ملخص
تتناول هذه الدراسة إستراتيجيات التوازن في علاقة الآباء المؤسسين لدولة قطر: الشيخ محمد بن ثاني (1788-1878)، والشيخ جاسم بن محمد (1827-1913)، والشيخ عبد الله بن جاسم (1871-1957) مع الإمبراطوريتين، العثمانية والبريطانية. فتشرح المحدِّدات الموضوعية لتلك الإستراتيجيات، وهي: السياق التاريخي، والقيود الجغرافية، وموازين القوة، وحجم الأخطار، مع إبراز العوامل الذاتية، كالبراعة القيادية، والقُربَى الثقافية. كما تكشف الدراسة عن الموجِّهات الأساسية لتلك العلاقات، وهي: الولاء الجزئي المتحفِّظ، والتمسُّك باستقلال القرار، والمرونة التكتيكية. ثم تربط الحاضر بالماضي، كاشفة عن الجذور التاريخية للسياسة الخارجية في دولة قطر الحديثة.
كلمات مفاتيح: قطر، إستراتيجية، سياسة خارجية، الإمبراطورية العثمانية، الإمبراطورية البريطانية.
Abstract
This study examines the balancing strategies adopted by the founding fathers of the State of Qatar – Sheikh Mohammed bin Thani (1788-1878), Sheikh Jassim bin Mohammed (1827-1913), and Sheikh Abdullah bin Jassim (1871-1957) – in their relations with the Ottoman and British Empires. It accounts for the objective parametres that shaped these strategies, namely: the historical context, geographical constraints, balance of power and magnitude of threat. It also highlights subjective factors, including the founding fathers’ capacity for leadership and cultural affinities. The study further identifies the essential characteristics of these relations, which consisted of cautious partial allegiance, strategic autonomy and tactical flexibility. Finally, it links the present to the past by uncovering the historical roots of Qatar’s contemporary foreign policy.
Keywords: Qatar, strategy, foreign policy, Ottoman Empire, British Empire
مقدمة
تتناول هذه الدراسة إستراتيجيات التوازن التي انتهجها الآباء المؤسِّسون لدولة قطر في علاقاتهم بكل من الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية، لتجيب على إشكاليتين، هما: ما طبيعة إستراتيجيات التوازن التي اتبعها الآباء المؤسسون لدولة قطر في علاقتهم بالعثمانيين والبريطانيين؟ وما المحدِّدات الذاتية والموضوعية التي حكمت سلوكهم السياسي لتحقيق هذ التوازن؟ والمقصود بالآباء المؤسسين هنا هم الحكام الثلاثة الأوائل لدولة قطر في المئة سنة الأولى من عمرها، وهم: الشيخ محمد بن ثاني (1788-1878)، والشيخ جاسم بن محمد (1827-1913)، والشيخ عبد الله بن جاسم (1871-1957).
كما أن المقصود بالتوازن هنا أمران، أولهما: التوازن الذاتي في علاقة هؤلاء القادة بكل من الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية العثمانية؛ حيث إن هذه العلاقة وفَّرت لقطر مظلة إستراتيجية كانت في أمَسِّ الحاجة إليها يومَ كانت دولة جديدة وليدة، دون أن تتحول العلاقة إلى تبعية سلبية لأيٍّ من الدولتين العظميين. والثاني: التوازن الدقيق في التوفيق بين العلاقات بكل من الدولتين المتنافستين؛ بحيث استفاد حكام قطر من التناقض بينهما في تعزيز استقلال قرارهم، والمحافظة على سيادتهم.
وتنتهج الدراسة المنهج التحليلي التاريخي المقارِن لكشف جهود القادة الثلاثة في تحقيق هذا التوازن، آخذة في الاعتبار المحدِّدات الموضوعية التي وجَّهتْهم، وهي: السياق التاريخي، والقيود الجغرافية، وموازين القوة، وحجم الأخطار. مع إبراز العوامل الذاتية، ومنها البراعة القيادية، والقُربَى الثقافية. وسيتَّضح من هذه الدراسة أن الآباء المؤسسين الذين تتناولهم هذه الدراسة كانوا مدركين -بحاسَّتهم القيادية الفطرية- لأهمية شبه الجزيرة القطَرية للقوى الدولية، خصوصًا الإمبراطورية العثمانية ذات الحضور التاريخي القديم في منطقة الجزيرة العربية والخليج، والإمبراطورية البريطانية المتوغلة في المنطقة من جهتيْ الهند ومصر. كما كانوا مدركين للإمكان المتاح تحت أيديهم، وهو موقع قطر المتميز، فاستثمروا في هذا الإمكان لتحقيق أعظم المكاسب الممكنة لقطر وشعبها، من خلال علاقات متوازنة مع هاتين الإمبراطوريتين. وهذا أمر يصدُق على عهد الشيخ جاسم أكثر من غيره، لظروف وملابسات سنشرحها لاحقًا.
ويهتم الباحثان هنا -في المقام الأول- بالتأكيد على الاستمرارية التاريخية في إستراتيجية التوازن القطَرية، والبرهنة على أنها قديمة قدم الدولة القطرية ذاتها. ولعل في ذلك إسهامًا في تفسير التاريخ السياسي القطري، وفي مجال الدراسات الإستراتيجية المهتمة بقطر، وبالدول الصغيرة -بالمفهوم المتداوَل في العلاقات الدولية- بشكل عام. فربط الماضي بالحاضر، والكشف عن منطق الإستراتيجيات الدبلوماسية لدولة قطر في جذورها التاريخية هما أهم الإسهامات المرجوة من وراء هذه الدراسة.
تأسيس نظري ممهِّد
إن أهم مفتاح تحليلي لهذه الدراسة هو مفهوم التوازن، وهو من أهم مفاهيم علم العلاقات الدولية اليوم. والمقصود بالتوازن هنا سعي الدولة إلى تحقيق الاستقرار في بيئتها الإستراتيجية بما يضمن حرمان أي دولة أخرى -أو مجموعة من الدول- من تهديدها، أو فرض هيمنتها عليها. ويستند هذا المفهوم تقليديًّا إلى نظرية “توازن القوى” التي نظَّر لها رائد المذهب الواقعي في العلاقات الدولية، هانس مورغنثاو (1904-1980). وقد ذهب مورغنثاو إلى أن ما ينقذ الدول الصغرى من سطوة الدول الأخرى هو واحد من ثلاثة عوامل: تحقيقها لشيء من توازن القوى، أو استظلالها بمظلة دولة كبرى، أو عدم جاذبيتها للقوى الإمبراطورية(1). ونظرًا لأن قطر بموقعها المتوسط على ضفة الخليج الغربية ذات أهمية جيوستراتيجية كبيرة، وأن قادتها كانوا دائمًا على إدراك تام بهذه الأهمية، فيجب البحث في العاملين، الأول والثاني.
وقد أضاف منظِّر العلاقات الدولية، ستيفن وولت، إلى نظرية توازن القوى نظرية أخرى، هي “نظرية تـوازن الأخطار”(2) التي تركز على دراسة المخاطر التي ترى الدول أنها تهددها، والإجراءات التي تتخذها لدرء تلك الأخطار. وادَّعى وولت أن نظرية توازن الأخطار تفسر سلوك الدول بشكل أفضل من نظرية توازن القوى، وهو يقترحها بديلًا عنها فيما يتعلق بدول الشرق الأوسط، والمخاوف التي تعتريها(3). وبغضِّ النظر عن هذا الادعاء، فإن نظرية توازن الأخطار نظرية مفيدة، ومفهوم تحليلي مهم، لفهم سلوك الدول، خصوصًا الدول الصغرى التي لا تملك مساحات واسعة أو شعبًا وافر العدد. ويتحقق التوازن في علاقات الدول بأساليب وآليات كثيرة، منها بناء القوة الصلبة والقوة الناعمة. ومنها بناء التحالفات التي تحمي من التجاوزات والمطامع غير المشروعة تجاه الدولة(4). وهذا أمر مهم بالنسبة لحالة قطر المدروسة هنا.
فمفهوم توازن القوى وتوازن الأخطار من أهم الأسس النظرية لهذه الدراسة. ويمكن أن نضيف إليهما مفهوم “القُرْبَى الثقافية” الذي صاغه صمويل هنتنغتون، وهو يقصد به العلاقة الوجدانية بين الدول المنتمية إلى حضارة واحدة؛ ذلك أن “الحضارة أُسْرة ممتدَّة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنًّا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب”(5). ومفهوم القربى الثقافية هو الذي يفسر لنا ميل الآباء المؤسسين لدولة قطر إلى العثمانيين على حساب البريطانيين، ومتانة العلاقة بين الشيخ جاسم والدولة العثمانية، وصمود تلك العلاقة أمام المعضلات الصعبة التي اعترضتها.
وليس المقصود بالتوازن في هذه الدراسة توازن القوة الصلبة بمعناها المادي التقليدي فقط، بل إن التوازن قد يتحقق من خلال المناورات الدبلوماسية، وبناء التحالفات، كما يتحقق بالتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري. وفي حالة الدول الصغيرة عمومًا يتحقق التوازن في العادة من خلال استخدام ما دعاه جوزيف نايْ “القوة الناعمة” و”القوة الذكية” أكثر مما يتحقق بالقوة الصلبة الخشنة. وقد عرَّف نايْ القوة الناعمة بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجاذبية، بدلًا من الحصول عليه بالإكراه أو بالمقايضة”(6). أما القوة الذكية فعرَّفها ناي بأنها تركيب من القوة الصلبة والقوة الناعمة(7). ومن مظاهر القوة الناعمة الاستعمال الفعَّال للإعلام والدبلوماسية.
ونظرًا لأن قطر كانت شحيحة الموارد خلال الحقبة التي ندرسها هنا، فإن الدبلوماسية كانت هي العامل الأهم في رأسمالها السياسي، خصوصًا في عهد الشيخ جاسم. ولم يصبح المال عنصرًا من عناصر القوة السياسية القَطَرية إلا في ختام هذه الحقبة، على عهد الشيخ عبد الله بن جاسم، بعد اكتشاف النفط والغاز. وقد توسعت القوة الناعمة والقوة الذكية القطرية كثيرًا، خصوصًا في العقود الثلاثة الماضية، لكن هذه العقود الأخيرة لا تدخل ضمن الحيز الزمني لهذه الدراسة.
وإنما نكتفي هنا -ربطًا للحاضر بالماضي- بالإشارة إلى أن الباحثين في الشأن القطَري اليوم متفقون تقريبًا على أن مفهوم التوازن يقع في القلب من إستراتيجيات دولة قطر. فهذا كريستين أولريكسن -على سبيل المثال- يكتب: “إن التوازن البراغماتي في علاقات القوة، والاعتراف بأن أمن الدول الصغيرة في البيئات المضطربة يعتمد على العون الخارجي، هما جناحا إستراتيجية البقاء التي تنتهجها قَطَر”(8). وقد وصف برند كوسلر إستراتيجية دولة قطر بأنها إستراتيجية “التوازن الدقيق”(9)، كما نعتتها هدى بيطار بأنها إستراتيجية “التوازن الشامل”(10). ويشير بعض هؤلاء الباحثين إلى أسس إستراتيجية التوازن القطرية اليوم، ومنها: استخدام القوة الناعمة بفاعلية، والتموقع الإستراتيجي الذكي، والصلابة في المواقف، والتميز في مجالات حيوية مخصوصة. وكشف عدد من الدراسات عن قطر المعاصرة تبنِّيها لهذه المبادئ، ونجاحها في تطبيقها(11).
