ملخص

تتناول هذه الدراسة الآثار المباشرة وغير المباشرة للرسوم الجمركية التي أعلنتها الإدارة الأميركية، في أبريل/نيسان 2025، وشملت 180 دولة، من بينها دول مجلس التعاون الخليجي. وقد استُهل التحليل باستعراض دوافع الولايات المتحدة في تبني سياسة تجارية حمائية بعد عقود من الالتزام بمبدأ الحرية التجارية؛ حيث يُستشف من هذه السياسة هدفان رئيسيان: الحد من وتيرة الصعود الاقتصادي الصيني، وتعزيز السيطرة على تجارة الغاز المسال في الأسواق العالمية.

وفي ضوء هذين الهدفين، تتوقع الدراسة أن تترتب آثار متفاوتة على الدول المعنية. فبينما يمكن لدول مجلس التعاون احتواء الأثر المباشر نتيجة محدودية فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، فإن الآثار غير المباشرة تمثل تحديًا أكبر بالنظر إلى انعكاساتها على توازنات السوق العالمية ومصالح المنطقة.

وانطلاقًا من هذا التقدير، تشير الدراسة إلى أن تعزيز التنسيق التجاري والاقتصادي بين دول مجلس التعاون، والانفتاح على تكتلات ومحاور تجارية بديلة، يمثل خيارًا عمليًّا للتقليل من حدة الآثار غير المباشرة لهذه السياسة الأميركية.

الكلمات المفتاحية: الرسوم الجمركية الأميركية، دول مجلس التعاون الخليجي، الآثار المباشرة وغير المباشرة، التقدم الاقتصادي الصيني، تجارة الغاز المسال.

Abstract

This study examines the direct and indirect effects of the tariffs announced by the US administration in April 2025, which included 180 countries, including the Gulf Cooperation Council (GCC) states. The analysis begins by exploring the motives behind the United States’ adoption of a protectionist trade policy after decades of adherence to trade liberalisation. Two primary objectives can be discerned from this policy: slowing the pace of China’s economic rise and consolidating control over global liquefied natural gas (LNG) trade.

In light of these objectives, the study anticipates differentiated impacts on the targeted countries. While the GCC states may be able to contain the direct impact given the limited scale of their trade surplus with the United States, the indirect repercussions are expected to pose greater challenges, particularly due to their implications for global market balances and regional interests.

Accordingly, the study argues that enhancing economic and trade coordination among GCC countries, along with greater engagement in alternative trade blocs and partnerships, represents a practical strategy to mitigate the indirect consequences of this US protectionist policy.

Keywords: US tariffs, Gulf Cooperation Council, direct and indirect effects, China’s economic rise, liquefied natural gas trade.

تمهيد   

حدَّد النظام الاقتصادي الدولي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، والذي انبثق عن اتفاقية بريتن وودز، عام 1944، هدفه الأساس في تحقيق استقرار النظام المالي العالمي وتشجيع إنماء التجارة الدولية. لهذا اتجهت كل المنظمات والاتفاقيات الدولية التي انبثقت عن هذا النظام، سواء النقدية أو التجارية، في جوهرها، نحو تخفيف القيود على حركة رؤوس الأموال والتجارة الدولية. أي إن الأصل في النظام الاقتصادي الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، الذي أسهمت الولايات المتحدة في إنشائه، هو الحرية الاقتصادية، حتى أصبح من الشائع اعتبار كل السياسات المقيِّدة أو المعيقة للتدفقات المالية أو السلعية سياسات متعارضة مع جوهر وآلية هذا النظام.

وقد يكون لظروف الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكر اشتراكي ومعسكر ليبرالي مبررات لنشوء بيئة تبيح الممارسات المقيِّدة لحركة رأس المال والتجارة الدولية، واستخدام أدوات السياسة التجارية المؤثرة في تدفقات التجارة الدولية. إلا أن تجاوز مرحلة الحرب الباردة والتحول إلى القطبية الأحادية عزز من دعوات الحرية التجارية، وأعطى دفعة قوية لمنظمة التجارة العالمية لممارسة دورها الدولي في تعزيز حرية تدفق السلع والخدمات على المستوى الدولي، حتى وصل الأمر إلى أن تسابق الكثير من الدول النامية إلى الانضمام إلى هذه المنظمة وتبني الدعوة إلى حرية التجارة، وإن لم تكن هذه الحرية في الغالب موافقة لظروف تلك البلدان، سواء من حيث مستوى الطاقة الإنتاجية أو القدرة على التنافس في ظل الحرية الواسعة للتجارة الدولية.

على العموم، في تقديرنا أن المحافظة على جوهر النظام الاقتصادي الدولي، والمتمثل في حرية حركة السلع ورؤوس الأموال، كانت السبب الرئيس في تجنب أزمات اقتصادية عالمية حادة كان يمكن أن تهدد السلم والاستقرار العالميين؛ منطلقين في اعتقادنا هذا من قناعتنا الراسخة بوجود علاقة وثيقة بين القيود والحروب التجارية وبين الأزمات الاقتصادية الدولية.

اليوم، يقف العالم على مشارف تحدٍّ اقتصادي كبير يهدد الأسس الأصيلة للنظام الاقتصادي العالمي، يتمثل فيما أعلنته الولايات المتحدة الأميركية من فرض رسوم جمركية على كل دول العالم التي تشترك معها في التجارة الدولية، تحت مبرر معالجة العجز التجاري والشروط غير العادلة للتبادل التجاري؛ مما يُتوقع أن يكون له تأثير مباشر أو غير مباشر على هذه الدول، كلٌّ حسب ظرفه الاقتصادي.

سنحاول في هذا البحث التركيز على الآثار المحتملة للسياسة التجارية الجديدة للولايات المتحدة الأميركية على دول مجلس التعاون الخليجي، وسنبدأ بتحليل دوافع ومبررات الولايات المتحدة لتبني هذه السياسة، لكي نتمكن من متابعة الآثار المحتملة على دول المنطقة.

فرضية البحث: ينطلق البحث من فرضية مفادها أن الفائض التجاري للولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون الخليجي يجنِّب هذه الدول التأثير المباشر للرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب، لكنها (أي دول مجلس التعاون الخليجي) سوف تواجه تأثيرًا غير مباشر نتيجة لهذه الرسوم.

