ملخص:
تعالج الدراسة أبعاد الأزمة الحالية في اليمن، والتي تتحكَّم فيها عوامل داخلية وفاعلون خارجيون، وترى أن مشاكل اليمن مركَّبة تزيد من تعقيد الوضع محليًّا وإقليميًّا؛ فإضافة إلى معاناة البلد من أزمة إنسانية غير مسبوقة يجد اليمن نفسه اليوم أمام صعود مُعطى وافدٍ ومستجدٍّ وهو الطائفية. ويهدف البحث إلى معرفة مستقبل اليمن في ظل غياب رؤى واضحة للأطراف الفاعلة لإدارة الأزمة اليمنية سياسيًّا وعسكريًّا.
كلمات مفتاحية: اليمن، الأزمة الإنسانية، القبيلة، الطائفية، الفاعلون الخارجيون.
Abstract:
This study highlights that the ongoing crisis in Yemen is governed by internal and external actors, and that Yemen’s problems are multifaceted. Besides an unprecedented humanitarian crisis, Yemen faces sectarianism. The study also aims to foreshadow Yemen’s future in the absence of clear visions among the main actors to manage the Yemeni crisis, both politically and militarily.
Keywords: Yemen, Humanitarian Crisis, Tribe, Sectarianism, External Actors.
مقدمة
واجه علي عبد الله صالح، الذي دامت فترة حكمه 33 عامًا، عديد الاتهامات في طريقة تسيير نظامه؛ حيث تعمَّد اختيار معارضيه ووضعهم في مواجهة بعضهم البعض، كما استغل المصالح الخارجية لصالحه، ونجح في التغلب على المبعوثين الأجانب بإحكام قبضته على ديناميات المحسوبية في الداخل، ومع ذلك أخذ التوازن السياسي يُفلِت من سيطرة علي عبد الله صالح خلال العقد الأول من القرن 21، على وقْع إعادة توزيع المقدرات العسكرية والاقتصادية لفائدة نجله، أحمد علي، ما اعتُبر مساسًا باتفاق تقاسم السلطة بين النخب.
راهن علي عبد الله صالح في حكمه على تقاسم مبيعات النفط الخام، مُوَظِّفًا في بعض الأحيان قنوات غير رسمية، ومع بلوغ مبيعات النفط اليمني ذروتها، عام 2002، برز نزاع النخب حول العوائد، وأصبحت شبكة الرعاية التي يُديرها صالح غير مستدامة؛ ما جعل قطاعًا عريضًا من الشعب اليمني يفقد ثقته في النظام، وكانت ثمة رسائل قوية عن الإقصاء السياسي وغياب العدالة الاجتماعية لتنفجر الأوضاع عام 2011 تزامنًا مع انتفاضات الربيع العربي؛ حيث وقف اليمنيون على سوء تسيير أصول الدولة الذي استمر لثلاثة عقود، دفعتِ اليمن إلى الوقوف على الجهة الخطأ في الجدول الدوري لتطور البشرية، وأصبح قرينًا بدول جنوب الصحراء في مؤشرات التنمية عبر معدلات الجوع المرتفعة وموت الأطفال حديثي الولادة، وما زاد في ثقل كاهل المجتمع والدولة هو أن ثلاثة أرباع السكان دون سنِّ 25 عامًا تنتشر البطالة بينهم.
وفي أعقاب الربيع العربي استبعد دبلوماسيون تحوُّل اليمن إلى ساحة غير مستقرة، لكن خروج الحوثيين من الجبال الشمالية عام 2014 واجتياحهم العاصمة، صنعاء، وفرار الرئيس، عبد ربه منصور هادي، وما تبع ذلك من تدخل قوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية؛ جعل اليمن محور مناكفات طائفية وإقليمية معقدة؛ بين بناءٍ أوَّلي لنظام حكم ثيوقراطي يتبنَّاه الشيعة الزيديون الذين سيطروا على مرتفعات الشمال لأزيد من ألف سنة، ويتقاطعون أيديولوجيًّا وعقائديًّا مع الشيعة الاثني عشرية المنتشرة في إيران، وبين السعودية المنافس الإقليمي لإيران، والتي تدافع باستمرار عن الأهمية الجيوستراتيجية لليمن وعن حقوق السنَّة الشافعيين. وعليه، نتساءل: إلى أي حدٍّ تُسهِم الانقسامات الطائفية والقبلية وتشابك المصالح الإقليمية المتضاربة في توجيه المشهد اليمني نحو مزيدٍ من الحرب أو بعضٍ من السلام؟
يقود هذا السؤال الإشكالي إلى طرح الفرضية الآتية التي تستدعي أبعاد الأزمة التحقق من صحتها: بقدر ما أدت التدخلات الإقليمية في اليمن إلى تَرَدٍّ غير مسبوق للأوضاع الإنسانية (أكثر من عشرة آلاف قتيل بين عامي 2015 و2017 حسب منظمة الأمم المتحدة) بقدر ما تَعاضَدَ ذلك مع نشوء ظاهرة الطائفية كمعطى وافد ودخيل ومستجد على البيئة السوسيوسياسية في اليمن.
