مقدمة
تعيش الديمقراطية الليبرالية أوقاتًا حرجة على صعيد العالم لم تمر بها من قبل، بلغت درجة التشكيك في جدواها، وكَونها أفضل النظم السياسية، أو أقلها سوءًا في إدارة الشأن العام. وتُعزِّز جملة من الحقائق والأعراض التي ظهرت على عدد من الديمقراطيات أحاسيس ضعف الثقة هاته. وفي مُقدمة هذه الحقائق: الأزمات السياسية العميقة، والمتعددة التي تعيشها أعرق الديمقراطيات العالمية، والمتمثلة في صعود وتغلب النزعات الشعبوية واليمينية على هذه الديمقراطيات، وظهور عجزها الواضح (الديمقراطية) عن الوقوف في وجه الرداءة، ومنعها من الظفر بالسلطة، ولعل أقوى مثال في هذا السياق هو “الترامبية” (Trumpism) بالولايات المتحدة الأميركية، وانتخاب بوريس جونسون رئيسًا للوزراء بإنجلترا.
ومن ناحية أخرى، تتجلى أزمة الديمقراطية أيضًا في تراجع جاذبية النموذج الليبرالي الديمقراطي خارج المجال الغربي، تحت تأثير جملة من العوامل المختلفة والمتداخلة (ثقافية، اقتصادية، سياسية..). ولعل الدراسات والأبحاث المتزايدة في أقسام العلوم السياسية بالغرب حول السيرورات التراجعية عن الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم خير دليل على أزمة النظام السياسي الديمقراطي(1).
إن هذه النكسات والضربات التي تلقاها النظام الديمقراطي على صعيد العالم، والمُرشحة للتفاقم في المستقبل، هزَّت الثقة في المثال السياسي الديمقراطي، وعرَّضته لنقد واسع، في الغرب وخارجه(2). ومن أهم الأعمال النقدية التي صدرت حديثًا في هذا الباب العملُ الضخم الذي قام بتحريره غريغور فيتزي (Gregor Fitzi)، ويورغن ماكيرت (Jürgen Mackert)، وبراين تورن (Bryan S. Turne)، ويحمل عنوان “الشعبوية وأزمة الديمقراطية” (Populism and the Crisis of Democracy) الصادر سنة 2019 في ثلاثة أجزاء.
لقد فسحت هذه الاختلالات الواقعية التي ظهرت على التجربة الديمقراطية العالمية، والأفكار النقدية التي واكبتها، المجالَ أمام أفكار سياسية جديدة للظهور، والتي لا يتردد أصحابها في اقتراحها بديلًا أو تعديلًا عميقًا للنظام الديمقراطي، ولعل أهم وأبرز هذه الأفكار ما يُصطلح عليه بالنظام المِرِيتوقراطي (Meritocracy)(3)، الذي يُروِّج له الفكر السياسي الصيني، ومعه بعض مفكري جنوب شرق آسيا، والذي يركز على الكفاءة والانتقاء بدل الانتخاب.
إن هذه الأزمات متعددة المظاهر التي يعاني منها النظام الديمقراطي الليبرالي على صعيد العالم، والتي تختلف طبيعتها ومظاهرها بين الديمقراطيات العريقة وبين الديمقراطيات الصاعدة أو الناشئة، هي -في جانب مهم منها- أزمة قيمية، تتعلق بالمخاوف الجدية التي بدأت تثيرها الديمقراطية والمتمثلة في معاكستها لبعض قيمها المرجعية، ويتجلى بعض ذلك في البلاد الغربية في تصاعد النزعات الهوياتية، والشعبوية، واليمينية..داخل هذه الديمقراطيات، والتي باتت تتسبب في انشقاقات عميقة في المجتمعات الغربية، وتُهدِّد كل المكاسب الحقوقية التي تحققت في هذه المجتمعات من جهة(4)، وتتعلق أيضًا بالهشاشة السياسية، وضعف الإنجاز، وحالة عدم الاستقرار في عدد من البلدان غير الغربية من جهة ثانية.
ربما لا نحتاج للإشارة في هذا السياق إلى أن حديثنا عن أزمة الديمقراطية، والشكوك التي تحوم حول مستقبلها، لا يجب أن يُفهم على أنه مدح للأوضاع والأنظمة الاستبدادية، والتسلطية، بل على العكس من ذلك، هو دعوة للاجتهاد لأجل بناء نظام سياسي أكثر وفاء للفكرة الديمقراطية باعتبارها أفضل تجسيد سياسي عرفته الإنسانية لسلطة الشعب، وأكثر تجاوبًا مع الخصوصية الثقافية والقيمية للمجتمعات الإنسانية، وأكثر فعالية في جلب المنافع ودفع المضار.
ومن ثم، فالفرضية التي تقود عملنا في هذه الدراسة، وتقف خلفها، تقوم على اعتبار أن الأزمة العميقة التي تعاني منها التجربة الديمقراطية بمختلف أوجهها في الغرب وخارجه، هي أزمة قيمية في العمق، وليست أزمة تَمْثِيل، ومؤسسات… ولا يمكن بحال من الأحوال تجاوز هذه الأزمة وتفادي أخطارها في الغرب مثلًا دون وقف هذا النزيف القيمي الذي تعاني منه، والعودة للقيم المرجعية للديمقراطية، مثل: الفردانية، والحرية، والمواطنة.. أو بناء نموذج سياسي جديد مستوعب للتحولات الاجتماعية والثقافية الجديدة التي يعيشها الغرب.
أما خارج الغرب، فلا يمكن الخروج من الاضطراب السياسي الناجم عن حالة التردد في الأخذ بالديمقراطية الذي يعيشه عدد من البلدان، دون ابتكار نظام ديمقراطي يأخذ بالاعتبار الخصوصيات القيمية والخبرات الثقافية والتاريخية لهاته البلدان. ومن ثم، فأي مشروع للإصلاح السياسي وخاصة بالعالم العربي، لا يأخذ بالاعتبار القيم التاريخية والثقافية لهذه البلدان محكوم عليه بالفشل، ويشكِّل مصدرًا للهشاشة السياسية وليس الاستقرار والنهوض.
وسنحاول معالجة هذه الفرضية، وبحثها، من خلال محورين رئيسين: تحليل وكشف الجذور القيمية للأزمة التي تعيشها الديمقراطية الليبرالية على صعيد العالم، واستعراض نماذج واقتراحات فكرية لتجاوز هذه الأزمة.
ومن الناحية المنهجية، سنحاول بناءَ بعض المفاهيم المرجعية كمفهوم الديمقراطية والقيم المرتبطة بها بطريقة مختلفة عن السائد من المفاهيم، تَسمحُ لنا برصد ووصفِ الفَشَلِ القيمي للنظام الديمقراطي الليبرالي. كما سنعتمد على النتائج التي انتهى إليها عدد من الباحثين وعلماء السياسة في دراساتهم الميدانية والمخبرية حول علاقة الديمقراطية بالقيم، ومن أبرز هذه الدراسات:
– Francis Fukuyama, Identity (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2018).
– Ellen Carnaghan, Out of Order: Russian political values in an imperfect world (The Pennsylvania State University, 2007).
– Alexander Dugin, The Fourth Political Theory (United Kingdom: Arktos Media Ltd, 2012).
– Putnam, Robert D, Making democracy work: Civic traditions in modem Italy (New Jersey: Princeton University Press, 1993).
– Xiaoqin Guo, State and society in China’s democratic transition: Confucianism, Leninism, and economic development (New York: Routledge, 2003).
– John Fuh-sheng Hsieh, Confucian culture and democracy (Singapore: World Scientific Publishing Co. Pte. Ltd., 2005).
- الأزمة القيمية للديمقراطية الليبرالية على صعيد العالم
يُعَرِّف إبراهام لينكولن (Abraham Lincoln) الديمقراطية بكونها “حكم الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب”. ويتميز هذا التعريف مُقارنة بالتعريف اليوناني الشهير “حكم الشعب لنفسه بنفسه”، بإظهار غايةِ الحكم، وهي خدمة الشعب وتحقيق مصالحه. وقد تجسدت هذه الديمقراطية في أفضل صورها في النظام السياسي التمثيلي، الليبرالي، بأشكاله المختلفة، والذي برز وتطور في بلدان أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأميركية، ولا يزال إلى اليوم في تطور مستمر.
