ملخص:

يحلِّل هذا البحث المدركات التي أنتجتها احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، التي تمركز جزء جوهري منها في مناطق البيئة الشيعية في وسط وجنوب العراق. تُعَدُّ هذه الاحتجاجات مؤشرًا على تغيير نمط الاجتماع السياسي الشيعي الذي أنتج سلطة ما بعد 2003. قُسِّمت الدراسة إلى محورين رئيسين بعد مقدمة وبحث في المفاهيم: الأول في الاجتماع السياسي الشيعي، والثاني في مدركات الاحتجاج في البيئة الشيعية.

كلمات مفتاحية: احتجاجات تشرين، مدركات الاحتجاج، الاجتماع السياسي، البيئة الشيعية، الأوليغارشية، الطبقة الوسطى.

Abstract:

This study analyses the perceptions of Iraq’s October 2019 protests in Shiite-majority areas, particularly in central and southern Iraq, and indicates a change in the pattern of Shiite political sociology that produced the post-2003 authority. It is divided into two main themes: Shiite political sociology, and the perceptions of protest in the Shiite environment.

Keywords: October Protests, Perceptions of Protest, Political Sociology, Shiite Environment, Oligarchy, Middle Class.

مقدمة

أثبتت الانتفاضات العربية، أو ما يُعرف بالربيع العربي، أن أزمة السلطة في البلدان العربية قد وصلت إلى ذروتها، وأن الحلول الإصلاحية لم تعد مجدية مع الواقع الذي أوجدته تلك الأزمة بكل أوجهها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية. فقد أنتجت انسدادًا حقيقيًّا في طريق انعتاق المجتمعات ودخولها عصرًا جديدًا من الحرية وتحقيق الذات مع بروز أجيال جديدة وُلِدت في زمن العولمة، والانتقال من حالة الحداثة إلى ما بعد الحداثة، في الوقت الذي تعيش فيه معظم هذه المجتمعات حالة متأخرة عما سواها من مجتمعات متقدمة، بل إن بعضًا منها يعيش حالة ما قبل الدولة.

وفي الوقت الذي أسقطت فيه معظم المجتمعات نُظُمَها السلطوية إبان تلك الانتفاضات، فإنها دخلت مراحل انتقالية لا تقل صعوبة عن كفاحها ضد تلك النُّظُم، في حين أخذت مجتمعات أخرى المبادرة للتخلص من أنظمتها ذات الطابع التعددي شكلًا، والمغرق مضمونًا في المحاصصة الطائفية وفساد الطبقة السياسية وتكويناتها الأوليغارشية المعتمدة على القرابية، والزبائنية السياسية، وتعدُّد مراكز القوى وفشل تلك النُّظُم في تحقيق قدر من التنمية أو إنجاز خدمات لمواطنيها. وهذا ما ينطبق على العراق موضوع بحثنا؛ حيث تمثِّل احتجاجاته التي انطلقت مطلبيةً خدماتيةً منذ عام 2010، ثم في 2011، لتتصاعد وتيرتها وأنماطها في أعوام 2015 و2018، ثم لتصل إلى الذروة في احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، والتي ترافقت مع احتجاجات الموجة العربية الثانية في كل من الجزائر والسودان ولبنان، لتستمر بعد ذلك بوتيرة عالية خلال الربع الأول من 2020.

لقد مثَّلت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول علامة فارقة في تاريخ الاحتجاجات في العراق بعد العام 2003، فهي غير مسبوقة، شكلًا ومضمونًا، سواء من حيث سعة انتشارها، أو عمقها الشعبي، أو استمراريتها رغم حملات العنف التي تعرضت لها، أو بمطالبها ذات البعد الاجتماعي السياسي، والأهم دورها في تشكيل هوية وطنية جامعة عابرة للتقسيمات الطائفية والدينية والعرقية.

ولعل من بين أبرز ما يميز الاحتجاجات في العراق أن الجزء الجوهري منها يحدث في عمق البيئة الشيعية في وسط وجنوب العراق؛ حيث تسود الأَدْلَجَة الدينية، ويغلب فيها الطابع الطقوسي المحافظ وسيطرة أحزاب الإسلام السياسي الحاكمة، والتي يمتلك معظمها فصائل مسلحة. كما أن هذه الاحتجاجات مثَّلت خروجًا من تفكير الهوية الضيق وحالة الاستقطاب الطائفي إلى تفكير الهوية الوطنية والمواطنة في مجتمع عراقي تحكمه معادلة إثنو-طائفية ثلاثية الأبعاد (شيعة، سُنَّة، كُرد) تعمل فيه السلطة وفق منطق المكوِّنات بدل المواطنة، تلك المعادلة التي كان من نتيجتها سنوات من العنف الطائفي بين عامي 2006 و2007، وسنوات من الفشل على جميع الأصعدة منذ عام 2003.

  1. إشكالية البحث والمقاربة المنهجية

أ- لماذا “البيئة الشيعية”؟

إن هذا السؤال يُعبِّر في الواقع عن إشكالية بحثية مهمة تثير عدة أسئلة: ما دلالة أن تكون المناطق ذات الأغلبية الشيعية بؤرة الاحتجاج على السلطة التي يهيمن عليها أحزاب الإسلام السياسي الشيعي؟ ما دلالات استخدام عبارة “البيئة الشيعية” في هذا البحث؟

بادئًا لابد من القول: إن هذه الاحتجاجات لم تكن شيعية بالمعنى الهوياتي الطائفي طالما أنها تحمل أهدافًا عراقية وطنية، ولم تحمل أية شعارات طائفية أو مناطقية، كما أن المشاركة فيها اتسعت لتشمل كل المكونات الاجتماعية العراقية، لاسيما في العاصمة بغداد، ولذلك جرى استخدام عبارة “البيئة” في هذا البحث أصلًا لتجاوز المعنى الطائفي-السياسي السلبي، وأن هذه العبارة أكثر ملاءمة للتعبير عن الارتباطات المكانية-الثقافية لمجموعة من السكان، بعيدًا عما تعنيه الارتباطات المكانية-العقائدية.

إن محور المشكلة البحثية يكمن في دلالة أن تكون المناطق ذات الأغلبية الشيعية في وسط وجنوب العراق بؤرة مركزية فاعلة ونشطة لحملة الاحتجاجات الشعبية الواسعة والمؤثرة بشدة، وذلك رغم أن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، التي تهيمن على السلطة والنفوذ في بغداد والحكومات المحلية في المحافظات، دأبت على نشر فكرة مفادها أن “حكم الشيعة في العراق هو بحد ذاته مكسب تاريخي”.

وتنطلق فرضية البحث من أن احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 التي كانت ساحتها مناطق البيئة الشيعية، والتي كانت ذروة لسنوات من الاحتجاج، مثَّلت مدركات جديدة مغايرةً سيكون لها تأثير على طبيعة الاجتماع السياسي في تلك البيئة، وبالتالي، على عموم الاجتماع السياسي في العراق بشكل يمكن أن يعيد التماسك للمجتمع بدلًا من التنافر، ويؤسس أيضًا لعلاقات سلطة جديدة قائمة على أساس توزيع هذه السلطة بدلًا من تركُّزها، وذلك ما يسهم بحلِّ مشكلة السلطة وأزمة الحكم التي عانى منها العراق طيلة تاريخه الحديث. إذن، نحن أمام مقاربة سوسيو-سياسية تبحث فيما يمكن أن يُحْدِثه هذا الاحتجاج من إمكانيات تُغيِّر نمط الاجتماع السياسي في البيئة الشيعية من خلال المدركات التي أفرزها.

لقد جرى التركيز على هذا المحور لأهميته البالغة، كما يرى الباحث، في التأسيس لسياق جديد ومتقدم من المتغيرات الاجتماعية في مناطق مهمة وكثيفة السكان من العراق، كانت تعتبر عند كثير من السياسيين ورجال الدين وحتى الباحثين، محسومة الولاء للنظام السياسي الذي تأسَّس بعد عام 2003. وبالتالي، فظهور هذه الاحتجاجات لن يُغيِّر هذا المفهوم النمطي فقط، لكنه سيؤثر على ما يرتبط به من متغيرات سياسية واجتماعية مؤثرة بقوة في مستقبل العراق.

ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى أن التركيز على هذا المحور ليس ترويجًا لهوية طائفية للاحتجاجات، لكن مقتضيات البحث العميقة اقتضت هذا التصنيف للمشكلة، كما أن من المهم التنويه إلى أن العاصمة بغداد شهدت مشاركة في الاحتجاجات شملت جميع المكوِّنات، وقد سقط ضحايا من بين المحتجين يمثِّلون كل هذه المكوِّنات إلا أن محدودية المشاركة في محافظات أخرى (سنية وكردية) كانت له ظروفه الخاصة.

يعاني العراقيون بصورة عامة من تردي الأوضاع الحياتية كالبطالة ومستويات الفقر والفساد وشُحِّ الخدمات المقدمة من قبل الدولة، لكن وطأة هذه الأوضاع كانت الأثقل، كما سنرى، في مناطق الوسط والجنوب(1). أما فيما يخص المكوِّنات الاجتماعية الأخرى، فبالنسبة للمناطق الغربية ذات الأغلبية السُّنِّية فإنها قد تعرضت لحملة نزوح كبرى غداة اجتياح تنظيم “الدولة الإسلامية” وما تلاه من معارك تحرير تخلَّلها تدمير شبه كامل لمدن وقرى تلك المناطق التي ما زال قسم من أبنائها في مخيمات النزوح، هذا علاوة على أن تلك المناطق كانت متهمة بأنها مناطق حاضنة لتنظيم الدولة وتنظيمات مسلحة أخرى تناهض النظام السياسي الجديد في العراق. ولذلك يخشى أبناؤها من الخروج بأي مظهر احتجاجي، فقد سبق وأن شهدت هذه المناطق موجة احتجاجات في نهاية عام 2012 والربع الأول من 2013 تطالب بحقوق المنطقة الغربية والكف عن تهميشها، وتم قمعها بالقوة في مطلع العام 2014. أما بالنسبة لإقليم كردستان، فإن التنشئة السياسية ذات النزعة الاستقلالية التي تلَّقاها جيل ما بعد 2003 في الإقليم جعل من الصعوبة بمكان أن يكون هناك اهتمام بالاحتجاجات في المناطق الأخرى من العراق، إلا أن هذا لا يعني عدم الاشتراك المطلق أو التضامن من قبل أبناء هذه المناطق مع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، فقد شارك الكثير من السُّنَّة في بغداد ومن خارجها، وكذلك مواطنون من إقليم كردستان، في العمل الاحتجاجي مع أقرانهم من المناطق الشيعية في بغداد، وكذلك الأمر بالنسبة للمسيحيين وديانات أخرى(2)، كما أن هذه المشاركة لم تكن بالحضور فقط، بل أحيانًا بالدعم المادي والمعنوي. والواقع، أن مشاركة شباب من السُّنَّة بالذات مع أقرانهم الشيعة في تظاهرات الطلبة أو في اعتصامات ساحة التحرير في بغداد قد أعطى زخمًا للفضاء الاحتجاجي الوطني، بعد سنوات من الزخم الطائفي.

ب- منهجيات المقاربة السوسيو-سياسية في العراق

 لا شك أن الدراسات السوسيو-سياسية، فضلًا عن السايكو-سياسية، تُعَدُّ الأجدر لتحليل الظاهرة الاجتماعية-السياسية في العراق، إلا أنها ظلت حتى وقت قريب دراسات شحيحة ومشتتة تُعْوِزها الجرأة لأسباب عديدة منها عائق السلطات السياسية الاجتماعية والدينية المحافِظة، علاوة على ضعف الدراسات الأكاديمية في هذا الحقل. ولعلنا هنا لا نريد أن نقلِّل من أهمية أعمال علي الوردي في منتصف القرن الماضي، والتي كانت أول عملية فتح جريئة لملف المجتمع العراقي والسلطات الاجتماعية، لكنها في الواقع لم تكن دراسة في الاجتماع السياسي بقدر ما كانت دراسة اجتماعية-سيكولوجية تركت، لمن يريد، أن يؤوِّل الاجتماع السياسي العراقي وفق معطيات الدراسات الوردية.

كانت أعمال الوردي في حينها تُعَدُّ جرأة نقدية كبيرة في مجتمع محافظ من خلال نقده لشخصية الفرد العراقي كونها شخصية مزدوجة، فضلًا عن نقده لطبيعة المجتمع العراقي. والواقع أن أحدًا لم يجرؤ بعد علي الوردي، ولعقود، أن يناقش، أو بالأحرى، لم يكن مسموحًا له أن يناقش مرة أخرى فتح ملف المجتمع العراقي، وعلى وجه الخصوص في مقاربته السوسيو-سياسية، مما ولَّد “صمتًا” بحثيًّا أَجْبَر النخبة، ومن ورائهم العامة، على التمسك بـ”نمطيات” علي الوردي النقدية التي كرَّست، ولعقود طويلة، عملية جَلْد خفيَّة للذات العراقية بعد فصول من الإحباط الاجتماعي واليأس السياسي الذي كان أحد نتاجات سيادة الظاهرة السلطوية التي حكمت العراق منذ 1958. والواقع أن هذا الملف لم يفتح بعد ذلك إلا خارج العراق من خلال النخب الفكرية، أو تلك المعارضة للنظام السياسي في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، لكنها كانت في معظمها محملة بالأيديولوجيا ومعارضة للنظام السياسي، علاوة على بعدها المكاني عن الواقع العراقي(3). هذا بجانب أن الكثير من الدراسات السوسيو-سياسية لم تتوغل بصورة كافية في تفكيك البنية المعرفية لمؤسسات السلطة المادية والرمزية، وهنا لا نقصد السلطة السياسية وحسب، بل جميع السلطات الاجتماعية الأخرى.