واعتمادًا، بالخصوص، على المنهجين، الوصفي التحليلي والمقارن، يسعى البحث إلى معالجة الإشكالية والفرضية السابقتين عبر الربط بين الأهمية الجيوبوليتيكية لليمن والأهداف الاستراتيجية المتضاربة للقوى الإقليمية، مع بروز ضرورة إبستمولوجية للإقرار بأن أدوار الأحزاب والجيش والإعلام والرأي العام، تحظى بأهمية لا تقل عن أهمية المؤثرات الداخلية الأكثر نفوذًا في اليمن، وهي القبيلة والطائفية المستجدة، غير أن الإفراز الأبرز لهذا التآزر بين ما هو خارجي وما هو داخلي تجسَّد في مأساة إنسانية خطيرة تناقضت مع طبيعة التسامي التي ترتبط عادة بادِّعاءات التدخل الأجنبي، وطرحت بدورها سلسلة من السيناريوهات عن مستقبل اليمن.
- الأهمية الجيوبوليتيكية لليمن
يقع اليمن في جنوب غرب آسيا، وتحديدًا في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، وتحدُّه شمالًا المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلامس معظم حدود الدولتين ضمن الصحراء الكبرى أو الربع الخالي، وإلى غاية “معاهدة جدة 2000” لم يكن هناك ترسيم لهذه الحدود بين البلدين، وتحدُّه من الشرق سلطنة عُمان التي اتُّفِق على الحدود معها عام 1992. أما من الجنوب فيحدُّ اليمن خليج عدن وبحر العرب، في حين يحدُّه البحر الأحمر من ناحية الغرب. وينتشر في المياه اليمنية الإقليمية عدد مُعْتَبَر من الجزر، منها مجموعة جزر كمران في البحر الأحمر بالقرب من الحُدَيْدَة وجزر حنيش جنوب البحر الأحمر، وجزر بريم داخل مضيق باب المندب الذي يفصل بين شبه الجزيرة العربية وإفريقيا، في حين أن أهم وأكبر الجزر هي سُقطرى التي تقع بالقرب من خليج عدن(1).
خريطة رقم (1) تبرز التقسيم الإداري للجمهورية اليمنية(2)
تبلغ مساحة اليمن 555 ألف كيلومتر مربع، ويتجاوز عدد سكانه 27 مليون نسمة(3)، وأُشيرَ إلى غنى البلد بالثروات المعدنية والنفطية التي تمَّ الشروع في استغلالها، وقد نشر المهندس الفرنسي، أندريه غورلان (André Gourlin)، الذي أقام في اليمن لفترة معتبرة، عددًا من المقالات الموجزة التي تشير إلى بلد يمتلك إمكانيات اقتصادية ضخمة، كما قدَّم فريق من منظمة الأغذية والزراعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، سنة 1956، إحصائيات عن إمكانيات هائلة وتوصيات بخصوص توسيع القاعدة الزراعية واستثمار الثروة السمكية وتطوير البنى التحتية وتصنيع الثروات المعدنية والاستفادة من المواد الأولية لتدعيم الميزان التجاري، كما اهتمت ذات البعثة بمعالجة مشكلات تحسين طرق تربية حيوانات الفرو على أساس أن تصدير الجلود اليمنية أتى في المرتبة الثانية في قائمة صادرات اليمن بعد البُنِّ(4).