الدراسات السابقة: لم يكن الاهتمام بمتابعة الآثار الاقتصادية للسياسة التجارية الأميركية وليد اللحظة؛ فقد تناولها الباحثون منذ الولاية الأولى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في عام 2016. غير أن هذا الاهتمام أخذ يتصاعد بشكل ملحوظ في الولاية الثانية، ولاسيما في مطلع عام 2025 حين أعلنت الإدارة الأميركية فرض رسوم جمركية على معظم شركائها التجاريين. وقد تركز أغلب الدراسات السابقة على تحليل الانعكاسات الاقتصادية لهذه الرسوم على الاقتصاد العالمي عمومًا، ويمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي:

  • دراسة إسوار براساد المنشورة في موقع Foreign Affairs، والتي خلصت إلى أن عصر التجارة الدولية القائم على قواعد أسهمت الولايات المتحدة في إنشائها قد وصل إلى نهايته؛ إذ اختارت إدارة ترامب -بدلًا من إصلاح هذه القواعد- تقويض النظام بأكمله، دون تمييز بين الشركاء التجاريين. ورجحت الدراسة أن عصر التجارة الحرة الذي ساد لعقود لن تكون عودته أمرًا مرجحًا.
  • دراسة Akrur Barua المنشورة في صحيفة الإيكونوميست، التي تناولت تأثير الرسوم الجمركية على الاقتصاد العالمي والنمو الاقتصادي، وتوقعت أن تسهم هذه الرسوم في إضعاف النمو العالمي ودفعه نحو الركود. غير أن الدراسة لم تميز بين الأثر المباشر وغير المباشر، وافترضت أن معظم دول العالم ستتعرض لأثر مباشر نتيجة هذه الرسوم.
  • دراسة صادرة عن موقع شركة (FITCH SOLUTIONS) ، في أبريل/نيسان 2025، بعنوان (Direct, Indirect Impact Of US Tariffs On Regional Growth)، ركزت على تحليل التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للرسوم الجمركية الأميركية على النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وتعد من الدراسات القليلة التي صنفت الآثار إلى مباشرة وغير مباشرة، معتبرة أن التأثير غير المباشر على دول المنطقة قد يفوق المباشر. لكنها في المقابل لم تتطرق إلى انعكاسات هذه الرسوم على قطاع الطاقة.

من خلال مراجعة هذه الأدبيات يتضح أن غالبية الدراسات انشغلت بمتابعة التداعيات العامة للرسوم الجمركية على الاقتصاد العالمي، بينما قلَّما تناولت بصورة متعمقة انعكاساتها على الأقاليم الفرعية أو على قطاعات محددة مثل الطاقة. ومن هذا المنطلق تسعى دراستنا إلى سدِّ هذه الفجوة عبر تتبع الآثار المباشرة وغير المباشرة للرسوم الجمركية الأميركية ضمن الإطار الإقليمي الخاص بدول مجلس التعاون الخليجي، مع إفراد محور خاص لصراع الهيمنة على سوق الغاز العالمية، وبيان كيف يمكن توظيف هذه الرسوم أداةً للضغط من أجل توسيع الحصة السوقية للولايات المتحدة.

ولتحقيق هذا الهدف، عالجت الدراسة المحاور الآتية:

  • تحليل دوافع ومبررات سياسة فرض الرسوم الجمركية.
  • تجنب الأثر المباشر ومواجهة الأثر غير المباشر للرسوم الجمركية.
  • الهيمنة على السوق العالمية للغاز كهدف غير معلن للرسوم الجمركية.
  • سياسات مقترحة لتقليل آثار الحرب التجارية على دول مجلس التعاون.

 

أولًا: تحليل دوافع ومبررات سياسة فرض الرسوم الجمركية

في البداية لابد من الإقرار بأن الحروب التجارية هي حروب قديمة مورست على مرِّ التاريخ؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

  • في عام 1651، نشبت حرب بين هولندا وبريطانيا بسبب التنافس التجاري، ترتب عنها اتفاقية سلام وُقِّعت عام 1654 أُرغمت بموجبها هولندا على الاعتراف بقانون الملاحة الجديد الذي يسمح لبريطانيا بالتجارة عبر السفن البريطانية حصريًّا(1).
  • إجراءات الصين، في عام 1839، ضد تجارة الأفيون القادمة من بريطانيا؛ مما أفضى إلى ما عُرف بحرب الأفيون. يضاف إلى ذلك شرارة حرب الاستقلال في الولايات المتحدة (1775-1783) التي اشتعلت بسبب الخلافات الدستورية والسياسية المتزايدة، وأدت إلى توتر العلاقات بين بريطانيا العظمى ومستعمراتها بعد أن احتج مواطنو المستعمرات ضد ما عُرف بـ “قانون الطابع” الذي أقرته بريطانيا، ورفعوا شعار “لا ضريبة بدون تمثيل”. كذلك لا يمكن تجاوز ما عُرف بـ “سياسة العزلة المجيدة” التي تبنَّتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى، عام 1918، من خلال فرض رسوم على واردات المنتجات الزراعية والصناعية، وهي شعارات يمكن أن نجد لها مقاربة مع دعوات الإدارة الأميركية الحالية بجعل “أميركا عظيمة” و”أميركا أولًا”. أعقب ذلك ما عُرف بقانون التعريفة الجمركية لعام 1930، المعروف باسم “تعريفة سموت–هاولي”، الذي تم بموجبه تنفيذ سياسات الحماية التجارية في الولايات المتحدة، وقد وقَّعه الرئيس هربرت هوفر، في عام 1930، حيث تم رفع الرسوم الجمركية الأميركية على أكثر من عشرين ألف سلعة مستوردة(2). وقد أسهم هذا القانون في زيادة وتفاقم مشكلة الكساد العالمي في تلك الفترة، التي مهدت بدورها للحرب العالمية الثانية. والشيء اللافت في هذه الأمثلة التاريخية المختارة أن أغلب التوترات والحروب التجارية أفضت في النهاية إلى صدامات عسكرية عنيفة.

أزمة الرسوم الجمركية الحالية ليست بجديدة، بل بدأت تتبلور منذ ولاية الرئيس ترامب الأولى (2016-2020)، وكان المحور الرئيس في النزاع هو الصين. إلا أن الجديد في الأزمة الراهنة هو ما حدث في الثاني من أبريل/نيسان 2025 عندما فُرضت رسوم جمركية على جميع الدول التي تصدِّر سلعًا للولايات المتحدة دون استثناء، وهو ما وصفه الرئيس الأميركي بأنه “يوم التحرير” أو “الاستقلال الاقتصادي”.

