ملخص:
تبحث الورقة أزمة الطاقة العالمية المُعزَّزة بالحرب الأوكرانية: ما أسبابها التأسيسية وقواها الدافعة وسياقها الاقتصادي والتاريخي والجيوبوليتيكي الأوسع؟ وكيف فاقمت الحرب الأزمة؟ وما انعكاساتها على إستراتيجيات الطاقة لدى الفاعلين الأساسيين في سوق الطاقة العالمية من مُنتجين ومُستهلكين، وما توفره من فرص وتطرحه من تحديات على الدول العربية المُنتجة للنفط والغاز ومنظمة أوبك بلس؟ وتنتهي الورقة إلى أرجحية بروز معسكري اقتصاد عالميين؛ بما يوفر مرونة وقوة تفاوضية أعلى للمنتجين، وإلى وجود اتجاهات متناقضة في سوق الطاقة، ما بين استمرار التصاعد التاريخي في الطلب في الأجل القصير والمتوسط حتى أواسط القرن مع بروز قوى اقتصادية جديدة كالصين والهند، والتراجع التدريجي فيه مع التطور في تقنيات الطاقة المتجددة، ضمن سياق من التأزم الاقتصادي المتزايد لعقد قادم على الأقل؛ ما يطرح على المُنتجين بأسواق الطاقة ضرورة تنسيق جهودهم لضمان عدم انخفاض عوائدهم بشكل معتبر، مع تنويع أشكال تعاقداتهم بما يضمن لهم مزايا نوعية على صُعد التصنيع والنمو طويل الأجل للخروج من اقتصادات الموارد.
الكلمات المفتاحية: أزمة الطاقة، النفط، الغاز الطبيعي، الحرب الأوكرانية، روسيا، الصين، أوروبا، الولايات المتحدة الأميركية، أوبك بلس.
Abstract:
This paper examines the global energy crisis reinforced by the Ukrainian war; what its founding causes, driving forces and broader economic, historical and geopolitical context are; how the war exacerbated the crisis; what its implications for the energy strategies of the main actors in the global energy market, including producers and consumers are; and what opportunities and challenges it offers for Arab oil- and gas-producing countries and OPEC Plus. The paper concludes that there is a possibility that two global economic camps will emerge, which would provide more flexibility and higher negotiating power for energy producers. It also concludes there are contradicting trends in the energy market between the continuation of the historic rise in demand in the short- and medium- term until the middle of the century with the emergence of new economic powers such as China and India, and its gradual decline with the development of renewable energy technologies within a context of increasing economic crisis for at least the next decade. This makes it necessary for producers in the energy markets to coordinate their efforts to ensure that their returns do not decline significantly and diversify the forms of their contracts in a way that guarantees qualitative advantages in terms of industrialisation and long-term growth to get out of resource-based economies.
Keywords: energy crisis, oil, natural gas, Ukrainian war, Russia, China, Europe, USA, OPEC Plus.
مقدمة:
أبرزت حرب أوكرانيا الأخيرة التصدعات المكتومة في النظام العالمي المعاصر، مُفجرةً العديد من نقاط الاحتكاك ومفاصل الصدام في النظام الدولي، وقد فاقمت ضمن ما فاقمت من أزمة طاقة كانت قد بدأت تلتهب بأوارها تحت الرماد؛ لتضع العالم أمام مرحلة جديدة كليًّا، يرجح أن تعيد رسم العديد من السيناريوهات القائمة، وربما خرائط التحالفات والحدود نفسها مستقبلًا.
وهذه الأزمة ليست الأولى من نوعها التي نعرفها في التاريخ الحديث، لكنها الأكبر منذ أزمة سبعينات القرن الماضي، وما يميزها عمَّا سبقها، كما يشير تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2022(1)، أنها أوسع نطاقًا من مجرد أزمة نفط وضرورة تقليل الاعتماد على وارداته، بل تشمل العديد من الأبعاد، بدءًا من اتساعها لشمول المصادر الأخرى كالفحم والغاز الطبيعي الذي أصبح محور الأزمة مع دوره المتصاعد في منظومة الطاقة العالمية، وصولًا إلى تماسها العضوي مع أبعاد لأزمات رديفة كالأمن الغذائي والتغير المناخي.
وتشير التجربة التاريخية لارتباط وثيق وعميق ما بين الحروب والأزمات؛ حدَّ صعوبة الفصل التحليلي ما بينهما أحيانًا لمعرفة أيهما يلعب الدور الأساسي، وإن كان الرأي الأرجح أن الحروب مظاهر ونتائج طبيعية للأزمات الكبيرة الكامنة، لكنها مظاهر تعمِّق من تلك الأزمات بتفرعات وتنويعات أزماتية نوعية، وما تنشغل به هذه الورقة هو أزمة الطاقة المُعززة بالحرب الأوكرانية، بدءًا من تحليلها وفهم دوافعها ضمن سياقها الجيوتاريخي الأوسع، وانعكاساتها على إستراتيجيات الطاقة العالمية، وما تطرحه من فرص وتحديات على المنطقة العربية وتحالف أوبك بلس؛ ولهذا الطابع العابر للتخصصات لموضوع الورقة ما بين الاقتصاد والجيوبوليتيك؛ وما يستتبعه من تعدد وتقاطع بين الخطوط النظرية والقضايا العملية؛ لن تعتمد الورقة الترتيب التقليدي بمقدمة نظرية ثم تحليل تطبيقي، بل ستتبنى نهجًا أقرب لتضفير النظري بالتطبيقي بطول الورقة حسب الحاجة.
وهكذا، تبدأ الورقة بتحليل السياق الأشمل للأزمة لفصل ما هو خطابي مما هو موضوعي فيها؛ كونه أحد الأخطاء الشائعة، والكامنة ضمنيًّا في صُلب المنهج الوضعي السائد أكاديميًّا، في تحليل الظواهر الاجتماعية كما لو كانت مجرد ظواهر تقنية بحتة، لا تشتمل على صراعات مضمونية وتشويهات رمزية؛ فيما هي دومًا، وهذا أبرز الفروق الفلسفية والتحليلية ما بين الاقتصاد التقني والاقتصاد السياسي، ظواهر ثنائية الأوجه، تجمع ما بين الوجه التقني المحكوم بقيود الواقع المادي والوجه الاجتماعي المدفوع بصراعات المصالح الإنسانية.
يقدم هذا للقسمين اللاحقين، الذي يغطي أولهما البُعد/المظهر التقني للأزمة، مُتمثلًا في اقتصاديات الأزمة من اتجاهات طلب وعرض للطاقة ضمن الاتجاهات التاريخية للصعود الصناعي للشرق وتراجع موارد الطاقة الأحفورية، ويتناول ثانيهما البُعد/المظهر الاجتماعي الذي يضعها ضمن الصراع التاريخي الأشمل على مراكز القوة العالمية ما بين القوى الكُبرى، وكيف تفسر الحرب الأوكرانية وأزمة الطاقة معًا كأدوات ونتائج مترابطة ضمن ذلك الصراع بين القوى الأربع الكبرى، الولايات المتحدة وأوروبا من جانب، والصين وروسيا من جانب آخر. يليهما قسمان نختم بهما الورقة عن آثار الحرب الأوكرانية المتشابكة مع أزمة الطاقة، على اتجاهات علاقات الطاقة الأساسية في العالم، ضمن الاتجاهات الأشمل تاريخيًّا للتراجع الجزئي للعولمة، وبروز معسكرين اقتصاديين عالميين، شرقي وغربي؛ وما يطرحه ذلك الانقسام في سياق زيادة ضغوط الطلب على المعروض المتراجع من موارد الطاقة، من فرص وتحديات على المنطقة العربية ومنظمة أوبك بلس، وكيف يجب أن تتصرف المنطقة لتحقيق أقصى استفادة اقتصادية وإستراتيجية ممكنة من هذه الاتجاهات العالمية.
المستوى الرمزي للظاهرة: خطاب الأزمة، أزمة من؟
في كتابها “50 حقيقة ينبغي أن تغير العالم”، تسجل جيسيكا ويليامز أنه “في حوالي ربع الخمسين حربًا وصراعًا مسلحًا خلال السنوات الأخيرة، ساعدت الموارد الطبيعية على تفجير أو إثارة العنف أو ساعدت في تمويل استمراريته”(2)، وهذا فقط في الحالات التي لعبت فيها تلك الموارد دورًا واضحًا مباشرًا في النزاعات، بعيدًا عن حالات التشابك المعقد والخفي مع اعتبارات أخرى.