ويُشرف اليمن على ثلاثة مسطحات مائية؛ البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب، ويمثِّل مضيق باب المندب المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وهو ممرٌّ مائي يَصِل بين المحيط الهندي والبحر المتوسط عبر البحر الأحمر ثم قناة السويس، وما زاد من اتساع مزايا اليمن وقوعه على شرايين التجارة العالمية؛ إذ يمثِّل صِلةَ وصلٍ بين نفط العرب والصناعة الغربية، وتمرُّ عبر مضيق باب المندب ما نسبته 38% من النفط المستورد من الولايات المتحدة الأميركية و60% من نفط أوروبا. من جانب آخر، يُصنَّف ميناء عدن كأفضل موانئ الساحل الجنوبي نظرًا لتموقعه في خليجٍ عميقٍ شبه مغلقٍ بمخروطين بركانيين، تحميه الجبال شرقًا وجنوبًا من الرياح الموسمية؛ ويشار كذلك إلى أن اليابان وأوروبا تعتمدان بصورة كبيرة على البحر الأحمر وبحر العرب للنقل البحري للبترول، كما أن البحر الأحمر يمتاز عن نظيره، البحر المتوسط، بأنه منطقة مائية مفتوحة تتيسَّر فيها الحركة والمناورة، ما خوَّله أن يكون مكانًا جيدًا للقواعد والأساطيل البحرية(5).
- جذور الأزمة وإرث الماضي الثقيل
إنَّ تشكُّل اليمن كفكرة كان سابقًا على نشوء مفهوم الدولة الوستفالية؛ ورغم عدم وجود حدود مستقرة وتعريف دقيق إلا أن التجار العرب كانوا يشيرون بالفعل إلى كيان جغرافي مميز(6)؛ فقد ذكر أبو عبد الله البخاري أن البلد سُمِّي باليمن، لأنه يقع على يمين الكعبة المشرفة، وقد دوَّن البخاري كذلك مدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأهل اليمن “الإيمانُ يمانٍ والحكمة يمانية”(7).
وعقب انتشار الدعوة المحمدية، استوطن الزيديون المرتفعات الشمالية في اليمن، وإضافة لاستقائهم شرعية حكمهم من الدفاع عن خط النسب أو السلالة، فقد آمنوا كذلك بمعتقد “الخروج” ضد الاضطهاد، خصوصًا خلال فترات سوء الحكم أو سيطرة سلطة جائرة. وبحسب عالم الأنثروبولوجيا، بول دريش (Paul Dresch)، فإن سلالة القاسمي كان لها الفضل في إرساء معالم أول نظام سياسي شمال اليمن(8).
تاريخيًّا؛ يُنظر إلى اليمن على أنه يتشكَّل من حاضرتين جغرافيتين: الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن)، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن)، وقد خضع الجزء الشمالي لسيطرة العثمانيين إلى غاية 1918؛ حيث تولَّى الإمام يحيى، زعيم الطائفة الزيدية، السلطة، وبعد اغتياله، عام 1948، خلفه ابنه الإمام أحمد الذي حكم حتى وفاته عام 1962، وفي ذات السنة تمت الإطاحة بحكم الإمامة عبر انقلاب قاده ضباط الجيش الذين أعلنوا قيام نظام حكم جمهوري. أما الجزء الجنوبي فقد استولى فيه الشيوعيون على السلطة عقب انسحاب بريطانيا عام 1967، وبعد سنوات من العداء بين الطرفين ووساطة جامعة الدول العربية لوقف إطلاق النار، تم إعلان اليمن جمهورية موحَّدة، في 22 مايو/أيار 1990، وتنصيب علي عبد الله صالح كأول رئيس لها(9).
ويجد النزاع الحالي في اليمن جذورًا له في تركة الماضي؛ فالدولة لم تكن لها القدرة الكافية لضمان الولاء في ظل تشرذم قَبَلِي وهوياتي، كما أن اليمن -الذي يُعَدُّ أفقر دولة في شبه الجزيرة العربية- محاط بدول الخليج الغنية بالنفط، وهو ما جعله عرضة لموجات متتالية من التدخلات الأجنبية. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي، كان مؤيدو الثورة مدعومين من مصر، في حين كانت هناك قوى مؤيدة للملكية تدعمها المملكة العربية السعودية؛ لذلك من الواضح أن الوضع في اليمن قبل وبعد استيلاء الحوثيين على العاصمة، صنعاء، في سبتمبر/أيلول 2014، ما هو إلا استمرار لديناميات الصراع شمال-جنوب قبل اندماجهما عام 1990(10).
تقليديًّا، يوصف اليمن بأنه مجتمع قبلي؛ حيث تؤدي الولاءات القبلية وعلاقات القبائل وقاداتها دورًا حاسمًا في السياسات المحلية، أما التوجُّهات الطائفية فقد كانت محصورة في دوائر سياسية مغلقة، ويُشار عادة إلى حركة أنصار الله (الحوثيين) التي تأسست كحركة دينية وسياسية أوائل التسعينات في محافظة صعدة، وانخرطت في أنشطة مسلحة تستهدف قوات الأمن، إلا أن الانقسامات الطائفية بدأت تتجلى بشكل أكثر وضوحًا مع بداية الاحتجاجات عام 2011؛ حيث عمد بعض الجماعات إلى جذب الأفراد للقتال ضد جماعات أخرى، وشرع هؤلاء في تعريف ذواتهم على أساس انتماءاتهم الطائفية(11).