وقد أعلنت الولايات المتحدة أن تبني السياسة التجارية الجديدة من شأنه أن يحقق لها جملة من الأهداف، من أبرزها:

  • جعل أميركا عظيمة مجددًا، ولهذا وصفت يوم إعلان هذه السياسات بأنه “يوم التحرير” أو “يوم الاستقلال”، وتوعدت الدول -إن قررت التعامل بالمثل- بفرض مزيد من الإجراءات والرسوم عليها.
  • معالجة العجوزات التجارية مع الشركاء التجاريين، بحيث تتحول العلاقة إلى فائض تجاري، وخصوصًا مع الصين.
  • حماية صناعة السيارات الأميركية التي تواجه منافسة كبيرة، ولاسيما من السيارات المستوردة، وكذلك الدفاع عن المزارعين الأميركيين ومربي الماشية الذين يتعرضون لمعاملة “وحشية” من دول أخرى حول العالم.
  • وقف استغلال الصين لقواعد منظمة التجارة العالمية من أجل الوصول إلى أسواق الدول الأخرى، في حين أنها (الصين) تستخدم تدابير خاصة لتقييد وصول الدول الأخرى إلى أسواقها.
  • تحقيق إيرادات مالية ضخمة من حصيلة الرسوم الجمركية، بما يسمح لها بإجراء تخفيضات ضريبية يستفيد منها دافعو الضرائب الأميركيون.
  • إجبار الشركاء التجاريين على الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة لتحسين شروط التبادل التجاري معها.

وتتوقع الإدارة الأميركية أن تحقيق النتائج المتوخاة من هذه السياسة سوف يستغرق ما بين ستة أشهر إلى سنة.

وبغضِّ النظر عن تعدد المبررات التي تسوقها الولايات المتحدة، والتي لا يخلو بعضها من منطق اقتصادي، فإننا نقدِّر أن العجز التجاري بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين كان المعيار الأساس والدافع الرئيس لتبني سياسة فرض الرسوم الجمركية. وبالفعل فقد استُخدم هذا المعيار لتحديد نسب الرسوم الجمركية؛ حيث تسعى الولايات المتحدة، من خلال هذه السياسة، إلى تحقيق هدفين إستراتيجيين: إيقاف التقدم الاقتصادي الصيني، والسيطرة على تجارة الغاز المسال في العالم.

وفي تقديرنا أن الإدارة الأميركية قد وقعت في تناقض فيما يتعلق بالأساليب الفنية التي اتخذتها لتطبيق سياسة الحماية التجارية، وذلك على النحو التالي(3):

  • ركزت الولايات المتحدة على العجز التجاري وأهملت ميزان الخدمات، الذي هو عادة في صالحها ويسجل فائضًا مع أغلب الشركاء التجاريين. ولأن سياسة فرض الرسوم تحتمل الرد برسوم مضادة، فإن ذلك قد يضر تجارة الخدمات الأميركية.
  • اعتمدت الولايات المتحدة العجز التجاري متغيرًا وحيدًا مقارنًا بإجمالي الواردات لتحديد نسبة الرسوم الجمركية، وهذا جعل قيمة هذه الرسوم مبالغًا فيها وغير واقعية.
  • لم تدرس الولايات المتحدة المخاطر المحتملة بشكل كافٍ؛ إذ افترضت أنها تستطيع إجبار الدول الأخرى على التفاوض وتحسين شروط التبادل التجاري لصالحها، في حين أن هناك احتمالًا آخر يتمثل في فرض رسوم مضادة من قبل هذه الدول، وهو ما فعلته الصين، وتدرس دول الاتحاد الأوروبي القيام بالمثل؛ مما يُعرِّض الشركات الأميركية لضغوط كبيرة.
  • ليس من المؤكد أن يتحمل المستهلك التكلفة الاقتصادية في الفترة الزمنية التي حددتها الإدارة الأميركية لجني ثمار مكاسب سياسة فرض الرسوم الجمركية، وهي -كما سبق القول- ما بين ستة أشهر إلى سنة. خصوصًا أن المستهلك الأميركي غير مهيأ بشكل كافٍ لهذه الحرب التجارية الشاملة.

إن دوافع سياسة فرض الرسوم الجمركية والمعايير التي استُخدمت في تحديد نسبتها جعلت الآثار المحتملة لها تختلف من دولة إلى أخرى، حسب هيكل تجارتها الخارجية مع الولايات المتحدة ومستوى العجز أو الفائض التجاري بينهما. وفق هذا، فإننا نتوقع أن يختلف الأثر المباشر لفرض الرسوم الجمركية من قبل الولايات المتحدة عن الأثر غير المباشر بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، بناءً على المعطيات التي سبقت الإشارة إليها آنفًا، والذي يُتوقع أن يأخذ المسارين التاليين:

1- أثر مباشر محدود مع زيادة أعباء الأثر غير المباشر على الأداء الاقتصادي.

2- الهيمنة على السوق العالمية للغاز والضغط على الحصص السوقية.

وسوف نحاول تحليل هذين الأثرين كل على انفراد.

 

ثانيًا: تجنُّب الأثر المباشر ومواجهة الأثر غير المباشر للرسوم الجمركية

تُجمع أغلبية الدراسات الاقتصادية على أن التعريفات الجمركية -وخلافًا لما يعتقده الرئيس الأميركي- لا تُخفِّف من عجز الحساب الجاري؛ إذ لا يوجد دليل قاطع على ما يمكن أن تُحدثه هذه الرسوم من تأثير في الموازين التجارية. فعلى سبيل المثال، يبلغ معدل الادخار الوطني في الولايات المتحدة نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، أما في الاتحاد الأوروبي فهو 24%. وفي هذه الحالة، سجَّلت الولايات المتحدة عجزًا في الحساب الجاري قارب 4% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، وارتفع إلى 6% في عام 2025، وهو أعلى مستوى منذ الربع الثالث من عام 2006. في المقابل، حقق الاتحاد الأوروبي فائضًا بنحو 2.7% في عام 2024 و4% في عام 2025(4). ونظرًا لتفوق الادخار في الاتحاد الأوروبي مقارنةً بالولايات المتحدة، فإن ذلك ينعكس على حجم الاستهلاك، وبالتالي على الطلب على السلع المستوردة.

هذا يعني أن النظر إلى تأثير التعريفة الجمركية فقط من زاوية الميزان التجاري وتأثير الرسوم على أسعار السلع الأجنبية يُعَدُّ منظورًا ضيقًا، لأنه يركِّز على الميزان التجاري ويُهمل الفقرات الأخرى. مع الأخذ بالاعتبار أن الولايات المتحدة تتمتع بفائض في حساب الخدمات (الذي يُعدُّ فقرة أساسية في الحساب الجاري من ميزان المدفوعات) مع الشركاء التجاريين بلغ عام 2024 نحو 293 مليار دولار، وبلغت صادرات الخدمات عام 2023 نحو تريليون دولار، وهو أعلى مستوى على الإطلاق(5). غير أن هذا الفائض في حساب الخدمات قد يتعرض للمخاطر في ظل الحرب التجارية، وفق الاحتمالات التالية:

1- كما أشرنا سابقًا، بَنَت الإدارة الأميركية سياسة فرض الرسوم الجمركية على أساس معالجة العجز التجاري، وأهملت ميزان الخدمات الذي تتمتع فيه بفائض قد يتعرض للتهديد إذا واجهت الدول الأخرى اضطرابات اقتصادية نتيجة سياسة فرض الرسوم الجمركية.