لهذا، يتداخل تاريخ الحروب مع تاريخ اكتشافات الموارد الطبيعية والصراعات حولها بشكل يكاد يصعب فصله، بدءًا من التاريخ القديم للبشرية ما قبل الصناعة، عندما كانت الموارد بذاتها هي صُلب العملية الإنتاجية بأدنى قيمة تحويلية مُضافة، وصولًا إلى العالم الحديث؛ حيث لا تزال تحتفظ بمكانة مهمة، بالمساهمات النوعية للعناصر النادرة من ناحية، وبمصادر الطاقة جوهر القوة المحركة للإنتاج الحديث من ناحية أخرى.
ولا تخرج حرب أوكرانيا كثيرًا عن هذا السياق، لكن بالطبع بشكل أكثر تعقيدًا، بما يتماشى والطابع الأكثر تعقيدًا لعالمنا الحديث؛ حيث يتداخل الاقتصادي الكمي المباشر بالجيوبوليتيكي الكيفي غير المباشر، وحيث تشوش الدعاية الأيديولوجية والخطابات الثقافية على الحقائق المادية للمصالح والجوهر الحقيقي للصراعات الأكثر عمقًا وإستراتيجية.
وما تكشفه التجربة التاريخية هو أن الهيمنة الإعلامية والأيديولوجية الغربية قد انتهت بنا لوضعٍ أصبحت معه “آلام البشرية هي آلام الغرب”، فما يصفه هو أزمة، بمعطياته الذاتية ووفقًا لحساباته ومصالحه الخاصة تمامًا، هو بالضرورة أزمة العالم كله، حتى عندما لا يعني بذلك الآثار المتبادلة للأزمات في عالم فائق التشابك.
فأول “أزمة طاقة” في سبعينات القرن الماضي، التي حاول الغرب تصويرها على أنها السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية العالمية حينها، مُحملًا العرب المسؤولية عنها، كانت هي نفسها وبحدِّ ذاتها الفرصة التاريخية التي تحسنت معها أسعار النفط لمستويات أكثر عدالة، وفتحت معها آفاق النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي لدول الخليج العربي مثالًا، في حالة نادرة حينها من تحسن شروط التبادل الدولي لموارد بلدان العالم الثالث، فقبل هذه “الأزمة”، عام 1974، كانت للدول الكبرى المستورِدة والمستهلِكة السيطرة المطلقة على أسواق النفط العالمية، فيما لم يكن للدول المنتجة، رغم إنتاجها لمعظم النفط المتاح عالميًّا، أي تأثير عليها؛ فظل برميل النفط يُعرض ويُباع بثلاثة دولارات فقط حتى حرب أكتوبر/تشرين الأول، بما يتماشى مع مصالح الدول المستهلكة على حساب مصالح الدول المنتجة(3).
فلم تكن “الأزمة” إذن أزمة بالمعنى “التقني”، بانخفاض المعروض عن المطلوب في الأسواق، بل بالمعنى “الاجتماعي”، بالاختلاف على تقييم حصة الموارد من عوائد الإنتاجية وهيكل تدفقاتها وتوزيعها النهائي، ما يثبته تعليق للدكتور محمد دويدار على أزمة السبعينات المذكورة بأنه “إذا ما أُخذ الموقف في مجموعه، أي إذا نظرنا إلى احتياطي البترول في العالم وحالة التكنولوجيا ومعدلات الإنتاج..، يمكن القول: إنه لا توجد أزمة في الطاقة بصفة عامة أو في البترول بصفة خاصة”(4)، كذا إشارته إلى استخدام رأس المال الأميركي لسلاح الطاقة في صراعه مع رأس المال الأوروبي والياباني، وفي محاولته القضاء على منافسة رؤوس الأموال هذه في الأسواق الداخلية والدولية، فباعتباره سيد الموقف بالنسبة للطاقة، يحاول أن يجبر رؤوس الأموال هذه على الركوع، برفع أثمان البترول، حتى تعجز هذه البلدان عن مزاحمة السلع الأميركية، في وقت تقل فيه إنتاجية العمل في أميركا عنها في تلك البلدان(5).
يعطينا هذا فكرة عن مشكلة “الخطاب المُهيمن” التي تبرز مع كافة المشكلات ذات الأبعاد الجيوبوليتيكية، والاجتماعية عمومًا؛ بما يستتبعه تفكيكه من إدراك أن “أزمة الغرب ليست بالضرورة أزمة العالم”، بل إن تسوُّدَها ساحة النقاش بصفتها هذه كأزمة العالم كله، إنما يكشف أن الأزمة الحقيقية، هي تلك الهيمنة المُفرطة لذلك الغرب، حدَّ تعريفه العالم بذاته، وحدَّ اعتباره -وتحويله عمليًّا- تهديد تلك الهيمنة أزمةً للعالم، وبالطبع، وبفعل مقاومته ذاتها، رفعه تكلفة تراجع تلك الهيمنة، واضطراره الجميع لتحمل جزء معتبر منها، وكأن هذا الغرب بخطابه الملتوي هذا، وفي سياق الأزمة موضوع هذه الورقة، يتمنى ضمنيًّا لو أبقى باقي أمم العالم خارج التاريخ الحديث؛ لئلا تنافسه على الموارد النادرة المحدودة، وتتسبب بأزمات لذلك العالم المُوحد معدوم التناقضات الكائن في الفراغ “في النظرية والبروباجندا”، لكنه مُختزل عمليًّا في نصف الكوكب الشمالي الغربي “في الواقع والتطبيق”.
وتكفينا نظرة في حقائق الاستهلاك الغربي لموارد العالم لمعرفة كيف يمثل تعريفه لأزمات العالم انطلاقًا من أزماته، المقيسة بنمط استهلاكه، نوعًا من التضليل المنطلق من الأنانية المُفرطة، فوفقًا لبيانات منظمة Global Footprint Network(6)، لو تم تعميم نمط الاستهلاك الأميركي السنوي للموارد على كامل سكان العالم؛ لتطلب الأمر أكثر من خمسة كواكب أخرى كالأرض، ولو تواضعنا قليلًا وقبلنا بنمط الاستهلاك الدنماركي؛ فسيتطلب الأمر 4.2 كواكب كالأرض، وبالمثل يتطلب تعميم أنماط استهلاك كوريا الجنوبية كوكبيًّا أربعة كواكب، وألمانيا ثلاثة، والمملكة المتحدة 2.6 كوكبًا، والصين 2.4 كوكبًا، وعلى المستوى الإقليمي مثالًا، في داخل ذات النطاق الجغرافي تقريبًا، يستهلك الإسرائيليون في الضفة الغربية كمية من المياه تفوق بأربع مرات الكمية التي يستخدمها جيرانهم الفلسطينيون(7).
هذه التفاوتات الضخمة تضرب أطروحات الاعتماد المتبادل الليبرالية في مقتل، مُعززة على النقيض، من الاتجاه للتنافس التقليدي على الموارد، فمستويات الاستهلاك المذكورة تعني استحالة تحقيق العدالة على صعيد استخدام الموارد لإتاحتها للمناطق والشعوب الأكثر فقرًا وحرمانًا، إلا بخفض المتوسطات العامة لأنماط الاستهلاك لمستويات أكثر استدامة، أو سنستمر في دورات لا نهائية من الحروب المتكررة لإعادة توزيعها وفقًا لتوازنات القوة المتغيرة، مع تدهور مُزمن في البيئة وتهديدات متصاعدة بانهيار كامل النظام الإيكولوجي، كما بدأت تتجلى فعليًّا في مظاهر التغير المناخي المختلفة.
وعلى صعيد موارد الطاقة تحديدًا، نجد وفقًا لبيانات عام 2019(8)، أن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي تشمل مجموعة الدول الغنية في الغرب، تستهلك حوالي 42% من الطاقة المُنتجة عالميًّا، رغم عدم تجاوزها سكانها 18% من عدد سكان العالم، وتصدر وحدها حوالي ثلث الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون، ولا تقاربها في نسبة الاستهلاك سوى الصين التي تتجاوزها سكانيًّا بفارق طفيف، بنسبة استهلاك حوالي 28% من الطاقة المُنتجة عالميًّا، وبنسبة انبعاثات كربونية حوالي 29.5%.
وبالنظر في المتوسطات الفردية السنوية على المستويات الوطنية الأكثر دلالة، نجد وفقًا لبيانات عام 2021(9)، أنه بينما يبلغ المتوسط الفردي العالمي 21 ألف كيلو وات تقريبًا، فإنه يصل لأكثر من الضعف في الدول الغنية بما يبلغ حوالي 56 ألف كيلو وات، ويصل لما يجاوز الثلاثة أضعاف ونصف بما يبلغ 77 ألف كيلو وات في الولايات المتحدة الأميركية، بينما تحظى الصين بمتوسط 30 ألف كيلو وات، والهند بمتوسط سبعة آلاف كيلو وات فقط، ودونها بمتوسط 6600 كيلو مجموعة الدول متوسطة/منخفضة الدخل، وبالكاد تتجاوز الدول منخفضة الدخل متوسط 1200 كيلو وات.
