ملخص:
يسعى البحث إلى التعرف على مضامين الدعاية الإسرائيلية في الدراما التليفزيونية الإسرائيلية المعروضة على منصات البث التليفزيوني الرقمية العالمية، نموذج “نتفليكس” الأميركية. ويهدف إلى تحديد أطر الدعاية التي ترفع من شأن إسرائيل وتُقلِّل من إنسانية الفلسطيني عبر استعراض بعض المضامين النصية والبصرية الواردة في مسلسل “فوضى” الإسرائيلي الذي عرضت “نتفليكس” حلقاته الـ24 وتستعد لعرض الجزء الثالث منه خلال العام 2020.
كلمات مفتاحية: الدعاية الإسرائيلية، الدراما التليفزيونية، منصة نتفليكس.
Abstract:
The aim of this research is to identify the contents of propaganda in Israeli television dramas shown on global digital streaming platforms, such as Netflix. The research also defines the framework of the propaganda that promotes the image of Israel and dehumanises the Palestinian people by analysing the textual and visual contents of the Israeli TV series, Fauda, of which Netflix has released two seasons (12 episodes each) and is set to release a third on sometime in 2020.
Keywords: Israeli Hasbara, TV Drama, Netflix.
مقدمة
أولت الحركةُ الصهيونيةُ الدعايةَ اهتمامًا خاصًّا، وأفردت لها إمكانيات أدبية وبشرية ومالية هائلة؛ وبرزت الدعاية الصهيونية أُنموذجًا فريدًا من حيث بنية الخطاب الدعائي، الذي يتغيَّر ويتطور تبعًا للمتغيرات المحيطة به، مع احتفاظه دائمًا بجذوره ومرجعيته المرتبطة بمنابع الفكر الصهيوني؛ وبما في هذا الفكر من مُسوِّغات تاريخية ودينية وسياسية وثقافية واقتصادية. وحسب الرؤية الصهيونية، فإن مهمة الدعاية والإعلام لا تنتهي بمجرد إنجاز الكيان السياسي والسيادي لإسرائيل، بل إن المهمة مستمرة ومتطورة تبعًا لتطورات احتياجات الدولة، مع ضرورة تدعيم الخطاب الدعائي ووسائل الإعلام بالإمكانيات التي تتلاءم ومتطلَّبات كل مرحلة. وقد عبَّر وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشيه ديان (Moshe Dayan)، عن هذه الرؤية بالقول: “إن إسرائيل تستهلك الكثير من السلاح والذخيرة لتدمير مدفع واحد من مدافع العدو العربي… أليس من الأجدى والأرخص أن تُستعمل الدعاية والحرب النفسية لشلِّ الأيادي، التي تضغط على زناد تلك المدافع”(1).
واهتمت الحركة الصهيونية ببناء جهازها الدعائي على أُسُس نظرية وعلمية اقتبستها من تجربتي الدعاية النازية (مدرسة غوبلز- هتلر) وتجربة الدعاية السوفيتية، ومن مختلف النظريات والنتائج المحقَّقة في شتى العلوم الإنسانية، مثل علمي الاجتماع والنفس. وقد توازى الاهتمام الصهيوني بتطوير الإطار النظري للدعاية مع تأسيس نظام محكم من الأجهزة والأدوات، التي تشرف على الأداء الدعائي وترتبط مباشرة بالوحدات المركزية المتخصصة في المنظمات الصهيونية العالمية. كما سعت الدعاية الصهيونية إلى توفير كافة الإمكانيات المادية والبشرية والفنية من أجل حشد الرأي العام العالمي وراء المشروع الصهيوني، وإقناع العالم بضرورة إنجاز الوطن القومي لليهود في فلسطين ومسؤوليته عن تحقيق ذلك. وقد هدفت المنظمات الصهيونية، بذلك، إلى تحويل الرأي العام العالمي من مجرد جمهور متعاطف إلى قِوى ضغط على مراكز القرار السياسي(2).
ويتَّخذ الخطاب الدعائي الصهيوني الكثير من الأشكال والصيغ، متدفِّقًا عبر آلاف الرسائل الإعلامية، وعلى امتداد الخارطة الواسعة لوسائل الإعلام والتواصل التقليدية والجديدة. وتختلف لغة الخطاب الدعائي الصهيوني من حيث الشكل والمضمون تبعًا لثلاثة عوامل أساسية: الجمهور المستهدف، واللغة الحاملة للخطاب، والظروف الموضوعية، مع التركيز الدائم على المرتكزات الأساسية والمتمثلة في:
– إسرائيل حقيقة تاريخية، كانت قائمة في أرض فلسطين ثم فقدت استقلالها، وما إعلانها مجدَّدًا في عام 1948 إلا إعادة إحياء للدولة القديمة. وبناء عليه، فإن حرب عام 1948 هي بمنزلة حرب الاستقلال بالنسبة إلى إسرائيل.
– قيام إسرائيل هو تحقيق لنبوءة دينية و”وَعْد إلهي” يُعطي أرض فلسطين لليهود.
– ضرورة لَـمِّ شمل اليهود في وطنهم القومي، الملاذ الآمن لهم، بعيدًا عن الاضطهاد الذي لحق بهم عبر العالم، وللخلاص من العنصرية التي تُطاردهم في كل بقاع الأرض.
– إسرائيل ليست دولة عدوان وإنما تسعى إلى السلام مع جيرانها والحفاظ على بقائها وأمنها.
– إسرائيل واحة للديمقراطية الغربية وسط عالم عربي متقلِّب، تحكمه أنظمة دكتاتورية متخلِّفة.
– تعظيم قوة إسرائيل العسكرية وقدرات جيشها الذي “لا يُقهر”.
ولأجل ترويج هذه المضامين الدعائية، أَسَّست المنظمات الصهيونية، في الولايات المتحدة وإسرائيل، في عام 2003 “مشروع إسرائيل” (The Israel Project -TIP)، وهو منظمة للدعاية والعلاقات العامة، تهدف إلى تحسين صورة إسرائيل والدفاع عنها في العالم عبر مختلف المنصات الدعائية والإعلامية، مع تركيز واضح على منصات التليفزيون الرقمية، مثل “إتش بي أو” (Home Box Office – HBO) و”نتفليكس” (Netflix)، بوصفها منصات أميركية واسعة الانتشار عالميًّا. وقد عرضت منصات “تليفزيون الاشتراك والطلب” الأميركية، (“إتش بي أو” و”نتفليكس”)، ما يزيد عن 20 عملًا من الإنتاجات الإسرائيلية (أفلام، مسلسلات، وثائقيات) خلال السنوات الخمس المنصرمة، مثل مسلسل “عندما يحلِّق الأبطال” الذي أُنتج في 2018 ويتحدث عن 4 محاربين إسرائيليين أصيبوا بصدمة بعد حرب 2006 في لبنان. وفيلم نتفليكس “منتجع البحر الأحمر” الذي يروي تفاصيل عملية جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي “الموساد” لترحيل يهود إثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان. ومسلسل نتفليكس المكون من 6 أجزاء بعنوان “الجاسوس” الذي يتناول قصة عميل الموساد الشهير إيلي كوهين (Eli Cohen) الذي أُعْدِم في دمشق عام 1965. وقدمت نتفليكس خلال العامين 2018 و2019 فيلمين بعنوان “الملاك” و”الجاسوس الذي سقط على الأرض”، ويرويان قصة المصري، أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر. ويظل مسلسل “فوضى” -موضع هذا البحث- أكثر المسلسلات الإسرائيلية التي أثارت جدلًا بين المعجبين والمستنكرين بعد عرضها على منصة نتفليكس.
- الإطار المنهجي والنظري للدراسة
أ- سؤال البحث
السؤال الرئيس في هذا البحث: كيف تُتَرْجِم الدراما التليفزيونية الإسرائيلية أبرز مضامين دعاية “هاسبارا” الإسرائيلية، من خلال تحليل المضامين الدعائية الأبرز في مسلسل “فوضى” المعروض على منصة نتفليكس الأميركية؟
ب- أهمية موضوع البحث
يربط البحث بشكل مباشر بين مضمون عمل درامي إسرائيلي وبين التعاليم الدعائية الواردة في الأدبيات التي تُزوِّد بها أجهزة “هاسبارا” مؤسسات الإنتاج الإعلامي الإسرائيلية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تُظهر الدراسة مَيْلَ الدعاية الإسرائيلية إلى عرض أعمالها على منصات عرض عالمية، مثل نتفليكس ذات الانتشار العالمي، تحت غطاء ما يُسمى بـ”تليفزيون الجودة” و”المعايير العالمية”، لِتُوَسِّع قاعدة انتشارها وتأثيرها عبر الجمهور في العالم. كما يكشف البحث مخاطر فتح المنصات العالمية أمام الرواية الإسرائيلية مقابل غياب أو تغييب الرواية الفلسطينية. ويسلط البحث الضوء أيضًا على اهتمام أجهزة الدعاية الصهيونية بمنصات البث التليفزيوني مثل نتفليكس، نظرًا لخصوصيتها التقنية وقدرتها على التكيف مع البيئة الرقمية لاسيما تحرير المشاهد من إكراهات المكان والزمان بفضل التسييل (streaming)، وقدرتها على جذب شريحة واسعة من الشباب الذي أدار ظهره للقنوات التليفزيونية التقليدية، ومع ذلك لم ينصرف عن متابعة منصات البث الجديدة مثل نتفليكس؛ إذ كشف استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث، في العام 2017، أن 6 من بين كل 10 أميركيين بالغين (فئة الأعمار 18 إلى 26) يفضلون مشاهدة التليفزيون عبر منصات البث الرقمية، مثل “إتش بي أو” ونتفليكس(3).