2- على الرغم من أن الحجج والمبررات التي تسوقها الإدارة الأميركية لسياسة فرض الضرائب الجمركية لا تخلو من المنطق الاقتصادي، فإنها -في تقديرنا- لم تدرس المخاطر المحتملة بشكل كافٍ؛ إذ افترضت مسارًا واحدًا يتمثل في إمكانية إجبار الدول الأخرى على التفاوض وتحسين شروط التبادل التجاري لصالحها. في حين أن هناك احتمالًا آخر يتمثل في فرض رسوم مضادة من قبل تلك الدول، وهو ما فعلته الصين ويدرس الاتحاد الأوروبي القيام بالمثل؛ الأمر الذي يُعرِّض الشركات الأميركية لضغوط كبيرة.

3- جاءت إجراءات الإدارة الأميركية مفاجئة ليس لدول العالم فحسب، بل للمواطن الأميركي أيضًا؛ إذ تبين أنه غير مستعد لتحمل تكاليف ارتفاع الأسعار؛ مما انعكس في صورة احتجاجات شعبية. كما أن الفترة الزمنية التي حددتها الإدارة الأميركية لجني مكاسب هذه السياسة -والمقدَّرة بنحو سنة تقريبًا- ليست مؤكدة التحمل من جانب المستهلك. وبالفعل، ظل البنك الفيدرالي الأميركي مترددًا في مسألة تخفيض معدل الفائدة بسبب حالة عدم اليقين من آثار سياسة فرض الرسوم، كما جاء في تقرير مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، في نهاية يونيو/حزيران 2025، مما اضطره إلى إبقاء أسعار الفائدة دون تغيير تحت تأثير علامات تباطؤ الاقتصاد وخطر ارتفاع التضخم الناجم عن الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات وتصاعد التوترات في الشرق الأوسط. وقد أبقى سعر الفائدة المرجعي ضمن نطاق 4.25%–4.5%، وذلك للمرة الرابعة في العام الجاري. كما خفَّض مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي توقعاته لنمو الاقتصاد خلال عام 2025 إلى 1.4%، مقارنةً بتقديرات سابقة بلغت 1.7%. ورفع توقعاته لمعدل البطالة في 2025 إلى 4.5% مقابل 4.4% في التقديرات السابقة. وفيما يخص التضخم، توقَّع المجلس أن يسجل 3% خلال العام المقبل، ارتفاعًا من 2.7% في تقديراته السابقة(6).

وفق هذه المؤشرات والتوقعات، فإن تتبع مسار تأثير الرسوم الجمركية على المستوى الإقليمي يتعين ألا يكون وفق مسار واحد، فليس بالضرورة أن يكون الأثر المباشر مشابهًا لمسار الأثر غير المباشر. وهذا ينطبق تمامًا على حالة دول مجلس التعاون الخليجي. فقبل الإعلان عن الرسوم الشاملة من قبل الإدارة الأميركية، لم يتوقع أحد أن تشمل القائمة دول مجلس التعاون الخليجي لاعتبارات عديدة، أهمها: قوة العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وهذه الدول، والتوقعات المتعلقة بضخامة حجم الاستثمارات، خصوصًا في مجال الذكاء الاصطناعي، التي تنوي دول مثل السعودية والإمارات توجيهها إلى الولايات المتحدة.

ومع ذلك، تضمنت القائمة المعلَنة جميع دول مجلس التعاون، لكنها جاءت بالحد الأدنى من نسب الرسوم؛ إذ بلغت 10% لكل دولة من دول المجلس. وهذا يتوافق مع المعيار الذي استخدمته الولايات المتحدة في تحديد هذه النسب على أساس مستوى الفائض والعجز. لذا توقعت شركة (Fitch Solutions) أن يكون الأثر المباشر لهذه الرسوم على دول المنطقة محدودًا وقابلًا للسيطرة (under control)، وأنه لن يترك تأثيرًا قويًّا على تجارة هذه الدول، وذلك للأسباب التالية:

1- أن الولايات المتحدة تتمتع بفائض مع أغلب هذه الدول، مع عجز طفيف بالنسبة للسعودية، وهذا هو السبب الرئيس في أن تكون نسبة الرسوم في حدودها الدنيا، ومن ثم يكون تأثيرها قابلًا للإدارة والسيطرة.

2- ترتبط أغلب واردات الولايات المتحدة من دول مجلس التعاون بتجارة النفط؛ مما يجعل الرسوم الجمركية غير فعالة وذات تأثير محدود.

3- تُعدُّ الإمارات العربية المتحدة والبحرين من بين أكبر 10 دول مصدِّرة للألومنيوم إلى الولايات المتحدة؛ حيث تُقدَّر قيمة صادراتهما بحوالي 2 مليار دولار أميركي و670 مليون دولار أميركي على التوالي في عام 2023. كما يبلغ إجمالي صادرات قطر وعُمان إلى الولايات المتحدة نحو 300 مليون دولار أميركي و270 مليون دولار أميركي على التوالي. وقد يُؤدي اقتراح فرض تعريفات جمركية بنسبة 25% على الألومنيوم إلى رفع معدل التعريفة الجمركية في البحرين بمقدار 13.6 نقطة مئوية، وفي الإمارات العربية المتحدة بمقدار 6 نقاط مئوية، وفي قطر وعُمان بمقدار 4 نقاط مئوية. ونظرًا لتركيز الصادرات إلى الولايات المتحدة ومع قوة الطلب العالمي على الألومنيوم(7)، فإن هذا يُعوِّض ضَعْف الطلب الأميركي، ويُسهِّل إعادة توجيه الصادرات إلى أسواق أخرى. لذا يتوقع أن يكون الأثر المباشر للرسوم الجمركية محدودًا بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي.

الفائض التجاري للولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون لسنة 2023 (مليون دولار)

BMI, Fitch Solutions, US Tariffs on Strategic Goods Will Have Limited Impact on MENA, February 2025.