لكن تقدير هذا الأمر حقَّ قدره يحتاج غوصًا في تاريخ قطر، وتأملًا في سياسات آبائها المؤسسين، وما بذروه من بذور، ووضعوه من أسس. ذلك أن قطر -كما لاحظ فرومهيرزْ بحقٍّ- “مطبوعة بطابع تاريخها ونسيجه”(12). من هنا تركَّز هذا البحث على الكشف عن الجذور التاريخية لإستراتيجيات التوازن القطرية، خصوصًا في عهد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني. على أننا لا نرى الشيخ جاسم منفصلًا تمامًا عمَّن قبله ومَن بعده، بل نراه امتدادًا مكثَّفًا لوالده الشيخ محمد بن ثاني الذي بذر بذور الدولة، وأشرف على ميلادها بتجميع القبائل ودمْجِها في كيان سياسي واحد، ورسَم الخطوط الأولى لعلاقاتها بالقوى الإمبراطورية المتوغلة في المنطقة.
ثم تكثَّف هذا المسار وتعمق في عهد الشيخ جاسم، في شكل استخدام العلاقة بالدولة العثمانية لمنع بريطانيا من احتلال قطر، واستخدام العلاقة ببريطانيا لمنع التدخل العثماني من ملامسة الحدود التي تصادر استقلال القرار القطري. وتابع نجله، الشيخ عبد الله، هذا المسار، لكن في سياق مختلف انطبع بطابع الاستفراد البريطاني بالنفوذ في الخليج. ولا تزال إستراتيجيات التوازن الدقيق التي سَنَّها أولئك الآباء المؤسِّسون سائدة في السياسة الخارجية القطرية حتى اليوم.
مواريث سياسية حيَّة
لقد صنَّف المؤرخ الأميركي، ديفيد فرومكين (1932-2017)، دول الشرق الأوسط المعاصرة -باعتبار ظروف ميلادها- ثلاثة أصناف: صنف صنعه التراكم التاريخي، وصنف صنعه رجال محليون أقوياء، وصنف صنعته الإمبراطورية البريطانية(13). وتكشف لنا هذه الملاحظة الثمينة عن الدور العظيم الذي اضطلع به الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني في ميلاد دولة قطر المعاصرة، وهو دور يجعل قطر تدخل ضمن الصنف الثاني من تصنيفات فرومكين، وهو الدول التي صنعها رجال محليون أقوياء. على أن ما يتناوله هذا البحث هو مظهر واحد من مظاهر الحياة السياسية للشيخ جاسم، وهو نجاحه في اتباع إستراتيجيات توازن فعالة في علاقته بالإمبراطوريتين العظيمتين المهيمنتين على المنطقة في أيامه، وهما الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية البريطانية، طوال فترة حكمه التي امتدت نحو خمسة وثلاثين عامًا.
ورغم أن كلًّا من القادة الثلاثة الذين دعوناهم هنا “الآباء المؤسسين” لدولة قطر حقَّق قدرًا من التوازن المقصود، فقد تركَّز البحث على مرحلة حكم الشيخ جاسم لأنها الأطول زمنًا، والأشدُّ تعقيدًا من الناحية الدبلوماسية. وليس ذلك تقليلًا من شأن المنجزات السياسية لوالده، الشيخ محمد، ونجله، الشيخ عبد الله، أو من شأن التحديات التي واجهاها، بل هو مجرد مراعاة للسياق التاريخي. فقد كانت مرحلة حكم الشيخ محمد (1851-1878) فترة توحيد القبائل وزرع بذرة الدولة، وقد وصف الضابط والمؤرخ العراقي، العميد محمود بهجت سنان، الشيخ محمدًا بأنه “كان رجلًا تقيًّا ورِعًا، محبًّا للخير”(14)، لكن عهده لم يشهد تفاعلًا كبيرًا مع القوى الكبرى. كما جاء حكم الشيخ عبد الله (1913-1949) بعد أن ترجَّح ميزان القوى في المنطقة لصالح البريطانيين، وأصبح تحقيق التوازن بينهم وبين العثمانيين بعيد المنال.
أما فترة حكم الشيخ جاسم (1878-1913)، فقد اتَّسمت بتداخل المساحات بين العثمانيين والبريطانيين، وشدة التجاذب بينهما؛ مما ألقى بظلال كثيفة على قطر. ففي عهد الشيخ جاسم تحديدًا تتضح معالم المناورات الدبلوماسية والتوازنات الدقيقة التي حافظت لقطر على استقلال قرارها ومصالحها الحيوية، ككيان سياسي وليد، قادر على الحركة المرنة في مساحات التصدُّع بين القوى الكبرى، لكنه لا يقبل أن يضيع في ألاعيب الكبار، أو يغرق في صراعاتهم، بل يلعب على طاولة الكبار بثقة كبيرة في النفس، رغم تفاوت القوة والأحجام. ولا يزال هذا المنحى حاضرًا في دولة قطر المعاصرة، على نحو ما شرحه بإسهاب مهران كمرافا في كتابه: “قطر.. دولة صغيرة وسياسات كبيرة”(15).
لقد كانت قطر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين -وهي الفترة الخاضعة للدراسة هنا (1851-1949)- مجال شدٍّ وجذبٍ بين أكثر من طرف، ولم يكن من السهل على قادتها الحفاظ على بقاء دولتهم الوليدة، الصغيرة الحجم، الشحيحة الموارد، القليلة السكان، بين أمواج متلاطمة من الصراعات الإقليمية والدولية. لكن الآباء المؤسسين للدولة نجحوا في ذلك عبر إستراتيجيات التوازن في علاقتهم بالعثمانيين والبريطانيين، وهي خمس إستراتيجيات:
- منح ولاء جزئي متحفظ لكلتا الإمبراطوريتين دون التزام مطلق.
- المحافظة على استقلال القرار القطري عنهما في كل الظروف.
- استغلال التناقض بينهما لدرء الهيمنة الكاملة لأي منهما على قطر.
- تفادي المخاطر التي قد تلحق بقطر جرَّاء سياسات أيٍّ منهما.
- الاحتفاظ بالمرونة التكتيكية في التعامل معهما في كل الأحوال.
ولعل أهم هذه الإستراتيجيات -وأبقاها في التاريخ القطري الحديث- هو المحافظة على استقلال القرار. فهو أمر يضرب بجذوره في التاريخ القطري منذ ميلاد هذه الدولة منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم، وهو أمر لا تزال قطر متشبثة به، رغم ما دفعته من أثمان في سبيل المحافظة عليه.
إن دراسة المرحلة التكوينية من تاريخ قطر تكشف عن أن إستراتيجيات التوازن التي تتبناها دولة قطر اليوم لها جذور عميقة في تاريخها وأنها امتداد طبيعي لما تبنَّاه آباؤها المؤسسون من إستراتيجيات سياسية ودبلوماسية، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وقد أدرك بعض الباحثين الغربيين هذه الاستمرارية التاريخية، فهذا أولريكسن -مثلًا- يلاحظ أن سياسات قطر في عهد الشيخ جاسم “مؤشِّر مبكِّر على الطريقة التي تستطيع بها الدول الصغيرة تبنِّي إستراتيجياتِ بقاءٍ، من خلال التوازن بين الأمن الداخلي والخارجي، لدرء بعض الاتجاهات الإقليمية الخطرة”(16).
من القبيلة إلى الدولة
إن الدور العظيم الذي اضطلع به الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، حتى اشتهر بلقب “المؤسس”، لم يأت من فراغ. فالتطورات الاجتماعية والسياسية في عهد والده الشيخ محمد بن ثاني مهدت الأرضية له، ولسياسات التوازن التي اتَّبعها. فحينما قاد الشيخ جاسم انتقال المجتمع القطري مما يشبه الكونفيدرالية القبلية الرخوة إلى كيان سياسي مُوحَّد القرار، ومحدَّد المعالم، فإنه كان يبني على تراث والده الشيخ محمد، وينمِّي البذور التي بذرها.
فقد شهد مطلع القرن الثامن عشر موجات هجرة من قلب الجزيرة العربية، ومنها هجرة القبائل التي استقرَّت في شبه جزيرة قطر. ومن نتائج الهجرة إلى قطر أن هذه القبائل انتقلت من حياة البداوة والترحل في الصحراء إلى حياة الاستقرار الحضري على السواحل، بكل ما يحمله ذلك من أنماط عيش وأعراف سياسية غير مألوفة في الصحراء. وكان من آثار ذلك -كما لاحظت روزماري سعيد زحلان- أن رجال القبائل البدوية التي انتقلت إلى قطر “تفرغوا لحياة البحر، وهي نمط حياة يضمن عيشًا أفضل من حياة الرعي في الصحراء. وعلى مرِّ السنين أصبحوا بحَّارة متمرِّسين، وصيادين مَهرَة. كما تكيَّفوا مع تجارة اللؤلؤ بكل مظاهرها”(17).
ثم بدأ يتطور في قطر نظام للحكم يشبه الحِلف القبَلي الكونفيدرالي العريض، الذي يتأسس على الأعراف والهياكل القبلية، دون إدارة مركزية موحَّدة القرار. فكان شيوخ القبائل يجمعون بين القرارات الإدارية والإجراءات القضائية، ويديرون شؤون قبائلهم بقدر كبير من الاستقلالية، في تداخل وتشابك بين استقلال القبيلة، واندماجها النسبي في الحلف العريض، وتبدُّل دائم لمراكز القوة والتأثير داخل هذه المنظومة المرنة. لكن الوعي بالهوية السياسية الواحدة كما تعرفه الدول المعاصرة لم يبدأ بشكل واضح إلا مع صعود الشيخ محمد بن ثاني إلى الصدارة، منتصف القرن التاسع عشر.
وهنا بدأ الإحساس بالهوية الاجتماعية الجامعة يتبدل إلى إحساس بالكينونة السياسية الواحدة، وذلك حينما “برز الشيخ محمد بن ثاني شيخًا حاكمًا لكامل شبه الجزيرة القطرية”(18)، عام 1851، كما لاحظ حبيب الرحمن. وكان من أهم منجزات الشيخ محمد الدبلوماسية نجاحُه في الحصول على اعتراف رسمي من الإمبراطورية البريطانية الصاعدة في المنطقة حينها، من خلال اتفاقية وقَّعها مع المندوب البريطاني في بلاد فارس، العقيد لويس بيلي (1825-1892)، عام 1868، واعترفت فيها بريطانيا بسلطة الشيخ محمد باعتباره “شيخ قطر” بلا منازع(19).
ومن المهم هنا ألَّا نبالغ في قيمة هذا الاتفاق في تأسيس دولة قطر المعاصرة، كما فعل بعض الباحثين الذين يعتمدون على الأرشيف البريطاني في قراءة تاريخ المنطقة(20). وهو أرشيف يحمل تحيزات المستعمرين البريطانيين ونظرتهم المتعالية إلى المنطقة وأهلها. بينما تقتضي الموضوعية والجِدُّ البحثي الرجوع أيضًا إلى الأرشيف العثماني الثري. والأهم من ذلك الرجوع إلى السردية التاريخية القطرية ذاتها، وهي متاحة في مصادر وافرة باللغة العربية.