بعد تغيير النظام في عام 2003، لم يُتَح  للدراسات السوسيو-سياسية فرصة الظهور بمظهر نقدي فاعل ومؤثر فيما يتعلق بالشأن العراقي، ولعل أهم أسباب ذلك هو صعود وسيادة الهويات الثانوية الطائفية والعرقية وتَبَوُّؤها مقاليد السلطة؛ حيث حدَّ ذلك الصعود من إمكانية الخوض في دراسات نقدية حقيقية هدفها في النهاية استقراء الحركة الاجتماعية-السياسية والتنبؤ بالتمظهرات الجديدة التي ستنشأ نتيجة لهذا الاستقراء، الذي يمكن أن يعمل على تَثْوِير طاقات المجتمع والعمل على ترقيته من خلال تكريس هويته وتشخيص التعامل الصالح معه من قبل السلطة، فضلًا عن نقد البنى القديمة التي تعمل على إعاقة تقدُّمه. لقد كانت معظم الكتابات في هذا الشأن تتعلق بـ”المظلوميات” المذهبية والإثنية، أما ما كان يُكتب من نقد فإن معظمه يرتكز أيضًا على مرجعيات أيديولوجية وموجَّه إلى طبيعة العملية السياسية الجارية في العراق. أما في الجانب الأكاديمي، فقد توجهت الدراسات الأكاديمية العراقية في مجال العلوم السياسية والاجتماعية والنفسية بعد 2003 إلى الخوض في مواضيع جديدة بعد أن رُفِع عنها غطاء الرقابة لما كان يُسَمَّى بـ”السلامة الفكرية” في زمن النظام السابق، لكنها لم تشتمل هي الأخرى، إلا فيما ندر، على دراسة نقدية حقيقية في مجال النقد السوسيو-سياسي، لاسيما مع عودة الرقابة (السلامة الفكرية) في الجامعات. وبالتالي، لم يُخلق، حتى وقت قريب، إطار تنبؤي معرفي واضح لحركة الاجتماع السياسي العراقي التي ظلت خاضعة لتأويلات ترتكز على صور نمطية تقليدية.

وفي إطار المقاربة المنهجية هذه، وعنوان وفرضية البحث ومشكلته، سنعالج مسألة العلاقة بين الاحتجاجات، والاجتماع السياسي في محورين رئيسين أحدهما يناقش موضوع الاجتماع السياسي الشيعي، كضرورة تحليلية، قبل الانتقال إلى المحور الثاني الذي يتناول ما أفرزته الاحتجاجات من مدركات جديدة تتعلق بذلك الاجتماع.

 

  1. في الاجتماع السياسي الشيعي

سيجيب هذا المحور عن تساؤلات: هل هناك اجتماع سياسي شيعي، وما طبيعته؟ وإلى أي مدى أسهم ذلك الاجتماع في إنتاج السلطة التي هيمنت على الحكم في العراق منذ 2003؟ وبالتالي، ما بنية تلك السلطة؟ وعلى أية شرعية استندت؟ وإلى أي مدى أسهمت أزماتها في إثارة السلوك الاحتجاجي؟

أولًا: الشيعة في العراق: هوية واضحة واجتماع سياسي قلق

على عكس هوية التشيع العراقي الواضحة، فإن الاجتماع السياسي الشيعي في العراق قلق ومشتت. وكذلك على العكس من الاجتماع السياسي للكرد والسُّنَّة اللذين يتميزان بالثبات. فبالنسبة للكرد يمكن تحديد حركة الاجتماع السياسي لديهم بالقومي/السياسي، في حين ارتبط عند السُّنَّة بالقبلي/السياسي. أما الاجتماع السياسي الشيعي فإن حركته ترتكز على الديني/السياسي. ولكن هذا الارتكاز كان مشتتًا بين المباني الفقهية السياسية القديمة في “زمن الغيبة” التي ترى عدم شرعية النظم الحاكمة طالما هي لا تمثِّل “الأمام الغائب” حسب معتقد الشيعة الإثني عشرية، وبين متطلبات الحداثة السياسية التي تتطلب تعاملًا براغماتيًّا مع السلطة، لاسيما مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة في1921. كما أن الشيعة في العراق، حتى ذلك الوقت، كانوا رهينة الصراع السياسي الطائفي بين العثمانيين والإيرانيين، ولم يتأتَّ لهم أن يمارسوا نوعًا من السلطة السياسية أو يشاركوا فيها.

لقد أسهم التوجيه الديني للاجتماع السياسي الشيعي بفقر شديد في البناء السياسي التعددي تمثَّل في عدم وجود بنية مدنية حداثية تنظم وتُرَشِّد ذلك الاجتماع. فقد كانت هناك إدارة دينية-سياسية للصراع وفق مبان فقهية عشية تأسيس الدولة العراقية، ثم استمرت هذه الإدارة بذات التوجيهات خلال العقود اللاحقة، رغم ضعفها مع مجيء النظم الجمهورية السلطوية.

يمكن وصف المجتمع الشيعي في العراق في بداية تأسيس الدولة بأنه كان مجتمعًا محافظًا يغلب عليه الطابع العشائري، ملتزمًا بفتاوى الفقهاء، مع عدم وجود طبقة وسطى مدنية الطابع. وقد كان الفقر وتدني التعليم والنظام الإقطاعي هو السمة السائدة لذلك المجتمع، وبالتالي لم يكن التفكير السياسي حاضرًا إلا من خلال الفتوى. فقد تصدت الزعامات الدينية الفقهية، بمساعدة من الزعامات القبلية، إلى العمل السياسي قبل، وأثناء، تأسيس الدولة العراقية، تمثَّل ذلك بإطلاق مرجع الشيعة آنذاك، السيد محمد تقي الشيرازي، شرارة الثورة العراقية على الإنجليز المعروفة بـ”ثورة العشرين” ثم إصرار الفقهاء لاحقًا على مقاطعة حكومة فيصل الأول بسبب اتهامها بالولاء للإنجليز نتج عنها مقاطعة شعبية من الأتباع تقيُّدًا بآراء فقهائهم التي كانت تُحرِّم المشاركة في الانتخابات وتحريم الدخول في وظائف الدولة، ودخول المدارس الحكومية(4). وهذا ما أثار تشتتًا آخر في الاجتماع السياسي للشيعة في العراق، كما أثَّر لاحقًا حتى في بناء الدولة الوطنية من ناحية المشاركة والتكامل.

وفي ثلاثينات القرن الماضي حدث خرق أيديولوجي مغاير تمامًا للبيئة الولائية الشيعية تمثَّل في ظهور الحزب الشيوعي العراقي حين انهمك العديد من أبناء الطبقات الفقيرة، وجانب كبير من النخب، في المناطق الشيعية بالانتماء إلى هذا الحزب الذي كان مؤسسه يوسف سلمان في مدينة الناصرية (ذي قار) في جنوب العراق، وهي المدينة ذاتها التي خرج منها، فيما بعد، الشخص الذي جلب تنظيم حزب البعث إلى العراق، فؤاد الركابي.  فكان البعثيون والشيوعيون يشكِّلون معادلة الضد النوعي على الساحة السياسية في المجتمع الشيعي، وكان كلا التنظيمين قد تخلى عن هويته الدينية والمذهبية لصالح الهوية الأممية عند الأول، والهوية القومية عند الثاني، وهو ما يؤشر على بداية الخروج من الارتباطات الدينية-السياسية.

ومع الضعف الذي انتاب دورها في الشأن السياسي، حاولت المرجعية الشيعية إدامة هذا الدور بوسائل عدة، فدخلت على خط الصراع ضد الشيوعية بإصدارها الفتوى المعروفة من قبل المرجع الأعلى السيد محسن الحكيم بأن “الشيوعية كفر وإلحاد”، وكان السبب في ذلك هو الانتشار الواسع والسريع للحزب الشيوعي في المناطق الشيعية وعلى وجه الخصوص في مدينة النجف التي تُعَدُّ عاصمة الشيعة في العالم، ذلك الانتشار الذي هدَّد بإضعاف دور المرجعية الدينية في الفضاء السياسي، وكان هذا الأمر واضحًا، على سبيل المثال، في بغداد التي هاجر إليها الكثير من أبناء الجنوب الشيعة؛ حيث عمل التثقيف الأيديولوجي الشيوعي في الأربعينات والخمسينات على إضعاف صلاتهم بالفقهاء والمراجع في النجف وكربلاء(5). ولكن إذا كانت “الفتوى” قد عملت على إضعاف التنظيم الشيوعي، فإنها عملت أيضًا على إفراغ جزء كبير من الفضاء العام لتملأه السلطة التي سيطر البعثيون عليها، ثم ليتراجع دور التوجيه الديني بصورة أكبر بعد ذلك.

لقد كانت لحظة تأسيس الإسلام السياسي الشيعي الذي تمثَّل في حزب الدعوة الإسلامية في ستينات القرن الماضي وما خرج من عباءته فيما بعد من أحزاب وحركات اقتربت وفق أيديولوجيتها الإسلامية من تكفير السلطة الحاكمة في العراق ومن ينتمي إليها، كخلاصة للإدارة الدينية للصراع السياسي، وكمؤشر واضح لتراجع وضمور ما هو مدني. ومما زاد في اندفاع حركة الإسلام السياسي الشيعي هو ظهور مبدأ ولاية الفقيه الذي طرحه السيد الخميني ومن ثم سيطرته على مقاليد الحكم في إيران واحتضانه لحزب الدعوة والشروع بتطبيق نظرية تصدير الثورة الإسلامية، عام 1979، والتي على إثرها شهد المجتمع الشيعي في العراق حملة أمنية شديدة لقمع المنتمين لهذا الحزب عشية اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، عام 1980، وما بعدها.

هكذا، لم يُتح للاجتماع السياسي الشيعي في البيئة الشيعية في العراق أن يتحرى هوية حقيقية له خلال تلك الحقبة، فقد كان بين ثلاث أيديولوجيات: أمميتين مُطارَدتين خارج السلطة: إسلامية وشيوعية، وقومية (مطارِدة) مهيمنة على السلطة، في ظل إدارة دينية تحكَّمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة بتوجيه ذهنيات الأتباع.

لقد أثارت الحرب العراقية-الإيرانية سؤالًا كبيرًا أمام الهوية المذهبية الشيعية في العراق، فالجندي العراقي الشيعي يحارب جنديًّا إيرانيًّا شيعيًّا، بل بالمقابل، عراقي إسلامي شيعي يحارب مع الجيش الإيراني، ضد عراقي شيعي في الجيش العراقي. وبينما كانت ولاية الفقيه تشكِّل أيديولوجيا خاصة بمن يرتبط بالثورة الإسلامية في إيران، فإنها لم تكن كذلك بالنسبة لمن ارتبط بتقليد المرجعية الشيعية في النجف التي لم تعترف بهذه النظرية.

وعلى الرغم من سنوات الحرب الثمانية مع إيران وحرب الكويت، والحصار الاقتصادي المفروض من الأمم المتحدة في العراق، وحالة الفقر والعوز التي تقاسمتها مكونات الشعب العراقي، لم يُنتج الفضاء الشيعي في العراق حركات سياسية متطرفة، سوى أن ضعف السلطة بعد الانسحاب من الكويت في عام 1991 قد فتح الباب لهبَّة شعبية ضد النظام الحاكم في ما عُرف بـ”الانتفاضة الشعبانية” كشفت مرة أخرى عن ضعف البنية الاجتماعية-السياسية المدنية؛ حيث لم تخرج هذه الانتفاضة هي الأخرى عن التوجيه الديني-السياسي الذي فاقم من دوره دخول ميليشيات مسلحة تتبع ولاية الفقيه -كانت تُؤْوِيها إيران خلال الحرب مع العراق- حاولت أن تستولي على السلطة في المناطق الشيعية؛ الأمر الذي أنتج قمعًا شديدًا من قبل النظام شمل قطاعات واسعة من المدنيين العزل متهمًا إياهم بالتعاطف مع هؤلاء، وهذا ما ولَّد استياء وحنقًا في المجتمع الشيعي لاسيما بعد شيوع أخبار المقابر الجماعية التي مورست أيضًا ضد الأكراد خلال انتفاضتهم في ذات الوقت. ولهذا السبب، انكفأ هذا المجتمع على ذاته من خلال اللجوء إلى القضايا الروحية المتمثلة في الشعائر والطقوس الدينية التقليدية، مثل: زيارات أضرحة أئمة أهل البيت، وطبخ الطعام في مناسبات وفيات الأئمة، وإقامة مجالس العزاء ومحافل البكاء واللطم، في الوقت الذي مارست فيه السلطة تضييقًا غير مسبوق على هذه الشعائر، لم يكن بالضرورة لأسباب طائفية، بقدر ما كان لأسباب أمنية وعدائية تتعلق بإيران ومن يتعاطف معها.

