ملخص:
تحاول الورقة فحص الواقع والآثار الجيوسياسية المحتملة لفيروس كوفيد-19 في ضوء الصراع الأميركي-الصيني لتُبيِّن ما إذا كان التغيير الجيوسياسي الجذري قادمًا لا محالة أم أن الوباء ليس سوى عامل تغيير جيوسياسي ثانوي محدود التأثير. وتتعقَّب الورقة مختلف سيناريوهات التداعيات والآثار المحتملة على شتى الأصعدة من خلال عرض ومناقشة آراء نخبة من الخبراء.
كلمات مفتاحية: التداعيات الجيوسياسية المحتملة، الصراع الأميركي-الصيني، التغيير الجذري، السيناريوهات المحتملة.
Abstract:
This paper seeks to examine the potential geo-political implications and effects of the COVID-19 pandemic in the context of the US-China conflict to consider whether the current geo-political situation is moving towards radical change, or will the pandemic be a limited geo-political changing factor? The paper tracks those possible scenarios by reviewing the opinions of a select group of experts.
Keywords: Potential Geo-Political Implications, US-China Conflict, Radical Change, Possible Scenarios.
مقدمة
بينما يواصل فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) حصد المزيد من الأرواح عبر العالم ويُوسِّع من مجال انتشاره جغرافيًّا، ليشمل كل بقاع العالم تقريبًا، بدأت تظهر إلى العلن مقدمات تنظيرية جديدة جدَّة ظهور فيروس كورونا، تطرح إعادة التفكير في كثير من المسلَّمات والتوقعات المستقبلية في موازين القوى والعلاقات الدولية، والتطورات الجيوسياسية التي كانت في طور التشكُّل قبل ظهور الوباء.
ومنذ بدأ العالم ينتبه لخطورة الوباء بعد تفشيه في ووهان الصينية في يناير/كانون الثاني 2020، ظهرت تحليلات تُعِيد تعريف القوة، بمستوييها، الصلب والذكي، وأخرى تُنْذِر بنهاية الليبرالية الجديدة، وقرب انفراط عقد الاتحاد الأوروبي، بعد فشله في إدارة أزمة كورونا تاركًا بعض دوله لينهشها الوباء دون عون جماعي، وكذلك الأمر بالنسبة لحلف الناتو. وقد بات بعض المحللين غير قادر على الاستجابة لتحديات المستقبل. وفي الأثناء أيضًا، بادر الخبراء الاقتصاديون، والباحثون السياسيون وعلماء الاجتماع والنفس، وغيرهم، إلى التشكيك في النظريات القائمة التي تعوَّدت عليها البشرية أو كادت.
لا يُنظر، إذن، إلى طبيعة الفيروس الجديد ونشأته ومدى انتشاره وتداعياته المحتملة والمختلفة بعين واحدة؛ إذ يرى البعض أن كوفيد-19 ليس سوى مجرد فيروس مثله مثل باقي الفيروسات التي تتكاثر في عالم اليوم المتشابك، ويكون انتشارها أسرع وأوسع نطاقًا جغرافيًّا، لكن امتداد الوباء، وتداعياته، وما أحدثه من آثار بالغة على بنية العلاقات الدولية، وقدرات الدول، وكذلك الاقتصاد بمستوياته المختلفة، والنظم الاجتماعية، والعلاقة مع التقنيات الحديثة، كل ذلك وسواه يدعو لتوقعات مختلفة الاتجاهات حول تداعيات هذا الوباء، لاسيما إن تواصل تفشيه فترة زمنية تفوق قدرة العالم على الاحتمال.
تحاول هذه الورقة، في سياق متابعتها لأزمة كورونا وآثارها، رصد التداعيات الجيوسياسية لتفشي فيروس كورونا، المعروف اختصارًا بـ”كوفيد-19″، ومن ثم تعقُّب مختلف السيناريوهات والآثار المحتملة للوباء على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها، من خلال عرض ومناقشة آراء الخبراء والباحثين.
- جغرافية انتشار فيروس كورونا
يبدو أن التطور الجغرافي لفيروس كوفيد-19 كان طبيعيًّا ومفاجئًا، في الوقت ذاته، من حيث سرعة انتشاره وقدرته على تغيير مساره. ويكمن الجانب الطبيعي في ظهور فيروس كوفيد-19 في الموسمين المعروفين بانتشار مختلف الأمراض الفيروسية؛ موسمي الشتاء والربيع، وبذلك فقد كان ظهوره ضمن وقت تفشي موجة الأمراض “التقليدية” التي اعتادت البشرية عليها منذ قرون طويلة. لكن جانب “المفاجأة”، كما رآه الكاتبان، ريتشارد بالدوين (Richard Baldwin) وبياتريس فيدر دي مورو Beatrice Weder di Mauro))، في كتابهما الرقمي المنشور في شهر مارس/آذار 2020، فيكمن في كون “الفيروس يمثِّل خطرًا خارجيًّا يصل إلى النظام المالي العالمي مثل كويكب قد يضرب الأرض؛ إنه يأتي فجأة، ولا يوجد شيء نفعله لتعجيل وصوله أو تبطئته، لذلك يمكنه إلحاق أضرار هائلة بالنظام المالي، وصدمة الفيروس التاجي خارجية بحتة”(1).
ويُرجِّح عدد من المختصين في انتشار الأوبئة أن ما زاد من مخاطر الفيروس هو ظهوره في مكان ملائم للانتشار السريع، في مدينة ووهان التي يسكنها حوالي 11 مليون نسمة، وهي تمثِّل أحد أعمدة الاقتصاد والصناعة في الصين، مرتبطة بعدد كبير من مختلف دول العالم التي تستورد منها بضائع متعددة ويزورها ملايين الأجانب سنويًّا. ويرى أصحاب هذا الترجيح، الذي يجب التعامل معه بحذر، أن تفشي الوباء خرج عن السيطرة بعد أن تناقله ملايين الصينيين والأجانب خلال احتفالات الصينيين بسنتهم الجديدة، وهي مناسبة تشهد حركة ضخمة لتنقلات مئات ملايين السكان من مكان إلى آخر، على الصعيدين الوطني والدولي. ثم بلغ انتشار الفيروس التاجي الجديد وتفشيه مرحلة الذروة داخل الصين وفي معظم البلدان المجاورة، ومنها إلى باقي دول العالم.
انتقلت بؤرة الفيروس إلى وجهة بعيدة بآلاف الكيلومترات متجهة نحو أوروبا الغربية، في حين أن دولًا أخرى ذات مساحات شاسعة، بعضها يقع في جوار الصين القريب، مثل: روسيا والهند أو كازاخستان وتركمانستان، لم تشهد إصابة أعداد هائلة بالفيروس، بل ويكاد يكون الفيروس بلا أثر يُذكَر في بعضها.
من جهة أخرى، واجهت دينامية حركة تنقُّل البشر عبر العالم عراقيل جدية مع بداية تفشي الفيروس، ثم توقُّفًا شبه تام لحركة السفر الداخلي والدولي في جلِّ بلدان العالم. وقد أدت حالة الطوارئ، التي انتهجتها أغلب الحكومات في مواجهة وباء كورونا، إلى تراجع غير مسبوق في معدلات هجرة العمالة، خاصة في أوروبا مما يهدد بتراجع مستويات النمو الاقتصادي ويقود إلى حالة ركود، قد تتبعها حالة انكماش اقتصادي خانق. هذا بالإضافة إلى آثار عديدة أخرى محتملة اجتماعية وسياسية…(2).