واللافت للنظر في هذه التفاوتات أنها لا تزال قائمة بهذه الشدة ضمن اتجاه تاريخي لانخفاضها من مستويات كانت أشد بكثير؛ نتيجة لما حققته دول كالصين والهند وغيرها من تطور اقتصادي واجتماعي كبير حسَّن من مؤشراتها، لكنه جلب معه تلك الأزمة التي يشكو منها ذلك الغرب، فحيث يستهلك الأخير بمستويات بالغة الارتفاع على حساب فقر أمم كاملة خارجه، فإن استفاقة تلك الأمم وسعيها لحصتها العادلة من ثروات العالم، وضمنها وعلى رأسها الطاقة، إنما يرتب بطبيعة الحال تنافسًا حادًّا على تلك الثروات؛ بما يزيد من ندرتها النسبية ويرفع من أسعارها كاتجاه تاريخي منطقي، يخالف حالة الاستثناء التي عاشها الغرب لقرون مضت كما لو كانت المنطق الطبيعي للأمور، وهذا هو الاتجاه الذي يأتي ضمن الاتجاه التاريخي الأكبر، اقتصاديًّا وجيوبوليتيكيًّا، لعودة ذلك الغرب لحجمه النسبي الطبيعي عالميًّا، وضمن المُحددات والأبعاد الكمية والكيفية للأزمة التي تناقشها الورقة.
اقتصاديات الأزمة: الأبعاد الكمية للأزمة (المؤشرات)
بالنظر في اتجاهات عرض وطلب الطاقة خلال ثلاثة العقود الماضية، يمثل بروز روافد عرض مختلفة مع بوادر لتراجع نظيرتها القديمة، مقابل صعود أقطاب طلب جديدة، الاتجاه التاريخي الأساسي الذي يصوغ موقف سوق الطاقة العالمية، وهو التشابك التقني الذي يضع الأرضية الأساسية للأزمة.
ومن وجهة جغرافية، يأتي معظم معروض الطاقة من خمس مناطق تُعرف بشريط قلب النفط، هي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبحر قزوين وسيبيريا والشرق الأقصى، والتي تسيطر وحدها على حوالي 67% من احتياطيات النفط و73% من احتياطيات الغاز، عالميًّا، بينما يأتي معظم الطلب من الشريطين المحيطين بها، آسيا وأوروبا المعروفة بالمنطقة الهلالية الداخلية، والولايات المتحدة وأستراليا المعروفة بالمنطقة الهلالية الخارجية(10).
وعلى صعيد العرض، نلحظ ظهور بوادر تراجع احتياطيات الطاقة الأحفورية، بالتوازي مع بطء نمو الطاقة المتجددة منخفضة التكلفة؛ فتبرز مشكلة ضغوط العرض طوال المرحلة الانتقالية ما بين نوعي الطاقة في ضوء حقيقة استمرار الوقود الأحفوري كمصدر الطاقة الأساسي للعالم حتى منتصف القرن على الأقل، فرغم أن الطاقة المتجددة وخصوصًا النووية هي أسرع مصادر الطاقة نموًّا في الوقت الحالي، بمعدلات نمو سنوية تبلغ 2.5%، لا يزال الوقود الأحفوري المصدر الأساسي لتغطية احتياجات الطاقة عالميًّا، والمُتوقع حسب بعض التقديرات أن يظل قادرًا على تغطية حوالي 80% منها حتى عام 2040(11).
أما على صعيد الطلب، فيتوقع تقرير الطاقة العالمية لعام 2022(12) أن نصل إلى ذروة الطلب على مصادر الوقود الأحفوري خلال العقد القادم، أي استمرار زيادة الطلب على الغاز الطبيعي حتى عام 2030، وكذلك الطلب على النفط حتى عام 2035، قبل أن يبدأ في التراجع ببطء، فيما نصلها للفحم خلال السنوات القليلة القادمة قبل نهاية العقد؛ لتهبط نسبة الوقود الأحفوري في مزيج الطاقة العالمي من أكثر من 80% الحالية المستقرة منذ عقود، إلى أقل من 75% بنهاية العقد الحالي، وحوالي 60% في أواسط القرن، في تقديرات أكثر تفاؤلًا بالتحول الطاقوي من التقدير المذكور آنفًا.
وهكذا، فعلى المستوى الكمي، هناك اتجاه لاستمرار تصاعد الطلب مقابل بوادر تقلص في إمكانات العرض؛ بشكل يدفع منطقيًّا لاختناق جزئي تدريجي في سوق الطاقة الأحفورية؛ لابد وأن ينعكس باتجاه عام لارتفاع الأسعار فيها، الأمر الذي لا يعكسه أو يكبحه -بقدر محدود- سوى الاتجاه المناقض لتعزيز دور الطاقة المتجددة غير الأحفورية في مزيج الطاقة العالمية، والتي تشير التقديرات المختلفة المذكورة آنفًا أنها لن تقترب من تغطية أقل من نصفه في أحسن الأحوال قبل أواسط القرن الحالي على الأقل.
أما على صعيد الهيكل الدولي للطلب، فيبرز اتجاه عام بالتحول في مراكز طلب الطاقة، بالمواقع المتقدمة التي احتلتها الصين والهند عالميًّا خلال العقد الأخير، فمن المُتوقع أن يتضاعف حجم طلب الطاقة في آسيا خلال الفترة 2008-2035، وستمثل الزيادة في طلب الصين حوالي ثلث الزيادة في الطلب العالمي على الطاقة، والزيادة في طلب الهند نحو خُمسها؛ ليشكِّلا سويًّا أكثر من 53% من الزيادة في الطلب العالمي على الطاقة(13). وفي توقعات موازية، رجحت شركة إكسون موبيل العالمية زيادة استهلاك الطاقة عالميًّا بنسبة 60% بحلول عام 2030 بالمقارنة بعام 2000، مع تحقق 80% من هذه الزيادة في دول غير أعضاء في منظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية، وعلى رأسها الصين والهند(14). كذا، من المُتوقع ضمن بعض سيناريوهات وكالة الطاقة الدولية زيادة نصيب الكهرباء في استهلاك الطاقة النهائي من 20% حاليًّا إلى أكتر من 50% أواسط القرن، تأتي في معظمها من البلدان النامية والأسواق الناشئة المحرومة نسبيًّا(15)؛ ما يثير بمجموعه صراعًا ثلاثيًّا بشأن فرص التنمية وأمن الطاقة وتكاليف البيئة(16).
هذا عن الاتجاهات الكبرى التي تصوغ الموقف العام المُتأزم للطاقة لمُجمل نصف القرن الحالي، فإذا ضيقنا النظر قليلًا لاسكتشاف بذور الأزمة الحالية في حدود الفترة الأخيرة، نجد أنه بخلاف بعض العوامل الثانوية والعارضة من الحوادث الصناعية والمشاكل الفنية وعدم انتظام مصادر الطاقة المتجددة، فضلًا عن عدم استجابة العرض بسرعة للانتعاش السريع في الطلب بعد انتهاء إغلاقات كورونا، أسهمت بعض الاتجاهات المُتراكمة عبر السنوات الأخيرة، فضلًا عن بعض السياسات المُستجدة، في مفاقمة الموقف والدفع لاختناق جزئي في إمدادات الطاقة أوائل العقد الحالي.
كان أول هذه الاتجاهات هو تراجع الإنتاج العالمي من مشروعات النفط والغاز والاستثمارات الجديدة فيهما؛ نتيجة لانخفاض أسعارهما -المُوجَّه جزئيًّا للضغط على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القِرم عام 2014-، وثانيها، الذي فاقم الموقف خصوصًا، تطبيق أنظمة سوقية جديدة بتحرير أسعار الغاز وفك الارتباط بينها وبين أسعار النفط والتخلي عن العقود طويلة الأجل لمصلحة الأسواق الفورية، التي أثارت الخلاف خصوصًا مع روسيا؛ نظرًا لما تمثله من تعارض مع حاجات منتجي الغاز لاتفاقات طويلة الأجل لتأمين مشاريعه واستثماراته باهظة التكلفة(17).
وقد فاقمت الحرب من الأزمة التي كانت قد بدأت بوادرها فعليًّا بعد انتهاء إغلاقات كورونا، ليكون مسرحها المركزي أوروبا، ومحورها الأساسي الغاز الطبيعي، وإن كانت الأزمة قد انعكست بترابطاتها الداخلية والطبيعة التبادلية والتكاملية لسلع الطاقة، على أسعار كافة مصادر الطاقة الأساسية من نفط وغاز وفحم، فارتفعت جميعًا بنسب مختلفة، وإن كان الغاز أكثرها ارتفاعًا، والذي قدَّر تقرير الطاقة المذكور مسؤوليته عن 50% تقريبًا من ارتفاع أسعار الكهرباء؛ ما يكتسي أهمية خاصة؛ كونه قد أصبح أهم وأنظف مصدر طاقة تقليدية في العالم المعاصر، وقد بدأت الأزمة به، ومع انخفاض مخزوناته؛ اتجه المستهلكون لاستخدام الفحم، ومع تراجع المتاح منه بدوره؛ اتجهوا إلى النفط لترتفع أسعاره هو الآخر لأعلى مستوياته منذ سنوات(18).