أضف إلى ذلك، يكشف هذا البحث عن دور الدراما الإسرائيلية في إبراز التفوق الإسرائيلي، حتى إنسانيًّا، مقابل الحط من مكانة الفلسطيني إلى حدِّ تجريده من إنسانيته مهما كان جنسه أو عمره أو موقعه الاجتماعي أو حتى موقفه من الصراع العربي-الإسرائيلي، وكأن هذه الدراما تتساوق مع مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، عندما سُئل: مَنْ هو الفلسطيني الجيد؟ فأجاب: “الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، الذي لا أثر له، ولا فاعليه له”(4).
ج- منهج البحث
يحلِّل البحث أبرز مضامين الدعاية الإسرائيلية الراهنة في الإنتاج التليفزيوني الإسرائيلي المعروض على واحدة من أهم منصات الفيديو بالاشتراك والطلب، والمقصود هنا منصة نتفليكس الأميركية. وتحليل المحتوى هو أسلوب بحث نوعي واسع الاستخدام. وحسب الباحثيْن، سيو-فان سيه (Hsiu-Fang Hsieh) وسارة شانون (Sarah Shannon)، تُظهر التطبيقات الحالية لتحليل المحتوى ثلاثة مناهج أو أساليب لتفسير المعنى الكامن في محتوى البيانات محل التحليل. وتتمايز هذه المناهج في طرائق الترميز، وأصول الرموز، ومدى الثقة بجدارة البيانات. بينما يشتق “منهج التحليل التقليدي” للمحتوى فئات الترميز مباشرةً من البيانات النصية. يستند مستخدمو “المنهج الموجه” في التحليل على نظرية أو نتائج بحثية ذات صلة كدليل لوضع الرموز الأولية. في المقابل يقوم “تحليل المحتوى الوصفي أو الموجز” على جرد الكلمات والعبارات الرئيسية في المحتوى، متبوعًا بتفسير السياق الأساسي أو المعنى العام للمحتوى. وعادةً ما تبدأ الدراسة التي تستخدم نهجًا وصفيًّا موجزًا في تحليل المحتوى النوعي بتحديد وقياس بعض الكلمات أو العبارات في المحتوى بهدف فهم الاستخدام السياقي للكلمات ضمن كامل المحتوى(5).
وسيعتمد هذا البحث على منهجين من المناهج الثلاثة التي أشار إليها سيه وشانون(6)، أولًا: “المنهج الوصفي الموجز” لتحليل مضامين مسلسل “فوضى” الإسرائيلي بجزأيه وحلقاته الـ24. ثانيًا: “المنهج الموجه” لتفسير هذه المضامين استنادًا إلى تعليمات ووثائق “هاسبارا” للدعاية الإسرائيلية، أي الجهاز أو الجهات المعنية بتوجيه مضامين كل النشاطات الإعلامية والدعائية المعنية بالدفاع عن وجهة نظر إسرئيل، ونخص هنا المضامين الدعائية التي تضمنها كتاب “مشروع إسرائيل 2009: معجم لغوي شامل” (The Israel project’s 2009: Global Language Dictionary).
د. الإطار النظري: مرتكزات الدعاية الصهيونية وأبعادها
– الدعاية السياسية
تستند الدعاية السياسية إلى جملة من النظريات الأصيلة في علوم النفس والاجتماع والاتصال. ومهما اختلفت أساليب الدعاية ومناهجها ومدارسها، وتباين تطورها من مجتمع إلى آخر، أو من فترة زمنية إلى أخرى، فإنها ظلت في كل الأزمان والأماكن أسلوبًا تواصليًّا يهدف أساسًا إلى التأثير في الآخر، وإحداث تغييرات في أفكار الأفراد والمجتمعات ومعتقداتهم ومواقفهم. ويختلف تعريف مفهوم الدعاية تبعًا لتعدُّد الدراسات والسياقات التي يَرِدُ فيها المفهوم. وبشكل عام، فإن لفظ “دعاية” بالعربية يقابل لفظ (Propaganda) باللغة اللاتينية ومشتقاتها، ويُقصد به منهج إعلامي يسعى عبر نشر معلومات وحقائق أو أنصاف حقائق أو حتى أكاذيب إلى التأثير في اتجاهات الرأي العام وآرائه وسلوكه. ويُعرِّف أنتوني لينبرغر (Anthony Linebarger)، في كتابه “الحرب النفسية”، الدعاية باعتبارها “حملة تقوم على استخدام مخطط لأي شكل من أشكال الاتصال الجماهيري للتأثير في عقول ومشاعر مجموعة بشرية معينة، ولتحقيق غرض محدَّد، سواء كان عسكريًّا أو اقتصاديًّا، أو سياسيًّا”(7). ويتفق دوغلاس وولتون (Douglas Walton) مع هذا الرأي مُعرِّفًا الدعاية بأنها “قيام مجموعة أو منظمة ضغط بفرض وجهة نظر ما، وتقديمها وترويجها لجمهور عريض”(8).
وبينما يُعرِّف الفرنسي جاك إيلول ((Jacques Ellul، في كتابه الشهير “الدعاية: تشكيل مواقف الرجال” بـ”الأساليب التي تُمَارِسُها مجموعة مُنَظَّمَة على شريحة واسعة من الأفراد المتشابهين لتحقيق مشاركة إيجابية نشطة أو سلبية في سلوكهم ومواقفهم، وذلك عن طريق مراوغات نفسية تتم في نطاق مُنَظَّم”(9)، لا يرى جوزيف غوبلز (Joseph Goebbels)، وزير الدعاية النازية في عهد أدولف هتلر، طريقة سياسية محددة للدعاية، بل يعتقد أن لها هدفًا محددًا هو إخضاع الجمهور، و”تعتبر كل الوسائل التي تخدم هذا الهدف وسائل جيدة؛ لأن الغاية تبرر الوسيلة”(10).
– الدعاية الصهيونية
يَظهر اهتمام الحركة الصهيونية بالدعاية، في الأدبيات التي شكَّلت المراجع الأساسية للفكر الصهيوني، ويُقصد بذلك الكم الهائل من الكتب والمقالات والبيانات، التي وضعها رواد الحركة الصهيونية. ففي عام 1869، أي قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية بنحو ثمانية وعشرين عامًا، قال الحاخام رايشهورن (Rabbi Reichhorn)، أمام تجمُّع يهودي في مدينة براغ: “إذا كان الذهب هو القوة الأولى في العالم، فالصحافة هي القوة الثانية، ولكن الثانية لا تعمل بالشكل المطلوب دون الأولى، من هنا علينا أن نوظِّف الذهب للسيطرة على الصحافة، وعلينا أن نُقدِّم المال لمن نجد نفوسهم مفتوحة لتقبُّل الرشوة”(11).
وعبَّر ثيودور هرتزل (Theodor Herzl)، مُؤَسِّس الصهيونية السياسية المعاصرة، عن مدى الاهتمام الصهيوني بالإعلام ومؤسَّساته، عندما عَمَدَ، قبيل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897، إلى إصدار مجلة العالم (Die Welt)، التي أصبحت فيما بعد المنبر الإعلامي الرسمي الناطق باسم الحركة الصهيونية(12). وقال هيرتزل آنذاك: “لكي نقيم وطنًا لليهود في فلسطين، يلزمنا الكثير من الضوضاء”(13). كما أولى المؤتمر الصهيوني الأول الإعلامَ اهتمامًا خاصًّا، فمن بين اللجان الخمس التنظيمية، التي انبثقت عن أعمال المؤتمر، كانت اللجنة التي سُمِّيت “مكتب التوجيه المركزي” للربط بين رئيس المنظمة الصهيونية والوحدات المحلية. وبعد المؤتمر الذي تلا الحرب العالمية الأولى تم تشكيل قسم يُسَمَّى “دائرة الدعاية”، تابع لرئيس المنظمة الصهيونية والمكتب المركزي. ومنذ ذلك الحين، اهتمت المنظمات الصهيونية بالإعلام والدعاية(14).
ولا يُخْفِي الصهاينة الدور الذي لعبه الإعلام في تحقيق “الحلم اليهودي” وإقامة “وطنهم القومي” في فلسطين؛ إذ يقول ياهوشافط هراكابي (Yehoshafat Harkaba)، مستشار الأمن القومي لرئيس وزراء إسرائيل في سبعينات القرن الماضي: “لقد كان الرواد يُعطون أهمية مضافة للإعلام ووسائل الاتصال؛ باعتبارها المرتكزات والمداميك للمشروع الصهيوني، ولهذا ما زلنا نعمل بوسائل إعلامنا الكفؤة والمرتكزة على أيديولوجيتنا للتأثير في الرأي العام، وعرض قضيتنا العادلة على العالم”(15). أما ديفيد بن غوريون (David Ben-Gurion)، أول رئيس وزراء لإسرائيل، فقد عبَّر بوضوح عن أهمية الدور، الذي لعبه الإعلام في ترويج الفكر الصهيوني وتحقيق أهدافه، قائلًا في هذا الصدد: “لقد أقام الإعلام دولتنا على الخارطة، واستطاع أن يتحرَّك للحصول على شرعيتها الدولية، وتكريس جدارة وجودها، قبل أن تصبح حقيقة واقعة على الأرض”(16).
