مقدمة

تفيد العدالة الانتقالية في أبسط تعريفاتها، كما قال الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، أنها “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم وتجاوز تركة الماضي الواسعة النطاق بغية كفالته للمساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة”(1). وتتفق التعريفات الأخرى على أن العدالة الانتقالية تنطوي على “الطرق التي تعالج بها البلدان الخارجة من فترات الصراع والقمع ما عانته من انتهاكات متعددة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان، والتي لم يتمكَّن نظام العدالة العادي من التعامل المناسب معها”(2).

بيد أن أوجه تطبيق العدالة الانتقالية تتباين حسب سياقاتها ودينامياتها السياسية والقانونية وأحيانًا الإجرائية بين تجارب الدول التي اختارت هذا المسعى لتجاوز أحقاد النزاع وتحقيق الأمن المجتمعي. وتكمن الإشكالية الرئيسية في الخيار الاستراتيجي الصعب بين السعي لعدالة “عقابية” (Punitive)، أو “تصالحية” (Restorative)، أو “انتقالية” (Transitional) تحت شعار تجاوز الصراع وتراكم العداء وترميم العلاقة بين الدولة والمجتمع. وتنقسم الآراء بين أحقية تطبيق القانون نصًّا وروحًا وعقاب الجناة وإنصاف الضحايا وأفضلية التدرُّج في الحسابات القانونية والتريث في تحقيق مصالحة وطنية لا تعتد بإنزال العقوبات والزج بمرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في السجون بقدر ما تحرص على التوصل إلى تعايش مجتمعي وطي صفحة الماضي الأليم.

من هذا المنطلق، تركز هذه الدراسة على السجال المفتوح بين خبراء تسوية النزاعات والمؤسسات التي تسعى لبناء السلام حول تحديد الأولوية: هل هي أسبقية العدالة وتطبيق العقاب على مجرمي الحرب وسائر الجناة خلال فترة النزاع أم أولوية التعامل مع الآثار النفسية لما حدث من أعمال العنف، ومطالب الانتقام، وطبيعة الذاكرة الجماعية للضحايا، ومحاولة ترميم اللُّحمة الاجتماعية وبناء السلام. وتهتم بتحليل جدلية هذه الثنائية ليس على المستوى النظري الأكاديمي فحسب، بل وأيضًا تقييم الحصيلة العملية في محاولات تحقيق العدالة الانتقالية في مراحل زمنية متباينة وفي جغرافيات متباعدة. وتبعًا لذلك، تستهدف تقييم حصيلة التعامل مع جدلية: العدالة أم الأمن المجتمعي؟ ضمن لجان ومشاريع المصالحة في تشيلي أو ما عُرف بتقرير لجنة ريتيغ (Rettig Report) (1991)، ولجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا (1996)، وهيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب (2004)، وكيف حاولت التوفيق بين مقتضيات تطبيق القانون والعقاب واعتبارات السلام المجتمعي.

ويُعزى سبب اختيار هذه التجارب الثلاث إلى قربها الزمني من هذه المرحلة، وقد تمت بين نهاية قرن وبداية آخر بين أقصى جنوب وأقصى شمال القارة الإفريقية ووسط القارة الأميركية اللاتينية. كما أنها تعدُّ من أهم، إنْ لم تكن الأهم، بين تجارب العدالة الانتقالية في العقود الثلاثة الماضية لاستخراج بعض الدروس والعِبَر التي يمكن أن تفيد في بناء السلام المأمول في سوريا بعد سنوات الحرب الأهلية، وتشريد نصف الشعب السوري، ومقتل قرابة نصف مليون من المدنيين منذ أحداث درعا، في مارس/آذار 2011. ويتمسك بعض السوريين بالقول: إنه “ينبغي التذكير بأن جريمة بحجم الجريمة في سوريا لا يمكن مقاربتها بوجه واحد من أوجه العدالة، بل لابد من مزيج من المقاربات للمساعدة على تخطي اللحظة، والبناء على أساس قانوني سليم”(3).

غير أن مسارات العدالة المنشودة، ليس في سوريا فحسب، بل وأيضًا في اليمن ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وبقية الدول العربية، تنطوي على ضرورة التفكير والتخطيط المتروِّي في التعامل مع التركة النفسية، وآثار التعذيب الجسدية أحيانًا، لدى ضحايا البطش والاستبداد، أو ما يتعارف المغاربة على تسميته “سنوات الرصاص” خلال حكم الحسن الثاني (1961- 1999). بيد أن تفعيل آليات تلك العدالة من خلال عمليات كشف الحقيقة أو إجراءات العدالة الجنائية يمكن أن يهدد عمليات بناء السلام في دول لا يزال مرتكبو أعمال العنف فيها يتمتعون بقوة النقض(4).

لا غرابة أن تعود بنا إرهاصات السعي للمصالحة، أو بالأحرى الحاجة لمصالحات عربية داخل المجتمع الواحد، إلى المربع الأول من أجل تصميم النموذج والآليات المناسبة لتعقيدات الحروب الأهلية والصراعات الداخلية على امتداد الجغرافيا من المغرب حتى العراق. وأصبحت جل الدراسات واستراتيجيات الهيئات الدولية التي تتعامل مع الصراعات تدافع عن ضرورة تطبيق العدالة الانتقالية بتفريعات مختلفة كإحدى أهم ركائز بناء السلام في المجتمعات التي مزقتها الحرب. وتستمد زخمها النظري من الفكرة المفصلية التي بلورها أستاذ دراسات الإجرام هاورد زيهر (Howard Zehr) في كتابه “تغيير المنظار: تركيز جديد على الجريمة والعدالة”(5).

تهتم الدراسة أيضًا بدراسة الرؤية الفلسفية ضمن عمل المحكمة الجنائية الدولية في معاقبة الجناة بمعزل عن متطلبات بناء السلام، وإلى أي حد تدور هذه الفلسفة في فلك حقل الدراسات الإجرامية التي ترعرعت فيها منظومة العدالة الانتقالية وليس في حقل فض النزاعات وبناء السلام الذي لا يتحمس لعدالة انتقالية لن تخدم بالضرورة الهدف الرئيسي المتمثل في الأمن المجتمعي. ويتحرك هذا التحليل على مستويين: أولهما: اعتماد عنصري المنطق القانوني ومنطق الأمن المجتمعي كنقاط تقاطع في تحليل مشاريع المصالحة الوطنية في الدول الثلاث. وثانيهما: ضرب مقارنة بين التأطير النظري الفلسفي لفكرة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية قبل ستة عشر عامًا مع ما كشفته عمليًّا استراتيجيات تغيير الانطباعات والسرديات والذاكرة الجماعية بين الضحايا والجناة في حقبة ما بعد وقف إطلاق النار.

  1. مرحلة التنظير للعدالة الانتقالية

تشكِّل العدالة الانتقالية إحدى أذرع حركة الدفاع عن حقوق الإنسان التي قامت عقب الحرب العالمية الثانية وفق التصور الليبرالي الغربي، واختزلها الرئيس السابق للجمعية الأميركية للقانون الدولي، لويس هنكن، (Louis Henkin) (1917-2010) في عبارة “عصر الحقوق”(6). وبالتالي، يصبح أي انتقاد أو تقييم لمشاريع العدالة الانتقالية بمنزلة نقد للحركة الدولية للحريات العامة. بيد أن تحقيقها في أرض الواقع لا يتبع المسار القضائي أو الإجرائي الصارم على غرار الجرائم العادية، بل يعتمد على “نسق مختلف مستوحى من فلسفة متميزة بوضوح”، و”لا يمكن الحكم على أنساق مختلفة بنفس المعايير، تمامًا كما لا يمكن لعب كرة القدم الأميركية وفق قواعد كرة القدم الدولية”(7).

تعزَّز الزخم النظري للعدالة أيضًا بالسجالات الفلسفية التي شهدتها سبعينات القرن الماضي حول الجدوى من الاستمرار في معاقبة المجرمين لأنهم “يستحقون ذلك”، وهي فكرة كانت تحتضر في أدبيات علم الإجرام. وواصل بعض فقهاء القانون والفلاسفة النقاش حول نظريات الانتقام، وإن لم يكن لديهم وقتها سوى تأثير محدود في السياسات العامة(8). ويلاحظ الباحثان في علم الإجرام، جون بريثويت (John Braithwaite) وفيليب بوتيت (Philip Pettit)، أن التوجه نحو المنحى الانتقامي لم يتغذَّ آنذاك من “الإدراك أن النزعة المنفعية والعدالة الوقائية فشلت في الوفاء بوعودها فحسب، بل وأيضًا من التوثيق المتنامي للمظالم التي تحدث باسم العدالة الوقائية من الإجرام”(9).

على مرِّ العقود الثلاثة الماضية، تمَّ اعتماد برامج طموحة تنبني على مجموعة مبادئ يعتبرها هاورد زيهر “أسئلة توجيهية أو استرشادية” ضمن رؤيته المتشبعة بفلسفة العقاب على الأعمال الإجرامية وسمو القانون على أي اعتبار آخر. فكانت نظريته امتدادًا لما سماه “نموذج العدالة الحالي، على الأقل في الغرب، الذي ينشغل بتحديد هوية الشخص الجاني، وتحديد من يستحق اللوم، وتحميله العقاب أو الألم المناسب”(10). وأصبحت نظريته تدريجيًّا نواة إطار قانوني دولي أوسع للتعامل مع ما حدث من خطايا بغية تجاوز مرحلة الصراع وبناء السلام.

تظل هذه العدالة في بعدها القانوني متوازية مع مساعي ترميم المجتمع وعلاقته مع الدولة من خلال بدء الحوار والمصالحة الوطنية، وتأسيس لجان الحقيقة والإنصاف والكرامة، وحفظ الذاكرة، وجبر الضرر، ومنح تعويضات مادية واعتبارات معنوية للضحايا وأسرهم، وإصلاح مؤسسات الأجهزة الأمنية والجيش. فاتسع تدريجيًّا تداول مفاهيم فرعية جديدة، مثل: الحق في التعويض (Restitution)، وجبر الضرر (Reparations)، والمصالحة (Reconciliation)، والحفاظ على الذاكرة (Remembrance)، والعدالة التصالحية (Restorative Justice)، وتصحيح الخطايا (Rectification). وهذه مفاهيم تنبني في الأصل على تصور أوروبي مفاده أن الجريمة انتهاك للأفراد والعلاقات الشخصية، وأن الانتهاكات تخلق التزامات، وأن الالتزام المركزي هو تصحيح الأخطاء(11).

تتسق العدالة الانتقالية أيضًا مع فلسفة الأديان وأنثروبولوجيا الثقافة لدى أغلب المجتمعات في الغرب والشرق من خلال الاعتداد بالوجود الفردي/المجتمعي المشترك والمترابط بين بعضه بعضًا، والالتفاف حول الجدوى من الصواب الشامل (all-rightness) حتى في حالات الصراع والقتل. وتتبنَّى شتى الأديان والثقافات بعض المرونة في احتواء مضاعفات الصراع باعتبارها أخطاء يقوِّمها المجتمع ومسلكًا نحو اعتذار الجاني ومغفرة الضحية. وهذا جزء لا يتجزأ من مفهوم “شالوم” كناية عن فكرة الصواب في تدبير العلاقات الاجتماعية في الديانة اليهودية. نفس الفرضية تتبناها ثقافة “واكابا” (Whakappa) لدى شعوب الماوري (Maori) الأصلية في نيوزيلاندا(12) وجزر كوك (Cook)، وأيضًا ثقافة أوبونتو (Ubuntu) في جنوب إفريقيا(13)، وثقافة هوزو (Hozho) لدى شعوب نافاهو (Navajo) الأصلية في أميركا الشمالية(14).