- الآثار الجيوسياسية المحتملة لفيروس كورونا
تمامًا مثلما هو الأمر في حالات الطوارئ المختلفة، فقد كان من المستحيل التنبؤ بظهور وتتبع خط سير فيروس كوفيد-19 وسرعة ومدى انتشاره وحصر تداعياته وآثاره على مختلف الأصعدة. ويبدو من الصعوبة بمكان أيضًا تصوُّر افتراضات بشأن التطورات التي قد تطرأ على الأوضاع الجيوسياسية في المنظورين القريب والبعيد. لكن مراكز الفكر والباحثين يُقدِّمون يوميًّا تقييمات مثيرة للاهتمام بشأن التداعيات الجيوسياسية المحتملة لكوفيد-19. ويبدو واضحًا أن المحللين ليسوا على قلب رجل واحد؛ إذ يُقدِّم الدبلوماسي والباحث الفرنسي، ميشيل دوكلوس (Michel Duclos)، فرضية أن الوباء يمثِّل “أزمة ستكشف عن عالم جديد”(3)، في حين يعتبر مدير برنامج أوروبا في العالم بمعهد إيغمونت الملكي للعلاقات الدولية في بروكسل، سفين بسكوب (Sven Biscop)، أن العالم سيشهد تغيُّرًا أقل جذرية مما يتوقعه النقاد الآن(4)، وصولًا إلى إصرار آلان غينغل (Allan Gyngell)، الأستاذ الشرفي في جامعة آسيا والمحيط الهادئ وفي الجامعة الوطنية الأسترالية، على أن “العالم لن يعود كما كان عليه قبل ظهور الفيروس التاجي”(5).
في الواقع، يبدو من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات حازمة، ومع ذلك، فإن ما يتوفر من معلومات حتى الآن، بالإضافة إلى الكمِّ الهائل من محاولات التحليل التي لا تُحصى، والاستنتاجات والتنبؤات التي توصل إليها الأخصائيون في الميدان، وبالنظر إلى الصورة العامة ودينامياتها المتحركة بسرعة وفي اتجاهات غير محددة، فإن بعض السيناريوهات قد تكون أكثر قابلية للتوقع، بناءً على المعطيات المتوفرة حاليًّا.
أ- كورونا وفرضية المتغيرات الكبيرة
يرى وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر (Henry Kissinger)، أن “وباء فيروس كوفيد- 19 سيغير النظام العالمي إلى الأبد، وأن تأثيره المضر على الصحة العامة قد يكون مؤقتًا، إلا أن الأزمة السياسية والاقتصادية التي ستنجم عن تفشي الفيروس ستستمر إلى أجيال عديدة”(6).
إن الآثار الجيوسياسية للوباء قد تبدو ثانوية في الوقت الحاضر، قياسًا إلى آثاره على صحة وسلامة المجتمعات الإنسانية، إلا أنه قد يثبت، على المديين المتوسط والبعيد، أن التداعيات الجيوسياسية الدولية ربما تتعدى المتغيرات الحالية بكثير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالموقف الدولي للولايات المتحدة والقوى العالمية المنافسة لها، وآثار ذلك على بنية النظام العالمي سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.
من الثابت، تاريخيًّا، أن الأحداث المفصلية الكبرى في تاريخ العالم تبدأ بالاتجاه نحو التغيير التدريجي في البداية ثم يحدث التغيير الكلي دفعة واحدة. ففي عام 1956، كشف تدخل عسكري فاشل في الشرق الأوسط، بعد تأميم مصر لقناة السويس، أن بريطانيا كانت في حالة تراجع كقوة عظمى، وهو ما أفصح عنه بعلانية تدخلُها الفاشل إلى جانب فرنسا وإسرائيل، واعتُبر ذلك التاريخ نهاية رسمية للمكانة الدولية للمملكة المتحدة(7).
ويقارن بعض الباحثين بين “حدث السويس” ووضع الولايات المتحدة خلال أزمة كورونا؛ حيث كانت واشنطن قد شهدت تراجعات اعتُبرت مهمة خلال السنوات الأخيرة على صعيد الهيمنة الاستراتيجية، ويرى باحثون على غرار باراغ كانا (Parag Khanna) أنه يتعيَّن على صنَّاع القرار السياسي في واشنطن إدراك أنه إذا لم يرتق أداؤهم في مواجهة هذه اللحظة بالحزم وبعد النظر المطلوبين، فإن فيروس كوفيد-19 يمكن أن يمثِّل “لحظة فارقة أخرى على غرار ما حدث في السويس”(8).
أما مجلة فورين بوليسي الأميركية، فقد أجرت استطلاعًا للرأي حول ما سيكون عليه شكل العالم فيما بعد انحسار وباء كوفيد-19، وجمعت آراء عدد من كبار المفكرين في العالم(9)، وتلخصت مجمل آرائهم في ثلاث نقاط رئيسة:
– قد تحقق الصين، بنظامها الحزبي الواحد، نصرًا على أميركا ونظامها الديمقراطي.
– توقع اندثار العولمة بعد أن أصبح مستقبلها غامضًا وجاء فيروس كوفيد-19 ليُعَجِّل بحدوث التحوُّل (الذي بدأ بالفعل) من التمحور حول العولمة الأميركية إلى التمحور حول العولمة الصينية.
– يُعتقد أن الفيروس سيؤثر على تغيير بعض السياسات والبروتوكولات، كما سيقوي الحكومات في مواجهة المجتمعات.
لقد بات من الواضح الآن، كما يرى مراقبون، أن واشنطن لم تكن مقنعة في ردها الأوَّلي على تفشي الفيروس، وارتكبت مؤسساتها الرئيسة، بدءًا من البيت الأبيض ومرورًا بوزارة الأمن الداخلي وصولًا إلى مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، كثيرًا من الأخطاء التي قوَّضت ثقة المجتمع في قدرة وكفاءة الحكومة على الاستجابة المدروسة والفعَّالة لاحتواء الأزمة والحد من تداعياتها. كما أدت تصريحات الرئيس، دونالد ترامب، إلى زرع البلبلة وزيادة منسوب عدم اليقين، خاصة في ظلِّ فشل القطاعين، العام والخاص، في توفير وإنتاج وتوزيع الأدوات الطبية اللازمة للاختبار ووقاية الأميركيين وعلاج المصابين.
أما على الصعيد الدولي، فإن سرعة تفشي الجائحة واتساع نطاقها أدى إلى اتخاذ الرئيس، دونالد ترامب، قراره بالعمل المنفرد وتقديم المصلحة الأميركية، كما يراها هو وإدارته، وكشف بالتالي عن مدى عدم استعداد واشنطن لقيادة استجابة عالمية لحل الأزمة. وتسبب قيامه بتعليق حصة بلاده في تمويل منظمة الصحة العالمية، بعد اتهامها بمحاباة الصين، في تعزيز القناعة بالتوجُّه الانعزالي للولايات المتحدة وتثبيط الجهود الدولية لمواجهة الوباء(10).
لم يكن بناء الريادة الأميركية عالميًّا، على مدى العقود السبع الماضية، على أساس الثروة والسلطة فقط، ولكن أيضًا على الشرعية التي تنبع من القيم الديمقراطية، وبناء الولايات المتحدة لتحالفات قوية وواسعة، ومشاركتها الضخمة في تمويل المؤسسات الدولية التي كانت نشأت بالأصل بمساهمة أميركية مؤثِّرة ضمن ترتيبات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما برهنت المؤسسات الأميركية على قدرة واستعداد كبيرين لحشد وتنسيق وقيادة استجابة عالمية لمواجهة الأزمات. لكن، عندما شكَّل وباء كورونا اختبارًا لشروط القيادة الأميركية أخفقت واشنطن. وربما هذا ما ذهب إليه هنري كيسنجر عندما حذَّر من “أن ديمقراطيات العالم تحتاج إلى أن تدافع وتحافظ على قيمها التنويرية”، مؤكدًا أن “التراجع العالمي عن موازنة السلطة مع الشرعية سيؤدي إلى تفكك العقد الاجتماعي محليًّا ودوليًّا”، مضيفًا أنه “لا يمكن تسوية قضية الشرعية والقوة ومحاولة التغلب على وباء كورونا المستجد في آن واحد”. ودعا كيسنجر، في نهاية مقاله، إلى ضرورة “ضبط النفس في جميع الجوانب، سواء أكان في السياسة الداخلية أم الدبلوماسية الدولية؛ إذ يجب تحديد الأولويات”(11).
في المقابل، وأمام هذا التعثر الأميركي، استفادت الصين من نجاحها في وقف تفشي الوباء على أراضيها، واستئناف نشاطها الاقتصادي، لتتحرك بسرعة وفعالية لتقديم نموذج قيادي بديل للاستفادة من أخطاء واشنطن وملء الفراغ، وفيما قدمت بكين نفسها على أنها تمثِّل قصة نجاح استثنائية في مواجهة وباء كورونا، قامت بتقديم مساعدات طبية وصحية واستشارية لبلدن أخرى بما فيها الدول الأوروبية حليفة واشنطن التي لم تحظ بدعمها.