وهكذا ارتفعت أسعار خام برنت في سوق العقود الآجلة من متوسط عام 70 دولارًا تقريبًا خلال أقرب فترة مستقرة، وهى الفترة السابقة مباشرة على إغلاقات كورونا (وبعد هبوط مؤقت إلى حوالي 25 دولارًا للبرميل خلالها أواسط عام 2020)، إلى 86 دولارًا في أول نوفمبر/تشرين الثاني 2021، قبل أن تنخفص قليلًا إلى مستوى 66 دولارًا أواخر ذات الشهر مع مخاوف عودة الإغلاقات بسبب المتحور أوميكرون، لتعاود الارتفاع المستمر بالغةً ذروة تاريخية بمستوى 137 دولارًا مع بداية الحرب الأوكرانية، لتهبط إلى مستوى 80 دولارًا الحالي مع الهدوء النسبي في الأوضاع، كما يظهر بالشكل (1) بتاليه.
شكل (1): تطور أسعار خام برنت في سوق العقود الآجلة خلال الفترة 2017-2022(19)
وبالمثل، ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أسواق العقود الآجلة لمستويات غير مسبوقة تاريخيًّا، فصعدت من حوالي مئتي دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية أواخر عام 2019، قبيل إغلاقات الكورونا، إلى حوالي ثمانمئة دولار، بما يعادل ارتفاعًا بنسبة 400% بالنسبة لمتوسط أسعار أقرب فترة استقرار سابقة، ولا تزال أسعار العقود الجديدة تتراوح ما بين 500 و600 دولار، بما يجاوز مستوى الاستقرار المذكور بنسب 250 و300%، كما يظهر بالشكل (2) بتاليه.
شكل (2): تطور أسعار الغاز الطبيعي في سوق العقود الآجلة خلال الفترة 2019-2022(20)
ونتيجة لكل ذلك، ارتفعت أسعار توليد الطاقة الإجمالية في عام 2022 مقارنة بالعام السابق مباشرة بأكثر من 40% في الاتحاد الأوروبي، وبما يقترب من 30% في كل من الهند وكوريا الجنوبية، وبحوالي 27% في اليابان، وبنسبة 24% تقريبًا في كل من الصين والمكسيك(21)، علمًا بأن آثار تراجع المخزونات لمستوياتها الحرجة لم تظهر بعد، خصوصًا في ظل عدم تأكد ووضوح مدى قدرة اتفاقات التوريد البديلة على تغطية العجز بسرعة، وارتفاع أسعار الغاز الأميركي لما يعادل أربعة أضعاف نظيره الروسي، والتي أثارت غضب القادة الأوروبيين؛ حدَّ اعتبارها تدميرًا للصناعة والاقتصادات الأوروبية عمومًا.
جيوكونوميك الطاقة: الأبعاد الكيفية للأزمة (التوترات)
الجيوكونوميك Geoeconomics(22) هو الحقل البحثي الذي يُدمج دراسة الأبعاد المكانية والإستراتيجية والثقافية للموارد الاقتصادية؛ بهدف حيازة ميزة تنافسية مُستدامة، وهو تطبيق لمنطق الجيوبوليتيك على النظام الاقتصادي العالمي في سياق العولمة، ويدرس أساسًا سلوك الوحدات الإستراتيجية العملاقة، كالدول القومية والوحدات الإقليمية والشركات الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف.
وتُعد الطاقة إحدى الأدوات المحورية في خلق تلك الميزة التنافسية(23)، ما أثبتته دراسة بروس بودوبنيك(24) عن تحولات الطاقة كظاهرة شارحة للتراتبية الدولية للمجتمعات في النظام العالمي، مُوضحًا كيف أن القدرة على الهيمنة على حركة وتحويل مصادر الطاقة الأولية يمكن أن تعزز القوة السياسية والهيمنة الاقتصادية، كذا أن تلعب دورًا حاسمًا في الانتصار في فترات الحروب، وهو الدور الذي لعبه الفحم لبريطانيا في القرن التاسع عشر، والنفط للولايات المتحدة الأميركية في القرن العشرين.
ينتج عن ذلك أنه بمجرد بلوغ ذروة إنتاج النفط، فسيدخل العالم بشكل شبه مؤكد في صراع على الهيمنة ويتفكك النظام العالمي القائم، خصوصًا مع التنافس الضروري والمنطقي على موارد الطاقة مع صعود قوى جديدة، في ضوء الملاحظة الثابتة تاريخيًّا من ارتباط حجم ما تستهلكه الدولة من الطاقة بموقعها الاقتصادي والسياسي ضمن النظام العالمي، وبالمقارنة بالدول الأخرى(25).
يرفع هذا، وعلى مستوى تاريخي، من تهديدات أمن الطاقة؛ فحيث تتحدد أبعاد مسألة الطاقة بالاحتياطيات أولًا، وبالممرات الإستراتيجية لمرورها ثانيًا، وبتقنيات استخراجها وإنتاجها ثالثًا؛ فإن أبرز تهديدات أمنها ينبع في معظمه من معطيات جيوبوليتيكية، بدءًا من عدم الاستقرار السياسي لمنتجيها الرئيسيين، والاعتماد المُفرط على دول أخرى، مع محدودية تنويع المنتجات وتوزيع المصادر واختلاف القنوات، ومرورًا بالتنافس على معروض الطاقة مع القوى الصناعية الأخرى؛ وما يفتحه من إمكانات الاستغلال الاقتصادي والابتزاز السياسي من القوى المتُحكمة بذلك المعروض، ووصولًا إلى ضعف اعتمادية المخزونات المتوافرة مع تطاول فترات الأزمات والكوارث الطبيعية والتهديدات السياسية من الأطراف من غير الدول بالإرهاب والهجمات السيبرانية وغيرها.
يؤيد هذا ما حددته القيادة الصينية كأهم تهديدات أمن الطاقة الصيني(26)، وهى تذبذب الأسعار بما يرتبه من آثار سياسية تهدد مشروعية النظام واستقرار الدولة، وتركُّز المصادر بما يمكن أن ينتج عنه من عدم استقرار في التوريدات لأسباب فنية أو سياسية بالأخص، والمخاطر على خطوط الملاحة البحرية، خصوصًا من قبل المنافسين الدوليين والتنظيمات الإرهابية في فترات الأزمات، والنزاعات مع الجيران البحريين وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج مماثلة، والتي تستلزم في نظرها حلولًا جلها جيوستراتيجية كذلك(27)، بدءًا من تحسين العلاقات مع دول الممرات الإستراتيجية وتعزيز الأمن الدولي في المفاصل الملاحية ونقاط الاختناق البحرية، ومرورًا باستكشاف طرق بديلة لاستيراد النفط، ووصولًا إلى تطوير منشآت إستراتيجية للمراقبة والدعم اللوجيستي وقدرات حربية للتدخل في البحار العميقة والمياه الدولية، فضلًا بالطبع عن التعاون الاقتصادي والاستثماري لتعميق المصالح المتبادلة، وشراء وامتلاك أصول نفطية في بعض الدول، وتعزيز العلاقات الدبلوماسية والشراكات الإستراتيجية مع المناطق الغنية بالنفط، كما ظهر بالقمة العربية-الصينية الأخيرة(28).
وقد احتل أمن الطاقة، بما يشمله من الحاجة للسيطرة على مكامن احتياطياتها وقنوات مرورها وتقنيات إنتاجها، مكانًا بارزًا في كافة تحليلات الصراعات الدولية الحالية، وبخاصة في مناطق الشرق الأوسط ووسط آسيا وإفريقيا، ويأتي ضمن هذا السياق التنافس الأميركي-الصيني في إفريقيا، والصراع الأميركي-الروسي في الأزمتين، السورية والأوكرانية، والذي لا تستهدف منه الولايات المتحدة بالضرورة احتياجاتها المباشرة من الطاقة، التي تكتفي من الجزء الأكبر منها ذاتيًّا بالفعل، بل توظفه أساسًا ضمن منظومة هيمنتها العالمية وموقفها الدولي في مواجهة خصومها ومنافسيها المحتملين على زعامة العالم(29)؛ ما يصل حد معارضتها الشديدة لتوسط إيران تصدير الغاز التركماني إلى تركيا وأوروبا عبر أراضيها، رغم كونها أقصر الطرق وأقلها تكلفة؛ لرفضها سيطرة روسيا أو إيران على مصادر الطاقة في هذه الدول، حتى لو كلف الأمر، بناء خطوط أنابيب تتفادى المرور عبر هذه الدول، تحمل تكاليف أعلى ومواجهة مخاطر أمنية أكبر(30).