يعتبر مفهوم العدالة وإجراءاتها العملية عناصر رئيسية في الثقافة الإسلامية التي تتمسك بها بموازاة الحث على الصلح أو المصالحة وترميم العلاقات بين أفراد المجتمع. وثمة في القرآن الكريم أكثر من إشارة إلى هذه الصلة القوية كقوله تعالى: “إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ” (سورة النساء: الآية 114)، وأيضًا “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ” (سورة الحجرات: الآية 10)، والآية الكريمة “وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ” (سورة هود: الآية 117). ويشدد الدكتور علاء الدين زعتري، مدير الإفتاء العام والتدريس الديني في وزارة الأوقاف السورية، على القول: إن المصالحة “فعل تشاركي، هي مشروع حضاري إنساني رفع لواءه الأنبياء والمرسلَون، رفع رايته الحكماء والمُصلحون ويسير على دربهم السادة العلماء المخلصون… هل نحن نعمل “وَمَا تَفَرَّق الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ”؟ هل العلم هو طريق للحضارة والرقي أم هو وسيلة للدمار والهلاك؟ هل المعرفة بيني وبين الآخر هي طريق للمصالحة والإصلاح “لتعارفوا” أم هي وسيلة للانكماش أو التعصب أو النفور أو البُعد ثم الصدام ثم الحرب والقتال؟”(15).

بيد أن فرضيات التوصل إلى مصالحة بنَّاءة وحقيقية تظل رهينة بمدى استعداد طرف بالإقرار بالذنب أو الجرم، وقدرة الطرف الآخر على قبول الاعتذار والعفو. فإذا أزلنا أسباب الخصومة “ننطلق إلى المصالحة الحقيقية والدائمة والمستمرة، إذا تراضيْنا على وجه من الوجوه، قرَّبنا المسافة بين المتباعدين، ربطنا جسور المودة بين المتخاصمَين، حققنا جزءًا كبيرًا من المصالحة. إذا وصلنا في مصالحتنا إلى التسامح وساد الأمان وساد الاطمئنان والسلام والخير، فإنا نجحنا في المصالحة. هذه المقومات بإزالة الأسباب، بتراضٍ على بعض الوجوه، بتسامح ابتداء ثم عفو انتهاءً”(16).

  1. عند تقاطع الإنسانية والقيم الكونية

مع مطلع القرن الحادي والعشرين، يزداد الاهتمام بالتركة النفسية والجسدية للحروب ومضاعفات العنف وانتهاكات حقوق الإنسان سواء لدى هيئات المجتمع المدني التي تتولَّى الدفاع عن كرامة الفرد والحريات العامة، أو في المجال السياسي، أو الحقل الأكاديمي. ويستمر التفاعل بين الباحثين بعد ظهور عدة مؤلفات في هذا الصدد مثل “عصر الاعتذار”(17) (The Age of Apology) لروي بروكس (Roy Brooks) (1999)، و”سياسة اللوم والتكفير”(18) (The Politics of Blame and Atonement) لبراهونا ديبريتو (Barahona de Brito) وبالوما أغيلار (Paloma Aguilar) وغونزاليس إينريكي (Gonzalez Enriquez) (2001)، و”سياسة الأسف”(19) (Politics of Regret) لجيفري أوليك (Jeffery Olick ) (2013).

أسهمت أفكار هاورد زيهر أيضًا بشكل غير مباشر في حشد التأييد بين أغلب الدول على الجدوى من تأسيس المحكمة الجنائية الدولية بمقتضى اتفاقية روما التي دخلت حيز التنفيذ في الأول من يوليو/تموز عام 2002 بعضوية 123 دولة من أجل معاقبة الأشخاص المدانين بتهم ارتكاب جرائم التطهير العرقي، أو جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية. وتنص ديباجة الاتفاقية على أنه “يجب ألا تمر أخطر الجرائم التي تهم المجتمع الدولي ككل دون عقاب”، وأن المهمة الأساسية للمحكمة الجنائية الدولية تتمثَّل في “المساعدة في وضع حد لإفلات مرتكبي أخطر الجرائم التي تهم المجتمع الدولي ككل من العقاب، وبالتالي الإسهام في منع هذه الجرائم”(20)، وتنم فلسفة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية عن بعض التشبُّع بالمنطق القانوني الذي أثَّر على المجتمع الدولي عقب الحرب العالمية الثانية. وقد جاء في حكم المحكمة العسكرية الدولية، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1946، أن “الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي يقوم بها أشخاص، وليس كيانات تجريدية، ولن يمكن فرض بنود القانون الدولي إلا من خلال معاقبة أولئك الأشخاص”(21).

قررت الأمم المتحدة تأسيس لجنة العقوبات، عام 2006، بمقتضى القرار 1718 وفرض عقوبات اقتصادية ردًّا على أول اختبار نووي قامت به كوريا الشمالية قبل أن اتسع نطاق العمل بنظام العقوبات وتشكيل لجان الخبراء عام 2009. وأصبح مطلب المساءلة والمحاسبة محوريًّا في متابعة المجتمع الدولي لتطورات الأوضاع في مختلف بؤر الصراع وفي مقدمتها التطاحنات المسلحة في عدة دول في إفريقيا. يقول نيك غرونو (Nick Grono)، النائب السابق لرئيس مجموعة الأزمات الدولية، بشأن تقلبات الصراع في أوغندا مثلًا، حيث كان جوزيف كوني (Joseph Kony)، زعيم جيش مقاومة الرب المعارض، يقاتل الحكومة: إن “عدم القيام بأي شيء ينطوي على توجيه رسالة قوية عن الإفلات من العقاب، ويديم الشعور الرهيب بالصدمة، والضياع، والظلم، والاستبعاد الذي يشعر به الضحايا. وفي الوقت ذاته، فإن تفعيل آليات العدالة الانتقالية من خلال عمليات قول الحقيقة أو آليات العدالة الجنائية يمكن أن يعرِّض عمليات السلام الدقيقة للخطر حيث لا يزال مرتكبو العنف يتمتعون بحق النقض. والأكثر من ذلك، فإن عمليات العدالة الانتقالية التي لا تضمن معايير دنيا معينة من الإجراءات القانونية السليمة وسيادة القانون من المرجح أن يتم إسقاطها أو تسييسها بسرعة”(22)؛ فلا غرابة أن يصبح بناء السلام عملية معقدة تنم عن الحيرة في ترتيب الخطوات العملية كنواة لتحقيق العدالة الانتقالية.

في هذا السياق الدولي، يتسع نطاق انتشار فلسفة العدالة الانتقالية بين الفئات المتضررة من الحروب الأهلية، وتزداد المطالبة بتحقيقها في كافة أرجاء العالم. وفي ظل توقعات المركزية الليبرالية الغربية، أصبحت العجالة الانتقالية كإجراء معياري من الناحية القانونية والأخلاقية بمنزلة تصور تبسيطي للعدالة، بل غدت تمثل طريقًا مختصرًا للانتقال من الحكم الاستبدادي إلى ديمقراطية تمثيلية حسب الطراز الغربي. لكن، ينبغي التشديد على أن العدالة الانتقالية كحصيلة للعمل الفكري في مجال حقوق الإنسان لا تتأتَّى من فراغ نظري أو مقياس قيمي في المجتمعات المعاصرة، بل باعتبارها مؤسسة لها ثقل نظري دولي في المشروع الأكبر لحقوق الإنسان كقيم أصبحت كونية.

على المستوى العملي، يبدو أن لويز أربور (Louise Arbour)، المفوضة السامية لدى الأمم المتحدة لحقوق الإنسان سابقًا، دخلت كتب التاريخ عندما وجَّهت التهم إلى رئيس دولة وهو لا يزال يمارس صلاحيته، هو الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسوفيتش؛ فكتبت في قرار توجيه الاتهام تقول: إنه “يجب أن يكون للعدالة الانتقالية طموح للمساعدة في تحويل المجتمعات المضطهدة إلى مجتمعات حرة من خلال معالجة مظالم الماضي باتخاذ تدابير من شأنها ضمان مستقبل عادل”(23). “وقد تتخذ هذه الهيئات -مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان- صيغًا وصلاحيات متباينة، بيد أنها تتسم بمواصفات متشابهة: 1) التركيز على الأحداث الماضية، وليس الجارية. 2) التحقيق في نمط الأحداث التي وقعت على مدى فترة زمنية معينة. 3) التعامل المباشر وعلى نطاق واسع مع السكان المتضررين، وجمع المعلومات عن تجاربهم. 4) يتم تأسيسها كهيئات مؤقتة بهدف إعداد تقارير نهائية. 5) هيئات معتمدة رسميًّا أو مخولة من قِبل الدولة وتكون قيد المراجعة”(24).

  1. روافد مأسسة العدالة الانتقالية

تمَّ تأسيس المجلة الدولية للعدالة الانتقالية عام 2007، وجاء في أحد أعدادها “خلال العقدين الماضيين، أصبحت البلدان الخارجة من تاريخ منقسم تدمج آليات العدالة الانتقالية بشكل متزايد من أجل الكشف عن جرائم الماضي والتعامل معها. لقد برزت العدالة الانتقالية سريعًا كمجال معترف به للخبرة السياسية والبحثية والقانونية. واليوم، تعتبر تخصصًا أكاديميًّا بحد ذاتها. (…) ومن خلال الاستشهاد بعمليات العدالة الانتقالية كوسيلة أساسية لتحقيق هذا الهدف، أعلن كوفي عنان أن الأمم المتحدة تعمل على اعتماد “أدوات جديدة مهمة” لتعزيز عمليات العدالة الانتقالية في دول ما بعد الصراع”(25). ومع شيوع مفهوم العدالة الانتقالية بين شتى الهيئات الحقوقية والسياسية وتحليلها ضمن الكتابات الأكاديمية، فإنه لا يزال يثير سجالًا مفتوحًا حول الغاية من تحقيقه رغم التوافق النظري والإجرائي على أنه يشمل سلسلة ممارسات وأدوات وآليات تستهدف التعامل مع خطايا الماضي مثل المحاكمات، ولجان الحقيقة، وعمليات التطهير، والتدقيق، وجبر الضرر(26).