لكن، ومهما يكن من أمر، وسواء أكانت الصين تسعى إلى فرض نفسها رائدة على الساحة الدولية أم أن المجتمع الدولي، وخاصة الدول الأكثر تضررًا من هذا الوباء، ساعدها على ذلك، فقد بات يُنظر إلى واشنطن على أنها غير قادرة أو غير راغبة في قيادة جهود مكافحة وباء كورونا. هذا الواقع الجديد، كما توقَّع الباحثان، كورت كامبل (Kurt Campbell) وراش دوشي (Rush Doshi)، يمكن أن يغيِّر بشكل أساسي وضع الولايات المتحدة في السياسة العالمية ويُشْعِل التنافس على الزعامة العالمية في قادم السنوات(12). ويرى روبن نيبليت (Robi Niblett)، المدير التنفيذي للمعهد الملكي للشؤون الدولية “تشاتام هاوس” والباحث في العلاقات الدولية، أن وباء كورونا سيكيل ضربة قاتلة للعولمة، وليس لأميركا تحديدًا، فالدول التي كانت مترابطة مع بعضها البعض لم تعد تؤمن بهذا الترابط الذي لم ينفعها في شيء لمواجهة الأزمة الحالية، بل وأصبح اعتماد الدول على بعضها الآخر يشكِّل خطرًا عليها وعلى مجتمعاتها، لذلك فإنها ستسعى إلى تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي.
يرى نيبليت أن هذا المنحى المنتظر في توجه الدول، بعد أزمة كوفيد-19، سيؤدي إلى مراجعات كثيرة للجدوى من المنظمات والتكتلات الدولية والمؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وستفقد تلك المؤسسات ما كانت تحظى به من ثقة ومصداقية، ولو نسبية.
كل ما تقدَّم من صدمات ومراجعات وانتقادات سيعصف بالبنى التي حافظت على العولمة ويجعلها تتلاشى. أما بالنسبة لأميركا راعية العولمة، فقد اختار رئيسها الحالي رفع شعار “أميركا أولًا” بل ومنع تصدير المستلزمات الطبية من كمامات وأجهزة تنفس وأدوية في عزِّ الأزمة، وهو يسعى أيضًا إلى فصل اقتصاد بلاده عن الصين، وبذلك يكون قد أوصد الباب أمام العولمة وأرسل رسالة واضحة إلى الحلفاء والأعداء على حدٍّ سواء، بأن أميركا لن تكون إلى جانبهم، وأنه عليهم الاعتماد على أنفسهم بعد حلِّ الترابط بين الدول على مستوى سلاسل الإنتاج.
في مقابل هذا التوجه الانعزالي والحمائي الأميركي، نجد أن الصين -الطامحة إلى أن يكون اقتصادها في عام 2035 في طليعة اقتصادات العالم، وتدافع بشراسة عن مشروعها العملاق “الحزام والطريق” لفرض هيمنتها على العالم بحلول العام 2050- تبادر إلى تقديم المساعدات الخارجية وترسل البعثات المتخصصة والمعدات الطبية إلى بلدان الشرق والغرب، بل وتقيم دورات تدريبية للطواقم الطبية والمسؤولين عن إدارة أزمة كوفيد-19 في تلك البلدان لتنقل لهم تجربتها في مواجهة الجائحة(13).
من جانبه، وفي ذات السياق، رجَّح ميت رومني، السيناتور الجمهوري، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 2019، أن تصبح الصين قوة عالمية عظمى وحيدة اقتصاديًّا وعسكريًّا وجيو-سياسيًّا بحلول منتصف القرن الحالي. وعزا رومني أهم أسباب الصعود الصيني إلى التخاذل الأميركي وإصرار واشنطن على الانعزالية بدلًا من العمل المشترك مع الحلفاء، لكنه توقع أيضًا، في ملاحظاته المنشورة على موقعه الرسمي قبل ظهور الوباء، أن يتم إيقاف الصعود الصيني بسبب التوترات والاضطرابات الداخلية(14).
ب- فرضية أن يكون وباء كورونا ذا تأثير جيوسياسي ثانوي محدود
بقدر ما يبدو وباء كورونا خطيرًا واستثنائيًّا، إلا أن كثيرًا من دول العالم، لاسيما المتقدمة منها، لديها بالفعل استراتيجية نمطية للتعامل مع الأزمات والتهديدات المختلفة الطبيعية والبيئية والأمنية والاقتصادية والصحية أيضًا بطبيعة الحال. هذا الفهم لطبيعة التخطيط النمطي لمواجهة الأزمات في الدول المتقدمة والغنية يفترض ألا يشكل تفشي الفيروس أمرًا مفاجئًا بالنسبة لها، لكن ومع ذلك فهو يمثِّل تهديدًا كبيرًا وجديًّا للأمن القومي للدول وكذلك الأمن العالمي، لكنه حسب أصحاب هذه الرؤية لا يرتقي إلى تهديد بتغيرات جذرية في السياسة الدولية.
حسب هؤلاء، لا تؤدي الأوبئة إلى تغيرات جيوسياسية كبرى، وإنما تَحدُث التغييرات عندما يتزامن انتشار الأوبئة مع وقوع أحداث أكبر تعمل على إحداث تغيير جذري-أو كبير، وعندها تكون الأوبئة هي الوجه الظاهر لما يحدث من تغييرات جيوسياسية عميقة، تقودها في الأصل أحداث أخرى أكبر. وبالتالي، فإن الأوبئة واسعة الانتشار، على شاكلة كوفيد-19، وفقًا لتقييم ريتشارد هاس، رئيس مجلس إدارة مجلة “فورين أفيرز”، إنما هي عامل مسرِّع لاستكمال عملية التغيير الأكثر عمقًا وتأثيرًا، مضيفًا أنه “لا شك في أننا نمر بأزمة عظيمة بكل المقاييس ولذلك من الطبيعي أن نفترض أنها ستشكِّل نقطة تحوُّل في التاريخ المعاصر… ولكن لا يُتوقع أن يكون العالم بعد الجائحة مختلفًا بشكل كبير عنه قبلها. فلن يكون أثر كوفيد-19 هو تغيير اتجاه تاريخ العالم بقدر ما سيسرِّع من وتيرة هذا التاريخ(15).
إذا ما سلَّمنا بهذا التحليل، فيمكننا توقُّع أن تعمل تداعيات وآثار فيروس كورونا على تسريع التغييرات التي كانت قد بدأت تتكشف بالفعل منذ عام 2019، حيث كان العالم مهيَّأ لبروز أقطاب ودول أخرى، غير أميركا وحلفائها، تكون أكثر قدرة على المنافسة من الناحية الاستراتيجية، أي عندما باتت قيادة أميركا للعالم تضعف وتدخل في مرحلة انحدار استراتيجي نسبي، وعندما أضحت المؤسسات الدولية متعددة الأطراف تكافح من أجل بقائها. فحتى قبل ظهور وباء كوفيد-19، كانت أميركا، تحت قيادة الرئيس دونالد ترامب، تشهد حالة من الانعزال والانكفاء على الذات وترفع شعار “أميركا أولًا”. وفي المقابل أيضًا، كانت الصين وروسيا، قبل تفشي الوباء الجديد، تسعيان إلى بسط نفوذهما، خارج حدود دائرتي نفوذهما التقليدية، من خلال زيادة أنشطتهما في مناطق رمادية في كل من بحر جنوب الصين وأوكرانيا.
لقد مثَّلت هذه التغيُّرات، بالفعل، تراجعًا عن رؤية أميركا وحلفائها الرامية إلى تشكيل عالم تُدار فيه التوترات بين القوى العظمى وفقًا لموازين محدَّدة بحيث يتم احتواؤها في الوقت المناسب، بينما تظل فيه الهيمنة للقيادة الأميركية ولنفوذها الاستراتيجي.