لهذا، فمن وجهة جيوكونوميكية طويلة الأجل، تمثل أزمة الطاقة الحالية، في تقاطعها وتمظهرها مع حرب أوكرانيا وما شابهها من نزاعات لا تزال باردة أو كامنة، مظهرًا ونتيجة لبروز مراكز صناعية جديدة تنافس على الموارد وقنوات مرورها وأسواق تداولها، ولمقاومة الغرب، وفي قلبه الولايات المتحدة، لهذا التحول التاريخي؛ بما يجره من صراع على النفوذ الاقتصادي العالمي، كذا مظهر لتحسن المركز التفاوضي والثقل السياسي لمراكز توريد ومرور الطاقة، وبخاصة دول منظمة أوبك بلس. وأخيرًا، مناسبة لإثارة مسألة الريع الإمبريالي الذي تحصله الولايات المتحدة بفضل علاقة البترودولار القائمة على هيمنتها المتراجعة على منابع الطاقة العالمية وممراتها الدولية؛ وبالتالي الصراع الكلاسيكي الطويل لبناء نظام نقدي عالمي أقل مركزية على الأقل.
ويأتي هذا الموقف متزايد التأزم ضمن سياق مستمر ليعمق تناقضات “مُفارقة الهيمنة”، التي تعيشها الولايات المتحدة منذ حرب فيتنام، وهى التناقض ما بين(31): إما (1) الانطواء داخليًّا على الذات لإعادة بناء القدرات المحلية؛ بما يعنيه من ضعف الهيمنة الأميركية والغربية والرأسمالية عمومًا، أو (2) الاستمرار في تعزيز الهيمنة الأميركية عالميًّا؛ بما يستجلبه من ضعف القدرة التنافسية الأميركية في مواجهة رؤوس الأموال الأخرى، وبخاصة ألمانيا واليابان والصين.
وهذه المُفارقة آخذة في التفاقم مع تصاعد المُتطلبات السياسية والعسكرية للهيمنة، مقابل تراجع الوزن الاقتصادي الأميركي ضمن النظام العالمي، ومعهما تزايد الأعباء العالمية مقابل تراجع القدرات الوطنية، بما يتماشى بالضبط مع وصف بول كيندي لدينامية تراجع الإمبراطوريات في كتابه الشهير “نشوء وسقوط القوى العُظمى”؛ ما يدفعها، تمويلًا لهذه الفجوة المتزايدة، وضمن ممارسات استغلالية أخرى بالطبع، إلى الإفراط في طباعة الدولار؛ بما يفاقم الأزمات الاقتصادية الدولية، ويدفع لمزيد من الصراع الدولي حول نظام النقد الدولي غير النزيه، الذي تحوز القيم الحقيقية من خلاله، مقابل أوراق ملونة لا تكلفها شيئًا، والتي كانت كفيلة بإثارة غضب الحلفاء قبل الأعداء.
فلا يقتصر التبرم من هذه الممارسات على روسيا أو الصين المُتمردتين حديثًا -ببطء وتردد عقلاني- على هيمنة الدولار، بل يشمل مثلًا الرئيس الفرنسي الأسبق، شارل ديجول، الذي سبق منذ أكثر من نصف قرن بالمطالبة بالعودة لنظام الذهب الذي “لا يغيِّر طباعَه ولا قومية له”(32)، ليصرح وزير مالية نيكسون، مستر كونوري، في لقاء تليفزيوني بتاريخ 15 أغسطس/آب 1971، تبريرًا لسياسات تعزيز الدولار كعملة السيولة الدولية، بأن “الولايات المتحدة تلعب دور رجل البوليس لمصلحة كل الدول الرأسمالية، وقد حان الوقت لكي تسهم هذه الدول في نفقات القيام بهذا الدور”(33).
لهذا يأتي سلاح الطاقة، المُسعرة قيمةً والمُوَسَّطة تبادلًا بالدولار، ليلعب هنا دورًا مزدوجًا في حل مفارقة الهيمنة المذكورة، فمن جهة يعزز الهيمنة الأميركية المباشرة بالسيطرة على مكامن ومنافذ مرور موارد الطاقة، وغير المباشرة بتعزيز السلطة النقدية للدولار ممول الهيمنة، ومن جهة أخرى، يضعف المنافسين جميعًا، المُضطرين، خلافًا لها، لدفع قيم اقتصادية حقيقية مقابل الأسعار المرتفعة المُحتملة لموارد الطاقة المتأزمة؛ ما يؤدي بمجموعهِ للأهمية الحاسمة للسيطرة على الطاقة لكامل منظومة الهيمنة الأميركية، ولصراعها مع كافة القوى المنافسة ضمن حِلفها، أو المارقة خارجه، عبر الأسواق والأقاليم؛ فتمثل الهيمنة على النفط والغاز للولايات المتحدة، كما وصفها علي القادري، أكثر كثيرًا من مجرد كسب المال من بيعهما، بل يتعلق الأمر بالحفاظ على موقعها القيادي بين القوى الكبرى والمسيطر في الدوائر المالية المتقدمة، بما يشمل قنوات نقل الشكل النقدي للقيمة إليها(34)؛ الأمر الذي يوفر أرضية استمرار الثقة باستمرار التوسع بطباعة الدولار اعتمادًا على الميزة الإستراتيجية للهيمنة على موارد النفط، تلك الميزة التي لا تقلل منها أية تقلبات في أسعار النفط والغاز، لا تتضرر منها الولايات المُتحدة؛ كونهما مُسعرين بعملتها(35).
لهذا، يشكِّل تزايد الثقل الروسي في أسواق الطاقة، بعد حد معين، قلقًا أميركيًّا أساسيًّا؛ فهى قوة عسكرية معتبرة، على الأقل، للحد الذي يمنع إخضاعها لمنظومة الهيمنة، بل إن قوتها تلك مُتضافرةً مع ثِقلها في أسواق الطاقة، وما يستتبعه من علاقات وتعاون مصلحي طبيعي مع بقية أطراف تلك الأسواق، يسهم في إضعاف كامل منظومة الهيمنة على تلك الأسواق والموارد وديناميات تكوين أسعارها؛ لهذا يكون حتميًّا إضعاف ذلك الثقل سوقيًّا، ومحاولة عزلها سياسيًّا بالجُملة، باعتبارها حلقة شاذة في سلسلة الهيمنة، يحسن استبعادها لتعزيز قوة تلك السلسلة؛ فتكون مساعي السيطرة الأميركية على نفط وسط آسيا والقوقاز كبديل مُحتمل مكلف ومحفوف بمخاطر “البلقان الأوراسي” بوصف زبيجنيو بريجينسكي(36)، وكذلك “الروسوفوبيا”(37) كظاهرة ثقافية أو عِرقية أو أمنية المظهر، وسائل لتحقيق هذه الضرورة الإستراتيجية، تجد منابعها الحقيقية في المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية لرأس المال الأميركي.
وإن كانت المُفارقة هنا هي أن هذا الحصار المُستهدِف لروسيا، على كل خسائره الكبيرة قصيرة الأجل، قد يكون أكثر ما يفيدها إستراتيجيًّا؛ فهى لم تجن تطورًا كيفيًّا حقيقيًّا من اندماجها في السوق العالمية، بل مجرد أموال ونفوذ ثبت كون أغلبهما قابلًا للتبخر بمجرد انقلاب المُمول الغربي عليهما عند أول خلاف، أو بمجرد قراره أن روسيا قد تجاوزت الحد المسموح لها، فضلًا عن الآثار السلبية لـ(لمرض الهولندي) الذي أدام خراب الصناعة المحلية الروسية، رغم توافر الإمكانات البشرية والقاعدة التكنولوجية التاريخية لانطلاقها؛ ما قد يجعل من هذا الحصار فرصة لروسيا لإعادة النظر في سياستها الاقتصادية مُفرطة الاعتماد على صادرات الموارد والطاقة؛ بحيث تعيد وضعها ضمن وفي خدمة إستراتيجية تصنيع شاملة؛ ما ستكون نتيجته تغيًار كاملًا سياستها الطاقوية بالتأكيد.
جيوبوليتيك الطاقة والحرب: الموقف الطاقوي وحرب أوكرانيا في ضوء التحولات الجيوبوليتيكية الكبرى
يعطينا ما سبق خلفية عن بعض دوافع إشعال الحرب الأوكرانية، فمعارضة الولايات المتحدة لتعميق علاقات الطاقة ما بين روسيا وأوروبا الغربية أشهر من أن تتطلب إثباتًا، كما أن الثِقل الروسي في مزيج الطاقة الأوروبي يتعارض بطبيعة الحال مع منطق أمن الطاقة بما يقتضيه من تنويع وتوزيع لمصادر الطاقة عمومًا؛ ما يجعل طبيعيًّا وجود ما يشبه رغبة جماعية، لدى فريق مسيطر على الأقل، في تقليص ذلك الاعتماد المُفرِط على الطاقة الروسية.