– الدعاية الصهيونية الراهنة
تنشط الدعاية الصهيونية والإسرائيلية التي باتت تُعرف الآن بـ”هاسبارا” (Hasbara)، لـ”شرح وتوضيح” صورة إسرائيل في العالم، ودحض “الأساطير” السلبية التي يُرَوِّجها “أعداء إسرائيل” عنها(17). وتظهر معالم “هاسبارا” الإسرائيلية بشكل واضح في مجموعة الوثائق التي تصدر عن مؤسسات صهيونية، مثل “دليل الدفاع عن إسرائيل” (The Israel Advocacy Handbook)، الذي يوضح في مقدمته أنه “دليل لشرح مبادئ الصهيونية، وإعادة ترميم المواقف الدولية، التي شهدت تآكلًا خطيرًا خلال العقد الماضي، حتى بات بعضها يُشكِّك في (شرعية إسرائيل)، وإعادة زخم الدعم الأميركي والأوروبي لها”(18).
ويقوم خطاب “هاسبارا” الدعائي الصهيوني الراهن على حزمة تخلط بين المضامين القديمة والجديدة، التي تسعى المنظمات الصهيونية إلى ترويجها وترسيخها في أذهان الرأي العام العالمي. ومن أبرز هذه المضامين(19):
– أعداء إسرائيل يسعون إلى “نزع الشرعية عنها”.
– العرب لا يقبلون حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره، وفي كثير من الأحيان لا يعترفون بأن اليهود هم شعب، أو أن لهم حقوقًا تاريخية في إسرائيل.
– الرفض التاريخي لإسرائيل هو السبب الأساسي في كل الحروب منذ عام 1947، ويتجلَّى في خطابات أعداء إسرائيل، الذين يصفونها بـ”نظام الفصل العنصري”، ويدعون إلى تطبيق “حق العودة” لملايين اللاجئين الفلسطينيين، ويرفضون الاعتراف بها كـ”دولة للشعب اليهودي”.
– إبراز قصة النجاح الإسرائيلي في إقامة دولة “ديمقراطية” باقتصاد مزدهر، وعلى درجة عالية من التطور التكنولوجي.
– إبراز قضايا انتهاك حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، وقمع الحريات الدينية والسياسية للأقليات في الدول العربية. وبالمقابل، نجاح إسرائيل في تأسيس نظام سياسي مستقر قائم على الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية.
– تصوير إسرائيل كـ”دولة صغيرة” مُهدَّدة باستمرار من قبل أنظمة عربية وإسلامية ديكتاتورية، مثل: إيران وسوريا، وتنظيمات “إرهابية” مُسلَّحة، مثل: “حزب الله” وحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
– الصهيونية ليست معادية للإسلام، بل الإسلام الراديكالي هو المعادي للسامية وللصهيونية.
– إسرائيل تؤمن بالسلام وتسعى إلى تحقيقه مع الفلسطينيين وجيرانها العرب، ولأجل ذلك تقوم بتقديم التنازلات القاسية.
ولأجل ترويج هذه المضامين الدعائية، أَسَّست المنظمات الصهيونية، في الولايات المتحدة وإسرائيل، في عام 2003 “مشروع إسرائيل” (The Israel Project -TIP)، وهو منظمة للدعاية والعلاقات العامة، تهدف إلى تحسين صورة إسرائيل والدفاع عنها في العالم. وتُعرِّف المنظمة نفسها بأنها “مؤسَّسة غير ربحية تعمل على تقديم المعلومات والحقائق عن إسرائيل للصحافيين والمؤسسات الإعلامية في العالم العربي وعبر العالم”(20). ويضم المجلس الاستشاري للمنظمة أكثر من ثلاثين مستشارًا من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، إضافة إلى سفراء سابقين، وخبراء في الإعلام، وأكاديميين وباحثين، وخبراء سياسيين وعسكريين متقاعدين. ويُعَدُّ المستشار السياسي الأميركي، فرانك لنتز (Frank Luntz)، من أهم الناشطين في هذه المنظمة، وهو المسؤول عن إعداد الخطط الإعلامية والدعائية، التي ترسم الاستراتيجية الإعلامية والدعائية للمتحدثين الرسميين باسم الأجهزة السياسية والعسكرية الإسرائيلية. وتمارس المنظمة نشاطها من مكتبين في واشنطن والقدس، وقد دأبت منذ تأسيسها على إصدار “دليل أو معجم” دعائي يرسم للقيادات الإعلامية الإسرائيلية منهجًا يحدِّد لها أفضل الأساليب والمضامين، التي ينبغي عليها توظيفها عند مخاطبة الرأي العام العالمي عامة، والأميركي خاصة، مع إرشادات خاصة تتعلق بطريقة مخاطبة الجمهور العربي. وبالاطلاع على مضمون الإرشادات والتوجيهات، التي تضمنها كتاب “معجم إسرائيل 2009: معجم لغوي شامل” يمكن استنتاج الخطوط العريضة للخطاب الصهيوني في المرحلة الراهنة(21):
– التظاهر بالتعاطف مع الإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍّ سواء: وفي هذا السياق يُوَجِّه مُعِدُّو “المعجم” المتحدثين الرسميين باسم الحكومة الإسرائيلية، والجيش الإسرائيلي، إلى التأكيد على “التزام إسرائيل بتحقيق مستقبل أفضل للجميع، من الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء”، و”سعي إسرائيل إلى إنهاء الألم والمعاناة للجميع، ولهذه الغاية، فإن إسرائيل ملتزمة بالعمل مع الفلسطينيين لإيجاد حل سلمي ودبلوماسي يوفر للشعبين الإسرائيلي والفلسطيني مستقبلًا أفضل”؛ لأن “أوضاع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة صعبة وكارثية بشكل لا يُصدَّق، وإسرائيل تريد تغييرها”.
– التمييز بوضوح بين الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) باعتبار أن حماس تمثِّل العائق الرئيسي أمام مسيرة السلام، وإنجاز السلام القائم على أساس “حل الدولتين”، كما أن حماس تُلحِق ضررًا بالشعبين، الفلسطيني والإسرائيلي”.
– التشكيك في نزاهة قيادات السلطة الفلسطينية. وفي هذا السياق، يُشدِّد “الدليل” على ضرورة استخدام المتحدثين باسم إسرائيل لغة من قبيل: ” نحن نعلم أن الفلسطينيين يستحقون قادة يهتمون برفاهية شعبهم، ولا يختلسون مئات الملايين من الدولارات المقدمة من أميركا وأوروبا لمساعدة الشعب الفلسطيني، ويخفونها في حسابات مصرفية خاصة في سويسرا، أو يستخدمونها لدعم الإرهاب بدلًا من السلام، فالشعب الفلسطيني بحاجة إلى الكتب، بدلًا من صنع القنابل، وبحاجة إلى الطرق المعبدة، وليس إلى الصواريخ”.
– التأكيد على “تمسُّك إسرائيل بالسلام”، و”تصميمها على مواصلة السعي للوصول إلى سلام مع الطرف الفلسطيني الملتزم بالسلام، ونبذ الإرهاب والعنف، واستعدادها لتقديم تنازلات صعبة وقاسية، من قبيل الانسحاب الكامل من قطاع غزة”.
– التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وحماية أمن مواطنيها وممتلكاتهم.
– إبراز المبادرات “الإيجابية”، التي تقوم بها إسرائيل من أجل الحفاظ على البيئة ورفع مستوى المعيشة والرفاهية للمجتمعات المحلية الفلسطينية داخل إسرائيل.
– التأكيد على القيم المشتركة بين إسرائيل والعالم الغربي؛ حيث تقف إسرائيل في خندق واحد مع الغرب في مواجهة “الإرهاب”؛ “لأن إسرائيل، مثل الغرب تمامًا، تواجه خطر الإرهاب والتطرف”.
– تسعى إسرائيل، مثل الدول الغربية، إلى بناء مجتمع يتمتع بـ”الديمقراطية”، و”الحرية”، و”الأمن”، و”السلام”، وتَنْشِئَة أجيالها من الشباب والشابات ليكونوا كفاءات مهنية وعلمية. وفي المقابل، “يسعى الفلسطينيون والعرب إلى تدمير إسرائيل عبر زرع ثقافة الكراهية في أطفالهم، الذين يكبرون ليصبحوا انتحاريين يفجِّرون أنفسهم في شوارع إسرائيل وحافلاتها وأسواقها ومطاعمها”. ويحثُّ الدليل مستخدميه من القيادات الصهيونية على إبراز الفرق بين المدارس الإسرائيلية والمدارس الفلسطينية، فبينما “تُعلِّم المدارس الإسرائيلية تلاميذها احترام الفلسطينيين والتعاطف مع محنتهم، وأن السعي إلى تحقيق السلام هو أولوية”، “تُلَقِّن المدارس الفلسطينية تلاميذها أفكارًا معادية للسامية، وتُقدِّم لهم منهاجًا مليئًا بالصور النمطية والدعاية المعادية لإسرائيل، والنصوص المصممة لتعزيز العداء والتعصب، بدلًا من تشجيع التعايش والتفاهم مع جيرانهم اليهود”.