فالتحيز الناتج عن الاعتماد المفرط على الأرشيف البريطاني جعل بعض الباحثين الغربيين يعتبرون لقاء الشيخ محمد بن ثاني مع العقيد بيلي هو اللحظة التأسيسية لدولة قطر المعاصرة، وشهادة ميلادها الرسمية. فروزماري زحلان تَعُدُّ ذلك اللقاء “من أهم العوامل” في ميلاد قطر كدولة(21)، وحبيب الرحمن عدَّه “تغييرًا جوهريًّا في وضع قطر السياسي”(22)، وأولريكسن عدَّ هذا اللقاء والتخلص من المطامح البحرينية “ضمانًا للاعتراف الدولي بالمشيخة”(23). ومن المؤكد أن اتفاقية عام 1868 كانت إنجازًا دبلوماسيًّا مهمًّا للشيخ محمد الذي كان يطمح يومها إلى “تأسيس قاعدة دائمة لسلطته على الأرض” القطرية، كما لاحظ فرومهيرز(24)، ونجح في انتزاع اعتراف بريطاني صريح بقطر إمارة مستقلة.
لكن الذين يبالغون في أهمية اتفاق عام 1868، فيعتبرونه شهادة الميلاد لدولة قطر، ويهملون أهمية الجهد الذاتي الذي بذله الآباء المؤسسون، والمنجزات السياسية التي حققوها في هذا المضمار، يرتكبون عدة أخطاء تاريخية: منها الغفلة عن أن غاية البريطانيين من الاتفاقية كانت حماية البحرين من قطر أكثر من حماية قطر من البحرين. ولذلك ورد في المواد الثالثة والرابعة والخامسة من الاتفاقية تعهُّدٌ من الشيخ محمد بن ثاني بعدم التدخل في الصراعات الداخلية بين أمراء البحرين التي كانت تحت الحماية البريطانية آنذاك، وألَّا يتعرض للسفن العابرة مياه الخليج(25).
ومن هذه الأخطاء أيضًا الغفلة عن أن قطر وقَّعت بعد هذه الاتفاقية بثلاث سنين فقط -عام 1871- حلفًا عسكريًّا وسياسيًّا وثيقًا مع الإمبراطورية العثمانية. وقد دخلت قطر في ذلك العام رسميًّا تحت المظلة العثمانية. ولو كانت قيادة قطر تعد اتفاقية عام 1868 حدثًا تأسيسيًّا لها كدولة لكانت دخلت تحت الحماية البريطانية، كما كانت الحال مع إمارات عربية أخرى على سواحل الخليج. والواقع أن قطر لم تدخل تحت المظلة البريطانية إلا بعد هذا التاريخ بنصف قرن، وبعد انهيار الدولة العثمانية، وانحسار نفوذها في المنطقة كلها. فلم تتضمن اتفاقية عام 1868 حماية بريطانية لقطر، على نحو ما حدث مع مشيخات أخرى في ساحل الخليج منذ بداية عام 1820.
إن عدم الانتباه لجوهر الموضوع المهم الذي تركز عليه هذه الدراسة، وهو إستراتيجيات التوازن التي اتبعها الآباء المؤسسون لدولة قطر في العلاقة بالبريطانيين والعثمانيين، قاد إلى تشوُّشٍ في تصور تلك الحقبة التكوينية من تاريخية قطر، وتجاهلٍ للجهد الذاتي الذي بذله الآباء المؤسسون في ميلاد هذه الدولة، وإبراز الجهد الخارجي، خصوصًا البريطاني، في هذا المضمار. وقد تجسَّدت إستراتيجيات التوازن هذه أكثر ما تجسَّدت في عهد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني، وهذا ما نتجه إلى بيانه الآن.
قائد متعدد المواهب
تزامن عهد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مع الحقبة العثمانية من تاريخ قطر، أي الفترة التي توثَّقت فيها روابط قطر بالدولة العثمانية، واستظلَّت بظلالها، بعد أن امتد نفوذ العثمانيين إلى سواحل الخليج. وهي الفترة الممتدة من 1871 إلى 1916. فالشيخ جاسم “برز وأصبح مركز ثقل القوة في قطر خلال الحقبة العثمانية”(26)، وكان له الدور الأبرز في صياغة هوية قطر السياسية في تلك الحقبة وما تلاها. وقد وصفت روزماري زحلان الشيخ جاسم بأنه “كان رجلًا عنيدًا، ومُجازفًا أحيانًا… مع صلابة وشجاعة”(27). ويبدو لنا أن هذا اختزال لشخصيته المركَّبة. فقد كان الشيخ جاسم قائدًا متعدِّد المواهب، ذا شخصية كاريزمية جعلته يكسب ثقةَ أهل قطر واحترامَهم، ويجمع كلمتهم حول فكرة الدولة التي ليس لهم سابقُ عهدٍ بها. وقد جمع إلى ذلك ذكاءً سياسيًّا فطريًّا، وتركيزًا على الغاية التي سعى إلى تحقيقها، وقدرة على احتواء الكتل الاجتماعية المختلفة، وهو أمر ضروري لنقل مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة، ومرونة دبلوماسية في التعاطي مع القوتين العظميين اللتين كانتا تتقاسمان النفوذ في الخليج يومها، كما سنرى.
وُلِد الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني عام 1827، وتلقى تربية إسلامية متينة في طفولته، كما تلقى تكوينًا عسكريًّا رصينًا وهو شاب يافع، فاكتسب مهارات متعددة في عمر مبكر. وتفتقت مواهبه في سنوات شبابه، فأصبح فارسًا متمرسًا، وشاعرًا بليغًا، وقائدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا. فلا عجب أن يصبح الرجل الذي جمع كل هذه المواهب والإسهامات في تاريخ قطر محور السردية الوطنية القطرية، وأن يشتهر بلقب “المؤسِّس” في المجتمع الأهلي القطري. ومن أهم مظاهر ذلك أن اليوم الوطني لدولة قطر الذي بدأ الاحتفال به يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2007 هو اليوم الذي تولى فيه الشيخ جاسم مقاليد الحكم، عام 1878، وليس يوم رحيل قوة الوصاية البريطانية، كما درجت عليه الدول الأخرى.
وقد وصف المؤرخ العسكري العراقي، محمود بهجت سنان، الشيخ جاسم بأنه كان “يتصف بالورع والتقوى ويكرم رجال العلم والدين. وبجانب ذلك كان يتصف بالسياسة الرشيدة، وحسن الإدارة، وطيب النفس. فقد أحبَّته القبائل ودانت له بالولاء”(28). وكان الشيخ جاسم ملمًّا بالفقه الإسلامي إلمامًا حسنًا، حتى عُدَّ من فقهاء الحنابلة، فترجم له الشيخ عبد الله آل بسام (1924-2004) ضمن علماء نجد في كتابه: علماء نجد خلال ثمانية قرون(29). ورسم مؤلِّف هذا الكتاب الموسوعي شخصية الشيخ جاسم المركَّبة، ومواهبَه المتعددة؛ فذكر عِظَم مكانته في قطر؛ حيث إنه “هو فيها كل شيء” حسب تعبيره. ثم رسم جوانب من هذه الشخصية فقال: إن الشيخ جاسم هو:
“عالِمُ البلاد وفقيهُها الذي تصدر منه الفتاوى والتوجيهات الشرعية. وهو أمير البلاد وحاكمها، ومنفِّذ أمورها، بلا منازع في ذلك. وهو القاضي الذي تصْدُر منه الأحكام بين الخصوم. وهو خطيب الجامع في الجُمَع والأعياد. وهو التاجر الكبير الذي يملك أسطولًا من السفن… للغوص ونقل البضائع…، وهو المنفق المحسن الذي يجمع الأموال لينفقها في سبيل البِرِّ والإحسان. وهو المسيطر على البلاد في جميع نواحي مرافقها وأعمالها، إلا أنه ساسها بالعدل والحكمة والرحمة، حتى أحبَّته رعيَّته… وهو… صاحب وفاء، وصاحب صلة رحم، وصاحب إنصاف وعدل”(30).
وتعزو الباحثة بدور القحطاني هذه الصفات في شخصية الشيخ جاسم إلى تربيته الإسلامية العميقة، خصوصًا أثر القرآن الكريم في شخصيته(31). وكان الشيخ جاسم على تواصل مع عدد من علماء الإسلام في الجزيرة العربية والعراق والهند(32)، وطبع كتب بعضهم على نفقته الخاصة، ومنهم العالم الأديب العراقي، محمود شكري الآلوسي (1857-1924)، الذي أثنى على الشيخ جاسم، ووصفه بأنه “من خيار العرب الكرام، مواظب على طاعاته، مداوم على عبادته وصلواته، من أهل الفضل والمعرفة بالدين المبين… وبيني وبينه محبَّة غَيْبية، ومكاتبات لطيفة”(33). ووثَّق الآلوسي جانبًا من المراسلات بينه وبين الشيخ جاسم بشأن طبع أحد كتبه(34). كما أوقف الشيخ جاسم جزءًا من أمواله لرعاية الأيتام، ولذلك رثاه الشاعر السعودي الكبير، محمد بن عثيمين (1854-1944)، بقوله:
مضى كافل الأيتام في كل شَتْوةٍ وموئلُ مَن ضاقت عليه مذاهبهْ
نعيتَ امْرءًا للبِرِّ والدِّين سعيُـه وللجُود والمعروف ما هو كاسِبُـــــهْ(35)
وسنرى فيما بعدُ كيف أثَّرت هذه الخلفية الإسلامية في اختيارات الشيخ جاسم السياسية، خصوصًا في ميله إلى العثمانيين المسلمين على حساب البريطانيين المسيحيين.
وقد برهن الشيخ جاسم خلال فترة حكمه الطويل على مهارته في تحقيق التوازن بين الفاعلين الدوليين من ذوي التأثير على دولة قطر الناشئة. واعترف له عدد من الباحثين المعاصرين بالبراعة في هذا المجال. فهذا جيم كرينْ وستيفن رايتْ -على سبيل المثال- يكتبان: “كان الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني -منذ عام 1900- رائدًا في موازنة بعض القوى الكبرى ببعض، واتخاذ ذلك وسيلة لتحقيق الأمن، دون الاعتماد على قوة واحدة بعينها”(36). كما أشاد أولريكسن بالذكاء السياسي الذي اتسم به الشيخ جاسم، وأبرز إستراتيجية التوازن بين العثمانيين والبريطانيين التي انتهجها في هذا المضمار، فقال:
“لقد قبِل الشيخ جاسم بن محمد قبولًا براغماتيًّا بوجود حامية عسكرية عثمانية في شبه الجزيرة [القطَرية]، وحصل مقابل ذلك على الاعتراف العثماني به حاكمًا (قائمقام) على قطر. وكان هذا الفعل الموازِن للعلاقات بين القوَّتين الإقليميتين الرئيسيتين، بما ضَمِنه من الاعتراف بدولة قطر، وتحصينها من أي ادِّعاءات بحرينية في أرضها، هو الذي أكسب الشيخ جاسم بن محمد سمعته التي اشتهر بها، باعتباره المهندس الذي صاغ شكل دولة قطر المعاصرة”(37).
لقد واجه الشيخ جاسم تحديات جسيمة، أهمها تحقيق التوازن بين الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية العثمانية. ونجح في ذلك بفضل انتهاجه إستراتيجيات فعالة وذكية، ومنسجمة مع السياق التاريخي، والقيود الجغرافية، وموازين القوة السائدة في عصره. وقد أجملنا القول في بداية هذه الدراسة عن الإستراتيجيات الخمس التي اتبعها الآباء المؤسسون لدولة قطر في تعاطيهم مع هاتين الإمبراطوريتين. وسننتقل الآن إلى شرح تطبيقي لهذه الإستراتيجيات من خلال الوقائع التاريخية.