وحتى ما قبل الحرب، كانت روسيا تسيطر على المركز الأول عالميًّا في صادرات الغاز الطبيعي، وعلى نسبة ضخمة من واردات الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي، بما يصل إلى 40% من استهلاكها من الغاز الطبيعي و25% من استهلاكها من النفط، فضلًا عن حصتها في واردات الصين الطاقية؛ بما يجعل لها عمومًا تأثيرًا معتبرًا على الأسعار العالمية للطاقة، بخلاف تأثيرها على أمن طاقة تلك الدول، كما أن تأثيرها يمتد لما وراء النفط والغاز، ليشمل الفحم واليورانيوم والعديد من المعادن الضرورية حتى للطاقة النظيفة، فهى تنتج وحدها حوالي 20% من نيكل الدرجة الأولى الضروري للبطاريات، وما يربو على 40% من اليورانيوم القابل للتخصيب، كما أنها ثاني منتج عالميًّا للكوبالت والألومنيوم، والرابع عالميًّا للجرافيت(38).
ولعل هذا الثقل والتأثير في أسواق الطاقة بأنواعها وروافدها المختلفة، والحاجة لتقليصهما، هو ما يفسر مخالفة الناتو لكل توصيات إستراتيجيي الغرب الكبار، كهنري كسينجر وجون ميرشماير(39)، بعدم محاولة استقطاب أوكرانيا، والاكتفاء بها دولة عازلة (Buffer State) بين روسيا والغرب، فيبدو أن الهدف الحقيقي لاستفزاز روسيا بأوكرانيا، ليس ضم الأخيرة للناتو كهدف تتجاوز تكاليفه عوائده؛ بما يجره من إشكالات واحتكاكات لا ضرورة لها، بل أساسًا الدفع لفصم عُرى العلاقات المتزايدة ما بين روسيا وأوروبا؛ بتفجير المخاوف الأمنية التاريخية المتبادلة ما بين الطرفين من جهة، وبالبيان العملي لخطورة سلاح الطاقة في يد روسيا ضد أوروبا من جهة ثانية، وأخيرًا من جهة ثالثة، وعلى نطاق أوسع، تعزيز عملية إعادة عزل روسيا لمنع استمرار تزايد إمكاناتها وثِقلها المحتمليْن اقتصاديًّا وسياسيًّا عمومًا.
فإذا وضعنا هذه العلاقات القوية ضمن المشروع الإستراتيجي الصيني-الروسي لأوراسيا الكُبرى، إطارًا جامعًا لآسيا وأوروبا ومشروعًا أشمل مُكملًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية؛ فستبدو إثارة التوتر والانشقاقات في هذا المفصل الدولي الحساس منطقية تمامًا من منظور المصالح الإستراتيجية الأميركية لعدم خروج أوروبا من عباءتها الواسعة؛ بما يستتبعه من إضعاف موقفها في مواجهة الصين، خصمها الأساسي المتحين لاحتلال موقعها الدولي بمشاريعه الجديدة ذات الأبعاد شبه الكوكبية.
والواقع أن استمرار الأزمة الحالية؛ بما سترتبه من شَقٍّ لا يمكن رتقه قريبًا في العلاقات الأوروبية-الروسية، مُتزامنةً في السياق الأوسع مع أزمة اقتصادية عالمية كامنة يحاول العالم تأجيلها يائسًا، وتبدو مظاهرها المتراكمة في تراجع التجارة العالمية منذ ذروتها التاريخية إبان أزمة عام 2008(40)، سيؤدي على الأرجح لتراجع موجة العولمة التي يرى الكثيرون أن بوادر تفككها وفشلها قد بدأت تظهر بالفعل منذ عام 2016(41)، بحيث سيعود العالم للترتيبات التجارية الثنائية والتكتلات الإقليمية، أو في أحسن الأحوال وأكثرها تفاؤلًا، سيتجه للانقسام إلى معسكرين اقتصادين عالميين بنواتين مختلفتين، بما يتماشى منطقيًّا مع الانتقال التاريخي البطئ للمركز الاقتصادي العالمي، من واشنطن إلى بكين، أو على الأقل، تقاسمهما المرحلي شبه المُؤكد لذلك المركز، وما بريكس وما على شاكلاتها من تنظيمات آسيوية جديدة سوى محاولات متواترة لتنظيم هذا المعسكر الجديد، وهو ما يتوافق مع توقعات جون ميرشماير لمستقبل النظام العالمي(42)، بانقسامه لثلاثة أنظمة: نظام دولي هزيل معني أساسًا بالقضايا المشتركة كالحد من التسلح وفاعلية الاقتصاد العالمي والتغير المناخي وما إلى ذلك، مقابل نظامين محدودين قويين، بقيادة الصين والولايات المتحدة، مع تصاعد المنافسة العسكرية والاقتصادية ضمن استمرار للعلاقات التجارية (بقدر من إعادة الهيكلة)، بشكل يشبه وضع الصراع بين الحلف الثلاثي (النمسا-المجر وألمانيا وإيطاليا) والوفاق الثلاثي (بريطانيا العُظمى وفرنسا وروسيا) في أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى.
وإذا كانت الحرب الأوكرانية قد أعادت التفكير بهيكل علاقات الطاقة، مُحطمة العلاقات الأوروبية مع روسيا، بشكل يرْجُح ألا رجعة فيه، قريبًا على الأقل(43)، فإنها كذلك ستدعم تأثير الانقسام العالمي الأعم المذكور على علاقات الطاقة؛ بما قد يؤدي إلى تجزؤ سوقها ما بين المعسكرين الاقتصاديين المُتوقعين؛ الأمر الذي أشار إليه تقرير الطاقة العالمية المذكور بحديثه عن تفكك السوق بانقسامات جيوبوليتيكية واختلالات سوقية متطاولة.
ويضيف التقرير المذكور أن الأزمة الحالية ستتضمن انعكاسات متناقضة على التحول الطاقوي إلى مصادر الطاقة المتجددة بديلًا مُحتملًا للتخفيف من حدة الأزمة(44)، فمن جهة يؤدي ارتفاع أسعار الوقود الأحفوري، باعتبارات الاقتصاد البحت، إلى رفع كفاءة استخدامه وتقليص الاعتماد عليه في الأجل الطويل، لكنه من جهة أخرى، سيدفع، باعتبارات الاقتصاد السياسي، مُجسدةً في ضرورات أمن الطاقة والاستقرار الاجتماعي قصيرة الأجل، لتعزيز الاستثمارات في استخدامات ذلك الوقود وبنيته التحتية؛ ما يعزز من وضعه إستراتيجيًّا؛ ويباطئ على الأرجح من وتيرة ذلك التحول.
آفاق الموقف العربي ومنظمة أوبك بلس بعد حرب أوكرانيا
يعمل هذا الانقسام، وضمن الاتجاه التاريخي الأكبر لزيادة الطلب الكلي على الطاقة، مع زيادة السكان والاحتياجات التقنية عمومًا ومن القوى الاقتصادية الصاعدة الجديدة خصوصًا، على تحسين الموقف التفاوضي والثقل السياسي للدول المُنتجة لمصادر الوقود الأحفوري للعقدين القادمين، ويعيد توزيع جزء من الثروة العالمية من مُستهلكي الطاقة إلى مُنتجيها(45)، ما لم تحدث طفرة تكنولوجية كبيرة ترفع من كفاءة استخدام الطاقة الأحفورية بشكل معتبر، أو تسرِّع من وتيرة الانتقال الطاقوي باتجاه استخدام الطاقات المُتجددة؛ بشكل يضعف الطلب الكلي على المصادر التقليدية، وهو الأمر الوارد نظريًّا من منظور تقني بحت، لكن غير المُرجح نجاحه سريعًا من منظور اقتصاديات الطاقة، أي انخفاض تكلفة أنواع الطاقة الجديدة سريعًا للحد الذي يجعلها أكثر اقتصادية من نظيرتها للطاقة التقليدية على مستوى العالم، بما فيه الدول الفقيرة والمتخلفة خصوصًا؛ الأمر الذي يتعارض منطقيًّا مع التكاليف المرتفعة لأية تكنولوجيا جديدة.
