مقدمة  

في ظل صعوبات الحالة الاقتصادية وتعقيدات البيئة السياسية (محليًّا وإقليميًّا) والتحديات المهنية التي يواجهها قطاع الصحافة الورقية في لبنان خلال السنوات العشر الماضية، تراجعت مقروئية الصحف وتأثيرها في المجال العام وتعاظم انتشار الإعلام الإلكتروني والاجتماعي، وهو ما أسهم في تعميق أزمة وجود قطاع الصحافة بكامله؛ إذ جعلت عددًا من المؤسسات الصحفية يلجأ إلى خيار الخروج من المشهد الإعلامي المكتوب، مُسْتَوْعِبًا التجارب الصحفية العريقة التي لم تستطع الحفاظ على استمرار صوتها منشورًا ورقيًّا، وكذلك التجارب الحديثة بعد أشهر معدودة من صدورها. وبرز خطاب لفاعلين مهنيين يتوقع نهاية الصحافة الورقية اللبنانية في غضون أعوام لا تتجاوز عقدًا واحدًا، مُسْتَلْهِمًا أطروحته من انتشار ما يُسمِّيه “الأونلاين” أو الحتمية الرقمية التي بدأت تهيمن أو تُوَجِّه السلوك الاتصالي للمستخدم، ومُسْتَوحِيًا استشرافاته من خطاب النهايات الذي يبلور رؤيته لتطور وسائل الإعلام باتجاه الإعلام الرقمي بمنصاته المختلفة مُتَوَقِّعًا خروجًا أو نهاية للإعلام الجماهيري، وكذلك نهاية الجمهور والمتلقي.

كانت أبواب الخروج مُشْرَعَة أمام تجارب صحفية امتدَّ بعضها قرنًا كاملًا مثل صحيفة “البيرق” التي توقفت في أغسطس/آب 2011، وكان أصدرها سعيد عقل عام 1912 قبل أن تصبح واحدة من دعامات “دار ألف ليلة وليلة” التي أسَّسها نقيب المحررين، ملحم كرم، وانهارت بعد رحيله؛ حيث توقفت أيضًا مجلة “الحوادث” ومجلتا “لا ريفي دي ليبان” (La Revue du Liban)، و”مونداي مورنينغ” (Monday Morning) في العام نفسه. كما خرجت من المشهد الإعلامي صحيفة “الحياة” التي أغلقت مكاتبها بلبنان، في 30 يونيو/حزيران 2018، بعد تجربة امتدَّت أكثر من سبعة عقود؛ إذ انطلقت في العام 1946، وتوقفت أيضًا “دار الصياد”، في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وكانت تأسَّست عام 1943، ومعها أطفأت صحيفة “الأنوار” وجميع المجلات الصادرة عنها (الشبكة، والدفاع العربي، والفارس…) تجربتها الصحفية، وهو ما اعتبره البعض “سقوطًا لقطعة أخرى من لبنان”(1)، باعتبارها تُشكِّل الذاكرة الثقافية والتاريخ اليومي للبلد، وكانت سبقتها في الخروج صحيفة “السفير” في نهاية العام 2016 بعد تجربة مهنية تجاوزت أربعة عقود؛ حيث تأسَّست عام 1974. وكانت صحيفة “المستقبل” التي صدرت عام 1999 أكملت عقدها الثاني قبل أن تطوي صفحة تجربتها، في يناير/كانون الثاني 2019. كما توقفت بعض التجارب الحديثة مثل صحيفة “الاتحاد”، في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2017، ولم يمض على صدور عددها الأول أكثر من ثلاثة أشهر.

لم تستطع هذه المؤسسات الصحفية أن تحافظ على استمرار صوتها منشورًا ورقيًّا، ولا أن تحمي نفسها من حتمية المد الرقمي الجارف ومتغيرات البيئة الاتصالية والإعلامية الجديدة لمواصلة تجربتها؛ حيث أظهر بعضها حرصًا على رَقْمَنَة صوته بالتحوُّل إلى صحيفة إلكترونية قد لا يكون وضعها أفضل حال من الصحيفة الورقية في ظل الهشاشة الاقتصادية التي يعاني منها قطاع الإعلام. وتُعبِّر هذه الحالة عن اختلال بنية الصحافة الورقية اللبنانية التي تُشكِّل خصوصية القطاع نفسه من حيث النموذج الاقتصادي، وهياكله التمويلية، وأنماط ملكيته، ومهنيته، وأجندته السياسية، وشبكاته النخبوية، وعلاقته بالسلطة، ويعكس هذا الاختلال طبيعة التهديدات التي تواجه كيان الصحافة الورقية؛ إذ تخلق تحديات أمام الفاعلين المهنيين والاقتصاديين ومالكي الامتيازات الصحفية بشأن فرص استمرارها في ظل ما يراه البعض
_______________________________

*د. محمد الراجي، باحث في مركز الجزيرة للدراسات

“خطرًا وجوديًّا يتهدَّدها ونزيفًا في جسد الصحافة اللبنانية المكتوبة يستهدفها”(2)، وتثير أسئلة حول التحولات التي يعرفها هذا القطاع ودوره، وعلاقة الجمهور به، ومستقبله أيضًا، الأمر الذي يجعلنا إزاء أزمة مركَّبة تعيشها الصحافة اللبنانية وتؤثر في كينونتها، وفي رؤية المتلقي لرسالتها ووظيفتها والطريقة التي يدرك بها العالم.

  1. الإطار المنهجي والنظري للدراسة

أ- إشكالية الدراسة وفرضياتها

تُعَدُّ البيئة الإعلامية اللبنانية الراهنة وتشعباتها إطارًا مُشَخِّصًا لإشكالية الدراسة وأبعادها، والتي تتمثَّل في أزمة وجود صناعة الصحافة الورقية اللبنانية في مرحلة غير مسبوقة في تاريخها؛ حيث تواجه تحديات غير تقليدية اقتصاديًّا وإداريًّا ومهنيًّا وتكنولوجيًّا وثقافيًّا أدت إلى خلل في منظومتها، أي العناصر والعمليات المختلفة التي تنتظم هذه الصناعة. وتتعمَّق الأزمة التي أحدثت تغيرًا جوهريًّا في بنية الصحافة الورقية اللبنانية في سياق تحولات البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة التي أصبح فيها القارئ/المتلقي مُسْتَخْدِمًا ومُنْتِجًا للمحتوى ومالكًا لمنصة إعلامية (إعلام الفرد)، كما تتعاظم تعقيدات الأزمة في ظل تسارع التطورات التقنية والمستحدثات التكنولوجية التي دفعت باتجاه التوسع في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، ومنصات الإعلام الاجتماعي، وارتفاع معدلات استخدام شاشات الهواتف الذكية وشبكة الإنترنت مصدرًا للأخبار والمعلومات. وظهرت آثار ذلك في انخفاض توزيع الصحف، وتراجع العائدات الإعلانية، وضعف معدلات القراءة، والاتجاه المتزايد لتأسيس المواقع والصحف الإلكترونية والمنصات الإخبارية الشاملة. وهنا، يبرز الحقل الاستفهامي الذي تحاول الدراسة استقصاءه من خلال استطلاع رأي عينة قصدية مُمَثِّلَة للمجتمع البحثي:

– ما العوامل والأسباب التي أدت إلى أزمة وجود صناعة الصحافة الورقية في لبنان؟

– ما دور النموذج الاقتصادي/التقليدي للصحافة الورقية في هشاشة هذا القطاع؟

– كيف أثَّرت البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة والبيئة السياسية في الوضع الذي تعيشه الصحافة الورقية في لبنان؟

– كيف أسهم انتشار “ثقافة الأونلاين”، وتحوُّل السلوك الاتصالي للمستخدم نحو “ثقافة الشاشة” التي هيمنت على “ثقافة المطبوع”، في ضعف معدلات قراءة الصحف وتعميق أزمة صناعة الصحافة الورقية اللبنانية؟

– هل الوضع الذي يعيشه قطاع الصحافة الورقية اليوم سيؤدي حتمًا لخروج الصحف من المشهد الإعلامي ويوقِّت نهايتها في المستقبل القريب أم لا تزال تملك مقومات البقاء والاستمرارية؟

وفي سياق هذا الحقل الاستفهامي، فإن الفرضية التي يحاول الباحث استقصاءها ترتبط بأطروحة “موت” أو “نهاية” الصحافة الورقية اللبنانية التي يتوقع بعض الفاعلين المهنيين والناشرين والكتَّاب الصحفيين أن تكون في الأعوام العشرة المقبلة في ظل تحولات المشهد الإعلامي الذي يتسع فيه انتشار ثقافة الشاشة (الهواتف الذكية والحاسوب اللوحي..) وتتراجع فيه ثقافة المطبوع بوسائلها المختلفة (الصحيفة، المجلة، الكتاب..).

وعلى الرغم من الحجج التي يستند إليها المدافعون عن هذه الأطروحة في توقعهم بنهاية/موت الصحافة الورقية في لبنان قريبًا، فإن البيئة الإعلامية بأبعادها المختلفة وتطورات البيئة الاتصالية الرقمية بإمكانها -إذا توافقت إرادات الفاعلين في القطاع وتوحدت الرؤى- أن تُكْسِب الصحافة الورقية فرص البقاء والاستمرار.

ب- مقاربة الدراسة ومنهجها

تسعى الدراسة إلى استكشاف أسباب الأزمة المركَّبة التي يعيشها قطاع الصحافة الورقية اللبنانية، وتتبُّع سلسلة العوامل التي أدت إلى الحالة الراهنة في سياق التحولات التي مرَّت بها صناعة الصحافة الورقية اقتصاديًّا وإداريًّا ومهنيًّا خلال الأعوام العشرة الماضية، وهو ما يعني البحث في آليات التسبيب (العلاقة السببية) التي تروم معرفة العملية التي أفضت إلى تلك الحالة وسياقاتها عبر استقصاء العوامل المُفَسِّرة لأطروحة نهاية/موت الصحافة الورقية وإشكالية استمراريتها. ولفهم هذه الآليات ودراستها يستعين الباحث بأسلوب دراسة الحالة، الذي يُعَدُّ أحد أساليب البحوث الكيفية التي تعتمد على مصادر وأدلة متعددة لرصد الظاهرة داخل سياقها الطبيعي دون عزلها عن الشروط المحيطة بها. كما تُمثِّل دراسة الحالة شكلًا من أشكال التحليل الوصفي الذي يستخدم الدراسات المسحية ويكثر استخدامها في وصف وضع معين، أو فرد أو مجتمع أو عادة أو تقليد اجتماعي، ويترتب على ذلك جمع الكثير من الحقائق والبيانات المتعلقة بموضوع البحث من حيث تاريخ حياته أو مراحل تطوره خلال فترة زمنية(3). وقد شكَّل ذلك إطارًا إجرائيًّا/منهجيًّا لخطوات مقاربة إشكالية البحث من خلال تتبُّع الرؤى والتصورات والمقترحات ورصد المعلومات والحقائق الكاشفة لحالة الصحافة الورقية في لبنان عبر استطلاع رأي عينة مُمَثِّلَة من المجتمع البحثي الذي يضم ناشرين وفاعلين مهنيين ونقابيين وكتَّاب صحفيين وأكاديميين (..)، ومن ثم إعادة بناء هذه الرؤى والأدلة المتعددة في تحليل الظاهرة. وبذلك تجمع دراسة الحالة بين بلورة فرضية سببية مناسبة (كما هو مُبَيَّن سابقًا في إشكالية الدراسة وفرضياتها)، والاستدلال السببي لتفسير الظاهرة، والذي يُمثِّل عملية تكميلية للوصف ولا يتنافسان معًا(4).

ويُمثِّل التحليل التَّتَبُّعي مدخلًا أساسيًّا لدراسة عملية أو آليات التسبيب في الأزمة التي تعيشها صناعة الصحافة الورقية اللبنانية عبر البحث في العلاقة التي توجد بين السبب والكيفية التي تمت بها التأثيرات، وهو ما يقتضي تحديد قائمة العلاقات السببية بين المتغير المستقل والمتغير التابع في إطار تحليل إمبريقي(5) لتفسير حالة التهديدات التي تواجه صناعة الصحافة الورقية اللبنانية، وبناء سلسلة العوامل أو الآليات التي تعمل داخل الحالة وأسهمت في أزمة وجود هذه الصناعة، وإبراز علاقاتها الارتباطية من خلال تعيين صلة هذه العوامل بالنتيجة (التجاور والضرورة..). ويستعين الباحث هنا بالملاحظة في رصد سياقات الأزمة والتطورات التي مرت بها ولحظاتها الحاسمة؛ لأن “الحقائق التي نعرفها تمثِّل بياناتنا وملاحظاتنا الكيفية والكمية” كما أن الطريقة العلمية المثلى لتنظيم هذه الحقائق تعتمد على الملاحظة، الأمر الذي يسهم في الوصول إلى نتائج مهمة بشأن تصميم وإجراء البحوث(6).

وترتكز الدراسة في استقاء البيانات والمعلومات على المقابلة(7) أداةً بحثيةً واستقصائيةً (استكشافية)؛ تساعد الباحث في تحديد أبعاد إشكالية الدراسة، وإعادة بناء العوامل والأسباب التي توضح أزمة وجود صناعة الصحافة الورقية اللبنانية وكيفية تفاعل آليات التسبيب والعلاقات الارتباطية بين المتغيرات. وقد أعدَّ الباحث في هذا السياق دليل المقابلة/استمارة؛ الذي ساعده في تأطير المقابلات مع المبحوثين وتحديد أسئلتها بما له صلة بإشكالية الدارسة وأبعادها، وتنوعت أسئلة الدليل بحسب طبيعة الهدف من المقابلة مع أفراد العينة المتنوعة وشملت أسئلة محددة وأخرى شبه محددة وأسئلة غير محددة.