أما بالنسبة للأثر غير المباشر، فإن الوضع مختلف؛ إذ يُتوقَّع أن يكون عبء وتكاليف الآثار غير المباشرة ثقيلة على دول المنطقة، وذلك للأسباب التالية:

أ- تقلبات قيمة الدولار

من الصعب التكهن باتجاه التقلبات في قيمة الدولار في ظل الحرب التجارية، وسوف يشكِّل هذا ضغطًا على عملات دول المنطقة التي يرتبط معظمها بالدولار الأميركي؛ مما يشكِّل عبئًا على السياسة النقدية في دول مجلس التعاون. كما أن المخاوف المتزايدة بشأن الاقتصاد الأميركي سوف تدفع المستثمرين المعتادين إلى التحول نحو الذهب وأصول أخرى ملاذًا آمنًا خلال الأوقات المضطربة. وهذا يؤدي إلى ضعف الدولار؛ ما يؤثر سلبيًّا على دول مجلس التعاون الخليجي؛ ذلك لأن معظم إيراداتها يأتي بالدولار وبشكل رئيس من صادرات قطاع الطاقة. وبافتراض ثبات جميع العوامل الأخرى، فإن ضعف الدولار يرفع تكلفة الواردات والعمالة الوافدة، وبالتالي يمكن أن يُضعف كلًّا من الميزان المالي وميزان الحساب الجاري. ومن جهة أخرى، فإن ضَعْفَ العملة جرَّاء تراجع الدولار يمكن أن يُعزز القدرة التنافسية للصادرات غير السلعية وقطاع السياحة، الذي بدأ يكتسب أهمية متزايدة لدى العديد من دول مجلس التعاون.

ب- أسعار فائدة أعلى لفترة أطول

تشير التوقعات إلى أن هناك احتمالية بنسبة 45% أن يُخفِّض الفيدرالي أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في عام 2025، واحتمالية أقل لخفضها بمقدار 25 نقطة. وسوف يشكِّل إبقاء السياسة النقدية المتشددة مشكلة لصانعي السياسات في دول مجلس التعاون الخليجي؛ إذ يجعل الاقتصاد غير النفطي متباطئًا ويعوق خطط التنويع الاقتصادي. تُفضِّل اقتصادات دول مجلس التعاون أسعار فائدة منخفضة لتسهيل تمويل الاستثمارات غير النفطية المتوافقة مع الرؤى الوطنية. ومن ناحية أخرى، فإن استمرار السياسات المالية والتجارية لإدارة ترامب، وتوقعات بزيادة عجز الموازنة العامة، سوف يُطيل أمد معدلات الفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة. وبما أن دول مجلس التعاون تلاحق تغييرات معدل الفائدة التي يقررها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بحكم ارتباط أغلب عملاتها بالدولار، فإن بقاء معدل الفائدة مرتفعًا لفترة أطول يجعل هذه الدول تتحمل أعباء أعلى لعوائد السندات التي تصدرها؛ مما يشكِّل ضغطًا على الميزانيات العامة.

ج- أسعار نفط أقل

إن فرض الرسوم الجمركية والجهود الأميركية لزيادة الإنتاج سوف يشكِّلان ضغطًا على أسعار النفط. وبالفعل، توقَّع بنك “غولدمان ساكس” أن يتراجع خام برنت إلى ما دون 40 دولارًا للبرميل. كما خفَّضت وكالة فيتش توقعاتها لخام برنت لعام 2025 من 76 دولارًا إلى 68 دولارًا، بسبب اشتعال الحرب التجارية وزيادة الإمدادات من الصادرات النفطية، خصوصًا بعد قرار أوبك+ زيادة الإنتاج بنحو 547 ألف برميل يوميًّا بداية من سبتمبر/أيلول 2025. وهذا يمثِّل عبئًا على الموازنات العامة للدول المصدِّرة للنفط، نتيجة التأثير السلبي على الإيرادات الحكومية والإنفاق العام بما يضعف نشاط القطاع غير النفطي ويربك خطط التنويع الاقتصادي.

د- تراجع الطلب على صادرات البتروكيماويات

قد يؤدي ضعف الإنتاج الصناعي العالمي إلى تراجع الطلب على صادرات السلع البتروكيماوية، التي تشكِّل مصدر دخل مهمًّا بالنسبة للمملكة العربية السعودية وقطر.

هـ- ضعف الطلب الخارجي

من المرجَّح أن يتراجع الطلب الخارجي، وخصوصًا في قطاع الطاقة، بسبب تباطؤ النمو العالمي والبيئة الاقتصادية غير المستقرة. وقد أشار تقرير الاستثمار العالمي (World Investment Report) الصادر عن الأونكتاد إلى أن التوقعات الخاصة بالاستثمار العالمي لعام 2025 لا تزال سلبية نتيجة استمرار التوترات التجارية. كما أظهرت البيانات الأولية للربع الأول من هذا العام تراجعًا قياسيًّا في نشاط الصفقات والمشروعات الاستثمارية تجاوز نسبة 11%(8).

وانعكاسًا لكل ما سبق، فإن التأثير غير المباشر للرسوم الجمركية الأميركية سوف يظهر لاحقًا على آفاق النمو في دول مجلس التعاون الخليجي. وقد أشار تقرير Fitch Solutions الأخير لهذا العام إلى توقعات بنمو أقل في دول المنطقة، وبنى تلك التوقعات(9) على ما ستواجهه الدول المصدِّرة للهيدروكربونات، مثل دول مجلس التعاون الخليجي والعراق والجزائر، من ضغوط بسبب انخفاض أسعار النفط العالمية؛ الأمر الذي سوف يؤثر على النمو غير النفطي ويزيد من الضغوط المالية الواقعة عليها. وقد عزَّز التقرير ما ذهب إليه بتخفيض توقعات النمو لدول مجلس التعاون لعام 2025 من 4.2% إلى 3.7%، لأن انخفاض أسعار النفط سيؤثر على الإنفاق العام، فيما يؤثر ضعف النمو العالمي في الوقت نفسه على الاستثمار الأجنبي والطلب الخارجي. ومع ذلك، سوف يبقى النمو أقوى من النسبة المحققة العام الماضي، والتي بلغت 2%؛ إذ سيؤدي الإلغاء التدريجي لقيود أوبك+ إلى انتعاش إنتاج النفط، كما سيدعم انخفاض تكاليف الاقتراض للأنشطة غير النفطية. ونتوقع أن تُخفِّض البنوك المركزية في دول مجلس التعاون الخليجي أسعار الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس، تماشيًا مع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.

 

ثالثًا: الهيمنة على السوق العالمية للغاز المسال هدفًا غير معلن للحرب التجارية

من المتوقع أن تمتد جذور التنافس بين الصين والولايات المتحدة لتلقي بظلالها على سوق الطاقة، وذلك للأسباب التالية(10):

1- تُعَدُّ الصين أكبر مجهِّز وأقل كلفة في العالم للمواد اللازمة لتقنيات الطاقة المتجددة والدفاع، وهي مسؤولة عن 90% من الإنتاج العالمي للمعادن والعناصر النادرة، وحوالي 60% من توربينات الرياح وبطاريات المركبات الكهربائية، كما تسيطر بشكل شبه كامل على السوق العالمية.