إن سلوكيات النظم الشمولية، أسهمت من جانبها، أيضًا في عدم وجود تلك البنية المدنية التي أشرنا إليها، فبالإضافة إلى فرض حزب البعث كتنظيم أوحد، حاول نظام صدام حسين العمل على إبراز بنى غير مدنية من أجل تهشيم الولاءات الدينية في البيئة الشيعية وتشتيتها. فقد حاول النظام خلال التسعينات فسح المجال لمرجعية السيد محمد صادق الصدر في المجتمع الشيعي، والتي تُعَدُّ مرجعية مجددة استقطبت الكثير من فقراء الشيعة لاسيما من الشباب. هذا (السماح) من جانب النظام ربما كان القصد منه أمرين، الأول: سحب البساط من الزعامات ذات الأصول الإيرانية للحوزة في النجف من خلال العمل على تكريس حوزة “عربية” منافسة تحت سيطرته، والثاني: امتصاص حنق الشارع الشيعي والعمل على توجيه ولاءاته من خلال احتضان هذه المرجعية الجديدة. لكن، وبسبب فقدان القدرة الاستيعابية للنظام الشمولي وعدم تقبل خطاب السيد الصدر النقدي، قام بتصفيته، مما أدى إلى خلق أول مصدر للمعارضة الداخلية ضد النظام في العراق. وبهذا خلق النظام، من خلال سياساته الشمولية، نواةً تمثِّل اتجاهًا سياسيًّا دينيًّا سيكون لها دورها المؤثر بعد 2003 تمثَّلت بالتيار الصدري.

وبالنتيجة، تواطأ كل من النظام السياسي السابق والمنظومة الدينية-السياسية في البيئة الشيعية على منع إيجاد أي تنظيم أو بنية مدنية تعمل خارج إطاريهما، وهو ما ظهرت نتائجه مع مجيء الاحتلال الأميركي وسقوط النظام في عام 2003؛ حيث لم تكن هناك قاعدة لبِنْية مدنية سياسية في البيئة الشيعية سوى الأحزاب الدينية التي كانت خارج العراق أو تلك التي تكوَّنت في الداخل. كذلك كان الأمر في المنطقة الغربية ذات الأغلبية السُّنِّية في العراق؛ حيث لم تملك أيضًا بنية مدنية سياسية غير حزب البعث المنحل، ولذلك حاول الحزب الإسلامي العراق ملء الفراغ لكنه لم ينجح كثيرًا بسبب طبيعة الاجتماع السياسي السُّنِّي في العراق، والتي ارتبطت بالقبلي/السياسي، على عكس البيئة الشيعية التي ارتبطت بالديني/السياسي. كان من نتائج ذلك أيضًا، غياب النخبة، ففي لحظة 2003، لم يكن هناك وجود لنخبة سياسية من داخل العراق، وهو ما لا يُتصور وجوده في ظل نظام شمولي سابق، كذلك لم تكن هناك نخب ثقافية وعلمية فاعلة، فالكثير منها متهم لمجرد أنها كانت تعمل في زمن النظام السابق، يضاف إلى ذلك غياب عنصر مهم آخر هو عدم وجود تنظيمات نقابية ومهنية تستطيع أن تمارس دورًا سياسيًّا فاعلًا في هذا التحول، مما فسح المجال للأحزاب الإسلامية بسهولة للاستحواذ على السلطة.

بالمقابل، وعلى الجانب الشعبي في المجتمع الشيعي، لم يكن هذا المجتمع مهيئًا في عام 2003 سياسيًّا ولا تنظيميًّا لكي ينهمك في عملية سياسية، فالنظام الشمولي السابق من خلال نموذج الحزب الواحد ونظام التنشئة  الأيديولوجي لم يعط مساحة من الحرية السياسية أو التفكير بالتعددية، فكان أن روَّجت الأحزاب الدينية عقب سقوط النظام لأنها سترعى عملية ديمقراطية تعددية، فضلًا عن تمثيل المكوِّن، وهذا ما جعل قطاعًا من المجتمع الشيعي، لاسيما المتضررون من النظام السابق، يتواءم مع النظام الهوياتي الجديد، في الوقت الذي أبدت قطاعات أخرى تشاؤمها مما يحصل على الأخص بين أفراد الطبقة الوسطى من الموظفين والمثقفين، فيما لم تُبدِ قطاعات أخرى موقفًا واضحًا انتظارًا لما سينجلي عنه الموقف العام. وعلى الرغم من سنوات القتال الطائفي التي جرت بين 2006 و2007، إلا أن تلك المواقف لم تتغير كثيرًا؛ لأن العنف الطائفي لم يكن في الواقع بين مجتمعات المكوِّنات بل كان بين جماعات مسلحة يُدار معظمها من خارج الحدود، وأخرى من الداخل، كلٌّ ضمن مكوِّنه الطائفي، ذهب ضحيته آلاف العراقيين من الذين ليس لهم علاقة بالصراع. وإذا كانت لحظة 2003 وسقوط نظام صدام حسين، وهيمنة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي، هي أول لحظة لوجود الشيعة على رأس السلطة، فإنها أيضًا كانت لحظة زادت من تشتت وتشوُّش الاجتماع السياسي الشيعي، فعلى مدى 17 عامًا من الحكم، أنتجت أحزاب الإسلام السياسي المهيمنة دولة فاشلة ونظامًا سياسيًّا يقوم على الفساد، وسلطة مُمَركزة رغم وجود حالة دستورية ديمقراطية من الناحية الرسمية.

وبالمحصلة، فإن المعادلة التي وجهت الاجتماع السياسي الشيعي لفترات طويلة من تاريخه كانت تستند على صيغة الديني/السياسي بدلًا من المدني/السياسي، وكان آخر نتائج ذلك التوجيه هو السلطة التي حكمت بعد 2003 في العراق.

ثانيًا: السلطة الحاكمة وأزماتها

إذا كان تعريف علم السياسة بأنه علم الدولة، فإن علم الاجتماع السياسي هو علم السلطة. ولكن هذه السلطة هي ثمرة التفاعل الاجتماعي في داخل أي مجتمع. وهكذا الأمر مع السلطة المهيمنة ذات الطابع الشيعي التي هي نتاج للاجتماع السياسي الشيعي. مع ملاحظة أنها، بالنهاية، أيضًا هي نتاج الاجتماع السياسي العراقي بصورة عامة في كثير من العوامل، مثل: المحاصصة، وأسلوب الغنيمة، والشخصانية في الحكم وما إلى ذلك، ولكن التركيز على السلطة التي تهيمن عليها الأحزاب الإسلامية الشيعية في ظل نظام المحاصصة يجعل منها أنموذجًا لما ذُكر باعتبارها الحاكمة. فقد بدأت، تدريجيًّا، تأخذ بالتركز في أيدي قلة حاكمة. وفي الوقت الذي أخفقت في أن تكون سلطة عقلانية دستورية، فإنها حاولت أن تستعيض عن ذلك النقص بشرعيات غير دستورية، مما كان له أثر سلبي كبير انعكس على الدولة وعلى نظامها السياسي.

أ- السلطة الأوليغارشية والنظام الزبائني

لعل من المفترض أن السلطة التي تأتي بعد تغيير نظام شمولي ينبغي أن تكون ذات طبيعة تشاركية، لاسيما أنها سوف تُبنى وفق دستور يؤسس لنظام ديمقراطي مثلما حصل في العراق بعد 2003، إلا أن التأسيس المُكَوِّناتي القائم على أساس الطائفة والعرق، والذي شارك في إنشائه كل من الأميركان وبعض دول الإقليم، فضلًا عن الأحزاب والقوى السياسية التي جاءت إلى الحكم بعد الغزو الأميركي في ذلك العام، أسهم بمركزة السلطة بدلًا من تشاركيتها. وبالتالي، لم تكن السلطة التي هيمنت عليها الأحزاب الإسلامية الشيعية بعد انتخابات 2005 قد تكوَّنت بفعل عقلاني جرى تراكمه تاريخيًّا، فكانت أبوية بطريركية رعوية، وفق تقسيم عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر (Max Weber)، لأنواع السلطة، رغم وجود انتخابات ومؤسسات دستورية تشير، ظاهريًّا، إلى عقلانية السلطة ومؤسسيتها. وقد أدى ذلك إلى تحوُّل في نمطها تدريجيًّا من ديمقراطية تشاركية في بداية تكوينها إلى أوليغارشية مركَّزة، والتي هي بأبسط تعبير، حكم القلَّة، وبالذات القلَّة التي تملك المال والقوة والنفوذ.

إن تركز السلطة بقدر ما يعمل على تقويتها، بقدر ما يسهم في هشاشتها. فصحيح أن تركزها يعطي مظهرًا متماسكًا ويمتلك سرعة المبادرة إزاء الأزمات، لكن ذلك في الواقع مظهر خادع؛ إذ سرعان ما يستتبع أزمات بنيوية حادة، ولعل أهم أزماته البنيوية هي تلك التي تظهر خلال أزمات الاحتجاج والثورة. وقد ظهرت هشاشة السلطة في كثير من المناسبات كان آخرها استخدام القوة المفرطة والقمع ضد المحتجين في كل المناطق التي ظهر فيها الاحتجاج في الوسط والجنوب ليس فقط عن طريق مؤسسات السلطة الأمنية، بل أيضًا عن طريق ميليشيات تابعة لأحزاب وقوى تدور في فلك هذه السلطة.

وإذا كانت بنية السلطة في زمن صدام حسين قد استندت إلى النمط “الخلدوني” القائم على العصبية، فإن بناء السلطة التي تكوَّنت عقب 2003 استند في البداية إلى النمط ذاته، لكنها فشلت في تحقيقه بسبب ضعف وحداثة التجربة السياسية، والصراع بين أطراف السلطة.

فقد أرادت القوى الحاكمة في البداية أن تبني كتلتها التاريخية في السلطة، وفقًا لنظرية أنطونيو غرامشي (Antonio Gramsci) في الهيمنة، إلا أن القوى (الشيعية) المهيمنة، وجدت قوى منافسة لها، الكردية والسُّنِّية، تريد هي الأخرى أن تبني كتلتها التاريخية الخاصة بها. ولهذا، وبدلًا من أن تكون هناك كتلة تاريخية منفردة ومهيمنة، أصبحت هناك كتل كل منها يريد أن يحقق ذاته في السلطة، ولذلك فشل أي منها في تحقيق هذا الأمر الذي يتطلب تكاملًا اجتماعيًّا سياسيًّا بين السلطة والمجتمع، وهو ما لم يحصل.

ولذلك، وجدت هذه القوى (لاسيما القوى الشيعية المهيمنة) نفسها، أمام صيغ التوافق والمحاصصة، تستند إلى النمط “الأوليغارشي” الذي وفَّر لها تمركزًا عاليًا، لكنه بدا، مع مرور الزمن، خيارًا قاتلًا. فنتيجة لفوضى المحاصصة التي تلبَّست العملية السياسية منذ نشأتها والواردات الريعية للنفط وحداثة الطبقة السياسية في العراق بعد 2003، تشكَّلت طبقة مُكَوِّناتية قامت على أساس نظام المحاصصة، وجدت نفسها أمام فرصة هائلة للحصول على واردات الدولة النفطية بعد أن كوَّنت علاقات سوق زبائنية من خلال استحواذها على تشغيل منظومة سياسية تمارس من خلالها سلطة كان من أهم واجباتها العمل على استدامة امتصاص الفائض الاقتصادي للدولة الثرية، مع إهمال واضح لجانب التنمية. وإذا كانت الطبقة المُكَوِّناتية تلك تريد أن تحقق مصلحتها الذاتية والزبائنية، فإنها في الوقت ذاته أرادت أن يكون امتصاص الثروة مصلحة مستدامة لصالح مكونها المذهبي أو العرقي(6).

لقد توزعت الشبكات الزبائنية على مختلف القطاعات في العراق، فهناك شبكات زبائن سياسية وشبكات زبائن اقتصادية وتجارية وإعلامية وأكاديمية، وحتى دينية، يعمل فيها الكثير من المستفيدين من أعلى السُّلَّم السياسي إلى أدنى السُّلَّم الاجتماعي، هكذا تكوَّنت أوليغارشية تمركزت في بنية السلطة السياسية، تمظهرت بأشكال قرابية عائلية أو حزبية مكوناتية تتمثَّل في اللجان الاقتصادية للأحزاب، اعتمدت الاستيلاء على موارد الدولة. ومن خلال شبكاتها الزبائنية، وأحيانًا بواسطة ميليشياتها المسلحة، استطاعت هذه السلطة أن تؤسس بنى متخادمة مع بعضها البعض ليس فقط بين بُنَى المكوِّن ذاته بل امتد التخادم إلى البُنَى المُكَوِّناتية المناظرة الأخرى. هكذا أيضًا قاد هذا النمط من الناحية الاجتماعية إلى تكريس العديد من المظاهر، مثل: الفساد والوصولية والتملق، كما قاد إلى تكريس الظاهرة القرابية التي استلزمت سياقات اجتماعية فئوية تنتمي إلى نمط ما قبل الدولة (العشيرة، السادة، الشيوخ، الوجاهات) في الوقت الذي يُفترض فيه أن السلطة بعد 2003 قد تحولت من الطابع الشمولي البطريركي الأبوي إلى الطابع التشاركي.