 

ج- مجتمع الدراسة وعيِّنتُه

وقد أجرى الباحث مقابلات مختلفة مع فاعلين مهنيين وناشرين ونقابيين وأكاديميين وكتَّاب رأي وحقوقيين ومسؤولين حكوميين، بلغ عددها 15 مقابلة شكَّلت عينة قصدية(8) لِتَمْثِيل مجتمع البحث. وتشمل عينة الدراسة، التي يمتد إطارها الزمني بين 17 و25 ديسمبر/كانون الأول 2018، غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، وإبراهيم الأمين، رئيس تحرير صحيفة الأخبار، وجورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، وساطع نور الدين، رئيس تحرير صحيفة المدن الإلكترونية، وحازم الأمين، رئيس تحرير موقع درج، وأرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، وطلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، وعوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، وجوزيف القصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، وعماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية، ورامي نجم، رئيس الفرقة البحثية لعلوم الإعلام والاتصال بالجامعة اللبنانية، وجاد ملكي، رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأميركية ومدير معهد بحوث الإعلام والتدريب في الجامعة، وحازم صاغية، كاتب وصحافي لبناني، وأمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز)، وحسان فلحة، المدير العام لوزارة الإعلام.

وقد سمحت مفردات هذه العينة، أولًا: بتنوع الرؤى في دراسة إشكالية البحث وإثراء زوايا المقاربة، وثانيًا: قدَّمت إطارًا ومنظورًا تحليليًّا يستوعب متغيرات الدراسة والأبعاد المُفَسِّرَة لمظاهر أزمة صناعة الصحافة الورقية اللبنانية، وثالثًا: بتفاعل هذا الإطار التحليلي مع محيطه وسياقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاتصالية والإعلامية والثقافية. وباعتبار الطابع المركَّب لهذه الأزمة، والذي يُجسِّده تشابك أبعادها وترابط متغيراتها وتداخلها، تحاول الدراسة استكشاف آليات التسبيب في أزمة وجود الصحافة الورقية في لبنان، دون أن يكون لإعادة بناء سلسلة العوامل المُفَسِّرَة للظاهرة والعلاقة السببية لمتغيراتها طابعٌ هرميٌّ يجعل بعضها أكثر أو أقلَّ أهمية، وإنما تشكِّل جميع الأسباب إطارًا تفسيريًّا تتعالق فيه المتغيرات المستقلة والتابعة التي تكتسب أهميتها انطلاقًا من انتظامها في شبكة علائقية، ويتحدد دورها من خلال مرجعية التحليل التي تبحث جميع العوامل والمتغيرات بأساليب مختلفة وصفًا وتفسيرًا واستدلالًا وتحليلًا تتبعيًّا.

د- مدخل نظري للدراسة

عندما أصبح الراديو حقيقة واقعة في العام 1920 توقع كثيرون نهاية الصحافة الورقية واختفاءها عن المشهد الإعلامي فاسحةً المجال لوسيلة إعلامية جديدة اقتحمت الفضاء العام لسهولة الوصول إلى المحتوى الإذاعي الذي تبثه بغضِّ النظر عن المستوى المعرفي للمتلقي/المستمع أو الكيفية التي يستقبل بها هذا المحتوى. استمر هذا الخطاب المشبع بأطروحة النهايات مع ظهور أية وسيلة إعلامية جديدة التي ستقضي على الوسيلة القديمة؛ مثل ظهور التليفزيون الذي سيحلُّ، بحسب هذه الأطروحة، محلَّ الراديو، ثم انتشار الإنترنت الذي سيؤدي إلى تراجع وانهيار الصحافة الورقية ونهايتها. ولئن كانت البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة تُبيِّن التحول المتعاظم في السلوك الاتصالي للجمهور/المستخدمين نحو وسائل الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي وشاشات الهواتف الذكية لاستقاء الأخبار والمعلومات، فإن ظهور هذه الوسائط الجديدة في ذاتها -رغم السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطلبت نشأتها- لا يعني نهاية حتمية للصحافة الورقية. لكن هذا لا ينفي أيضًا التأثير الكبير الذي عرفته الصحف في آليات الممارسة الإعلامية، بل وفي مفهوم الصحيفة نفسها ومفهوم الخبر أيضًا وفي نظرتها للمتلقي، وهو ما استوعبه العديد من المؤسسات الصحفية التي لجأت إلى ما يسمى بالخيار الهجين الذي يجمع بين الصحيفة المطبوعة والصحيفة الرقمية أو الإلكترونية. كما تتجه بعض المؤسسات إلى إنتاج “صحيفة تفاعلية” لكن ليس بالمعنى الرقمي الذي يجعلها صحيفة ورقية ذكية يتم إنشاؤها بواسط الأجهزة الإلكترونية، كما يرى بول إيغلستون (Paul Egglestone) وجون ميلز (John Mills)(9)، وإنما صحيفة تتفاعل مع السياق الاجتماعي والسياسي الذي تعمل فيه وبيئتها الاتصالية الرقمية بما يجعلها تستجيب للاحتياجات المعرفية والسياسية والثقافية للجمهور.

في سياق هذا الطرح قد تساعد نظرية التكيف الاجتماعي، التي تعود أصولها إلى علم النفس الاجتماعي، في فهم العلاقة بين الصحافة الورقية والإعلام الجديد بوسائله المختلفة والبيئة الاتصالية/الرقمية عمومًا. فإذا كان التَّكيُّف يعني تعديل السلوك الفردي والجماعي ليتواءم مع المعايير والقيم السائدة في مجتمع معين أو طبقة أو مجموعة اجتماعية، ويتم ذلك خلال عملية التنشئة الاجتماعية وبمساعدة آليات الرقابة الاجتماعية، فهو يصبح ذا أهمية متزايدة عندما يؤثِّر على جوانب مهمة من الحياة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا(10)؛ حيث يسعى الفرد من خلال مدركاته إلى تسهيل تكيفه مع البيئة وتحقيق التوازن المقبول مع متطلبات محيطه للاستجابة إلى احتياجاته المتغيرة ورغباته لحفظ حياته ونوعه والسيطرة على بيئته عبر استيعاب المعلومات والبنيات الذهنية الجديدة في سياق عملية تواصلية دينامية.

هذه الأبعاد التي تحرك الفرد في التكيف مع بيئته ومواجهة تحدياتها يمكن استيعابها أيضًا في عملية تلاؤم الوسيلة الإعلامية (الصحيفة الورقية) مع بيئتها الإعلامية المركبة لمواجهة الأزمة التي تهدد وجود قطاع الصحافة من خلال الوعي بحجمها وتداعياتها، والنظر في مستجدات البيئة الإعلامية، والبحث في الآليات التي تسمح لها بالتكيف مع البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة لضمان استمراريتها.

ه- الدراسات السابقة

ظلت أزمة وجود الصحافة الورقية اللبنانية واستمرار مظاهرها تستأثر باهتمام المجتمع البحثي وكتَّاب الرأي، وفي هذا السياق رصد الباحث كتابات صحفية كثيرة (تقارير ومقالات رأي) تناقش أسباب الأزمة وتلقي الضوء على تحديات صناعة الصحافة الورقية، بينما تكاد الأدبيات العلمية البحتة التي تتناول هذا الموضوع تكون محدودة، وقد حصرنا بعض الدراسات الوصفية المهمة التي تبحث تحولات البيئة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة وتطوراتها في لبنان وخريطة المشهد الإعلامي.

– ترصد الدراسة الأولى(11)  متغيرات البيئة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة في لبنان؛ حيث يميل الأفراد إلى استخدام الإنترنت بشكل أساسي للحصول على المعلومات بنسبة 41%، تليها الدردشة بنسبة 26%، أما شبكات التواصل الاجتماعي فتُعَدُّ نشاطًا شائعًا، حيث يستخدمها البعض يوميًّا بنسبة 40%، وآخرون أسبوعيًّا بنسبة 30%، كما تستخدمها فئة أخرى نادرًا بنسبة 30%. ويلعب موقع فيسبوك دورًا مهمًّا في المساءلة الإعلامية حيث يتم استخدامه أداة اتصال للتعبئة والحملات ضد بعض مشاريع القوانين، مثل مشروع قانون تكنولوجيا المعلومات، ويستخدم أيضًا منصة لمناقشة وتقييم أداء وسائل الإعلام وكذلك صوتًا داعمًا لمحتوى بعض البرامج التي تتعرض للهجوم (مثل قضية برنامج كلام الناس). كذلك تحولت المدونات إلى وسائط لمناقشة التغطيات الإعلامية أو سلوك العاملين في وسائل الإعلام التقليدية. وبيَّنت الدراسة أن وسائل الإعلام بدأت حضورها بشكل متردد على الإنترنت بسبب الصبيب المنخفض للشبكة الذي لا يتيح سوى ربح اقتصادي محدود. في المقابل، فإن مجال التدوين نشط للغاية لكنه لا يهتم كثيرًا بقضايا المسؤولية الإعلامية.

– تتابع الدراسة الثانية(12) أيضًا تحولات المشهد الإعلامي اللبناني، وتلاحظ أن جيل الشباب يستهلك بشكل متزايد الأخبار بشكل حصري عبر المواقع الإخبارية والشبكات الاجتماعية، كما يميل الجمهور إلى زيارة المواقع المحلية للحصول على الأخبار والمعلومات رغم أن أكثر المواقع شهرة في لبنان ليست محلية. كما تلعب الشبكات الاجتماعية دورًا مهمًّا في تبادل الأخبار الاجتماعية والثقافية، ويميل موقع تويتر إلى أن يكون مصدرًا للأخبار الوطنية والدولية، كما يعمل فيسبوك مصدرًا للأخبار ولكن بطريقة غير مباشرة. وخلصت الدراسة إلى أن الإنترنت توفر فرصًا جديدة للنشطاء وجمعيات المجتمع المدني، وكذلك لعدد قليل من المواقع الإخبارية الإلكترونية، كما أن البلاد شهدت زيادة في عدد الأصوات والتنوع في المحتوى عبر الشبكة العنكبوتية بقيادة عدد من النشطاء الذين لم يكن لديهم منفذ للتعبير عن آرائهم إلا من خلال وسائل الإعلام التقليدية التي تسيطر عليها القوى السياسية المهيمنة. كما ازداد عدد المدونين الذين يشغلون مساحة أكبر في المجال العام.

– الدراسة الثالثة(13)، وهي أقرب إلى موضوع بحثنا، تبين كيف أصبحت الصحف المطبوعة أقل شعبية بشكل متزايد في لبنان، وتناقش الصعوبات والتحديات المالية التي تواجهها أهم المؤسسات الصحفية؛ مثل السفير والنهار، حيث لجأت الأولى إلى التوقف عن الصدور بسبب الأزمة المالية، بينما أنهت مؤسسات أخرى خدمات عدد من الموظفين والصحفيين، مثل صحيفتي المستقبل والأخبار. ولاحظت الدراسة أن 23% من اللبنانيين يستخدمون الإنترنت لمتابعة الأخبار أكثر من خمس مرات في الأسبوع، في حين أن 40% يقومون بذلك بين مرة وأربع مرات في الأسبوع، كما تشير إلى النمو المستمر والاستخدام الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، حيث يعد فيسبوك والواتساب أكثر المنصات استخدامًا في لبنان. وقد تمكنت بعض الأصوات الناشئة عبر هذه الشبكات من تشكيل مجتمع رقمي من الناشطين، والذي يتزايد تأثيره في المجال الاجتماعي والسياسي والثقافي، خاصة بين الأجيال الأصغر سنًّا، وهو ما يبيِّن أهمية الرقمنة ودورها في المجال العام. وخلصت الدراسة إلى أن الصحفيين يتعرضون لضغوط هائلة من قبل المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها، كما أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى تعميق الظروف غير المستقرة للعديد من الصحفيين والإعلاميين ما جعلهم عرضة للخطر والابتزاز من قبل السياسيين ورجال الأعمال المحليين والإقليميين.

– وبجانب هذه البحوث التي تركز على تحولات البيئة الإعلامية اللبنانية والسلوك الاتصالي للمستخدم نحو وسائل الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، نجد دراسات كثيرة ذات صلة بموضوع بحثنا دون أن يكون مجتمع الدراسة هو الصحافة الورقية اللبنانية، وبعضها الآخر يتناول الصحافة الورقية العربية عمومًا، مثل الدراسة التي أعدها الأكاديمي، المعز بن مسعود، بعنوان “الصحافة الورقية العربية: صراع البقاء ورهانات الرقمنة”(14)، وتُفكِّر في الأجوبة العلمية التي ينبغي صياغتها عند مقاربة التحديات التي تواجه مستقبل الصحافة الورقية في العالم العربي ورهانات رَقْمَنَتِها، وترى في نظرية النشوء التعايشي التكافلي مَدْخَلًا مُؤَسِّسًا لفهم العلاقة بين الحامل الورقي والإعلام الإلكتروني. وخلصت الدراسة إلى أن المؤسسات الصحفية في البلدان العربية ليس لها القدرة نفسها على مواجهة الزحف الرقمي، وأن النهاية قد تكون حتمية في أوروبا أولًا وإن اختلف المحللون حول المدة الزمنية، وربما صمدت بعض الوقت في العالم العربي لأسباب لها علاقة بوظيفة الصحافة الورقية وأنماط الملكية وارتباط الحكومات والأنظمة بالصحيفة الورقية واعتبارها المتحدث الرسمي باسمها والأداة التي توثق بها قراراتها وتوجهاتها. وقد يكون الحل كذلك في التوجه نحو صحافة الرأي والمقال والتحليل والصحافة الاستقصائية، أو ابتكار مضامين جديدة تكون بمنزلة مواد تفاعلية، وتشاركية وفئوية للأجيال الناشئة التي فَقَدَت الصحف الورقية جزءًا كبيرًا منها.

– ثمة دراسة أخرى أعدها الباحث، علي نجادات، بعنوان “مستقبل الصحافة الورقية الأردنية في مواجهة الصحف الإلكترونية في ظل ثورة المعلومات والمعرفة: دراسة مسحية”(15)، وتسعى إلى التعرف على مدى منافسة الصحافة الإلكترونية للصحافة الورقية، والمستقبل الذي ينتظر قطاع الصحافة المكتوبة في ظل ثورة المعلومات والمعرفة، والآليات التي تمكِّن الصحف الورقية من البقاء في المشهد الإعلامي الأردني بالرغم من مزاحمة الصحف الإلكترونية. وتفترض الدراسة أن هناك علاقة تنافسية ما بين الصحف الأردنية والصحف الإلكترونية، كما أن هناك علاقة بين مطالعة الصحف الإلكترونية والتقليل من الطلب على الصحف الورقية، كما توجد علاقة بين ازدهار الصحف الإلكترونية وتلاشي هيمنة الصحف الورقية. وخلصت الدراسة إلى أن مستقبل الصحافة الورقية ليس في خطر، وأن 75% من المبحوثين يعتقدون أن العلاقة بين الصحافة الورقية والصحافة الإلكترونية تنافسية وتكاملية وليست علاقة إقصاء وإلغاء. كما تؤكد غالبية المبحوثين بما نسبته 55% أن مطالعة القرَّاء للصحف الإلكترونية تؤدي إلى تقليل الطلب على الصحف الورقية.