ينمُّ هذا السجال أيضًا عن مدى المنحى البراغماتي أو العملي في قياس تحقيق العدالة الانتقالية التي أصبحت بمنزلة “مشروع كوني(27)، أو قاعدة كونية جديدة(28)، أو تصور دولي مهيمن”(29). ويلاحظ بعض المحللين كيف أن الدول الخارجة من دوامة الحكم الاستبدادي أو فترات العنف والنزاع المسلح “أصبحت مطالبة الآن بأن تقوم بنشر آليات العدالة الانتقالية من أجل تسهيل عملية الانتقال”(30)(31)، وتقول كاثرين براون (Kathrin Braun)، الباحثة في علم الاجتماع في جامعة فيينا: إن “مفهوم الانتقال يعمل ضمن فترة زمنية سياسية معينة، يتضمن سلسلة من الافتراضات المعيارية والسياسية: 1) لقد ولَّى الماضي، والعلاقة بين الماضي والحاضر في حالة توقف. 2) كان الماضي فترة من الخطايا المنهجية التي ارتكبتها الدولة أو تغاضت عنها، وينبغي الآن تجاوز ميراث الماضي. 3) الحاضر هو فترة التغيير، فيما تتجه الدولة والمجتمع نحو مستقبل يتسم بالسلام والديمقراطية، وبمجرد تحقيق السلام والديمقراطية، ينتهي الانتقال؛ إذ يمثِّل السلام والديمقراطية نهاية المرحلة الانتقالية. و4) خلال المراحل الانتقالية، لا تزال هذه العملية جارية، ولا يزال هناك شوط آخر. والعدالة الانتقالية هي وسيلة لإبعاد الدولة والمجتمع عن إرث الماضي حتى نهاية المرحلة الانتقالية التي تتسم بالديمقراطية والسلام”(32).

بيد أن التحدي الأكبر يكمن في الإشكاليات التي يثيرها التمسك بتحقيق العدالة الانتقالية عند استمالة مقومات بناء السلام الهش في مجتمعات عانت العنف والاغتصاب ومنطق الغلبة لقوة السلاح ومظالم أخرى بين مسارين متوازيين: أولهما: تطبيق القانون ومعاقبة المسؤولين عن تلك الأعمال من منطلق معياري (أو يَنْبَغِيَّات المنطق القانوني)، وثانيهما: حصيلة أية عملية محاكمة أو تنفيذ العقوبات سواء ضمن عمل المحاكم أو لجان المصالحة المحلية أو المحكمة الجنائية الدولية من منطلق واقعي (أو متطلبات بناء السلام المجتمعي).

يُقِرُّ عدد من خبراء الأزمات والصراعات بأن هذه المجتمعات تواجه خيارات صعبة في تحديد السبل الكفيلة بتجاوز تركة العنف وضرورة محاسبة الجناة، وفي الوقت ذاته، الانخراط في بناء السلام وبناء الدولة، وإنْ كان هاورد زيهر نفسه يدعو للنظر في “التدابير التصالحية بدلًا من التدابير الجزائية”. ويجادل بعض منتقدي النسق الانتقالي برمته بالقول: إن العدالة الانتقالية لا تروِّج سوى “لمفهوم ليبرالي نحيف للعدالة يتجاهل أو حتى يمنع مساءلة القوة والهيمنة وعدم المساواة الاجتماعية والعدالة الاجتماعية والتغيير الاجتماعي”(33). ولا يزال صدى المقولة الشهيرة للأمين العام للأمم المتحدة في الخمسينات، داغ هامرشولد، يتردد بعدما شدَّد على أنه “لم يتم تأسيس الأمم المتحدة من أجل أن تأخذ البشر إلى الجنة، بل أن تحمي الإنسانية من جهنم”(34).

  1. عدالة بلا حدود أم مجرد لباقة سياسة دولية؟

تعددت تجارب لجان الكشف عن الحقيقة وتحقيق المصالحة في أكثر من أربعين من دول العالم في العقود الثلاثة الماضية. ويمكن ذكر أهمها، مثل اللجنة الوطنية للبحث عن الأشخاص المفقودين في بوليفيا (1982)، واللجنة الوطنية الخاصة بالأشخاص المفقودين في الأرجنتين (1983)، ولجنة التحقيق في الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها الرئيس حسين حبري في تشاد (1990)، ولجنة الحقيقة والمصالحة في الكونغو (2004)، وتشيلي (1990)، ولجنة الحقيقة في الإكوادور (1988)، واللجنة المكلفة بقضية المختفين التي تم تشكيلها في الجزائر عام (2003)، واللجنة الوطنية للحقيقة في البرازيل (2011)، ولجنة الحقيقة والكرامة في تونس (2014)، ولجنة الحقيقة والتعويضات في غامبيا (2017)، وغيرها.

فضلًا عن الأسباب التي سبق ذكرها في اختيار التجارب الثلاث الشهيرة في عمل لجان الحقيقة والمصالحة الوطنية في تشيلي وجنوب إفريقيا والمغرب، تتوخَّى هذه الدراسة تقييم هذه الحالات الثلاث من خلال منهجية التحليل المقارن بغية اكتشاف أوجه التشابه والاختلاف بينها. وكما يقول عالم الاجتماع، تشارلز تيلي (Charles Tilly)، في كتابه بعنوان “بنيات كبيرة، وعمليات واسعة، ومقارنات ضخمة”، فإن منهجية “المقارنة الفردية تعكس عددًا صغيرًا من الحالات من أجل فهم خصوصيات كل حالة، وإن تعميم المقارنة يهدف إلى إثبات أن كل حالة من هذه الظاهرة تتبع في الأساس نفس القاعدة”(35).

1.4. الحالة الأولى: تشيلي

جسَّد انتخاب مرشح الرئاسة، بتريشيو أيلوين (Patricio Aylwin)، في الحادي عشر من مارس/آذار 1990، لحظة الفصل مع صفحة قاتمة في تاريخ العنف السياسي ونهاية للحكم العسكري في تشيلي. فأصدر مرسومًا رئاسيًّا لتشكيل لجنة عُرفت باسم “لجنة ريتيغ” (Rettig Commission) لكشف الحقيقة والمصالحة بين المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وأسر ضحايا الاغتيالات والاختفاء القسري خلال فترة امتدت سبعة عشر عامًا من البطش تحت نظام الجنرال، أوغستو بينوشيه. وكانت الذاكرة الجماعية لدى أغلب السكان تستعيد مشهد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 1973؛ عندما هاجمت وحدة عسكرية القصر الجمهوري (La Moneda) وسط العاصمة، سانتياغو، بقيادة الجنرال بينوشيه، بعد ساعات قليلة من فوز الرئيس المنتخب، سالفادور ألاندي، الذي عُثر عليه “ميتًا”، بعد إعلان نجاح الانقلاب العسكري.

كان ألاندي ينادي بالجدوى من مبادرته “الطريق الآمن إلى الاشتراكية” التي لقيت تأييد فئات واسعة من الرأي العام الدولي. وعقب وفاته في القصر الرئاسي، تحوَّل إلى شخصية اكتسبت قوة الرمز. فأصبح شعار احترام حقوق الإنسان ثقلًا موازنًا لقوة النظام العسكري طوال سنوات الديكتاتورية. وفي أعقاب انقلاب عام 1973، شكَّل ائتلافٌ من الكنائس بقيادة الكنيسة الكاثوليكية “لجنة السلام”، التي أصبحت -اعتبارًا من عام 1976- منصب نائب رئيس أبرشية سانتياغو الكاثوليكية للتضامن. وقدمت هذه المنظمات المتعاقبة الدعم المعنوي والمساعدة القانونية لآلاف من ضحايا القمع السياسي وعائلاتهم. كما تولَّت التوثيق الدقيق لكل حالة من انتهاكات حقوق الإنسان، وأصدرت تقارير عديدة وشاملة عن الوضع العام لحقوق الإنسان في تشيلي. في الوقت ذاته، كانت الأمم المتحدة ومنظمة الدول الأميركية تنتقد تشيلي لعدة سنوات بسبب سجلها السيء في مجال الحريات العامة، ودمغت صورتها لدى الرأي العام الدولي على أنها من أسوأ الدول التي يعاني مواطنوها القهر والاضطهاد(36).

حدَّد قرار الرئيس، أيلوين، عام 1990، صلاحيات “لجنة ريتيغ”، التي ضمت ثمانية أعضاء، والغايات المتوخاة من تشكيلها: 1) تركيب صورة متكاملة قدر الإمكان لأخطر انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت في البلاد. 2) جمع الأدلة للسماح بوضع قائمة تحدد أسماء الضحايا ومصيرهم ومكان وجودهم. 3) تقديم توصيات بشأن التعويضات لعائلات الضحايا. و4) تقديم توصيات بشأن التدابير القانونية والإدارية لتفادي حدوث انتهاكات في المستقبل(37). وتماهت هذه الخطوة الجريئة مع الموجة التي تدرجت فيها أغلب دول أميركا اللاتينية، خاصة الأرجنتين والإكوادور، من حكم الاستبداد وديكتاتورية الجنرالات إلى تبني إصلاحات ديمقراطية وتأسيس دول مدنية خلال حقبة الثمانينات والتسعينات. فتحتَّم على حكومة الرئيس، أيلوين، عند تحديد سياستها الجديدة في مجال حقوق الإنسان، أن “تأخذ بعين الاعتبار حصيلة التجارب في الدول والبلدان الأخرى، ومبادئ القانون الدولي، ورأي الهيئات التي تدافع عن حقوق الإنسان على الصعيد الدولي”(38).

في التاسع من فبراير/شباط 1991، قدمت اللجنة ما توصلت إليه من نتائج وتوصيات إلى الرئيس أيلوين الذي أعلنها في خطاب تليفزيوني إلى الشعب التشيلي في الرابع من مارس/آذار التالي. وتوصلت إلى حدوث عمليات قتل لـ2279 شخصًا لأسباب سياسية، بمن فيهم 957 من المختفين عقب احتجازهم من قبل السلطات. وصنَّفت اللجنة 164 حالة ضمن “ضحايا العنف السياسي” من بينهم ضباط شرطة وأيضًا آخرون لقوا حتفهم على أيدي متطرفي التيار اليساري في البلاد. وكانت اللجنة قد دققت في حوالي 3400 حالة، كل على حدة، قبل التوصل إلى اتفاق بين المحققين على الكيفية التي ستقدم بها كل حالة انطوت على انتهاكات لحقوق الإنسان بشكل خطير أو التي قُتل فيها أشخاص نتيجة العنف السياسي. ويوضح تقرير اللجنة أيضًا أن قرارات اللجنة “كانت دائمًا متسقة مع ضمير أعضائها”(39).

تشبَّع أعضاء “لجنة ريتيغ” مند البداية بأن الحقيقة التي كان عليهم التوصل إليها تنطوي على غاية واضحة ومحددة: “العمل على تحقيق المصالحة بين جميع التشيليين، واستعانت بآراء بعض الشخصيات الوطنية في البلاد”(40) وعقب نشر التقرير، أقرَّت جميع الأحزاب بصحة الوقائع التي تم التحقيق فيها على الرغم من بعض الخلافات حول تأويل بعض الأحداث التاريخية. وليس غريبًا أن تعارض مؤسستا الجيش والبحرية خاصة بشأن وضع حكومة الرئيس ألاندي ودور الحكومة العسكرية في تلك الحقبة.

من المثير في نتائج اللجنة أيضًا أنها “اكتفت بتحديد أسماء الضحايا وليس أسماء الجناة”، وأشارت إلى مجرد الفرع أو الوحدة المسؤولة ضمن القوات المسلحة أو الشرطة، دون توجيه الاتهام إلى الضباط العاملين في أي منهما. وأوضحت أن “تحديد أسماء لا يدافعون عن أنفسهم ويتحتم عليهم القيام بذلك قد يتساوى مع إصدار حكم على شخص دون ضمان حقه في محاكمة عادلة وفق القانون، وأن هذا الأمر يتعارض مع كل من نص وروح القانون ومبادئ حقوق الإنسان”(41) كما شددت على أنها “ليست محكمة ولم تتولَّ إجراء محاكمات”. وجاء في تقرير اللجنة أنها “لم تفترض أن موظفي الحكومة كانوا متورطين في مقتل الأفراد حتى عندما يكون واضحًا أنهم قُتلوا بالأسلحة النارية، وعندما يكون هناك كل سبب للاعتقاد بأن الدافع كان سياسيًّا، ما لم تكن هناك أسباب لهذا الاستنتاج”(42).