– التشكيك في جدية ومصداقية القيادات الفلسطينية، التي “تزعم” سعيها إلى تحقيق السلام.
– التشكيك في كفاءة ومهنية المؤسسات العامة الفلسطينية، مع التركيز على “تفشي الفساد” و”انتهاكات حقوق الإنسان” و”غياب سلطة القانون والقضاء”، وغيرها من العوامل، التي تجعل الشعب الفلسطيني “غير مؤهل، وغير جاهز للتمتع بدولة مستقلة”.
– التشديد على الخطر الإيراني، الذي لا يُهدِّد إسرائيل أو الغرب وحسب، ولكن يُهدِّد الدول العربية المجاورة لإيران أيضًا(22).
- نتفليكس: منصة جديدة لـ”هاسبارا” إسرائيل
شهدت صناعة التليفزيون خلال العقدين الماضيين، متغيرات مهمة في جوانب الملكية والتقنية أدت إلى ظهور وانتشار منصات بث جديدة، مثل: “ديلي موشن” (Dailymotion)، و”يوتيوب” (Youtube)، و”هولو” (Hulu)، و”ديزني +” (Disney+)، و”نتفليكس” (Netflix)…وغيرها. المتغير الأول، تقني أو تكنولوجي، نَقَل هذه الصناعة إلى عصر يعرِّفه باحثون أمثال لاين شبيغل (Lynn Spigel) وجون ألسون (Jan Olsson)(23) بعصر “التليفزيون بعد التليفزيون”. ويمتاز هذا العصر بانتقال صناعة التليفزيون من حالة تليفزيون القطاع العام، أو القطاع الخاص التجاري، إلى ظهور ابتكارات جديدة مثل البث الفضائي، والبث عبر الكابلات، وبروز منصات إنتاج وبث متعددة الجنسيات مثل “نتفليكس”. وبرزت مع هذه التحولات التقنية أشكال مبتكرة للإنتاج، وتغيرت هياكل الرعاية وظهرت نماذج رعاية جديدة، كما تغيرت كيفية مشاهدة المحتوى التليفزيوني نفسه مع ظهور ما يُسمَّى “فيديو الاشتراك بالطلب” (SVODs -Subscription video on demand)، إلى جانب وسائط تلقي ومشاهدة أخرى مثل الكمبيوتر والهاتف الذكي. كما فتحت هذه التحولات المجال أمام انتشار المحتويات إلى خارج حدودها الوطنية.
أما التغير الأهم المرتبط بهذه التحولات فطرأ على المحتوى؛ إذ ظهرت تقنيات جديدة في سرد ورواية القصص، تطورت في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، وعُرفت باسم “تليفزيون الجودة”(24). كان الطموح الرئيسي لهذا النوع من الإنتاج هو تقديم خدمات تليفزيونية لجمهور الطبقتين العليا والمتوسطة التي تخلت عن التليفزيون بشكل ملحوظ بسبب سوء محتوى الأعمال الدرامية. بعد التوسع الدولي للقنوات الكيبلية والفضائية مثل الشبكة التليفزيونية “إتش بي أو” التي قادت حملة إعلانية لا تُنسى عن إنتاجها الدرامي الأصلي مع شعار “ليس تليفزيونًا، بل تليفزيون إتش بي أو” الذي سرعان ما انتشر داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها. وقد سعى الباحثون في تطور التليفزيون إلى تحديد الخصائص الرئيسية لـ”تليفزيون عالي الجودة”، فلاحظ باحثون أمثال روبرت طومسون (Robert Thompson) وجيسون ميتيل (Jason Mittell) أن مسلسلات تليفزيون الجودة تتميز بوجود فرق عمل كبيرة ومتنوعة اجتماعيًّا، مع ارتباط المحتوى بالقضايا الاجتماعية والسياسية أو ما يعرف بالمعايير العالمية، وعرض الروايات المعقدة بأساليب سرد قصصي مثيرة وجذابة وغير مُمِلَّة(25). ولخص الأكاديمي نصر الدين لعياضي، أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة الجزائر، مكامن قوة تأثير منصات البث التليفزيوني الجديدة في الجوانب التقنية التي توافرت لهذه المنصات؛ مثل عدم اكتفاء المنصات بمجرد بث المواد الدرامية وإنما الاشتراك في إنتاجها؛ واحتكار التراث السينمائي الأميركي؛ وخصوصية نموذجها التجاري وعلاقته المرنة مع الجمهور؛ وتحررها من القيود القانونية التي تكبل القنوات التليفزيونية الأوروبية(26).
وينقل الباحث لعياضي عن نتالي سوناك، أستاذة علوم الإعلام والاتصال بجامعة السوربون الفرنسية، تأكيدها أن “نجاح نتفليكس لا يكمن في استعداده المبكر للتكيُّف مع التحولات التي طرأت على سلوك مشاهدي المادة السمعية-البصرية فحسب، بل في خوارزمياته التي تغربل وتنتقي وتحلِّل بشكل تفصيلي عادات كل مشاهد لهذه المواد عبر شبكة الإنترنت: ماذا يشاهد من أفلام ومسلسلات؟ ومتى يشاهدها؟ ومتى يتوقف عن مشاهدتها؟ وما مقاطع الأفلام الطويلة التي يعيد مشاهدتها؟ وما حجم الصوت الذي يفضله لمتابعة الأفلام؟ وغيرها من التفاصيل التي يجيب عنها 900 مهندس يعملون في هذه الشركة ويتابعون بث 300 مليون ساعة من الأفلام والمسلسلات أسبوعيًّا”(27).
نتفليكس والإنتاج التليفزيوني الإسرائيلي
مكَّنت القفزات النوعية في صناعة التليفزيون بلدانًا صغيرة مثل إسرائيل من دخول منصات التليفزيون العالمية، ساعدها في ذلك انخفاض تكاليف الإنتاج مقارنة بالإنتاج الأميركي باهظ التكلفة. وبالمقابل، سعت منصات مثل نتفليكس للاستحواذ على الإنتاج عالي الجودة باللغات الأجنبية، كمصدر محتمل لمسلسلات الدراما التي يمكن تقديمها للمشتركين ضمن باقات تليفزيون عالي الجودة. بالإضافة إلى الإثارة في السرد القصصي، والاهتمام بخصائص التليفزيون عالي الجودة، وظَّف الإنتاج التليفزيوني الإسرائيلي جوانب كثيرة من الصراع العربي-الإسرائيلي، لاسيما الجوانب التي تتقاطع مع ما يُسمَّى بـ”المعايير العالمية” للوصول إلى مشتركي منصات التليفزيون في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرهما. على سبيل المثال، عَمَد منتجو المسلسلات التليفزيونية الإسرائيلية، إلى تغذية القلق في الغرب تجاه “الآخر”-العربي الإسلامي، مع إبراز القيم المشتركة بين المجتمع الإسرائيلي والمجتمعات الغربية، والمجتمع الأميركي تحديدًا.
خلال السنوات الخمس الأخيرة، عرضت منصات “تليفزيون الاشتراك والطلب” الأميركية، “إتش بي أو” ونتفليكس عددًا من الإنتاجات الإسرائيلية (أفلام، مسلسلات، وثائقيات) مثل مسلسل “عندما يحلِّق الأبطال”، الذي أُنْتِج في 2018، ويتحدث عن 4 محاربين إسرائيلين أصيبوا بصدمة بعد حرب 2006 في لبنان. وفيلم نتفليكس “منتجع البحر الأحمر” الذي يروي تفاصيل عملية جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلي “الموساد” لترحيل يهود إثيوبيا إلى إسرائيل عبر السودان. ومسلسل نتفليكس المكون من 6 أجزاء بعنوان “الجاسوس” ويلعب فيه النجم ساشا بارون كوهين (Sacha Baron Cohen) دور عميل الموساد الشهير إيلي كوهين الذي أُعدم في دمشق عام 1965. وقدمت نتفليكس خلال العامين 2018 و2019 فيلمين بعنوان “الملاك” و”الجاسوس الذي سقط على الأرض”، كما ذكرنا آنفًا، ويرويان قصة المصري أشرف مروان، صهر الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر. ويأتي الفيلمان على خلفية تضارب المعلومات حول مروان الذي توفي بعد سقوطه من الطابق الخامس في لندن يوم 27 يونيو/حزيران 2007؛ إذ يؤكد المصريون أنه بطل قومي خدع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لصالح مصر، وفي المقابل، يقول الإسرائيلون إنه كان عميلًا للموساد.