تتأسس الديمقراطية الليبرالية على مجموعة واسعة من القيم، يمكن التمييز بينها بين قيم خلفية تؤسس لها، كقيم الفردانية والمواطنة والحرية..، وقيم غائية تنتج عنها، كقيم العدالة والكرامة والمساواة. وتتعلق هذه القيم بالديمقراطية تَعَلُّق الشرط بمشروطه، فلا ديمقراطية بدون فردانية وعدالة… والعكس صحيح. وقد يوجد نظام سياسي يحقق بنسب عالية قيم العدالة والكرامة وما يتصل بهما، لكنه في منطلقاته أو قِيَمه الخلفية لا يستند على قيم المواطنة والفردية باعتبار الفرد كينونة مستقلة، تملكُ تقريرَ مصيرها باستقلال عن باقي الأفراد، وباعتبارها أيضًا المصدر الأول للشرعية السياسية، يتفوق على باقي المصادر التقليدية كالعشيرة والطبقة الاجتماعية والدين… أو يلغيها. ومن ثم، لا يمكن لنظام من هذا القبيل أن يكون ديمقراطيًّا، وذلك فقط بالاتكاء على القيم الغائية، بالرغم من أهمية هذه القيم، وأيضًا بالتحقق من الشروط الشكلية (المؤسساتية) من قبيل الأجهزة والمؤسسات التمثيلية وحكم القانون..وغيرها من المظاهر الشكلية.
إن ميلاد الإنسان الفرد، المواطن، الحر.. في الغرب، الذي مهَّد لظهور الفكرة الديمقراطية، جاء نتيجة لمجموعة من التحولات الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي شهدتها أوروبا خلال عصر النهضة، وتحديدًا خلال القرن السادس عشر، حيث ظهرت الإرهاصات الأولى للفردانية أو الوعي بالذات. فعلى سبيل المثال، يرى جون جفريس مارتن (John Jeffries Martin) في جواب الفنان الإيطالي باولو فيرونيس (Paolo Veronese) على القاضي أثناء محاكمته على لوحة “العشاء الأخير”، التي تضمنت رسومات لأشخاص غير مقدسين، والذي جاء فيه: “إنها ابتكارات رأيت من المناسب إضافتها”، انبثاقًا لهذا الوعي الفرداني، الذي سيتطور فيما بعد، وفي استقلال عن الأسرة والطبقة والطائفة الدينية..(5).
لكن، وبالرغم من الظهور المبكر للفرد في التاريخ الأوروبي، الذي ازدهر تدريجيًّا، وفي مختلف بلاد أوروبا، فإن قيمة الفردانية بقيت على هامش الفكر السياسي الغربي، وعرَضًا سلبيًّا من أعراضه، حتى القرن التاسع عشر. وكان أول ظهور لها في الأدبيات السياسية الفرنسية على سبيل المثال ما بين سنتي 1820-1830. ويعتبر هذا القرن قرن انتصار الفردانية على الروابط التقليدية الجماعتية والعائلية والدينية.. التي عرفت في هذا الزمان انهيارًا واضحًا. وقد تأخر في هذا المضمار العلماء الأميركيون والإنكليز عن نظرائهم الأوروبيين(6).
وهكذا، فبالتزامن مع هذا التطور الفرداني في بيئات مختلفة، بدأت إرهاصات الديمقراطية السياسية في الظهور في الغرب. وكان القرن 17 مسرحًا لأولى التجارب والمحاولات الديمقراطية؛ حيث ربطت جمهورية روما الإيطالية وألمانيا وإنجلترا بين قوة الدولة وصحة قوانينها من جهة، وبين إشراك الفرد/المواطن في إصدارها من جهة ثانية. وقد فسر البعض هذا السبق الديمقراطي أو التميز إلى الوثنية الرومانية، والثقافة البروتستانتية التي آمنت بفعالية الفرد، وتأثيره(7).
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا الشكل من الاعتراف السياسي المحتشم بالحقوق السياسية للفرد، والنضال لأجلها في أوروبا تحديدًا، لم يكن يُربط في بدايته بتيار سياسي ديمقراطي، بقدر ما كان يربط بفئات توصف بأوصاف سياسية أخرى من قبيل المؤسساتيين، والجمهوريين المدنيين..(8).
ولم يختلف الأمر كثيرًا في الولايات المتحدة الأميركية، التي عرفت ازدهارًا ديمقراطيًّا مبكرًا مقارنة ببلدان أوروبا، وحاولت قبل غيرها من الدول الغربية إقرار سلطة الشعب، بالرغم من الضمور النسبي لمفهوم الفرد في فكرها السياسي. ولعل ذلك راجع في بعض جوانبه إلى استقلال الفرد، وتعاظم سلطته، والمساواة السياسية بين الأفراد..، التي ساعدت على ظهورها مجموعة من العوامل في الولايات المتحدة الأميركية، وفي مقدمتها التحول الكبير الذي عرفته قوانين ملكية الأرض ووراثتها والحالة الاجتماعية بشكل عام(9)، وظروف الاستقلال السياسي عن المراكز الاستعمارية، والتي شرَّحها وبنوع من التفصيل ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville) في كتابه “الديمقراطية في أميركا”، والذي أكد فيه الفردانية كحقيقة موضوعية وليس نظرية بالولايات المتحدة الأميركية، فأميركا في زمانه كانت تُقدم: “من خلال حالتها الاجتماعية أغرب ظاهرة اجتماعية، فالرجال يتساوون أكثر في الثروة والعقل، أو بعبارة أخرى يتساوون أكثر في القوة مقارنة مع باقي بلدان العالم، وفي كل القرون تقريبا”(10). ولا نحتاج للقول في هذا السياق إن هذه الحقيقة السوسيولوجية التي سجلها بوضوح توكفيل كانت وراء السبق الديمقراطي الأميركي.
وهكذا، فإن هذه التحولات التاريخية العميقة التي عرفها الغرب على الصعد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية..، والتي ظهرت إرهاصاتها الأولى خلال القرن 16، والتي يُعتبر تغلب الفرد على الجماعة (العشيرة، والقبيلة، والطائفة)، وظهور المواطن أحد نتائجها، جعلت من الديمقراطية أمرًا ممكنًا من الناحية السياسية، وقد تجلت هذه الإمكانية في بداية القرن 19. وكانت الولايات المتحدة الأميركية أولى الدول الغربية الديمقراطية، وذلك بإقرارها حق الاقتراع في العشرينات من القرن 19، وتلتها فرنسا بعد أكثر من نصف قرن تقريبًا سنة 1875(11).
إن النظام الديمقراطي في علاقته بالقيم الخلفية (الفردانية والمواطنة..) أو القيم الغائية (العدالة والكرامة) -منظورًا إليه من الناحية التاريخية- تحقَّقَ نسبيًّا، ولم يتحقق في صورة مطلقة أبدًا، فتاريخه في مجمله تاريخ صراع، وجدل من أجل تَمَثُّل “حقيقي” لقيم الفردانية، والمواطنة الكاملة، والعدالة، والمساواة، والحرية.. ولعل صفته الرئيسة والأكثر دقة في التعبير عن هويته من هذه الناحية هي صفة عدم الاطمئنان، المتمثلة في قلقه الدائم، وسعيه المستمر للتحقق من هذه القيم في أبهى صورها، وإعادة تعريفها في كل وقت وحين، وبحسب التطورات الواقعية، وتحولات وأنماط العقلانية، الشيء الذي يجعل تاريخ الديمقراطية بصورة من الصور تاريخ أزماتها، غير أن هذه الأزمات -إذا جاز الوصف- كانت “أزمات خَلَّاقة”، وإيجابية، تدفع نحو مزيد من الديمقراطية.
انطلاقًا من هذا الفهم لطبيعة العلاقة بين الديمقراطية وقيمها الخلفية والغائية، فإن النظام الديمقراطي منذ ظهوره وإلى يومنا هذا تعايش مع أزمات كثيرة، خلَّاقة، كانت تدفع باتجاه مزيد من الديمقراطية، ومزيد من الأصالة القيمية، غير أن الأزمة التي يعيشها اليوم -والتي تعنينا في هذه الدراسة- ليست من النوع التقليدي، بل هي أزمة حديثة، يتجلى جانب منها في تفكُّك وضعف القيم المرجعية للديمقراطية في بيئتها الطبيعية (الغرب) تدريجيًّا، وفي مقدمتها قيمة الفردانية، ويتجلى جانب آخر منها في عسر انتقالها أو استقرارها خارج بيئتها (الشرق) من جهة ثانية، وذلك لعسر استنبات جذورها.