- خريطة الانقسامات الطائفية والقبلية
يرزح اليمن تحت وطأة الانقسامات الطائفية والقبلية؛ حيث تُمثِّل الأولى الدافع الأيديولوجي أو الفكري للانقسام، فيما تُغَذِّي القبلية الجانب الانتمائي والعصبي الضيق على حساب البُعد القومي الأوسع أو الولاء الوطني للأمة اليمنية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال هذه الأبعاد.
أولًا: تشريح الطائفية
يشير فالي نصر (Vali R. Nasr) إلى أن الطائفية جرح قديم في المنطقة أُعِيد فتحه بفعل رغبة شعبية في الديمقراطية والكرامة والوحدة الوطنية، وأن انسحاب المبعوثين العرب من سوريا وادِّعاءات المملكة العربية السعودية بوجود أطماع إيرانية في اليمن واعتبارها البحرين خطًّا أحمر، تحمل دلالات عن مواجهة طائفية قادمة في المنطقة(12)، أما دانيال بيمان (Daniel Byman)، فيؤكد أن الطائفية نتيجة ثانوية مريرة للربيع العربي، فقد فتح انهيار الحكومات في الشرق الأوسط المجال للشوفينيات الدينية للقيام بدور أكثر نفوذًا، وسهَّل ذلك انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتمكين الرسائل الطائفية من الوصول إلى أكبر قدر ممكن(13).
تُسْهِم الحالة الطائفية في انحباس الأزمات السياسية، وهي من أصعب الأوضاع التي تُجابِهها الدولة والمجتمع، فالأوضاع تبدو جدَّ معقدة لا هي متحركة نحو الأمام، ولا هي متغيرة لفتح آفاق جديدة، وتزداد الأوضاع تأزمًا عند تداخل الداخل الوطني المتعدد بالضغط الدولي والخارج الإقليمي المؤثر، لاسيما إذا ناضل كل طرف من الداخل لتحقيق أجندته الخاصة التي تصطدم حتمًا باستراتيجيات الأطراف الأخرى(14).
ولم يكن اليمن عبر تاريخه بمنأى عن الدعوات الطائفية؛ إذ تزخر كتب التراث اليمني بصور شتى من التعصب وأحداث التضييق والعنف، وحروب واسعة بين دول الفرق والطوائف الدينية، مثل: الخوارج والقرامطة والإسماعيلية، وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة الزيدية في اليمن الشمالي قبل الوحدة كانت تصل إلى 35%، أما نسبة الإسماعيلية فهي لا تتجاوز 0.2%، في حين يُعتبر المكوِّن السُّنِّي، المنتسب للمذهب الشافعي، هو الأكثر انتشارًا(15).
تاريخيًّا، عُرف عن محافظة صعدة أنها المعقل التاريخي للحوثيين؛ حيث سادت أحكام فقهية زيدية متشددة، لدرجة أن الإمام المتوكل، إسماعيل بن القاسم، منع، في القرن السابع عشر، زواج الفاطميات من الرجل العربي، وهي الأحكام التي لاقتْ معارضة شديدة من الفقيه الزيدي، صالح بن مهدي المقبلي(16). وفي الوقت الحالي، وداخل قرية دَمَّاج التابعة لهذه المحافظة، ارتسمت معالم صراع طائفي لاح في الأفق؛ صراع قديم يتجدَّد بين الأصل والمتحول، أي بين الزيدية والسُّنِّية، وهذه المرة بظهور شخصية مقبل بن هادي الوادعي الذي أسَّس دار الحديث السلفية متحديًا العادات والتقاليد التي صاحبت المذهب الزيدي. وفي مقابل انتشار المد السلفي أنشأ الحوثيون حركة ثقافية عُرفت بـ”الشباب المؤمن”، أما على الصعيد السياسي والحركي فقد اختار الحوثيون لأنفسهم اسم “أنصار الله”، في مقاربة لفظية وتوظيفية لـ”حزب الله” في لبنان، على الرغم من محاكاةٍ ظاهرةٍ في التسمية لـ”أنصار الشريعة” فرع تنظيم القاعدة، والتي يعتبرها الحوثيون حركة ذات توجُّهات تكفيرية(17).