ظِلُّ الإمبراطورية الطويل
ظهر الطموح البريطاني في قطر ضمن الإستراتيجية البريطانية الكبرى الساعية إلى ضم منطقة الخليج إلى مجال نفوذها. فمنذ تأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية، عام 1600، وهيمنتها على الهند، ثم استحواذ التاج البريطاني عليها وتحويلها مشروعًا استعماريًّا شاملًا في شبه القارة الهندية، أصبحت منطقة الخليج مجالًا حيويًّا للنفوذ البريطاني. ويرجع ذلك لأسباب إستراتيجية عديدة، منها حاجة بريطانيا إلى تأمين الطرق التجارية البحرية، وحرصها على احتكار السيطرة على المضايق الحيوية (مضيق هرمز، باب المندب، قناة السويس) بعد أن أبعدت البرتغاليين والهولنديين عن المنطقة، وخوفها من الطموح الفرنسي في المنطقة بعد تجربتها المريرة في صراعها مع نابليون بونابرت على مصر والشام خلال الأعوام 1798-1801، ثم قلقها من تعاظم الحضور العثماني في الجزيرة العربية وحولها.
وجاء توقيع “الاتفاقية البحرية العامة” مع إمارات الخليج العربية، عام 1820، مَعْلمًا بارزًا في طريق ترسيخ الهيمنة البريطانية في المنطقة. وهي الاتفاقية التي سُمِّيتْ رسميًّا: “الاتفاقية العامة لمنع النهب والقرصنة في البر والبحر”، لأن الشغل الشاغل للبريطانيين آنذاك كان السعي إلى تصفية مقاومة القواسم وهجماتهم التي أرَّقت السفن البريطانية في الخليج لفترة طويلة، خصوصًا مع وجود ذاكرة طريَّة عن مقاومة اليعاربة الشرسة للبرتغاليين في بحر العرب والمحيط الهندي قبل ذلك(38).
وقد تضمنت الاتفاقية العديد من القيود الدائمة والمؤقتة التي فرضتها بريطانيا على إمارات الخليج العربية، وفرضت بريطانيا نفسها حَكَمًا بين المختلفين من أهل المنطقة، وهددتهم باستخدام قوتها البحرية الساحقة في حال الخروج على طاعتها. وكان البريطانيون قد كسروا قبل ذلك شوكة القواسم، ودمروا سفنهم وحصونهم، في “معركة رأس الخيمة” الطاحنة، عام 1819. لذلك يمكن اعتبار هذه الاتفاقية تحولًا في الميزان الإستراتيجي في الخليج، وبداية تغلغل بريطاني عميق في المنطقة دام نحو قرن ونصف قرن.
وقد صادق على هذه الاتفاقية شيوخ أبو ظبي، ورأس الخيمة، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، ودبي، وجزيرة الحمراء. ثم انضمت إليها البحرين فيما بعد في العام ذاته، ثم مسقط بعد ذلك بعامين. وعُرفت الإمارات التي وقَّعت الاتفاقية في الاصطلاح السياسي البريطاني باسم “إمارات الساحل المتصالحة”. لكن قطر لم تكن جزءًا من اتفاقية عام 1820 التي دشنت عمليًّا حقبة النفوذ البريطاني على ضفاف الخليج. ويمكن تفسير هذا الأمر بأحد تفسيرين: أولهما أن قطر كانت أكبر حجمًا من البحرين بكثير، وكانت السيطرة عليها أصعب من السيطرة على البحرين التي هي جزيرة معزولة، ويسهل احتواؤها، وهذا هو رأي المؤرخ فرومهيرز(39). لكننا لا نرى أن بريطانيا كانت عاجزة عن السيطرة العسكرية على قطر آنذاك، كما سيطرت على غيرها من الإمارات العربية.
والتفسير الثاني هو أن قطر لم تكن تبلورت فيها هوية سياسية واضحة في بداية القرن التاسع عشر، وإنما تبلورت في قطر كينونة سياسية واضحة مع صعود الشيخ محمد بن ثاني منتصف القرن، ابتداء من العام 1851. وهذا التفسير الثاني يصلح لفهم الأمور في النصف الأول من القرن التاسع عشر، لا فيما بعد ذلك. وإلا فلماذا لم تنجح بريطانيا في ضم قطر إلى الاتفاقيات اللاحقة بعد تبلورها كيانًا سياسيًّا واضح المعالم بقيادة الشيخ محمد بن ثاني ونجله الشيخ جاسم بعد ذلك؟ ومن هذه الاتفاقيات “اتفاقية منع استيراد العبيد من إفريقيا على متن السفن التي تملكها البحرين والإمارات المهادِنة والسماح بتفتيش تلك السفن”، عام 1847، و”الهدنة البحرية الدائمة”، عام 1857، التي تمنع أي اعتداء في البحار، وعدة “اتفاقيات حصرية” أخرى تمنع شيوخ الإمارات العربية بسواحل الخليج من الدخول في أي حلف أو اتفاق مع أي دولة أخرى باستثناء الإمبراطورية البريطانية.
واللافت للنظر أن قطر لم تكن جزءًا من أيٍّ من هذه الاتفاقيات مع بريطانيا، حتى تلك التي صيغت في ختام القرن التاسع عشر، وبعد أن أصبحت قطر إمارة مهمة ذات شأن ووزن في عهد الشيخ جاسم. واستمر الأمر على هذه الحال من الابتعاد عن الدخول مع بريطانيا في أي اتفاقية حماية أو وصاية لغاية العام 1916، أي خلال انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. فكانت اتفاقية الحماية التي وقَّعها الشيخ عبد الله مع بريطانيا “خاتمة المعاهدات التي مهَرَها أمراء إمارات الخليج العربية مع الإمبراطورية العظمى”(40).
فعلاقة قطر تاريخيًّا بالإمبراطورية البريطانية تختلف اختلافًا جوهريًّا عن علاقات الإمارات العربية الأخرى على ضفاف الخليج. ولعل هذا الأمر يزكِّي ما لاحظته روزماري زحلان بذكاء من أن دولة قطر “نشأت وتطورت خارج نطاق المسار العام للحوادث التي شهدها الخليج والجزيرة العربية”(41). وهنا تبدو كل التفسيرات التاريخية لعدم انضمام قطر لاتفاقيات الحماية البريطانية طيلة القرن التاسع عشر غير مقنعة، باستثناء التفسير الذي تتبناه هذه الدراسة، وهو أن الآباء المؤسسين لدولة قطر -خصوصًا الشيخ جاسم- اختطوا لأنفسهم مسارًا يختلف عن مسارات جيرانهم في علاقتهم ببريطانيا، عن وعي وإصرار على استقلال القرار القطري، واستثمار للصراع الدولي على المنطقة لتحقيق ذلك، وأن صلتهم بالعثمانيين المسلمين كانت أوثق من صلة جيرانهم الآخرين بالعثمانيين.
وثمة تفصيل تاريخي مهم في هذا المضمار، وهو أن أغلب أمراء الخليج والجزيرة العربية كان يلازمهم مستشارون بريطانيون، ولم يكن الأمر كذلك مع أمراء قطر. فالأدوار التي تولاها ضباط بريطانيا وجواسيسها في صحبة قادة المنطقة معلومة، خصوصًا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ومن هؤلاء النقيب ويليام شكسبير (1878-1915)، وجون فيلبي (1885-1960)، وتوماس لورنس (1888-1935)، وغيرترود بيل (1868-1926). كما أن غالب أمراء المنطقة كانوا يستلمون أموالًا من بريطانيا، ولم يستلم أمراء قطر منها مالًا، بل ولا استلموه من الإمبراطورية العثمانية، حينما كانت قطر تحت المظلة العثمانية، كما سنرى لاحقًا.
لقد افتتح الشيخ محمد بن ثاني بناء العلاقات مع بريطانيا، والحصول منها على اعتراف رسمي به حاكمًا لقطر، دون أن ينضم لاتفاقيات بريطانيا مع أمراء الساحل الخليجي. ولم يكن الحضور العثماني منافسًا لبريطانيا خلال حكم الشيخ محمد، وإنما كان ظل بريطانيا الطويل يخيم على سواحل الخليج دون منازع. أما الشيخ جاسم فقد كان تفاعله مع البريطانيين في سياق مركَّب، يتَّسم بتداخل مساحات النفوذ والتحالفات والاعتبارات الإستراتيجية. وتلك هي أهم خصائص الفترة المديدة التي حكم فيها الشيخ جاسم، والتي استمرت أكثر من ثلث قرن.
وقد انفتحت أمام الشيخ جاسم فرصة إستراتيجية للتحرك المتوازن، حينما توسَّع العثمانيون على سواحل الخليج بعد أن شُقَّت قناة السويس، عام 1869، وأصبح الطريق البحري سالكًا من إسطنبول إلى الخليج. وسنتحدث بتفصيل أكبر عن الحضور العثماني، وتعامل الشيخ جاسم معه في الفقرة التالية. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن قدوم العثمانيين إلى قطر، عام 1871، جعل البريطانيين يترددون في بسط سيطرتهم عليها، رغم مصلحتهم في ذلك. ويرجع ذلك إلى اعتبارات عدة، منها المحلي وهو مقاومة الشيخ جاسم المبدئية للنفوذ البريطاني في قطر، ومنها ما هو دولي ذو صلة بالتحالفات وموازين القوى في القارة الأوروبية. وفي هذا السياق، تعتقد روزماري زحلان أنه “بالرغم من كون الحكومة البريطانية لم تقبل قطُّ رسميًّا دعوى الباب العالي بالسيادة على قطر، فإنها تفادت أي أمر يمكن أن يفسد علاقاتها الحساسة مع العثمانيين، في الوقت الذي كانت فيه سياسة بريطانيا هي المحافظة على وحدة أراضي الإمبراطورية العثمانية، حرصًا على استقرار ميزان القوى في أوروبا”(42).
وهكذا اتبع البريطانيون موقفًا غائمًا تجاه وضع قطر السياسي؛ فقد رفضوا الاعتراف بالسيادة العثمانية في قطر حقًّا قانونيًّا لكن قبلوا بتلك السيادة ضمنيًّا كأمر واقع، في عملية التفاف سياسي وغموض دبلوماسي متعمَّد، تجنبًا لشقاق مع العثمانيين لم يكونوا يريدونه في خواتيم القرن التاسع عشر، مراعاة لأهمية الدولة العثمانية في المعادلات الأوروبية. ورَدَّ العثمانيون على الغموض في الموقف البريطاني من قطر بغموض مشابه في موقفهم من البحرين. فقد ظل العثمانيون متمسكين بحقهم في السيادة على كامل الساحل الشرقي للجزيرة العربية، بما فيه جزيرة البحرين، لكنهم اعترفوا ضمنًا بالمصالح البريطانية في البحرين، وسكتوا على مضض عن احتلال بريطانيا لها، كأمر واقع لا كحق قانوني. وكما لاحظ المؤرخ التركي، زكريا قورشون: “من أجل تفادي الاحتكاكات السلبية مع البريطانيين الذين بسطوا نفوذهم على البحرين، حرص العثمانيون على تجاهل البحرين”(43).