بيد أن اللجنة أرسلت إلى المحاكم ما توصلت إليه من أدلة على الجرائم المرتكبة خلال حقبة الاضطهاد (1973-1990). وفي ضوء هذه المعلومات والأدلة الجديدة، قررت بعض المحاكم في التشيلي تحريك التحقيقات القضائية في عدد من حالات الاختفاء، وعقدت جلسات محاكمة للمسؤولين عن الاغتيالات السياسية ومنها قضية لوتوليي (Letelier) الشهيرة. ويبدو أن نتائج “لجنة ريتيغ” ساهمت في إيجاد المناخ السياسي والزخم القضائي للتوصل إلى “الحقيقة الكبرى”، وبالتالي تحفيز بعض القضاة المتحمسين على الاستمرار في التحقيق في قضايا محددة(43).

بحلول مايو/آيار 2012، أدان القضاء 76 شخصًا لعلاقتهم بانتهاكات حقوق الإنسان، وصدرت أحكام على 67 منهم: 36 ضابطًا في الجيش، و27 من ضباط قوة الأمن الوطنية، واثنين من ضباط سلاح الجو، وواحد من البحرية، وواحد من شرطة التحقيقات. وقد توفي ثلاثة من الأشخاص المدانين فيما تلقى ستة آخرون عقوبات سجنية مشروطة. ولا تزال ملفات 350 من حالات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي والتعذيب مفتوحة. وتفيد التقارير بأن مجموع 700 شخص من العسكريين والمدنيين متورطون في تلك الحالات لانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.

كانت تحديات تحقيق العدالة الانتقالية المنشودة مضنية. ويقول خوزي زلاكيت (José Zalaquett)، في مقدمة النسخة الإنجليزية لتقرير اللجنة الوطنية للحقيقة والمصالحة، إنه على الرغم من أن تشيلي “تأخذ العبرة من التجارب السابقة في القارة، إلا أن الدرس الرصين الذي انطوت عليه تلك التجارب هو أن المخاطر السياسية التي تنطوي عليها تسوية الحسابات مع الماضي جسيمة بشكل غير عادي. ولا يمكن توقع التوصل إلى نتيجة مرضية بشكل كامل، وأن التوترات الاجتماعية الناجمة عن تركة انتهاكات حقوق الإنسان لا تزال قائمة لفترة طويلة”(44).

أقرت اللجنة بأنها واجهت بعض تحديات المفاهيم والدلالات السيميائية في مراعاة بعض الضوابط والمعايير التي نص عليها المرسوم الرئاسي. مثال ذلك، عبارة “المسؤولية الأخلاقية للدولة” التي يشير إليها المرسوم الرئاسي على أنها “تتعرض للخطر بسبب تصرفات وكلائها أو من قِبل أشخاص يعملون في خدمة الدولة”. وخلصت اللجنة إلى أنه ليس “للمسؤولية الأخلاقية للدولة” معنى قانوني أو تقني محدد(45).

شدَّدت اللجنة في الجزء الرابع من التقرير، وهو بعنوان “توصيات جبر الضرر”، على أنه “يتعين على المجتمع التشيلي برمته أن يستجيب لتحدي جبر الضرر. وينبغي أن تتحرك هذه العملية نحو الاعتراف بحقيقة ما حدث، واستعادة الكرامة المعنوية للضحايا، وتحقيق نوعية حياة أفضل للعائلات الأكثر تضررًا بشكل مباشر. بهذه الطريقة فقط سنتمكن من تطوير شكل أكثر عدلًا من الحياة المشتركة التي ستمكننا من النظر بأمل نحو المستقبل”. ويعني جبر الضرر في رأي أعضاء اللجنة “وجود الشجاعة لمواجهة الحقيقة وتحقيق العدالة”، ويتطلب “كرم المرء في الاعتراف بأخطائه وروح التسامح حتى يتوحد التشيليون معًا” ويزداد هذا الطرح المثالي بتشديد اللجنة على أن تدابير جبر الضرر ينبغي أن تستهدف فئات المجتمع والتحرك نحو تهيئة الظروف المواتية لتحقيق مصالحة حقيقية، وألا تسبِّب الانقسام أبدًا”(46) وتبنت اللجنة ما اعتبرته خيارًا استراتيجيًّا للمجتمع التشيلي بالقول: إنه عندما تعلو المناداة بالمثل العليا العظيمة كالحقيقة والعدالة والمغفرة، فإن المصالحة ينبغي أن تأتي في المقام الأول(47).

2.4. الحالة الثانية: جنوب إفريقيا

شهدت نهايات الثمانينات من القرن الماضي احتقانًا سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأغلبية السوداء بسبب سياسة الفصل العنصري (آبارثايد) الذي شهدتها جنوب إفريقيا منذ عام 1948. وبدأ الحزب الوطني الذي كان يتزعمه فريديريك وليام دي كليرك (Frederik Willem de Klerk) مفاوضات، عام 1987، مع الحزب الوطني الإفريقي بزعامة نيلسون مانديلا حول سبل إنهاء نظام الآبارتايد وسط ضغوط العقوبات الاقتصادية التي كانت تفرضها الأمم المتحدة، وأيضًا للتمهيد لحكومة تمثِّل الأغلبية السوداء. بعد سنوات قليلة، تمَّ الإفراج عن مانديلا من السجن عام 1990، وألغت البلاد العمل بالنظام العنصري، يوم السابع عشر من يونيو/حزيران 1991، مما مهَّد لإجراء انتخابات ديمقراطية، في أبريل/نيسان عام 1994، منحت مانديلا الحق في تشكيل حكومة يقودها حزبه في حقبة تعددية ومساواة غير مسبوقتيْن في جنوب إفريقيا.

تمَّ تشكيل لجنة الحقيقة والمصالحة بموجب قانون “دعم الوحدة والمصالحة الوطنية”، رقم 34، عام 1995، بعضوية شخصيات وطنية بارزة من عيار القس دزموند توتو (رئيسًا)، وأليكس بورين (Alex Boraine) (نائبًا للرئيس)، وعضوية سيسي خامبيبي (Sisi Khampepe) وينامد مالان (Wynand Malan)، وإيما مشنيني (Emma Mashinini). وبدأت اللجنة عقد جلسات الاستماع مع الضحايا وأفراد أسرهم، يوم الخامس عشر من أبريل/نيسان عام 1996، من خلال ثلاث لجان فرعية: 1) لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت بين عامي 1960 و1994. 2) لجنة الجبر وإعادة التأهيل التي تولَّت استعادة كرامة الضحايا وصياغة اقتراحات للمساعدة في إعادة التأهيل. و3) لجنة العفو التي نظرت في الطلبات المقدمة من الأفراد الذين تقدموا بطلب للعفو وفقًا لأحكام القانون.

تلقت اللجنة بيانات من 21290 شخصًا، من بينهم أكثر من 19050 تبيَّن أنهم كانوا ضحايا لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، فيما توصلت إلى أن عددًا من الحالات لم يكن أصحابها ضحايا. وشملت قائمة العفو أكثر من 2975(48). وتبنَّت اللجنة منحى مناقضًا للمنحى العقابي الصارم التي اتسمت به محاكمات نورمبرغ وإجراءات القضاء على النازية في ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، بل تمسكت بالخط التصالحي كطريقة ناجعة في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان عقب مرحلة التحول السياسي سواء بفعل عوامل داخلية أو خارجية. وأصدرت تقريرها النهائي في العشرين من أكتوبر/تشرين الأول عام 1998 بعد رفضها 5392 من طلبات العفو.

تقول مونيكا جويي (Monica Joyi)، التي عملت في المكتب الإعلامي للجنة الحقيقة والمصالحة خلال عامي 1996 و1997: إن الغاية من تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة كان “لتهدئة مخاوف جنوب الإفريقيين البيض، ولكن في الوقت ذاته، لتقديم إجابات للعديد من الأمهات اللائي فَقَدْن أطفالهن وأحبائهن تحت وطأة فظائع الفصل العنصري. إذا تأمل المرء فكرة العفو برمتها وكيف تم منح بعض مرتكبي تلك الأفعال العفو، فإن السؤال يبرز حول ماهية الأمة التي تغفر المغفرة وجنوب الإفريقيين السود بالتحديد”(49).

حظيت تجربة هذه اللجنة في جنوب إفريقيا باهتمام عالمي واسع النطاق لأهميتها ليس في التحوُّل النفسي والاجتماعي للضحايا وأسرهم فحسب، بل وأيضًا في استمالة التغيير البنيوي وعلاقات القوة بين السود والبيض. ويعتبر البعض عقد جلسات للاستماع لقصص الضحايا ومشاركتهم في كشف الحقيقة بمنزلة تجسيد لرغبة السكان في استعراض واقع الماضي المشترك، وأنها كانت خطوة بنَّاءة في طريق بناء دولة جديدة لا تتنكر لماضيها. وكما قال الكاتب الأميركي الأسود، جيمس بولدوين (James Baldwin): “لا يمكن تغيير كل ما يواجهه المرء، لكن لا يمكن تغيير أي شيء حتى تتم مواجهته”.

غير أن النقاشات التي حركتها نتائج اللجنة داخل وخارج جنوب إفريقيا استعرضت الفوارق الفلسفية والثقافية أكثر مما أثارته أية تجربة مصالحة أخرى. ويستمر الجدل حتى الوقت الحاضر بين معسكريْن متوازييْن: 1) معسكر الذين يتمسكون بمبدأ تطبيق القانون ويصرون على ضرورة إصدار عقوبات على كل المتورطين في أعمال القتل والاختفاء القسري والاغتصاب وبقية انتهاكات حقوق الإنسان. و2) معسكر المتمسكين بالسلم المجتمعي ونسبية الحلول القانونية في استمالة التحوُّل الإيجابي.

تقول ديانا أورينتليكر (Diane Orentlicher)، أستاذة القانون الدولي في الجامعة الأميركية في واشنطن: إن العقوبة الجنائية قد لا تكون “ضمانًا فعَّالًا ضد القمع في المستقبل… من خلال إظهار أنه لا يوجد قطاع فوق القانون، وبالتالي تعزيز احترام المؤسسات الديمقراطية فحسب”، بل إن بعض الحكومات قد تكون مترددة في التخلي عن الملاحقات القضائية بسبب المخاوف المحلية والقانون الدولي، و”الضغوط الدولية للامتثال لهذا القانون قد تكون طريقة فعالة للذهاب نحو تأمين العدالة”(50). وتنحو المنحَى ذاتَه هيئاتٌ حقوقيةٌ ومحللون آخرون يعتدُّون بأن القانون الدولي يتطلب معاقبة منتهكي مختلف المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان. وتتمسك بهذه الرؤية منظمتا العفو الدولية في لندن وهيومن رايتس ووتش في نيويورك، وهما من المنظمات الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان التي تُصدر بيانات سياسية تدعو للعدالة الكاملة في مجتمعات ما بعد الاستبداد(51). وثمة أكثر من سؤال: هل يسهم العفو على حساب العدالة في تعزيز المصالحة أم أن الملاحقات القضائية ستهدد الديمقراطية من خلال إعادة الحرس القديم إلى مراكز القوة؟ هذه بعض الفرضيات التي تظل دون حسم علمي ميداني، فيما لم تقدم الدراسات ما يعزز أو يدحض أيًّا منها.