وفي مثل هذه الظروف، كان من الطبيعي أن يستشري الفساد في كل مؤسسات الدولة وأن يصبح نوعًا مستدامًا من “الثقافة” المؤسساتية وغير المؤسساتية على مدى سبعة عشر عامًا بصورة تصاعدية أدت إلى حرمان قطاعات واسعة من المجتمع من أبسط الخدمات والحقوق الاجتماعية الاقتصادية فضلًا عن السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن احتل العراق المواقع الأولى في قائمة الدول الأكثر فسادًا والأقل تنمية في العالم، هذا في الوقت الذي يواجه فيه تحديات استراتيجية مثل عدم الاستقرار السياسي، وطبيعة الاقتصاد الريعي للدولة، وضعف الأداء المؤسسي والافتقار إلى الحكم الرشيد. كما كان ذلك مترافقًا مع زيادة مطردة في عدد السكان يقابلها تدنٍّ في الخدمات من قبل الدولة.

ب- شرعية السلطة: من الدستورية إلى غير الدستورية

عادة ما تستمد السلطة، في أي نظام سياسي عقلاني، شرعيتها من القانون الأساسي الذي ينظم عمل النظام السياسي ومؤسساته وعلاقة تلك المؤسسات بالشعب. وفي نظام مثل النظام السياسي الذي تأسس في العراق في أعقاب سقوط النظام الشمولي في عام 2003، والتحوُّل إلى نظام مؤسساتي عقلاني ديمقراطي يُفترض أن تكون الشرعية فيه شرعية دستورية، إلا أن السلطة في العراق، على مدى خمسة عشر عامًا منذ إقرار دستور 2005، غالبًا ما كانت الأطراف المهيمنة عليها تلجأ إلى شرعيات أخرى، غير دستورية، نتيجة لعدم إمكانية تطبيقها للقانون والعمل المؤسساتي الذي لا يتلاءم مع أساليب تدعيم سلطتها في المال والنفوذ وعلاقاتها الخارجية. فقد منحت السلطة لنفسها استحقاقات استندت إلى شرعيات استجلبتها من محطات تاريخية (المظلومية ومقارعة النظام السابق)، ومحطات لحظية (مقاومة المحتل)، ومحطات أيديولوجية (الشيعية وتمثيل المكون الشيعي)، جرى استخدامها في كثير من الأزمات التي واجهتها السلطة، أو واجهها النظام السياسي ككل.

لم يكن للأحزاب الإسلامية الشيعية التي جاءت إلى العراق مع الاحتلال الأميركي حضور واسع في المجتمع الشيعي في وسط وجنوب العراق، فقد خرج حزب الدعوة من العراق في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي وهو يكاد أن يكون الحزب الديني الأبرز في المجتمع الشيعي، لكنه عاد في 2003 وقد خرج من عباءته أكثر من حزب وحركة. بالمقابل، برزت بعد 2003 قوى وأحزاب أخرى في داخل العراق استمدت شرعية وجودها السياسي من سردية النضال ضد نظام صدام حسين، فضلًا عن مقاومة المحتل الأميركي. وإذا كان حزب الدعوة الإسلامي قد خرج من عباءته معظم أحزاب وحركات الخارج، فإن قوة دينية في الداخل العراقي الشيعي (الصدريين)، اتخذت طابعًا سياسيًّا دينيًّا بعد تصفية زعيمها، محمد الصدر، عام 1999، كانت هي الأخرى قد خرج من عباءتها العديد من الفصائل المسلحة التي وجدت كلها في مقاومة الاحتلال الأميركي وانتمائها إلى الخط الصدري مناسبة لإثبات الذات. هكذا عملت منظومة الحكم الإسلاموية بعد 2003 على إدامة وجودها في السلطة عن طريق استخدامها لشرعية دستورية تمثَّلت بالانتخابات، وغير دستورية، (المظلومية والمقاومة ومقارعة النظام السابق)، كما أن العديد من أطرافها استند إلى قوة تمثَّلت في الوجود العسكري الميليشياوي، علاوة على الاستناد المباشر وغير المباشر على الجمهورية الإسلامية في إيران.

لقد مرَّت السلطة بتحولات في مضمون محتواها المؤسِّس تمايزت فيه الشرعيات، فإذا كانت قد بدأت بهيمنة جيل معارضي المهجر، فإنها تحوَّلت إلى صراع بين هؤلاء الذين بيدهم المال والسلطة وبين أولئك الذين يملكون تنظيمات مسلحة ويعلنون بأنهم “مناضلو الداخل” سواء في مقارعة نظام صدام حسين أو مقاومة الاحتلال الأميركي بعد 2003. كما أن هناك طرفًا ثالثًا خارج مؤسسة السلطة الرسمية يمتلك السلاح لكنه يدعم منظومة السلطة القائمة ولا يسمح بتغيير معادلاتها طالما هي توفر له الحماية والغطاء وتسهل له عمله المرتبط بـ”مشروع المقاومة” المعادي للأميركان وإسرائيل مع الجمهورية الإسلامية في إيران وحزب الله في لبنان. وقد وجد هذا الطرف في محوره هذا شرعية خارج الإطار المُؤَسَّسِي للدولة تبيح له حركته ضمن إطار السلطة الحاكمة أو في داخل الإطار الاجتماعي. ولكن، في نهاية الأمر، تداخلت جميع الأطراف في سياق “الحشد الشعبي” الذي تأسس بعد اجتياح تنظيم الدولة للأراضي العراقية في 2014؛ الأمر الذي أدى إلى ظهور استحقاقات جديدة للأطراف المشتركة في هذا الحشد تتعلق بالسلطة، استندت إلى شرعية محاربة ذلك التنظيم والانتصار عليه، مضافًا إلى “شرعياتها” السابقة.

ولهذه الأسباب حصل صراع خفي، وعلني أحيانًا، على السلطة كُلٌّ وفق منطقه الخاص المرتبط بمصالحه الخاصة أو المرتبط بموقف الجمهورية الإسلامية في إيران التي أصبح لها اليد الطولى في تقرير وتدبير الأمر السياسي في العراق. وفي وسط هذا التزاحم المعقد على السلطة والنفوذ استنادًا إلى شرعيات دستورية وغير دستورية، جرى تعزيز مواقع الأحزاب والقوى السياسية بصورة واسعة من خلال تنشيط شبكاتها الزبائنية للاستفادة منها في جميع المجالات. وفي إطار صراع الاستحقاقات الذي أشرنا إليه، حوَّلت بعض القوى المسلحة جانبًا من نشاطها إلى العمل السياسي ودخول الانتخابات البرلمانية، لتضفي بذلك على نفسها شرعية انتخابية فضلًا عن “شرعية المقاومة”. لكن الشرعية الانتخابية هي الأخرى مرَّت بمراحل تشكيك كبيرة حول تزوير العملية الانتخابية منذ الانتخابات الأولى في عام 2005 وصولًا إلى انتخابات 2018 التي شهدت حوادث تزوير واسعة النطاق، فضلًا عن أن النظام الانتخابي المتبع حسب طريقة “سانت-ليغو” (Sainte-Laguë method) لا يضفي كثيرًا من الشرعية بسبب سوء طريقة استخدامه؛ حيث سُمح لرئيس القائمة الفائزة بأن يتحكَّم في توزيع أصوات الناخبين لمن يرتئيه من أعضاء حزبه. كما أن المال السياسي الذي استُخدم في الانتخابات أخلَّ كثيرًا بشرعية العملية الانتخابية. وقد خلق هذا، بالمقابل، ما يسمى بـ”شرعية المهمشين” أولئك الذين قدموا صورة راديكالية للسياسة بوصفها فعلًا احتجاجيًّا جمعيًّا يصنعه المقهورون غير المسيسين بتنظيم حزبي أو نسق أيديولوجي منهجي(7). بالنتيجة، انعكست أزمة الشرعية في كل أوجهها على مجمل النظام السياسي في العراق، بل إن تزاحم الشرعيات غير الدستورية جعل الدولة بمفهومها الحكومي والمُؤَسَّسي عاجزة في الكثير من القضايا، والتي يأتي في مقدمتها قضية حصر السلاح بيد الدولة، وليس آخرها أزمة اختيار رئيس للوزراء عقب كل انتخابات والتي مثَّلت أزمة حكم واضحة طيلة السنوات الماضية، وما زالت.

  1. المدركات الجديدة للاحتجاج في البيئة الشيعية

لعل من السابق لأوانه القول بأن سنوات الاحتجاج التصاعدية منذ سنة 2010، وبلغت ذروتها في أكتوبر/تشرين الأول 2019 وصولًا إلى عام 2020، قد أفرزت نتائج مادية ملموسة، فالنظام السياسي ما زال قائمًا، وإن كانت هذه الاحتجاجات قد أدت إلى استقالة الحكومة وأجبرت البرلمان على إصدار قانون انتخابي وإلزام أية حكومة قادمة بإجراء انتخابات مبكرة، إلا أن ما حصل كان عبارة عن إدراك واع، أو غير واع، لسلوك اجتماعي-سياسي جديد في البيئة الشيعية بعد سنوات طويلة من قلق وتشتت هوية الاجتماع السياسي في تلك البيئة. ولعل من الواضح أن هذا الإدراك، قد أدى، وسيؤدي، إلى سلوك جديد يتجاوز الأطر القديمة التي كانت تحكمه. وبالإمكان تقسيم هذه المدركات إلى قسمين، الأول: مدركات اجتماعية-اقتصادية، والثاني: مدركات نفسية أو سايكو-سياسية.

أولًا: المدركات الاجتماعية-الاقتصادية

تأتي أهمية هذه المدركات من كونها وفَّرت وعيًا باستحقاقات مادية، لاسيما تلك التي تخص الجيل الجديد أفرزها الواقع المعيش، كما أنها وفرت مقتربات لإمكانية تكوين تشكيلات سوسيو-اقتصادية تكون قادرة على التأثير في الاجتماع السياسي في البيئة الشيعية.

أ- الواقع المعيش: استحقاقات الجيل الجديد

كحال البلدان العربية الأخرى التي مثَّلت فيها الدولة كوارث بالنسبة للناس، كونها لم تجلب أيًّا من الأمن والحرية أو الازدهار، بل جلبت نقائضها(8)، كان العراق بصورة عامة يعاني من نفس الكارثة متعددة الأوجه. لقد مثَّل الواقع المعيش واستحقاقات الجيل الجديد جدلية اجتماعية متناقضة تتعلق بحركة التاريخ، فالواقع المادي الذي يعيش فيه الأفراد إذا لم يلبِّ حاجات الأجيال الجديدة، فإن إسقاطات هذا التناقض ستقع على منظومة السلطة الحاكمة، ليس فقط السلطة السياسية وإنما مجموع السلطات القيمية الأخرى التي تتحكَّم بهذا الواقع بدرجة أو بأخرى. وبطبيعة الحال، تشترك كل المكونات الاجتماعية في العراق بنفس الواقع ونفس الاستحقاقات، وإن بدرجات متفاوتة، إلا أن البيئة الشيعية التي يجري فيها الاحتجاج تُشكِّل نموذجًا واضحًا لذلك التناقض الحاصل بين الواقع والاستحقاقات، بل إنها تمثِّل البيئة الأفقر والأكثر عوزًا للخدمات نظرًا لثقلها السكاني وهي التي تقطن في مناطق النفط الذي يُعَدُّ مصدر الثروة العراقية. كما أن المفارقة الأخرى تكمن في أن تلك البيئة تمثِّل الحاضن الاجتماعي المفترض لأحزاب السلطة الحاكمة وأجنحتها المسلحة، فيما يرافق ذلك حجم هائل من الفساد السياسي والمالي والإداري في تلك البيئة.

ويعاني العراق، وعلى وجه الخصوص بعد 2003، من جملة إخفاقات في جميع النواحي أضيفت إلى الإخفاقات التي أنتجتها النظم الشمولية السابقة تتمثَّل في ارتجالية التخطيط المُفْتَقِد للتفكير التنموي المستدام، والحروب التي مرَّ بها العراق وصولًا إلى نظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما يرتبط به من مظاهر فساد وتشكيلات أوليغارشية وشبكات زبائنية تعمل في ظل تنظيمات أو ميليشيات مسلحة تعمل خارج سيطرة الدولة، وهو ما انعكس بشكل خطير على عموم الوضع الاقتصادي-الاجتماعي في العراق وتحوَّلت فيه الدولة من دولة مؤسسات إلى دولة يمكن تسميتها بـ”الدولة الزبائنية”، فضلًا عن صفتها الرعوية التي يكون الأفراد فيها تحت رعايتها، أو بالأحرى، تحت رحمتها مباشرة.