لقد كسب الشيخ محمد بن ثاني اعتراف البريطانيين بحكمه لقطر، دون أن يخسر من سيادته شيئًا لصالحهم، ثم استثمر الشيخ جاسم التنافس بين القوتين، لترسيخ الهوية السياسية القطرية، رغم أن قلبه كان مع العثمانيين المسلمين دائمًا، بحكم خلفيته الإسلامية الصلبة. وقد لاحظ فرومهيرز بحق أن
“حضور العثمانيين أمر مهم في تاريخ قطر، لأنه بالأساس منح أسرة آل ثاني -خصوصًا جاسم بن محمد بن ثاني- الفرصة لاستخدام التنافس بين البريطانيين والعثمانيين لصالحهم. فرغم أن كثيرين يحددون عام 1868، والاعتراف بحكم محمد بن ثاني بداية لحكم آل ثاني، فإن آل ثاني لم يبرزوا كحكام ممثلين لقطر إلا بعد التوغل العثماني في المنطقة عام 1871. فمع الحضور العثماني بدأ تاريخ طويل من استغلال آل ثاني للقوى الخارجية لتحصين وتدعيم حكمهم لشبه جزيرة قطر. وهذا الاستغلال للقوى الخارجية -الذي غالبًا ما يكون خفيًّا وأحيانًا يكون أكثر وضوحًا- لا يزال مستمرًّا حتى اليوم”(44).
والحاصل أن تفاعل قطر مع البريطانيين استمر نحو قرن، منذ لقاء الشيخ محمد مع العقيد بيلي، عام 1868، إلى إعلان استقلال دولة قطر، عام 1972. ومع ذلك، فإن هذه العلاقة ظلت محكومة الإستراتيجيات الخمس التي تحدثنا عنها في صدر هذه الدراسة، وهي الولاء الجزئي المتحفظ، والتمسك باستقلال القرار، وتوازن القوى، وتوازن الأخطار، والمرونة التكتيكية. وكان عهد الشيخ جاسم أبلغ تجسيد لهذه الإستراتيجيات الخمس في تاريخ قطر السياسي، لأنه أدرك التحولات العميقة في المنطقة، ونجح في التعاطي مع ظلال القوتين العثمانية والبريطانية على قطر لغاية عشية الحرب العالمية الأولى. فلننتقل الآن إلى مفارقات علاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين.
قوة القُربَى الثقافية
في علاقة الشيخ جاسم بالإمبراطورية العثمانية بلغت إستراتيجيات التوازن ذروتها، بل وحسرت عن وجهها الدِّرامي. فقد منح الشيخ جاسم بيعته لهذه الإمبراطورية الإسلامية العريقة بعد وصولها إلى تخوم قطر، عام 1871، وتشبث بالولاء لها في كل الظروف بوصفها مظلة جامعة للمسلمين، وقاوم كل أوجه الإغراء والإغواء البريطانية التي كانت تدفعه إلى تغيير ولائه للعثمانيين. وكان ذلك تجسيدًا للقربى الثقافية الإسلامية مع العثمانيين التي كان الشيخ جاسم يقدِّرها حق قدرها. لكن الشيخ جاسم قاوم التدخل المباشر للعثمانيين في شؤونه الداخلية، ووصل الأمر به حدَّ مواجهتهم عسكريًّا في معركة “الوجبة” الشهيرة، عام 1893، التي انتهت بمقتلة في الجنود العثمانيين على أيدي قوات الشيخ جاسم. ولم تؤثر تلك المعركة الدامية في علاقة الطرفين، بل زادتها متانة ورسوخًا. وهنا تكمن المفارقة الكبرى في علاقة الشيخ جاسم بالباب العالي.
لقد استطاع العثمانيون منذ حكم السلطان سليم الأول (1512-1520) أن ينتزعوا موطئ قدم لهم على الطرف الشمالي من الخليج، ضمن حروبهم البرية مع الصفويين للسيطرة على العراق وشرق الأناضول، وحروبهم البحرية ضد البرتغاليين الذين اخترقوا المنطقة من جهة المحيط الهندي(45). وقد “أقام البرتغاليون قاعدة بحرية لهم في مضيق هرمز، وأصبحوا يهددون الأجزاء الشمالية من الخليج… ولم يكن بمقدور المماليك، ولا أية دولة إسلامية أخرى، التصدي لهم غير العثمانيين”(46).
لكن العثمانيين لم يتمكنوا من بسط حكمهم على مناطق واسعة من سواحل الخليج إلا في حكم السلطان سليمان القانوني (1520-1566) الذي فتح فيه العثمانيون بغداد، عام 1534، وأصبح ما يجري على سواحل الخليج مؤثرًا على مصالحهم الإستراتيجية، فضلًا عن أن منطقة الخليج أرض إسلامية يتحملون مسؤولية معنوية في الدفاع عنها. فسيَّر العثمانيون جيوشهم للسيطرة على جنوب العراق، عام 1546، “وأصبحت بذلك البصرة مدخلًا للعثمانيين إلى خليج البصرة”(47). وظل وجودهم السياسي والعسكري على ضفاف الخليج متأرجحًا وغير مستقر طيلة القرنين السابع عشر والثامن عشر.
ومع افتتاح قناة السويس، عام 1869، تجدَّد اهتمام العثمانيين بالساحل الشرقي من الجزيرة العربية، وتوسَّع طموحُهم فيه، بعد أن أصبح الطريق البحري إليه سالكًا عبر البحر الأحمر وبحر العرب. ففي عام 1871، سيطروا على “عسير” بالساحل الشرقي للبحر الأحمر، ثم سيَّروا حملة بقيادة واليهم على بغداد، مدحت باشا (1822-1884)، فسيطرت على منطقة الأحساء على ساحل الخليج. وهكذا مدُّوا نفوذهم من الساحل الغربي للجزيرة العربية إلى ساحلها الشرقي، وبذلك أصبح الخليج “خليجًا عثمانيًّا” بتعبير المؤرخ فريديرك آنسكومب في كتابه المعنون بهذا العنوان(48).
ومع تمدُّد سلطة العثمانيين في شرق الجزيرة العربية بدأ اهتمامهم يتعاظم بقطر، وقلقهم من سيطرة البريطانيين عليها، خصوصًا وهم يدركون أنها ذات موقع إستراتيجي حيوي، بحكم تمدُّدها داخل مياه الخليج، وتوسُّطها بين جنوب الخليج وشماله. وقد أشارت إحدى الوثائق العثمانية إلى قطر بما يدل على هذا الإدراك؛ حيث وصفت الوثيقة قطر بأنها “لسانٌ من الأرض يمتد داخل البحر بين عُمان وجزر البحرين”(49). وحينما سيطر العثمانيون على الأحساء رحَّب بهم الشيخ جاسم بن محمد، ودعاهم إلى قطر، وأعلن ولاءه للسلطان العثماني بوصفه الخليفة الشرعي لعامة المسلمين. وبادله العثمانيون المودة بمودة، وعينوه حاكمًا (قائمقام) على قطر باسم الدولة العثمانية.
وقد ذهب بعض الباحثين -ومنهم روزماري وأولريكسن- إلى أن بيعة الشيخ جاسم للسلطان العثماني كانت مجرد موقف براغماتي(50). بينما رجح آخرون -منهم زكريا قورشون- أن العلاقة تأسست منذ البداية على عمق الروابط الإسلامية، وأن عمق التزام الشيخ جاسم -وأهل قطر عمومًا- بالإسلام هو الأرضية الصلبة لتلك العلاقة(51). وتدل الوثائق التاريخية على أن موقف الشيخ جاسم كان موقفًا مبدئيًّا، مدفوعًا بعمق الإحساس بالتضامن الإسلامي. وهو أمر لا يُستغرَب مع ما شرحناه سلفًا عن شخصيته، وتكوينه الرصين في العلوم الإسلامية، والتزامه المتين بالأخوَّة الإسلامية.
وفي مراسلات الشيخ جاسم مع المسؤولين العثمانيين من المفاهيم والمصطلحات الإسلامية ما يدل على أن استظلاله بالمظلة العثمانية لم يكن مجرد موقف براغماتي، بل كان اقتناعًا مبدئيًّا نابعًا من خلفيته الإسلامية، ومن إحساسه بعمق “القُرْبى الثقافية” معهم، بتعبير هنتنغتون. ففي رسالة منه إلى متصرِّف البصرة العثماني، يصف الشيخُ جاسم السلطانَ العثمانيَّ عبد الحميد الثاني (1842-1918) بأنه “أمير المؤمنين” و”خليفة رسول رب العالمين”(52). وقد اتضح عمق هذه العلاقة وصدقُها في أصعب لحظات الخلاف بين الشيخ جاسم ووالي العثمانيين على البصرة، كما سنرى لاحقًا.
ومع ذلك، فإن المواقف السياسية قلما تتمحَّض دوافعها مبدئية خالصة، أو مصلحية خالصة، بل تتداخل فيها الدوافع المبدئية والمصلحية في غالب الأحيان. وليست علاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين استثناء من ذلك، فاقتناعه الإسلامي بالمظلة العثمانية، وتقديره للقربى الثقافية، لا ينافيان رغبته السياسية في الاستفادة من الحضور العثماني لترسيخ سلطته، وضمان استقلال قطر عن غيرها من الكيانات السياسية المجاورة (السعودية والبحرين وأبو ظبي) وعن الهيمنة البريطانية التي تخيم على المنطقة. وقد وصف المؤرخ، محمود بهجت سنان، الشيخ جاسم بأنه “كان حليفًا للدولة العثمانية، بخلاف والده الذي تحالف مع بريطانيا بموجب المعاهدة الموقَّعة من قِبَله عام 1868م”(53). والشِّقُّ الأول من هذا القول المتعلق بتحالف الشيخ جاسم مع العثمانيين توصيف دقيق، أما الشق الثاني الذي عدَّ اتفاقية عام 1868 تحالفًا من الشيخ محمد مع بريطانيا ففيه مبالغة؛ إذ غاية تلك المعاهدة -كما أوضحنا سلفًا- كانت حل خلاف الشيخ محمد بن ثاني مع أمراء البحرين، والتزامه بعدم التدخل في صراعاتهم الداخلية، ولم يتضمن نص المعاهدة تحالفًا -بمعنى الكلمة- مع البريطانيين.
امتحان الوجبة العسير
لم تسِر الأمور في علاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين على ما يرام دائمًا. فقد كان العرف السياسي السائد في الدولة العثمانية هو التعامل مع أطراف الدولة بكثير من المرونة، ومنْحها قدرًا كبيرًا من الاستقلالية الذاتية، ما دامت تلك الأطراف مقرَّة بالولاء العام للعثمانيين. والتزم العثمانيون بهذا النهج بشكل أشد مع المناطق النائية التي لا يملكون الموارد للإنفاق عليها من ميزانية الدولة. وكان الشيخ جاسم رجلًا ثريًّا بمعايير عصره، وقد منح العثمانيين ولاءه السياسي دون أن يطالبهم براتب أو أعطيات باعتبار منصبه كقائمقام عثماني، رغم أن قطر في فترة حكمه لم تكن تملك موارد اقتصادية تُذكر.
فمن بين مناطق الدولة العثمانية على ساحل الخليج آنذاك “كانت قطر من المناطق الأقلَّ دخلًا”(54). ولذلك أعفاها العثمانيون من جميع الضرائب، باستثناء الزكاة، بوصفها واجبًا دينيًّا لا مناص منه. ولم تكن الدولة العثمانية نفسها في وضع مالي جيد آنذاك، ولا كانت تملك القدرة أو الإرادة لإنفاق أموال في قطر، فكان الشيخ جاسم يتولى منصب القائمقامية العثمانية تطوعًا، وينفق من ماله الخاص على نفسه وعلى شؤون أهل قطر، دون تكليف الخزينة العثمانية شيئًا.