– من الدراسات التي اهتمت بمستقبل الصحافة الورقية، نجد بحثًا بعنوان “تأثير الصحافة الإلكترونية على مستقبل الصحافة الورقية”(16)، وكان السؤال المركزي الذي حاولت الدراسة الإجابة عنه: هل يمكن للصحافة الورقية الصمود لفترة طويلة أمام الصحافة الإلكترونية؟، كما سعت إلى التعرف على التحولات التي يعرفها قطاع الصحافة الورقية في ظل تغيرات البيئة الاتصالية والإعلامية الجديدة. وخلصت الدراسة إلى أن الصحافة الإلكترونية لن تكون بديلًا عن الصحافة الورقية، بل ستكون حافزًا لتطويرها والتنافس معها، لكن في الوقت نفسه فإن تطور الصحافة الإلكترونية جعل جمهور القرَّاء الذين يفضِّلون الصحيفة الورقية يتحولون إلى الصحافة الإلكترونية التي باتت وسيلة واسعة الانتشار بسبب تطور وسائط الاتصال التي جعلتها أقرب إلى الناس وأسهل في الوصول إلى المعلومة.

– ركزت دراسة أخرى(17) على استراتيجيات الإدارة الصحفية في التصدي للتحديات التي تواجه الصحافة الورقية من خلال مسح ميداني شمل مديري المؤسسات الصحفية المصرية؛ إذ ترى أن قطاع الصحافة العربية يعيش منذ بضع سنوات أزمة حقيقية نتيجة ظهور شبكة الإنترنت وثورة الاتصال؛ حيث كثر الحديث عن تهديد وسائل الإعلام الإلكترونية بشكل عام للصحافة الورقية وأن الصحافة الإلكترونية ستكون بديلًا للصحافة الورقية تماشيًا مع ظهور جيل جديد من الشباب يفضِّل استخدام محامل إعلامية تتحدث لغته وتفهم تطلعاته وتستوعبها. ومن هنا جاءت هذه الدراسة التي تسعى إلى التعرف على موقف الإدارة في المؤسسات الصحفية المصرية من هذه التهديدات ومعرفة الاستراتيجيات التي اتخذتها لمواجهة التحديات حتى تظل تؤدي دورها وظيفتها في المشهد الإعلامي. وأظهرت نتائج الدراسة أن الصحافة الورقية تواجه العديد من المشكلات تتمثل في عدم قدرة الصحف على تلبية احتياجات ورغبات القرَّاء، وتفاقم الأعباء المالية وارتفاع تكلفة إنتاج الصحف وعزوف بعض المعلنين عن نشر إعلاناتهم في الصحف وانخفاض محدودية سقف الحرية الإعلامية المتاحة للصحف الورقية، وهو ما جعل أكثر من نصف عينة الدراسة يعتبرون أن الصحف الورقية في طريقها إلى الاختفاء. ويستدعي ذلك العمل على زيادة معارف الصحفيين وتدريبهم وتأهيلهم والتخطيط الجيد القائم على الدراسات العلمية والمسوحات الصحفية وإجراء البحوث ودراسات الرأي العام، وإنشاء قناة فضائية أو محطة إذاعية تعزز الموارد المالية للصحيفة.

– في سياق مناقشة الدراسات السابقة، لا يمكن للباحث إغفال الدراسة المهمة التي أعدها الخبير الفرنسي، برنار بولي (Bernard Poulet)، حول نهاية الصحافة ومستقبل الإعلام(18) في سياق المشهد الإعلامي الفرنسي والدولي عمومًا؛ حيث ركز على التحولات التي تعرفها البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة، لاسيما انتشار الثورة الرقمية بالتزامن مع التراجع المفاجئ لاهتمام الأجيال الشابة بالكتابة والإعلام وأيضًا التخلي عن الإعلام كوسيلة مفضلة للإشهار مما يؤدي إلى تجفيف مورده الرئيسي، وعندما تحدث مثل هذه الثورة فإن نسق الصناعة والإنتاج الإعلامي الذي ظل سائدًا خلال القرنين الماضيين يكون، في نظر الباحث، قد وصل إلى نقطة النهاية التي تستدعي إعادة التفكير فيه. وفي هذا السياق، يشير بولي إلى واقع الصحافة الورقية الفرنسية الذي لا يختلف عما يجري في دول العالم؛ حيث تراجع توزيع الصحف؛ إذ وصل عددها 1.9 مليون نسخة يوميًّا عام 2007 بعدما كان هذا العدد قد بلغ 3.8 ملايين نسخة يوميًّا عام 1974.  كما انهارت عائدات الإشهار للصحف الوطنية الفرنسية، وتراجع عدد صفحات الإشهار بنسبة 32.5% خلال عشرة أعوام، بينما ارتفعت عائدات الإشهار بالنسبة للصحف المجانية بنسبة 30%، وتراكمت الديون على صحيفة مثل “ليبراسيون” (libération) حيث وصلت 15 مليون يورو، وتراجعت مداخيلها من الإشهار بنسبة 20%، كما تجاوزت ديون صحيفة لوموند (Le Monde) مئة مليون يورو وبلغت خسائر صحيفة لوفيغارو (Le Figaro) 10 ملايين يورو في نهاية العام 2007. وخلصت الدراسة إلى أن الصحافة الورقية تعيش “وضعًا خطرًا”، لكنها لن تختفي جميعها بين عشية وضحاها، وسيستمر بعض المستثمرين لأطول فترة ممكنة في استغلال العناوين التي لا تزال تحقق أرباحًا في سياق “حلب البقرة حتى النهاية”، ويجب الاعتراف بأن جمهور الصحف يشيخ وينقرض ببطء وأن الإعلان يهاجر باتجاه وسائط أخرى وأن الرسوم تتراجع بسبب تفتت وسائل الإعلام(19).

يلاحظ الباحث أن الدراسات السابقة التي اهتمت بواقع الصحافة الورقية اللبنانية في سياق تحولات البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة، ركزت مقاربتَها على المتغيرات الجديدة في البيئة الإعلامية المحلية وتأثيراتها على قطاع الصحافة، لاسيما انتشار الإنترنت والإعلام الجديد بوسائطه المختلفة، والتحول في السلوك الاتصالي للجمهور الذي غيَّر وسيلة إشباعات احتياجاته الاتصالية والمعرفية والترفيهية باستخدام وسائط غير تقليدية تسمح له بالتفاعل والمشاركة في عملية إنتاج المحتوى الإعلامي، بل وامتلاك وسيلته الإعلامية. ولم تغفل هذه الدراسات أيضًا البحث في الأزمة المالية التي تواجه قطاع الصحافة اللبنانية، وانعكاساتها السلبية على المنتوج الصحفي وتراجع مقروئية الصحف. وقد حاول الباحث في هذه الدراسة إعادة تركيب جميع المتغيرات التي تفسر استمرار الأزمة التي تهدد وجود قطاع الصحافة اللبنانية انطلاقًا من البيئة الإعلامية المركبة التي تشمل فاعلين ومؤسسات مختلفة، وأيضًا النظر في السياقات المختلفة لممارسة العمل الإعلامي باعتبارها محددًا جوهريًّا في فهم السيرورة التي تحكم نشاط قطاع الصحافة الورقية.

وفي ضوء ذلك، يناقش الباحث أبعاد مشكلة الدراسة، ويتتبع سلسلة العوامل التي أدت إلى الحالة الراهنة لواقع الصحافة الورقية اللبنانية، في محورين اثنين، يتكون أولهما من خمسة مباحث: يستقصي المبحث الأول أبعاد الخلل الاقتصادي في صناعة الصحافة اللبنانية، ويتناول المبحث الثاني تأثيرات المستحدثات التكنولوجية وتحولات السلوك الاتصالي في قطاع الصحافة الورقية، ويركز المبحث الثالث على تحديات الرؤية المهنية. أما المبحث الرابع فيدرس إشكاليات النموذج الإداري العائلي والتوريث في إدارة المؤسسة الصحفية، ويناقش المبحث الخامس دور البيئة السياسية وتأثيرها في نشاط المؤسسة الصحفية. وفي المحور الثاني، ترصد الدراسة مستقبل الصحافة الورقية في لبنان.

  1. أبعاد أزمة وجود الصحافة الورقية اللبنانية

1.2. اختلالات النموذج الاقتصادي

قد يكون المظهر الأبرز لأزمة وجود الصحافة الورقية اللبنانية هو الجانب الاقتصادي باعتباره المحرِّك لأية عملية أو نشاط سياسي واجتماعي وإعلامي وثقافي…إلخ، بل يراه البعض “مُحَرِّكًا للتاريخ والوجه الآخر للسياسة”(20)، ويُمثِّل (أي البعد الاقتصادي) في الحالة المدروسة الوجهَ الآخر لتحوُّل الصحافة إلى صناعة لها متطلباتها وأدواتها المكلِّفة؛ حيث أصبحت وسائل الإعلام مؤسسات اقتصادية يرتبط فيها البعد الاقتصادي والإنتاجي بالبعد الإعلامي الذي يستهدف المستهلكين بالأساس، وباعتبار المؤسسات الإعلامية كيانات اقتصادية فإن الجانب الاقتصادي يتحكَّم في سلوكها وقراراتها وأنشطتها(21). وهذا ما يجعل عملية إدارة المؤسسة الصحفية “ركنًا أساسيًّا من أركان النظام الإنتاجي في أي مجتمع، والتي تهدف إلى تحقيق نتائج محددة باستخدام الموارد المتاحة للمؤسسة بأعلى درجة من الكفاءة والفعالية، في ظل الظروف الموضوعية المحيطة”(22). وتكتنف مسارات هذه العملية في الحالة اللبنانية مخاطر وتحديات تهدد وجود صناعة الصحافة الورقية في ظل الخلل الذي تعرفه البنية الاقتصادية للمؤسسات الصحفية، واضطراب منظومتها ووظائفها (النشر والطباعة والتوزيع والإشهار)، واضمحلال سوقها الأولية (سوق القرَّاء) والثانوية (سوق المعلنين). وهنا يطرح السؤال الآتي نفسه بإلحاح: ما الأسباب والعوامل التي تتحكَّم في هشاشة النموذج الاقتصادي للصحافة الورقية في لبنان وبنيتها المؤسسية/الهيكلية؟ وما تجليات هذا الخلل الاقتصادي الذي تواجهه؟

لاستكشاف تجليات هذا الخلل سنحتاج أولًا إلى تحديد مفهوم النموذج الاقتصادي الذي يرتبط بوظائف مختلفة لأية مؤسسة اقتصادية أو شركة تجارية، سواء في مجال التسويق أو التنظيم أو التمويل، وهي المرتكزات الثلاثة التي تقوم عليها هيكلة أو بنية المؤسسة لضمان الفاعلية أو الجدوى الاقتصادية للمشروع. وفي ضوء ذلك، يمثِّل النموذجُ الاقتصادي الطريقةَ التي تنتج أو ستنتج بها المؤسسة الربحية، وهو أيضًا وصف أو تمثيل منسجم لكيفية كسب الدخل من النشاط الذي تمارسه المؤسسة. ويُعَدُّ النموذج الاقتصادي عنصرًا أساسيًّا في استراتيجية المؤسسة باعتباره خطة تنظيمية تتيح إمكانية تقديم عرض تنافسي في ضوء توقعات العملاء والضرورات المالية، وتأمين الشركاء والموارد الداخلية التي يمكن تعبئتها (التدفق النقدي والقدرات الإنتاجية والمهارات والدراية الفنية والإبداع..)، وتوفير قنوات التوزيع التي يمكن استخدامها، والعمل على ضمان استمراية المؤسسة بمرور الوقت وقدرتها على توفير الربح(23). وقد اعتمدت الصحافة الورقية منذ صدور أول صحيفة “رولايشن” (Relation) عام 1605، للناشر الألماني، يوهان كارلوس (Johann Carolus)، على نموذج تمويلي هجين يجمع بين حوالي نصف المداخيل التي يوفرها التوزيع (مبيعات الصحيفة) والنصف الآخر الذي يوفره الإعلان(24) لتأمين قدرة الصحيفة على توفير الربح وضمان استمرارية المؤسسة، وهو النموذج الذي لا تزال تستلهمه الصحف حتى اليوم رغم المشاكل والتحديات التي يطرحها.

في الحالة اللبنانية، يعكس النموذج الاقتصادي للصحافة الورقية خللًا أو مشكلة في بنيتها الهيكلية التي تجعل الجانب الاقتصادي مرتهنًا لتحولات البيئة السياسية وهشاشة السوق الصحفية، وهنا يمكن التمييز بين محددين أساسيين لما يُسمِّيه أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز)، بـ”العطب البنيوي-الهيكلي في النموذج الاقتصادي”(25) للصحافة الورقية اللبنانية، وهما: تراجع الإعلان الإقليمي، والتمويل الخارجي والدعم الحزبي.