ويظل مسلسل “فوضى” -قصة ضابط إسرائيلي متقاعد يعود للعمل ضمن فرقة “مستعربين” للقبض على مقاوم فلسطيني كان يعتقد أنه نجح في تصفيته قبل التقاعد- أكثر المسلسلات الإسرائيلية التي أثارت جدلًا بين المعجبين والمستنكرين بعد عرضها ضمن محتويات منصة نتفليكس.
- عينة الدراسة: تحليل مضمون مسلسل “فوضى”
عرضت شبكة التليفزيون الإسرائيلية (yes) أولى حلقات الجزء الأول (12 حلقة) من المسلسل الإسرائيلي “فوضى (Fauda) في 15 فبراير/شباط من العام 2015، ثم عرضت حلقات الجزء الثاني (12 حلقة) في العام 2018. عُرضت أولى حلقات المسلسل على منصة نتفليكس لأول مرة في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2016، وتم عرض حلقات الموسم الثاني في مايو/أيار 2018. وتعمل الشركة المنتجة حاليًّا على إنتاج حلقات الموسم الثالث(28). اشترك في تأليف حلقات المسلسل ليئور راز (Lior Raz) (قام بدور دورون-بطل المسلسل) وآفي يسسخروف (Avi Issacharoff) (اشترك في التمثيل كعضو في وحدة المستعربين الإسرائيلية) بالاعتماد على خبرتهما السابقة في جيش الدفاع الإسرائيلي، وأخرجه آساف برنشتاين (Assaf Bernstein).
تتمحور حلقات المسلسل حول العمليات الخاصة لإحدى وحدات المستعربين الإسرائيلية، وكيفية تنفيذ مهامها في اغتيال نشطاء المقاومة الفلسطينية. وتُطلق تسمية مستعربين (تُلفَظ بالعبرية: مستعرفيم) على وحدات إسرائيلية خاصة تتشكَّل من جنود ذوي ملامح مشابهة للملامح العربية، ويخضعون لتدريبات مكثفة لتعلم تفاصيل الحياة الفلسطينية ودراسة تاريخ العرب والفلسطينيين ولغتهم وعاداتهم. بدأ تأسيس هذه الوحدات في الثلاثينات من القرن الماضي عندما قامت عصابات الهاجاناه الصهيونية بتشكيل فريق من أعضائها للقيام بمهام استخبارية وتنفيذ عمليات قتل وتصفية ضد الفلسطينيين. وكان أول مستعرب هو أهارون حاييم كوهين (Aharon Hayeem Cohen)، ومع الزمن حُوِّلت فرقة المستعربين إلى دوائر الاستخبارات العامة. وتُسْنَد لوحدات المستعربين مهام جمع معلومات وتصفية قيادات المقاومة ونشطاء الفصائل الفلسطينية. وتوجد وحدة مستعربين خاصة للعمل في أوساط المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتسمى “متسادا”، وتُشرِف عليها مصلحة السجون، وتتركز مهمتها في السيطرة على رهائن محتجزين في سجون بها أسرى فلسطينيون وقمع احتجاجاتهم. ومن مهام هذه الوحدة كذلك الدخول في صورة مسجونين يعرفون باسم “العصافير” بين الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين وربط علاقات معهم للحصول على معلومات مهمة منهم، واستدراجهم للاعتراف بما يدينهم. ويتقمص المستعربون هويات صحفيين أو مسعفين أو أطباء أو نشطاء أجانب، ليسهل عليهم اختراق التظاهرات والاحتجاجات وتنفيذ مهمتهم الأمنية ولو اقتضى الأمر ارتداء ثياب النساء.
تحكي حلقات الموسم الأول من “فوضى” تفاصيل مطاردة بطل المسلسل الضابط في وحدة المستعربين الإسرائيلية “دورون” لمقاوم فلسطيني يُدعى “توفيق حامد-أبو أحمد”، كان الضابط الإسرائيلي يظن أنه تمكَّن من قتله في عملية أمنية سابقة. في أحداث المسلسل الأولى يزور مورينو، قائد وحدة المستعربين، “دورون” في مزرعته، حيث يمضي تقاعده، ويبلغه أن توفيق حامد لا يزال على قيد الحياة ويعتزم حضور حفل زفاف شقيقه بشير. يلتحق دورون بوحدة المستعربين مُجددًا من أجل الذهاب إلى حفل الزفاف وتنفيذ مهمة قتل أبو أحمد.
تفشل وحدة المستعربين بقتل أبو أحمد خلال حفل الزفاف، وعندما يَكشف الحضورُ أمرهم تقع فوضى إطلاق نار فيُقتل العريس، بشير، شقيق توفيق حامد. أقنع دورون قائد الوحدة بالسماح له للعودة إلى العمل ضمن وحدة المستعربين حتى يتابع مطاردة توفيق وقتله. تنجح مجموعة توفيق حامد (أبو أحمد) لاحقًا باحتجاز بوعز، عضو وحدة المستعربين وصهر دورون، فقرر الأخير وبعض أفراد وحدة المستعربين التصرف بشكل شخصي، دون أوامر من قيادتهم والقيام باختطاف الشيخ عوض الله، صديق توفيق، في محاولة لاستعادة بوعز من خلال عملية تبادل. عندما اكتشف دورون أن توفيق زرع قنبلة في أحشاء بوعز لتفجيره بعد إتمام التبادل، اختطف ابنة توفيق لاستخدامها كورقة ضغط إضافية. في نهاية المطاف، قُتل بوعز والشيخ عوض الله في تفجيرين خلال عملية التبادل، وأُصيبت ابنة توفيق بجروح خطيرة في عينها.
وفي الجزء الثاني، يتابع “دورون” وفرقة المستعربين مطاردة الناشطين الفلسطينيين، وهدفهم الأول هذه المرة مقاوم فلسطيني اسمه “نضال المقدسي”، يعرف “دورون” لاحقًا أن “نضال” عاد من سوريا، وقد تدرب في معسكرات “تنظيم الدولة الإسلامية”، والأهم أن نضال يبحث عنه شخصيًّا للانتقام منه لأنه قتل، في الموسم الأول من المسلسل، والده (الشيخ عوض الله).
مع تتبع مضمون حلقات المسلسل الـ24، يتبيَّن أن كاتبي المسلسل استوعبا تمامًا المضامين التي توجِّه دوائر “هاسبارا” العاملين في الإنتاج الإعلامي الإسرائيلي إلى سردها في جميع المنتجات الإعلامية التي تدافع عن إسرائيل. يرصد هذا البحث أربعة مضامين (موضحة في الجدول التالي) برزت بشكل أساسي في مشاهد وسيناريو حلقات المسلسل، وتترجم حرفيًّا (بالصورة والنص واللون) مضامين مدرجة حرفيًّا في “مشروع إسرائيل 2009: معجم لغوي شامل”، وتستند إلى التوصيات التي وردت في “دليل الدفاع عن إسرائيل” (The Israel Advocacy Handbook).
ووضَّح فرانك لانتس (Frank Luntz)، كاتب مضامين “مشروع إسرائيل 2009: معجم لغوي شامل”، أن ما يحتويه هذا القاموس يمثِّل قواعد (25 قاعدة) لتحقيق تواصل فعَّال بين القائمين على الاتصال المُدافع عن إسرائيل والجمهور العالمي، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية، ويقول: “سيوفر لك هذا الدليل العديد من الكلمات والعبارات المحددة لمساعدتك على التواصل بشكل فعَّال في دعم إسرائيل”.
- يوصي فرانك لانتس المدافعين عن إسرائيل بـ”إظهار التعاطف مع كلا الجانبين، فهدف الرسائل المؤيدة لإسرائيل لا يقتصر على جعل الناس الذين يحبون إسرائيل بالفعل يشعرون بالرضا تجاه موقفهم، إنما الهدف هو كسب قلوب وعقول جديدة لإسرائيل دون أن تفقد الدعم الذي تتمتع به إسرائيل بالفعل. والخطوة الأولى لكسب الثقة والأصدقاء لإسرائيل هي إظهار أنك تهتم بالسلام لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين، وعلى وجه الخصوص، العمل لمستقبل أفضل لكل طفل”.