أ- الأزمة القيمية للديمقراطية في الغرب: الشعبوية
إن القلق السياسي الذي يسم الديمقراطية الغربية وفي ارتباط بأصولها الثقافية والعقلانية، التي تجعلها في سعي دائم نحو مُثلها القيمية، سواء كمنطلقات أو غايات، يجعل هذه الديمقراطية في حركة نضالية دائمة من أجل مزيد من الديمقراطية، ويتجلى جانب من هذه الخاصية في الاتساع الذي عرفته الحريات، والحقوق، وأشكال العدالة في الغرب في ارتباط بعدد من الفئات الاجتماعية كالنساء، والأطفال، والمهاجرين، والسود… على مدى قرن ونصف تقريبًا. ومن الواضح في هذا السياق أن الانتقادات المتكررة والمتنوعة التي وُجِّهت للنظام الديمقراطي في علاقته بقيمه ومُثله، ولأجل مزيد من الديمقراطية ليست عنصر أزمة بل على العكس من ذلك هي مظهر إيجابي وعلامة يقظة دائمة كما نبهنا إلى ذلك آنفًا.
لكن الأزمة القيمية العميقة والخطيرة التي يعاني منها النظام الديمقراطي حاليًّا -وفي أبرز وأكمل تطبيقاته- بالولايات المتحدة الأميركية، وبالدرجة الثانية في أوروبا الغربية، تختلف عن أشكال الأزمة التي أشرنا إليها سابقًا، والمرتبطة بالحركة النقدية الديمقراطية، هي أزمة تنقض المنطلقات والغايات القيمية للديمقراطية، فإذا كانت الديمقراطية تأسست على الفرد، الحر، (المواطن)، بغضِّ النظر عن دينه، ولونه، وجنسه، وعرقه، وعملت عبر تاريخها على تطوير آليات محاربة أشكال التمييز بين الأفراد، وذلك في سياق بناء مواطنة كاملة، فإن الديمقراطية في آخر تطوراتها تنتج وبشكل تدريجي آليات وأشكال من الفرز، والتمييز بين الأفراد على أساس الجنس، والهوية، والدين..
فعلى سبيل المثال كان نضال حركة السود بالولايات المتحدة الأميركية يضغط باتجاه التحقق من قيمة الكرامة، وحقوق المواطنة الكاملة التي تجعلهم على صعيد واحد مع البيض، لكن في السنوات الأخيرة اتخذ نضال هذه الجماعة اتجاهًا آخر، وبدأ المنتمون لها يطالبون المجتمع الأميركي (البيض) بالاعتراف بخصوصياتهم، باعتبارهم مواطنين مختلفين، لهم ثقافتهم، ونمط عيشهم..، ونفس الشيء يقال بالنسبة للحركة النسائية، التي بدأت تتجه نحو مطالب خصوصية.. ومن ثم، لم يعد الأفراد في المجتمع الأميركي يطالبون بالاعتراف بفردانيتهم، ويرسخونه من خلال مزيد من الحقوق، وأشكال التمايز، بل يطالبون بالاعتراف بهويات جماعتية قد تكون دينية (مسلمين) أو عرقية (سود) أو جنسية (النساء، والمتحوِّلين جنسيًّا)…(12). ومن ثم، إذا كان ازدهار الديمقراطية ارتبط من الناحية القيمية بالوعي الفرداني، والوعي بالاختلاف والفوارق عن الآخر، والذي اتخذ في كثير من الحالات صورة مطالب الكرامة الفردية، فإن انتكاستها المعاصرة بالغرب ترتبط بتجاهل الذات والغفلة عنها، وبالمقابل الوعي بالتشابهات والقواسم المشتركة مع الآخر، وهو ما أفرز هويات متعددة على أساس اللون، والعرق، والجنس.
ويُفسَّر هذا التحول في بنية الوعي الديمقراطي من طرف البعض بحالة “ما بعد المثقفين” (Post-Intellectualism) التي دخلتها شعوب الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، والتي تتمثَّل في انتشار الجهل والغباء (تدهور الفكر التحليلي)، والجمود (Establishementism)، والتخصص (Specialization)، وهي حالة مختلفة عن الوضع السابق، الذي كان يتميز بالبحث عن المعرفة، والفكر النقدي، والنقد الاجتماعي. وقد أدت هذه الحالة إلى التجزئة وعودة القَبَلية في ثوب الهويات السياسية، والإثنية، والجهوية، والدينية… فالفكرة الديمقراطية في جوهرها هي فكرة ثقافية بالدرجة الأولى(13).
إن هذا التحول القيمي الذي مسَّ قاعدة الديمقراطية ومنطلقها، المتعلق أساسًا بقيم الفردانية والمواطنة والكرامة انعكس على برامج الأحزاب الأميركية وأجندتها، فعلى سبيل المثال مفهوم التعدد الثقافي (Multiculturalism) -الذي يحيل بشكل أساس ومطلق إلى خاصية الانقسام الاجتماعي- أمسى خاصية البرنامج السياسي، الذي أصبح هو الآخر يثمِّن كل انقسام ثقافي، وكل خصوصية، وبنوع من التساوي، وفي بعض الأحيان من خلال لفت الانتباه إلى المكونات المقصية، التي لم تحظ بالتقدير في الماضي، كالمتحوِّلين جنسيًّا وغيرهم(14). وقد رأى المفكر الأميركي، فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)، في هذه التحولات من الفردانية إلى الجماعاتية عودة جديدة للقبلية، وموتًا تدريجيًّا للنظام السياسي الديمقراطي.
ومن ثم، إذا كانت قيمة الفردانية وما رافقها من قيم أنتجت لنا انقسامًا سياسيًّا استنادًا إلى الموقف الاقتصادي أو السياسة الاقتصادية، فظهر اليمين، واليسار، والوسط، والذي لم يكن له من معنى خارج الاقتصاد، فإن التحول القيمي الجديد، والانتقال التدريجي من الفردانية إلى الجماعتية أنتج لنا انقسامًا سياسيًّا من نوع جديد، واستنادًا إلى الوعي الجماعتي، تمثَّل في الأحزاب والتيارات الهوياتية أو الشعبوية، وتمثَّل أيضًا في مُعانقة اليسار واليمين التقليديين لخطابات ومطالب الجماعات الهوياتية.
إن ظاهرة الشعبوية، كظاهرة سياسية، تعبِّر عن أهم خصائص هذا التحول القيمي الذي طال الأساس الثقافي والسوسيولوجي للديمقراطية، فالشعبوية السياسية التي تتسع رُقعتها في الغرب اليوم، سواء كانت يمينية أو يسارية.. لا تعكس خللًا في توزيع الموارد المادية والاقتصادية وتكافؤ الفرص، بقدر ما تعكس -في نظر الشعبويين- خللًا قيميًّا وثقافيًّا، يتمثَّل في سوء توزيع الشرف، والاحترام، والتقدير داخل المجتمع، الذي يتمثَّل في الظلم، وضعف التقدير الذي يلحق أغلب المواطنين العاديين، وبالمقابل، يستفيد الذين لا يستحقون من هذا التقدير(15).
ومن ثم، فإن من أهم خصائص هذه الظاهرة التأكيد على حقوق الأغلبية وعدم الاكتراث بحقوق الأقليات، سواء كانت دينية، أو عرقية، أو جندرية..، والتي ترجع جذورها إلى ستينات القرن الماضي، حيث تزايد الاهتمام بالأقليات، وتقديرها على حساب الأغلبية(16).
وهكذا، فالشعبوية -كظاهرة سياسية تتجاهل الفرد والأقلية وتتعلق بالأغلبية- ازدهرت في السنوات الأخيرة، واتسعت دائرتها بسبب جملة من الظروف، من أبرزها: الأزمات الاقتصادية التي عاشتها الليبرالية في بداية القرن الحالي، وارتفاع ظاهرة اللجوء والهجرة، والهجمات الإرهابية في الغرب، وثورة الاتصال التي تسببت في أزمة معرفة لدى الرأي العام بسبب الأخبار الكاذبة أو المزيفة، أو الحقائق البديلة؛ وهو ما أدخل الناس في حقبة ما بعد الحقيقة (Post-Truth era)(17).
إن هذه التحولات القيمية التي مسَّت الديمقراطية الأميركية وباقي الديمقراطيات الليبرالية الغربية بدرجات متفاوتة، لم تكن تحولات هامشية، وغير مؤثِّرة على النظام السياسي وسياساته، بل كانت مؤثرة في المشهد السياسي العام، وحاسمة في بعض الأحيان، فقد كانت أحد عوامل فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية، وصعود الشعبويين وتصدُّرهم المشهد السياسي في أكثر من بلد أوروبي، كما هي الحال في فرنسا مع الجبهة الوطنية، وفي ألمانيا مع البديل لأجل ألمانيا.. ويشترك هؤلاء جميعُهم في عدم اكتراثهم بالعناصر الجوهرية في الديمقراطية مثل حكم القانون، وفصل السلط، وحماية الأقليات(18).