في المقابل، تشيد بعض الدراسات بلجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا كتجربة واعدة على طريق المصالحة المجتمعية والعدالة الانتقالية وترميم العلاقة بين الأقلية البيضاء والأغلبية السوداء. غير أن البعض يشير إلى أوجه القصور في عمل اللجنة؛ إذ تدحض جانيت لوف (Janet Love )، مديرة مركز الموارد القانونية في جوهانسبورغ بجنوب افريقيا، مقولة: إن اللجنة حققت “المعجزة” وإنْ قدمت “بعض الحقيقة التي كانت الأمة في حاجة لها للاعتراف بماضيها”(52) ويعتقد آخرون أنه على الرغم من أنها أوجدت مستوى من الحقيقة والخطاب والحوار وبعض المصالحة، إلا أنها “أدت إلى شعور بتأجيل العدالة بالنسبة للكثيرين. هناك وَهْم بأن اللجنة قادتنا على طريق الوئام العرقي، ولكن الواقع صعب للغاية وسيستغرق الانتقال الديمقراطي عقودًا طويلة. هناك العديد من الانقسامات العميقة في جنوب إفريقيا وغالبًا ما تتجلى في عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية”(53).

يعتقد محمود ممداني أن اللجنة “فصلت ظاهرة الفصل العنصري عن تاريخ الاستعمار الأطول، وتناولتها على أنها واحدة من انتهاكات حقوق الإنسان الفردية بدلًا من مشكلة التقاطع الاجتماعي والاقتصادي والقانوني والسياسي المنهجي للهيمنة الطبقية والعرقية. لقد حصرت لجنة الحقيقة والمصالحة اهتمامها بشكل صريح بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان أثناء “نزاعات الماضي”، وليس بما فيها “سياسات الفصل العنصري”، وهي سياسات تشير ضمنيًّا إلى مجرد “السياق””(54). ويجادل باحثون آخرون بالقول: إن اللجنة لم تستطع التعامل مع معضلات لا يمكن دفنها أو إلغاؤها بجرة قلم من تاريخ جنوب إفريقيا. ويقول عبد القادر أسمال: إن هناك عشر معضلات يمكن اختزالها في ثلاث نقاط رئيسية: 1) دون فهم شامل للماضي، ستظل مشاكل المستقبل غير قابلة للتفسير، وبالتالي فإن جذور العنف غير المستكشفة ستديم العنف في المستقبل بما فيها قبول العنف البنيوي. 2) يستمر أنصار النظام السابق في تصديق الأساطير التي يعتقدون أنه لا يمكن تحديها، وبالتالي، فإن إهمالهم للتاريخ سيولد الاستياء والمحاولات المحتملة للانتقام. 3) هناك حاجة لمجتمع ينبثق من مثل هذا النظام الاستبدادي ليكون لديه منفذ للتعبير عن مشاعره. ينبغي أن يكون هذا المنفذ قائمًا على الحقيقة والعدالة، على ألا تكون العدالة المقعد الخلفي باتجاه تعزيز الديمقراطية بالنظر إلى أن تأسيس ديمقراطية مستقرة لا ينبني بمنح تنازلات للجيش بشأن القضايا المتعلقة بممارساته العنيفة في الحياة المدنية(55).

3.4. الحالة الثالثة: المغرب

تولى محمد السادس العرش عقب وفاة والده، الحسن الثاني، في 23 يوليو/تموز 1999، وسط توقعات عالية السقف بأنه سيمضي قدمًا باتجاه الانفتاح السياسي والسماح بعودة المعارضين اليساريين من المنفى. وفي الأعوام الأربعة الأولى من حكمه، شهدت حرية الصحافة تحسنًا نسبيًّا، وتم إصلاح القانون الجنائي، عام 2003، وتبنِّي مدونة جديدة للأحوال الشخصية، عام 2004. وعقب مشاورات مطولة بين القصر الملكي وبعض هيئات المجتمع المدني وعدد من المعتقلين السياسيين السابقين، أصدر الملك محمد السادس، ودون مشاورات مع الأحزاب، ظهيرًا ملكيًّا يقضي بتأسيس “هيئة الإنصاف والمصالحة”، في السابع من يناير/كانون الثاني عام 2004، وفق اقتراح كان قد قدَّمه إدريس بن زكري، وهو سجين يساري من التيار الماركسي اللينيني ظل رهن الاعتقال طيلة سبعة عشر عامًا (1974 -1991). ويبدو أن الملك سعى للوفاء بوعد قطعه على نفسه أمام والده، عام 1994، بـ”قلب الصفحة بشكل نهائي” على الانتهاكات التي كانت متواترة في الماضي(56).

يتذكر محمد نشناش، وهو عضو سابق في هيئة الإنصاف والمصالحة، مدى التأثير السلبي الذي كان ضد أعضاء الحركة الوطنية والنشطاء الوطنيين، وكيف أن “كثيرًا من العملاء كانوا في مراكز السلطة، فكان هناك اختلاق مؤامرات على أن اليسار يريد أن يتآمر على العرش وافتعال مواجهة بين الحسن الثاني والحركة الوطنية التقدمية، وما تلا ذلك من قمع ومحاكمات وظلم وتعسف، وأحيانًا كانت هناك محاولات حقيقية للانقلاب”(57). أما المعتقل السياسي السابق، أحمد المرزوقي، فيتذكر سجن تازمامارات سيئ السمعة بأنه “ليل سرمدي كحياة إنسان يعيش في قبر، زنزانة مظلمة معزولة عن العالم الخارجي، وكل زنزانة على حدة، وكل سجين كان يوجد في زنزانة على حدة. عشنا تجويعًا رهيبًا وعانينا البرد الشديد؛ إذ كانت درجة الحرارة في تازمامارت تنزل إلى ما تحت الصفر. أما في الصيف، فكان ينقلب كما تنقلب الزنزانة إلى فرن. يعني حُرِمنا من كل شيء، من أبسط حقوق الإنسان”(58) وتلاحظ إحدى الباحثات أن “المعارضين السياسيين للحسن الثاني كانوا “يختفون على غرار الطريقة التي كانت الأنظمة الديكتاتورية، في تشيلي والأرجنتين، تعذب بها أو تقتل المعارضين وهم رهن الاحتجاز”(59).

استندت هيئة الإنصاف والمصالحة في تحديد المرجعية والمنهجية المعتمدة في إعداد التوصيات إلى ثلاثة مصادر: أ) المعايير الدولية لحقوق الإنسان والاستفادة من التجارب المقارنة في مجال العدالة الانتقالية في العالم، وكذا الاجتهادات المبلورة فيما يخص علاقة حقوق الإنسان بالديمقراطية في إطار الأمم المتحدة، أو الهيئات البرلمانية الدولية. ب) مستخلصات التجربة المغربية في موضوع الانتهاكات الجسيمة المرتَكَبة في الماضي من حيث أنواعها ومداها والمسؤوليات المؤسساتية التي ارتبطت بها وأوجه الخصاص في مجالات القانون والعدالة والحكامة الأمنية. ت) الدراسات والأبحاث العلمية للنصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصلة بحقوق الإنسان أو تلك التي قد يكون لها أثر سلبي أو إيجابي على احترامها والتمتع بها. مما مكَّن من تبيُّن ما يتعيَّن تعزيزه وتقويته، أو إلغاؤه، أو تتميمه أو وضعه لأول مرة، على صعيد الضمانات والمساطر(60).

خلال العام الموالي، أجرت الهيئة التي ضمت سبعة عشر عضوًا برئاسة بن زكري عدة تحقيقات ونظمت سلسلة ملتقيات وجلسات عبر أرجاء المغرب. وتوصلت إلى حدوث 15592 من حالات الاختفاء القسري والتعذيب والاغتصاب الجنسي وجرائم أخرى ضد الإنسانية واعتقالات تعسفية خلال سنوات الرصاص التي استغرقها حكم الحسن الثاني. غير أن الهيئة لم تستطيع تحديد مصير أكثر من 742 من الأشخاص المفقودين(61)، وأظهرت النتائج الحقائق التالية:

– اكتشاف أو تدقيق أو تحديد هوية 89 شخصًا توفوا رهن الاحتجاز ووقفت على أماكن دفنهم بكل من تازمامارت(31)، وأكدز(32)، وقلعة مكونة(16)، وتاكونيت(8)، وكرامة(1)، وقرب سد المنصور الذهبي(1).

– اكتشاف وتحديد هوية 11 شخصًا توفوا على إثر مواجهات مسلحة والوقوف على أماكن دفنهم، 7 أشخاص منهم توفوا سنة 1960 (مجموعة بركاتو ومولاي الشافعي) و4 منهم سنة 1964 (مجموعة شيخ العرب).

– 325 من الأشخاص المدرجة أسماء بعضهم في عداد مجهولي المصير توفوا إثر الأحداث الاجتماعية الواقعة سنوات 1965 (50 وفاة) و1981 (114 وفاة) و1984 (49 وفاة موزعة كما يلي: 13 بتطوان، 4 بالقصر الكبير، 1 بطنجة، 12 بالحسيمة، 16 بالناظور ونواحيها، 1 بزايو و2 ببركان)، و1990 (112 وفاة) بسبب الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة العمومية. وتوصلت الهيئة إلى تحديد أماكن دفن بعضهم، ولم تتمكن من التعرف على هوية البعض الآخر(62).

تلاحظ هيومان رايتس ووتش أن صلاحية هيئة الإنصاف والمصالحة، بموجب نظامها الأساسي، انتهت في أبريل/نيسان 2005، لكن الملك محمد السادس لم يوافق على تمديدها إلا في نوفمبر/تشرين الثاني 2005. “وكانت الهيئة خلال عامها الأول قد حركت عدة أمور مثيرة للجدل، ورحَّب المراقبون وقتها بصلاحية الهيئة في النظر في الانتهاكات السابقة، (وهي قضية شدَّد القصر الملكي على أنها منتهية)، وفي التعامل معها بما يتجاوز التعويض المالي”(63). غير أن الدولة لم تحدد للهيئة أي قيود على المبلغ الذي يمكنها منحه سواء بشكل شمولي أو بالنسبة للحالات الفردية. ويوضح رئيس الهيئة، إدريس بن زكري، أن “لها الحق بشكل مستقل في تحديد المستوى المالي للتعويض الذي ستقدمه الدولة لضحايا الإساءات السابقة الذين يتقدمون بطلب للحصول عليه. وتأتي الأموال الصادرة لهم من ميزانية الدولة. ونرسل قراراتنا بشأن التعويض إلى رئيس الوزراء ليتولى التوقيع على الشيكات”(64).