جدول رقم (1) يبيِّن مضامين التظاهر بالتعاطف مع الفلسطينيين
م | خطاب التظاهر بالتعاطف مع الفلسطينيين في عينة الدراسة | معلومات تقنية |
1 | الضابط (غابي) في حوار مع أم أحمد، يقول إنه مستعد لمساعدتها للسفر مع أولادها إلى أي مكان في العالم حيث هناك حياة أفضل يستحقها الأطفال. | ج1- ح4 |
2 | غابي يسأل القيادي (علي) عن ابنته نادية ويعبِّر عن سعادته، لأنه ساعد في تأمين علاجها في إسرائيل. | ج1-ح5 |
3 | يتعاطف الضابط (غابي) مع أم أحمد بعد إصابة ابنتها في عينها أثناء اشتباكات بين فرقة المستعربين والمقاومين. ينقل الضابط الإسرائيلي الأم وابنتها إلى مستشفى هداسا لإجراء عملية لها على يد أفضل الأطباء في إسرائيل. | ج1-ح8 |
4 | يعرض الضابط (غابي) على أم أحمد السفر إلى برلين مع أولادها والعيش هناك بسلام. | ج1-ح9 |
بالنظر إلى الفئة الأولى من عينة المضامين في الجدول رقم (1)، يتبيَّن أن الخطاب الدعائي الإسرائيلي يصر على إقناع المشاهدين بتعاطف الإسرائيلي (شخصية الضابط غابي) مع الشخصيات الفلسطينية الضعيفة. في الحلقات الأولى من المسلسل يظهر ضابط المخابرات (غابي) أو الكابتن أيوب متعاطفًا جدًّا مع الأب (علي) الذي تحتاج ابنته إلى عملية زراعة كلى، ويعرض عليه المساعدة لأن “الأبناء أهم شيء” في الدنيا، كما يقول غابي، ويجب على الآباء فعل أي شيء لإنقاذ حياتهم. وفي مشاهد أخرى يظهر الضابط غابي متعاطفًا مع السيدة أم أحمد وابنتها التي أُصيبت في عينها وبحاجة إلى عملية عاجلة. وفي مشهد آخر يظهر الضابط في غاية الحزن إلى حدِّ البكاء على حالة أم أحمد. وفي المقابل، يظهر الضابط غابي متعاطفًا مع الشخصيات الإسرائيلية التي تُصاب بألم مثل زوجة الضابط دورون عندما قتل الفلسطينيون شقيقها، وزوجة قائد فرقة المستعربين التي قُتل زوجها بانفجار سيارته بلغم فلسطيني. بإظهار هذا التعاطف مع ضحايا الصراع من الجانبين، يتقيد منتجو المسلسل حرفيًّا بتوصيات “معجم اللغة العالمية” مع وضعها في قوالب فنية غير مباشرة.
تُكثف شخصية الضابط غابي وتصرفاته “العقلانية، المضبوطة، الهادئة، المتعاطفة” الكثير من السمات التي يسعى كاتبا النص إلى ترويجها، من قبيل “العقلانية الإسرائيلية مقابل الغوغائية الفلسطينية” وكيف أن الضابط الإسرائيلي يضطر إلى استخدام العنف، أو أنه يلجأ إلى القوة والفظاظة كخيار أخير، بينما يلجأ الفلسطيني إلى العنف بكل سرور، ويجعل هذا الخيار الأول في الصراع. تهدف هذه المضامين إلى إضفاء الطابع الإنساني على إسرائيل، وإظهار تفهم الإسرائيليين للمعاناة الفلسطينية، مع دفع الادعاء بأنهم يستخدمون القوة دائمًا، وإظهارهم على أنهم “مجبرون” على ممارسة العنف “المضبوط” “ضمن القانون” كرد فعل على عنف انتقامي يمارسه الفلسطينيون. وتحاول هذه المضامين إقناع المتلقي، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية، بأن معاناة الفلسطينيين إنما هي من صنع أنفسهم، وليس لإسرائيل أية مسؤولية عن ذلك.
- يحض المعجم الدعائي الإسرائيلي أنصار إسرائيل على إبراز أوجه التشابه المباشرة بين إسرائيل وأميركا، بما في ذلك الحاجة إلى مكافحة الإرهاب. مع التأكيد على “مواجهة إسرائيل لنفس التحديات التي تواجهها أميركا في حماية المواطنين”، ويأتي في المعجم تأكيد على أنه “لا يوجد أبدًا أي مبرر لذبح الأبرياء من النساء والأطفال بشكل متعمد… قد نختلف حول السياسة وقد نختلف حول الاقتصاد، لكن هناك مبدأ أساسي واحد يجب على جميع الناس من جميع أنحاء العالم التوافق عليه: الأشخاص المتحضرون لا يستهدفون النساء والأطفال الأبرياء بالقتل”.
جدول رقم (2) يبرز مضامين تُصوِّر تحالف إسرائيل مع الغرب في محاربة الإرهاب
م | مضامين التحالف الإسرائيلي-الغربي في محاربة الإرهاب في عينة الدراسة | معلومات تقنية |
1 | الضابط غابي يقول في حوار مع مدير الأمن الوقائي الفلسطيني: “أبو أحمد يعمل على تدبير عملية “البراق” بحجم تفجيرات 11/9″ التي ضربت أميركا. | ج1-ح9 (د.07.01-07.02) |
2 | أبو خليل، القيادي في حماس، يُهرِّب من الأردن حقيبة تحوي غاز السارين لقتل مدنيين إسرائيليين. | ج1-ح10 (د.07.02-08.07) |
3 | نضال المقدسي الملقب بـ”أبو سيف المقدسي” يبايع في شريط فيديو أمير المؤمنين، زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية”. يتم تسجيل الشريط بأسلوب يماثل أفلام تنظيم الدولة. يجلس نضال مُلَثَّمًا أمام راية تنظيم الدولة السوداء ويتلو بيانًا بلغة بياناته (التنظيم). | ج2-ح7 (د.33.34-34.27) |
4 | نضال المقدسي يداهم مزرعة والد دورون، ويقوم بذبحه على طريقة الفيديوهات التي صورها تنظيم الدولة لذبح الرهائن الغربيين. | ج2-ح8 (د.38.50-39.23) |
5 | ينجح نضال بالإمساك بضابط فرقة المستعربين (دورون)، ويُلبسه بدلة برتقالية استعدادًا لإعدامه على طريقة تنظيم الدولة مع تصوير عملية الإعدام بالفيديو. ويطلب منه قراءة رسالة أمام الكاميرا قبل إعدامه. | ج2-ح12 (د.33.34-34.27) |
بالنظر إلى الفئة الثانية من عينة المضامين في الجدول رقم (2)، يظهر اهتمام مسلسل فوضى بإبراز هذه المضامين من خلال إفراد الجزء الثاني من المسلسل لمطاردة نضال المقدسي، الذي بايع تنظيم الدولة وحاول تنفيذ عمليات باستخدام غاز السارين، ويخطط لمهاجمة إسرائيل بعملية “البراق” على غرار هجمات 11/9 التي نفذها تنظيم القاعدة في الولايات المتحدة. ويهدف هذا المضمون إلى وضع إسرائيل في خندق واحد مع الولايات المتحدة والعالم الغربي في مواجهة معسكر الإرهاب؛ وفي المقابل وضع الفلسطيني في معسكر الإرهاب أو الشيطان.
يترجم المسلسل هذه الرسائل في مشاهد تحاكي ما بثه تنظيم “الدولة الإسلامية” من فيديوهات يظهر فيها الملثمون أمام الراية السوداء. في هذه المشاهد، يذبح (الفلسطيني)، نضال المقدسي، (الإسرائيلي)، والد الضابط دورون، بنفس الطريقة التي ذبح بها تنظيم الدولة رهائن غربيين أمثال الصحفي الأميركي، جيمس فولي (James Foley)، وزميله الصحفي الأميركي، ستيفن سوتلوف (Steven Sotloff)، وعامل الإغاثة البريطاني، ديفيد هنس (Divide hens)، وغيرهم. وسواء في مشهد قتل والد دورون، أو مشهد الإعداد لإعدام دورون، هناك استدعاء واضح ومباشر لمشاهد كان يبثها تنظيم الدولة للرهائن الغربيين قبل قتلهم، وفي ذلك محاولة واضحة لربط إسرائيل بالغرب من حيث الخطر الذي تواجهه، وربط الفلسطيني بالتنظيمات الإرهابية التي تعتدي على القيم الإنسانية.
وتهدف إسرائيل بذلك إلى شَرْعَنَة ما تقوم به من قتل للفلسطينيين، لأنها تقوم بواجبها في مكافحة الإرهاب، كما يفعل حلفاؤها الغربيون. ولا يفوِّت هذه الدعايةَ تبريرُ قتل المدنيين الفلسطينيين بأنه غير مقصود ويحدث بالخطأ. تعمَّد منتجو المسلسل التركيز على تنظيم الدولة لتوسيع نطاق الانتشار الدولي للعرض ليشمل البلدان التي لا تهتم كثيرًا بالفلسطينيين العاديين. ويدعو مسلسل “فوضى” بمثل هذه المشاهد المتلقي في الولايات المتحدة وأوروبا إلى رؤية المقدسي عدوًّا لهم أيضًا مع دعوته للإعجاب ببطولة فرقة “المستعربين” الإسرائيليين الشجعان الذين يدافعون عن وطنهم ضد الإرهابيين. وتبدو مشاهد محاربة الإرهاب بمنزلة تذكرة دخول الإنتاج التليفزيوني الإسرائيلي إلى منصات “التليفزيوني النوعي”، لاسيما وهي تحاكي ما يُسمَّى “المعايير العالمية” التي تتوافق على ضرورة تكاثف العالم الحر في مواجهة الإرهاب الذي خلَّف ضحايا في كثير من المدن الأوروبية والولايات المتحدة.
ووظَّفت الدعاية الصهيونية ما يُسمَّى بـ”الإرهاب الإسلامي” لإقحام الفلسطيني في الجدل، عبر التركيز على العلاقة بين حركات المقاومة الإسلامية (حماس والجهاد) والتنظيمات الإرهابية المتطرفة (القاعدة والدولة الإسلامية). وتُروِّج القيادات الصهيونية، مثل وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان (Avigdor Lieberman)، أن إسرائيل واليهود “هما الجبهة الأمامية في الحرب، التي يشنُّها الإرهابيون ضد الغرب والعالم الحر بأكمله”(29).