وإذا كان كوفيد-19 يسرِّع من حدوث هذه التغييرات، عبر تضخيم شدتها، فسوف يكون العالم بعد انزياح جائحة كورونا أكثر حدَّة وأقدر على المنافسة؛ إذ سيكون اللاعب الرئيسي -أميركا- أقل تأثيرًا، وحيث تتعرض المؤسسات متعددة الأطراف بشكل متزايد لسيطرة القوى العظمى الأخرى -مثل روسيا والصين، وربما، الهند- التي تؤمن بالتسلسل الهرمي وليس بالمساواة بين القوى. ويرى المحللون أن القوى “الساعية إلى تعديل النظام الدولي” لم تحاول، حتى الآن، إعادة التوازن إلى النظام الدولي من خلال استغلال حالة التعطيل شبه الكامل للاقتصادات والمجتمعات الأوروبية والأميركية بسبب الوباء.
بالطبع، نحن ما زلنا في بواكير المرحلة الأولى لما قد يكون عملية تغيير، طويلة الأمد نسبيًّا، تستهدف ضرب النظام الدولي في الفترة القادمة. وتمثِّل الحملات الإعلامية والسياسية بين الولايات المتحدة والصين جزءًا من تجليات هذه المرحلة، ويُتوقَّع، في هذا السياق، أن تزدحم الأسابيع والأشهر المقبلة بسرديات صينية حول نجاحها في مواجهة الوباء ووقف تفشيه بفضل حنكة زعيم البلاد، ونهج الحزب الحاكم والتزام قياداته. هذا بالإضافة إلى توظيف المساعدات الصينية المقدمة لعدد من دول العالم “الغربي الديمقراطي” في كسب ودِّ المجتمعات وتغيير نظرتها النمطية إلى الصين، بل وربما حتى قبول سرديتها المشكِّكة في ظهور الفيروس في ووهان(16).
وفي سياق هذا الطرح، سيكون من السابق لأوانه التنبؤ بأن صدمة قصيرة الأمد للاقتصاد العالمي سوف تدفع الصين إلى الزعامة الإقليمية في قارة آسيا، التي تمثِّل العمق الاستراتيجي الطبيعي للصين، أو العالمية على المدى الطويل. فالتحالفات القائمة حاليًّا لا يبدو أنها على شفا تحوُّل كبير نتيجة للوباء. هذا مع ضرورة الاعتراف بأن التكهنات بمستقبل التحولات الاستراتيجية الكبرى للنظام الدولي في أعقاب الصدمات المفاجئة غالبًا ما تكون خاطئة.
قد تبدو حظوظ الصين في لعب دور أكبر في إقليمها ممكنة، على الرغم من معاناتها من عجز كبير في كسب ثقة جيرانها الآسيويين قبل اندلاع أزمة كورونا. ومع أن التنبؤات الواثقة من نجاح الهيمنة الصينية قد تكون سابقة لأوانها، إلا أن التهاون الأميركي، في قيادة العالم لمواجهة وباء كورونا، وعدم مبادرتها لمساعدة الديمقراطيات الآسيوية في ذلك، قد يزيد من حظوظ بكين في كسب مساحات أوسع من الثقة في سياستها الخارجية تجاه دول الجوار، ولو بحذر.
من جهة أخرى، قد يكون للتغيير الإيجابي في قرارات القيادة الأميركية في المستقبل القريب وعودتها إلى الساحة الدولية لتزعم الحرب على وباء كورونا، وإعادة إحياء العمل المشترك واستعادتها ثقة حلفائها، بالإضافة إلى ما قد تسفر عنه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، والنجاح الذي قد تحققه الأبحاث الرامية لإنتاج اللقاحات المضادة للفيروس… كل تلك العوامل يمكن أن تُغيِّر مجرى الأحداث بطرق مختلفة(17).
وتبرز هنا، وبناء على ما تقدَّم، ثلاثة سيناريوهات محتملة التوقع خلال السنوات القليلة المقبلة، وهي على النحو التالي:
السيناريو الأول: تصاعد المنافسة الاستراتيجية الصينية-الأميركية دون تغيرات كبرى
في مقال مشترك للباحثَيْن في الشؤون الآسيوية في معهد بروكينغز، رايان هاس (Ryan Hass) وكيفن دونغ (Kevin Dong)، اعتبرا أن حدة المنافسة بين واشنطن وبكين ستشتد في الفترة القادمة(18).
وأشار الباحثان إلى أن أقوى بلدين في العالم يخوضان حرب سرديات حول أسباب وباء كورونا، ويتبادلان اللوم فيما بينهما وتُحمِّل إحداهما الأخرى المسؤولية عن الدمار الذي يسببه الوباء في مختلف أنحاء العالم. وأضافا أنه من المرجح أن يؤدي هذا السِّجال إلى نتائج سلبية لكلا البلدين، وسيتسبب في زيادة التوترات في جميع أنحاء العالم، بما فيها قارة آسيا، بينما أظهرت أزمة كورونا مدى الحاجة إلى قيادة عالمية وإقليمية.
إن الترويج الرسمي الصيني والإيراني، والروسي إلى حدٍّ ما، لنظريات المؤامرة التي تَنْسُب الفيروس إلى الجيش الأميركي وتهاجم التحالفات والمعايير الديمقراطية الأميركية، عزَّزت من حالة انعدام الثقة، وغياب التعاون الدولي لمواجهة الوباء، وقد جاء موقف إدارة الرئيس، دونالد ترامب، تجاه منظمة الصحة العالمية واتهامها بالتواطؤ مع الصين لإخفاء معلومات حول ظهور الفيروس في وقت مبكر، هذا المتغير زاد من حدة الموقف بين القوتين الكبريين، وخلق سببًا آخر للتنافس الشرس بينهما، قد ينسحب على مجمل العلاقات الثنائية لاسيما الاقتصادية والتقنية.
من ناحية أخرى، قد تسعى إدارة جديدة في البيت الأبيض، أو مسؤولون كبار جدد في إدارة ترامب خلال فترة رئاسته الثانية، إلى إيجاد آليات أكبر للتعاون مع الصين ردًّا على كوفيد-19، إلا أنه قد يكون من الصعب عكس الانطباعات السائدة التي تكوَّنت في كلا البلدين خلال الأشهر الماضية.
من جهة أخرى، لم يكن أي حليف للولايات المتحدة مستعدًّا لدعم إصرار وزير الخارجية، مايك بومبيو، على إصدار مجموعة السبع (التي تضم كندا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان وبريطانيا، بالإضافة إلى أميركا) بيانًا مشتركًا يصف فيروس كورونا المستجد بـ”فيروس ووهان”، وفي ذلك مؤشر مبكر على أن الإدارة الأميركية تفتقر إلى دعم حلفائها في سعيها لإلقاء اللوم على الصين وعزلها، وذلك رغم تشكيك أولئك الحلفاء أيضًا في نوايا الصين. ومن اللافت للنظر أن مجلس الأمن القومي أنشأ خلية لمواجهة الدعاية الصينية ولكن ليس خلية للتنسيق مع الحلفاء بشأن التصدي للفيروس، كما حدث في مراكز الأمن القومي في عهد بوش وأوباما في ظل ظروف مماثلة.
ومع ذلك، فإن نَأْيَ حلفاء أميركا بأنفسهم عن مجاراة واشنطن، في تجريمها للصين بسبب تفشي وباء كورونا، لن يؤدي إلى انشقاقات من جانب الديمقراطيات الكبرى مثل اليابان أو كندا ويدفعها إلى الانحياز إلى معسكر بكين، إلا أنه سوف يضع دول جنوب شرق آسيا الأصغر حجمًا في موقف غير مريح على الإطلاق. فدول مثل إندونيسيا وفيتنام تريد تعميق الروابط الأمنية والاقتصادية مع الولايات المتحدة لتقوية موقفها ضد طموحات الهيمنة الصينية، لكن هذه الاستراتيجية لن تنجح إلا إذا كان هناك وضوح تام في سياسة واشنطن ورغبة صادقة في الوقوف إلى جانبها، غير أن اللهجة الجديدة في العلاقات الأميركية-الصينية قد تجعل هذا الأمر صعبًا للغاية، وستكون النتيجة النهائية حالة من التردد على مستوى الاصطفاف لدى دول آسيا، بالإضافة إلى تنامي مشاعر عدم الاستقرار وعدم اليقين بشأن نوايا أميركا، التي يمكن أن تسهِّل على بكين سعيها للعمل على تآكل العلاقات بين واشنطن وحلفائها تدريجيًّا.