أثارت حصيلة هذه التجربة في المغرب الكثير من السجال بين المدافعين عن أهمية جبر الضرر وتقديم تعويضات مالية إلى الضحايا والمتمسكين بضرورة أن تتحمل الدولة المسؤولية بمعاقبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان طيلة أربعة عقود. غير أن تحقيقات الهيئة اتسمت ببعض الحذر من بعض القضايا الشائكة ومن مسعى الملكية لترميم صورتها، وهو مستوى أقل من حجم التفسيرات والتوقعات التي تداولها المغاربة في استيعاب مفهوم “طي الصفحة”. ويقول بعض المراقبين: إن الهيئة تبنَّت مفهوم “المصالحة السلمية والعدالة والإنصاف لمواجهة الانتهاكات السابقة، واختارت العدالة التوفيقية بدلًا من العدالة الاتهامية، والعدالة التاريخية على حساب الحقيقة القضائية”(65). ومن التحفظات الأخرى على حصيلة عمل الهيئة أنها هيئة استشارية لا تتمتع بأية صلاحية في حمل مؤسسات الدولة على الاستجابة ولا حتى أخذ توصياتها بعين الاعتبار(66).

من أهم الانتقادات التي عبَّرت عنها المنظمات الدولية للدفاع عن حقوق الإنسان أن هيئة الإنصاف والحقيقة لم تحدد أسماء الجناة، وقد حثتها هيومن رايتس ووتش على “إعادة التأكيد علانية على الحاجة للمساءلة الجنائية عن الانتهاكات الجسيمة، حتى لو تم منع اللجنة من تسمية الأفراد الذين ارتكبوا تلك الجرائم”(67)، لكن هؤلاء الجناة ليسوا تحت أي إكراه على التقدم إلى الأمام لأن “المصالحة لا تملك أي وضع قانوني لطلب العفو أو تجنب الملاحقة القضائية”(68).

غير أن رئيس الهيئة، إدريس بن زكري، أبلغ هيومن رايتس ووتش بأن الحظر المفروض على تسمية مرتكبي الانتهاكات لا ينطبق إلا على مجال الكشف العلني من قبل الهيئة. بيد أنها خلال أبحاثها الميدانية سجلت أسماء الجناة المزعومين بشكل اعتيادي. وأوضح بن زكري أن القسم الذي يشمل أسماء الجناة في التقرير النهائي يشكِّل الجزء الوحيد الذي سيتم تسليمه للملك بدلًا من الإعلان عنه، وسيكون الأمر متروكًا للملك في كيفية التعامل مع تلك المعلومات(69). ويعتبر بن زكري عدم الإفصاح عن الأسماء بأنه نوع من المقايضة، وأن “من الخطأ افتراض أن النظام القضائي هو أفضل وسيلة للتعامل مع الانتهاكات السابقة… في المحكمة، يكون الضحية هناك كطرف، لكن بالنسبة لنا الضحية هو بطل القصة”(70). ويتمسك بن زكري أيضًا بالقول: “إذا أردنا أن ندعي لأنفسنا الحق في الحكم على الأشخاص، فسنكون في وضع يتناقض تمامًا مع المُثُل التي ندافع عنها. نحن مشغولون بعملية الذاكرة التي تجري بعد عشر وعشرين وثلاثين عامًا مما وقع. لا يمكننا أن نعلن الأسماء خارج نطاق الإجراءات القضائية المعمول بها؛ فحقوق الإنسان ليست مثل سوبر ماركت حيث يمكننا أن نتجاهل، في اللحظة التي نشعر بها، افتراض البراءة”(71).

قدمت السلطات المغربية هيئة الإنصاف والمصالحة كدليل على تنوير المغرب بحقوق الإنسان باعتبارها “إنجازًا كبيرًا لتعزيز الانتقال الديمقراطي”(72) غير أن المنظمات الحقوقية الدولية وإنْ كانت تشيد بهيئة الإنصاف والمصالحة كمؤشر على تقدم حقوق الإنسان في البلاد، إلا أن الهيئة باشرت صلاحياتها خلال فترة شهدت حدوث انتكاسات لما حققته الهيئة من تقدم مثل قمع الإسلاميين المشتبه بهم ونشطاء الاستقلال في الصحراء الغربية، واستمرار مقاضاة الصحفيين وتفريق المظاهرات السلمية بالقوة(73). في المقابل، يلاحظ بعض المراقبين أن مشروع المصالحة فشل لكونه مجرد “مبادرة اختارها وقررها نظام ممارسة السلطة نفسه الذي كان مسؤولًا عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لتلميع صورته بالتظاهر أنه يريد طي صفحة الممارسات المنتهكة لحقوق الإنسان. ولا يلعب تغيير الأشخاص الذين تورطوا في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بأشخاص آخرين، أيَّ دور في نجاح “العدالة الانتقالية”، ما لم يتغير نظام ممارسة السلطة نفسه، الذي ارتكبت في ظله وباسمه وبسببه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ فنفس الأسباب تؤدي دائمًا إلى نفس النتائج”(74). وتبقى حاجة المغرب لمصالحة حقيقية قضية حيوية ومثيرة للجدل كما لخصها الناشط علي بوعبيد؛ إذ قال: “يجب أن نجد وسيلة وسطًا بين أولئك الذين يسعون للمحاكمات السياسية وأولئك الذين يريدون إغلاق الكتاب قبل قراءته”(75).

قد يكون لتلك الجلسات العامة والمؤثرة نفسيًّا في عدة مدن مغربية قدر كبير من الرمزية السياسية في مسعى ترميم صورة الملكية، لكنها جلسات غضَّت الطرف عن عدد من الإجراءات المتبعة عادة في عملية المصالحة، فلم تجمع طرفي النزاع معًا، حضر الضحايا وغاب الجناة، وبقيت الجلسات بعيدة كل البعد عن أقل مستوى من التفاعل والمصارحة بينهم حول ما حدث، وضرورة أن يعترف الجاني بما فعل ويعتذر، وأن تقبل الضحية الاعتذار طواعية وعن قناعة كاملة بصدقية الاعتذار. ولا يمكن المضي قدمًا في مشروع المصالحة دون أن يستكشف الطرفان “خوفهم وغضبهم المتبادلين، والأهم من ذلك أن تبدأ جسور الثقة بينهما”(76). وبدون هذه الثقة، تبقى المصالحة الحقيقية بعيدة المنال في بلد منقسم بعمق بين من يعتبرون أنفسهم “خُدَّام الأعتاب الشريفة” أو “خُدَّام الدولة” ضمن جهاز الأمن والمخابرات والجيش، وبين الضحايا الذين علَّقوا آمالًا كبيرة على إنهاء الغبن ورد الاعتبار بعد سنوات طويلة من الأمل والانتظار.

  1. تقييم التجارب الثلاث

لقيت لجان الحقيقة في تجارب المغرب وجنوب إفريقيا وتشيلي وغيرها من الدول التي حذت حذوها ترحيب النشطاء والمنظمات المحلية والدولية التي تدافع عن حقوق الإنسان. وتؤكد هذه التجارب في أكثر من أربعين دولة حتى الآن بعض الدروس المستفادة من عملية مركَّبة ومعقدة. وهي دروس تدعو لاتباع مجموعة إجراءات رئيسية: 1) لكي تكون العروض العامة فعالة وتساعد على تفعيل الشعور بالانتقال، تحتاج لجان الحقيقة إلى جمهور متقبل. 2) يمكن للجنة أن تشجع ذلك من خلال ترتيب عملياتها، لكنها تعتمد أيضًا على سياقات أوسع. 3) من المرجح أن يتم تجاهل التقارير والتوصيات، ويتطلب التنفيذ صراعًا سياسيًّا مستمرًّا. 4) يتعين على لجان الحقيقة ألا تقدم نفسها كهيئات يمكنها تحقيق أهداف عالية مثل الحقيقة والعدالة والمصالحة ولكن كعمليات يمكن أن تسهم في توفير المعلومات بالنسبة لنضال سياسي أطول(77). بيد أن اعتماد رؤية نقدية لمآل تلك التجارب في السعي للحقيقة في الدول الثلاث يسترعي الانتباه إلى مجموعة كوابح أو تحديات تحول دون تحقيق غاياتها بشكل كامل.

1.5. مجرد هندسة تصور جديد للماضي!

بقدر ما تُنْعش لجان الحقيقة والمصالحة التفاؤل والأمل في الكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترات الصراع، بقدر ما تثير خيبة الأمل والتحفظات، وأحيانًا الانتقادات، نظرًا لنسبية ومحدودية الحقيقة التي تكشفها للرأي العام. ويشدِّد جيمس غيبسون على العلاقة بين مسعى العدالة الانتقالية والمصداقية لدى لجان الحقيقة في أعين الشعب. ويقول: إن وظيفة تلك اللجان تكمن في “تغيير المعتقدات والمواقف كعملية تحول اجتماعي. من أجل القيام بذلك، ينبغي أن تجذب انتباه الأفراد العاديين، وأن ينظروا إليها على أنها مصدر موثوق لكل من المعلومات حول الماضي والتوجيه حول النشاط السياسي في المستقبل”(78). وينصبُّ الانتقاد أساسًا على ما يعتبره النشطاء والمنظمات الحقوقية الدولية فشلًا في الكشف عن أسماء الجناة في حق الضحايا، وهي سمة مشتركة بين تجارب المغرب وجنوب إفريقيا وتشيلي، وإن كان منسوب لجنة ريتيغ في تشيلي أعلى من الحالتين السابقتين بفضل قرارها تزويد المحاكم في البلاد بما توصلت إليه من أدلة على الجرائم المرتكبة خلال حقبة الاضطهاد (1973 -1990).

يظل تحديد مسؤولية من ارتكب تعذيبًا أو اغتصابًا أو قتلًا أو أشكال العنف الأخرى أمرًا حيويًّا في أعين الضحايا والمدافعين عن حقوق الإنسان. وتتمسك هيومان رايتس ووتش مثلًا بالقول: إن بمقدور تلك اللجان ضمان ظهور الحقيقة بشأن انتهاكات الماضي بيد أنه “يتعين تقديم مرتكبي الانتهاكات الجسيمة إلى العدالة وتحديد مسؤولياتهم أمام المحكمة”(79). وبهذا المنطق، تتسع دائرة المسؤولية بالمناداة بضرورة توجيه الإدانة إلى أشخاص بعينهم سواء كانوا متهمين بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم أخرى، وأيضًا تحميل المسؤولية إلى حكومات وأنظمة تكون قد كرَّست العنف البنيوي، كما يتصوره منظِّر دراسات السلام، يوهان غالتونغ (Johan Galtung)(80).

2.5. حقيقة الضحايا: أين حقيقة الجناة؟

تواجه لجان الحقيقة الكثير من الانتقادات لكونها تسعى في الغالب لترويج بعض النسيان أو التناسي أو ربما تطبيع فظائع العنف وسوء المعاملة التي وقعت في الماضي. وتؤكد التجارب السابقة أن تلك اللجان ركزت في المقام الأول على تحوُّل المجتمع، فيما تهتم بشكل ثانوي بقضايا الضحايا ومرتكبي أعمال العنف ضمن مسار تحوُّل الصراع (Conflict Transformation ) وليس بالضرورة فض أو تسوية الصراع (Conflict Resolution). ومن تجليات هذا التحوُّل أن لجان الحقيقة تلوِّح بقدرتها على المساهمة في تحوُّل المجتمع وإنْ كان البعض يعتبرها نتاجًا وليس سببًا للتحوُّل المجتمعي. ويقول بعض المحللين: إن “ما يميز لجان الحقيقة هو نيتها التأثير على الفهم الاجتماعي وقبول الماضي، وليس مجرد التعامل مع حقائق محددة”(81).