2- مع سعي الدول الغربية إلى التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة، سوف يزداد الاعتماد على سلاسل التوريد القادمة من الصين. لذا، فإن التوترات بين الصين والولايات المتحدة سوف تعوق جهود أوروبا الرامية إلى تقليل الكربون أو إزالته في الغرب.

3- تحاول دول الغرب، وبشكل خاص الولايات المتحدة، اتخاذ خطوات لإزالة مخاطر سلاسل التوريد عن طريق تحويلها بعيدًا عن الصين.

4- تتجه إدارة ترامب نحو تصعيد التنافس مع الصين، وعدم التردد في فرض تعريفات جمركية عليها، وهي خطوة يمكن أن تؤدي إلى حرب تجارية بين البلدين، وهو ما من شأنه أن يضر بحركة التجارة الدولية ويعرّض سلاسل التوريد للخطر.

وبالفعل، فقد فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية بنسبة 10% على السلع الصينية في البداية، ثم رُفعت إلى 25%، ومرة أخرى إلى 45%. وردّت الصين بإعلان فرض تعريفة جمركية بنسبة 15% على الغاز الأميركي، وذلك بعدما شكّلت الشحنات الأميركية نحو 6% من إجمالي واردات الصين من الغاز المسال في العام الماضي. كما رفعت الرسوم التجارية الأخرى بنسبة 25% على الواردات الأميركية، وهو ما يُعَدُّ تطورًا خطيرًا في مسار الحرب التجارية. ومن الطبيعي أن تصيب هذه الاضطرابات التجارية قطاع الطاقة وتؤثر فيه، وبشكل خاص تجارة الغاز المسال.

أ- التغييرات في السوق العالمية للغاز

تشهد السوق العالمية للغاز المسال تغييرات مهمة بدأت مع بداية الحرب في شرق أوروبا وتصاعدت مع مخاوف نقص الإمدادات. وفي تقديرنا، إن هذه التغييرات قد شكَّلت أرضية فيما بعد لاستخدام التعريفات الجمركية في محاولة لإعادة توزيع الأدوار في سوق الغاز، وذلك نتيجة المتغيرات التالية:

1- أحدثت الحرب الأوكرانية-الروسية تغييرًا كبيرًا في سوق الغاز الطبيعي المسال؛ فقد أدَّى الغزو الروسي إلى تحول إستراتيجي بعيدًا عن الطاقة الروسية، وزاد الاتحاد الأوروبي من الاعتماد على المزوِّدين البدلاء، وكان أحد هؤلاء البدلاء هو الولايات المتحدة التي رفعت صادراتها من الغاز الطبيعي إلى مستويات قياسية.

2- تعمل النرويج على إعادة تشكيل ديناميكيات العرض العالمية؛ إذ تجاوزت روسيا كمورِّد رئيس للغاز إلى الاتحاد الأوروبي، وأصبحت توفر 30% من واردات أوروبا. وتسعى أوروبا إلى إنهاء الاعتماد على الوقود الروسي في عام 2027، وهي خطوة من شأنها إحداث تحولات كبرى في المشهد العالمي للطاقة(11).

3- يكتسب الاستقرار في سوق الغاز الطبيعي أهمية جديدة مع رغبة أوروبا في إجراء تحولات في حقل الطاقة، لذا يُنظر إلى الغاز الطبيعي المسال بوصفه وقودًا “انتقاليًّا” رئيسًا، باعتباره بديلًا أنظف مقارنة بالفحم ويمكن أن يساعد في خفض الانبعاثات(12).

4- من المرجَّح أن يحافظ الاتحاد الأوروبي على وارداته من الغاز المسال في الأمد القريب، حتى مع تطبيق أجندة إزالة الكربون على المدى الطويل.

5- سوف تزيد شركات الطاقة من الطلب على الغاز المسال، وخاصة في البلدان النامية التي تسعى إلى تخفيض الانبعاثات(13).

6- إن استمرار التصعيد العسكري في هذه الحرب سوف يزيد من الاضطراب في سوق الطاقة الأوروبية، وسيؤدي إلى تنافس شديد بين أوروبا وآسيا في الحصول على شحنات الغاز البديلة للغاز الروسي.

أمام هذه المتغيرات، سوف تسعى الولايات المتحدة إلى الاستحواذ على السوق الأوروبية والهندية واليابانية لتعويض الغاز الروسي، وسوف تستخدم سلاح التعريفة الجمركية للتأثير في تجارة الغاز.

ب- استخدام سلاح الرسوم الجمركية في تجارة الغاز (تأثير غير مباشر على الدول المصدِّرة)

كان من بين أوائل القرارات التي اتخذها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في فترته الرئاسية الثانية إلغاء تعليق إصدار التراخيص الجديدة لمحطات الغاز المسال، الذي جرى تطبيقه خلال العام الأخير من ولاية الرئيس السابق، جو بايدن. وقال خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس: “أرغب في صدور موافقات سريعة. سنصدر التراخيص بسرعة كبيرة في الولايات المتحدة”. وتشير أغلب المؤشرات إلى أن الولايات المتحدة تتجه نحو استخدام الرسوم الجمركية لإجبار المشترين الرئيسيين على شراء الغاز الأميركي؛ إذ هدَّد ترامب الاتحاد الأوروبي بفرض رسوم جمركية إذا لم يزِد مشترياته من الغاز الأميركي.

وقد بدأت كل من كوريا الجنوبية وفيتنام بشراء كميات أكبر من الغاز الأميركي تجنبًا للرسوم الأميركية، وكذلك اليابان باعتبارها ثاني أكبر دولة مستوردة للغاز المسال في العالم؛ إذ حصلت على نحو 10% من إمداداتها العام الماضي من الولايات المتحدة. وصرَّح رئيس الوزراء الياباني أمام مجلس النواب بأنه سيطلب من الولايات المتحدة توفير إمدادات مستقرة من الطاقة. والأمر نفسه ينطبق على الهند، التي تسعى للبقاء في صف الولايات المتحدة من خلال استيراد كميات كبيرة من الحديد والنفط والمنتجات الأخرى، إضافة إلى تعاونها في ملف العمالة المهاجرة، ويرجَّح أن تكون مشتريًا مهمًّا للغاز الأميركي.