أولًا: تراجع الإعلان الإقليمي

ظلت عائدات الإعلان تشكِّل موردًا ماليًّا أساسيًّا للمؤسسة الصحفية في تغطية نفقاتها (نفقات الأجور، والخدمات والرسوم، ونفقات التجهيز والمواد القابلة للاستهلاك، ونفقات الإشهار الصحفي، ونفقات التوزيع، ونفقات الترويج)، وأيضًا لسدِّ العجز في إمكاناتها المالية لتواضع دخل المبيع باعتبار أن هذا المورد (التوزيع)، بحسب الفاعلين المهنيين والناشرين، غير مربح للصحيفة(26)، كما أن السوق نفسها غير قابلة لحماية الصحف(27) لاسيما بعد التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية في سياق ما سُمِّي بالربيع العربي عام 2011. فقد انخفضت مداخيل الصحف من الإعلانات التي تموِّلها الشركات الإقليمية بحوالي 70%؛ إذ أصبحت صحيفة النهار، مثلًا، تجني 100 أو 120 ألف دولار من الإعلانات شهريًّا بعدما كان متوسط الأرباح يترواح بين 300 و350 ألف دولار شهريًّا، ويصل أحيانًا إلى 600 أو 700 ألف دولار خلال أعياد الميلاد، وذلك قبل العام 2009، أي لم يتبق من مداخيل الإعلانات سوى 30%، كما يؤكد غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار(28). وهو الوضع نفسه الذي عاشته صحيفة المستقبل قبل إغلاقها؛ إذ تراجع دخلها السنوي من الإعلانات ليصل إلى 700 ألف أو 800 ألف دولار سنويًّا، بينما كانت مواردها تصل حوالي مليون و500 ألف دولار أو مليوني دولار سنويًّا في العام 2010، مثلما يوضح جورج البكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل(29)، ما يعني تراجع مداخيل الصحيفة بنسبة 30%.

ويلاحَظ هنا أن هذا التراجع تزامن مع تداعيات الحالة السياسية الناشئة عن حركة مسارات الربيع العربي؛ حيث تدهورت سوق الإعلانات في الدول التي شهدت حركات احتجاجية تطالب بالتغيير السياسي وبناء نظام حكم ديمقراطي، كما حدث في تونس ومصر وليبيا والمغرب وسوريا واليمن؛ وانعكس هذا الوضع على السوق الصحفية اللبنانية التي تُعَدُّ في الأصل سوقًا صغيرة قياسًا إلى عدد السكان الذي لا يتجاوز 5.5 ملايين نسمة حتى نهاية العام 2018(30)؛ إذ بدأت “حالة ضمور إعلاني كبير” للشركات الإقليمية؛ فضلًا عن تراجع الإعلانات المحلية الرسمية التي ظلت مداخيلها رمزية(31) لا تستجيب لاحتياجات الصحف ولا تغطي نفقاتها المتعددة.

وقد تفاقمت هذه الحالة في ظل انخفاض شريحة القرَّاء؛ حيث تلاشت الجدوى الاقتصادية للصحيفة وتراجعت شيئًا فشيئًا ليس في لبنان وحده وإنما في العالم العربي عمومًا، ولم تستطع أن تحافظ على مستوى القراء أو الإعلانات كما كان الوضع من قبل(32). وهو الملمح الذي رصدته أيضًا دراسة أعدها لورينزو ترومبيتا (Lorenzo Trombetta) عن المشهد الإعلامي اللبناني؛ إذ لاحظ أن الصحيفة المطبوعة أصبحت أقلَّ شعبية على نحو متزايد مما تسبب في انخفاض عائدات الإعلانات والمبيعات، وتُعَدُّ الحالة اللبنانية أكثر تعقيدًا لاسيما أن الإعلام يتلقى تمويلًا من مستثمرين أجانب يهتمون بمتابعة الشأن السياسي للبلاد. وقد بدأ التمويل الخارجي في سحب استثماراته من صناعة الإعلام في لبنان لمَّا شرعت دول الخليج في إنشاء القنوات والشبكات الفضائية ثم تعاظم ذلك بعد الأزمة المالية العالمية وتراجع أسعار النفط. وعلى سبيل المثال، فإن السفير التي تُعَدُّ الصحيفة الأكثر شعبية كانت توزع 50 ألف نسخة في العام 2010، ثم أصبحت مبيعاتها لا تتجاوز 10 آلاف نسخة في العام 2016(33) ما عجَّل بقرار إغلاقها.

ثانيًا: التمويل الخارجي والدعم الحزبي  

ارتبط صوت الصحافة الورقية اللبنانية خلال مسيرتها الحديثة، لاسيما بعد الحرب الأهلية في العام 1975، بأطراف وجهات إقليمية (العراق، ليبيا، السعودية، الإمارات…) بسبب الصراعات التي كانت تدور على أرض لبنان؛ حيث كانت القوى الإقليمية والدولية تتوسَّل وسائل الإعلام الرائجة حينذاك منبرًا خاصًّا لبث رسائلها وأطروحاتها السياسية؛ فكان لكل جهة صحيفتها ومجلتها أو أكثر(34). وقد شكَّل هذا الدعم مجالًا ومصدرًا للمال السياسي لهذه الصحف التي نجح بعضها في بناء مؤسسة صحفية قادرة على إثبات نفسها في سوق تنافسية وتحقيق الاكتفاء الذاتي في إدارتها، بينما ثمة صحف كان نشاطها محدودًا واقتصرت مواردها على الدعم المالي الذي تحصل عليه(35). كما ارتبطت هذه الصحف أيضًا بجهات داخلية/حزبية سياسية طائفية، أي بالدعم المالي الحزبي؛ إذ كانت كل صحيفة تبحث عن تمويل من حزب أو جهة معينة(36).

لكن هذا الوضع تغيَّر اليوم بعد الانكفاء السياسي للجهات التي كانت تموِّل هذه الصحف؛ حيث توقَّف المال السياسي الذي كان يُغْدَق على وسائل الإعلام أو يكاد؛ فأنظمة الحكم التي ساعدت الصحف وقدَّمت إليها الدعم المالي، مثل ليبيا والعراق وتونس، لم تعد قائمة بعد التحولات السياسية التي عرفتها المنطقة منذ العام 2011، وقد تسبب ذلك في الضائقة المالية التي تعاني منها تلك الصحف(37)، بل إن توقف الدعم الخارجي والحزبي الذي اعتمدت عليه الصحافة الورقية عمَّق أزمة وجودها؛ إذ أصبح يتوالى إقفال عناوينها وشمل ذلك أيضًا القنوات التليفزيونية بسبب الشُّحِّ في مصادر التمويل(38)، وهو ما جعل طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، يعتبر حالة التراجع والصعوبات الشديدة التي تعيشها الصحافة الورقية أمرًا طبيعيًّا في ظل غياب مصدر تمويل خارجي، وأيضًا غياب صحافة بالمعنى الاقتصادي والسياسي؛ الأمر الذي يدفع تلك الصحف إلى الإغلاق(39).

وفي سياق تحليل مظاهر الخلل الاقتصادي للصحافة الورقية اللبنانية، والذي يعتبره البعض عطبًا بنيويًّا هيكليًّا، يَبْرُز النموذج الاقتصادي الذي يُحَدِّد مصادرها التمويلية كما يُظْهِر الرسم البياني رقم (1)؛ حيث تتأسَّس قاعدة الهيكل التمويلي على الدعم المالي السياسي (داخليًّا وخارجيًّا) الذي يمثِّل الشريان الحيوي لاستمرار المؤسسة الصحفية، ثم هناك موارد الإعلانات باعتبارها الدعامة الثانية التي ينهض عليها هذا الهيكل، إضافة إلى الدعامة الثالثة التي تجسدها المبيعات (التوزيع)(40).

الشكل رقم (1) يوضح مصادر تمويل الصحافة الورقية اللبنانية

وإذا تفحصنا التمثيل أو الخطة التنظيمية لهذا النموذج، وإمكانياته في تأمين الموارد الداخلية وتوفير قنوات التوزيع والعمل على ضمان استمرارية المؤسسة الصحفية وتوفير الربح، فسنلاحظ عجزًا في التنظيم الذي يسمح بتنفيذ النموذج أو يعطيه طابعًا إجرائيًّا ويسهم في تأمين مصادر التمويل أو الموارد الذاتية بشكل متدفق، لأنه يعتمد أساسًا على موارد مالية خارجية قد تتوقف لأي سبب أو ظرف سياسي. كما يبدو العجز في قوة النموذج الذي فشل في اكتساب مقومات الاستمرارية؛ إذ يقوم أي مشروع اقتصادي على الربحية أو الجدوى الاقتصادية، وهذا يثير أساسًا إشكالية العرض/المنتوج الذي تقدمه الصحافة الورقية اللبنانية. فهل يتميز هذا المنتوج بالمصداقية والاحترافية والجاذبية؟ سيكون ذلك محور النقاش في الجزء الثالث المعنون بـ”تحديات الرؤية المهنية”.

إذًا، تكمن مشكلة النموذج الاقتصادي للصحافة الورقية في عجزه عن إيجاد توازن بين الفرص والإكراهات وتقديم منتوج صحفي يضمن الربحية والاستمرارية كما يوضح الرسم البياني رقم (2).

الشكل رقم (2) يبين مظاهر خلل النموذج الاقتصادي للصحافة الورقية اللبنانية

2.2. تأثيرات المستحدثات التكنولوجية وتحولات السلوك الاتصالي

في سياق البيئة الاتصالية/الرقمية والإعلامية الجديدة التي تشكَّلت بفعل الثورة الرقمية والمستحدثات التكنولوجية في صناعة المعلومات والإعلام، شهدت المنظومة الاتصالية اللبنانية انعطافات بارزة كان لها تأثير ملحوظ في السلوك الاتصالي للأفراد، وهو جزء من السلوك الاجتماعي مُؤَطَّر بصيرورة تاريخية وسياقات اقتصادية وثقافية تُحدِّد نشاط ودور الفرد أو الجماعة في المجتمع. ويتضمن السلوك الاتصالي عددًا من الفئات تتمثَّل في التعرض إلى وسائل الاتصال، والمشاركة في عملية الاتصال، ثم إشباع الدوافع والحاجات.

وهنا، يلاحظ التحول في السلوك الاتصالي للأفراد باتجاه التعرض لوسائل الاتصال الحديثة، حيث ارتفع معدل ولوج الإنترنت في لبنان من 58% سنة 2013 إلى 91% سنة 2017(30)، ثم 93% سنة 2018(41)، في حين مثَّلت الاشتراكات في خدمة الهاتف المحمول 76.1% من هذه النسبة (%91)، كما أن جميع اللبنانيين يملكون تقريبًا هاتفًا ذكيًّا، ويستخدم 91% منهم تقنية الاتصال اللاسلكي (Wi-Fi)، أو خدمة البيانات الخاصة بالأجهزة النقالة للاتصال بالإنترنت(42). ويبلغ عدد المستخدمين النشطين في شبكات التواصل الاجتماعي 4 ملايين بنسبة 66% من العدد الإجمالي للسكان، أما عدد المستخدمين النشطين في هذه الشبكات عبر الهاتف المحمول فيصل إلى 3 ملايين و800 ألف مستخدم، أي بنسبة 63% من العدد الإجمالي للسكان(43).

وبينما يزداد اهتمام المستخدمين بشبكات التواصل الاجتماعي، تتراجع مكانة الصحيفة في تفضيلات الجمهور؛ إذ كانت تمثِّل مصدرًا للأخبار والمعلومات بالنسبة لـ47% من المستجوبين سنة 2013 كما يُبيِّن مسح أجرته جامعة نورث ويسترن في قطر، ثم تراجعت هذه النسبة إلى حوالي النصف، أي 25%، سنة 2017(44).

أسهمت هذه البيئة الاتصالية الرقمية الجديدة في تغيُّر الممارسة الإعلامية منهجًا وتحريرًا، وكذلك في تغيُّر الثقافة الاتصالية للجمهور؛ حيث “نشأ جيل جديد منقطع بطريقة كلية وشبه تامة إلى الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي التي جعلت الناس تنصرف عن الصحيفة، وسهَّلت التواصل بين الأفراد والنقاش المفتوح عبر المنصات الرقمية على مدار الساعة، ولم يعد لدى الجمهور الاهتمام الكافي بالكتاب ولا بالصحيفة الورقية، وهو ما أضعف دورها وموقعها الاقتصادي بعد إعراض هذا الجيل عن القراءة”(45) ومتابعة قضايا الشأن العام عبر وسائل الإعلام التقليدي. وبذلك، أصبح الورق أيضًا أضعف وسيلة لنشر المعلومات والأخبار والمحتوى الإعلامي، خصوصًا مع تطور الهواتف الذكية والمنصات المرتبطة بالمدونات والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي(46). بل إن هذه الوسائل والوسائط التكنولوجية الحديثة، لاسيما الشبكات الاجتماعية، جعلت الصحافة الورقية مُتَجَاوَزَة ولا تستطيع منافستها إخباريًّا؛ إذ أصبحت الأخبار تصل إلى المستخدم عبر هذه المنصات والهواتف المحمولة(47). وهذا ما يفسر اهتمام مسؤولي التحرير في المؤسسات الصحفية الورقية بمستخدمي هذه الوسائط، الذين باتوا يمثِّلون عنصرًا أساسيًّا في عملية الاتصال وأيضًا محددًا جوهريًّا في علاقة الصحيفة بالمعلنين؛ مما يعطي الانطباع بأن الاستثمار في مجال الإعلام لم يعد اليوم منشغلًا بالصناعة الخبرية أو بيع الخبر كما كان بالأمس، وإنما ببيع المستهلكين لهذا الخبر إلى المعلنين، كما يقول الأكاديمي إيغناسيو راموني (Ignacio Ramonet)(48).