وتتمحور التناقضات التي تواجهها الدولة والمجتمع في هذا المجال في مظاهر عديدة، وتتمثَّل في نمو السكان والفساد والبطالة والفقر، فمع عدم وجود تعداد للسكان منذ تسعينات القرن الماضي، تشير معظم التقديرات إلى أن تعداد سكان العراق يناهز أو يزيد على 40 مليون نسمة، كما أن الزيادة في سكان العراق تضاعفت ثماني مرات من 5.16 ملايين نسمة عام 1950 إلى 41.2 مليون نسمة عام 2019. وتضاعفت هذه الزيادة ثلاث مرات منذ بدء الحرب العراقية-الإيرانية عام 1980، ثم استمرت الزيادة على نفس الوتيرة بالرغم من حرب الخليج الثانية في 1990 والقتال في 2003 وما أعقبها حتى الوقت الراهن. علاوة على ذلك، فإن معظم السكان في العراق هم من الشباب الذين يفتقدون الوظائف والعمل. ومن المتوقع أن هذه الزيادة سوف تستمر في العقد القادم(9). وفي سياق العمل ذاته، يؤشر البنك الدولي إلى استشراء الواسطة في التعيينات في الوظائف، وحسب البنك، فإن العراق جاء في الترتيب 171 في مؤشر سهولة تحقيق مشروع للعمل من 190 دولة محرزًا بذلك المركز الـ19 من بين أسوأ الدول في العالم في هذا المجال(10). كما أن منظمة الشفافية الدولية وضعت العراق في عام 2018 في المرتبة 168 من أصل 180 دولة جاعلة منه البلد الـ13 الأكثر فسادًا في العالم(11).

علاوة على الإخفاقات السابقة، يشكِّل ملفا البطالة والفقر مقياسًا موضوعيًّا لحالة الأزمة التي يعيشها المجتمع العراقي بصورة عامة، والمناطق التي اندلعت فيها الاحتجاجات بصورة خاصة؛ حيث تأخذ هاتان الظاهرتان في مناطق الوسط والجنوب مديات أبعد وأوسع؛ الأمر الذي يفسر لنا سبب ذلك الانتفاض الاحتجاجي.

فيما يتعلق بالبطالة، أظهرت نتائج المسوحات أن نسبة البطالة في العراق بصورة عامة سجلت 13.8%، طبقًا لمعايير منظمة العمل الدولية. وترتفع نسبة البطالة بين الشباب إلى 19%، وكانت مؤشرات البطالة قد قاربت 30% عام 2005 وانخفضت إلى 11% عام 2013، إلا أنها عاودت الارتفاع عام 2014 بسبب أزمة اجتياح تنظيم الدولة للأراضي العراقية والأزمة الاقتصادية التي تعرض لها العراق جرَّاء انخفاض أسعار النفط(12). وتفاقمت مشكلة البطالة في العراق خلال السنوات الأخيرة بسبب غياب الخطط الحكومية التي تهدف إلى توفير فرص عمل للعاطلين من خلال تفعيل القطاع الخاص، كما يتخرج سنويًّا في الجامعات آلاف الطلاب دون أن يجدوا وظائف لهم في الدولة مما يجعل نسبة البطالة في ارتفاع مستمر وسط غياب الحلول والمعالجات، وقد أعلن صندوق النقد الدولي، في مايو/أيار 2018، أن معدل بطالة الشباب في العراق يبلغ أكثر من 40%(13).

كما أن هنالك علاقة بين التشغيل في الوظائف العامة في الدولة والقطاع الخاص؛ حيث يرى وزير المالية العراقي أن “هناك تضخمًا في القطاع العام بسبب انعدام فرص العمل في القطاع الخاص”، مبيِّنًا أن “90% من فرص العمل موجودة في القطاع الحكومي، وأن أعداد الموظفين قبل عام 2003 كانت بحدود 850 ألف موظف في حين لدينا اليوم 6.5 مليون موظف ومتقاعد. كما يرى أن “الشباب في الوقت الحاضر يتجهون نحو الوظائف الحكومية بسبب عدم وجود قطاع خاص قوي يستوعبهم”، وأيضًا بسبب اعتماد العراق على النفط كمصدر وحيد لإيراداته المالية(14).

ولا شك بأن هناك أعدادًا هائلة من خريجي الجامعات في العراق لا تستوعبهم سوق العمل من جهة، ومن جهة أخرى لا يتعيَّن منهم في دوائر الدولة إلا النزر اليسير الخاضع للتزكيات الحزبية والوساطات. لكن المشكلة الحقيقية التي تواجه الباحث في هذا الشأن هي أنه لا توجد في الواقع إحصاءات رسمية يمكن الاعتماد عليها بصورة كافية(15).

أما فيما يتعلق بنسب البطالة في مناطق الوسط والجنوب، فإن الإحصاءات الرسمية ومنذ سنوات تؤشر لارتفاع ملحوظ في هذه المناطق بين عامي 2007 – 2012؛ حيث سجلت محافظات ذي قار وميسان أعلى النسب في البطالة ثم تأتي بعدهما بقية المحافظات الجنوبية. وقد سجلت المحافظات الجنوبية المتمثلة بذي قار والبصرة وميسان والمثنى كذلك ما نسبته نصف السكان من الفقراء المدقعين، فيما يتوزع النصف الآخر على معظم محافظات الجنوب والوسط، وكذلك محافظة نينوى من المنطقة الغربية(16).

أما بالنسبة إلى معدلات الفقر، فقد ارتفعت بشكل حاد، منذ عام 2014 وهو العام الذي شهد اجتياح أجزاء من العراق من قبل تنظيم الدولة ثم ما جرى بعده من معارك تحرير الأراضي والانخفاض في أسعار النفط. وذكر تقرير للبنك الدولي، صدر عام 2018، أن هذه الأحداث دفعت بثلاثة ملايين شخص إضافي إلى دائرة الفقر في عام 2015، وأشار إلى أن النظرة المستقبلية تظل أسيرة المخاطر الاجتماعية والسياسية الكبيرة(17).

ورغم أن معظم مناطق العراق بصورة عامة ترتفع فيها نسب الفقر، إلا أن المناطق الوسطى والجنوبية التي يشكِّل معظمها مناطق المجتمع الشيعي هي من أكثر المناطق فقرًا في العراق. وتشير إحصائية لوزارة التخطيط العراقية، صدرت عام 2020، عن نسب الفقر في هذه المناطق قياسًا إلى غيرها، إلى أنه على سبيل المثال بلغت نسبة الفقر في محافظة المثنى في جنوب العراق 52% وهي أعلى نسبة في العراق، تليها على التوالي محافظات الديوانية 48% وميسان 45% وذي قار 44% وهي نسب مرتفعة جدًّا حتى بالنسبة إلى مقارنتها مع نظيراتها في إقليم كردستان، والتي سجلت أدنى مستويات الفقر؛ حيث بلغت في دهوك 8.5% وفي أربيل 6.7%. ونفس الأمر يتكرر عند مقارنة نسب الفقر مع محافظات المنطقة الغربية (السُّنِّية) في العراق مثل صلاح الدين 18% والأنبار 17%(18).

وتأخذ هذه النسب صفة الاطراد لسنوات، كما أنها تتوضح بشكل أكثر إيلامًا إذا ما تابعنا معدلات الفقر على مستوى الناحية وهي أصغر وحدة إدارية في العراق، ففي إحصائية لوزارة التخطيط حول أَفْقَـر النواحـي في العـراق بين 2012-2013 التي تُشكِّل نسبة الفقـر فيها 70-77% تصدرت نواحٍ في جنوب العراق النسب مقارنة مع النسب الأقل في مناطق العراق الأخرى متمثَّلة بنواحي كل من غمـاس في محافظة القادسـية، وبني هاشـم في محافظة ميسان، والهلال والنجمي والوركاء والسـوير فـي محافظـة المثنى. أمـا النواحي الأقـل فقرًا، والتي تكون فيها نسبة الفقر 1% فكانت نواحي فلسـطين في بغـداد، وحلبجة وبيارة ومركز قضاء دربندخان ومركز السـليمانية، عينكاوة في أربيل، وكلها في إقليم كردستان(19). كما أن معدلات الفقر تسجل تباينًا ضمن المحافظة الواحدة، فقد بلغ عــدد الفقــراء فــي ذي قــار جنوب العراق بحدود 70 ألــف فــرد، 36% منهــم يتركــزون فــي كل مــن مركــز قضــاء الناصريــة، والشــطرة، والغــراف(20). وهذا ما يفسر لنا أحد أبرز أسباب قوة الاحتجاجات في ذي قار. كما أظهـرت المؤشـرات أن نسبة الفقر في الريف تزيـد علـى ضعـف النسـبة فـي الحضـر، وعند ترتيـب المناطـق الفقيرة بحسـب البيئة يظهر أفقرها في أرياف جنوب العراق كالتالي: أرياف ميسان 73%، والمثنى 64%، وذي قار 71% ثم القادسية 60%. وتفسـير ذلـك، كما يشير تقرير لوزارة التخطيط، هـو انخفـاض إنتاجيـة العمـل الزراعي(21). وعلى الرغم من أن وزارة التخطيط العراقية سجلت انخفاضًا في مؤشر الفقر من 22.5% عام 2014 إلى 20% عام 2018، فإن محافظة المثنى في جنوب العراق ظلت المنطقة الأكثر فقرًا بين المحافظات بنسبة وصلت إلى 52%(22).

نستخلص من ذلك، أن هذه النسب المتعلقة بحياة الأفراد لابد أنها صنعت إدراكًا لأوضاعهم من النواحي المادية، لاسيما في مناطق البيئة الشيعية في الوسط والجنوب التي ظهر أنها الأكثر تضررًا قياسًا بغيرها من المناطق الأخرى، وهذا ما انعكس على حدة الاحتجاجات في مناطق تلك البيئة والتي كان مغزاها في هذا السياق إعادة توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والوعي بأن النظام الريعي هو نظام يكرِّس العبودية؛ لأنه يربط الفرد بالدولة، أو بممارسات السلطة الحاكمة في حالة العراق.

ب- استحقاقات الطبقة الوسطى: إمكانيات التأثير البنيوي

بداية، لابد من القول: إن موضوع الطبقة الوسطى عادة ما يثير لبسًا كبيرًا لاسيما في العراق، وذلك لعدة أسباب منها قلة الدراسات التي تتناول هذا الموضوع، ومنها حداثة وهشاشة البناء الطبقي في العراق، فضلًا عن صعوبة الإدراك الواعي لمكونات هذه الطبقة. كذلك، فإن مفهوم الطبقة الوسطى بحد ذاته هو مفهوم سيَّال، لا يحظى بإجماع لدى المختصين بعلم الاجتماع والسياسة فهو يعتمد أحيانًا على مستوى الدخل الفردي، وفي أحيان أخرى يعتمد على المؤهل العلمي أو الثقافي والمهني، ولكن بصورة عامة، تمثِّل الطبقة الوسطى أصحاب المراكز الوسطى سواء في المجتمع أو في الدولة، وتقع بين الطبقة العليا التي تملك المال والنفوذ، وبين الطبقات الدنيا التي لا تملك مثل ذلك. أما مكوِّنها فهو الذي يتمتع بمستوى مناسب من الدخل والتعليم مثل الموظفين وأصحاب التخصصات كالمهندسين والأطباء والمحامين والضباط ومتوسطي رجال الأعمال والمثقفين وغيرهم. وفي ظل أجواء التحوُّل السياسي التي تشهدها الدول العربية، فإن الطبقة الوسطى تمثِّل دورًا مهمًّا في التوصل إلى توازنات سياسية-اجتماعية جديدة.

وتأتي أهمية موضوع الطبقة الوسطى في العراق من كونها الطبقة القادرة على إدامة الفعل السياسي في المجتمع والدولة، ومن هذا المنطلق، يمثِّل هذا الموضوع استحقاقًا، وإن كان غير واع أو مدرك بصورة واضحة خلال العملية الاحتجاجية، لكنه يُعَدُّ الأهم من بين كل الإدراكات التي أفرزتها الاحتجاجات. فالطبقة الوسطى في أي بلد تمثِّل عماد بناء الدولة، وهي الطبقة التي تُسْتَثْمَر فيها كل الخبرات العلمية والثقافية والمهنية، وهي المُوَلِّدَة الحقيقية للنخبة بجميع أشكالها، وهذا ما يفسر لنا جانبًا مهمًّا من الإدراك الاحتجاجي الكبير لطلبة الجامعات والخريجين الذين يفترض أنهم سيكوِّنون محتوى هذه الطبقة المهمة من ناحية الدور والمكانة التي تتيحها، ففيما يتعلق بالدور، يطمح هؤلاء إلى المساهمة في عملية إدارة الدولة. أما فيما يتعلق بالمكانة، فذلك استحقاق مادي يتناسب مع مؤهلاتهم العلمية والمهنية، فضلًا عن أن تكوين أو إعادة تكوين طبقة وسطى حقيقية سوف يعيد بدوره تشكيل، أو إعادة تشكيل، الاجتماع السياسي من خلال كونه بنية قادرة بذاتها أن تؤثر في ذلك الاجتماع عن طريق التحكم في حركته أو استيعاب متطلباته.

لقد كانت الاحتجاجات، في جانب مهم منها موجهة ضد التكوين التلفيقي المزيف لمحتوى هذه الطبقة في مجتمعاتهم، ودورها في بنية السلطة الحاكمة، وعلاقة هذا المحتوى بالسلطات القيمية الأخرى الدينية منها والقبلية. وبالتالي، كان الاحتجاج مزدوجًا ضد كل ما يعيق هذه المطالب والاستحقاقات. فحتى من غير الطلبة والخريجين من المحتجين، كانت المطالبات واضحة تتلخص بالمطالبة بأناس أكْفاء أو تكنوقراط لإدارة الدولة.