يعزز هذا الموقف العربي، وموقف منظمة أوبك بلس، إستراتيجيًّا، ظهور معسكرين متنافسين على موارد الطاقة؛ بشكل يدفع بالعالم إلى مزيد من إعادة توزيع المواقع وتحسن توازن القوى؛ بشكل يعطي مزيدًا من المساحة للمناورة والاستقلال ما بين المعسكرين، وبناء العلاقات على أسس المصالح المشتركة الحقيقية، وليس باتفاقات تعاون إستراتيجي أقرب لـ”عهود الإذعان وشراء الأمان”؛ ما ينعكس بمُجملهِ على قدرة المنطقة والمنظمة على فرض شروطها في الأسواق الدولية والمحافل الدولية، كما ظهرت بوادره مؤخرًا، إن كان موقفًا مُستقلًّا برسالة إستراتيجية حقًّا، بقدرة منظمة أوبك بلس على التمسك باستقلال قرارها بشأن حجم الإنتاج والمعروض من الطاقة؛ ومن ثم عدم انخفاض أسعارها؛ فالأسواق خلافًا للبروباجندا الليبرالية، ليست فضاءات مجردة للتسعير الحر النزيه حقًّا، بل مؤسسات مهيكلة اجتماعيًّا، تمثل الأسعار ضمنها نوعًا من العلاقات التي تأخذ شكلًا رقميًّا، لكنها تَنتُج أساسًا عن توازنات القوة الاجتماعية محليًّا والعسكرية دوليًّا.
يتداخل ويتقاطع مع هذين المعسكرين ما يبدو كبوادر لـ”حِلف طاقة” أشمل، مركزه دول المنظمة وهوامشه الدول الوسيطة المُؤتمنة على ممرات وخطوط النقل، جوهر وجوده الحياد النسبي بين المعسكرين، وأساس فاعليته وحدة المصالح في مواجهتهما معًا، تؤطره بالمُجمل ثلاثة اتجاهات عامة للتوسع: أولها: هو زيادة اتجاه النفط والغاز العربي شرقًا مع النمو الكمي والكيفي للمعسكر الصيني الشرقي وجاره القطب الهندي، وثانيهما: هو تعاظم الدور الطاقوي لغاز وملاحة البحر المتوسط الذي سيحل بشكل جزئي لا أكثر محل روسيا مصْدرًا ومورِّدًا والممر الأساسي للغاز لأوروبا، أو هكذا تأمل الأخيرة وتسعى فعليًّا، وثالثهما: ضرورة ضم الدول الإفريقية ذات الاحتياطيات النفطية والغازية ومحاولة اكتسابها لعضوية المنظمة بالمساعدات المالية والاستثمارية والتكنولوجية؛ لئلا يُضعف وجودها خارجها قوة الحلف المذكور، خصوصًا مع ظهور بوادر لسعي المعسكر الغربي لاكتسابهم بديلًا للطاقة الروسية.
هذه الفرص تحمل بعض التحديات كذلك، بتعزيز المطامع والصراعات حول المنطقة؛ ما يستدعي قدرًا ضروريًّا من التكاتف العربي والتعاون الإفريقي في عالم غدا لا مكان فيه ولا إرادة به للوحدات السياسية الصغيرة والأقاليم المُنعزلة؛ ما يستدعي البدء كحد أدنى ببعض مشاريع التجارة العربية المشتركة وصناديق الاستثمار الإفريقية؛ لضمان حد أدنى من تكامل المصالح والتنسيق السياسي والتعاون الاقتصادي بين المنطقتين الأضعف سياسيًّا وعسكريًّا في عالم اليوم.
يتكامل مع ذلك بالضرورة تعزيز التصنيع عربيًّا منطلقًا للتنويع والتعقيد الاقتصادي الضروري للخروج من مرحلة اقتصادات الموارد التي ستضمحل عاجلًا أو آجلًا، بل وتوفير ميزة نسبية على صعيد استخدام الطاقة وغيرها محليًّا؛ بتوفيرها بأسعار مدعومة للاستثمارات الأجنبية التي تتم على أراضٍ عربية؛ بما يرفع من القيمة المُضافة المُنتجة محليًّا وإقليميًّا، وينقل الخبرات والتكنولوجيا ورؤوس الأموال إلى دول الإقليم؛ بما ينهض باقتصاداته وينوع صادراته ويطور صناعته خصوصًا؛ الأمر الذي إن تم؛ فسيمثل بذاته انقلابًا اقتصاديًّا وجيوبوليتيكيًّا أكبر بكثير من أية حرب إقليمية، وعلى صعيد الطاقة وحدها، فلنتخيل لوهلة واحدة منطقة عربية مُصنِّعة يعيش بها أكثر من أربعمئة وثلاثين مليون نسمة، تستخدم ولو 10% فقط من معروضها من الوقود الأحفوري؛ وما يمكن لذلك أن يرتبه من آثار تراكمية طويلة الأجل على معروضه الكلي وأسعاره النهائية على المستوى الدولي؛ الأمر الذي يفسر لنا جزئيًّا لمَ يمثل منع التصنيع وإدامة التأخر الإنتاجي بالمنطقة العربية ضرورةً اقتصادية وجيوبوليتيكية أخرى للهيمنة الأميركية، لكن لهذا حديث آخر.
خاتمة
يعطينا هذا المسح الجيوتاريخي خلفية عامة عن المنطق الحاكم لأزمة الطاقة الحالية في تشابكها مع الحرب الأوكرانية، وكيف تجمعهما وحدة السياق بما يتضمنه من صراع عالمي، جوهره الأساسي ومركز كافة تفاعلاته هو تراجع الغرب لحجمه الطبيعي في النظام العالمي، وما يتضمنه بالطبع، من مقاومته لذلك، بعد حوالي ثلاثة قرون من التفوق الساحق الذي وصل حد امتلاكه الكوكب كله تقريبًا، فيما هو يتحول اليوم لمجرد شريك أكبر تنخفض حصته من الموارد والإنتاج والقوة باستمرار إلى حدودها الطبيعية؛ بما يستتبعه ذلك من تأزمات وصراعات طبيعية تتعلق بكيفية إعادة اقتسام تلك الموارد، وما ينتج عنها، من استهلاك ومكانة في النظام الدولي.
وهكذا فالإطار العام للأزمة، على المستوى التاريخي الأوسع، هو وجود اتجاه عام طبيعي لارتفاع أسعار الطاقة مع زيادة الطلب ببروز قوى صناعية جديدة، وعلى رأسها الصين والهند، وهو ما يطرح مسألة عدم استدامة أنماط استهلاك الغرب من موارد الكوكب عمومًا؛ وحتمية انخفاضها؛ بما يجره ذلك من صراعات حتمية، في ضوء الاستحالة المُطلقة، في ضوء التكنولوجيات القائمة، للجمع بين مستويات استهلاكه الحالية والمساعي المشروعة لشعوب الدول المحرومة لرفع مستويات استهلاكها لمستويات أكثر إنسانية، اللهم إلا إذا أقررنا بحقه في منع تنميتهم بالعنف المباشر والأنظمة العميلة، أو بالخداع بشعارات حماية البيئة الجميلة، كما تجلى بوضوح في التحول الجذري لموقف الغرب من الرفض المُطلق لتقديم أي دعم مالي أو تكنولوجي جوهري لتطوير صناعة الغاز الطبيعي في إفريقيا؛ بدعوى ضرورة التركيز على تطوير الطاقة النظيفة (كثيرة المشاكل وعالية التكلفة على إفريقيا الفقيرة)، رغم حاجتها الشديدة لتوفير الطاقة لأبسط الاحتياجات الإنسانية اليومية، إلى موقفه المتعاون الحالي، بعد أزمة حرب أوكرانيا وانقطاع الغاز الروسي عن أوروبا، بالمبادرة السخية والكرم المفاجئ لدعم صناعة النفط والغاز في إفريقيا والتضحية بحماية البيئة وكافة شعاراتها.
وحيث تلعب روسيا دورًا متزايد الأهمية على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ كان لابد من كبح نمو إمكاناتها المالية وثِقلها في أسواق الطاقة، خصوصًا على المسرح الأوروبي؛ فكان الاستفزاز الأميركي للحرب في أوكرانيا، التي فاقمت من أزمة الطاقة الكامنة فعليًّا، والتي(1) تراكمت بذورها بالتفاوت ما بين تعافي الطلب سريعًا بعد انتهاء إغلاقات كورونا، مقابل تباطؤ تعافي العرض، المدفوع أساسًا بتراجع الاستثمارات في البنية التحتية مع انخفاض أسعار الطاقة منذ عام 2015، كما(2) دفعها التأطير المؤسسي الجديد، بتحرير الأسواق وفك ارتباط أسعار الغاز بأسعار النفط والاتجاه للأسواق الفورية بديلًا عن التعاقدات طويلة الأجل، لمزيد من التفاقم، فضلًا عن بعض العوامل الثانوية والعرضية الأخرى.