- يهتم معجم اللغة الدعائي الصهيوني بتحريض العالم على المؤسسات التربوبة الفلسطينية (أسرة ومدارس) من خلال تشويه دور هذه المؤسسات في تنشئة الطفل في المدارس الفلسطينية. يذكر المعجم أن “المدارس الفلسطينية، وبدلًا من تعزيز قيم السلام مع جيرانهم اليهود، يدرِّسون لأطفالهم نماذج نمطية معادية للسامية، ودعاية معادية لإسرائيل، ومواد مصممة أكثر لتعزيز العداء والتعصب أكثر من التعايش والتسامح. ويقول المعجم: “من المبادئ، نؤمن بأن تنشئة الطفل بعيدًا عن الكراهية هي حق أساسي للطفل.. ومن المبادئ أن لا طفل فلسطينيًّا يستحق هذه الإهانات… لا ينبغي تربية الأطفال على الرغبة في قتل الآخرين أو أنفسهم. ومع ذلك، يومًا بعد يوم، تدفع القيادة الفلسطينية بثقافة الكراهية التي تشجع حتى الأطفال الصغار ليصبحوا انتحاريين. كمسألة مبدأ، يجب عدم إساءة معاملة أي طفل بهذه الطريقة. أطفال فلسطين يستحقون أفضل”. وفي المقابل، يعرض المعجم جهود إسرائيل في تعليم أطفالها السعي لتحقيق التقدم والسلام، وعدم حمل السلاح مهما كان الأمر.
جدول رقم (3) يكشف مضامين تشويه صورة المؤسسات التربوية الفلسطينية
م | صورة المؤسسات التربوية الفلسطينية في عينة الدراسة | معلومات تقنية |
1 | مشهد الطفلة التي تضع على رأسها راية حماس وتنشد: “لما نستشهد بنروح عالجنة… لا تقول علينا: صغار! من هالعيشة صرنا كبار… من غير فلسطين شو تعني طفولة؟… لا إله الا الله والشهيد حبيب الله.. علمتونا شو معنى الرجولة”. وتقول الطفلة في حوار مع الطبيبة شيرين: إن كل أطفال المدرسة فرحون لأنهم سوف ينشدون هذه الأغنية في حفلة المدرسة، وكذلك تقول أم الطفلة للطبيبة إنها فخورة بابنتها. | ج2-ح4 (د. 24.27- 25.11)
|
2 | مشهد الطفل إسماعيل الذي ينقل الهاتف الجوال بين “نضال” المقدسي وأمه. | ج2-ح3 |
3 | مشهد الأطفال الذين يتظاهرون باللعب في الشارع بينما هم يحرسون مكان إقامة “أبو أحمد”، وفي حالة إحساسهم بخطر فرق المستعربين يطلقون صفارات الإنذار. | ج1-ح4 (د.30.28- 30.50) |
بالنظر إلى المضامين الدعائية المدرجة في الجدول رقم (3)، نرى توصيات المعجم الدعائي واضحة في مشاهد وحوارات كثيرة داخل مسلسل فوضى؛ حيث يظهر الطفل (إسماعيل) مقحمًا في أنشطة الجماعات الإرهابية ولو من خلال حمل الهاتف بين قادة المسلحين (أبو أحمد ونضال) وأسرهم. أضف إلى ذلك إقحام مشهد الطفلة التي تضع على رأسها راية حماس وتنشد: “لما نستشهد بنروح عالجنة… لا تقول علينا: صغار! من هالعيشة صرنا كبار… من غير فلسطين شو تعني طفولة؟… لا إله الا الله والشهيد حبيب الله.. علمتونا شو معنى الرجولة”. وتقول الطفلة في حوار مع الطبيبة شيرين: إن كل أطفال المدرسة فرحون، لأنهم سوف ينشدون هذه الأغنية في حفلة المدرسة. وكذلك تقول أم الطفلة للطبيبة إنها فخورة بابنتها. وفي المقابل، يرفض الضابط في وحدة المستعربين، دورون، حمل ابنه للمسدس ويطلب منه رميه بعيدًا، مرة عندما اكتشف الطفل خيانة أمه مع زميل والده، وأشهر المسدس في وجه زميل والده. ومرة أخرى عندما أشهر الطفل المسدس في وجه “نضال المقدسي” لإنقاذ حياة أبيه، فطلب منه دورون إلقاء المسدس. ويظهر في المشهدين ما أوصى به معجم اللغة الدعائي الإسرائيلي عندما حثَّ منتجي الدعاية على إظهار كيف تُبعد إسرائيل أطفالها عن العنف، ولا تسمح بزرع قيم القتل والكراهية فيهم.
وتتقاطع هذه المضامين مع تقرير نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية الداعمة لإسرائيل، في ديسمبر/كانون الأول، 2017، حرضت فيه الحكومة البريطانية على قطع المساعدات البريطانية عن المدارس الفلسطينية. وقال تقرير مراسل الصحيفة، آين بيريل (Ian Brill)، من مدينة الخليل الفلسطينية: “إن بعض إدارات تلك المدارس تُدرِّب تلاميذها على حفظ الشعارات النضالية والثورية وتمثيل مشاهد مسرحية لقتل الجنود الإسرائيليين.. وقال مراسل “ديلي ميل” ذات الميول اليمينية، إنه “قلق من توجيه تلك الأموال لصالح تلقين العنف للأطفال(30).
- يعج معجم اللغة الدعائية الإسرائيلي بتعليمات وإرشادات تعلم القائمين على الترويج الدعائي الإسرائيلي كيف يُشوِّهون صورة القيادات الفلسطينية، في السلطة والمقاومة سواء. ويأتي في الصفحات الأولى من المعجم “نحن نعلم أن الفلسطينيين يستحقون قادة يهتمون برفاهية شعبهم، لا يأخذون مئات الملايين من أموال المساعدة المقدمة من أميركا وأوروبا، ووضعها في حسابات مصرفية سويسرية خاصة بهم”. وتكفي هذه العبارة ليؤسس عليها واجبات القائمين بالدعاية الإسرائيلية لجهة تشكيك المجتمع الدولي بنزاهة القيادات الفلسطينية.
جدول رقم (4) يبرز مضامين تشويه صورة القيادات الفلسطينية
م | صورة القيادات الفلسطينية في عينة الدراسة | معلومات تقنية |
1 | يقدم القيادي الفلسطيني، علي، معلومات عن توفيق حامد “أبو أحمد”، الملقب بالفهد، مقابل علاج ابنته في مستشفيات إسرائيل. | ج1- ح1 ج1-ح6 |
2 | يكشف حوار بين ضابط المخابرات غابي (أو كابتن أيوب) مع “أبو ماهر”، مدير جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، أن الأخير يعلم بتعامل شقيقه مع المخابرات الإسرائيلية. يوافق أبو ماهر على التعاون مقابل منح رخصة منتجع سياحي لأخيه. | ج1-ح10 |
3 | أبو خليل، القيادي في حماس يسرق من الأموال المرسلة معه من القيادة في الأردن إلى قائد الجناح العسكري في الضفة الغربية. | ج1-ح10-(د. 21.30/23.30) |
4 | وليد العابد يكذب على قائده، لأنه وقع في حب الطبيبة شيرين. | ج1- نهاية ح12 |
5 | قائد حركة حماس في الضفة الغربية يطلب من وليد العابد قتل قائد الجناح العسكري للحركة للخلاص منه. وليد يقوم بقتل “أبو أحمد” لمصالح شخصية، منها أخذ موقعه التنظيمي والتخلص من مطاردة “أبو أحمد” لحبيبته الطبيبة، شيرين. | ج1-ح11-(د. 1.42/03.17) |
6 | الضابط غابي يحقق مع مبعوث حماس من الأردن ويكاشفه بانحرافاته وسرقاته من أموال حماس. ينهار أبو خليل أمام المعلومات الموثقة التي يواجهه بها غابي، فيبدي استعداده لتقديم المعلومات عن المقاومين مقابل إطلاق سراحه. | ج2-ح2
|
7 | خلافات بين قائد حركة حماس في الضفة، “أبو سمرا”، والقائد العسكري الجديد، وليد العابد. | ج2-ح2 |
8 | الخلافات بين وليد العبد ونضال المقدسي التي وصلت إلى حد إشهار السلاح بينهما. | ج2-ح3+ح4 |
9 | فساد قائد حركة حماس في الضفة الغربية، “أبو سمرا”، وقبول الأخير التعاون مع الضابط الإسرائيلي غابي مقابل عدم فضح ممارساته غير الأخلاقية. | ج2-ح7 (د.14.10-14.45) |
بالنظر إلى المضامين الدعائية المدرجة في الجدول رقم (4) يحاول منتجو المسلسل النيل من إنسانية الفلسطيني وإظهار أن كل ما يقوم به الفلسطينيون من عنف وقتل إنما هو مدفوع بالرغبة في الانتقام، وليس هناك مشروع سياسي فلسطيني، فضلًا عن مشروع تحرري فلسطيني. ويقدم مسلسل فوضى نموذج آمال العروس التي فجَّرت نفسها في نادٍ ليلي داخل إسرائيل انتقامًا لمقتل عريسها، بشير، الذي مات خلال حفل زفافهما برصاص فرقة المستعربين الذين اقتحموا العرس بهدف القبض على أبو أحمد شقيق العريس (ج1/ح1 – د. 33.30). ثم نموذج نضال الملقب بالمقدسي، بطل الجزء الثاني، الذي طارد الإسرائيلي، عضو فرقة المستعربين (دورون) انتقامًا لمقتل والده، الذي قتله الضابط في وحدة المستعربين، دورون، في الجزء الأول. ويُعبِّر نضال صراحة عن رغبته في الانتقام شخصيًّا، ويرفض في حواراته مع قيادات فلسطينية من حركة حماس التنازل عن حقه بالانتقام من قاتل والده.