وهكذا؛ فالديمقراطية اليوم كنظام سياسي، ومع هذا التحلُّل التدريجي لقيمها المرجعية، وفي طليعتها قيم الفردانية، والمواطنة، والكرامة.. بدأت تبتعد تدريجيًّا عن المعنى التقليدي لها باعتبارها “حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب”، وتقترب أكثر مما يمكن أن نسميه بـ”إيدونتقراطية” (Identicracy)، أي حكم هوية، بواسطة هوية، لأجل هوية.
ب- الأزمة القيمية للديمقراطية خارج الغرب: الجماعتية
لقد تبنَّى عدد من الدول خارج أوروبا الغربية، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، الخيار الديمقراطي وتبنَّى في هذا السياق استراتيجيات مختلفة لتحقيق وإنجاح ما اصطُلح عليه بالانتقال الديمقراطي، غير أن هذه الديمقراطيات الصاعدة وبالرغم من الدعم السياسي الذي لاقته من الغرب، والصراعات التي خيضت لأجلها، فإنها لم تنجح في إقرار نظام سياسي ديمقراطي صلب، غير قابل للانتكاسة. وقد استعمل علماء السياسة اصطلاحات عديدة لوصف الحالة الهجينة لهذه الأنظمة، مثل: الأنظمة الهجينة (Hybrid Regime)، والديمقراطية المعيبة (Defective Democracy)، والسلطوية التنافسية (Comptitive Authoritarianism)..(19). وقد حاول هؤلاء العلماء ومن خلال دراسة مخبرية حصر أشكال الردة الديمقراطية منذ سبعينات القرن الماضي، وحصروها في أربعة أشكال، وهي: تراجع القوى الحاكمة (Incumbent Entrenchment) عن الديمقراطية من خلال عدد من الإجراءات، أو الانقلاب الديمقراطي (The Democratic Coup)، أو تغلب المعارضة (The Opposition Takeover)، أو الانقلاب من أجل حفظ الاستقرار (Stabilizing Coup)..(20).
إن تعثر الديمقراطية في عدد من البلدان خارج أوروبا الغربية، والتي درسها لوكا طوميني (Luca Tomini) دراسة مخبرية وتحليلية عميقة، ترجع إلى جملة من الأسباب الدولية والسياسية والاقتصادية والمؤسساتية والاجتماعية (دور البرجوازية)..، ولم يلتفت تمامًا إلى العوامل القيمية والثقافية وراء فشل هذه التجارب، ربما سبب ذلك العينة التي درسها، أو الطريقة غير المباشرة التي تؤثر بها هذه العوامل في السياسة(21). لكن في الواقع، يوجد العديد من الحالات، والدراسات الأخرى، التي تكشف بالملموس عن دور القيم في إعاقة بناء الديمقراطية الليبرالية، ومن أبرز النماذج التي سنحاول التوقف عندها في هذه المناسبة دراسات تتعلق بالتحول الديمقراطي في روسيا، وإيطاليا، وجنوب شرق آسيا.
– روسيا: لقد قامت إلين كارنغان (Ellen Carnaghan) بدراسة القيم السياسية الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وفي عهد الرئيس فلاديمير بوتين، وذلك في سياق التحقق من فرضية أن حالة الاستبداد أو السلطوية التنافسية التي تعيشها روسيا في عهد بوتين ترجع لطبيعة القيم والثقافة السياسية للشعب الروسي الذي عاش قرونًا عديدة تحت حكم استبدادي وأبوي. وقد عمدت في هذا السياق إلى استجواب عدد من الروس، وتحليل البيانات التي حصلت عليها من حواراتها الموجهة مع عينة منتقاة من الروس(22).
وقد انتهت كارنغان إلى نتيجة مفادها أن الروس العاديين يتقاسمون مجموعة من القيم والتوجهات السياسية التي تجعلهم قادرين على دعم المؤسسات الديمقراطية واقتصاد السوق(23)، وأن المواقف الموروثة لا تشكِّل عائقًا كبيرًا أمام مشروع بناء الديمقراطية في روسيا(24).
لكن مقابل هذا الرأي المدعوم تجريبيًّا، والذي يقلِّل من أهمية المرجعيات القيمية والثقافية وراء تعثر الديمقراطية في روسيا، توجد مواقف أخرى تثبت العكس، استنادًا إلى التحليل والملاحظة بدل التجربة، وقد أوردت كارنغان بعضها في عملها، ومن أهم هذه الآراء رأي ألكسندر دوغين (Aleksandar Dugin)، الذي يعتبر أبرز مفكري السياسة في روسيا اليوم، والمقرب من السلطة، حيث يُقيم ألكسندر فروقات جوهرية بين روسيا والغرب تعيق بشكل أو بآخر التحول الديمقراطي في هذا البلد، فإذا كان الغرب مثلًا يستند إلى قيم الليبرالية والرأسمالية والسوق، فإن روسيا وبخلاف ذلك تُعرِّفها قيم العمل، والجماعتية، والروحانية، والتراتبية، بالإضافة إلى عنصر التقاليد. ويقدِّم حاضرُ روسيا العديدَ من الأمثلة على الامتدادات القيمية لماضيها في الحاضر. ومن ثم فتعثُّر الديمقراطية الليبرالية في نظر ألكسندر يرجع في جانب منه إلى هذه القيم.
إن وجهة نظر ألكسندر دوغين في هذا السياق تعبِّر عن المقاومة الروسية للتغريب السياسي، الذي تُمهِّد له إلين كارنغان بنفيها أي تعارض بين القيم الروسية والديمقراطية. وقد عبَّر دوغين عن هذا الرأي بتفصيل أكبر في كتابه “النظرية السياسية الرابعة” (The Fourth Political Theory)(25)، الذي حاول من خلاله صوغ نظرية سياسية جديدة تتجاوز الليبرالية، وذلك بالاستناد إلى ثلاث قيم كبرى من شأنها توحيد كل الطيف السياسي: اليمين، واليسار، والديانات التقليدية ضد العدو المشترك وهو التنميط، الذي يقف وراءه الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية. وهاته القيم هي: العدالة الاجتماعية، والسيادة الوطنية، والقيم التقليدية للشعوب غير الغربية. ومن اللافت للانتباه في هذه النظرية خلوها من أي حديث إيجابي عن الديمقراطية، بل على العكس من ذلك يعتبرها أساسًا أيديولوجيًّا للحداثة الغربية، التي تتجه بالعالم نحو الكارثة، وبالمقابل تحتفي هذه النظرية بالقيم التقليدية(26).
– إيطاليا: من الدراسات المُهمة التي تؤكد على دور السياق الاجتماعي والتاريخي، وفي صلبه القيم، في إعاقة التحول الديمقراطي: دراسة روبرت بوتنم (Robert D. Putnam)، أحد كبار علماء السياسة الأميركان، التي ضمَّن نتائجَها كتابَه “صُنع الديمقراطية” (Making Democracy Work)، والتي درس فيها الحالة الإيطالية.
لقد اشتغل بوتنم على الصعوبات التي تواجه الديمقراطية في إيطاليا، حيث حاول تفسير تعثرها في الجنوب مقابل ازدهارها في الشمال، وأرجع ذلك إلى ازدهار المجتمع المدني ورسوخه بالشمال، وبالمقابل ضعفه في الجنوب حيث العلاقات الاجتماعية والسياسية مُهَيْكَلَة بصورة عمودية، تضعف معها أشكال التشارك. وما من شك أن هذا الفرق هو فرق ثقافي وتاريخي(27).
إن هذه النتيجة التي انتهى إليها بوتنم ذكَّرته بكلام قديم لتوكفيل، يعزز فرضية دور العامل الثقافي والقيمي وراء فشل أو تعثر الديمقراطية، ومما جاء فيه: “إن الحكومة الديمقراطية تتقوى ولا تضعف عندما تجد مجتمعًا مدنيًّا قويًّا”(28).
– جنوب شرق آسيا: تقدم بلدان جنوب شرق آسيا وفي طليعتها الصين، التي تجر وراءها موروثًا ثقافيًّا وسياسيًّا عريقًا، يتجسد جزء عظيم منه في الديانة الكونفوشيوسية، مثالًا واضحًا على الصلة بين القيم السياسية والمجتمعية وبين الديمقراطية الليبرالية على صعيد العالم اليوم، فهذه البلدان في عمومها مترددة في الأخذ بالنظام الديمقراطي الليبرالي، وتحاول بأشكال مختلفة تكييفه مع خصوصيتها الثقافية والقيمية السياسية. وقد اشتغلت العديد من الدراسات في الغرب والشرق على هذا المثال، وذلك في محاولة لقياس وزن الخصوصية الثقافية والقيمية، وثقلها السياسي، وسنحاول فيما يلي الإشارة إلى بعضها.