وقد جرى العرف في علاقة قطر بالعثمانيين أن تكون للعثمانيين حامية عسكرية ومستشار لحاكم قطر، دون تدخل مباشر منهم في الشأن الداخلي القطري. ويمكن القول: إن الحضور العثماني شكَّل مفارقة بالنسبة للشيخ جاسم، فهو كمسلم عميق الالتزام بدينه منح بيعته للعثمانيين عن طيب خاطر، واعترف بهم بوصفهم السلطة العليا التي تحكم الأمة الإسلامية. لكنه لم يكن يسمح لولاة العثمانيين في نجد والبصرة بأن يتدخلوا أكثر من اللازم في شؤون قطر، أو يجردوها من استقلالها الذاتي.
وكان ولاء الشيخ جاسم للعثمانيين ولاء قويًّا، لكنه كان مقيَّدًا بالموجِّهات الخمسة التي تحكمت في تفكيره، وهي: الاقتصار على الولاء الجزئي المشروط لأي قوة خارجية، وتأكيد استقلال القرار، والتوازن في العلاقات بالقوى الدولية، والموازنة بين المخاطر على قطر، والمرونة التكتيكية في التعاطي مع كل الأطراف. وبينما كانت السلطة المركزية في إسطنبول راضيةً عن التعامل مع الشيخ جاسم ضمن هذه الصيغة المرنة، يبدو أن والي العثمانيين على البصرة، حافظ محمد باشا (1844-1903)، لم يقدِّر هذه الضوابط حقَّ قدرها، وأهمها إصرار الشيخ جاسم على استقلال القرار في شأنه الداخلي، وعدم فرض ضرائب على مواطنيه، خصوصًا وأن “الإمارة كانت في فقر مدقع ولا قبل للسكان بدفع الضرائب”(55)، كما أوضحه الشيخ أحمد بن محمد (1853-1905)، شقيق الشيخ جاسم، للوالي حافظ باشا. فكانت معركة “الوجبة” الدموية بين الطرفين نتيجة تهور وسوء تصرف من الوالي العثماني، دون إرادة من الشيخ جاسم، أو من السلطة المركزية في اسطنبول.
وخلاصة ما حدث، كما رواه عدد من المؤرخين، أن حافظ باشا أصرَّ على تغيير طبيعة العلاقات القديمة بين الشيخ جاسم والعثمانيين، فقرر تأسيس دائرة جمارك، وفرض ضرائب على أهل قطر. ورفض الشيخ جاسم ذلك، بناء على أن أهل قطر لا يملكون المال لدفع ضرائب للعثمانيين، والأهم من ذلك -في رأينا- أنه رأى في الأمر تجاوزًا من جانب والي البصرة للعرف السائد في تعامل الدولة العثمانية مع قطر وأهلها. ويبدو أن الإنجليز تعمَّدوا الإيقاع بين الوالي والشيخ جاسم بشكواهم للعثمانيين من الشيخ جاسم، واتهامهم له بالقرصنة البحرية. وقد أرادوا بذلك حشر الشيخ في الزاوية، وإبعاده عن العثمانيين، ودفعه إلى الدخول تحت الحماية البريطانية.
وقد وقع الوالي العثماني في هذا الفخ، وتهوَّر في تعامله مع الشيخ جاسم، فسيَّر كتائب عسكرية إلى قطر بهدف اعتقال الشيخ جاسم ومحاكمته بتهمة عصيان الدولة. ورغم أن الشيخ جاسم بعث أخاه أحمد للتفاوض مع الوالي حافظ باشا بعد وصوله مع قواته إلى قطر، فإن الوالي اعتقل الشيخ أحمد، وأصرَّ على حضور الشيخ جاسم، وادَّعى أن على أهل قطر أن يدفعوا ضرائب خمس عشرة سنة متأخرة عليهم، خلافًا للعرف الراسخ بين الطرفين الذي يقضي بألَّا تدفع قطر ضرائب أصلًا للدول العثمانية. ثم ساءت الأمور أكثر بإشاعة -تبيَّن فيما بعدُ أنها غير صحيحة- وهي أن الوالي حافظ باشا قتل الشيخ أحمد بن ثاني، والوفد المرافق له.
فوجد الشيخ جاسم في الأمر سعيًا لإذلاله، وتعسُّفًا في التعامل مع أهل قطر، فقرَّر مواجهة القوات العثمانية التي كانت في أساسها قواتٍ عربية من الكويت وعجمان والبصرة ونجد، ودبَّر كمينًا لتلك القوات، وكسَرها في معركة دموية، يوم 13 مارس/آذار 1893، قرب قصر الوجبة، فعُرفت هذه الوقعة في كتب التاريخ باسم “معركة الوجبة”(56). وقد حاول البريطانيون الاستثمار في هذا الخلاف الدموي، فعرضوا على الشيخ جاسم بعدها مباشرة الدخول في الحماية البريطانية ليأمن انتقام العثمانيين، لكنه رفض ذلك، وآثر التفاوض مع العثمانيين لرأب الصدع، وتجاوز الأزمة معهم.
ومن المفارقات التاريخية أن صِدام الشيخ جاسم مع العثمانيين لم يؤدِّ إلى قطيعة بينهما، بل رسَّخ العلاقة بينهما، وأعاد صياغتها على أسس جديدة ومتينة استمرت لغاية انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. وقد تجاوز الطرفان هذا الامتحان العسير لعلاقاتهما بفضل أمرين أساسيين: تمسُّك الشيخ جاسم المبدئي بالولاء للدولة العثمانية باعتبارها مظلة جامعة للأمة الإسلامية، ورفضه المبدئي للدخول تحت الحماية البريطانية. وثقة السلطان عبد الحميد في الشيخ جاسم، وإدراكه لعبث الإنجليز لإفساد العلاقة بين الطرفين. وهنا يمكن التأكيد على دور “القربى الثقافية” -بالمعنى الذي قصده هنتنغتون- في التغلب على الخلافات السياسية. فالإحساس بالانتماء إلى دين واحد وحضارة واحدة، والخلفية الإسلامية لدى كل من الشيخ والسلطان، أسهما في تجاوز ذلك الخلاف الخطير.
وقد لاحظ فرومهيرز أن “الشيخ جاسم رغم أنه مُنح لقب قائمقام، وأنه كان ممثلًا رسميًّا للباب العالي، أي للسلطان العثماني، فإنه لم يكن يريد أبدًا السماح للعثمانيين بحضور حقيقي فعَّال في قطر، أو أي شيء شبيه بالحكم المباشر”(57). فرغم أن ما ذكره فرومهيرز هنا ينسجم مع مبدأ الولاء الجزئي المتحفظ الذي تحدثنا عنه، فقد يكون في قوله مبالغة؛ فالشيخ جاسم لم يمنع العثمانيين من بناء سلطة فعالة في قطر، وإنما أصر على ألَّا تكون تلك السلطة على حساب استقلال قراره الداخلي. ولا تناقض في ذلك، فالعرف السياسي السائد في تعامل الدولة العثمانية مع بعض أطرافها بسماحة ومرونة لا ينافي بالضرورة قوة الولاء للدولة، أو عدم حضورها الفعال، وإنما يعني أحيانًا أن العلاقة بين المركز والأطراف علاقة مشاركة لا تبعية. وهو أمر شائع في تاريخ الإمبراطوريات الفسيحة الأرجاء، وفي الدول الفيدرالية المعاصرة. وليست علاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين استثناء من ذلك.
فلم يكن سوء التفاهم الخطير التي انتهى بمعركة الوجبة بسبب منع الشيخ جاسم للعثمانيين من بسط سلطتهم على قطر، وهي السلطة التي استدعاها بنفسه ورحَّب بها، بل كان بسبب اليد الثقيلة التي تعامل بها الوالي العثماني على البصرة مع قطر والقطريين. وقد أوضحت معركة الوجبة، عام 1893، وما تلاها من مفاوضات سياسية أي مدى كان الشيخ جاسم مستعدًّا لِأن يصله للمحافظة على الحكم الذاتي واستقلال القرار داخل قطر. لكنها برهنت أيضًا على أن ولاءه للخلافة العثمانية لم يتزعزع قط، رغم الخلافات مع واليها في البصرة التي وصلت حدَّ الاقتتال.
وقد أوضح الشيخ جاسم في مراسلاته مع الباب العالي أن قتاله للجنود العثمانيين لم يكن خروجًا على طاعة الدولة العثمانية، أو تحويلًا للولاء إلى أعدائها البريطانيين، بل كان دفاعًا عن النفس والأهل ضد تعسف والي البصرة العثماني(58). واقتنع السلطان عبد الحميد بهذا التفسير للأمور، وتعامل مع الأزمة بإنصاف وحكمة وذكاء إستراتيجي، فقرر إبقاء الشيخ جاسم في منصبه(59)، وتحميل مسؤولية ما حدث لوالي البصرة وعزله. وكانت هذه هي المرة الثانية التي يعزل فيها العثمانيون مسؤولًا لهم مراعاة لعلاقاتهم مع الشيخ جاسم، فقبل معركة الوجبة وعزل الوالي حافظ باشا بسنوات، عزل العثمانيون، عام 1885، متصرِّفَ نجد بعد خلاف بينه والشيخ جاسم(60). وبقي الشيخ جاسم على ولائه للدولة العثمانية إلى نهاية حياته، وضمَّن وصيته أن “يظل الجنود العثمانيون في قطر”(61).
وقد زعم فرومهيرز أن “العلاقات مع العثمانيين تصدَّعت فقط حينما أصبح واضحًا للشيخ جاسم أن العثمانيين مهتمون بمنع سيطرة البريطانيين [على قطر] أكثر من اهتمامهم بتأمين مصالح آل ثاني”(62). وهذه نظرة تبسيطية لعلاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين، وهي تتجاهل عمق الرباط الديني الذي كان أساس تلك العلاقة. صحيح أن الشيخ جاسم كان منسجمًا مع نفسه تمامًا في رفض السيطرة المباشرة لأي قوة خارجية على قطر، بما ذلك الدولة العثمانية. وكما لاحظ فرومهيرز نفسه، فإن مناورات الشيخ جاسم هي التي “منعت كلتا القوتين الإمبراطورتين [العثمانية والبريطانية] من توسيع مطالبهما”(63). لكن هذا لا يعني بأي حال أن الشيخ كان يُسوِّي بين العثمانيين والبريطانيين، بل كان يَعُدُّ الدولة العثمانية قوة إسلامية عالمية، وذات حق مشروع في الحضور في المنطقة وفي قطر. وقد استخرج المؤرخ التركي، زكريا قورشون، من الأرشيف العثماني دلائل كثيرة تدل على أن الشيخ جاسم كان يأخذ علاقته بالعثمانيين مأخذ الجد، وأن روابطه بهم تتجاوز المصالح الشخصية والاعتبارات البراغماتية بكثير(64).
لقد توصل الشيخ جاسم مع العثمانيين -بعد معركة الوجبة- إلى مصالحة صلبة، تأسست على مصلحة مشتركة بينهما، وهي الاكتفاء بالولاء الجزئي للدولة العثمانية، مع احترام العثمانيين لخصوصيات قطر، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية المختصة بالشيخ جاسم وعلاقته بقومه. وقد أفادت هذه الصيغة الطرفين: فحمت قطر من الهيمنة البريطانية، وضمنت للعثمانيين رأس جسر إستراتيجيًّا ممتدًّا في البحر، عند المنتصف بين مناطق النفوذ البريطاني في جنوب الخليج (عمان) وشماله (الكويت). وهو أمر لا يقدَّر بثمن بمنطق الجغرافيا السياسية، وبمنطق صراع الإمبراطوريات آنذاك.