السيناريو الثاني: عودة القيادة الأميركية إلى الواجهة
يرى أنصار هذا السيناريو أن من الحقائق الحاسمة التي افتقدتها الإدارة الأميركية الحالية، برئاسة دونالد ترامب، في مواجهة الجائحة هو القيادة الأميركية، التي كانت دائمًا سبَّاقة إلى بناء مؤسسات للتعاون وعملت على توفير المنافع العامة وليس مجرد إسقاط حكومات الدول “الخارجة عن وصايتها” أو تلك الطامحة إلى مشاركتها في الهيمنة.
لم تُظْهِر الإدارة الأميركية حتى الآن أية قيادة عالمية أو إقليمية في هذا السياق، وهو ما يتناقض مع الطريقة التي أنشأت بها إدارة بوش مجموعة “الرباعية” التي ضمَّت أميركا واليابان والهند وأستراليا لاحتواء آثار أزمة تسونامي عام 2004، أو الطرق التي أنشأت بها إدارتا بوش وأوباما مجموعة العشرين لإحباط النزعة الحمائية وتحسين التنسيق بعد أزمة عام 2008 المالية.
تجلَّى السلوك الأميركي الانعزالي بشكل أكبر في التعامل مع الحلفاء التقليديين في أوروبا؛ حيث لم تظهر أية معالم للتنسيق لمواجهة الوباء، ناهيك عن الدعم والمساندة للدول الموبوءة في القارة، بل تصرفت الولايات المتحدة بطريقة قد تبدو معاكسة تمامًا، فبدأ ترامب إجراءاته لمواجهة الوباء بوقف الرحلات الجوية مع أوروبا (باستثناء بريطانيا) من دون التشاور المسبق مع الأوروبيين، مما تسبب بارتباك مفاجئ في الأسواق الأوروبية وخسائر كبيرة للأسهم، كما أبدت واشنطن قدرًا كبيرًا من الأنانية في التعاطي مع الأجهزة والمعدات الخاصة بمواجهة الوباء أو البحوث الخاصة بإنتاج دواء ولقاح له.
نفس الشئ حصل في منطقة آسيا؛ حيث لواشنطن حلفاء كثر ومصالح ضخمة، لاسيما في مواجهة المجال الحيوي التقليدي للصين، وهناك لم تتخذ لا بكين ولا واشنطن، أية خطوات ملموسة لبناء هيكل مؤسسي جديد يكون هدفه الاستجابة لاحتواء الوباء أو معالجة تأثيره الاقتصادي.
هذا السلوك وضع القيادة الأميركية التقليدية على الطاولة، لكن في ظل غياب بدائل واقعية مقبولة، فإن حلفاء واشنطن، ما زالوا يثقون في مصداقية أميركا وأحقيتها بالقيادة، حتى عندما تفشل إدارة البيت الأبيض الحالية في ذلك. وسوف يضغط أولئك الحلفاء على واشنطن، بطرق هادئة، للبدء في بناء أنماط جديدة من التعاون في الأشهر والسنوات المقبلة لاستعادة دورها القيادي العالمي. وقد يتوقف الأمر على صيرورة الأحداث المقبلة وهوية الإدارة المقبلة في البيت الأبيض في انتخابات هذا العام.
السيناريو الثالث: التعاون الدولي وخفض التوترات بين القوى العالمية الكبرى
يشكِّل تفشي فيروس كورونا أزمة أشد حدة من أزمة فيروس سارس وأنفلونزا الطيور والإيبولا والكوليرا والملاريا، وغيرها من الأوبئة والأمراض الخطيرة التي أصابت مجتمعات واسعة عبر العالم على مدى العقود الماضية. غير أن آثاره المختلفة من المحتمل أن تكون أكثر تعقيدًا وأن تُحْدِث ضررًا بالغًا على الاقتصاد العالمي مما خلفته الأزمة المالية التي عصفت بالعالم عام 2008. فهذا الوباء أظهر بالفعل أن الكوارث الطبيعية لا تعترف بأي حدود، وقد جعل العالم يواجه تحديات يصعب التصدي لها بالسرعة المطلوبة، لاسيما بالنسبة للبلدان ذات البنية التحتية الضعيفة والبلدان التي لا تملك إمدادات طبية وليس لديها أدوات للوقاية والسيطرة على الأمراض. وتُقيَّم الخسائر في الأرواح والأضرار الاقتصادية التي لحقت بتلك البلدان حتى الآن بخمسة تريليونات دولار.
ويعتقد عدد من المحللين أن مواجهة هذه الجائحة يمكن أن تكون فرصة لإثبات صدق ونجاح تكاتف المجتمع الدولي، مؤكدين على ضرورة توفير الموارد المطلوبة، والانفتاح العالمي، والعمل الشاق بعيدًا عن الأيديولوجيات والخطوط الحمراء في العلاقات الدولية دون استقطاب أو انقسامات لا معنى لها لكثير من الدول الصغيرة، التي ترى في توحيد الجهود العالمية السبيل الوحيد للتخفيف والحدِّ من الأضرار الناجمة عن هذا المرض وإنقاذ الأرواح، فضلًا عن مواجهة ما يتصل بالآثار الصحية والاقتصادية والاجتماعية. وقد أدى الشعور بتعريض العالم للخطر والتهديد الجماعي؛ حيث لا يوجد فائزون ومهزومون في هذه الحالة ولا توجد دول صغيرة وأخرى كبيرة، إلى توحيد العالم في محطات تاريخية سابقة كثيرة، وهو ما يُبقي للبشرية الأمل في إمكانية التغلب على هذه الأزمة من خلال بذل الجهود المشتركة(19).
من جهته، يرجِّح الباحث المتخصص في الدراسات الآسيوية، مايكل غرين (Michael J. Green)، استبعاد تحقق سيناريو تُعزِّز فيه القوى الإقليمية المنافسة لأميركا مواقعها على حساب المركز: الصين في آسيا وروسيا في أوروبا الوسطى والشرقية وإيران في الخليج، ويؤكد غرين على أن انهيار الهيمنة الأميركية لن يحدث بسبب نوع تحركات القوة الناعمة، التي يزعم المحللون رؤيتها اليوم، مضيفًا أن هذا يشكِّل مستقبلًا مظلمًا على الرغم من أنه غير محتمل. وأوضح أن “هذا السيناريو يمكن تجنبه على أفضل وجه من خلال الاستيلاء على أفضل العناصر في السيناريوهين الأولَيْن: المنافسة الاستراتيجية المستنيرة المدعومة بتحركات استباقية مع الحلفاء لبناء قواعد تشمل الصين ولكنها تقيد طموحات بكين في الهيمنة القسرية”(20).
- آثار فيروس كورونا على الداخل الأميركي وبلدان أوروبا
ترك فيروس كورونا التاجي أثره على الساحة السياسية الأميركية الداخلية، وهو ما من شأنه زيادة الانقسام الداخلي، وبالتالي إضعاف التركيز على الدور الدولي لواشنطن.
أ- توظيف كورونا في السياسة الداخلية الأميركية
تمَّ إكساء فيروس كوفيد-19 طابع “السلاح السياسي” في الولايات المتحدة، وهو سلاح يُوظَّف بأقصى حدٍّ ممكن من قبل القوتين السياسيتين المتنافستين على الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالجمهوريون يهاجمون الديمقراطيين، ولا يدِّخرون أي جهد في تقريع المنافس الرئاسي الأبرز، جو بايدن، ويشهِّرون بابنه، هانتر بايدن، المقيم في أوكرانيا، مروِّجين أنه يرفض العودة إلى أميركا من أوكرانيا خوفًا من إصابته بالفيروس التاجي الجديد. في المقابل، هاجم عمدة مدينة نيويورك الديمقراطي، بيل دي بلاسيو، بشدة الإدارة الأميركية، قائلًا: إن الفيروس التاجي الجديد يقدِّم حجة جدِّية للحكومة لتأميم المصانع والقطاعات الصناعية الرئيسة المنخرطة مباشرة في مواجهة تفشي كوفيد-19، مضيفًا: “إننا في حالة حرب! أين أجهزة التنفس الصناعي الميكانيكية؟ أين تدخل الحكومة لتأمين أجهزة التنفس الصناعي اللازمة لمستشفياتنا؟ أين تدخل الحكومة لتأمين الأقنعة الواقية؟ نحن في وضع يستدعي تأميم المصانع والصناعات الرئيسية المعنية، أقصد تأميمها حرفيًّا!”. أما المرشحة السابقة، هيلاري كلينتون، فقد وجدت الفرصة مناسبة، بعد تقدُّم أميركا من حيث أعداد الحالات المصابة بالفيروس، للتهكم على الرئيس ترامب، وغرَّدت، في 28 مارس/آذار، على تويتر بلهجة منتقدة: “لقد وعد أن تكون أميركا أولًا”(21).