ولكن إذا كانت عملية بناء الدولة، أو بالأحرى إعادة بناء الدولة بعد عام 2003، تقع على عاتق الطبقة الوسطى، فإن من واجب السلطة الجديدة التي جاءت في أعقاب سقوط النظام السابق، وتدمير المرتكزات الأساسية للدولة أثناء الاحتلال الأميركي للعراق، أن تعمل على إعادة إحياء هذه الطبقة. وبالتالي، هل قامت هذه السلطة بعملية إحياء وتعزيز لهذه الطبقة في العراق للمساعدة على إنشاء حكم رشيد في مجتمع متماسك ويمتلك قدرًا عاليًا من الثقافة والرفاه، بل، هل وجد الفضاء الاجتماعي الاقتصادي في البيئة الشيعية في وسط وجنوب العراق نهوضًا لهذه الطبقة، باعتبار أن تلك البيئة هي التي تحمل هذه السلطة هويتها وتدعي تمثيلها وتعويض “مظلوميتها”؟

لقد تعرضت هذه الطبقة في العراق بصورة عامة إلى الانكماش التدريجي ودخلت في مطاردة حقيقية من قبل النظم الشمولية المتعاقبة في العراق تحديدًا منذ عام 1958، تاريخ صعود الأنظمة العسكريتارية إلى السلطة، وحتى عام 2003. وقد تم تشتيت هذه الطبقة خوفًا من مواقفها في إدارة الدولة، فالسلطوية عدوة الطبقة الوسطى؛ لأن هذه الطبقة، بما تشتمل عليه من مهنية وتخصصات ووظائف وأدوار، لابد أن تنتهج طبيعة تشاركية ذات طابع ليبرالي تشاركي، وهذا ما لا تقبل به السلطة الشمولية ذات البعد الواحد والأيديولوجية المهيمنة. وقبل عام 2003، تعرضت بقايا الطبقة الوسطى في العراق إلى تضييق شديد من قبل السلطة تمثَّل في إعدام البعض من رجال هذه الطبقة وهروب البعض الآخر (أطباء، مهندسين، رجال أعمال، مثقفين) خارج البلاد نتيجة القمع، وأيضًا نتيجة للحصار الذي فُرض على العراق بعد حرب الكويت في تسعينات القرن الماضي، فيما اضطر البعض الباقي إلى التواؤم مع توجهات السلطة.

تاريخيًّا، لم تكن الطبقة الوسطى في مناطق البيئة الشيعية طبقة واسعة ومتماسكة؛ حيث كانت تتألف من نخبة قليلة العدد إبان تأسيس الدولة العراقية في1921، وقد أسهمت في ذلك عدة عوامل مثل الفقر وضعف التعليم وإسقاطات الصراع الطائفي بين العثمانيين والإيرانيين، فضلًا عن فتاوى الفقهاء بالتشجيع على مقاطعة الحكومة العراقية في عهد الملك فيصل الأول كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ومع تشكُّل بيروقراطيات الدولة الحديثة في الثلاثينات، بدأت النخب المتعلمة من مناطق الوسط والجنوب، تعمل على توسيع هذه الطبقة. لكن تاريخ تلك الفترة يُظهر تناقضًا يعكس الفوارق الطبقية العظيمة التي عمَّقت الهوة بين الذين يملكون والذين لا يملكون وقلَّصت من حظوظ نمو صحيح لطبقة وسطى كان للتسلط القبلي الإقطاعي دور فيه.

ويذكر المؤرخ، حنا بطاطو، أن أغنى الأغنياء عام 1958 كانوا في الأغلب من الشيعة، إلا أن “أفقر الفقراء”، حسب تعبيره، كانوا من الشيعة أيضًا(23). غير أن هناك عوامل عديدة أسهمت أيضًا في تحجيم هذه الطبقة وعدم فاعليتها نتيجة لعوامل سياسية واجتماعية، ومن بين تلك العوامل، طبيعة الأنظمة الشمولية التي أعقبت النظام الملكي والتي انتهج معظمها النظام القرابي في الحكم والإدارة. كما أن الحساسية الأمنية، من قبل أنظمة الحكم منذ سبعينات القرن الماضي تجاه هذه المناطق بسبب التنظيمات الإسلامية السياسية التي ظهرت فيها، قد أسهمت في إعاقة تشكيل أو توسيع هذه الطبقة، فقد كانت هناك إجراءات حكومية تصل إلى الفصل من الوظيفة أو الحرمان من التعيين في دوائر الدولة لمن كان لديه أقارب من المعدومين أو المنتمين إلى الحركات الإسلامية التي كان أهمها حزب الدعوة، ومن قبله الحزب الشيوعي العراقي الذي كانت أكبر حاضناته في مناطق الوسط والجنوب. كما أن الحروب المستمرة التي دخلها العراق منذ 1980 ولسنوات طويلة وضحايا كُثر منع أو أسهم إلى حدٍّ كبير في تقليص هذه الطبقة. فضلًا عن ذلك، أسهم الحصار الدولي على العراق الذي تخللته الحروب في تسعينات القرن الماضي بالحطِّ من مستوى الطبقة الوسطى في العراق بصورة عامة ومناطق الوسط والجنوب بصورة خاصة لما تشكله هذه المناطق من نسب فقر متدنية، وقد استتبع ذلك تغيُّرًا في نمط الحياة الاجتماعية-الاقتصادية نتيجة للحراك الاجتماعي صعودًا أو نزولًا بسبب الفقر وظاهرة تَرَيُّف المدن التي أسهمت في هبوط الظاهرة المدينية التي تُعَدُّ واحدة من أبرز سمات الطبقة الوسطى؛ الأمر الذي أدى إلى انحسارها وتغير معالمها؛ حيث انهمك الأفراد في أنماط قبلية ودينية ومارسوا عملية انكفاء على النفس. وبالنتيجة، كان الإدراك الاجتماعي للطبقة الوسطى في العراق بصورة عامة إدراكًا متدنيًا قبل 2003، لكنه في مناطق الوسط والجنوب كان أكثر تدنيًا.

هكذا، عندما جاءت لحظة 2003 لم تكن هناك طبقة وسطى متماسكة يُعْتَمَد عليها في إعادة بناء الدولة على مستوى العراق بصورة عامة، فقد تشتتت بقايا هذه الطبقة مرة أخرى لاسيما تلك التي كانت تعمل في دوائر الدولة بين اجتثاثها بسبب انتمائها إلى حزب البعث الحاكم، أو اتهامها بأنها كانت تعمل لصالح النظام السابق، فيما دعت الحاجة السلطة الجديدة إلى استخدام بعض أفراد هذه الطبقة، إلا أن هذا الاستخدام بحد ذاته كان مبنيًّا أيضًا على أسس طائفية مكوِّناتية، وهذا ما يشكِّل في الواقع دلالة واضحة على السلوك الشمولي الذي سلكته السلطة الجديدة. على أن عملية التحكم بالتكوينات الاجتماعية والسياسية في عموم العراق لم تكن من صميم عمل السلطة المركزية (المهيمنة) بقدر ما كانت متروكة للسلطات الفرعية أو المحلية التي قامت على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وبالنتيجة، كانت أشكال تكوين وأدوار الطبقة الوسطى في إقليم كردستان مختلفة عن مثيلتها في الغربية ذات التكوين الاجتماعي السُّنِّي، وبالنهاية، عن مناطق الوسط والجنوب ذات المكون الشيعي وإن كان ذلك الاختلاف نسبيًّا في بعض الأوجه نظرًا للانهيار الواسع في مفاصل الدولة بصورة عامة بعد عام 2003.

لقد قادت السلطة الجديدة إلى مفارقة واضحة في البناء الاجتماعي-الاقتصادي، لاسيما في المجتمع الشيعي، تتعلق ببناء الطبقة الوسطى، فطبيعة وشكل هذه الطبقة التي تكونت في البيئة الشيعية، على وجه الخصوص بعد 2003، تعطي شكلًا من أشكال الاعتباطية والفوضوية التي سبَّبتها جملة عوامل سياسية وسيكولوجية اجتماعية، فضلًا عن عوامل نقص الخبرة. فقد نشأت عمليه أشبه بملء فراغ لطبقة لم تأخذ وضعها الطبيعي منذ عقود طويلة، لكن هذا التشكيل، أو الطبقة الجديدة، كانت في كثير من الأوجه طبقة “مزيفة” في خضم محاولات تأسيس الكتلة التاريخية الشيعية والتي تحوَّلت فيما بعد إلى فئويات تعزز وجودها الخاص في سلطة بدأت تأخذ شكلها الأوليغارشي القائم على الشبكات الزبائنية. فبرزت ظواهر عديدة في جسم الدولة السياسي والإداري وحتى الثقافي. فسياسيًّا، لم تكن الطبقة السياسية ذات الأغلبية الشيعية، والتي مكث الكثير منها في السلطة منذ عام 2003، قد جاءت في سياق نخبوي ثقافي أو مهني بقدر ما كانت نتاجًا لسياق تلفيقي للأحزاب المهيمنة يعتمد على المصلحة الحزبية أو الشخصية. أما على صعيد إدارة الدولة فقد تمثَّل الأمر بدخول أفراد ليس لهم علاقة مهنية بوظائفهم التي أنيطت بهم لأسباب حزبية وطائفية بحتة. كما برزت في الأجهزة الأمنية ظاهرة “الضباط الدَّمْج”، أي دمج مقاتلي الأحزاب السابقين في زمن المعارضة في الأجهزة الأمنية. أما بالنسبة لقطاع الأعمال والمقاولات فقد تصدى له أشخاص لهم ارتباطات حزبية ليس لهم سابق خبرة انهمكوا في إطار الشبكات الزبائنية، وهناك أيضًا، من غير المرتبطين حزبيًّا، من استند في تمرير أعماله إلى القوة القبلية في ظل التجاوزات الواضحة على القانون. يضاف إلى ذلك، أنه على جميع المستويات في الإدارة سواء المركزية منها أو في المحافظات كانت معظم المناصب والتعيينات الحكومية تجري على أساس الارتباطات والوساطات الحزبية فيما يتم استبعاد المستقلين من ذوي الاختصاص. بل إنه، وفي ذات السياق، تم تهميش ورفض كفاءات علمية وثقافية جاءت من الخارج تنتمي أصولها إلى المناطق الجنوبية من العراق كانت قد بنت لنفسها تكوينات معرفية ومهنية في دول متقدمة خلال سنوات الثمانينات والتسعينات لكنها لم تنتم إلى حزب معين، في حين كان يمكن الاستفادة من هؤلاء في عملية إعادة بناء الدولة.

هكذا، وجد الآلاف من الخريجين وأصحاب المهن الحرة والمثقفين وأصحاب الكفاءات، غير المرتبطين بالأحزاب، أنفسهم خارج إطار الطبقة الوسطى التي ينبغي أن تضمهم، بل نزل الكثير منهم، من الناحية الفعلية، إلى الطبقة الدنيا الفقيرة، فيما بدأ الكثير من الذين تم ذكرهم من المرتبطين بالشبكات الحزبية أو المستندين إلى القبيلة، بالتحوُّل إلى طبقات مالكة عليا مستفيدة من المحسوبية والقرابية والفساد. وهذه الأسباب هي التي سببت حنقًا واحتجاجًا واسعًا لاسيما بين الفئات الشابة من الطلبة والخريجين وحتى من غيرهم. لقد شكَّلت هذه القضية مطلبًا، وإن كان غير معلن كما أشرنا سابقًا، إلا أنه متكرس في “اللاوعي الجمعي” لإعادة إنتاج طبقة وسطى حقيقية وجد ذروته في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019. ولا شك بأن الوعي اللاحق بهذه الطبقة من قبل جيل الشباب على وجه الخصوص، نساءً ورجالًا، سوف يكون واحدًا من أهم نتائج الحراك الاحتجاجي في مناطق الوسط والجنوب المنتفضة، وهذا من أهم المفاتيح التي تبلور اجتماعًا سياسيًّا جديدًا في تلك البيئة، فوجود طبقة وسطى متماسكة ومهنية تحمل طابعًا مدنيًّا، سوف يحل بالتأكيد محل الوصايات الدينية-السياسية، والقبلية-السياسية التي كانت هي الراعية الحصرية للشأن الاجتماعي السياسي.

ثانيًا: المدركات السايكو-سياسية

عادة ما يتطلب الاجتماع السياسي في بيئة ما، مدركات نفسية-سياسية تعمل على إدامة النمط التقليدي لذلك الاجتماع، أو العمل على تغييره. ولعلنا هنا أمام النوع الثاني؛ حيث استجلبت الاحتجاجات العراقية منذ سنواتها الأولى وبصورة تصاعدية، جملة من تلك المدركات التي جاءت احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019 لتُكرِّسها بوضوح.

لقد مثَّلت احتجاجات البيئة الشيعية، في أحد وجوهها، سلوكًا سياسيًّا يتحدى الارتباطات الدينية-السياسية، ليست العقائدية منها بالضرورة، بل ومثَّلت أيضًا، نوعًا من التجاوز للارتباطات القبلية التي غالبًا ما تميل إلى المحافظة. لقد كانت الحركة الاجتماعية-السياسية في المجتمع الشيعي، في معظم فتراتها، نتاجًا لتوجيهات وفتاوى دينية؛ حيث عاش هذا المجتمع، ولقرون، وفق نظرية تلقين مذهبي غيبي حول السلطة السياسية، في حين عاش في الأزمنة المعاصرة أزمة القلق بين ذلك التلقين الراسب في اللاوعي الفردي أو الجمعي الشيعي، وبين الانتماءات الأيديولوجية الحداثية، حتى وصل إلى زمن ما بعد الحداثة وانحسار السرديات أو الأيديولوجيات الكبرى، فأصبح، من خلال حراكه، غير المُؤَدْلَج، مهيَّئًا لإعادة تشكيل اجتماعي-سياسي جديد في أقرب فرصة.