لقد استقرَّ الشافعيون السُّنَّة في ما يُعرف باليمن السفلي، بما في ذلك مناطق تِهامة والسهل الساحلي الجنوبي، وقامت هذه الأقاليم على نظام القرى الصغيرة التي تعتمد على البنى القبلية وعلاقات المالك والمستأجر، ونظرًا لطبيعة التضاريس غير المحصنة والهياكل الاجتماعية والاقتصادية غير المتماسكة فقد كان اليمن السفلي وشعوبه أكثر عرضة للهيمنة الخارجية. أما الزيديون الشيعة فقد استوطنوا الأراضي الجافة في المرتفعات، وكانت هناك عمليات هجرة مستمرة من الأراضي الفقيرة إلى نظيراتها الغنية في الجنوب والغرب، وهو ما ضاعف -حسب كريستوفر وارد (Christopher Ward)- من أزمات إدارة ندرة الموارد الحيوية، وفي مقدِّمتها معالجة معضلة المياه النادرة في اليمن، والتي لم تنجُ هي الأخرى من أن تصطبغ بلون طائفي(18).
إلى غاية بدايات سنة 2017، بقيت القوات الحوثية مسيطرة على مساحات كبيرة من أراضي اليمن، في مقابل مساحات أقل حجمًا سيطر عليها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية، والذي وجَّه سهامه للمحافظات الجنوبية، خاصة أبْيَن والمكلا عاصمة حضرموت، وفي أبريل/نيسان 2016، قادت الإمارات قوة مقاتلة يمنية لاستعادة المكلا(19)؛ وتمثِّل الخريطة الآتية السيطرة الإقليمية للمجموعات المسلحة في اليمن اعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2017.
خريطة رقم (2) توضح السيطرة الإقليمية للمجموعات المسلحة في اليمن
اعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2017(20)
مواقع تسيطر عليها القوات الحكومية ولجان المقاومة الشعبية والحلفاء القبليون.
مناطق تسيطر عليها قوات الحوثي وقوات الحكومة السابقة.
مناطق يسيطر عليها تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
جيوب الحراك الجنوبي ولجان المقاومة الجنوبية المدعومة من التحالف العربي.
جرى توظيف الإنترنت بشكل مؤثر لنقل الخطاب الطائفي في حرب اليمن؛ حيث اتضح -من خلال تحليل أكثر من 7 ملايين تغريدة عربية بين فبراير/شباط وأغسطس/آب 2015- أن منصات شبكات التواصل الاجتماعي أدَّت دورًا محوريًّا في تغذية الأحداث العنيفة(21). ففي أعقاب عملية عاصفة الحزم ارتفعت التغريدات التي تحتوي على محتوى مناهض للشيعة بشكل دراماتيكي، وكان الهاشتاغ العربي الأكثر استخدامًا خلال الفترة السابقة: #المملكة العربية السعودية، #عاصفة الحزم، #اليمن، #إيران، #الحوثيين؛ وقد جرى إعادة تغريدة #العربية السعودية لوحدها أكثر من 1.4 مليون مرة(22).
ثانيًا: المشهد القبلي
تُعَدُّ القبيلة نمطًا من تنظيمات ما قبل الدولة، يُفترَض نظريًّا ضموره وتضاؤل أهميته السياسية مع تشكيل الدولة القومية، فالعلاقة بين الدولة والقبيلة تناقضية وتخضع للمحصلة الصفرية، فولادة الدولة، بحسب ماكس فيبر (Max Weber)، شكَّلت نهاية الوراثة، ويُقرُّ ابن خلدون أن الأوطان كثيرة القبائل قلَّ أن تستحكم فيها دولة(23).
ورغم أن اليمن عُرف بالعربية السعيدة واليمن الخضراء وأرض الجنتين، فإن أفضل توصيف له، حسب سمير العبدلي، هو “مهد القبيلة” أو “اليمن هبة القبيلة” بسبب الدور الفاعل الذي أدته القبيلة منذ وجودها في جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن ميزات القبائل اليمنية استقرارها الجغرافي على مرِّ مئات السنين، وتفاخرها بأنها أصل العرب ومنبع حضارتهم، وعدم تقبُّلها بسهولة لفكرة الاندماج في الدولة المركزية. وتنقسم القبائل اليمنية إلى بَطْنَيْن رئيسين: البطن الأول: كهلان، والبطن الثاني: حِمْيَر، وتتفرَّع منهما قبائل يمنية عديدة(24).