ففي حالة الصين مثلًا، فقد أسهمت الثقافة والقيم الكونفوشيوسية في هذا البلد في بناء بيروقراطية قوية، وعلاقة خاصة بين النخبة الحاكمة والقيادة السياسية، سمحت للدولة بالهيمنة على المجتمع، وأنكرت على الأفراد المعارضة السياسية، فالإمبراطور في الفكر السياسي الكونفوشيوسي يتمتع بتفويض من السماء لتحقيق السعادة والرفاه لشعبه، وعلى الجميع الخضوع له وطاعته، وهو ما تعكسه بصورة أو أخرى العلاقة الحالية التي تجمع الحاكم بالأمة في الصين(29).
غير أن هذه المرجعية نفسها لا تفوِّض الإمبراطور تفويضًا مطلقًا، وبغضِّ النظر عن طبيعة أدائه، بل تتيح للجمهور سحب ثقته منه، وإسقاطه إذا تحول إلى مستبد(30).
وفي السياق نفسه، قام كل من إيمرسون نيوو (Emerson Niou)، وجون فوه شينك هسيه (John Fuh-sheng Hsieh) باستجواب حول قضيتي الاستقرار والإصلاح في تايوان، ما بين سنتي 1992 و2008، اقتصر على التايوانيين فقط. وقد استنتج الباحثان من خلال هذا الاستجواب التأثير المباشر للديانة الكونفوشيوسية في ضعف الانفتاح الديمقراطي في التايوان، فأغلب التايوانيين يفضلون الاستقرار على الإصلاح، فعلى سبيل المثال قُدِّر عدد المُؤيدين للإصلاح سنة 2008 بحوالي 17%، بينما بلغ عدد المؤيدين للاستقرار حوالي 67%. وقد علَّق هذان الباحثان على نتائج هذا الاستجواب بالقول: صحيح أن الخوف من الهجوم الصيني أحد أسباب تفضيل التايوانيين للاستقرار، الذي يعني رفضًا غير مباشر للديمقراطية، لكن الثقافة التقليدية أيضًا لها دور في ذلك(31).
لقد حاول عدد من الدارسين استخلاص أبرز القيم السياسية التي تحفل بها الثقافة الكونفوشيوسية، والتي تجعل من أنظمة جنوب شرق آسيا مترددة في الأخذ بالنظام الديمقراطي أو متعثرة في ذلك، ومن أبرز هذه القيم:
– قيمة الاستقرار والنظام، حيث لا تشرع هذه الثقافة المس بهما.
– قيمة الخضوع والطاعة، والتي تتجلى في الهرمية الأبوية للمجتمع، التي تعكسها ثنائيات من قبيل العاهل-الوزير، الأب-الابن، الزوج-الزوجة؛ حيث يتوجب على الأعلى، الأب مثلًا، أن يرعى مَنْ دونه، ويُقدِّم القدوة له.
– قيمة التشاركية أو الجماعتية (Collectivity)، بدل قيمة الفردانية (Individualism)، فالجماعتية قيمة ثقافية راسخة في المجتمعات الكونفوشيوسية.
– قيمة المساواة، التي تحتفي بها التعاليم الكونفوشيوسية، احتفاء واضحًا.
– قيمة الشخصنة، فالسياسة في المجتمعات الكونفوشيوسية أكثر تعلقًا بالأشخاص مقارنة بنظيرتها في الغرب.
إن تعثر الديمقراطيات في عدد من البلدان التي تقع خارج أوروبا الغربية لا يمكن تفسيرها بعوامل سياسية فقط، ترتكز إلى صراع القوى على السلطة، والموارد وما يتصل بها من أسباب، بل الكثير من مشاكلها تعود إلى خلفيات قيمية مرتبطة بالتاريخ والثقافة، فعلى سبيل المثال ضمور قيم الفردانية، وهيمنة الجماعاتية، وأيضًا رسوخ قيم الطاعة والسُّلط الأبوية، والقبلية، والدينية في عدد من المجتمعات غير الغربية التي تبنت الخيار الديمقراطي، يمنع تقدمها الطبيعي والسريع نحو الديمقراطية الليبرالية. ونظن أن هذه الخلاصة التي تصدق على البيئات التي كانت موضوع دراسة كإيطاليا وروسيا والصين تنسحب أيضًا على العالم العربي، ولو أننا لا نتوفر على دراسات تحليلية وميدانية من هذا النوع، من شأنها تعزيز ثقتنا بانطباق هذه الفرضية على الحالة العربية.
وإجمالًا؛ إن الديمقراطية الليبرالية اليوم تعاني من أزمة مزدوجة، تعاني من جهة من التلاشي التدريجي لأساسها القيمي المرجعي وهو الفردانية، باعتبارها تمركزًا حول الذات، وتطلعاتها التحررية، والذي يتمثَّل في صعود نوع من الجماعتية، حيث يغفل في إطارها الفرد عن ذاته، ويذوب في جماعة هوياتية، ويتقاسم معها عددًا من الهموم والمطالب، ولا يخفى أن هذه الدينامية أي التحول نحو الجماعتية يعاكس تمامًا الدينامية التي كانت وراء ظهور الديمقراطية وانتصارها السياسي. وتعتبر ظاهرة الشعبوية السياسية بجناحيها اليميني واليساري أبرز تعبير عن هذه الأزمة في البلدان الغربية.
ومن جهة ثانية، تعاني الديمقراطية الليبرالية خارج البلدان الغربية، وخاصة في بلدان الشرق من نوع آخر من الأزمة، وتتمثَّل في رسوخ بعض القيم والتقاليد المناقضة للقيم الديمقراطية، وعلى رأس هذه القيم الجماعتية، التي تناقض الفردانية، وتسعى لإذابة الفرد في إطار الجماعة، وهو ما لا يسمح بظهور تعددية سياسية أو ثقافية، وتعتبر بلدان آسيا وفي مقدمتها الصين مثالًا للمجتمعات الجماعتية، التي تستعصي دَمَقْرَطَتها.
إن هذه الأزمة بوجهيها تطرح وبقوة سؤال الإصلاح السياسي في كل من الغرب والشرق، فإذا كانت الديمقراطية الليبرالية اليوم تعزز شرعية الشعبوية، التي تسعى للانقلاب على الديمقراطية، فكيف يمكن إصلاحها؟ ونفس السؤال يمكن طرحه بالنسبة للبلدان غير الغربية، فإذا كان رسوخ القيم الجماعتية يمنع ظهور الديمقراطية، فهل الحل يكمن في الاستكانة للتقليد وقتل الفرد، أم أننا نحتاج إلى نظام يقيم بعض التوازن بين القيم السياسية التقليدية والحديثة؟
- الإصلاح السياسي في ضوء الأزمة القيمية للديمقراطية
إن الأزمة القيمية العميقة التي تعاني منها الديمقراطية الليبرالية سواء في الغرب أو خارجه تتحدى العقل السياسي المعاصر، وتطرح عليه سؤال الأفق بإلحاح وجدية، فاستمرار الحالة السياسية على ما هي عليه اليوم، يعني دخول العالم موجة من الاضطرابات العنيفة، والانقسامات الإقليمية والمحلية على أساس العقائد الهوياتية، والأصوليات المتطرفة. وهذا الخطر الذي يتهدد البشرية في ضوء هذه الأزمة خطر شامل، يهم البلدان الديمقراطية الغربية، والدول غير الغربية المتعثرة في الأخذ بها. فعلى سبيل المثال ما تشهده إسبانيا في منطقة كتالونيا، وما تشهده بلجيكا من جمود سياسي قاتل بسبب الصراع بين الفرانكفون والفلامان وغيرها من الأمثلة هي أعراض مباشرة للأزمة البنيوية التي تعيشها الديمقراطية.
إن الدراسات والأعمال التي صدرت في السنوات القليلة الماضية في مختلف بقاع الأرض، التي تعالج أزمة الديمقراطية، والتي يصعب حصرها، تدل دلالة قاطعة على وعي مسؤول بخطورة هذه الأزمة وتهديداتها، وتحاول اقتراح عدد من الحلول الممكنة. وسنحاول في هذه الفقرة الوقوف عند اقتراحين جادين، واحد صادر من قلب الغرب الديمقراطي، ويتعلق الأمر بأطروحة فرانسيس فوكوياما، والثاني صادر من قلب الشرق، ويتعلق الأمر بأطروحة زهانغ ويوي (Zhang Weiwei).