هذه المنظومة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة التي يَبْرُز فيها الإعلام الرقمي والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي حوَّلت وسائل الإعلام التقليدي، لاسيما التليفزيون، في نظر غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، إلى وسيلة للترفيه أكثر منها وسيلة إعلام، ولم يعد اليوم هو عصر التليفزيون ولا عصر الصحيفة الورقية ولا عصر الإذاعة(49)، بل هو “زمن الأونلاين”؛ حيث توفر الإنترنت خدمات متعددة تتجاوز الصحافة الورقية، وهذا متغير جوهري يفسر تعثر وتراجع الصحافة الورقية؛ إذ يمكن للمستخدم أن يتابع أخبار العالم عبر هاتفه الذكي(50). وأصبح الويب مربوطًا بمؤسسات إعلامية كبيرة؛ حيث قضت الشبكات الاجتماعية على جميع المؤسسات(51) باعتبارها مصدرًا للأخبار والمعلومات. وهنا، ستتوسع “ثقافة الشاشة”، كما يُسَمِّيها الباحث الفرنسي المتخصص في علم اجتماع الإعلام، ريمي ريفيل (Rémy Rieffel)، عبر الوسائط والمنصات الإلكترونية المختلفة (الحاسوب اللوحي، الهاتف الذكي…)، وتتطور تدريجيًّا حتى تحلَّ محلَّ “ثقافة المطبوع” أو على الأقل تُهمِّش “الثقافة المكتوبة”(52). ويبدو هذا المتغير (الأونلاين، والإعلام الجديد بمنصاته المختلفة) مؤثِّرًا في البيئة الإعلامية الدولية عمومًا وليس في البيئة الإعلامية اللبنانية وحدها؛ حيث يتعاظم انتشار ثقافة الشاشة واستخدام شبكة الإنترنت وسيطًا في استقاء الأخبار والمعلومات ومتابعة الأحداث، لاسيما وسط فئة المستخدمين الشباب. ففي دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث تبيَّن أن 42% من المبحوثين في 38 دولة يتابعون الأخبار عبر شبكة الإنترنت مرة واحدة على الأقل في اليوم، بينما يستقي نصف المبحوثين أو أكثر من الشبابِ الأخبارَ عبر الوسائط الرقمية يوميًّا(53)، وهو ما يعكس تحولًا في الأنماط الاستهلاكية لوسائل الإعلام من قبل الجمهور/المستخدمين في العالم، وأيضًا هجرة واسعة أو انتقالًا لفئة كبيرة من الجمهور كانت تستخدم الإعلام الورقي نحو الإعلام الرقمي وشبكات الإعلام الاجتماعي.

إذًا، تُظْهِر تحولات المنظومة الاتصالية والإعلامية التي تشكَّلت في سياق البيئة الرقمية الجديدة نفوذًا متزايدًا لسلطة الإعلام الرقمي بحوامله المختلفة، وتأثيرًا مُطَّردًا للإعلام الاجتماعي عبر شبكاته المتنوعة التي جعلت المستخدم مصدرًا مُنْتِجًا للمحتوى الإعلامي، بل مالكًا لوسيلة إعلامية هجينة (مكتوبة ومرئية ومسموعة). وقد أسهم ذلك في نشوء بيئة اتصالية وإعلامية مرتبطة بشبكة الإنترنت، أو كما سمَّاها جورج بكاسيني، بـ”عصر الأونلاين”، وهو ما أنتج عادات اتصالية جديدة، و”تحولًا في قيم المجتمع وعاداته وتقاليده”، فـ”الجيل السابق -كما يشير غسان حجار، مدير تحرير جريدة النهار- كان يحضر المقابلة السياسية ليرى ما يقوله الوزير أو المسؤول السياسي، أما الجيل الجديد الذي يبلغ عمره 18 عامًا فلا يهمه الوزير ولا محتوى المقابلة؛ إذ تغيرت القيم والأولويات، فهؤلاء الشباب لا يتابعون شاشة التليفزيون ولا يقرؤون الصحيفة ويفضلون الهاتف الذكي الذي يتابعون عبره كل شيء ويتواصلون مع العالم ويقومون بأشياء كثيرة في نفس الوقت”(54).

وأنتج هذا الواقع أيضًا “جيلًا صاعدًا لا يعرف الصحيفة” مثلما يؤكد الأكاديمي عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، وليس معنى ذلك أن هذا الجيل لا يطَّلع على الأخبار(55)، وإنما غيَّر الوسيلة الاتصالية التقليدية التي أصبحت لا تشبع احتياجاته المعرفية والسياسية والاجتماعية والثقافية والترفيهية، وانصرف إلى الحوامل الإلكترونية الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي وشاشات الهواتف الذكية التي أصبحت أكثر الوسائل استخدامًا لمتابعة القضايا التي تشغل اهتمامه، وتمثِّل النافذة التي تصل عالمه بعوالم ومجموعات أخرى يتطلع لمتابعتها والتفاعل معها في الزمان والمكان المناسبين.

3.2. تحديات الرؤية المهنية

تعمقت أزمة الصحافة الورقية في ظل التحديات التي فرضتها المنظومة الاتصالية والإعلامية الجديدة من خلال التحول في مرتكزات العملية الإعلامية والمفاهيم المؤسسة لها (المصدر، الرسالة، الوسيلة، المتلقي، رجع الصدى)، وأيضًا التحول في الدور التقليدي للصحيفة بشأن رواية الأحداث، وتَمْثِيل الواقع بعد التغير الجوهري في مفهوم الزمن الإعلامي؛ “فقد تقلص الزمن المنقضي بين لحظة وقوع الحدث ولحظة ظهور صداه على الشبكة فبات أصغريًّا. وأصبح مفهوم الزمن الحقيقي للإعلام يستند إلى فكرة وجود اتفاق قراءة ضمني بين وسيلة الإعلام ومتابعيها، وهو يعتمد على التعهد أمام المتابعين بنشر المضمون المتعلق بالحدث حال وقوعه…وخلق هذا المفهوم زلزالًا مقارنة بذلك العصر الذي كان على القرَّاء فيه انتظار طباعة ونشر الصحيفة لكي يأخذوا علمًا بالحدث الذي وقع في اليوم السابق”(56). وبذلك التصق الزمن الفعلي بزمن الحياة الواقعي؛ إذ كان الزمن الإعلامي يقتصر على تتبع مسيرة الحياة وأحداثها مع شيء من التأخير، أما الآن فالزمنان يتلاقيان فما إن يقع الحدث حتى يجري نقله في نفس الآن. وفرض هذا التحول مفهوم الأخبار المستمرة ومهَّد لظهور المضامين النوعية التي تمثِّل أشكالًا تحريرية تتعذر طباعتها وتستثمر الإمكانيات التقنية التي تتيحها البيئة الرقمية(57).

لم تستطع الصحافة اللبنانية تَمَثُّل التحولات الجارية في البيئة الاتصالية والإعلامية الجديدة، وظلت -في نظر بعض الفاعلين المهنيين والكتَّاب الصحفيين والأكاديميين- صحافة خبرية “متخلفة مهنيًّا”(58) تتحدث عن الخبر الذي حصل بالأمس بينما اطَّلع عليه القارئ لحظة حصوله عبر المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لأنه يبحث عن المعلومة بأسرع وقت وبأقل قدر من التكلفة. كما قررت بعض التجارب الصحفية أن تبقى صحفها كلاسيكية ومتخلفة في الشكل والمضمون ولم تفهم قواعد العمل الإعلامي الجديد وضرورة تحولها إلى صحف “مغازينية” تحليلية وقصصية واستقصائية وصحافة رأي ومقالات ومعلومات خاصة(59). وفي هذا السياق، يلاحظ الأكاديمي جاد ملكي، رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأميركية ومدير معهد بحوث الإعلام والتدريب في الجامعة، أن بعض الناشرين لا تزال لديهم أفكار قديمة عن إدارة الصحيفة ترجع إلى الخمسينات والستينات من القرن الماضي؛ إذ لم يبتكروا أساليب جديدة لتطوير العمل الصحفي وتوسيع نشاطه وتوظيف إعلاميين مؤهلين لاستخدام الوسائط المتعددة، كما تعاني هذه المؤسسات من غياب الرؤية، أي اتجاه المؤسسة ومستقبلها ومواكبة التطور(60).

ومن هذا المنظور، يرى حازم الأمين، كاتب وصحفي وأحد ناشري موقع درج، أن مشكلة الصحافة الورقية في لبنان تتمثَّل في عجزها عن مواكبة التغيير الذي يحصل في مجال الصحافة المكتوبة وعجزها عن الانتقال إلى المرحلة الجديدة؛ إذ إن هناك نقصًا كبيرًا في الإبداع والخيال الذي يجب أن تتمتع به الصحافة الجديدة اليوم. فقد ظلت الصحافة اللبنانية تقليدية لأسباب كثيرة؛ إذ تعمل في مجال انقسامي، كما أن الهمَّ المهني غائب في الممارسة الصحفية، ولا يستطيع الصحفي أن يطرح أفكارًا ضد خياراته؛ لذلك يجب أن تكون غرفة الأخبار مبنية على هذا التحدي(61).

كما أن جزءًا من مشكلة الصحف التي خرجت من المشهد الإعلامي أنها لم تستثمر ما أنتجته من معلومات، ولا تستجيب لاحتياجات القارئ وأصحاب القرار؛ فالمعلومة ليست جامدة بل يمكن تقديمها بأشكال مختلفة تشبع احتياجات المتلقي. فالاستثمار في الإعلام لم يأخذ بُعده الصحيح؛ إذ يعتقد بعض الناشرين أن الدعم المالي هو الأساس. فليس هناك من يعتمد على المداخيل التي يكون مصدرها المحتوى من خلال تجهيزه وتوفيره للمستخدم، فالمعلومات اليوم سلعة أساسية؛ إذ إن المؤسسات التي كانت تبيع الأسلحة بالأمس تشتغل اليوم في المعلومات(62).

لذلك، يربط إبراهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مشكلة الصحافة في لبنان بعجزها عن تجديد نفسها وتخلفها مهنيًّا عما كانت عليه في الستينات والسبعينات وأواسط الثمانينات؛ إذ تعيش حالة كسل عن تحدي متطلبات المهنة كما أنها ضعفت أمام الإعلام الرقمي؛ ومن ثم فإنها غير مؤثرة في الرأي العام وغير منتشرة وليست هدفًا للقرَّاء، لكنها تصدر بشكل تلقائي فقط لأنها تعبِّر عن وجهة نظر ما أو لأن هناك من يوفر لها الدعم الكامل للصدور، ومن ثم تلجأ إلى التبرير الأسهل وهو غياب التمويل، لكن فعليًّا فإن العطب المركزي هو عطب داخلي على مستوى الصحف ونقابة الصحفيين ونقابة المحررين وجميع المؤسسات التي تُعْنَى بالإنتاج الصحفي. كما أن جزءًا من نجاح بعض التجارب الصحفية يرجع إلى كونها قدَّمت محتوى مختلفًا عما هو سائد(63).

4.2. إشكاليات النموذج الإداري العائلي والتوريث في إدارة المؤسسة الصحفية

يتميز المشهد الإعلامي اللبناني بهيمنة العائلات والرموز السياسية على وسائل الإعلام؛ وبوجود علاقات وثيقة بين السياسة والإعلام؛ إذ غالبًا ما تُمْنَح التراخيص بطريقة تعكس التنوع السياسي في البلاد. ويرتبط معظم أصحاب وسائل الإعلام بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتوجهات وولاءات سياسية(64)، وهو ما أكسب مالكيها نفوذًا سياسيًّا وحوَّل هذه الوسائل إلى “مؤسسات” إعلامية عائلية مغلقة تواجه مشاكل وتحديات في إدارتها، خصوصًا عندما يُغَيِّب الموت مُؤَسِّسَها (البيرق، الأنوار…) أو يُقَرِّر مَالِكُها/الناشر لسبب من الأسباب إغلاق أو وقف الصحيفة (السفير، المستقبل…)؛ حيث يكون المحيط أو العامل العائلي مؤثرًا في الوضع والمآل الذي تؤل إليه الوسيلة الإعلامية. وتعكس معظم المشاريع الإعلامية دورًا سلبيًّا لورثة التجارب الصحفية في إدارة هذه الصحف؛ إذ لم يستطع هؤلاء الورثة (حالة دار ألف ليلة وليلة، ونموذج دار الصياد) استكمال مسيرة تلك المشاريع؛ حيث تنشأ الصحيفة وتختفي أو تخرج من المشهد الإعلامي بموت مُؤَسِّسِها أو مالكها، وبعبارة أخرى، كما يشير عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، “تموت الصحيفة بموت صاحبها؛ لأنها مربوطة بشخص”(65). وحتى بعض العناوين التي استمرت في الصدور تواجه إشكاليات حقيقية، يؤكد جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية؛ إذ لم يتقاض الصحفيون رواتبهم لفترة تزيد عن السنة، وكانت هذه الصحف تعتمد على التمويل الذي يغطي نفقاتها وأيضًا مصاريف العائلات المالكة، ولم يكن أصحاب هذه الصحف فقراء في الأصل، بينما أصبحت هذه العائلات تدفع اليوم النفقات مباشرة لذلك تجد صعوبة في تمويل أنشطة الصحيفة(66).

ويُنَبِّه إلى هذه المفارقة إبراهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، الذي يلاحظ أن أصحاب الصحف يستأثرون بنسبة أكبر من التمويل الذي يُقَدَّم دعمًا للصحف، وفي معظم التجارب الصحفية التي أُغلقت لم يواجه أصحابها إفلاسًا على الصعيد الشخصي، بل إن الصحف التي أفلست ازداد أصحابها ثراء(67). كما أن الجيل الذي يرث هذه الصحف لا تَهُمُّه إدارتها ولا يُعْطِيها الاهتمام الكافي، خصوصًا إذا كانت لديه مصالح اقتصادية وتجارية، حيث تتقهقر الصحف وتتراجع حتى الانحلال(68) أو “الموت” الذي يَقْبُر المشروع ويُغلق أبواب الصحيفة.

لذلك تُمَثِّل الملكية الفردية/العائلية لهذه الصحف واحدة من المشكلات الحقيقية التي تواجه الصحافة الورقية في لبنان اليوم؛ إذ لم تتحوَّل من حيث الجانب الصناعي إلى مؤسسات مساهمة يشارك فيها أفراد يدققون في عمليات الإدارة والإنفاق والمداخيل ويجرون توازنًا وتواؤمًا بين الوجهة المهنية الصحفية والوجهة التجارية، لأن قدرة السيطرة على المؤسسة الصحفية من خلال الفرد والعائلة أكبر بكثير من وجود شريك(69).

ويربط أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، هذه المشكلة بالبنية الاجتماعية الإقطاعية والعشائرية والعائلية المستحكمة في لبنان، والتي تنعكس أيضًا على الشركات التجارية والمؤسسات الصحافة اليومية؛ حيث يصر أصحاب الصحف على ربط المؤسسة باسم العائلة باعتبارها ملكية خاصة تضمن الخلود لمؤسسها أو مالكها أو تُخَلِّد ذِكْرَه بين الأجيال اللاحقة بدل أن تتحوَّل إلى مؤسسة حقيقية مفتوحة يمتلك الأفراد أسهمها ويراقبون إدارتها(70).

