نحو شرعية سياسية تعبِّر عن المجتمع وتستوعب التحولات
بينما كانت الجهود الدولية منصبة على احتواء التوترات التجارية الناتجة عن تصعيد الرسوم الجمركية بين الولايات المتحدة وعدد من شركائها الاقتصاديين، ولاسيما الصين، انفجرت في المقابل أزمة إقليمية بالغة الخطورة في الشرق الأوسط دفعت العالم مجددًا إلى حالة ترقب شديدة. فقد اندلعت مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران وإسرائيل استمرت اثني عشر يومًا، وشهدت تصعيدًا واسع النطاق انتهى باتفاق هشٍّ على وقف إطلاق النار.
وقد كان من بين أهم ما طرحته هذه المواجهة من قضايا إستراتيجية: الأهمية المتزايدة للدور الاستخباراتي، وقيمة المعلومات في الحروب والصراعات المستمرة. ويخصِّص هذا العدد من “لباب” محورًا بحثيًّا يتناول الأجهزة الاستخباراتية، من خلال دراستين، حملت الأولى عنوان: “باثولوجيا الاستخبارات: تشريح الاختلالات المؤسسية والنفسية“، وتتناول ما قد تعانيه هذه الأجهزة من أعطاب داخلية، مؤسسية أو نفسية، وكيف تؤدي تلك الاختلالات إلى تراجع الكفاءة، وصدور قرارات خاطئة وتقديرات مضلِّلة. أما الدراسة الثانية، المعنونة بـ”المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية: من القيود المؤسسية إلى الترسيخ الأكاديمي“، فتركز على أهمية تطوير آليات الرقابة والمساءلة، وتستعرض تجربة المدرسة البريطانية في إخضاع العمل الاستخباراتي لمستوى أعلى من الانفتاح والشفافية، بما يسهم في تقليص هامش الخطأ، وتعزيز ثقة المجتمع في هذه المؤسسات دون المساس بجوهر وظيفتها الأمنية. وتُختتم الدراسة بتحليل إمكانيات الاستفادة العربية من هذه التجربة، ولاسيما في تطوير الرقابة المؤسسية وتعزيز التوازن بين العمل السري والمساءلة العامة.
ومع أن تحديث أدوات الدولة وتعزيز فاعليتها الأمنية يُعد عاملًا مهمًّا في تحقيق الاستقرار، فإن استدامة هذا الاستقرار تظل مشروطة بمدى رسوخ الشرعية السياسية واتساقها مع الثقافة المجتمعية. في هذا السياق، تنشر المجلة دراسة محورية بعنوان “الشرعية جسرًا للاستقرار: دور الثقافة السياسية في بناء النظام السياسي“، تتناول مفهوم الشرعية من منظور ثقافي، يرتكز على التوافق بين بنية النظام وقيم المجتمع. تشير الدراسة إلى أن جزءًا كبيرًا من الأزمات السياسية العربية يعود إلى غياب هذا التوافق، وضعف الروابط الثقافية بين الدولة والمجتمع. كما تؤكد أن الشرعية السياسية تتطلب إشراك الفاعلين الاجتماعيين، وتوسيع قاعدة المشاركة، وتعزيز قنوات الحوار الوطني. وتخلص الورقة إلى أن بناء نظام سياسي مستقر يستوجب الانطلاق من أسس محلية نابعة من السياق الثقافي والاجتماعي، بما يعيد للشرعية فاعليتها رافعةً للاستقرار الداخلي.
وفي امتداد لهذا الطرح، يقدم العدد دراسة ميدانية بعنوان “الألتراس بالمغرب: الهوية والأيديولوجيا والثوابت الوطنية“، ترصد الكيفيات التي يُعاد عبرها تشكيل مفاهيم الولاء والانتماء خارج الأطر الرسمية، من خلال ظواهر جماهيرية مثل حركة الألتراس. تكشف الدراسة تداخل التعبير الاحتجاجي مع الانتماء الوطني، وتُبرز قدرة هذه المجموعات على الجمع بين التعدد الأيديولوجي والحفاظ على التماسك الوطني، إضافة إلى إعادة توظيف الفضاء الرياضي منصةً سياسية غير تقليدية. وتُبين الورقة أن شرعية الدولة لا تُصاغ فقط عبر المؤسسات الرسمية، بل تتجدد باستمرار في الفضاءات العامة، وعبر وسائط الثقافة الشعبية، بما يجعل فهم الشرعية عملية مجتمعية مستمرة ومتعددة المستويات.