ولا تزال ردود الفعل والاتهامات تتوالى تباعًا، بين زعماء وأنصار الحزبين الأكبر، محمِّلين أحدهما الآخر مسؤولية تردِّي الوضع وخروجه عن السيطرة، وعين الجميع على كرسي الرئاسة والسباق المحموم نحوه. وقد كتب براين بنيت (Brian Bennett)، مراسل مجلة التايم المكلَّف بتغطية شؤون البيت الأبيض، موضحًا أن مستوى ونجاعة الاستجابة لإدارة الرئيس ترامب في مواجهة الأزمة الصحية، وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية مع امتداد حالة الإغلاق التي تشهدها البلاد، بالإضافة إلى تهاوي أسعار النفط -وسط تواصل تعثُّر مجموعة العشرين في التوصل إلى إقرار واضح بخفض إنتاجها والمدة المطلوبة لذلك- والتهديدات بالإفلاس التي تلاحق عددًا من الصناعات الكبرى، وتفشي البطالة… ستُمثِّل كل تلك العوامل المحكَّ الحقيقي لمستقبل ترامب الرئاسي، خاصة، والمستقبل السياسي للحزب الجمهوري عامة(22).
بالإضافة إلى ما سبق، غيَّر ظهور الفيروس خطاب المرشحيْن الرئيسيْن المتنافسين على كرسي رئاسة أميركا أيضًا. وبطريقة ما، عدَّل كوفيد-19 جدول أعمال الرؤساء المستقبليين المحتملين؛ فقد أصبحت “المسألة الصحية، والأمن الطبي للمواطن، والخطوات التي يتعيَّن اتخاذها للحد من الآثار الاقتصادية والمالية والنفسية للفيروس التاجي الجديد، أبرز العناوين الرئيسية للصراع السياسي”. وقد علَّق المرشح الديمقراطي، جو بايدن، على ذلك في صفحته الرسمية، قائلًا: “لقد كشف هذا الفيروس عن أوجه القصور الخطيرة في الإدارة الحالية”(23).
وبدوره، حذَّر المرشح السابق، بيرني ساندرز -الذي أعلن انسحابه من سباق ترشيح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية- من أنه إذا لم يتم اتخاذ تدابير عاجلة “فإن عدد الوفيات الناجمة عن الفيروس التاجي يمكن أن يكون أكبر من عدد عناصر الجيش الأميركي الذين قُتلوا خلال الحرب العالمية الثانية (…) لدينا إدارة غير كفؤة، وقلة كفاءتها وإهمالها يهدِّدان حياة الكثير من الناس في هذا البلد”(24).
ب- كورونا والتداعيات المحتملة على دول الاتحاد الأوروبي
في القارة الأوروبية، أظهرت أزمة تفشي وباء كوفيد-19 بكل وضوح، عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على إدارة حالات الأزمات المستعصية ذات الطابع الجماعي. فشلت هيئات الاتحاد، ولجانه المختلفة في التعامل الإيجابي مع الوباء منذ تفشيه في عدد من الدول الأوروبية وأبرزها إيطاليا، تاركة هذه الدول تتعامل مع الوضع فرادى وفقًا لإمكاناتها الذاتية، وفي معظم الأحيان تبيَّن أن هذه القدرات كانت ضعيفة وعاجزة عن وقف تفشي الوباء أو التعامل مع ارتفاع أعداد المصابين.
تحوَّلت أوروبا إلى بؤرة عالمية للوباء، وسجلت دولها أعلى حالات الإصابة والموت بسبب الوباء، وذلك قبل أن تصبح الولايات المتحدة لاحقًا البؤرة الأخطر عالميًّا للوباء. وخلال هذه المحنة المستمرة، ظهر الاتحاد الأوروبي كمؤسسة عاجزة وغير قادرة على توحيد جهود الأعضاء في مواجهة المرض.
خلال الأزمة تلقت إيطاليا مساعدات من روسيا والصين وتركيا وكوبا، لكنها لم تتلق دعمًا من شركائها الأوروبيين، حتى إن الصحف الإيطالية قالت: إن “أوروبا قبيحة”، ونقل دبلوماسي عن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تحذيره لزعماء الاتحاد الأوروبي بأن تفشي فيروس كورونا يهدد الدعائم الأساسية للاتحاد الأوروبي. ووفقًا للمصدر، فقد قال ماكرون لباقي قادة التكتل وعددهم 26 خلال مؤتمر صحفي عبر الهاتف: “المشروع الأوروبي معرض للخطر… التهديد الذي نواجهه هو القضاء على منطقة الشنغن”، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الفرنسية(25).
ويرى عدد من المراقبين أن من بين المفارقات الكثيرة التي تدعو إلى الحيرة، حقيقة عدم إجراء أي بحث جدي يتفق عليه أعضاء الاتحاد، وبالتالي لم يتم، حتى الآن، الاتفاق حول سبل لتنسيق الجهود الطبية أو الاقتصادية أو المالية أو النفسية على مستوى الاتحاد، رغم إقرار وزراء مالية دول الاتحاد، يوم 9 أبريل/نيسان 2020، خطة إنقاذ مالي ضخمة بخمسمئة مليار يورو.
من الملاحظ أيضًا، في هذا السياق، تزايد الأصوات المنتقدة لأداء وفعالية الاتحاد الأوروبي في مختلف وسائل الإعلام الأوروبية، بل وأيضًا ظهور تساؤلات عن جدوى البقاء داخل الاتحاد الأوروبي. وقد ذهبت بعض الصحف والدوائر السياسية والحزبية، اليمينية منها على وجه الخصوص، إلى وصف الاتحاد الأوروبي بالهيئة المشلولة المُثقلة ببيروقراطية ضخمة، بالإضافة إلى جمود مؤسساته وسياساته، وفقدان استراتيجياته للفعالية التي تتطلبها قوانين الألفية الجديدة.
هكذا يكون فيروس كوفيد-19 قد جاء ليُضيف همًّا آخر ويعمِّق حالة الشكِّ، القائمة أصلًا، حول جدوى استمرار الاتحاد الأوروبي ككتلة سياسية واقتصادية أوروبية موحَّدة. فبعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وظهور دعوات أخرى من أحزاب اليمين في بعض الدول الأعضاء في الاتحاد، ترى بعض الأوساط السياسية الغربية، وعدد من المعنيين بالشأن السياسي للاتحاد من مفكرين واستراتيجيين، بحسب ما نقلته صحيفة “لو سوار” البلجيكية، أن بداية نهاية هذا الكيان بدأت تلوح غير بعيدة في الأفق(26).
لقد بدت دول أوروبا الغربية ضعيفة جدًّا وتنكَّبت عن مسارها واستعصى عليها التعامل مع الوضع المستجد، وانحسر التضامن فيما بينها، مما قد يجعلها فريسة سهلة لكل أشكال المساومات التي قد تفرضها عليها بعض الجهات النافذة عالميًّا، والقوى العظمى.
ويرى منتقدو الاتحاد الأوروبي أنه برع في نظم الخطابات الرنانة وإطلاق الوعود الجوفاء، لكنه، في المقابل، أثبت أنه غير مستعد عمليًّا، وعاجز فعليًّا، عن مقارعة وباء كورونا وكبح جماح تداعياته الصحية والاجتماعية والاقتصادية المتزايدة. فمع بداية تفشي فيروس كوفيد-19، كانت جهود مؤسسات الاتحاد الأوروبي في مواجهة الوباء، وتقديم المساعدة المطلوبة للدول الأكثر تضررًا من الفيروس وفي مقدمتها إيطاليا وإسبانيا، بطيئة وغير فعَّالة؛ إذ لم يتمكن الاتحاد الأوروبي من حماية أي من الدول الأعضاء حماية جدية، فضلًا عن ذلك، ترك إيطاليا، “الرجل المريض” الرئيس في الاتحاد الأوروبي، وإسبانيا دون دعم(27).