وعلى المستوى الأوروبي، بدأت ألمانيا باستيراد الغاز من الولايات المتحدة منذ عام 2022 بعد توقف تدفقات الغاز الروسي، وقد شكلت الإمدادات الأميركية نحو 92% من إجمالي الشحنات التي تستوردها ألمانيا(14). ومن الصعب إيجاد منافس يستطيع ضخ الكميات التي تنوي الولايات المتحدة طرحها في الأسواق؛ فروسيا، على سبيل المثال، تخضع لعقوبات شديدة حدَّت من قدرتها على تطوير طاقتها الإنتاجية، فيما تواجه موزمبيق وغينيا الجديدة صعوبات في تطوير البنية التحتية والقدرات الإنتاجية والتصديرية بالسرعة اللازمة. أما دولة قطر، وهي من أكثر بلدان مجلس التعاون الخليجي التي ستواجه تحديات في تسويق الغاز بسبب التأثير غير المباشر للرسوم الجمركية الأميركية، فعلى الرغم من كونها ثاني أكبر مصدِّر للغاز المسال في العالم حاليًّا بعد الولايات المتحدة، فإن إمداداتها أقل مرونة مقارنة بالحقول الصخرية الأميركية، وإن كانت تسعى لزيادة طاقتها الإنتاجية بأكثر من 80% حتى عام 2030. لكنها لا تستطيع ممارسة الضغوط على المشترين كما تفعل الولايات المتحدة في الوقت الراهن.

وينطبق الأمر ذاته على السعودية، التي تسعى لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز؛ إذ يُتوقع أن يرتفع إنتاج المملكة بنسبة 63% بحلول عام 2030، من 13.5 مليار قدم مكعبة يوميًّا إلى نحو 21.3 مليار قدم مكعبة يوميًّا، وفق تصريح وزير الطاقة السعودي. وهي تسعى لأن تلعب دورًا مهمًّا في السوق العالمية للغاز؛ ما يجعلها أيضًا في مواجهة مع الآثار غير المباشرة للرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة ترامب والهيمنة الأميركية على سوق الغاز(15).

وتُظهر هذه المعطيات أن السياسة التجارية الأميركية تحقق نجاحات في زيادة صادراتها من الغاز لمعالجة عجزها التجاري، وهي تتجه نحو المزيد من التوسع في هذه الصادرات. ووفقًا لوكالة بلومبيرغ، يُتوقَّع أن ترتفع صادرات الغاز المسال الأميركي إلى نحو 200 مليون طن متري سنويًّا بحلول عام 2030، مقارنة بنحو 93 مليون طن متري في الوقت الحالي(16).

وعليه، ستكون سياسة فرض الرسوم الجمركية إحدى أهم أدوات الولايات المتحدة في معالجة العجز التجاري والسيطرة على سوق الغاز العالمية، تمهيدًا للضغط على الصين لوقف تقدمها الاقتصادي. أي إن هذه الإجراءات هي جزء من إستراتيجية متكاملة تهدف في النهاية إلى السيطرة على سوق الغاز. وسوف يعمل كثير من الدول المستورِدة للغاز على تجنُّب الرسوم الجمركية من خلال إرضاء الولايات المتحدة وزيادة مشترياتها من الغاز الأميركي. وستشهد سوق الطاقة، وبخاصة سوق الغاز، تغييرات مهمة في ظل استخدام السياسة التجارية أداة لفرض النفوذ، وعلى الدول الرئيسة المصدِّرة أن تأخذ هذه المتغيرات بعين الاعتبار لصياغة إستراتيجيات تسويقية تتناسب مع هذه التحديات وتتماشى مع هذه السلعة المتزايدة الأهمية.

 

رابعًا: سياسات مقترحة لتقليل آثار الحرب التجارية على دول مجلس التعاون

في تقديرنا، إنه حتى لو تمكَّنت دول مجلس التعاون من إدارة الأثر المباشر للرسوم الجمركية، فلن تكون بمنأى عن الآثار غير المباشرة للحرب التجارية التي تتصاعد حدَّتها. وبغضِّ النظر عما ستؤول إليه المفاوضات المنوي إجراؤها بين الشركاء التجاريين مع الولايات المتحدة، فإنه لابد من الإقرار بأن النظام التجاري العالمي يسير نحو ترتيبات جديدة، وأن قواعد حرية التجارة العالمية تعرَّضت لصدمة كبيرة. ووفق هذا، يتعين على الدول أن تعيد النظر في إستراتيجيات التجارة الخارجية، كلٌّ بحسب خصائصها الاقتصادية وموقعها الجغرافي. ووفـقًا للمعطيات الراهنة، فإن خطوات مقترحة نتوقع أن تكون مفيدة في مواجهة الآثار المحتملة للنزاع التجاري بين أقطاب التجارة الدولية تأتي على النحو التالي:

1- تعزيز التعاون والتنسيق بين دول مجلس التعاون سيكون فاعلًا في تحديد اتجاهات التجارة الدولية لدول المنطقة، لأن العامل الجغرافي سيلعب دورًا في رسم اتجاهات التجارة الدولية في المرحلة القادمة.

2- منح القطاع الخاص مساحة أوسع للمبادرة في نشاط التجارة الخارجية، لما يتمتع به من مرونة أعلى في التكيف مع القيود التجارية وفق معطيات الأرباح والتكاليف.

3- يتعين على دول المنطقة المصدِّرة للغاز دراسة التغييرات العالمية في سوق الطاقة من خلال وضع إستراتيجية تسويقية تراعي هذه المتغيرات للمحافظة على الحصص التسويقية، وبشكل خاص في الأسواق الآسيوية.

4- لا تزال التجارة البينية بين دول مجلس التعاون الخليجي دون مستوى الطموح وإن كانت تتجه نحو الارتفاع؛ إذ سجَّلت 132 مليار دولار في عام 2023(17). وهذه نسبة قليلة لا تشكِّل سوى 11% من إجمالي التجارة الخارجية لدول المجلس، مقارنةً بنسبة 70% في دول الاتحاد الأوروبي(18). ويُعَدُّ التفاوت في القدرة المالية بين الدول الأعضاء سببًا مُعيقًا لمزيد من التكامل؛ لذا فإن النظر في التحول من حالة التحالف الإستراتيجي إلى تشكيل قوة اقتصادية متكاملة تراعي المصالح الوطنية لكل دولة، خطوة مهمة لمواجهة رياح القيود التجارية.

5- الاتفاقات التجارية الثنائية، وسياسة المحاور التجارية مع تكتلات ومناطق اقتصادية دولية، وتنويع الخارطة التجارية، ستكون مفيدة لاستقرار السياسة التجارية لدول مجلس التعاون الخليجي.