أ- الذهنية الشبابية الجديدة في البيئة الشيعية: مفتاح الاجتماع الجديد

قد لا تمثِّل الحركة الاجتماعية الاحتجاجية في البيئة الشيعية كل الطيف الشيعي في العراق، لكنها بالتأكيد تمثِّل الجزء الفاعل والمؤثر من خلال مكونها الشبابي الأعظم الذي خرج محتجًا على كل الأوضاع الخدمية منها والسياسية والاجتماعية وغيرها من الأوضاع التي جاءت نتيجة لتفاقم سوء العلاقة بين السلطة والجمهور، كاسرًا بذلك حاجز المحافظة والخوف الذي طبع الأجيال السابقة، متطلعًا إلى مستقبل أفضل لا يخص بيئته والمكون المذهبي الذي ينتمي إليه بل يخص الوطن الذي يعيش فيه. ولعل الشعار الذي رفعه المحتجون في أول يوم من اندلاع الاحتجاجات “نريد وطن” يعبِّر عن مطلب واضح للهوية الوطنية والانعتاق من الهويات الفرعية الأخرى التي لم تحقق أيًّا من طموحاتهم، لاسيما أن الذين رفعوا هذا الشعار في ساحة التحرير في بداية المظاهرات الاحتجاجية ببغداد كان معظمهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و35 عامًا، وكان معظمهم من الطبقات المسحوقة من سكان الضواحي والعشوائيات وعلى وجه الخصوص مناطق شرق بغداد(24)، ثم شاركهم فيها، بعد ذلك، أقرانهم من الشباب في المحافظات الوسطى والجنوبية. وقد كان للمحتوى الشبابي في هذه الاحتجاجات أثر كبير في ديمومة الاحتجاج سواء عن طريق التظاهرات أو الاعتصامات رغم الخسائر الكبيرة في الأرواح وفي الإصابات جرَّاء القمع الذي تعرضت له هذه الاحتجاجات، خصوصًا في مدن بغداد وذي قار والنجف وكربلاء والبصرة.

لكن، ما العوامل التي كان لها دور في تحفيز المحتجين لهذا السلوك الثوري وبالتالي، تكريس مدركات ذهنية لدى المحتجين لتكون مفتاحًا للتغيير؟ هنالك في الواقع عدة عوامل ساعدت سيكولوجيًّا على تعزيز المدركات الواعية أو غير الواعية التي أشرنا إليها في هذا السلوك الاحتجاجي ولعل من أهمها ثلاثة عوامل، الأول: هو ما نستطيع تسميته بـ”التنشئة السياسية-الاجتماعية من غير وسائلها التقليدية”، والثاني: مرتبط بها، وهو وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والثالث: هو تأثيرات الإرث الثقافي للبيئة.

فيما يتعلق بـ”التنشئة السياسية-الاجتماعية من غير وسائلها التقليدية”، فإن هنالك ذهنية جديدة تكونت عند الشباب العراقي بصورة عامة، وفي البيئة الشيعية بصورة خاصة، تختلف عن ذهنيات الأجيال السابقة التي عاصرت الأيديولوجيات والنظم السياسية السابقة ولم تتعرض لتنشئتها السياسية العقائدية. كذلك لم تتلق، بعد 2003 تنشئة سياسية حقيقية بل تنشئة تلفيقية مشوبة بالطائفية والمناطقية، فالتنشئة السياسية التي تغذي الأشخاص بمفاهيم الهويــة/الانتمــاء القومــي، والوطــن/الــولاء، والســلطة، والقيــم السياســية العليــا، والثقــة فــي النظــام السياســي وأدائه، لم يستطع النظام السياسي بعد 2003 أن يوفرها لجيل كامل من الأطفال والفتيان الذين سيكونون رأس حربة الاحتجاجات القادمة في 2019-2020؛ حيث إن وسائل التنشئة السياسية  التقليدية، مثل الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام والمنابر الدينية وغيرها، مارست أدوارًا متناقضة تشوشت فيها الرؤية الوطنية. وبالتالي، لم يوفر النظام السياسي ثقافة سياسية حرة تؤمن بالتعددية والديمقراطية الحقيقية لجمهوره، لا عن طريق مؤسساته الرسمية، ولا شبه الرسمية كالأحزاب والتيارات السياسية.

 كما أن المتلقي لهذه التنشئة يرى تناقضًا كبيرًا بين ما يتلقاه نظريًّا وما يراه على أرض الواقع. لذلك حلت وسائل التواصل (العامل الثاني) محلَّ الوسائل التقليدية في تعزيز هذه التنشئة، فقد كان لوسائل التواصل الاجتماعي العابرة للحدود المكانية دور مهم ورئيس في العمل على توفير ما لم يوفره النظام من معلومات سياسية. كما أن هذه الوسائل سهلت الاطلاع الواسع على تجارب الشعوب المتقدمة والأفكار التحررية. هذا فضلًا عن أن وسائل التواصل تلك وفرت الفرصة للتحاور واسع النطاق بين الأفراد حول الأوضاع السياسية، فتكون بذلك قد مارست دور التنشئة السياسية بدلًا من النظام السياسي، وهذا ما جعل من تلك الوسائل المنصة الأهم في منصات الفضاء العام وفق نظرية الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، التي تتلخص في أن هناك وسائل أو منصات تستطيع الجماعات الاجتماعية استخدامها للوقوف بوجه تمدد السلطة وهيمنتها. مع ملاحظة أن معظم وسائل التواصل تلك كانت، إبان سنوات العنف، منصات للتناحر الطائفي، ثم تحولت بعد ذلك إلى منصات لما يسمى بـ”الجيوش الإلكترونية للأحزاب”، لكنها في السنوات الأخيرة شهدت تحولًا لصالح أن تكون وسيلة للتواصل الوطني ونقد الحكومة والنظام السياسي، وقد أسهم في ذلك الكثير من الناشطين، وهذا ما أوجد ذهنية جديدة لدى الشباب على وجه الخصوص مُشْبَعَة بروح النقد وثقافة الثورة. وقد أسهمت هذه الوسائل بالفعل بتنسيق العمل الاحتجاجي في كل المناطق قبل وأثناء الاحتجاجات(25).

ويأتي استلهام “الإرث الثقافي”، كعامل ثالث ضمن هذه العوامل، نتيجة للإحباط الذي يشعر به الشباب من جهة، ومن جهة أخرى، نتيجة لما أمدتهم به وسائل الاتصال الحديثة من تغذية ثقافية عن ماضي العراق الحضاري القديم والثقافي القريب، ليتكرس بالتالي، شعور بتناقض كبير بين الواقع والإرث الاجتماعي الثقافي لتلك البيئة، وكان ذلك عاملًا مهمًّا في التأثير على الذهنية الاحتجاجية ومستوى إدراكاتها. إن معظم مناطق الوسط والجنوب التي اندلعت فيها الاحتجاجات تحمل إرثًا ثقافيًّا يتوزع بين الفن والأدب والفكر، وقد كانت العملية الاحتجاجية في جانب منها تعبيرًا عن ذلك الإرث لاسيما بعد تدني الفن والثقافة التي سيطرت عليها أدوات السلطة وحاولت تجييرها لصالحها بصورة اعتباطية في ظل تابوهات تحريمية في تلك المناطق قد أنجبت الكثير من الفنانين والشعراء والكتاب والمفكرين. ويستطيع المراقب لوسائل التواصل الاجتماعي أن يرى شحنة كبيرة من النوستالجيا (الحنين الى الماضي) من خلال الأغاني والمشاهد التمثيلية والصور الاجتماعية والتراثية القديمة، بل إن الكثير من أبناء الجيل الجديد قد انتهجوا ذات التوجه رغم أنهم لم يعيشوا ذلك الزمن. بجانب ذلك، بدأ هؤلاء الشباب يبحثون عن مناسبات يتحدون بها التابوهات (المحرمات) الدينية مثل إقامة احتفالات عيد الحب (الفالنتين) التي أثارت حنق الأطراف الدينية المتطرفة. ولعل حادثة افتتاح ملعب كربلاء الدولي والتعاطف الكبير من قبل العراقيين مع عازفة الكمان اللبنانية التي قامت بعزف النشيد الوطني العراقي(26)، قد مثَّل واحدًا من أهم معالم الخروج على هذه التابوهات؛ حيث أثيرت موجة انتقاد شديدة من قبل بعض الأحزاب والمؤسسات الدينية بحجة أن ذلك يخل بقدسية المدينة. وكان قد سبق ذلك عمليات منع لإقامة سيرك فرنسي في البصرة ومنع إقامة حفلات موسيقية في مهرجان بابل الدولي خلال السنوات الماضية.

ب- نمط المغايَرة الجديد: المدني بدل الديني/السياسي

لقد أظهرت هذه الاحتجاجات، خلال مراحلها الزمنية منذ سنوات، أنها علاوة على كونها تذمرًا واحتجاجًا على نقص الخدمات والفساد من جانب الطبقة السياسية الحاكمة، إلا أنها كانت تطرح فكرًا مغايرًا جديدًا يتمثَّل في الدعوة إلى “المدنية”. والمدنية هنا بمعنى أن تستوعب الدولة كل أعضاء المجتمع بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو القومية. وقد برز ذلك بالتحديد منذ عام 2015 مرورًا بعام 2018، وهو ما أشَّر إلى رفض الطابع الإسلاموي للسلطة، وتبلور ملامح لمشروع “مجتمع مدني جديد” عززه بروز أصوات يسارية وعلمانية تعارض العمل مع الإسلاميين عندما أرادوا تبني الاحتجاجات في ذلك الوقت(27). ومع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول 2019، بدا واضحًا الاندفاع المدني من خلال الشعارات والمطالب التي رفعها المحتجون، بل، وخلو هذه الاحتجاجات من أي استقطابات أيديولوجية، لاسيما الدينية منها، رغم محاولات بعض التيارات الإسلامية الدخول على خط هذه الاحتجاجات، بعبارة أخرى، كانت هناك ظاهرة مدنية غير مؤدلجة إزاء سلطة إسلاموية حاكمة. فكان على تلك الاحتجاجات بذهنيتها المدنية أن تواجه سلطة ذات محمولات أيديولوجية تحيل إلى “المقدس” الذي جرى ربطه، أو الإيحاء به إزاء كل فعل سياسي من قبل قوى السلطة بعد 2003 في إطار إضفاء الشرعية الدينية على السلوك السياسي، لاسيما أن المقدس في العقل التقليدي الشيعي يحيل إلى رابطة غيبية لا تخضع عادة للنقاش، وعادة ما تكون متغلغلة في اللاوعي الفردي والجمعي. وبالتالي، مثَّلت هذه الاحتجاجات تحديًا، أو رفضًا للمقدس المرتبط بالسياسة، فيما لم يلغ “الديني-الطقوسي”، والذي سخره المحتجون لخدمة أهداف الاحتجاج، ومثال ذلك تسخير المواكب الحسينية لخدمة المعتصمين في الساحات وغيره من المظاهر الأخرى. كما مثَّل الحضور النسائي الفاعل سواء في مظاهرات واعتصامات المنطقة الوسطى والجنوبية على وجه الخصوص واقعًا مدنيًّا جديدًا نظرًا لما تمثِّله هذه البيئة من طابع محافظ من الناحية الدينية والقبلية.

وإذا كان الذهن الشيعي في العراق يعاني من عقدة السلطة بسبب عدم تجربة “حكم شيعي” في تاريخ العراق السياسي الحديث، فإنه ربما وجد (قبل 17 عامًا) توقًا إلى مثل هذه التجربة، لاسيما بعد تجارب لنظم سلطوية سابقة، إلا أن المجتمع في البيئة الشيعية، وبمرور الوقت، تعرض إلى صدمة بعد أن خذلته تلك السلطة التي يُفترض أنها “شيعية” في تحقيق أبسط مستلزمات العيش الكريم، لكن ذلك في الوقت نفسه فتح بابًا لمراجعة الموروث الاجتماعي-السياسي في البيئة الشيعية برؤية جديدة تبتعد عن التحكم الديني وتوجيهه للاجتماع السياسي.