أ- إعادة بناء عقيدة الهوية الوطنية
لقد تحدث فوكوياما بإسهاب عن الأزمة القيمية للديمقراطية في العمل المشار إليه آنفًا، ولم يَفُته في هذا السياق النقدي للديمقراطية التنبيه إلى آفاق الحل، وكيف يمكن للديمقراطية الغربية أن تُنقِذ نفسها من الانهيار. ويتألَّف الحل الذي اقترحه من جملة من المطالب، من أبرزها: مطلب إعادة بناء عقيدة الهوية الوطنية.
إن الإشكالية الخطيرة التي تعاني منها الديمقراطية الغربية وخاصة في صورتها الأميركية بحسب فرانسيس فوكوياما، هو تزايد الانقسامات الداخلية على أساس هوياتي، ما بين بيض، وباقي العناصر الأخرى، مثل السود، والأميركيين من أصول لاتينية، وجماعات الشواذ. وتستند هذه الانقسامات في العمق إلى مطالب العدالة، والكرامة الإنسانية، وغيرها من القيم. ومن الواضح جدًّا أن الاتجاه التجزيئي الذي تسير في اتجاهه هذه التشكيلات الهوياتية من الناحية السياسية يُعاكس تمامًا الاتجاه الذي ازدهرت في إطاره الديمقراطية، وهو إطار عقيدة الهوية الوطنية. ولا يخفى أن هذه الانقسامات تشكل تهديدًا جديًّا لاستقرار المجتمع، ورفاهه.
يُعرِّف فوكوياما عقيدة الهوية الوطنية الجامعة (Creedal national identity) باعتبارها هوية منفتحة، “لا تنشأ حول الأوصاف الشخصية المشتركة، والخصوصيات، والروابط التاريخية، أو المواثيق الدينية، بل تنشأ أساسًا حول قيم وعقائد جوهرية، وهي الفكرة التي تشجع المواطنين على التعرف على المثل العليا لبلدانهم، وتساعدهم أيضًا على استعمال السياسات العمومية بشكل تلقائي لأجل إدماج الوافدين الجدد في المجتمع”(32). ومن الجلي في هذا التعريف عدم اهتمامه بالخصوصيات الثقافية، والدينية، العرقية في تعريف الهوية الوطنية، وبالمقابل يربطها بقيم كلية مشتركة، يمكن أن يجتمع عليها الناس بغضِّ النظر عن دينهم وجنسهم وتاريخهم.
إن إعادة الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة وعلى حساب الهويات الجزئية من شأنه أن يُضعف النزعات الشعبوية، ويلفت انتباه الناس إلى الروابط التي تجمعهم، غير أن التحدي الذي يواجه المفكرين والساسة على حدٍّ سواء في هذا السياق هو تحدي الهجرة، فتدفق المهاجرين على بلدان أوروبا وأميركا، وسياسات التفرقة التي ينهجها عدد من الدول، على مستوى التعليم وقوانين الجنسية وقوانين الشغل، تغذِّي بطريقة مباشرة وغير مباشرة الاتجاهات الهوياتية، والانقسامية، والشعبوية، بل ستؤدي تدريجيًّا إلى إضعاف خطابات الأيديولوجية الاقتصادية، وبالمقابل تقوية الخطابات الهوياتية في الميدان السياسي.
إن بناء الهوية الوطنية الجامعة في الديمقراطيات الليبرالية، والخروج من شبح الانقسام يقتضي أمرين اثنين: أولًا: الاهتمام بالتربية المدنية، التي تربي المواطنين على القيم المشتركة الجامعة، والابتعاد ما أمكن عن التعليم الطائفي والتعدد اللغوي. ثانيًا: إصلاح قوانين الهجرة، بحيث يتم ربط صفة المواطنة بحزمة قيم وطنية، مشتركة، وليس بعنصر العرق أو الدين(33).
وما من شك في أن نجاح الديمقراطيات التقليدية في إعادة الاعتبار للهوية الوطنية الجامعة على حساب الهويات الجزئية، وبالشروط المعقولة التي أشار إليها فوكوياما، من شأنه أن يعيد الممارسة السياسية إلى مربعها الأول والطبيعي، وهو الاهتمام بالنمو الاقتصادي وأسئلة التقدم، والتنافس في تقديم الأجوبة الاقتصادية على أزمات الشغل، والصحة، والتعليم، والأمن.. ذلك أن أنجع دواء للشعبوية والانقسامات الهوياتية هو الازدهار الاقتصادي، والتقليل من الفوارق بين الأفراد والجماعات، فضياع الكرامة والإحساس بعدم الاعتراف لدى فئات عريضة له في الغالب جذور اقتصادية حسب فوكوياما، ومن ثم، فالهوية لا يمكن استعمالها للتقسيم فقط بل يمكن استعمالها أيضًا للتوحيد.
إن قيم العدالة، والكرامة، والمساواة، والفردانية التي تشكِّل أساس الديمقراطية أنتجت -في سياق ثقافي وتاريخي معين- نقيضها، وهو ما يجسده تغلُّبُ وصعودُ النزعات الشعبوية في الغرب الديمقراطي، التي أفرغت القيم الجوهرية للديمقراطية من محتواها الإنساني، وذلك من خلال سياسات التمييز ضد المهاجرين وبعض الأقليات الهوياتية، وتزايد مظاهر العنصرية والإسلاموفوبيا في الشارع والإعلام والجامعة؛ وهو ما قد يؤدي مستقبلًا إلى زعزعة استقرار هذه الديمقراطيات وتَفَتُّت بلدانها. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل مفهوم الهوية الوطنية الجامعة الذي اقترحه فوكوياما قادر على إصلاح النظام الديمقراطي، وتخليصه من أزماته؟
ب- الميريتوقراطية (Meritocracy) بدل الديمقراطية
إلى جانب أطروحة فوكوياما، والتي حاولت التنبيه إلى اتجاهات الإصلاح السياسي في الدول الديمقراطية التقليدية، توجد أطروحة زهانغ ويوي الصيني، وتهم بالدرجة الأولى مشكلة الديمقراطية في البلدان غير الغربية في كل من أوروبا الشرقية، وآسيا، وإفريقيا، وهي مشكلة تختلف في كثير من أعراضها عن مشكلة الديمقراطية في الغرب، حيث يتجلَّى بعضها في الهشاشة السياسية، وعدم الاستقرار، والصراعات الطائفية والقبلية.
ينطلق ويوي من مقدمة أساسية أن النظام الديمقراطي لا تتوفر فيه صفة النموذج الكوني، الذي يصلح لكل الشعوب بغضِّ النظر عن ثقافتها، وقيمها، وخبراتها التاريخية، وأن التجربة الديمقراطية كما يشهد الواقع عليها، ليست أفضل نظام سياسي، فقد أمست جسرًا آمنًا لفوز عديمي الكفاءة بالسلطة؛ وأمست مصدرًا لسياسات عدائية-إمبريالية، كما تسببت في الكثير من الفوضى والاضطراب في عدد من أنحاء العالم، كما هي الحال في بلدان الربيع العربي.
إن أطروحة ويوي التي تقدم النظام السياسي الصيني للعالم؛ باعتباره نموذجًا غير ديمقراطي في الحكم؛ مختلفًا وفعالًا، لا تقترح هذا النظام نموذجًا قابلًا للنسخ والنقل إلى باقي دول العالم، بل تحرض باقي الشعوب على التمرد على الفكرة الديمقراطية، وتُقدِّم لها وصفة النجاح السياسي والتنموي، والتي تلخصها في المزاوجة والتوليف المبدع بين الخصوصية التاريخية والثقافية والقيمية وبين الدولة الحديثة. فالدولة الصينية -في نظر ويوي- كدولة حضارية (Civilizational state)، تجمع بصورة عبقرية بين خبرات وتقاليد حضارية عريقة تمتد إلى خمسة آلاف عام، والدولة-الأمة، الحديثة(34).
ومن ثم، فالصين هي دولة حديثة وتقليدية في الآن نفسه، فالحزب الشيوعي الذي يهيمن على الدولة والمجتمع في الصين على سبيل المثال، وعكس ما يظن الكثيرون، ليس حزبًا بالمفهوم الغربي للحزب، بل هو استمرار لِحُكم كونفوشيوسي موحد، وتقليدي، يعكس قدرَ المُستطاع مصالح المجتمع، بخلاف الحزب في المفهوم الغربي الذي يعبِّر عن مصالح فئات اجتماعية معينة(35).