وقد تمكَّن شيوخ القبائل من أداء أدوار سياسية مؤثرة، فعلى مستوى السلطة التشريعية شكَّلوا حوالي 58% من مجموع أعضاء مجلس الشورى المنتخب، عام 1921، وفي المناطق الجنوبية والشرقية وفي تِهامة تحوَّل شيوخ القبائل الحِمْيرية إلى إقطاعيين، وبرز التمايز الاجتماعي بين الشيوخ وبقية الأفراد في هذه المناطق، فيما استمر الطابع المساواتي في قبائل هَمَدَان التابعة لبُطين كهلان(25).
وتُمثِّل القبيلة اليمنية نظامًا سياسيًّا مجاورًا للنظام الرسمي؛ حيث يمكن وصف العلاقة بين الدولة والقبيلة بـ”التقابلية”؛ فالقبيلة في الجزء الشمالي من اليمن وُصفت كقوة حربية متحركة تتخذ علاقتها مع الدولة ثلاث صور؛ إما الصراع في حال استشعار القبيلة أن الحضور المركزي للدولة يهدد وجودها الاجتماعي المستقل، وإما التحالف القسري، وإما الحُلُول في الدولة والهمينة على مفاصلها، على عكس الشطر الجنوبي الذي غلبت عليه ثقافة مدنية لكن في قالب شمولي بفعل هيمنة حكم الحزب الواحد(26).
وأشار نجيب الريس إلى أن المشكلة اليمنية تكمن في أن الدولة تتصرف وكأنها قبيلة، في حين تتصرف القبيلة وكأنها دولة، شاهدُ ذلك رفضُ مجموعة من المشايخ التصديق على قانون منع السلاح الذي حاولت الحكومة تقديمه مرتين لمجلس النواب عامي 1992 و1997(27).
ويتضح أن القبيلة كانت ذات وزن مؤثر في الحياة السياسية اليمنية، ولم تكن هناك مشكلات طائفية بائنة؛ حيث ساد التعايش بين الزيدية والشافعية، ولم تطفُ صداماتٌ بين أتباع المذهبين، غير أن هناك تُهمًا تتعلق بإساءة الدولة لإدارة مسألة الطائفية؛ إذ اكتفت بالتَّمثيل المذهبي والجهوي الشكلي في السلطة دون مشاركة حقيقية، كما منحت شيوخ القبائل، وجُلُّهم من الزيْديين، امتيازات مالية كبيرة، وأبقت على قاعدة “زيْدية رأس الدولة”، أي حصر رئاسة الدولة في الطائفة الزيدية، وهو ما ينطبق أيضًا على المناصب العليا في الجيش والأجهزة الأمنية(28).
لم تكن القبائل اليمنية مُحصَّنة من التغيير، فقد أشار كلٌّ من بول دريش (Paul Dresch) وشيلاغ وير (Shelagh Weir) وستيف كاتون (Steven Caton) إلى احتمالية حدوث تغييرات في اليمن من شأنها أن تقلب شكل الهرمية القبَلية. فهناك مؤشرات قوية على أن التعليم وتحسين الفرص الاقتصادية، وانخراط قَبَليِين في برامج دكتوراه في جامعات أجنبية ووجودهم في مؤسسات اجتماعية كغرف التجارة والأحزاب السياسية والمنظمات غير الربحية، كلها مؤشرات تدل على حدوث تغيير مرتقب في بنية القبيلة، ومن أكبر دلالات هذا التحوُّل هو ترك العديد من رجال القبائل لأسلحتهم ضد رغبة شيوخهم(29) وانضمامهم لأحد أطراف الصراع؛ ففي مأرب، على سبيل المثال، يسير القتال وفق خطوط قبلية صرفة؛ حيث صُوِّر الصراع باعتباره ثورة ضد ما يربو على ألف عام من الاضطهاد الممارَس من قبائل المرتفعات الشمالية والنخبة الصنعانية. أما التحالف الأبرز فكان الاندماج السلس بين تنظيم القاعدة وجماعات قبَلية بغرض إنشاء جبهة سنِّية موحدة ضد الحوثيين، وبانفراط الجيش اليمني أذْكى تنظيم القاعدة الطائفية وقدَّم نفسه على أنه خط الدفاع الأخير في مواجهة التوسع الحوثي(30).
- الحسابات الاستراتيجية للقوى الإقليمية في حرب اليمن
تؤدي المصالح الإقليمية المتضاربة دورًا كبيرًا في المشهد اليمني، وهو ما يتضح من خلال مصالح القوى الإقليمية الثلاثة الرئيسة المؤثرة في معادلة القوة اليمنية.