ولتجاوز هذا الوضع يرى البعض أن الصحف تحتاج إلى الاستقرار الذي يجعلها لا تعيش هاجس الإقفال  القسري سواء كان ناجمًا عن تعسف سياسي أو ناتجًا عن تدهور مفاجئ في القدرات المالية، كما تحتاج لجمهور يكون شريكًا ومساهمًا في إنتاج وإدارة مؤسسة صحفية وإن كان هذا الأمر في لبنان مرتبطًا بالسياسة، كما أن التاريخ الإداري والمالي للصحف يشير إلى أنها مؤسسات خاسرة لا تشجع المستثمر ليكون مساهمًا ويتحمل المسؤولية، كما أن العمل الصحفي تترتب عليه نتائج في الأمن والسياسة بينما هناك أناس لا يحبون المغامرة حتى لو كانوا يوافقون على الخطاب الإعلامي للصحيفة(71).

وهنا يزداد السؤال تعقيدًا: كيف يمكن تأمين هذا الاستقرار في ظل هذه الموانع؟ يرى الأكاديمي جاد ملكي أن المدخل لذلك هو امتلاك “الرؤية لاتجاه المؤسسة ومستقبلها ومواكبة التطور”(72) لأن العمل الصحفي يتطور بوتيرة متسارعة تسابق الزمن، وهو ما يستدعي حالة من التأهب للحاق بهذه التطورات، ومواكبة المشرفين على هذه الصحف للتحولات الإعلامية والمستحدثات التكنولوجية الجديدة وقضايا الإعلام الجديد، وابتكار طرق ووسائل من أجل تجديد وتطوير صحفهم لضمان استمرارها(73)، فضلًا عن الاقتراب من سوية الحرية أو الرفع من سوية الحرية المتوفرة وإما أن تواجه هذه الصحف مصيرها المحتوم الذي ينتظرها(74) أي الخروج من المشهد الإعلامي اللبناني كما واجهته الصحف الأخرى لأسباب وعوامل مختلفة.

5.2. البيئة السياسية وتأثيرها في نشاط المؤسسة الصحفية 

تنشأ النظم الإعلامية وتتشكَّل في سياق تبادلي مع النظم الاجتماعية والسياسية الأخرى في المجتمع، والتي تحدد الأدوار والوظائف الاجتماعية لوسائل الإعلام. لذلك، فإن “العلاقة بين المجتمع ووسائل الإعلام متفردة؛ لأنها علاقة متحركة ونشطة وليست ساكنة حيث يؤثر كل منهما في الآخر(75)، ويرى الباحثان ملفين ديفلير (Melvin Defleur) وساندرا بول-روكيتش (Sandra Ball-Rokeach)، اللذان قدَّما النموذج الأول لنظرية الاعتماد، أن وسائل الإعلام والمجتمع يعتمد كل منهما على الآخر من أجل البقاء والازدهار، ويحتاج كل منهما بصفة خاصة إلى مصادر البعض من أجل تحقيق الأهداف الخاصة بكل منها(76).

وتعكس هذه العلاقة التبادلية والتفاعلية صورة تماثلية بين واقع وسائل الإعلام وواقع الحياة السياسية، حيث “يُنْشِئ المجتمعُ النظامَ الإعلامي القومي ويقوم الأخير بدوره في تطوير المجتمع أو تغييره، ومع اختلاف المجتمعات تختلف أيضًا النظم الإعلامية من مجتمع لآخر”(77). من هذا المنظور نفهم دور العامل السياسي في أزمة وجود الصحافة الورقية اللبنانية كما يُشدِّد على ذلك بعض الفاعلين المهنيين والكتَّاب الصحفيين؛ حيث يرى طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، أن بقاء الصحيفة واستمرارها يحتاج إلى حياة سياسية بل إلى حيوية سياسية ونقابات وأحزاب وصراع طبقي. فعندما بدأت “السفير” عملها الإعلامي كان جمهورها من الطلاب؛ حيث كان الاتحاد الوطني لطلبة لبنان جزءًا من أسرة تحرير الصحيفة، أما اليوم فليس هناك الاتحاد الوطني لطلبة لبنان ولا الاتحاد الوطني لنقابات العمال في لبنان، بل ثمة تركيبات طائفية سياسية فقط. لذلك، فالصحيفة تُعبِّر عن حقيقة معينة موضوعية لشعبها؛ وهنا تتمثَّل المشكلة، من وجهة نظر طلال سلمان، أولًا: في غياب الديمقراطية، وثانيًا: في استفحال الأمية بالمجتمع أكثر مما كان عليه الوضع في السابق، وثالثًا: في الأزمة الاقتصادية، إذًا فالنجاح والفشل لأي مشروع إعلامي مرتبطان بالمناخ العام(78).

ويشير إلى هذا المعطى أيضًا أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، عندما يجعل أداء الصحافة اللبنانية صورة تعكس واقع الحياة السياسية في البلاد، ويربط فشل التجارب الصحفية التي خرجت من المشهد الإعلامي بما يُسمِّيه “التصحر السياسي” وندرة الشخصيات السياسية الثقافية القادرة على استيعاب المختلف واستمالته؛ إذ لم تعد الصحف اليومية التي كانت تضم كتَّاب رأي وشخصيات مختلفة عن خطها السياسي العام تقبل بهذه الأسماء، وقد برز ذلك في سياق الثورات العربية؛ حيث باتت بعض الصحف -في لحظة انقسام سياسي عربي- لا تقبل بالمختلفين مع سياستها التحريرية(79).

وتظهر علاقة الاعتماد بين وسائل الإعلام والنظام السياسي، والتماثل بين مكونات الصورة التي يعكسها أداؤهما، في سياق التفسير الذي يقدِّمه ساطع نور الدين، رئيس تحرير موقع المدن، لأزمة الصحافة الورقية في لبنان وأسباب “انهيارها”؛ إذ يرى أن “العامل السياسي أبلغ من العامل الاقتصادي في تفسير الأزمة؛ فعندما يتدهور مجال السياسة يتدهور قطاع الصحافة”. وهنا، يعقد مقارنة بين الوضع السياسي الراهن والظروف التي عاشها لبنان خلال الحرب الأهلية عام 1974، حيث كان حضور الأحزاب السياسية بارزًا وكان ثمة وعي وطموح سياسي ونقاش بشأن إصلاح النظام السياسي في لبنان، وقد أسهم ذلك في بروز صحافة قوية تُوَزَّع في سوريا ومصر والسعودية…أما اليوم فهذا النقاش مُعطَّل، بل إن “الحياة السياسية أصبحت سيركًا ومشهدًا ساخرًا انعكس على قطاع الصحافة التي لا تُوَزِّع نسخة واحدة في البلدان المذكورة”(80).

وتزداد تأثيرات العامل السياسي وانعكاساته السلبية على الصحافة الورقية في ظل الواقع الذي باتت تفرضه بعض المكونات الحزبية بسلاحها على الحالة السياسية اللبنانية، كما يرى الكاتب الصحفي اللبناني حازم صاغية، حيث أصبحت السياسة محسومة سلفًا؛ إذ لا يمكن تغيير الكثير أو الطموح في تغييرها؛ فهناك سقف مرسوم للجميع، وهو ما يَحُدُّ من الحريات الإعلامية وتأثير الإعلام، كما أن هناك عزوفًا عن السياسة لأسباب كثيرة منها الشعور باستحالة التغيير، وهذا ينعكس سلبًا على القراءة السياسية وأيضًا على قراءة الصحف(81).

بينما لا ترى وجهات نظر أخرى دورًا أو تأثيرًا مباشرًا لواقع الحياة السياسية في أزمة وجود الصحافة الورقية في لبنان، وتعتبر ذلك قصورًا في الرؤية والتحليل، و”رؤية سوداوية للحياة السياسية ولدور لبنان ولقطاع الصحافة أيضًا”(82)، و”فهمًا ناقصًا لدور الصحافة”(83). وتعزو القرار الذي اتخذته بعض الصحف بطي صفحة تجربتها الإعلامية إلى أن “المستقبل أمامها مغلق، وتفتقد لقضية تدافع عنها، كما وجدت نفسها تجني الخسائر في وقت توقَّف عنها المال السياسي، إضافة إلى ذلك رأى مالك المشروع أن العائلة لن تستطيع استكمال رسالة الصحيفة”(84). ومن جانبه يربط إبراهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، فشل الصحيفة في البقاء والاستمرار وتوقفها عن الصدور بـ”موت الخيار السياسي لهذه الوسيلة الإعلامية، لذلك فـالادعاء بأن تراجع الحياة السياسية هو سبب الحالة التي تعيشها الصحافة الورقية في لبنان ليس صحيحًا؛ لأن الصحف اليوم قد تكون بديلًا عن الأحزاب، وفي حالة أن هذه الأحزاب ليست فاعلة أو فعَّالة كإطار يمكن للصحافة أن تكون أكثر فعالية منها”(85).

  1. مستقبل الصحافة الورقية في لبنان

في ظل الإغلاق المتواتر لعدد من المؤسسات الإعلامية خلال العقد الأخير، والخروج المتواصل للصحف اليومية من المشهد الإعلامي اللبناني بعد عقود طويلة من نشاطها الإعلامي، يؤكد معظم الفاعلين المهنيين والنقابيين والكتَّاب الصحفيين والأكاديميين، الذين استطلع الباحث آراءهم، أن “قطاع الصحافة الورقية يعيش حالة مَرَضية تعكس الحالة المَرَضية العامة التي يعيشها لبنان”(86)، خاصة الوضع الاقتصادي المأزوم، حيث تُغْلِق شركات كثيرة أبوابها وتَعْجِز مؤسسات عن دفع رواتب الموظفين والعمال. وهنا، يتساءل غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار: “كيف إذًا يكون قطاع الصحافة بحالة سليمة في مجتمع مريض؟”(87) غير أن ذلك لا يعني، من وجهة نظره، “موت قطاع الصحافة في لبنان”؛ حيث يظل تَحَسُّن وضعه مشروطًا بتحسن الوضع الاقتصادي وتحقيق نهضة عمرانية واقتصادية تنعكس إيجابًا على قطاع الصحافة. كما لا يعني أن المشاكل والتحديات التي يواجهها القطاع “قدرية” لا يمكن حلها أو تجاوزها.

ونجد هذه الرؤية لمستقبل الصحافة الورقية في التحليل الذي يُقدِّمه عوني الكعكي من موقعه نقيبًا للصحافة اللبنانية ورئيسًا لتحرير صحيفة الشرق؛ حيث يُقِرُّ بضعف قطاع الصحافة والذي سيتفاقم (الضعف) كثيرًا، ورغم ذلك فإن الصحافة ستستمر؛ إذ لابد من بقاء بعض الصحف، لكن ليس كما كان الوضع سابقًا؛ فـ”العصر الذهبي للصحافة اللبنانية قد ولَّى لكنها لن تموت كليًّا، وهذا ما يؤكده تاريخ وسائل الإعلام؛ إذ إن ظهور التليفزيون لم يلغ الراديو، كما أن الراديو بدوره لم يلغ الصحيفة، والصحافة الورقية لا يمكن أن تُلْغَى، فعندما تُؤَسَّس صحيفة جيدة لا أحد يمكن أن يُغْلِقَها، لأنها رسالة يجب أن تبقى لحفظ التراث”(88). ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن تاريخ تطور وسائل الاتصال والإعلام لم يثبت أن ظهور وسيلة إعلامية قضى على الوسيلة التي ظهرت قبلها بسنوات أو حتى قرون. وهذا ما حصل مع الصحف الورقية والإذاعة ثم التليفزيون وشبكة المعلومات الدولية. فظهور هذه الوسائل ساهم بحجم كبير في تطوير تقنيات ومحتويات وسائل الاتصال التقليدية. فوجود الصحافة الإلكترونية في حياة الصحف الورقية قد يدفع الأخيرة إلى التطور على مستوى الإخراج والمضامين، كما أن خصوصيات الصحافة الورقية لا تماثل النسخة الإلكترونية(89).

وفي ضوء الأمل باستعادة الاقتصاد اللبناني حيويته ونجاعته كي يسهم في نمو وازدهار القطاعات الأخرى بما في ذلك قطاع الصحافة الورقية، يتوقع فاعلون مهنيون وكتَّاب صحفيون آخرون نهاية وموت ما تبقى من الصحف أو استمرار خروجها من المشهد الإعلامي اللبناني وسقوطها الواحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف لاسيما بعد استحكام أزمة وجود الصحافة الورقية؛ إذ “لن تبقى هناك أي صحيفة ورقية في لبنان خلال السنوات العشر المقبلة، كما يشير جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، وما يؤشر على ذلك هو الإقفال المتواتر للصحف خلال الفترة الماضية حيث أغلقت ثلاث أو أربع صحف”(90).

ويستند هذا الرأي إلى “ثقافة الأونلاين” التي باتت تُوجِّه السلوك الاتصالي للأفراد، والمدِّ الرقمي الجارف الذي أعاد بناء المنظومة الاتصالية والإعلامية الجديدة، وانتشار الرقمنة في كل القطاعات؛ حيث “أصبح الحديث اليوم عن التنمية الرقمية في مختلف المستويات؛ إذ لن يكون هناك أي تطور أو خدمات أو وصول إلى المعلومات بدون الرقمنة”(91). بينما يبدو رأي طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، حتميًّا/قطعيًّا -يتجاوز المشهد الإعلامي اللبناني ليشمل المجال العربي- حيث “لا مستقبل للصحافة الورقية في لبنان، لأن هذه الصحف ليست سوى إقطاعيات طائفية يتلقى معظمها الدعم من الخارج، وتستطيع أن تقول: هذه الصحيفة تابعة للدولة الفلانية وتلك تدور في فَلَك الدولة الفلانية…فقد انعدمت السياسة في الوطن العربي كما أن الشعوب التي تُعَدُّ صاحبة الوطن والقرار غابت عن لعب دورها الأساسي، فلماذا سيقرأ المواطن هذه الصحيفة وهو يشعر بأنه خارج القرار؟”(92).