تظل تجربة جنوب إفريقيا الأكثر شهرة والأكثر تمحيصًا من قبل خبراء فضِّ الصراعات ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان إلا أنها لا تختلف من حيث الجوهر عن حالتيْ تشيلي والمغرب من حيث التشبُّع بفلسفة تحوُّل الصراع وتجاهل مطالب العدالة الجنائية وتنفيذ أحكام القانون. وبدلًا من ذلك، سعت لتجاوز تَرِكَة العنف على أمل تحقيق الأمن المجتمعي من خلال تكريس العدالة الانتقالية أو التصالحية التي يواجه أنصارها تحديًا صعبًا في الرد على تهم منتقديهم بأنهم يقومون بإسقاط مثالية رومانسية على الماضي. على سبيل المثال، تقول أستاذة الإجرام والعدالة الجنائية، كاثلين دالي، (Kathleen Daly): “إن الجهود المبذولة لكتابة تاريخ العدالة التصالحية، عندما يتم استدعاء ما قبل العصر الحديث عاطفيًّا (وانتقائيًّا) لتبرير ممارسة العدالة الحالية، فإنها لا تحيد عن الصواب فحسب، بل وأيضًا تعيد عن غير قصد إعادة كتابة مبدأ الالتفاف حول الذات يرغبه مؤلِّفوه في تجنُّبه”(82).

تلاحظ غابريل لينش (Gabrielle Lynch)، من جامعة ووريك كيف، أن لجنة الحقيقة والمصالحة “كانت بعيدة عن الكمال. ولم يقرأ التقريرَ المطول للجنة سوى قلَّة. وعلى الرغم من أن الغالبية وافقت على عرض اللجنة للعفو عن الكشف الكامل عن جرائم بدوافع سياسية في حقبة الفصل العنصري، فقد انخفض الدعم العام خلال العقد الأول من القرن العشرين لأن الحكومة دفعت تعويضات محدودة، وفشل المدعون العامون في توجيه تهم ضد الجناة الذين تم رفض طلباتهم للعفو، أو من لم يقدمها أصلًا”(83). وعلى الرغم من ذلك، يعتقد بعض المراقبين أن مشروع المصالحة في جنوب إفريقيا كان حاسمًا في منح عملية الانتقال بعض المساحة لالتقاط الأنفاس من أجل إنشاء مؤسسات وعمليات ديمقراطية ناشئة ورعايتها؛ فهو لم ينتج نظامًا سياسيًّا آمنًا وموحدًا وديمقراطيًّا (من حيث الثقافة أو المؤسسات) لكن بعض الأدلة المتوفرة تشير إلى أن جزءًا مما يعتبر “معجزة” جنوب إفريقيا يمكن أن يُعزى بشكل معقول إلى نجاح جهود اللجنة في إيجاد الحقيقة وتعبيد الطريق للمصالحة(84).

3.5. علاج الحاضر دون وقاية المستقبل

يتساءل البعض عن مدى نجاعة لجان الحقيقة والمصالحة في تفادي تكرار أعمال العنف وسوء المعاملة في البلد ذاته بعد انتهاء صلاحيتها. مثال ذلك حال المغرب حيث عادت بعض الأجهزة الأمنية، بعد مرور اثني عشر عامًا على تقديم هيئة الإنصاف والمصالحة تقريرها النهائي إلى الملك محمد السادس، إلى ممارسات قديمة في مسعى لاحتواء حراك الريف وإصدار أحكام قضائية بالسجن عشرين عامًا على عدد من النشطاء الذين تظاهروا في الحسيمة ومدن أخرى مطالبين بحزمة إصلاحات بنيوية واقتصادية، فضلًا عن استخدام القوة ضد المتظاهرين من عمال جرادة ومَنْ أصبحوا يُعرفون بـ”الأساتذة المتعاقدين”. ويقول أحد المراقبين: “عندما لا تكون العدالة الانتقالية قادرة على منع تكرار انتهاكات حقوق الإنسان، وهو منع يشكِّل أحد أهدافها الأولى والرئيسة، تفقد المصالحة، التي تستتبعها هذه العدالة الانتقالية، معناها وغايتها ما دام الجلادون غير معروفين رسميًّا لأن الدولة تحميهم ولا تريد الكشف عنهم”(85).

على المستوى البنيوي وعلى الرغم من أن لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا مثلًا قد حققت مستوى من الحقيقة والخطاب والحوار وبعض المصالحة، إلا أنها أدت إلى “الشعور لدى الكثيرين بتأجيل العدالة. وقد توصلت الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة إلى قناعة مهمة بأن العدالة الانتقالية تقوم على افتراض أن “التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ممكنة عندما تجري مفاوضات مهمة مع الدولة حول القوة. ومع ذلك، ظهرت العدالة الانتقالية للتعامل مع البعد المحدود فقط لتلك التغييرات: إرث الفظائع الواسعة النطاق ومنع تكرارها”(86).

4.5. ما هو “انتقالي” في العدالة الانتقالية

رغم ما يبدو أنه توافق على غاية العدالة الانتقالية، يظل معنى ما هو “انتقالي” وحدوده غير واضحيْ الملامح. فهل ينبغي أن يقتصر مفهوم “الانتقال” على تغيير النظام من حكم استبدادي إلى حكم ديمقراطي، و/أو يشمل الانتقال أو التحوُّل من فترات الحرب أو الصراع إلى فترات استقرار؟ أم يتعيَّن أن يشير إلى أي نوع من التغييرات في الخطاب السائد لتبرير ممارسة السلطة، سواء كان ذلك في مجتمعات ما بعد الصراع، أو حالات تغيير النظام، أو في ظل قيام أنظمة ديمقراطية؟(87).

ينتقد بعض الكتَّاب المنحى الراهن الذي يكرس “مركزية” التصور الغربي للعدالة الانتقالية بالقول: إن “المجتمعات الديمقراطية الليبرالية تموقعت كنقاط النهاية المنشودة لخطوات العدالة الانتقالية. وهذه العدالة الانتقالية ذاتها تميل إلى تجاهل المدى الذي تجد فيه الديمقراطيات الليبرالية نفسها بحاجة إلى مصالحة وعدالة تصالحية في حقبة “ما بعد الصراع””(88). وتزداد المتاهة أيضًا عند التلويح بحتمية العدالة الانتقالية أيضًا بالمفهوم المقصود أو المتوخى من “المرحلة الانتقالية”، وهل تعني الانتقال إلى السلام أم إلى الديمقراطية. ولا يمكن الفصل بين عملية الانتقال والإطار الزمني الذي يؤثر على تطبيقها سلبًا وإيجابًا. لذلك، تبزر معضلة أخرى يمكن أن نسمِّيها الوقتية (Temporality) عند تقاطع المطالب بتطبيق القانون والمسؤولية الجنائية وحماية الأمن المجتمعي ومراعاة حاجيات إعادة بناء الدولة.

5.5. العدالة الانتقالية والنسبية الثقافية

حتى الآن، أظهرت تجارب لجان الكشف عن الحقيقة وتحقيق المصالحة في أكثر من أربعين من دول العالم أن فعاليتها رهينة بمدى تلاؤم المفاهيم السوسيولوجية والإجراءات القانونية المعتمدة بما يتسق مع التركيبة الثقافية للمجتمع، أو بعبارة أخرى، النسبية الثقافية وتباين السياقات المحلية، ووجود برامج مختلفة تجسد العدالة التصالحية جزئيًّا أو كليًّا. ويشدد هاورد زيهر على عدم وجود نموذج “خالص” يمكن اعتباره مثاليًّا أو جاهزًا قابلًا للتطبيق ببساطة في أي مجتمع. وينبِّه كذلك إلى مغبة المبالغة في اعتبار العدالة التصالحية وكأنها تحلُّ محلَّ النظام القانوني، حتى في العالم المثالي(89).

تظل التركيبة المعرفية لإجراءات العدالة الانتقالية وليدة المدرسة الغربية في الدفاع عن الحريات العامة. لكن لا تعني هذه المركزية الغربية وجود نموذج قابل لكل المجتمعات وشتى حقب الصراع. وكما قال أحد الباحثين: “العالمية العقائدية هي عيب لفهم مبدع للعدالة الانتقالية. في مسائل التحول الاجتماعي، يجب إيلاء اهتمام وثيق للسياق والموقع. هذا هو السبب في أنه لا يمكن الدفاع عن الفكر لإنشاء خطة أو نموذج للعدالة الانتقالية جاهزيْن للتصدير”(90).

خلاصة

تناولت هذه الدراسة أوجه الاختلاف من حيث سياقات وديناميات تجارب العدالة الانتقالية في ثلاث دول متباعدة جغرافيًّا وثقافيًّا في سبيل استنباط السبل الوظيفية أو الإجرائية أكثر من الطروحات النظرية أو المعيارية لتلك العدالة المنشودة في السياق العربي من المغرب إلى العراق. ويبدو أن النخب العربية ونشطاء الحرية والإصلاحات الديمقراطية في الجزائر والسودان والعراق في عام 2019، على غرار نظرائهم في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا عام 2011، بحاجة لأن يعودوا إلى المربع الأول لتركيب نظرية عربية للعدالة الانتقالية أو بالأحرى إعادة اكتشاف فلسفة الصلح أو المصالحة في مجتمعات لا تزال مظالم الأمس القاتم جاثمة على صدور الضحايا وذويهم في ضوء سياقها المحلي العربي. وكما دافع المفكر الإيطالي، أنطونيو غرامتشي، عن دور المثقف العضوي، ثمة حاجة لفلسفة عضوية في مسعى تحقيق العدالة.

في الوقت ذاته، تُخلِّف خارطة الصراعات المفتوحة وتعثر مسلسل الانتفاضات العربية عدة تركات نفسية مرضية وتراكم صدمات عميقة من جرَّاء التعرض للعنف وسوء المعاملة. وتنطوي أيضًا على عدة مفارقات مثيرة منها شحُّ المعرفة المنهجية لدى المؤسسات العربية في التعامل مع تلك الأزمات والصراعات. وتطرح هذه المفارقات أكثر من سؤال عن نصيب المنطقة العربية من نظريات وأدوات فض الصراعات، ومدى تناسب الاستراتيجيات التي تعتمدها الأمم المتحدة وبقية المنظمات الدولية والحكومات الغربية مع طبيعة وتعقيدات الصراعات العربية. في المقابل، يتساءل المرء عن مدى استحضار أعراف الوساطات العربية، مثل الصلح أو المصالحة، على طريق العدالة الانتقالية والتعامل مع الصراعات وإقراراها ضمن أدبيات فضِّ الصراع كعلم اجتماعي مركَّب وقائم بذاته.

 

المراجع

(1) لمى شماس، “تجارب العدالة الانتقالية”، النبض، 26 مارس/آذار 2017، (تاريخ ا لدخول: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019): https://bit.ly/2tU86D5.

(2)  International Center for Transitional Justice, “What is Transitional Justice?,”, ICTJ, “accessed November 1, 2019”. https://bit.ly/34Y1DUc.