6- إعادة رسم الخارطة الاستثمارية: لتقليل ضغوط الآثار غير المباشرة للرسوم الجمركية، يتعين إعادة رسم اتجاهات الخارطة الاستثمارية عبر المواءمة بين المصالح المالية والسياسية. فعلى الرغم من توسع استثمارات دول مجلس التعاون في الولايات المتحدة، خصوصًا في مجالات المصافي والألومنيوم والذكاء الاصطناعي، تُظهِر المؤشرات أن الذكاء الاصطناعي يشكِّل مجال تركيز رئيسيًّا في دول المجلس، مع شراكات واستثمارات كبيرة مع شركات أميركية. وقد أعلنت مجموعة داماك، التي تتخذ من دبي مقرًّا لها، عن استثمار مخطَّط لا يقل عن 20 مليار دولار لبناء مراكز بيانات جديدة في الولايات المتحدة، بهدف توفير بنية تحتية أفضل لدعم الموجة التالية من التوسع في الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي. وفي تقديرنا، فإن الاستمرار في هذه التوجهات من شأنه أن يعزِّز فرص دول مجلس التعاون في تقليص الآثار السلبية للرسوم الجمركية الأميركية.

 

خاتمة

تُظهر هذه الدراسة أن سياسة الإدارة الأميركية القائمة على فرض الرسوم الجمركية لمعالجة العجز التجاري أهملت جانب ميزان الخدمات الذي يشكِّل فائضًا مهمًّا للولايات المتحدة، وهو فائض مهدَّد بالانكماش في حال تعرُّض الاقتصادات الأخرى لاضطرابات ناجمة عن هذه السياسة. كما يتضح أن المبررات الاقتصادية التي تسوقها واشنطن لا تكفي لتبرير خطواتها؛ إذ لم تأخذ في الاعتبار المخاطر البديلة، ولاسيما فرض رسوم مضادة من قبل الشركاء التجاريين الرئيسيين مثل الصين، وهو ما يعرِّض الاقتصاد الأميركي ذاته لضغوط متزايدة.

أما على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، فيتضح أن القدرة على إدارة الآثار المباشرة للرسوم الجمركية لا تعني الحصانة من التداعيات غير المباشرة، خصوصًا فيما يتعلق بصادرات الطاقة؛ ذلك أن استخدام الولايات المتحدة للرسوم أداةً للاستحواذ على حصص سوقية في أوروبا وآسيا من شأنه أن يفرض منافسة أشدَّ على صادرات المنطقة. وفي هذا السياق، تُعدُّ التكتلات الاقتصادية وتعزيز التعاون الإقليمي أدوات ضرورية لمواجهة الحماية التجارية، وهو ما يستدعي إعادة النظر في إستراتيجيات التعاون المشترك وآليات التكامل الاقتصادي.

وعليه، فإن رفع وتائر التجارة البينية، وإعادة رسم الخريطة الاستثمارية، ودعم القطاع الخاص، وصياغة إستراتيجية تسويقية لصادرات الغاز، كلها خطوات يمكن أن تحدُّ من الآثار السلبية للحرب التجارية وتعزز من موقع دول المجلس التفاوضي. ومع أن الولايات المتحدة قد أبرمت اتفاقيات ثنائية مع شركاء مثل اليابان والفلبين والاتحاد الأوروبي، فإن حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي تبقى قائمة بفعل تزايد النزعة الحمائية لدى أكبر اقتصادَين عالميين، الولايات المتحدة والصين. ومن ثمَّ، فإن التوصل إلى ترتيبات تجارية دولية جديدة عبر الحوار والتفاوض يظل الخيار الأكثر واقعية لتجنب اتساع دائرة الركود الاقتصادي العالمي.

 

المراجع

(1) EBSCO Research Starters, “Anglo-Dutch Wars,” https://www.ebsco.com/research-starters/history/anglo-dutch-wars  (accessed September 17, 2025).

(2) Will Kento, “What Is the Smoot-Hawley Tariff Act? History, Effect and Reaction,” www.investopedia.com , 2025 (accessed September 17, 2025).

(3) BMI, Fitch Solutions Company, MENA Monthly Outlook: US Tariffs on Strategic Goods Will Have Limited Impact, 2025 (accessed September 17, 2025).

(4) Danal Grose, “The Indirect Impact of Trump’s Tariff War,” www.project-syndicate.org , 2025 (accessed September 17, 2025).

(5) White House Archives, “What Drives the USA Services Trade Surplus?” www.bidenwhitehouse.archives.gov , 2024 (accessed September 17, 2025).

(6) Bloomberg, “How Natural Gas Became America’s Most Important Export,” www.bloomberg.com , 2025 (accessed September 17, 2025).

(7) Fitch Solutions Company, op. cit.

(8) UNCTAD, Global Foreign Direct Investment Falls for the Second Consecutive Year Posing Acute Challenges for Developing Countries, www.unctad.org , 2025 (accessed September 17, 2025).

(9) Fitch Solutions Company, op. cit.

(10) José Juan Ruiz, Shattered Hegemony: The Rivalry between the US and China in the New Era of the Politics of Force, realinstitutoelcano.org, 2025 (accessed September 17, 2025)؛ Michael Davidson and Margaret Pearson, “Where Are US and China on Addressing Climate Change,” www.brookings.edu , 2024 (accessed September 17, 2025).

(11) Malt Humpert, “Russia Still Second Largest Gas Provider to EU after Norway with LNG Imports Increasing,” www.highrothnews.com

, 2024 (accessed September 17, 2025).

(12) UNDP, What Is the Sustainable Energy Transition and Why Is It Key to Tackling Climate Change, www.climatepromise.undp.org

, 2025 (accessed September 17, 2025).

(13) Shell Company, Global LNG Demand Set to Rise 60% by 2040, www.ogj.com , 2025 (accessed September 17, 2025).

(14) Vladimir Soldathin and Dan Polishchuk, “Russian Gas Era in Europe Ends as Ukraine Stops Transit,” www.reuters.com

, 2025 (accessed September 17, 2025).

(15) وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان، “إنتاج الغاز سيرتفع 63% بحلول 2030″، سكاي نيوز عربية، 30 يونيو/حزيران 2024، (تاريخ الدخول: 17 سبتمبر/أيلول 2025)، https://www.skynewsarabia.com/business/1725912

(16) Bloomberg, op. cit., 2025.

(17) المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي، تقرير التجارة الخارجية، 2024، (تاريخ الدخول: 17 سبتمبر/أيلول 2025)، https://www.gccstat.org

(18) فواز العلمي، “نسبة التجارة بين دول مجلس التعاون الخليجي”، العربية نت، 2025، (تاريخ الدخول: 17 سبتمبر/أيلول 2025)، https://www.alarabiya.net/aswaq/economy

* د. منجد الخشالي، استشاري اقتصادي بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، دولة قطر.

*Dr. Monjed Al-Khashali, Economic Consultant at the General Secretariat of the Council of Ministers, State of Qatar.