على الصعيد الاقتصادي، يتناول العدد دراسة بعنوان “القطاع الخاص وتعزيز قيم النزاهة والشفافية: مدخل إستراتيجي“، تبحث في مفهوم الشرعية من زاوية مؤسسية-أخلاقية، مركزة على دور القطاع الخاص في ترسيخ بيئة خالية من الفساد. تسلط الدراسة الضوء على أثر ضعف الامتثال المؤسسي وتراجع آليات الرقابة الداخلية في الإضرار بالبنية الاقتصادية، وتقويض ثقة المجتمع بالدولة. وتطرح تصورًا إستراتيجيًّا يقوم على تفعيل شراكات ثلاثية تجمع بين القطاع الخاص والقطاع العام والمجتمع المدني، بهدف بناء منظومة متكاملة تُدرج النزاهة والشفافية ضمن مقومات الشرعية السياسية، باعتبارها عنصرًا تأسيسيًّا وإجراء إداريًّا في الوقت نفسه.
في البعد الجيوسياسي، تنشر المجلة دراسة بعنوان “مرتكزات السياسة الخارجية الصينية في آسيا: الممر الاقتصادي الصيني–الباكستاني نموذجًا“، وفيها تسليط للضوء على ملامح القوة الذكية التي توظفها بكين في سياستها الخارجية، عبر الجمع بين أدوات التنمية والاستثمار والبُعد الإستراتيجي طويل المدى. تستعرض الدراسة إمكانية تحول الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني من مجرد مشروع تنموي إلى أداة نفوذ إقليمي؛ ما من شأنه أن يثير حفيظة قوى دولية وإقليمية ترى في هذا المشروع بوابة محتملة لإعادة تشكيل التوازنات في جنوب آسيا.
وتطرح الورقة تساؤلات حول الشروط السياسية والشرعية التي تحتاجها المبادرات الاقتصادية العابرة للحدود، خصوصًا في بيئات تخشى التمدد الجيوسياسي، كما تسائل حدود فاعلية القوة الناعمة في ظل غياب توافق سياسي يضمن استدامة الشراكة واحترام السيادة.
في زاوية “قراءة في كتاب“، يقدم العدد تحليلًا لكتاب بعنوان “نكبة غزة 2023–2024: الخلفية والسياق والتبعات“، الصادر بالإنجليزية عن مجموعة من الباحثين اليابانيين. يعرض الكتاب مقاربة نقدية للعدوان الإسرائيلي على غزة، من خلال توظيف مناهج دراسات ما بعد الكولونيالية والاستعمار الاستيطاني. ويسلط الضوء على مركزية السردية الفلسطينية، باعتبارها فعلًا مقاومًا يستهدف استعادة المعنى وتفكيك الهيمنة. كما يكشف الكتاب تهافت الشرعية الدولية في التعامل مع نكبة فلسطين المستمرة منذ عام 1948، وفشل المنظومة القانونية والأممية في مساءلة القوة القائمة بالاحتلال.
أما زاوية “متابعات“، فتتناول أبعاد المواجهة العسكرية التي اندلعت بين إسرائيل وإيران في يونيو/حزيران 2025، من خلال دراسة بعنوان: “حرب الإثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل: التحولات البنيوية، أدوات المواجهة والتداعيات الجيو-إستراتيجية على الإقليم“. تنظر الدراسة إلى هذه الحرب بوصفها لحظة فارقة في مسار الصراع الإقليمي، كشفت حدود الردع التقليدي، وأعادت رسم خطوط الاشتباك بين القوى الإقليمية. وتُظهر الورقة كيف انتقلت المواجهة من الطابع غير المباشر إلى صدام مفتوح، استُخدمت فيه أدوات غير تقليدية، من الهجمات السيبرانية إلى العمليات الاستخباراتية الدقيقة، بما يعكس تبدلًا في منطق الحرب وأولويات الأمن القومي. وتخلص الدراسة إلى أن هذه الحرب لم تكن مجرد مواجهة ظرفية، بل محطة كاشفة لتحولات بنيوية في البيئة الجيوسياسية للشرق الأوسط، سيكون لها أثر مباشر على موقع فصائل المقاومة، وتوازنات الردع، ونفوذ إسرائيل الإقليمي، وسبل إدارة التوترات في المرحلة المقبلة.
بهذا التنوع الموضوعي والمنهجي، يجمع هذا العدد من مجلة “لباب” بين تأصيل المفاهيم وتحليل الظواهر، ويربط بين مساءلة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتفكيك بنى الأجهزة الأمنية والمؤسسية، واستشراف تحولات القوة في البيئتين الإقليمية والدولية. ولا يقتصر هذا الجهد على وصف العالم كما هو، بل يسعى، في الحالة العربية تحديدًا، إلى إعادة طرح أسئلته التأسيسية من جديد:
هل يمكن، في ظل هذا التصدع المتنامي في بنية الدولة العربية، إعادة بناء شرعية متجذرة ثقافيًّا ومرنة في الأداء السياسي؟
وهل تملك المجتمعات العربية الأدوات الفكرية والمؤسسية الكفيلة بتحويل النقد المعرفي إلى إصلاح فعلي؟
هذه الأسئلة تُفتَح في أوراق العدد، وتظل معلقة على مائدة البحث والتحليل، في انتظار إسهامات فكرية جديدة تواصل هذا المسار النقدي والاستشرافي.