وهكذا كانت علاقة الشيخ جاسم بالعثمانيين تركيبًا من الولاء للدولة العثمانية والإصرار على استقلال القرار، مزيجًا من الانسجام والخصام، حسب الظروف وأدوار الفاعلين الأساسيين في الموضوع. لكن إصرار الشيخ جاسم على البقاء في ظل الخلافة العثمانية المسلمة ظل قويًّا لا يتزعزع إلى نهاية حياته. ومع رحيل الشيخ جاسم، عام 1913، وتفجُّر الحرب العالمية الأولى، بدأ الميزان الإستراتيجي يختل لصالح البريطانيين على حساب العثمانيين الذين انتهت إمبراطوريتهم مع نهاية الحرب. وكان على الشيخ عبد الله بن جاسم أن يواجه هذا الاختلال في الميزان الإستراتيجي بخيارات محدودة، ومساحة مناورة ضيقة للغاية.
انحسار مساحات المناورة
عند وفاة الشيخ جاسم، وتولِّي نجله، الشيخ عبد الله، مقاليد الأمور، عام 1913، كانت البيئة الدولية تشهد تحولًا عميقًا، ألقى بظلاله على قطر وعلى الخليج والجزيرة العربية، وقلَّص مساحة المناورة أمام الأمير الجديد. فقد ترسَّخ النفوذ البريطاني في المنطقة على حساب الدولة العثمانية التي عانت قبيل الحرب العالمية هزائم قاسية في البلقان وليبيا ومناطق أخرى من أطرافها، ثم انهار بنيانها أثناء الحرب، ولم تعد قادرة على صيانة نفوذها في قطر وسواحل الخليج. ولم يكن القوميون الأتراك من جماعة “الاتحاد والترقي” الذين أطاحوا بالسلطان عبد الحميد الثاني، عام 1909، حريصين على بقاء الدولة العثمانية مظلة للشعوب العربية والإسلامية، بما فيها منطقة الجزيرة العربية.
وفي هذا السياق، تعاظم طموح بريطانيا إلى ضم قطر لحمايتها بشكل مباشر، لكي تكمل إحكام القبضة على مياه الخليج وسواحله. وهكذا بدأ التفاوض بين العثمانيين والبريطانيين بشأن قطر قبيل وفاة الشيخ جاسم، وانتهى بالتوصل إلى مشروع “ميثاق أنجلو-تركي”، منتصف العام 1913، تتنازل بموجبه الدولة العثمانية عن سيادتها على قطر، مع اشتراطها على البريطانيين أن تبقى قطر تحت حكم الشيخ جاسم، وفاء لصلاته التاريخية الوثيقة بالعثمانيين(65). بيد أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون التوقيع النهائي على الاتفاق. وحينما انضمت الدولة العثمانية إلى المحور ضد بريطانيا وحلفائها، لم يعد البريطانيون يهتمون بالتفاهم مع العثمانيين بشأن قطر. بل حرصوا على إخراجهم منها بالقوة “في إطار خطة لتطويق التحالف العثماني-الألماني في منطقة الخليج”(66).
كان أمير قطر الجديد حينها، الشيخ عبد الله بن جاسم، مفاوِضًا ذكيًّا ومستوعِبًا للتحولات الدولية وأثرها على قطر، وقد أدرك أن هامش المناورة الذي كان يملكه والده، الشيخ جاسم، تجاه البريطانيين أصبح ضيقًا للغاية. فلم يعد من الممكن مساومة البريطانيين باستخدام القوة العثمانية، خصوصًا بعد رحيل الحامية العثمانية من قطر، عام 1915، و”انفراد بريطانيا بالعمل وحدها في قطر، بعد أن مهَّدت لها الظروف الدولية ذلك”(67)، بل كان لابد من التكيف مع عصر انفراد بريطانيا بالسطوة العسكرية والسياسية في المنطقة.
فقد بدأ الشيخ عبد الله مفاوضات مع بريطانيا استمرت على مدى عامي 1916-1917، ووافق على الانضمام إلى اتفاقيات إمارات الساحل العربية مع بريطانيا لأول مرة، بعد مرور نحو قرن على توقيع الإمارات العربية الأخرى تلك الاتفاقيات عام 1820. فوقَّع معاهدة مع بريطانيا بهذا المعنى، نصَّت مادتها الأولى على أنه يفعل بمقتضاها “كما فعل الشيوخ العرب الأصدقاء، حكام أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان ورأس الخيمة وأم القيوين”(68)، وتم التصديق رسميًّا على المعاهدة، يوم 23 مارس/آذار 1918.
لكن الشيخ عبد الله رفض تطبيق مواد الاتفاقية التي تقيد سيادته على بلده، ومنها تلك المتعلقة بتعيين معتمد بريطاني في قطر كما هي الحال في بلاد أخرى، وتلك المتعلقة بفتح الباب لقدوم الرعايا البريطانيين إلى قطر، وبإنشاء خدمة بريد بريطاني في قطر. ويذكِّر رفضه هذا برفض والده الشيخ جاسم للعثمانيين فرض ضرائب أو إنشاء خدمة بريد في قطر نهاية القرن التاسع عشر. وبفضل مقاومة الشيخ عبد الله، وافقت بريطانيا على تجميد العمل بالفقرات المتعلقة بهذه الأمور الثلاثة من المعاهدة، وهي المواد السابعة والثامنة والتاسعة(69).
وقد تم إرفاق المعاهدة بوثيقة بريطانية رسمية تنص على قبول الحكومة البريطانية النزول عند قرار الشيخ عبد الله، والتنازل عن تنفيذ تلك المواد الثلاث. وهي رسالة من المعتمَد البريطاني في الخليج، الجنرال بيرسي كوكس (1864-1937)، إلى الشيخ عبد الله، في نفس اليوم الذي أُبرمت فيها المعاهدة. وتنص الرسالة على الآتي:
“حيث إن سُموَّكم قد أبرمتم اليوم معي، نيابة عن الحكومة البريطانية، معاهدة بغرض توثيق العلاقات بين الحكومة البريطانية السامية وبينكم، وحيث إن سُموَّكم قد عبَّر عن رأيه بأن الوقت لم يحِنْ بعدُ لوضع البنود 7 و8 و9 موضع التنفيذ، والتي تتعلق بـــ:
1-السماح بدخول الرعايا البريطانيين إلى قطر والإقامة فيها بغرض التجارة.
2-السماح بقدوم معتمَد مقيم نيابة عن الحكومة البريطانية.
3-إقامة مكتب بريد وبرق في أراضيكم.
لذا، فإنني، نيابة عن الحكومة البريطانية، قبلتُ برأيكم، وأخبركم بهذا، وبأن الحكومة البريطانية لا ترى ضرورة في الوقت الحاضر لتنفيذ هذه الإجراءات. وسوف تمتنع عن الضغط عليكم من أجلها، إلى أن تنشأ الحاجة إليها”(70).
ولم تطبَّق المواد الثلاث إلا بعد نهاية حكم الشيخ عبد الله، عام 1949. وهكذا يمكن القول: إن الشيخ عبد الله لم يخرج عن مسار التوازن الذي انتهجه جده، الشيخ محمد، ووالده، الشيخ جاسم. إنما كان يتحرك في سياق مختلف اختلافًا نوعيًّا عن السياق الذي تحركا فيه، وكانت خيارته أضيق بسبب انفراد القوة البريطانية بالهيمنة على المنطقة دون منافس. وقد أحسن فرومهيرز تلخيص موقع الشيخ عبد الله من إستراتيجيات التوازن التي انتهجها الآباء المؤسسون لدولة قطر تجاه البريطانيين والعثمانيين فكتب يقول:
“كان الشيخ عبد الله -على نحو ما- أكثر حيطةً وحِذقًا، وهو في العادة لا يُمدَح بمهارات القيادة الجريئة التي مُدِح بها سلفه: الشيخ محمد بن جاسم والشيخ جاسم. ورغم أن الشيخ عبد الله بن جاسم الذي حكم ما بين 1913 و1949 لم يكن دائمًا أكثر الحكام براعة، فإنه صقَل هوية قطر القانونية المستقلة، لا من خلال المواجهات الجريئة والمفاوضات الإقليمية التقليدية فقط، وإنما أيضًا من خلال براعته في التلاعب بالمصالح البريطانية. وقد استعمل في ذلك مزيجًا من التعاون والمقاومة، بما جعل البريطانيين راضين بما يكفي لخدمة مصالحهم، وغير مطمئنين بما يكفي لعدم ضمان أنه هو وقطر إلى جانبهم دائمًا”(71).
وبهذا النهج المتوازن الدقيق حقق الشيخ عبد الله مكاسب جوهرية في علاقته بالبريطانيين، ولم يسلِّم لهم أمور قطر دون حساب، رغم محدودية الخيارات، وضيق مساحات المناورة. وبذلك يتميز التاريخ السياسي القطري عن غيره من تواريخ دول الجوار؛ إذ لم تدخل قطر تحت الحماية البريطانية إلا متأخرة جدًّا، ولمدة يسيرة جدًّا، أي من عام 1949 إلى عام 1972، بخلاف الإمارات العربية الأخرى التي دخلت تحت الوصاية البريطانية قرنًا ونصف قرن تقريبًا. ويرجع الفضل في هذا إلى إستراتيجيات التوازن التي اعتمدها الآباء المؤسسون لدولة قطر في علاقاتهم بالعثمانيين والبريطانيين.
خلاصات عامة
في ختام هذا البحث الذي تناول سياسات التوازن التي انتهجها الآباء المؤسسون لدولة قطر (الشيخ محمد بن ثاني، والشيخ جاسم بن محمد، والشيخ عبد الله بن جاسم) في علاقاتهم بالعثمانيين والبريطانيين، يمكننا استخلاص النتائج الآتية:
- تناولت الدراسة هذا الموضوع بمنهج تاريخي تحليلي، وطبَّقت عليه عددًا من نظريات العلاقات الدولية، خصوصًا نظرية “توازن القوى” عند هانس مورغنثاو، ونظرية “توازن الأخطار” عند ستيفن والت، ومفهوم “القربى الثقافية” عند صمويل هنتنغتون. لكن أفق التحليل تجاوز ذلك إلى عوامل أخرى، فتوصلت الدراسة إلى أن علاقة الآباء المؤسسين لدولة قطر بالعثمانيين والبريطانيين حكمتها عوامل عدة: منها الموضوعي، مثل: السياق التاريخي، والقيود الجغرافية، وموازين القوة، وحجم الأخطار. ومنها الذاتي، مثل: البراعة القيادية، والقُرِبى الثقافية.
- توصلت الدراسة إلى أن الموجِّهات الأساسية لعلاقات آباء قطر المؤسسين بكل من العثمانيين والبريطانيين هي: الولاء الجزئي المتحفظ، والتمسك باستقلال القرار، وتوازن القوى، وموازنة الأخطار، والمرونة التكتيكية. وقد يتفاوت القادة الثلاثة في تطبيق هذا المبدأ أو ذاك من المبادئ الخمسة، لكن الاستقراء التاريخي يدل على أنها ظلت بالمُجمل هي الموجِّهات لسلوكهم السياسي وعلاقاتهم مع البريطانيين والعثمانيين.
- أوضحت الدراسة أن قطر تَدين بوجودها وبقائها كدولة لرؤية مؤسسيها وكفاءتهم السياسية أكثر مما تدين بذلك للقوى الخارجية التي رسمت حدود المنطقة. وأنها تدخل ضمن الدول التي أسسها “رجال محليون أقوياء”، طبقًا لتصنيف المؤرخ ديفيد فرومكين لدول الشرق الأوسط المعاصر. كما أوضحت الدراسة أن التاريخ القطري في مجال العلاقات بالقوى الكبرى (العثمانية والبريطانية) كان نسيجًا متميزًا عن غيره من تواريخ دول الجوار؛ حيث اتَّسم دائمًا بالإصرار على استقلال القرار، والنفاذ من تصدعات القوى الكبرى بأقل الخسائر.