(3) شماس، “تجارب العدالة الانتقالية”، مرجع سابق.

(4) Nick Grono, “Peace versus justice? Understanding Transitional Justice in Fragile States,” ODI, October 9, 2009, “accessed November 2, 2019”. https://bit.ly/2Q1awsd.

(5) Howard Zehr, Changing Lenses: A New Focus for Crime and Justice 1st ed. (Herald Press, 1990).

(6) Luis Henkin, The Age of Rights (New York: Columbia University Press, 1990), xvii.

(7) Lode Walgrave, Restorative justice, self-interest and responsible citizenship (Cullompton: Willan, 2008), 155.

(8)  John Braithwaite and Philip Pettit, Not Just Deserts: A Republican Theory of Criminal Justice, (Oxford: Clarendon Press, 1990), 2.

(9)  Ibid, 2.

(10)  Howard, Changing Lenses: A New Focus for Crime and Justice, op, cit.

(11) Howard Zehr, Ali Gohar, The Little Book of Restorative Justice, (Pennsylvania: Good Books, Intercourse, 2003), 17.

(12) Theo Gavrielides, ed., Routledge International Handbook of Restorative Justice, (Routledge, 2018).

(13) Dennis Sullivan, Larry Tifft, eds., Handbook of Restorative Justice: A Global Perspective, (Routledge, 2006).

(14) Marianne O. Nielsen, James W. Zion, eds., Navajo Nation Peacemaking: Living Traditional Justice, (The University of Arizona Press, 2005).

(15) “المصالحة في الإسلام”، الميادين، 22 مايو/أيار 2014، (تاريخ الدخول: 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2019): https://bit.ly/2EUCeQR.

(16) المرجع السابق.

(17), Roy L. Brooks “The Age of Apology” in When Sorry isn’t enough. The Controversy over Apologies and Reparations for Human Injustices, ed. Brooks Roy, (New York: New York University Press, 1999), 3-11.

(18) Alexandra Barahona De Brito, al., “Introduction” in The Politics of Memory: Transitional Justice in Democratizing Societies, eds. Alexandra Barahona De Brito, Carmen Gonzalez Enriquez and Paloma Aguilar, (Oxford: Oxford University Pres, 2001), 1-38.

(19) Jeffrey K. Olick, The Politics of Regret: On Collective Memory and Historical Responsibility (Routledge, 2013).

(20) ICC, “Understanding the International Criminal Court,” “accessed November 2, 2019”. https://bit.ly/2spaiBU.

(21) Judgment of the International Military Court of 1 October 1946, Vol. 1: 249.

(22) Nick Grono, “What Comes First – Peace or Justice?,” International Crisis Group, Pct. 27, 2006, “accessed November 3, 2019”. https://bit.ly/34Uwe55.

(23) Louise Arbour, “Economic and Social Justice for Societies in Transition,” Center for Human Rights and Global Justice Working Paper, Number 10, 2006, (New York: Center for Human Rights and Global Justice), “accessed November 2, 2019”. https://bit.ly/2PYsjQx.

(24) Kathrin Braun, “Transitional Justice, Political Temporality and the Injuries of Normality,” (Paper presented at the ECPR General Conference), Oslo September 6-9, 2017.

(25) Ibid.

(26) Jon Elster, Closing the Books: Transitional Justice in Historical Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 2004).

(27), Rosemary Nagy, “Transitional Justice as Global Project: Critical Reflections,” Third World Quarterly 29(2), (2008): 275-89.

(28) Elazar Barkan, “Introduction: Historians and Historical Reconciliation,” American Historical Review, Vol. 114(4), (2009): 899-913.

(29) Jennifer Balint, al., “Rethinking Transitional Justice, Redressing Indigenous Harm: A New Conceptual Approach,” The International Journal of Transitional Justice, Vol. 8(2), (2014): 194–216.

(30) Priscilla B. Hayner, Unspeakable Truths: Confronting State Terror and Atrocity (New York: Routledge, 2001).

(31) Jelena Subotic, “Hijacked Justice: Domestic Appropriation of International Norms,” (Human rights and human welfare working papers no. 28, (2005).

(32) Kathrin, “Transitional Justice, Political Temporality and the Injuries of Normality,” op, cit.

(33) Ibid.

(34) United Religious Initiative, “To save humanity from hell,” February 25, 2019, “accessed November 2, 2019”. https://bit.ly/2ZvxL0v.

(35) Charles Tilly, Big Structures, Large Processes, Huge Comparisons (Russell Sage Foundation, 1984).

(36) Report of the Chilean National Commission on Truth and Reconciliation, (United States Institute for Peace, October 4, 2002).

(37) Mark Ensalaco, “Truth Commissions for Chile and El Salvador: A Report and Assessment”, Human Rights Quarterly, Vol. 16 (4), (1994): 656–675.

(38) Report of the Chilean National Commission on Truth and Reconciliation, op, cit.

(39) Ibid.

(40) Ibid.

(41) Ibid.

(42) Ibid.

(43) Ibid.

(44) Ibid.

(45) Ibid.

(46) Ibid.

(47) Ibid.

(48) “Truth and Reconciliation Commission of South Africa Report,” Finding Victims, Vol. 7, (August 2002): 1.

(49) Moments in U.S. Diplomatic History, “South Africa’s Truth and Reconciliation Commission”, Interview with Monica Joyi, “accessed November 2, 2019”. https://bit.ly/37cX89Q.

(50), Diane F. Orentlicher “Settling Accounts: The Duty to Prosecute Human Rights Violations of a Prior Regime” in Transitional Justice How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Vol. I General Considerations, Neil J. Kritz, ed., (Washington, D.C.: United States Institute of Peace Press, 1995), 380-81.

(51) Amnesty International, “Policy Statement on Impunity” in Transitional Justice How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Vol. I, General Considerations, Neil J. Kritz, ed., (Washington, D.C.: United States Institute of Peace Press, 1995), 219-220. and Human Rights Watch. “Policy Statement on Accountability for Past Abuses” in Transitional Justice How Emerging Democracies Reckon with Former Regimes, Vol. I, General Considerations, Neil J. Kritz, ed., (Washington, D.C.: United States Institute of Peace Press, 1995), 217-218.

(52) Nick Grono, “Peace versus justice? Understanding Transitional Justice in Fragile States,” ODI, October 9, 2009, “accessed November 3, 2019”. https://bit.ly/2Q922zn.

(53) Ibid.

(54) Mahmood Mamdani, “Amnesty or Impunity? A Preliminary Critique of the Report of the Truth and Reconciliation Commission of South Africa (Trc),” Diacritics, Vol. 32, no. 3, (2002): 33-59.

(55) Kader Asmal, “Victims, Survivors and Citizens–Human Rights, Reparations and Reconciliation,” South African Journal on Human Rights, Vol. 8, no. 4, (1992): 498.

(56) Susan Slyomovics, “Morocco’s Justice and Reconciliation Commission,” Middle East Report Online, April 04, 2005, “accessed November 3, 2019”. https://bit.ly/2MABvJ2.

(57) برنامج تحت المجهر، حلقة “جوهر المصالحة”، الجزيرة، 30 أغسطس/آب 2013.

(58) برنامج تحت المجهر، حلقة “جوهر المصالحة”، الجزيرة، 30 أغسطس/آب 2013.

(59) Slyomovics, “Morocco’s Justice and Reconciliation Commission,” op, cit.

(60) هيئة الإنصاف والمصالحة، الكتاب الأول: الحقيقة والإنصاف والمصالحة، (تاريخ الدخول: 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2019): https://bit.ly/357cnQp.

(61) “Final report of the Moroccan Equity and Reconciliation Commission,” January 16, 2006,

(62) هيئة الإنصاف والمصالحة، الكتاب الأول: الحقيقة والإنصاف والمصالحة، مرجع سابق.

(63) Human Rights Watch, “Morocco’s Truth Commission: Honoring Past Victims during an Uncertain Present,” November 2005, Vol. 17, no. 11(E).

 (64) Ibid.

(65) Slyomovics, “Morocco’s Justice and Reconciliation Commission,” op, cit.

(66) Human Rights Watch, “Morocco’s Truth Commission: Honoring Past Victims during an Uncertain Present,” op, cit.

(67) Human Rights Watch, “Recommendations to Moroccan Authorities,” Vol. 17, 11(E).

(68) Slyomovics, “Morocco’s Justice and Reconciliation Commission,” op, cit.

(69) Human Rights Watch, interview, Rabat, October 20, 2004.

(70) Human Rights Watch, interview, Rabat, April 6, 2005.

(71) “Trois questions à Driss Benzekri, président de l’instance équité et réconciliation,” Le Monde, April 13, 2005.

(72) “Message of Mohamed VI to the 49th congress of the International Union of Lawyers on August 31, 2005”, “accessed November 4, 2019”. https://bit.ly/2Q6IhIu.

(73) Human Rights Watch, “Morocco’s Truth Commission: Honoring Past Victims during an Uncertain Present,” op, cit.

(74) محمد بودهان، “لماذا لم تنجح تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب؟”، هسبرس، 1 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2019): https://bit.ly/2SLamHh.

(75) Ali Bouabid, secretary-general of Abderahim Bouabid Foundation (Center for democratic debate) in Morocco.

(76) Charles (Chip) Hauss, Reconciliation, September 2003.

(77) Gabrielle Lynch, Misleading Myth of Truth Commissions, Mail & Guardian, September 7, 2018, “accessed November 4, 2019”. https://bit.ly/3566X8i.

(78) James L. Gibson, “On Legitimacy Theory and the Effectiveness of Truth Commissions,” Duke University, Vol. 72, no. 123.

(79) Human Rights Watch, “Morocco’s Truth Commission: Honoring Past Victims during an Uncertain Present,” op, cit.

(80) Johan Galtung, “Violence, Peace, and Peace Research,” Journal of Peace Research, Vol. 6, no. 3, (1969): 167–191.

(81) Priscilla B. Hayner, Unspeakable Truths: Confronting State Terror and Atrocity (New York: Routledge, 2001).

(82) Kathleen Daly, “Restorative justice: the real story,” in Gerry Johnstone, Ed., A restorative justice reader: texts, sources, context (Cullompton, UK, Portland, Or: Willan, 2003), 368.

(83) Lynch Misleading Myth of Truth Commissions, op, cit.

(84) Gibson, “On Legitimacy Theory and the Effectiveness of Truth Commissions,” op, cit.

 (85) محمد بودهان، “لماذا لم تنجح تجربة “العدالة الانتقالية” في المغرب؟”، مرجع سابق.

(86) United Nations Human Rights Office of the Commissioner, “Transitional justice and Economic, Social and Cultural Rights,” 2014.

(87) Stephen Winter, “Towards a Unified Theory of Transitional Justice,” International Journal of Transitional Justice, Vol. 7, no, 2, (2013): 224-44.

(88) Jennifer Balint, al., Rethinking Transitional Justice, Redressing Indigenous (Harm: A New Conceptual, 2014).

(89) Howard Zehr, Ali Gohar, The Little Book of Restorative Justice, (Pennsylvania: Good Books, 2003), 10

(90) Makau Mutua, “What Is the Future of Transitional Justice?,” International Journal of Transitional Justice, Vol. 9, Issue 1, March 2015.