ومن ناحية أخرى، فإن الشرعية السياسية في الخطاب التاريخي الصيني ليست شرعية حديثة، كما يحددها الفكر السياسي الحديث، بل ترتبط بعنصرين رئيسين: بكسب أو خسارة قلوب وعقول الشعب، وبالاستحقاق والجدارة القائمة على انتقاء المواهب للحكم أو ما يسمى بـ”ميروقراطي”، بدل الانتخاب الذي تؤكد عليه الديمقراطية. ويعبِّر هذان العنصران بصورة أو أخرى عن امتداد واستمرار للثقافة السياسية الكونفوشيوسية في الصين الحديثة والمعاصرة. وهذه الشرعية الموصولة بجذور الصين وتقاليدها، هي ما يفسر حكامتها الجيدة، مقارنة بالدول الأوروبية(36).
ولا يتردد ويوي في هذا السياق في التصريح بأن النظام السياسي الصيني يستثمر هذه الشرعية، ويدعو باقي الدول غير الغربية إلى احترام تقاليدها السياسية، وعدم الانجرار وراء الرومانسية السياسية التي تجسدها الديمقراطية، والتي قد تكون مكلفة جدًّا(37). وهكذا، ففرادة النموذج الصيني وقوته بحسب زهانغ تتجسد في قدرته على تحديث التقاليد السياسية للصين، وكونفوشيوسيتها(38)، وهو ما يجب أن تفعله باقي الدول.
ومن ثم، فالديمقراطية في نظر ويوي هي إرادة الشعب، والحَكامة الجيدة، وليست شيئًا آخر. ويحكي في معرض استدلاله على صواب هذه الفكرة قصة حوار حصل بينه وبين بعض القادة والخبراء العالميين، وعلى رأسهم الرئيس الفنلندي الأسبق، مارتي أنتساري، سنة 2009، في العاصمة البلجيكية، بروكسل، وذلك في حفل عشاء على هامش ندوة “أزمة الإدارة في إفريقيا”. لقد تناول الكلمة في هذا الحفل الرئيس أنتساري، وفي سياق تفاعله مع مداخلة ويوي في هذه الندوة، اعتبر المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني بمنزلة مجلس إدارة شركة، والأمين العام للحزب بمنزلة رئيس المجلس، ورئيس الوزراء مثل الرئيس التنفيذي للشركة، وباقي الحكومة بمنزلة إدارة الشركة. وطلب أنتساري من ويوي رأيه في هذا التوصيف، وهو ما استجاب له، وعقَّب بما يلي: “لماذا الشركات على صعيد العالم لا تنتخب رؤساء مجلس الإدارة بناء على حق التصويت لكل شخص؟ لأنهم إذا اتبعوا هذا الأسلوب ربما تفادوا خطر الإفلاس، ونفس الشيء يجب أخذه بالاعتبار في النظام السياسي، حيث يجب علينا النظر في كيف يمكن أن يحكم البلد على نحو جيد. فالديمقراطية في نظري تعني إرادة الشعب، والحُكم الجيد، وليس الديمقراطية من أجل الديمقراطية، والانتخاب من أجل الانتخاب”(39).
إن هذا المنظور النقدي للديمقراطية، وتثمين الخصوصية الثقافية والقيمية في هذا السياق ليست خصوصية صينية صرفة، بل انتبه إليها عدد من القيادات في بلدان جنوب شرق آسيا منذ تسعينات القرن الماضي؛ حيث تزايد الحديث بينهم عن “القيم الآسيوية”، التي تنأى بالمجتمعات الأسيوية عن الديمقراطية الليبرالية، وتُركز بالمقابل على الاختيار بدل الانتخاب أو ما يسمى بـ”الميروقراطية”. وتزامن ذلك مع الصعود الاقتصادي المثير للنمور الآسيوية، غير أن هذا اليقين في القيم الآسيوية أخذ في التراجع مع نهاية التسعينات وبالتزامن مع الأزمة التي مسَّت هذه النمور(40).
ومن ثم، فاعتماد النظام السياسي الصيني على نظام الاختيار القائم على الكفاءة، بدل الانتخاب الديمقراطي، يرجع لكون هذا النظام أقدر من غيره على إيصال الأكفأ والأقدر إلى كرسي الحكم، بدل الديمقراطية التي تترك الأمر لأهواء الناس، غير المقيدة بدروس الفلسفة، والتاريخ، والعلوم الاجتماعية(41).
وترجع جذور هذا النظام إلى عصور سحيقة، إلى ما قبل الميلاد، ويعتمد في سياق بحثه عن الكفاءة والجدارة على معايير وأوصاف الفضيلة الأخلاقية، والمهارات الاجتماعية، والقدرات الثقافية والفكرية. وبحسب الظروف وحاجات الدولة قد تُغَلِّب الجهة المسؤولة عن الاختيار وصفًا على بقية الأوصاف، فعلى سبيل المثال في حال انتشار الفساد، يكون الوصف الأخلاقي أولى من غيره من الأوصاف في اختيار القيادة، وهكذا(42). وقد استفاد الصينيون في تحديث نظامهم الميروقراطي بشكل كبير من النظام السنغافوري، الذي كان سبَّاقًا في تطوير هذا الأسلوب من الانتقاء، وانتقل لهذا الغرض عدد من كوادرهم إلى سنغافورة منذ سنة 1990(43).
يتميز النظام السياسي السنغافوري بتعددية صورية، ويخضع لهيمنة حزب العمل الشعبي ((People’s Action Party (PAP) منذ الاستقلال (1965). ويعتمد هذا النظام في اختيار زعمائه وقادته على النظام الميروقراطي، الذي أرسى قواعده الزعيم لي كوان يو (Lee Kuan Yew)(44). وتنطلق عملية الانتقاء أو الاختيار في العملية الميروقراطية من المدرسة، التي تشكِّل المحطة الأولى في عملية فرز وانتقاء المواهب على مستوى المهارات، والمعارف، والذكاءات، والقدرات القيادية..، الذين يخضعون بعد ذلك لتدريب مُعقَّد وطويل، وإلى تكوين عميق، وواسع، قبل أن تُسْنَد لهم مهام التسيير في الدولة(45).
تقوم الميروقراطية السياسية على فكرة أساسية مفادها: يجب أن يتوفر كل الناس على فرص متساوية تتيح لهم إمكانية ممارسة السلطة والمساهمة السياسية، لكنهم يتفاوتون في المؤهلات، والقدرات التي تسمح لهم بذلك. وهذا النوع من التفكير أو المبدأ له صلة وثيقة بالديانة الكونفوشيوسية(46).
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن الميروقراطية ليست غريبة على الفكر الديمقراطي الغربي، بل كانت متفهمة من طرف رواده كجون ستيوارت ميل (John Stuart Mill)، وألكسيس دو توكفيل خلال القرن 19، وتراجع عنها الغرب متأخرًا، حتى النصف الثاني من القرن العشرين، مع إقرار حق التصويت للجميع(47).
إن النظام السياسي الصيني ومعه النظام السنغافوري يقدِّم نفسه كأطروحة نقدية للديمقراطية الليبرالية، ويتفوق عليها أخلاقيًّا وأدائيًّا من خلال نظام ميروقراطي، ثم انتخابي، يركز على اختيار الكفاءة من خلال قاعدة اختيار واسعة يوفرها الحزب والمدرسة. نظام يحقق التقدم، والعدالة، والكرامة، بعيدًا عن قيمة الفردانية وقريبًا من الجماعتية. ومن التقاطعات الفكرية اللافتة للانتباه في هذا السياق، أنه إذا كانت أطروحة فوكوياما في الإصلاح السياسي تركز على عقيدة الوحدة الوطنية، فإن زهانغ هو الآخر يركز على قيمة الوحدة السياسية التي يحميها الحزب الشيوعي.
وإجمالًا؛ إن الأزمة القيمية التي تعاني منها الديمقراطية الليبرالية من بين أسبابها التراجع عن القيم المرجعية للديمقراطية، وعلى رأسها قيمة الفردانية، وتجاهل الهوية الذاتية، والاعتناق التدريجي لقيم جماعتية وهوياتية جديدة تهدد استقرار النظام وحسن أدائه السياسي والاقتصادي. ولم تقتصر هذه الأزمة على البلدان الديمقراطية التقليدية، بل تجاوزتها إلى عدد من البلدان غير الغربية التي فشلت في إقرار نظام ديمقراطي سليم ولأسباب قيمية وثقافية أيضًا. وقد حاول بعض المفكرين الغربيين، وعلى رأسهم فوكوياما، اقتراح حلول لهذه الأزمة، غير أن اقتراحهم في الجوهر هو دعوة “سلفية”، تنصح بالعودة للأصول القيمية للنظام الديمقراطي وفي مقدمتها قيمة الفردانية، وعقيدة الوحدة الوطنية، وأيضًا الرفع من الأداء الاقتصادي الذي قد يساعد على التخفيف من الفوارق، غير أن هذه الدعوة شأنها شأن سائر الدعوات السلفية حظوظ فشلها أكبر من حظوظ النجاح، فعجلات التاريخ تتحرك فقط إلى الأمام، ولا تقبل العودة إلى الوراء، ومن ثم، فإن أي تفكير يقوم على المماثلة، ويستلهم الحلول من التجارب السابقة هو تفكير فاشل، ونظن أن مشروع فوكوياما من هذه الناحية غير فعال في علاج أزمة الديمقراطية.