إزاء هذه “الحالة المرضية” المركَّبة لقطاع الصحافة كما يصفها البعض، فإن وصفة العلاج تبدو أيضًا مركَّبة وتتطلع لمستقبل تتعافى فيه الصحافة الورقية من أزمتها رغم المؤشرات التي يدفع أو يُحاجِج بها بعض الفاعلين المهنيين والكتَّاب الصحفيين لإثبات أطروحة اندثار أو نهاية الصحافة الورقية. ولإنقاذ هذا القطاع، وضمان استمراريته، تبرز ثلاث إرادات مختلفة، كما يرى جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، تتطلب جهودًا متضافرة، وتتمثَّل في: إرادة الدولة، ثم إرادة القطاع الخاص، وإرادة مالكي المؤسسات الصحفية(93). ويُحَمِّل كثيرون الدولةَ مسؤوليةَ تدهور قطاع الصحافة الورقية؛ إذ لا تقوم بأي عمل من شأنه حماية هذا القطاع أو تعزيزه أو تسهيل متطلباته، فالدولة مستقيلة من مسؤوليتها في هذا المجال ولا تتعامل مع الصحافة باعتبارها جزءًا من هوية لبنان(94). ويرى أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في صحيفة العربي الجديد، أن استقالة الدولة اللبنانية تظهر بالكامل في قطاع الإعلام الذي يمثِّل مظهرًا لحالة عامة؛ فهي مستقيلة من أي جهد قد يكون إيجابيًّا في تنظيم قطاع الإعلام وفي إرغام المؤسسات الإعلامية على تكوين نقابة مهنية للمحررين، لكنها في المقابل منخرطة بشكل كبير في باب قمع الحريات الإعلامية عبر محكمة المطبوعات(95).

وتبدأ مسؤولية الدولة في نظر هؤلاء بـ”تأكيد دور الصحافة المحوري في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، واتخاذ إجراءات عاجلة لمساعدة هذا القطاع ماديًّا وعينيًّا، وتمكينه من الوقوف على رجليه في هذا الوقت الصعب، ثم إنشاء صناديق تقاعد وضمان الصحفيين اجتماعيًّا، وهو ما يُوفِّر 47% من النفقات التي تتحملها الصحف، ويُوفِّر أيضًا 30% أو 35% على المحررين سواء منها الإعفاءات الاجتماعية أو الإعفاءات الصحية أو الجمركية من أجل استقرار وضع العاملين في قطاع الصحافة الورقية”(96). هذا الدعم المادي للصحف يعتبره عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، واجبًا ومسؤولية تتحمَّلها الدولة للحفاظ على الصحف التي لم تغلق بعد، بل يراه “عملًا وطنيًّا”؛ لأن “هذه الصحف ستصبح لبنانية أكثر ولن تلجأ إلى تلقي الأموال من الخارج”(97). بينما يرى البعض أن الدعم الذي قد تُقدِّمه الدولة يجب أن يُغطِّي مجالين أساسيين، هما: الصحة والتعليم حتى لا يخشى الصحفي التعسفَ ويتمكن من الدفاع عن مهنته أكثر(98). ويحصر فاعلون مهنيون آخرون هذا الدعم في إعفاء الدولة للصحف من بعض الضرائب مثل رسوم الورق والهاتف(99). وتحتاج هذه الإجراءات المطلوبة، خاصة ما يتعلق بالمساعدة في الضمان الاجتماعي وتقديم الدعم للصحف، إلى قوانين ومراسيم على مستوى مجلس الوزراء، إضافة إلى عمل تآزري وتشاركي بين المكوِّن اللبناني المعني بقطاع الصحافة المكتوبة والمرئية والنقابات ومالكي المؤسسات الإعلامية(100).

بالموازاة مع ذلك، هناك المعالجة القانونية التي يجب، من وجهة نظر البعض، أن تأخذ بعين الاعتبار المنظومة الاتصالية والإعلامية الجديدة، والطفرة الهائلة في المواقع الإلكترونية وانتشار القنوات الرقمية على الشبكة، وتطور القطاع الإعلامي، كما أن المشهد الإعلامي بات يتطلب كسر احتكار الملكية من حيث التراخيص والامتيازات(101). يضاف إلى ذلك دعم الدولة للابتكار الرقمي في جميع المجالات؛ حيث تساعد في الانتقال الرقمي من خلال خطة اقتصادية واضحة، وتقديم الدعم في مجال التدريب بمجال الصحافة لبناء نموذج اقتصادي جديد، والاستثمار في وسائل الإعلام الجديد لمواكبة العصر الرقمي. ويتطلب ذلك ثلاثة مداخل تتعلق بالجانب البحثي في قضايا الإعلام والاتصال، والجانب التقني والمبتكرات الحديثة، والجانب الاستثماري الذي يهتم بالنموذج الاقتصادي(102).

 

الشكل رقم (3) يبرز دعائم تطوير قطاع الصحافة الورقية

كما يتطلب إنقاذُ قطاع الصحافة الورقية وضمان بقائه، في نظر البعض، رفعَ الدولة -بأحزابها وطوائفها وأجهزتها الأمنية- يدها عن نقابة المحررين التي ظل الانتساب إليها ممنوعًا على المحررين الجدد حتى قبل سنتين، وكذلك رفعَ يدها عن نقابة الصحفيين التي تُمَثِّل في مفارقة صارخة أصحاب الامتيازات الصحفية!(103).

أما مسؤولية مالكي المؤسسات الصحفية والمشرفين على الصحف، فتتطلب رؤيةً جديدةً تواكب العصر الرقمي، وأيضًا مقاربةً مختلفةً سواء في إدارة المؤسسة الصحفية أو ملكية الصحف وكذلك عملية التمويل الذاتي. كما تحتاج هذه الصحف، في نظر جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، إلى تنويع منتوجها الصحفي من أجل ضمان استمرارها ومساعدتها على البقاء؛ إذ بإمكانها نشر دراسات متخصصة وتغطية موضوعات تهم الرأي العام وإصدار منشورات أو أعداد خاصة تستجيب لاحتياجات قطاعات واسعة من الجمهور وكذلك بإمكانها طباعة كتب، أي أن تُجَدِّد هذه الصحف أساليبها في العمل الصحفي وتبتكر أنماطًا حديثة في إدارتها(104)، وأن تدرك أيضًا أن عليها التعايش مع الانتقال الرقمي، وأن يكون التفكير شاملًا يجمع بين المحتوى والجانب التقني والمالي(105). لذلك، ليست الإنترنت من يهدد الصحافة الورقية، كما يقول الكاتب ورئيس التحرير السابق للمجلة الاقتصادية “ليكسبونسيون” (L’Expansion)، برنار بولي (Bernard Poulet)، وإنما الصحافة الورقية نفسها تحتاج إلى الإنترنت لاستعادة الجمهور والمعلنين من أجل بناء قيمتها الصحفية(106)، بل يربط البعض مستقبل الصحافة الإلكترونية باستمرار وجود الصحافة الورقية فـ”إذا لم تكن هناك صحافة مطبوعة لن تكون هناك صحافة إلكترونية؛ إذ ليس هناك موقع إلكتروني واحد ينتج أخباره بشكل ذاتي ويعتمد على نفسه في إنتاج المحتوى الإعلامي”(107).

ورغم ما قد ينجزه تضافر جهود، ما سماها جوزيف قصيفي، بالإرادات الثلاث (إرادة الدولة، وإرادة القطاع الخاص، وإرادة مالكي المؤسسات الصحفية)، فإن واقع البيئة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة في لبنان وكذلك الدراسات والبحوث، يشيران إلى أهمية التحول في السلوك الاتصالي للمستخدمين؛ حيث يلاحظ تحول المتلقي من “قارئ ورقي” إلى “قارئ/مستخدم رقمي” يعتمد على وسائط الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يجب أن يكون في صلب اهتمام أي معالجة لأزمة قطاع الصحافة الورقية في لبنان.

خاتمة

إذا كانت الصحافة الورقية اللبنانية تبدو في “حالة مَرَضية” مركَّبة لعوامل مختلفة اقتصادية وسياسية واتصالية وثقافية، أدت إلى نهاية أو إغلاق بعض الصحف الحديثة الصدور بل والخروج المتواصل لعدد من الصحف التقليدية من المشهد الإعلامي والتهديد بتلاشي القطاع وانهياره كاملًا، فإن وصفة العلاج التي تكشف مكامن الحالة المرضية تبدو أيضًا مركَّبة؛ تتنازعها إرادات متعددة (الدولة، والقطاع الخاص، وأصحاب الامتيازات)، وتحتاج أيضًا إلى مداخل تأخذ بعين الاعتبار الجانب البحثي، ومواكبة المستحدثات التكنولوجية الجديدة في صناعة المعلومات والإعلام، وإيجاد نموذج اقتصادي جديد يستجيب لاحتياجات المؤسسة الصحيفة بحيث يُؤَمِّن استمرارية المشروع وقوته عبر توفير بيئة استثمارية وموارد مالية تسهم في تطوير المؤسسة وقدراتها التشغيلية والفنية والإبداعية وبيئتها التقنية، وقبل ذلك تطوير منتوجها الصحفي الذي يتطلب أيضًا نموذجًا تحريريًّا جديدًا يعيد النظر في هوية الصحيفة المطبوعة ووظيفتها وطبيعة الممارسة المهنية، وعلاقتها بمصادرها الإعلامية وبالمواطن الصحفي ومحيطها السياسي والاجتماعي والجمهور…إلخ.

ولا تُنْبِئُ المؤشرات الراهنة لحالة قطاع الصحافة الورقية التي تزداد تعقيدًا -حيث لم تتخذ الجهات الرسمية المعنية أية مبادرة أو إجراءات فاعلة- بأن عملية العلاج ستكون ناجعة تُعِيد للقطاع عافيته ومناعته وقوته التي اكتسبها خلال فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. فقد بدأت جميع المؤسسات الصحفية تدرك التحديات التي تفرضها تحولات البيئة الاتصالية الرقمية والإعلامية الجديدة التي يعرفها المشهد الإعلامي اللبناني، وتستوعب متطلبات العصر الرقمي ومَدَّه الجارف الذي حوَّل العالم إلى مجتمع شبكي يُنْشِئُ فيه الأفراد والجماعات وسائلهم الإعلامية الخاصة عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي باتت تفرض سلطتها على نشاط المؤسسات الصحفية الكبرى والسلوك الاتصالي للمستخدمين، ويزداد فيه تأثير الصحافة الإلكترونية والمواقع الإخبارية ويتسع فيه المجال العام الرقمي الذي أصبح فضاء مفتوحًا لا يقلُّ تأثيره عن المجال العام التقليدي، بل يُمَثِّل المحاضن الأولى لتشكيل الرأي العام، خاصة في أوقات الأزمات والصراعات.

ولعل هذا ما يفسر لجوء معظم المؤسسات الصحفية الورقية إلى إنشاء مواقع إلكترونية تكون دعامة أساسية للصحيفة من أجل جذب شريحة واسعة من الجمهور الذي تحوَّل نحو ما يُسمِّيه جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، “الأونلاين” الذي أصبح يفرض سلطته على السلوك الاتصالي للمستخدم، خاصة في ظل سهولة الوصول إلى المحتوى الإعلامي وإمكانية إشباع جميع احتياجاته المعرفية والسياسية والاجتماعية والثقافية والترفيهية عبر شاشات الهواتف الذكية. ويساعد انتشار الثقافة الرقمية في المجتمع اللبناني أيضًا على تعاظم نفوذ الصحافة الإلكترونية اليوم وسط المستخدمين، حيث تزداد أهميتها مصدرًا للأخبار والمعلومات ومتابعة الشأن العام اللبناني ومحيطه الإقليمي والدولي، ويؤشر ذلك على بداية انتقال المجتمع من سلطة الإعلام الورقي إلى سلطة الإعلام الإلكتروني. غير أن ذلك لا يعني أن أطروحة نهاية الصحافة الورقية ستصبح مآلًا حتميًّا أو حقيقة ناجزة في غضون الأعوام العشرة المقبلة، كما يتوقع الفاعلون المهنيون اللبنانيون، بل ستظل الصحيفة دعامة إعلامية ورقية في مشهد إعلامي متحول تتجه فيه المؤسسات الصحفية لتنويع الحوامل والمنصات من أجل إيصال المحتوى إلى الجمهور والمستخدمين بفئاتهم المختلفة.

لكن واقع هذه الحوامل الإلكترونية لا يختلف كثيرًا عما آلت إليه حالة الصحافة الورقية نفسها رغم أن معظم التجارب الإعلامية الإلكترونية لا تزال في بدايتها؛ إذ إن الرهان على نموذج اقتصادي غير تقليدي لم ينجح حتى الآن في توفير مقومات وعوامل التمويل الذاتي لهذه المشاريع سواء عبر الاشتراك في خدمة الـ”بريميوم” التي توفر للمستخدم الدخول إلى محتوى الموقع مقابل اشتراك مالي شهري، أو تقديم خدمات خاصة للمستخدمين، أو الإعلانات التجارية. لذلك، فإن استمرار هذه الصحف والمواقع الإلكترونية سيحتاج هو الآخر إلى تمويل خارجي أو الارتباط بجهات ومؤسسات أجنبية تقدم إليها الدعم لتغطية نفقاتها، وهو ما سيجعلها في خدمة مشاريع هذه الجهات ويُفقِد سياستَها التحريرية استقلالها عن المؤسسات الممولة لها.

المراجع

(1) خير الله خير الله، “سقوط قطعة من لبنان”، العرب، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2YIf7Al.

(2) النهار، “فلتصدر الصحف باللحم الحي”، 26 مارس/آذار 2016، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2KAjVmu.

(3) منال هلال المزاهرة، مناهج البحث الإعلامي، ط 1 (عمان، دار المسيرة، 2014)، ص 344.

(4) Gary King, Robert Keohane, Sidney Verba, Designing Social Inquiry: Scientific Inference in Qualitative Research (Princeton: Princeton University Press, 1994), 45.

(5) Ibid, 85-86.

(6) Ibid, 45.