نقل موقع “بوليتيكو” (Politico) الأميركي تحت عنوان “كونتي يحذِّر من انهيار الاتحاد الأوروبي على خلفية انهيار المحادثات المالية”، تصريحات منسوبة لرئيس الوزراء الإيطالي، جوسيبي كونتي، حذَّر فيها من انهيار كامل للاتحاد الأوروبي “في حال لم يعتمد الاتحاد تدابير قوية مرفقة بأدوات مالية مبتكرة وملائمة بالفعل لحرب يتوجب علينا خوضها معًا”(28).
- كورونا يسبِّب صدمة اقتصادية وعواقبه كارثية على الدول الهشَّة
تشير التحليلات إلى أن العام 2020 سيكون الأسوأ بالنسبة للاقتصاد العالمي منذ الكساد الكبير في عام 1929(29)، ويذهب عدد من المنظِّرين السياسيين والاقتصاديين والاستراتيجيين إلى أن العودة إلى الحالة الطبيعية، كما شهدها العالم في العقود المنصرمة، ستكون صعبة بعد تراجع أو تواري موجة الوباء، وستستمر حالة غياب الاستقرار والتذبذب وعدم اليقين لفترة أطول بكثير مما هو مقدَّر لها في الوقت الحاضر.
إن الدول التي تضرَّرت من زعزعة الاستقرار، الناجمة عن التدابير اليائسة والضرورية، التي اتخذتها حكومات بعض دول العالم للحد من مظاهر انتشار الوباء، سوف تصل إلى حدودها القصوى فيما يتعلق بقدرتها المالية والاقتصادية على البقاء على قيد الحياة.
ويبدو أن الخصومات السياسية بين الدول أو داخلها ستتسع بعد أن تنجلي هذه الأزمة. وسوف تتغير حكومات عديدة بين عشية وضحاها، وتتراكم ديون ضخمة في كل مكان نتيجة للتدابير الشعبوية المتخذة لإبقاء السياسيين في السلطة. وستجد أكثر البلدان تأثرًا بالفيروس نفسها مثقلة بالديون بما يتجاوز الحدود المفروضة حتى الآن للحفاظ على حالة الاستقرار.
أما الفجوة بين الأغنياء والفقراء فسوف تتَّسع أكثر مما هي عليه الآن بلا شك. وعلى الرغم من أن المنتفِعين الحقيقيين، نتيجة الفوضى الناجمة عن فيروس كوفيد-19، غير معروفين في الوقت الحالي، إلا أن أولئك الذين سيصبحون أكثر فقرًا معروفون بالفعل وهم الفئات الأكثر هشاشة من أصحاب الدخل المحدود، والعمال الموسميين، والأيدي العاملة المهاجرة رخيصة الثمن، وصغار الفلاحين، وأصحاب الصناعات التقليدية، بالإضافة إلى المحالين على التقاعد والأرامل والأيتام والمشردين بلا مأوى، والمعاقين، واللاجئين والنازحين الداخليين، وكل الأشخاص المعرضين للإصابات في حوادث طرقات أو أثناء النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية…(30).
- تداعيات فيروس كورونا على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تعرضت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى انتشار لفيروس كوفيد-19 بين المحدود إلى الواسع نسبيًّا، إلى حدِّ الآن. إلا أن آثار وتداعيات تفشي الفيروس قد تكون أكثر إيلامًا في منطقة يشهد عدد من دولها حروبًا وصراعات مسلحة، أو مظاهرات مناوئة للأنظمة، كل ذلك مصحوبًا بتفشي البطالة وضعف البنى التحتية الصحية والاقتصادية… وكانت إيران هي البؤرة الأساسية لانتشار المرض في عموم المنطقة، وسجلت أعلى أرقام الإصابات والوفيات.
وكررت الحكومة الإيرانية خلال الأزمة اتهام الولايات المتحدة بالتسبب بتفاقم الأزمة، لكن واشطن رفضت هذه الاتهامات مؤكدة أن العقوبات لا تشمل شراء إيران للمستلزمات الطبية. ولأول مرة منذ 60 عامًا تتقدم إيران بطلب قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 5 مليارات دولار. ويرى عدد من المتابعين للشؤون الإيرانية أن هذه الخطوة الأخيرة تعكس الخطر الذي تواجهه إيران في محاولتها دفع ثمن السلع المستوردة في وقت منعت فيه العقوبات الأميركية إلى حدٍّ كبير وصولها إلى العملات الأجنبية(31).
لم تؤثر الأزمة على طبيعة السياسات الإيرانية الإقليمية، لكنها جعلت السلطات أكثر قدرة على السيطرة على الشارع، كما أن العلاقات المتوترة بين إيران ودول خليجية لم تتحسن تحت ضرورة الحاجة للتعاون الإقليمي لواجهة الوباء.
عربيًّا، لم يضرب المرض الدول العربية بقوة، واتُّخذت إجراءات قوية -وإن كانت متباينة- في عموم هذه الدول لمواجهة الوباء وتطبيق سياسات الإغلاق والتباعد الاجتماعي والحجر المنزلي وأحيانًا حظر التجول، لكن المخاوف تظل قائمة من تفشي المرض في بعض الدول لاسيما تلك التي تشهد ضعفًا أمنيًّا وانتشارًا لمخيمات اللاجئين فضلًا عن أن هذه الدول عمومًا تفتقر إلى منظومة صحية قوية قادرة على احتواء المرض(32).
وقد تسبب الوباء في أضرار كبيرة للدول العربية النفطية بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط، والانخفاض الضخم في المداخيل المالية، وهو ما سيزيد من التداعيات المتوقعة للوباء حتى في حال استمرار معدلات التفشي بمعدلات متوسطة وقابلة للسيطرة.
ويطرح تراجع أسعار النفط مشكلة بالنسبة لجميع دول مجلس التعاون الخليجي، التي تعتمد على عائدات الطاقة بشكل كبير في إعداد ميزانياتها. ويزداد وضع مملكة البحرين وسلطنة عُمان سوءًا، خاصة وأن ماليتهما العامة تعانيان من حالة تدهور. لم تعلن المنامة ومسقط عن تقديم حزم تحفيز مالي للتغلب على الأزمة، على غرار دولة قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي خصصت حزم مساعدة بمليارات الدولارات لدعم الشركات الخاصة.
وفي شمال إفريقيا، لا يزال أثر فيروس كوفيد-19، حتى الآن، محدودًا إلى حدٍّ ما، خاصة أن الدول هناك بادرت إلى اتخاذ تدابير صارمة لاحتواء الفيروس. ومع ذلك، فإن هذه البلدان لديها عمومًا أنظمة رعاية صحية هشة قد تجد صعوبات جمَّة في التعامل مع انتشار الفيروس. على المدى الطويل، من المرجح أن تكون أخطر الآثار المترتبة على ذلك في شمال إفريقيا اقتصادية، نظرًا لأن المنطقة تعتمد على التجارة والسياحة، وتكافح أزمة البطالة بين الشباب على نطاق واسع.
وزادت مخاوف تأثير الوباء على الدول التي تشهد نزاعات عسكرية، مثل: ليبيا واليمن؛ إذ تمثِّل سببًا مباشرًا لمنع أي محاولات للتصدي للوباء في حال تفشيه، هذا عدا عن كون البلدين يشهدان وجود مئات الآلاف من النازحين واللاجئين سواء الفارين من الحرب في مناطقهم في البلدين، أو اللاجئين من القرن الإفريقي بالنسبة لليمن أو من جنوب الصحراء بالنسبة لليبيا.
وقد تسبب انتشار كوفيد-19 في انحسار أو تعليق حركة الاحتجاجات الشعبية الواسعة ضد النظم الحاكمة في ثلاثة بلدان عربية، هي: الجزائر والعراق ولبنان. ويؤكد منظمو الاحتجاجات أن التعليق مؤقت ومرتبط بقرارات اتخذها المنظمون توخيًا لمنع تفشي الوباء بين المحتجين، وتعهدوا بعودة الاحتجاجات بعد انتهاء موجات الوباء.