وفي مثل هذه الحالة، فإن من المتوقع معارضة السلطات القيمية التقليدية في المجتمع، مثل السلطة الدينية، لمثل هذه الرؤية الجديدة، غير أن ذلك لم يحصل. فقد كسبت هذه الاحتجاجات تأييدًا مهمًّا تمثَّل في وقوف المرجعية الدينية في النجف مع المحتجين وإسناد مطالبهم، ولعل تفسير موقف المرجعية الدينية هذا من الناحية السوسيو-سياسية يرجع لسببين، الأول: هو نظرة الشك التي تنظر بها إلى الأحزاب السياسية الدينية في محاولة احتوائها للشارع الشيعي. فالمرجعية، ومنذ سبعينات القرن الماضي، أي منذ اصطدام السلطة بالتنظيمات الإسلامية الشيعية وحملات التضييق والمراقبة التي تبعتها، لم يعد لها ذلك التأثير السياسي في المجتمع الشيعي، أما بعد زوال السلطة السابقة في 2003، فقد أرادت الأحزاب الإسلامية مصادرة ما تبقى من ذلك التأثير لصالحها. أما السبب الثاني: فهو أن المرجعية، كأي مؤسسة دينية، لا تقبل بسلطة سياسية من جنسها، أي بمعنى، سلطة سياسية ذات طابع ديني، كون الأخيرة ستكون منافسة لنفوذها سواء في المجتمع أو في الدولة، لاسيما أن البعض من أطراف هذه السلطة يعلن ولاءه لولاية الفقيه المتبعة في الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي لا تؤمن بها مرجعية النجف الدينية. ولعل مصداق ذلك يتمثَّل في تأييدها لمطلب الدولة المدنية والذي عبَّرت عنه مرارًا خصوصًا بعد أن ساءت علاقتها بأحزاب السلطة بسبب أدائها السلبي، حسب رأيها(28). وبذلك تكون المؤسسة الدينية قد أسهمت من جانبها في تعزيز الظاهرة المدنية التي أنتجها الحراك الاحتجاجي في العراق.

غير أن هناك علامات فارقة مهمة على الجانب الشعبي شكَّلت إدراكًا مغايرًا لنمط العلاقة المذهبية التقليدية في البيئة الشيعية لدى الجيل الاحتجاجي الجديد إزاء الديني/السياسي المتحكم تاريخيًّا في الاجتماع السياسي الشيعي، الذي ابتدأ بالمرجعيات وانتهى بالأحزاب الدينية، وتمثلت في إحراق مقرات الأحزاب الإسلامية، والقنصليات الإيرانية في المناطق الشيعية فيما يمكن تسميته بـ”الإحراق الرمزي”.  فقد شكَّل ذلك خروجًا عن الرابط الذهني المتغلغل في اللاوعي الشيعي فيما يمثِّله هذا الرابط من دلالات هوياتية مذهبية يمكن أن تصل إلى المقدس. فلم يكن في المتخيل الشيعي أن يحرق الشيعة مقرًّا لحزب إسلامي شيعي، وهو ما حصل في معظم المناطق الوسطى والجنوبية التي شهدت الاحتجاجات. كذلك كان الأمر بالنسبة لحرق القنصليات الإيرانية، في البصرة 2018، وكربلاء والنجف في احتجاجات 2019 – 2020، فقد مثَّلت هذه القضية، بصرف النظر عن الأسباب والتهم التي وجهت إلى من قام بها، تحديًا لعلاقة مذهبية مع إيران استمرت لمئات السنين كان التأثير الإيراني فيها واضحًا، على الأقل فيما يتعلق بالمرجعيات وقيادة الحوزات العلمية، وشكَّلت بذلك إيذانًا بنوع من القطيعة في ذلك الارتباط التاريخي. كل ذلك يقود إلى استنتاج أن ذهنية جديدة بدأت بالتبلور، تعي الواقع وتمثِّل مفتاحًا لإنتاج بنية جديدة مُتَحَلِّلَة من الارتباطات التقليدية التي لم تورِّث لها غير التراجع في جميع المجالات.

خاتمة

من خلال البحث في موضوع احتجاجات أكتوبر/تشرين الأول وما أفرزته من مدركات يمكن أن تؤثر في طبيعة الاجتماع السياسي، يمكن استخلاص النقاط التالية:

  1. إن مجموعة الإدراكات الاجتماعية-السياسية، والسايكو-سياسية التي أفرزتها تلك الاحتجاجات لدى قطاع واسع من جيل الشباب في مناطق البيئة الشيعية، لابد أن تؤدي إلى إعادة نظر في طبيعة الاجتماع السياسي الشيعي. لقد أسهم غموض وتشتت هذا الاجتماع في إشكالية واضحة في عملية بناء الدولة الوطنية الجامعة في العراق، فقد ظلت الدولة منذ تأسيسها تعاني من عقدة اشتراك أو عدم اشتراك الطرف الشيعي في الحكم. ومن أجل ذلك لابد من تمْثِيل تلك المدركات المذكورة بصورة عملية. فعملية إعادة الهندسة الاجتماعية في تلك البيئة -من خلال إعادة بناء المجتمع المدني والطبقة الوسطى والنخبة، وكذلك انتهاج البراغماتية في العمل السياسي، وعدم الارتهان إلى سرديات تقليدية عجزت عن تحقيق تعاطٍ سياسي صحيح، وهي التي ستغيِّر، أو تعدِّل، نمط الاجتماع السياسي في البيئة الشيعية.
  2. إن مهمة تمْثِيل هذه المدركات تقع على عاتق عدة أطراف بما يشبه المسؤولية التضامنية. فعملية تكامل الاجتماع السياسي العراقي لابد أنها ستعود بالفائدة على جميع المكونات (الشيعية والكردية والسُّنِّية) كونها ستنتج نظامًا ديمقراطيًّا تشاركيًّا حقيقيًّا. ولذلك، ينبغي إسناد واستيعاب هذه التَّمثُّلات الجديدة في البيئة الشيعية حال حصولها من قبل جميع الطيف الوطني، وألا يتم استقبالها وفق منطق تاريخي ثقافي يحيل إلى نزعات واستحقاقات هوياتية. ولعل مهمة التصدي الأكبر لتمثيل تلك الإدراكات الجديدة تقع على عاتق النخب الفكرية والأكاديمية والثقافية، فضلًا عن إسناد النخب الدينية المتنورة سواء أكان ذلك في داخل البيئة الشيعية أم في البيئات العراقية الأخرى.
  3. من أجل تعزيز اجتماع سياسي جديد في البيئة الشيعية، ينبغي استثمار زخم احتجاجات تشرين في نواح عدة؛ فمن الناحية التنظيمية، ينبغي أن يتم استيعاب الظاهرة الاحتجاجية في العمل السياسي من خلال إنشاء بنى مدنية، تحمل المضامين التي خرج من أجلها المحتجون، وهذه البنى يمكن أن تؤسس لظاهرة حزبية جديدة تحمل برامج أكثر من الأيديولوجيات. ومن ناحية أخرى، ينبغي الانهماك في ملء فراغات الفضاء العام (المنتديات الثقافية العامة، وسائل التواصل الاجتماعي، وسائل إعلام مستقلة، مؤسسات مجتمع مدني، منتديات قراءة…إلخ)، ذلك الفضاء الذي طالما احتلته السلطات السياسية ومن بعدها التكوينات الدينية-السياسية، فهو يوفر فرصة للتحاور الاجتماعي ولممارسة الوظيفة النقدية الفعالة عند الأفراد والجماعات، والاشتراك في صنع السياسة، عن طريق توجه مدني حر غير خاضع للوصاية، فضلًا عمَّا توفره تقنيات الفضاء العام من تحدٍّ لهيمنة القوى التقليدية سواء في المجتمع أو في سلطة الدولة، لكي تحول دون محاولتها الحد من حرية التعبير عن الأفكار العقلانية التي تخدم المصلحة العامة.

المراجع

(1) يشير تقرير اللجنة الوطنية للسياسات السكانية في العراق 2012 إلى أن عدد السكان بين بغداد والبصرة يؤلِّف ما يقرب من 60% من سكان العراق. اللجنة الوطنية للسياسات السكانية، تحليل الوضع السكاني في العراق 2012، (د.ن، يونيو/حزيران، 2012)، ص 30.

(2) مشاهدات الباحث الميدانية في ساحة الاحتجاجات الرئيسية، ساحة التحرير في بغداد خلال شهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول من عام 2019.

(3) من أبرز الكتَّاب في هذا الشأن: حنا بطاطو، وفالح عبد الجبار، وحسن العلوي.

 (4)للمزيد حول مواقف الفقهاء، انظر التبريرات التي يسوقها ابن المرجع محمد تقي الشيرازي، كما وردت في: “لماذا لم يشارك الشيعة في الحكم بعد ثورة العشرين؟”، شبكة النبأ المعلوماتية، 2 يونيو/حزيران 2019، (تاريخ الدخول: (20 مارس/آذار 2020): shorturl.at/dsEU3.

(5) إسحاق نقاش، شيعة العراق، ترجمة عبد الإله النعيمي، (دمشق، دار المدى للثقافة والنشر، 1996)، ص 173 -174.

(6) مظهر محمد صالح، “من صراع المكونات إلى صراع الطبقات: مقاربة في الاقتصاد السياسي”، في: الاحتجاجات التشرينية في العراق: احتضار القديم واستعصاء الجديد، تحرير: فارس كمال نظمي وحارث حسن، (بغداد، منشورات دار المدى، 2020)، ص 4-5.

(7) فارس كمال نظمي، “فقراء الشيعة وإعادة بناء الوطنية العراقية: مقاربة في سيكولوجيا ثورة تشرين”، في: الاحتجاجات التشرينية في العراق، مراجع سابق، ص39.

(8) كارن روس، الثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الحادي والعشرين؟ ترجمة فاضل جتكر، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة عالم المعرفة، العدد 446، مارس/آذار 2007)، ص 15.

(9) Antony H. Cordesman, “Why Iraq is Burning?,” Center for Strategic   and   International Studies (CSIS), October 25, 2019, “accessed March 22, 2020”. https://www.csis.org/analysis.

(10) World Bank, Doing Business 2019, training for reform- Iraq (English), 6th Edi, 4. “accessed March 19, 2020”. shorturl.at/gGSY5.

(11) Transparency International, “Corruption perception index, 2018”, “accessed April 3, 2020”. shorturl.at/hpCV9.

(12) جمهورية العراق، وزارة التخطيط، الجهاز المركزي للإحصاء، “بيان صحفي بمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الفقر، صادر عن الإدارة التنفيذية لاستراتيجية التخفيف من الفقر”، (تاريخ الدخول: 27 مارس/آذار 2020)، shorturl.at/adks7.

 (13) “النقد الدولي: معدل بطالة الشباب في العراق تبلغ أكثر من 40%”، السومرية نيوز، 2 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 27 مارس/آذار 2020): shorturl.at/goC09.

(14) “وزير المالية: عدد الموظفين والمتقاعدين بلغ 6.5 مليون”، صحيفة المدى، 29 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 27 مارس/آذار 2020): shorturl.at/eH589 .

(15) هناك ارتباك يسود الإحصاءات؛ إذ يلاحظ على سبيل المثال فرق بين نسبة البطالة كما أعلنها الجهاز المركزي للإحصاء وبين النسبة التي أعلنها صندوق النقد الدولي التي تقترب من الضعف رغم أن الإعلانين جاءا في عام 2018. انظر: محمد رياض حمزة، “توفير فرص العمل يحد من الفقر والإرهاب”، صحيفة الصباح، 10 مارس/آذار 2019.

(16) جمهورية العراق، وزارة التخطيط: استراتيجية التخفيف من الفقر في العراق 2018/2022، (بغداد، د.ن، يناير/كانون الثاني 2018)، ص 33.

(17) The World Bank, “Iraq economic monitor: from war to reconstruction and economic recovery,” The World Bank Group, 2018, “accessed April 3, 2020”. shorturl.at/tANS8.

(18) جمهورية العراق، وزارة التخطيط، “وزارة التخطيط تعلن عن تراجع معدلات الفقر في العراق”، (تاريخ الدخول: 26 مارس/آذار 2020):  shorturl.at/ryRV4.

(19) جمهورية العراق، وزارة التخطيط، “استراتيجية التخفيف من الفقر”، مرجع سابق، ص 34.

(20) المرجع السابق، ص 35.

(21) المرجع السابق، ص 38.

(22) جمهورية العراق، وزارة التخطيط، “الجهاز المركزي للإحصاء، بيان صحفي”، مرجع سابق.

(23) حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز، ط 2 (بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1995)، ج 1، ص 70.

(24) علي طاهر، “الاحتجاجات العراقية 2019: نظرة سوسيولوجية في ما حدث ومآلاته الممكنة”، في: الاحتجاجات التشرينية في العراق، مرجع سابق، ص 64.

(25) بخصوص الاستخدام الفاعل لوسائل التواصل الاجتماعي لدى العراقيين، انظر على سبيل المثال: “19 مليون مستخدم لمواقع التواصل الاجتماعي في العراق”، مركز الإعلام الرقمي، 1 فبراير/شباط 2019، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2020): shorturl.at/svEQU

(26)” الجماهير العراقية تغزو حساب عازفة الكمان في كربلاء”، السومرية نيوز، في 1 أغسطس/آب 2019، (تاريخ الدخول: 22 مارس/آذار 2020): shorturl.at/dvyWY.

(27) Zahra Ali, “Protest movements in Iraq in the age of a new civil society,” LSE, October 3, 2019. “accessed March 20, 2020”. shorturl.at/mxDSY.

(28) حول موقف المرجعية من الدولة المدنية، انظر: “السيد السيستاني يدعو إلى التركيز على الدولة المدنية في العراق”..شفقنا تحاور العلامة منير الخباز (2)، شفقنا: الوكالة الشيعية للأنباء، 21 أبريل/نيسان 2018، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2020): shorturl.at/erUX7