وبغض النظر عن الدوافع الأميركية للتلاعب بأسواق الطاقة، كإحدى أدوات هيمنتها العالمية الأساسية، وعدم اهتمامها بتأثيراتها السلبية على القوى الأخرى، وربما ترحيبها بذلك؛ كونها أقل المتضررين بما يتوافر لديها من مخزونات إستراتيجية وإنتاج طاقوي ضخم كأحد أهم منتجي الطاقة في العالم، فإن الحرب الأوكرانية التي دفعت إليها، قد حققت لها ما تصبو إليه من إجبار أوروبا على إعادة التفكير في كامل إستراتيجيتها الطاقوية، بالتحول من كونها أكبر مستورد للغاز الروسي في العالم، إلى إيجاد بدائل عنه من المنطقة العربية وإفريقيا والولايات المتحدة نفسها.
وهذا التحول، وإن كان يأتي في سياق من تحسن الموقف التفاوضي العام لمجموعة الدول العربية النفطية ومنظمة أوبك بلس، في ضوء الاختناق المُتوقع ما بين عرض وطلب الطاقة عالميًّا مع بروز قوى إنتاجية جديدة، وفي حال لم تقضم الأزمة الاقتصادية العالمية المكتومة جزءًا معتبرًا من الطلب، فإنه يستدعي منها لتعزيز ذلك الموقف، وعدم فقدان هذه الميزة والثِقل، ضم الدول الإفريقية المُرشحة لدخول سوق الطاقة قريبًا، بل ومحاولة استباق أوروبا والولايات المتحدة بالاستثمار الطاقوي في هذه الدول؛ لضمان وحدة المصالح والتنسيق السوقي لصالح مجموعة منتجي الطاقة في مواجهة مستهلكيها في المعسكرين الاقتصاديين اللذين بطريقهما حاليًّا لشق الاقتصاد العالمي، متبلورين حول واشنطن وبكين؛ الأمر الذي يمثل شرطًا كما هو نتيجة للاستقلال في مواجهة كلاهما، كأساس لبناء علاقات من التعاون البنَّاء والتبادل العادل، وليس الإذعان لأي طرف كان.
المراجع
1 International Energy Agency )IEA(, World Energy Outlook 2022, (IEA, Paris, 2022), p 32.
2 جيسيكا ويليامز، 50 حقيقة ينبغي أن تغير العالم، (بيروت، الدار العربية للعلوم، 2005)، ص213.
3 مصطفى علوي، خريطة جديدة: تحولات أمن الطاقة ومستقبل العلاقات الدولية، مجلة السياسة الدولية، ملحق تحولات إستراتيجية، (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، مصر، 21 يونيو/حزيران 2016)، (تاريخ الدخول: 10 ديسمبر/كانون الأول 2022): https://cutt.us/A7v7G.
4 محمد حامد دويدار، “أزمة الطاقة: أزمة النظام النقدي الدولي، أم أزمة الاقتصاد الرأسمالي الدولي؟”، مجلة مصر المعاصرة، (الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، مصر، ، مجلد 65، العدد 358، 1974)، ص16.
5 نفس المصدر (بتصرف)، ص27.
6 Katharina Buchholz, The World is Not Enough, Statista, Jul 28, 2022, (Viewed in 10/12/2022): https://cutt.us/LcMF2.
7 ويليامز، 50 حقيقة ينبغي أن تغير العالم، ص217.
8 International Energy Agency, Key World Energy Statistics 2021,(iea.org), p 60.
9 Energy use per person, Our World in Data, (Viewed in 11/12/2022):
https://ourworldindata.org/grapher/per-capita-energy-use?tab=chart&time=2013..latest&country=IND~SWE~Lower-middle-income+countries~USA~CHN~Low-income+countries~Upper-middle-income+countries~High-income+countries~OWID_WRL.
10 سفيان بلمادي، “جيوسياسية الطاقة والأمن الدولي.. آفاق ورهانات”، مجلة دائرة البحوث والدراسات القانونية والسياسية، (الجزائر، مخبر المؤسسات الدستورية والنظم السياسية، العدد الثالث، سبتمبر/أيلول 2017)، ص86.
11 علوي، خريطة جديدة: تحولات أمن الطاقة ومستقبل العلاقات الدولية.
12 IEA, World Energy Outlook 2022, p 29-30.
13 المصدر السابق.
14 الصين والهند والولايات المتحدة الأميركية.. التنافس على موارد الطاقة، مؤتمر، (أبو ظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2008)، ص 12-13.
15 IEA, World Energy Outlook 2022, p 30.
16 الصين والهند والولايات المتحدة الأميركية، ص13.
17 “أزمة الطاقة العالمية.. نقص الإمدادات وارتفاع الأسعار”، في التقرير الإستراتيجي العربي 2021، تحرير: د. عمرو هاشم ربيع، (القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 2022)، ص 113-114.
18 المصدر السابق، ص111.
19 Tradingview (Viewed in 14/12/2022): https://ar.tradingview.com.
20 Ibid.
21 IEA, World Energy Outlook 2022, p 37.
22 Klaus Solberg Soilen, Geoeconomics, (Bookboon, 2012), p 8.
23 بل إن بعض الباحثين قد نسب نشأة حقل “الاقتصاد السياسي الدولي” نفسه تاريخيًّا إلى أزمات الطاقة أساسًا، وتحديدًا أزمة الطاقة الأولى في سبعينات القرن الماضي، انظر: Kathleen J.Hancock, VladoVivodab, “International political economy: A field born of the OPEC crisis returns to its energy roots”, Energy Research & Social Science, (Volume 1, March 2014), pp. 206-216.
24 Bruce Podobnik, Global Energy Shifts.. Fostering Sustainability in a Turbulent Age, (Philadelphia, Temple University Press,2006).
25 Kirk S. Lawrence, “Energy use and world-systems dynamics” in: Babones, Salvatore J. and Christopher Chase-Dunn, Routledge Handbook of World-Systems Analysis, (Abingdon-UK, Routledge, 2012), p 409.
26 الصين والهند والولايات المتحدة الأميركية.. التنافس على موارد الطاقة، ص 144-145.
27 المصدر السابق، ص 146-147.
28 للاطلاع على ملف كامل حول القمة المذكورة؛ انظر عدد ديسمبر/كانون الأول 2022 من الإصدار العربي من مجلة “الصين اليوم”.
29 محمد أبو سريع علي، “صراع الطاقة وإعادة تشكيل التحالفات العالمية”، مجلة السياسة الدولية، (مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، مصر، المجلد 53، العدد 213، يوليو/تموز 2014)، ص33.
30 المصدر السابق، ص31.
31 دويدار، أزمة الطاقة، ص24.
32 رمزي زكي، التاريخ النقدي للتخلف.. دراسة في أثر نظام النقد الدولي على التكون التاريخي للتخلف بدول العالم الثالث، سلسلة عالم المعرفة (118)، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أكتوبر/تشرين الأول 1987)، ص200.
33 دويدار، أزمة الطاقة، ص24.
34 علي القادري، التنمية العربية الممنوعة.. ديناميات التراكم بحروب الهيمنة، ترجمة: مجدي عبد الهادي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2020)، ص139.
35 المصدر السابق، ص151.
36 R. Manning & A. Jaffe, “The myth of the Caspian ‘great game’: the real geopolitics of energy”, Survival: Global Politics and Strategy, (International Institute for Strategic Studies, Volume 40, 1998 – Issue 4), pp 112.
37 مصطفى شلش، “الروسوفوبيا.. نمو كراهية روسيا في الغرب، قراءة في الدلالات والنتائج”، مركز الدراسات العربية الأوراسية، القاهرة، 14 مارس/آذار 2022، (تاريخ الدخول: 16 ديسمبر/كانون الأول 2022)، https://cutt.us/JLcqd.
38 IEA, World Energy Outlook 2022, p 92.
39 John J. Mearsheimer, “Why the Ukraine Crisis Is the West’s Fault: The Liberal Delusions That Provoked Putin”, Foreign Affairs (The Council on Foreign Relations, New York, 93, no. 5, 2014), p. 77–89.
40 “حركة التجارة العالمية.. تعاف هش ومخاطر تباطؤ النمو”، في التقرير الإستراتيجي العربي 2021، تحرير: د. عمرو هاشم ربيع، (القاهرة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، 2022)، ص121.
41 Milan Babić et al., The Political Economy of Geoeconomics: Europe in a Changing World, (Switzerland AG, Palgrave Macmillan, 2022), p 2.
42 عصام عبد الشافي، “الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي”، مجلة لُباب للدراسات الإستراتيجية والإعلامية، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، مايو/أيار 2022)، ص 124-126.
43 اللهم إلا في حالة واحدة ضئيلة الاحتمال بعيدة التحقق، هي التفكك العملي للحلف الغربي الحالي بقيادة الولايات المتحدة ضد روسيا.
44 IEA, World Energy Outlook 2022, p 189-191.