يُخشى من أن ما حققته السلطات التنفيذية في جلِّ بلدان العالم باستخدام وتوظيف وباء كوفيد-19، باعتباره سلاحًا أجبر الجميع على الخضوع له، قد يُغري الحكومات بإعادة اللجوء إليه وتكرار هذا السيناريو بشكل حرفي في قادم السنوات. فجدوى حالة الذعر وإشاعة الخوف وتخيير المجتمعات بين الخضوع إلى تدابير الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي والإغلاقات الواسعة لأهم مناشط الحياة أو الموت بعد المعاناة…تبدو طريقة عملية جدًّا ومفيدة لكل الفاسدين سياسيًّا واقتصاديًّا ولأصحاب التطلعات في السيطرة على المجتمعات وإخضاعها.
من المرجح رؤية كل الإجراءات المقيِّدة للحريات العامة والخاصة، المتخذة حاليًّا، والتي تمنح السلطات التنفيذية صلاحيات واسعة للغاية في ظل تفاقم أزمة فيروس كورونا، يتمُّ توظيفها في المستقبل لمواجهة مختلف الأزمات الداخلية الحادة.
لقد شكَّلت حالة الطوارئ الناجمة عن انتشار فيروس كورونا، وما رافقها من التغيرات على طفرته والآثار المحتملة والمخاطر المنسوبة إلى كوفيد-19 تمرينًا مثاليًّا للاستخدام المستهدف للقوة الإعلامية، وهذا ما يثير قلقًا جديًّا وقد يحتاج إلى سنوات من الدراسة والتحليل للوقوف على تداعياته على مستقبل وسائل الإعلام، الرسمية منها والخاصة. كما ستكشف الدراسات المستقبلية، إذا ما كانت جدية ومهنية وموضوعية ونزيهة، عن الأجندات الخفية وطرق التوجيه، التي مكَّنت صانعي القرار من استخدام وتوظيف وسائل الإعلام للحفاظ على حالة الذعر، وعزل الأشخاص الذين يعتبرون خطرين، وللتلاعب بالمجتمع لصالح أصحاب المصلحة وصانعي القرار سياسيًّا أو اقتصاديًّا وماليًّا.
قد لا يكون مستبعدًا إذن أن يُعاد تكريس هذا السيناريو مستقبلًا عند الحاجة… فالسلطات الصينية، على سبيل المثال، استخدمت ووظَّفت الوضع الذي كانت فيه البلاد عند تفشي الوباء، إلى الحد الأقصى، وتمكنت من القضاء على الاحتجاجات المحلية التي كانت تشهد تصعيدًا يُنذر بالخطر ضد الحكومة، وأسكتت المحتجين العنيدين في هونغ كونغ. أما على مستوى ما حققته الصين من مكاسب مادية واقتصادية، فيدلُّ عليه استحواذها على الآلاف من الاستثمارات الغربية، الموجودة على أراضيها، مقابل أثمان زهيدة بعد أن بادر مالكوها والمساهمون فيها إلى التخلُّص منها خوفًا من تداعيات فيروس كوفيد-19.
المراجع
(1) Richard Baldwin, Beatrice Weder di Mauro, Economics in the time of COVID-19 (London: Centre for Economic Policy Research, 2020), “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3bs1rkk.
(2) Laurence Boone, “Coronavirus: The world economy at risk,” OECD, March 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2wPk82e.
(3) Michel Duclos, “Is COVID-19 a Geopolitical Game-Changer?,” institutmontaigne, March 24, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3ahTTze.
(4) Sven Biscop, “Coronavirus and Power: The Impact on International Politics,” egmontinstitute, March 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VkEtG4.
(5) Allan Gyngell, “Australia in a post-COVID-19 world,” eastasiaforum, March 29, 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2z83Ylk.
(6) Henry A. Kissinger, “The Coronavirus Pandemic Will Forever Alter the World Order,” WSJ, April 3, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://on.wsj.com/2VLTdgt.
(7) Ian Proctor, “Why the Suez crisis is so important?,” Imperial War Museum, June 21, 2018. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3arf55L.
(8) Parag Khanna, “Echoes of Suez, 1956: Will China shove aside America?,” The Hill, April 26, 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2XQUS78.
(9) John Allen et al., “How the World Will Look After the Coronavirus Pandemic: The pandemic will change the world forever: We asked 12 leading global thinkers for their predictions,” FP, March 20, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VnfTV3.
(10) Tom Porter, “Trump threatened to cut off funding to WHO, saying it seems to ‘err always on the side of China’ even though ‘we fund it’,” Business Insider, April 8, 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VVH2xJ.
(11) “The Coronavirus Pandemic Will Forever Alter the World Order,” op cit, 3.
(12) Kurt M. Campbell and Rush Doshi, “The Coronavirus Could Reshape Global Order: China Is Maneuvering for International Leadership as the United States Falters,” foreignaffairs, March 18, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://fam.ag/2VNThMK.
(13) Lily Kuo, “China sends doctors and masks overseas as domestic coronavirus infections drop,” theguardian, March 19, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3aoLXvY.
(14) Mitt Romney, “Will China become the world’s sole superpower?,” Remarks at the International Democrat Union (IDU) Forum, December 5, 2019. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3ezr0lx.
(15) Richard Haass, “The Pandemic Will Accelerate History Rather Than Reshape It. -Not Every Crisis Is a Turning Point,” FP, April 7, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://fam.ag/2VnuVdw.
(16) Salvatore Babones, “The ‘Chinese Virus’ Spread Along the New Silk Road -Western democracies may lose the coronavirus propaganda war, but China certainly won’t win it,” FP, April 6, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2Vm9R7j.
(17) Joseph Nye, “Why the Coronavirus Is Making U.S.-China Relations Worse -Washington and Beijing should compete but also need each other on transnational threats,” nationalinterest, April 3, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2RTSRDj.
(18) Ryan Hass and Kevin Dong, “The US, China and Asia after the pandemic: more, not less, tension,” Brookings, April 1, 2020, “accessed April 8, 2020”. https://brook.gs/2yv5i1i.
(19) Sudarsan Raghavan et al., “As coronavirus layoffs surge in richer countries, poorer ones lose vital remittance payments. WP, April 7, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://wapo.st/34MLBhM.
(20) Michael J. Green, “Geopolitical Scenarios for Asia after COVID-19,” CSIS, March 31, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VlXiJ1.
(21) Hillary Clinton, Twitter, March 27, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VDvpLw.
(22) Brian Bennett, “Why Coronavirus May Be the Biggest Threat Yet to Donald Trump’s Re-Election,” TIME, March 10, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VnfQc4.
(23) The Biden Plan to Combat Coronavirus (COVID-19) and Prepare for Future Global Health Threats,” joebiden, March 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3ev0Ccx.
(24) Sydney Ember, “As Coronavirus Crisis Unfolds, Sanders Sees a Moment That Matches His Ideas,” NYT, March 26, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://nyti.ms/34OCHAh.
(25) Lauren Chadwick, “The future of the European project is at stake: EU in crosshairs of coronavirus pandemic,” euronews, March 27, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3amGAO3.
(26) Maxime Biermé and Marine Buisson, “Coronavirus: comment l’extrême droite instrumentalise la crise sanitaire,” Le Soir April 1, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/34Rew4o.
(27) “Coronavirus : “L’Union européenne n’a pas fait son travail”, “on aurait dû aider l’Italie”, francetvinfo, March 12, 2020, “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VlvZhU.
(28) chigi Palace, “Italy’s Conte warns of EU collapse ahead of crucial financial talks,” Politico, April 9, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://politi.co/2Ki8UGT.
(29) Henry Farrell, “A Most Lonely Union: The EU is a creature of multilateralism. Can it survive in a deglobalized world?,” FP, April 3, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/2VkBDB6.
(30) Audrey Wilson, “The Coronavirus Threatens Some More than Others- Refugees, migrant laborers, and the global poor are especially susceptible to the pandemic. There is little time to bridge the gap between haves and have-nots,” FP, April 14, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3ey0BV3.
(31) Najmeh Bozorgmehr, “Iran asks IMF for $5bn to fight coronavirus- Tehran fears US could seek to block funding,” FT, March 12, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://on.ft.com/2VJSLiy.
(32) James M. Dorsey, “Coronavirus and the Middle East- Lessons not learned and opportunities missed- A roadmap to political and societal dysfunction,” The globalist, March 16, 2020. “accessed April 8, 2020”. https://bit.ly/3bzyjYF.