- بيَّنت الدراسة اختلاف السياقات التي تحرَّك فيها كل من القادة الثلاثة، من حيث موازين القوى بين العثمانيين والبريطانيين. فاتسمت مرحلة الشيخ محمد برجحان الميزان لصالح البريطانيين، واتسم عهد الشيخ جاسم بصعود العثمانيين، بينما كان عهد الشيخ عبد الله عهد استئثار كامل للبريطانيين بالقوة والنفوذ في المنطقة. وكان لموازين القوى المتبدِّلة أثرها في اختيارات القادة الثلاثة، وكان عهد الشيخ جاسم أكثر العهود الثلاثة تعقيدًا وثراء في العلاقات الدولية، رغم أن أيًّا منهم لم يخرج عن المسارات الأساسية التي شرحناها.
- برهنت الدراسة على أن إستراتيجية التوازن التي تتصف بها سياسات قطر اليوم، ودبلوماسيتها الفعالة على مستوى الإقليم والعالم، لم تنشأ من فراغ، بل هي ظاهرة ضاربة الجذور في تاريخ قطر، خصوصًا في فترة الشيخ جاسم بن محمد. وأن هذا الربط بين الماضي بالحاضر، والبحث في الجذور التاريخية والثقافية لعلاقات قطر الخارجية أمر يستحق اهتمام الباحثين القطريين والباحثين المنشغلين بالدراسات القطَرية.
المراجع
(1) Hans J. Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace (New York: Alfred A. Knopf, 1985), p.196.
(2) Stephen m Walt, The Origins of Alliances (Ithaca and London: Cornell University Press, 1987), p.x.
(3) نفس المرجع، ص 264.
(4) نفس المرجع، ص 5.
(5) صامويل هنتنغتون، صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة طلعت الشايب (بغداد: سطور، 1999)، ص 254.
(6) Joseph Nye, Soft Power: The Means to Success in World Politics (New York: Public Affairs, 2004), p.x.
(7) Joseph Nye, “Get Smart: Combining Hard and Soft Power,” Foreign Affairs, Vol. 88, No. 4 (July/August 2009), pp.160-163.
(8) Kristian Coates Ulrichsen, Qatar and the Arab Spring (Oxford: Oxford University Press, 2014), p.17.
(9) Bernd Kaussler, “Tracing Qatar’s Foreign Policy and its Impact on Regional Security,” A research paper (Doha: Arab Center for Research and Policy Studies, 2015), p.22.
(10) Houda Zouheir Bitar, “Qatar and Omni balancing: Escaping the Saudi Regional Hegemony,” A Master Thesis (Lebanese American University, 2020), pp.27-29.
(11) عن هذه المقومات، وخصوصًا التميز في مجالات مخصوصة، راجع:
Nicolas Fromm, Constructivist Niche Diplomacy Qatar’s Middle East Diplomacy as an Illustration of Small State Norm Crafting (Wiesbaden: Springer VS, 2019), p.127-152; Mehran Kamrava, Qatar: Small State, Big Politics (Ithaca and London: Cornell University Press, 2013), p.31, 47.
(12) Allen J. Fromherz, Qatar a Modern History (Washington, DC: Georgetown University Press, 2012), p.24.
(13) David Fromkin, “An Unsettling Settlement: The 1922 Middle East Peace Agreement Seen Today,” Council on Foreign Relations, 2009. Retrieved on July 22, 2025, through this link: An Unsettling Settlement: The 1922 Middle East Peace Agreement Seen Today | Council on Foreign Relations
(14) محمود بهجت سنان، تاريخ قطر العام (بغداد: مطبعة المعارف، 1966)، ص 90.
(15) Mehran Kamrava, Qatar: Small State, Big Politics (Ithaca and London: Cornell University Press, 2015), 46-52.
(16) Ulrichsen, Qatar and the Arab Spring, 15-16.
(17) Rosemarie Said Zahlan, The Creation of Qatar (London: Routledge, 1979), 94.
(18) Habibur Rahman, The Emergence of Qatar: The Turbulent Years 1627-1916 (London: Routledge, 2010), 8.
(19) انظر نص وثيقة الاتفاقية في: أحمد زكريا الشلق ومصطفى عقيل ويوسف إبراهيم العبد الله، تطور قطر السياسي من نشأة الإمارة إلى استقلال الدولة (الدوحة: مطابع رينودا الحديثة، 2006)، 289.
(20) على سبيل المثال، تعترف روزماري زحلان بأن دراستها عن قطر “في أساسها تجميع من المواد المتاحة في سجل مكتب الهند (مكتب الكومنولث والشؤون الخارجية) في لندن مع مصادر قطرية قليلة”! انظر:
Zahlan, The Creation of Qatar, 12.
(21) نفس المرجع، ص 94.
(22) Rahman, The Emergence of Qatar, 8.
(23) Ulrichsen, Qatar and the Arab Spring, 15.
(24) Fromherz, Qatar a Modern History, 48.
(25) انظر نص الاتفاق في: أحمد زكريا الشِّلق، فصول في تاريخ قطر السياسي (الدوحة: مطابع الدوحة الحديثة، 1999)، 233-234.
(26) Rahman, The Emergence of Qatar, 9.
(27) Zahlan, The Creation of Qatar, 47.
(28) سنان، تاريخ قطر العام، ص 90.
(29) عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح آل بسام، علماء نجد خلال ثمانية قرون (الرياض: دار العاصمة، 1419ه)، 5/405-410.
(30) نفس المرجع، 5/406-407.
(31) انظر: بدور حمد القحطاني، “أثر القرآن الكريم في شخصية الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مؤسس دولة قطر” (رسالة ماجستير بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة قطر، 2023)، ص 13، 19-21، 26.
(32) انظر: خالد بن محمد آل ثاني، الحلي الداني في سيرة الشيخ علي آل ثاني (دمشق: المكتب الإسلامي، دون تاريخ)، ص 24.
(33) محمود شكري الآلوسي، تاريخ نجد (بغداد: دار الوراق، 2007)، ص 54.
(34) انظر نص هذه الرسائل في: محمود شكري الآلوسي، بدائع الإنشاء (بيروت: دار ابن حزم، 2014)، ص 212-202.
(35) عبد الرحمن بن درهم، نزهة الأبصار بطرائف الأخبار والأشعار (دمشق: المكتب الإسلامي، دون تاريخ)، ص 1054.
(36) Jim Krane and Steven Wright, “Qatar Rises above Its Region: Geopolitics and the Ejection of the GCC Gas Market,” a Research paper (London: Kuwait Programme on Development, Governance and Globalisation in the Gulf States, 2014), p. 14.
(37) Ulrichsen, Qatar and the Arab Spring, p. 16.
(38) عن مقاومة اليعاربة والقواسم للاستعمار البرتغالي والبريطاني -على التوالي- راجع:
نيفين سعد، “جهاد الیعاربة ضد الاستعمار البرتغالي،”مجلة بحوث الشرق الأوسط 1624-1718″ العدد 41. ص 65-97. وميخين فيكتور ليونوفيتش، حلف القواسم وسياسة بريطانيا في الخليج العربي (دبي: مركز جمعة الماجد، 2008)، ص303-443.
(39) Fromherz, Qatar a Modern History, p. 48.
(40) أحمد إبراهيم أبو شوك، “معاهدة الحماية البريطانية على قطر (1916-1971): المسوغ السياسي والهدف الإستراتيجي،” مجلة أسطور، العدد 6 (يوليو/تموز 2017)، ص 287.
(41) Zahlan, The Creation of Qatar, p.92.
(42) نفس المرجع، ص 47.
(43) Zekeriya Kursun, The Ottomans in Qatar: A History of Anglo-Ottoman Conflicts in the Persian Gulf (New Jersey: Gorgias Press, 2010), p.172.
(44) Fromherz, Qatar a Modern History, p.58.
(45) عن المواجهات بين العثمانيين والبرتغاليين في الخليج، في القرن السادس عشر، راجع:
Salih Özbaran and Dom Manuell de Lyma, “The Ottoman Turks and the Portuguese in the Persian Gulf 1534-1581”, Journal of Asian History, Vol. 6, No. 1 (1972), pp. 45-87.
(46) فاضل بيات، الدولة العثمانية في المجال العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 500-501.
(47) نفس المرجع، ص 502.
(48) Frederick F. Anscombe, The Ottoman Gulf: the creation of Kuwait, Saudi Arabia, and Qatar (New York: Columbia University Press, 1997).
(49) Kursun, The Ottomans in Qatar, p.19.
(50) Zahlan, The Creation of Qatar, p.46; Ulrichsen, Qatar and the Arab Spring, p.16.
(51) Kursun, The Ottomans in Qatar, p.67.
(52) للاطلاع على نص الرسالة راجع: القحطاني، “أثر القرآن الكريم”، 57-59.
(53) سنان، تاريخ قطر العام، ص 90.
(54) Kursun, The Ottomans in Qatar, p.141.
(55) سنان، تاريخ قطر العام، ص 94. وفي الأصل “من دفع الضرائب” وهو خطأ فيما يبدو.
(56) لتفاصيل معركة الوجبة وملابساتها، راجع كلًّا من:
- خالد بن محمد آل ثاني، مدونات الأسرة الحاكمة في قطر: مدونتا الشيخ قاسم بن محمد والشيخ علي بن عبد الله نموذجًا (بيروت: دار ابن حزم، 2016)، ص 184-193.
- القحطاني، “سياسة الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني في الحكم 1878-1913″، مجلة الاجتهاد للدراسات القانونية والاقتصادية، المجلد 7، العدد 2 (2018)، ص 383-383.
- Fromherz, Qatar a Modern History, 60-61.
- Kursun, The Ottomans in Qatar, 92-99.
(57) Fromherz, Qatar a Modern History, p. 60.
(58) Kursun, The Ottomans in Qatar, p.95.
(59) نفس المرجع، ص 142.
(60) نفس المرجع، ص 71.
(61) نفس المرجع، ص 151.
(62) Fromherz, Qatar a Modern History, p.60.
(63) نفس المرجع، ص 59.
(64) Kursun, The Ottomans in Qatar, pp.70, 80-81.
(65) انظر: الشِّلق، فصول في تاريخ قطر السياسي، ص 62.
(66) عبد الرؤوف سنُّو، “اتفاقات بريطانيا ومعاهداتها مع إمارات الخليج العربية (1798-1916): فصول من سياسة الهيمنة والتفتيت”، مجلة تاريخ العرب والعالم، العدد 174 (1998)، ص 25.
(67) الشِّلق، فصول في تاريخ قطر، ص 64.
(68) انظر نص المعاهدة في نفس المرجع، ص 235.
(69) انظر نص المعاهدة في نفس المرجع، ص 235-238.
(70) انظر نص المعاهدة في نفس المرجع، ص 239.
(71) Fromherz, Qatar a Modern History, p.67.
* عبد الرحمن بن خالد بن حمد آل ثاني، باحث قطَري، يعد رسالة دكتوراه عن الجغرافيا السياسية لدولة قطر.
*Abdulrahman bin Khalid bin Hamad Al-Thani, Qatari PhD candidate and researcher in Qatari geopolitics.
** محمد المختار الشنقيطي هو أستاذ الشؤون الدولية المشارك، كلية الآداب والعلوم، جامعة قطر
**Mohamed El-Moctar El-Shinqiti, Associate Professor of International Affairs at the College of Arts and Sciences, Qatar University.