(7) استخدمت الدراسة المقابلة المقيدة (المقنَّنة) التي يقوم فيها الباحث بإعداد قائمة من الأسئلة قبل إجراء المقابلة، ويتم طرح نفس الأسئلة في كل مقابلة وفي الغالب حسب نفس التسلسل، إلا أن ذلك لا يمنع من طرح أسئلة غير مخطط لها إذا ما رأى الباحث ضرورة لذلك…ويعتبر هذا النوع من المقابلات علميًّا أكثر من المقابلة غير المقننة؛ وذلك لسهولة تفريغها وتحليلها وتوفير الضوابط اللازمة التي تسمح بصياغة تعميمات علمية. للتوسع انظر: هلال المزاهرة، مناهج البحث الإعلامي، مرجع سابق، ص 240-241.

(8) يسمى هذا النوع أيضًا بـ”العينة العمدية التي تتضمن أفرادًا أو عناصر مختارين على أساس خصائص وصفات محددة، ولا تتعامل مع أولئك الذين لا تنطبق عليهم تلك المعايير. وبعبارة أخرى، فإن العينة القصدية/العمدية يتم اختيارها عن قصد أي بطريقة غير عشوائية”. للتوسع، انظر: روجر ويمر، جوزيف دومينك، مدخل إلى مناهج البحث الإعلامي، ترجمة صالح أبو إصبع وفاروق منصور، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص 177-178. “وقد يكون هذا التعمد لاعتبارات علمية، كوجود أدلة أو براهين مقبولة أو منطقية تؤكد أن هذه العينة تمثِّل المجتمع، وفي هذه الحالة تكون نتائج الدراسة مقبولة علميًّا”. للتوسع انظر: هلال المزاهرة، مناهج البحث الإعلامي، مرجع سابق، ص 130.

وقد راعى الباحث في تحديد مفردات العينة تمثيلها لمجتمع الدراسة؛ إذ يأخذ التَّعْيين بعين الاعتبار خصوصية العمل في مجال الصحافة الورقية وتعدد الفاعلين في صناعتها والمتابعين والمراقبين للنشاط الصحفي، لذلك ركز الباحث على معيار المسؤولية التحريرية، والفاعلية في صناعة النشر الصحفي، والمعيار الأكاديمي، والتجربة المهنية، وفاعلية النشاط الحقوقي، والمسؤولية الحكومية.

(9) Paul Egglestone, John Mills, “Interactive newsprint: The Future on Newspapers? Printed electronics meets hyperlocai and community co-design,” University of Central Lancashire, May 14-15, 2012, “accessed August 1, 2019”. https://bit.ly/2Y2807p.

(10) “Social Adaptation,” thefreedictionary.com, (1979), accessed August 1, 2019”. https://bit.ly/33ES24f.

(11) Judith Pies, Philip Madanat & Christine Elsaeßer, “New Media – Old Problems Online Practices of Media Accountability in Lebanon,” mediaact.eu, June 2011, “accessed August 1, 2019”. https://bit.ly/2XP6J3z.

(12) Jad Melki et al, “Mapping Digital Media: Lebanon: A Report by the Open Society Foundations,” opensocietyfoundations.org, March 15, 2012, “accessed August 1, 2019”. https://osf.to/2D8Jx6z.

(13) Lorenzo Trombetta, “Lebanon- Media Landscape,” European Journalism Centre 2018, databak, “accessed August 1, 2019”. https://bit.ly/35xdc5L.

(14) المعز بن مسعود، “الصحافة الورقية العربية: صراع البقاء ورهانات الرقمنة”، مركز الجزيرة للدراسات، 8 ديسمبر/كانون الأول 2016، (تاريخ الدخول: 1 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2rqul2j.

(15) علي نجادات، “مستقبل الصحف الورقية الأردنية في مواجهة الصحف الإلكترونية في ظل ثورة المعلومات والمعرفة: دراسة مسحية”، المجلة الأردنية للعلوم الاجتماعية، (المجلد 2، العدد 2، 2009).

(16) جمال عسكر مضحي، “تأثير الصحافة الإلكترونية على مستقبل الصحافة الورقية”، مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية، (المجلد 16، العدد 2، فبراير/شباط 2009).

(17) أحمد حسين، “استراتيجيات الإدارة الصحفية في التصدي للتحديات التي تواجه الصحافة المطبوعة: دراسة ميدانية على مديري المؤسسات الصحفية المصرية”، مجلة البحوث الإعلامية، (المجلد 47، العدد 47، 2017).

(18) Bernard Poulet, La fin des journaux et l’avenir de l’information (France: Gallimard, 2011).

(19) Ibid, 260-261.

(20) رهام عمر، خان ملكاوي، “المصالح النفطية البريطانية التركية حتى خطوط أنبوب نفط الموصل وعمر”، في مجموعة مؤلفين، مئة عام على الحرب العالمية الأولى: مقاربات عربية، ط 1 (قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ج 1، (تاريخ الدخول: 22 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2NlAIwu.

(21) شيماء الهواري، “صناعة الإعلام: التسيير الاقتصادي والتدبير الإداري والموارد البشرية للمؤسسات الإعلامية”، المركز الديمقراطي العربي، 7 سبتمبر/أيلول 2017، (تاريخ الدخول: 22 أغسطس/آب 2019): https://bit.ly/2zfZYfG.

(22) إبراهيم عبد الله المسلمي، إدارة المؤسسات الصحفية، (القاهرة، العربي، 1995)، ص 8.

(23) “Qu’est-ce que le modèle économique d’une entreprise?,” creerentreprise.fr, Octobre 12, 2016, “accessed August 22, 2019”. https://bit.ly/2BUFt9A.

(24) Adamou Louché Ibrahim, “Tribune: Quel modèle économique pour la presse écrite au Niger?,” nigerinter.com, Janvier 10, 2018, “accessed August 22, 2019”. https://bit.ly/34g1go9.

(25) مقابلة أجرها الباحث مع أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، لبنان، 19 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(26) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، لبنان، 17 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(27) مقابلة أجراها الباحث مع طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، لبنان، 18 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(28) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(29) مقابلة أجراها الباحث مع جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، لبنان، 17 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(30) “كم يبلغ عدد سكان لبنان وكيف يتوزعون بحسب الطوائف؟”، النهار، 17 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2ZtAY42.

(31) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، لبنان، 18 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(32) مقابلة أجراها الباحث مع ساطع نور الدين، رئيس تحرير صحيفة المدن الإلكترونية، لبنان، 19 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(33) Lorenzo Trombetta, Lebanon – Media Landscape, academia.edu, 2017, “accessed September 2, 2019”. https://bit.ly/34gJB0E.

(34) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(35) المرجع السابق.

(36) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(37) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(38) مقابلة أجراها الباحث مع جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، مرجع سابق.

(39) مقابلة أجراها الباحث مع طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، مرجع سابق.

(40) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(41) “التكنولوجيا”، Media Ownership Monitor Lebanon، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 14 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2mdvwPO.

(42) “Media Use in the Middle East, 2018: Online and Social Media”, mideastmedia.org, 2018, “accessed September 16, 2019”. https://bit.ly/2Xntqdx.

(43) “التكنولوجيا”، مرجع سابق.

(44) “Digital 2019 Lebanon (January 2019) V 01”, slideshare.net, February 3, 2019, “accessed September 16, 2019”. https://bit.ly/2mf8yb2.

(45) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(46) مقابلة أجراها الباحث مع عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، لبنان، 20 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(47) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، لبنان، 18 ديسمبر/كانون الأول 2018. ومقابلة مع جاد ملكي، رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأميركية ومدير معهد بحوث الإعلام والتدريب في الجامعة، لبنان، 19 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(48) Ignacio Ramonet, L’explosion du Journalisme (Barcelone: Gallimard, 2013), 109.

(49) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(50) مقابلة أجراها الباحث مع جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، مرجع سابق.

(51) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(52) Rémy Rieffel, Révolution numérique, révolution culturelle? (Barcelone: Gallimard, 2014), 173.

(53) Amy Mitchell et al., “Publics Globally Want Unbiased News Coverage, but Are Divided on Whether Their News Media Deliver,” pewresearch.org, January 11, 2018, “accessed September 20, 2019”. https://pewrsr.ch/2XsZA8P.

(54) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(55) مقابلة أجراها الباحث مع عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، مرجع سابق.

(56) أليس أنتوم، الصحافة الرقمية، ترجمة سامي عامر وجورج سعيد، ط 1 (بيروت، ثقافة، 2017)، ص 60.

(57) المرجع السابق، ص 64.

(58) مقابلة أجراها الباحث مع إبراهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، لبنان، 20 ديسمبر/كانون الأول 2018. ومقابلة مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، لبنان، 12 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(59) مقابلة أجراها الباحث مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، مرجع سابق.

(60) مقابلة أجراها الباحث مع جاد ملكي، رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأميركية ومدير معهد بحوث الإعلام والتدريب في الجامعة، مرجع سابق.

(61) مقابلة أجراها الباحث مع حازم الأمين، كاتب وصحفي وأحد ناشري موقع درج، لبنان، 22 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(62) مقابلة أجراها الباحث مع عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، مرجع سابق.

(63) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(64) “مؤشرات المخاطر على التعددية الإعلامية: السيطرة على وسائل الإعلام وشبكات التوزيع”، Media Ownership Monitor Lebanon، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2019)، https://bit.ly/2kWs4bZ.

(65) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، مرجع سابق.

(66) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(67) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(68) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(69) المرجع السابق.

(70) مقابلة أجراها الباحث مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، مرجع سابق.

(71) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(72) مقابلة أجراها الباحث مع جاد ملكي، رئيس قسم الإعلام في الجامعة اللبنانية الأميركية ومدير معهد بحوث الإعلام والتدريب في الجامعة، مرجع سابق.

(73) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(74) مقابلة أجراها الباحث مع حازم صاغية، كاتب وصحافي لبناني، لبنان، 25 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(75) محمد عبد الحميد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، ط 3، (القاهرة، عالم الكتب، 2010)، ص 205.

(76) ملفين ديفلير، ساندرا بول-روكيتش، نظريات وسائل الإعلام، ترجمة كمال عبد الرؤوف، ط 4، (القاهرة، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، 2002)، ص 434.

(77) عبد الحميد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، مرجع سابق، ص 205.

(78) مقابلة أجراها الباحث مع طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، مرجع سابق.

(79) مقابلة أجراها الباحث مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، مرجع سابق.

هذا “التصحر السياسي” يلاحظه أيضًا جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، وهو ينعكس سلبًا على جميع المجالات الإعلامية والثقافية…خصوصًا في ظل انعدام الرؤية، لكن غياب الجو السياسي لا يُعَدُّ في نظره سببًا رئيسًا في أزمة وجود الصحافة الورقية وإنما هناك أسباب متعددة ترتبط بالتحول البنيوي الذي تعرفه وسائل الإعلام في العالم وليس الصحافة اللبنانية وحدها، إضافة إلى توقف الدعم الذي كان تتلقاه المؤسسات الإعلامية، ثم مشكلة الملكية العائلية لهذه الصحف. مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، مرجع سابق.

(80) مقابلة أجراها الباحث مع ساطع نور الدين، رئيس تحرير صحيفة المدن الإلكترونية، مرجع سابق.

(81) مقابلة أجراها الباحث مع حازم صاغية، كاتب وصحافي لبناني، مرجع سابق.

(82) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(83) مقابلة أجراها الباحث مع عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، مرجع سابق.

(84) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، مرجع سابق.

(85) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(86) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(87) المرجع السابق.

(88) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس تحرير صحيفة الشرق، مرجع سابق.

(89) محمد الفاتح حمدي، “واقع الصحافة الإلكترونية وأثرها على مستقبل الصحافة الورقية: دراسة تحليلية”، المنهل، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 20 سبتمبر/أيلول 2019): https://bit.ly/2r8DMDm.

(90) مقابلة أجراها الباحث مع جورج بكاسيني، مدير تحرير صحيفة المستقبل، مرجع سابق.

يتوقع حازم الأمين، كاتب وصحفي وأحد ناشري موقع درج، اختفاء الصحافة الورقية في العالم العربي بوتيرة أسرع، لأن تطور وسائل الإعلام يسير باتجاه انتهاء مرحلة الورق، كما أن هذا القطاع لأسباب بيئية لن يصمد.

مقابلة أجراها الباحث مع حازم الأمين، كاتب وصحفي وأحد ناشري موقع درج، مرجع سابق.

(91) مقابلة أجراها الباحث مع عماد بشير، مدير كلية الإعلام والتوثيق بالجامعة اللبنانية، مرجع سابق.

(92) مقابلة أجراها الباحث مع طلال سلمان، ناشر صحيفة السفير، مرجع سابق.

(93) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(94) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(95) مقابلة أجراها الباحث مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، مرجع سابق.

بدوره، يؤكد أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، أن “الدولة مستقيلة في جميع المجالات في البيئة والنقل العام…إلخ، فما يُنتظر منها أن تقوم به في الإعلام؟”.

مقابلة أجراها الباحث مع أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، مرجع سابق.

(96) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(97) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس صحيفة الشرق، مرجع سابق.

(98) مقابلة أجراها الباحث مع إبرهيم الأمين، مدير تحرير صحيفة الأخبار، مرجع سابق.

(99) مقابلة أجراها الباحث مع غسان حجار، مدير تحرير صحيفة النهار، مرجع سابق.

(100) مقابلة أجراها الباحث مع حسان فليحة، مدير عام وزراة الإعلام وأستاذ الإعلام في كلية الإعلام بالجامعة اللبنانية، لبنان، 21 ديسمبر/كانون الأول 2018.

(101) مقابلة أجراها الباحث مع أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، مرجع سابق.

(102) المرجع السابق.

(103) مقابلة أجراها الباحث مع أرنست خوري، رئيس القسم السياسي في العربي الجديد، مرجع سابق.

(104) مقابلة أجراها الباحث مع جوزيف قصيفي، نقيب محرري الصحافة اللبنانية، مرجع سابق.

(105) مقابلة أجراها الباحث مع أمين مهنا، مدير مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية (سكايز)، مرجع سابق.

(106) Bernard Poulet, La Fin des Journaux et l’avenir de l’information (France: Gallimard, 2011), 228.

(107) مقابلة أجراها الباحث مع عوني الكعكي، نقيب الصحافة اللبنانية ورئيس صحيفة الشرق، مرجع سابق.