ويقدم المسلسل الشخصيات الفلسطينية جميعًا، بلا قيم. يتخلى القيادي في السلطة، علي، في المشاهد الأولى عن قيمه الوطنية لتحقيق مصلحة علاج ابنته. ويكذب عضو حركة حماس، وليد العابد، ويغلِّب نزواته الشخصية على ما يزعمه من أهداف وطنية، ويصل به الحال إلى قتل قائده لأخذ مكانته. شخصيات أخرى قيادية في حركة حماس، يُظهرها المسلسل مكشوفة ومفضوحة بالفساد والغدر والخيانة والتواطؤ، يخونون رفاقهم وزوجاتهم وقياداتهم إلى درجة أن يقوم وليد العابد بقتل قائده العسكري في حركة حماس بمسدس سلَّمه له القائد السياسي في الحركة للتخلص من أبو أحمد. طبعًا لا يستثني المسلسل رموز السلطة وأجهزة التنسيق الأمني، ويظهرها في شخص “أبو ماهر” مدير الأمن الوقائي في الضفة الغربية الذي يقدم الخدمات للضابط الإسرائيلي (غابي) مقابل الحصول على تسهيلات وامتيازات شخصية وعائلية.
خلاصة
تبني إسرائيل من خلال الأعمال الدرامية التليفزيونية صورة نمطية للفلسطيني تحت غطاء “المعايير العالمية”. وتتمظهر الصورة النمطية للفلسطيني في كونه إرهابيًّا مرتبطًا بأخطر التنظيمات الإرهابية في العالم؛ ثم إنه كاذب وخائن ومراوغ؛ ليس لديه مشروع سياسي، أو تحرري. كل الشخصيات الفلسطينية تتخلى عن شعاراتها مقابل مصالح شخصية؛ فالسياسي يسعى إلى تحقيق مصالحه الشخصية، سواء بكسب المال والامتيازات أو الحصول على مواقع ومناصب سياسية أو مقابل التغطية على فضائحه وفساده. أما العسكري الذي يزعم أنه مقاوِم من أجل الحرية، فهو مجرد غاضب يسعى للانتقام من أي كان، إسرائيلي أو من أبناء جلدته.
وفي المقابل، تعيد الدراما الإسرائيلية تأكيد مضامين ثابتة في الدعاية الإسرائيلية من قبيل مقاربات تضع إسرائيل في مصاف الدول الغربية، مرة بإبراز “ديمقراطية” نظامها السياسي الذي يحاكي الديمقراطيات الغربية، ومرة أخرى في إبراز المخاطر التي تواجهها إسرائيل من جيرانها العرب، ووحدة الحال التي تجمعها مع الدول الغربية في خندق مواجهة الإرهاب الإسلامي.
تسعى الدعاية الإسرائيلية من وراء نشر هذه المضامين إلى إقناع الرأي العام الغربي، الرسمي والشعبي، المؤيِّد منه لنضال الشعبي الفلسطيني على الوجه الخصوص، بعدم التعاطف مع الفلسطينيين، مع محاولة إقناع الرأي العام العالمي بأن الفلسطينيين لا يستحقون دولة، لأنهم فاسدون. وتتقاطع هذه المضامين مع الخطاب السياسي الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن تحريض المجتمع الدولي وتأليبه على الشعب الفلسطيني ومؤسساته ومقاومته.
المراجع
(1) محمد مصطفى مياسة، “قوانين الحرب النفسية وأساليبها”، مجلة استراتيجيا، (السنة الأولى، العدد 5، مارس/آذار 1982)، ص 79.
(2) نواف التميمي، اللوبي الصهيوني والرأي العام في بريطانيا: النفوذ والتأثير، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016).
(3) حامد ربيع، “فلسفة الدعاية الإسرائيلية”، سلسلة دراسات فلسطينية، (العدد 72، يوليو/تموز 1970)، ص 39.
(4) “About 6 in 10 young adults in U.S. primarily use online streaming to watch TV,” pewresearch, September 13, 2017, “accessed January 24, 2020”. https://pewrsr.ch/33bUvEA.
(5) جواد أحمد الوادية، “السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية 2001-2011، ط 1 (بيروت، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2013)، ص 133.
(6) Hsiu-Fang Hsieh and Sarah, E, Shannon, “Three Approaches to Qualitative Content Analysis. Qualitative health research,” Vol. 15, no. 9, (November 2005): 1277-1288, “accessed January 24, 2020”. https://bit.ly/39KwjeX.
(7) Ibid.
(8) Paul Linebarger, A. Psychological Warfare (Washington: Combat Forces Press, 1954), 39.
(9) Walton Douglas, “What is propaganda, and what exactly is wrong with it?,” Public affairs quarterly, Vol. 11, no. 4, (October 1997): 387.
(10) Jacques Ellul, Propaganda: the formation of men’s attitudes (New York: Vintage books, 1973), 16.
(11) Leonard W. DOOB “Goebbels’ Principles of Propaganda,” The Public Opinion Quarterly, Vol. 14, No. 3, (1950): 419-442, “accessed 21 January 2020”. https://bit.ly/3cR7pMB.
(12) فتحي الإبياري، الإعلام والرأي العام والقيهلا، ط 1 (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1985)، ص 94.
انظر أيضًا:
– “Rabbi Reichhorn’s Protocols,” The Journal of History, Fall 2009, Vol. 9, Issue 2.
(13) فايز صايغ، “الدبلوماسية الصهيونية”، سلسلة دراسات فلسطينية، (العدد 13، مايو/أيار 1967)، ص 31.
(14) نعمان هادي الهيتي، الإعلام العربي والدعاية الصهيونية، (العراق، وزارة الثقافة والإعلام العراقية، دار الجمهورية، 1969)، ص 131.
(15) حامد ربيع، “فلسفة الدعاية الإسرائيلية”، سلسلة دراسات فلسطينية، (العدد 72، يوليو/ تموز 1970)، ص 38-39.
(16) ياهوشافيط هاركابي، الاستراتيجية العربية وردود الفعل الإسرائيلية، ترجمة أحمد الشهابي، (بيروت، دار القدس، ب.ت)، ص 31.
(17) المرجع السابق، ص 32.
(18) Margalit Toledano, David McKie, Public Relations and Nation Building Influencing Israel (New York: Routledge, 2013), 1.
(19) Ami Isseroff, The Israel Advocacy Handbook Justice for Jews and Israel: Making the case for Israel. An Introduction to Israel Advocacy, Activism and Information, (2nd Ed, 2010), 1-13, “accessed February 18, 2015”. https://bit.ly/33bV0OT.
(20) التميمي، اللوبي الصهيوني والرأي العام في بريطانيا، مرجع سابق، ص 48.
(21) المرجع السابق، ص 49.
(22) المرجع السابق، ص 51.
انظر أيضًا:
-The Israel Project “What is Tip,” theisraelproject, “accessed November 18, 2018”. https://bit.ly/2W4uCF8.
– Frank Luntz, The Israel project’s 2009 global language dictionary, April 2009, “accessed September 14, 2014”. https://bit.ly/2W7TJqS.
(23) Noa Lavie, “TARB Extra: Israeli TV in the Age of Netflix,” tarb, “accessed November 1, 2019”. https://bit.ly/38FmFc9.
(24) Ibid.
(25) Ibid.
(26) نصر الدين لعياضي، ” التخوف من “نتفليكس”، مدونة نصر الدين لعياضي، 16 سبتمبر/أيلول 2019، (تاريخ الدخول: 12 ديسمبر2019): https://urlz.fr/bg8b.
(27) المرجع السابق.
(28) Hannah Brown, “it’s a wrap! Lior Raz dishes on season 3 of fauda,” The Jourasslem Post, July 1, 2019, “accessed November 1, 2019”. https://bit.ly/2Q68O8f.
(29) “وزير خارجية إسرائيل يدعو لشن حرب بلا هوادة ضد الإرهاب عقب أحداث الدنمارك”، مصراوي، 15 فبراير/شباط 2015، (تاريخ الدخول: 15 أبريل/نيسان 2015): https://bit.ly/2W3icgV.
(30) نواف التميمي، “ديلي ميل” تحرض لقطع المساعدات البريطانية عن المدارس الفلسطينية، العربي الجديد، 12 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2019): https://bit.ly/33aUhwy.