أولًا: السعودية والحفاظ على العمق الاستراتيجي
تُصنَّف السعودية على أنها من الدول القليلة في المنطقة التي لها تعامل ناجح مع المحتجين؛ إذ إنها تؤدي دورًا فعالًا في تشكيل مسار الاحتجاج وتطوراته اللاحقة بما يخدمُ مصالحها في الأساس، فقد جادل بعض الباحثين أن الدول تعمد إلى توظيف بطاقة الطائفية حين تستشعر تشكيكًا في شرعية النظام، أو متى وَجدت صعوبات في السيطرة على الاضطرابات الداخلية، وبالمثل، تعتقد مضاوي الرشيد أن الطائفية استُخدمت كأداة للثورة المضادة خلال الاحتجاجات في المملكة، والتي كشفت بدورها عن نوايا وأولويات الرياض تجاه أحداث المنطقة، والتي تراهن بشكل أساس على الحفاظ على الوضع القائم(31).
ويظل اليمن غير المستقر مصدر تهديد للأمن القومي للسعودية، ويحفل تاريخ الرياض بتدخلات في الشؤون الداخلية لليمن حتى قبل توحيد الشمال والجنوب؛ حيث كانت هناك رعاية واسعة لشبكة متداخلة من القبائل اليمنية، والتي كانت بدورها بوابة تحافظ بها السعودية على تأثيرها في الديناميات السياسية الداخلية لليمن(32). وبتكريسها المال لقيادات قبلية ودينية وسياسية تمكَّنت السعودية من السيطرة على المشهد السياسي في اليمن لعقود من الزمن، وهو النفوذ الذي ما انفكَّ يتضاءل منذ عام 2011 بعد تحوُّل بعضٍ من حلفائها إلى إيران ودول أخرى، إضافة إلى أن صعود الحوثيين واستقواءهم بالسلاح والترويج لنسجهم علاقات ودية مع طهران، قد ضاعف من صعوبات الرياض في الحفاظ على بنية الولاء السياسي التقليدية في اليمن.
لقد واجهت السعودية مأزق تحوُّل الحوثيين في فترة وجيزة من فرقة قبلية متنافرة إلى قوة عسكرية منظمة، خصوصًا بعد الدعم الذي حظي به الحوثيون من قوات في الجيش موالية للرئيس السابق، علي عبد الله صالح، وكذا سعي الحرس الثوري الإيراني، وشريكه، حزب الله اللبناني، إلى تحويل الحركة الحوثية نحو حروب الجيل الرابع أو الحروب غير التماثلية. ويبدو أن اللقاء الذي جمع وفدًا رفيع المستوى من الحوثيين مع حسن نصر الله، في أغسطس/آب 2018، قد زكَّى مخاوف السعودية من احتمالية ظهور “حزب الله جنوبي” في اليمن، رغم الضعف الشديد الذي أصاب الحوثيين عقب اغتيال علي عبد الله صالح(33).
ويتعاطى المنظور الاستراتيجي السعودي مع اليمن كعمق استراتيجي وجزء من نفوذ الرياض، ويتقاطع مع الحسابات الاستراتيجية للحليف الأميركي الذي يتطلع للتأكد من وجود سيطرة على باب المندب وخليج عدن وجزيرة سقطرى؛ حيث يُعتبر باب المندب محوِّلًا استراتيجيًّا مؤثرًا لشحنات التجارة البحرية وإمدادات الطاقة الدولية التي تربط منطقة الخليج عبر المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. إن أهمية باب المندب قد تضاهي قيمة قناة السويس التي تربط التجارة وخطوط الشحن بين إفريقيا وآسيا وأوروبا، وحتى إسرائيل أبدت بدورها قلقًا حيال تغيرات الوضع في اليمن لما له من تأثير على قطع وصولها إلى المحيط الهندي عبر البحر الأحمر، ومن ثم منع غواصاتها من الانتشار السهل في الخليج لتهديد إيران(34).
