، ص 157-176.
(23) راجع حول نظام الوفاق الأوروبي: كايل لاسكوريتس، “نظام دول الوفاق الأوروبي وحوكمة القوى العظمى اليوم”، مرجع سابق. وقارن: “التضامن الأوروبي في مواجهة فيروس كورونا”، diplomatie.gouv.fr، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/fzHKP.
(24) حول هذه الأزمات والنوازل، راجع: دراسة للباحث، عبد ربي بن صحراء، “هل كشفت جائحة كورونا هشاشة نظام التضامن الدولي؟”، مرجع سابق، ص 3-5. وأيضًا للمقارنة: “هل يفكك فيروس كورونا الاتحاد الأوروبي، ويقضي على حلم الوحدة العربية؟”، DW، 27 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/glnxS. وأيضًا راجع: “هشاشة النظام الدولي … هل تنهي جائحة كورونا العولمة التي نعرفها أم تدخل مرحلة أخرى؟”، مرجع سابق.
* موقف بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، في هذه الأزمة النازلة كان ضعيفًا ويراه البعض مخزيًا؛ إذ ترك الصراع العرقي والقبلي مستعرًا ولقي قرابة المليون مصيرهم ذبحًا وسحبت الأمم المتحدة جنودها، ويقارنها البعض بالموقف من أزمة البوسنة والهرسك في أعقاب تفكك الاتحاد اليوغسلافي؛ وقد قال كوفي عنان، الأمين العام التالي للأمم المتحدة، عن هذه المذبحة: إنها “وصمة عار في جبين الإنسانية”، وبعدها تمت مراجعة شاملة أثمرت عن إنشاء مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (UNOCHA) واللجنة الدائمة.
(25) عبد ربي بن صحراء، “هل كشفت جائحة كورونا هشاشة نظام التضامن الدولي؟”، مرجع سابق، ص 15-16.
(26) محمد يتيم، “أزمة كورونا وانعكاساتها على منظومة القيم”، الجزيرة نت، 10 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 16 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/dit59.
(27) Jeffery Smith, Nick Cheeseman, “Authoritarians are exploiting the Coronavirus. Democracies must not follow suit,” foreign policy, April 30, 2020 in addition see: Nael Shama, “In Egypt, the Corona Virus Pandemic has exposed the short falls of a government that has neglected the health sector for long,” foreign policy, April 30, 2020.
(28) John Allen et all., “How the World will look after Coronavirus pandemic: The pandemic will change the World forever. We asked 12 leading global thinkers for their predictions,” Foreign policy, March 20, 2020.
(29) Kurt M. Campbell and Rush Doshi, “The Coronavirus Could Reshape Global Order: China Is Maneuvering for International Leadership as the United States Falters,” foreignaffairs.com, March 18, 2020.
(30) جيل غرساني، “أزمة فيروس كورونا فرصة لإعادة النظر في العلاقات الدولية، وجعلها أكثر توازنًا”، موقع France 24، 27 مارس/آذار 2020، (تاريخ الدخول: 17 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/lCHL2. وقارن: علاء بيومي، “انتفاضات كورونا المقبلة”، القدس العربي، 2 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 17 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/AKTY1. وأيضًا: محمد حربي، “مستقبل المنظمات الدولية وأزمة كورونا”، الوطن، 24 مايو/أيار 2020. وقارن: يوسف خليل، “فيروس كورونا والحاجة إلى نظام عالمي جديد”، الجزيرة نت، 17 أبريل/نيسان 2020، (تاريخ الدخول: 17 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/bdfrD.