ومن ناحية أخرى، إن الفشل في إقرار استقرار سياسي متين، ونمو اقتصادي دائم من خلال الديمقراطية الغربية في عدد من بلدان الشرق، وإفريقيا لأسباب عديدة، وفي مقدمتها الأسباب القيمية والثقافية من جهة، أَفْقَدَ الكثيرين الثقة في النظام الديمقراطي، ومن جهة ثانية لفت الانتباه إلى النظام الميروقراطي، ونجاحاته، التي يرجع جانب منها إلى الدور الفعال للقيم الموروثة في السياسة.
خـاتـمـة
إن الديمقراطية الليبرالية تعيش أزمة مزدوجة: أزمة مرتبطة بتراجع مكانتها القيمية في عقر دارها، بسبب صعود التيارات اليمينية، والشعبوية..وما رافقها من تعثرات من جهة(48)؛ وأزمة في البلدان المتأثرة بها بسبب حالة الفوضى، وانعدام الاستقرار الذي تعيشه العديد من البلدان السائرة في طريق الديمقراطية من جهة ثانية. وما من شك في أن أسباب وعوامل هذه الأزمة ترجع إلى جملة من العوامل من أبرزها العامل القيمي، فوصول ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة الأميركية يُشكِّل مظهرًا محرجًا للفشل القيمي للديمقراطية، فما مصير الكرامة الإنسانية، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان..في ضوء نظام يوجد على رأسه حاكم كترامب؟، كما أن صعود التيارات الإسلامية في عدد من هذه الديمقراطيات الصاعدة في العالم الإسلامي، وتعثر أخرى خارجه في إقرار حياة ديمقراطية سليمة، يتحدى المرجعيات الديمقراطية في أصولها القيمية كالفردانية، والمواطنة، والحريات.
إن هذه الأزمة المزدوجة بأوجهها المختلفة نالت من جاذبية النموذج الديمقراطي، كما أسلفنا القول، وأَفْقَدَته الكثير من البريق واللمعان، وبالمقابل أتاح الفرصة لظهور أطروحات وأفكار سياسية جديدة تتحدى النموذج الديمقراطي، من جهةِ قُدرتها العملية على تحقيق الاستقرار، والرفاه، والكرامة، والعدالة..ومن أبرز هذه الأفكار النظرية الميروقراطية التي تعول على الاختيار أولًا، ثم الانتخاب ثانيًّا، التي يجسدها النظام الصيني، والتي تستند في العمق إلى قيم جماعتية متوارثة، وعريقة.
ولعل أهم شيء تؤكد عليه النظرية الميروقراطية، والنظرية الثالثة لألكسندر دوغين في الحالة الروسية، هو أهمية التوليف المبدع بين التقاليد والقيم السياسية الموروثة من جهة، والفكرة الديمقراطية كما عرَّفها إبراهام لينكولن من جهة ثانية (“حكم الشعب بواسطة الشعب لأجل الشعب” في إطار الدولة الحديثة).
ومن ثم، فدينامية الإصلاح السياسي التي كانت ولا تزال يعيشها عدد من البلدان في الشرق وخارج الغرب، كانت تتجه كلية نحو تأصيل الديمقراطية، واستنبات عناصرها وقيمها من فردانية وغيرها، وبغضِّ النظر عن الموروث القيمي والثقافي، غير أن المآلات التي آلت إليها هذه الدينامية من جهة، والأزمات التي انتهت إليها الديمقراطيات التقليدية من جهة ثانية، تدفع باتجاه دينامية أخرى تعيد الاعتبار للموروث القيمي والثقافي في مشروع الإصلاح السياسي، وهو ما نفذته الصين وعدد من دول جنوب شرق آسيا، التي نجحت في استثمار موروثها السياسي والديني في الإصلاح السياسي، وهو ما هيَّأ لها ظروف النجاح.
المراجع
(1) Luca Tomini, When Democracy Collapse (Oxon: Routledge, 2018).
(2) Gregor Fitzi, et al., Populism and the Crisis of Democracy (Oxon: Routledge, 2019).
(3) Zhang Weiwei, The China Wave (Rise of a Civilization State) (Hackensack: World Century Publishing Corporation, 2011).
(4) إن التيارات الشعبوية في الغرب ورموزها لا تخفي تبرمها من الإعلام التقليدي والقضاء المستقل، ويعتبر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أبرز مثال لهذا التبرم، فهجومه على الإعلام والقضاء بات مألوفًا في الولايات المتحدة الأميركية.
(5) John Jeffries Martin, Myths of Renaissance individualism (New York: Palgrave Macmillan, 2004), p. 1-3.
(6) Ibid, p. 9-10.
(7) Bernard Crick, Democracy: A Very Short Introduction (New York: Oxford University Press Inc, 2002), p. 12.
(8) Ibid, p. 12-13.
(9) Alexis Tocqueville, Democracy in America, Trans. James T. Schleifer and ed. Eduardo Nolla (Indiana: liberty fund, inc, 2010), V. l, p. 83.
(10) Ibid, V. ll, p. 88.
(11) فرانسيس فوكوياما، النظام السياسي والانحطاط السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية، ترجمة معين الإمام ومجاب الإمام، ط 1، (الدوحة، منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، 2016)، ص 527.
(12) Francis Fukuyama, Identity (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2018), p. 89.
(13) Donald N. Wood, Post intellectualism and the decline of democracy, (London: Preager published, 1996), p. 20-190-204.
(14) Francis Fukuyama, Against Identity Politics the New Tribalism and the Crisis of Democracy, foreignaffairs, September/October 2018, “accessed October 1, 2019”. https://fam.ag/34RLcJc.
(15) Rogers Brubaker, “Why populism?,” in Populism and the Crisis of Democracy, V. 1, p. 31.
(16) Ibid, p. 32.
(17) Ibid, p. 39.
(18) Fitzi, et al., Populism and the Crisis of Democracy, V. 1, p. 4.
(19) Tomini, When Democracy Collapse, p. 8.
(20) Ibid, p. 157.
(21) Ibid, p. 14-16.
(22) Ellen Carnaghan, Out of Order: Russian political values in an imperfect world (Pennsylvania: The Pennsylvania State University, 2007), p. 2-3.
(23) Ibid, p. 269.
(24) Ibid, p. 280.
(25) Alexander Dugin, The Fourth Political Theory, (United Kingdom: Arktos Media Ltd, 2012).
(26) Ibid., p.81-82.
(27) Robert D. Putnam, Making democracy work: Civic traditions in modem Italy (New Jersey: Princeton University Press, 1993), p. 181.
(28) Ibid, p. 182.
(29) Xiaoqin Guo, State and society in China’s democratic transition: Confucianism, Leninism, and economic development, (New York: Routledge, 2003), p. 156-161.
(30) Ibid, p. 162.
(31) John Fuh-sheng Hsieh, Confucian culture and democracy, (Singapore: World Scientific Publishing Co. Pte. Ltd., 2005), p. 5-6.
32- Fukuyama, Against Identity Politics the New Tribalism and the Crisis of Democracy, op, cit.
33- Ibid.
(34) Zhang Weiwei, The China Wave (Rise of a Civilization State), p. 47-52-53.
(35) Ibid, p. 60.
(36) Ibid, p. 61.
(37) Ibid, p. 68.
(38) Ibid, p. 108.
(39) Ibid, p. 72.
(40) Daniel Bell, The China model: political meritocracy and the limits of democracy, (New Jersey: Princeton University Press, 2015), p. 63-64.
(41) Ibid, p. 108-109.
(42) Ibid, p. 67-109.
(43) Ibid, p. 35.
(44) Ibid, p. 32.
(45) Ibid., p. 33.
(46) Ibid, p. 32.
(47) Ibid, p. 66.
(48) يتساءل “دونالد وود”: “إذا كانت الديمقراطية موضع تساؤل في الولايات المتحدة الأميركية فكيف يكون الأمر بالنسبة لبقية العالم؟”
Donald N. Wood, Post intellectualism and the decline of democracy, p. 215.