إن استيلاء الحوثيين على مزيد من الأراضي وحيازتهم لعدد معتبر من الأسلحة الثقيلة بما فيها الصواريخ الباليستية، دفع السعودية إلى الشروع في عملية عاصفة الحزم، في 26 مارس/آذار 2015، وحسب برازانتا كومار (Prasanta Kumar) فإن نجاح أهداف العملية، بعد 27 يومًا من انطلاقها، كان محدودًا، ورغم ذلك ألقى هذا التدخل بتأثيره على الجغرافيا السياسية في غرب آسيا. ويكمن التحدي الحقيقي في إعادة جميع أصحاب المصلحة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى توافق آراء بشأن خطة طريق مستقبلية، وهو الهدف الذي ارتأت السعودية أن تحققه بعملية عسكرية أخرى (عملية إعادة الأمل)، والتي هدفت إلى حماية المواطنين ومواصلة مكافحة الإرهاب ودعم جهود الانخراط في سياسات التعاون لاستعادة السلام والاستقرار، إضافة إلى الإصرار على طلب التنسيق الدولي لمنع وصول أي أسلحة للحوثيين عبر الجو أو البحر، ومن ثم يتضح أن عملية إعادة الأمل كانت أوسع نطاقًا وتغطي مساحة أكبر من القضايا وتشمل مبادرات عسكرية وتسوية سياسية. وبِوسْم الحوثيين بالإرهاب تتطلع الرياض إلى ألا يكون لهذا الفصيل دور مستقبلي في طاولة المفاوضات؛ الأمر الذي يتطلب تكثيفًا للعمليات العسكرية التي ينجم عنها تفاقم الأزمات الإنسانية(35).
ثانيًا: النفوذ الإيراني في اليمن
تلقَّى العديد من رجال الدين الشيعة الزيديين تكوينهم الديني في قُمْ بإيران، وكان ذلك بمنزلة قناة لاستمرار النفوذ الإيراني وسط الحوثيين؛ الأمر الذي دفع القاضي اليمني، حمود الهتار، إلى التصريح بأن الحوثيين يطمحون إلى إنشاء دولة في شمال اليمن وجنوب المملكة العربية السعودية، كما وجَّهت واشنطن والرياض اتهامات لطهران بدعم مادي بوجود وحدات شبه قتالية لها في اليمن، خاصة عقب الاستيلاء على سفن إيرانية محملة بالأسلحة في الساحل العُماني والتي كانت موجَّهة للحوثيين(36).
وبعد طرد أسامة بن لادن من السودان، تنازل الإيرانيون عن خططهم لتطويق السعودية من الغرب غير أنهم لم يتخلوا عن هدفهم الأوسع وهو تعزيز قوة الردع الإيراني من خلال تكثيف نوعي لاستراتيجية المنطقة المحرمة/منع الولوج (Area-Denial/Anti-Access) التي تعرف اختصارًا بـ((A2/AD. ويمكن تعريف هذه الاستراتيجية بأنها عائلة من القدرات العسكرية التي تُستخدم لمنع أو تقييد نشر القوات المعارضة في مسرح عمليات معين؛ والملاحظ أن القوة البحرية الإيرانية تستخدم (A2/AD) لإنشاء نقاط اختناق في الممرات الحيوية(37)؛ واقعٌ عبَّر عنه محمد صادق الحسيني بـ”صرنا سلاطين المتوسط والخليج، والمحيط الهندي والبحر الأحمر”(38).
خريطة رقم (3) تُظهر موقع إيران بالنسبة لمضيقي هرمز وباب المندب(39)
وُظِّفَت استراتيجية (A2/AD) خلال الحرب الإيرانية-العراقية لتعطيل شحنات النفط في مضيق هرمز، وفي 2006، صرَّح الجنرال الأميركي، جون أبي زيد، بأن الاستراتيجية البحرية للحرس الثوري الإيراني كانت مصمَّمة في المقام الأول لمنع الصادرات النفطية، وتراهن طهران كثيرًا على وكلائها في المنطقة لتعطيل حركة المرور في الخليج(40)، مدفوعة بورقة استراتيجية رابحة صرَّح بها يد الله شير مردي، وهي أن جميع طرق مرور النفط من باب المندب والسويس ومضيق هرمز تحت سيطرة إيران(41)، وحتى قبل تمكُّن الحوثيين من العاصمة اليمنية، أشارت تقارير نُشرت عام 2009 إلى أن طهران كانت تبحث عن طرق للاستثمار في ميناء ميدي التابع لمحافظة حجَّة غربي اليمن(42).
ونشرت جامعة الإمام الحسين المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، سنة 2012، وثيقة معنونة بـ”استراتيجية المثلث البحري: الحرب البحرية غير النظامية”، دعت إلى درء أي هجوم محتمل يمسُّ مصالح إيران، وذلك بتعطيل مثلث النقاط البحرية الممتد من مضيق هرمز إلى باب المندب وصولًا إلى مضيق ملقا، وإضافة لاعتماد المخطط التقليدي (A2/AD) الذي يستند إل قدرات الصواريخ البرية والبحرية والمضادة للسفن ونشر الألغام البحرية، يجب توفير تكتيكات حرب العصابات غير المتماثلة لنشر قوارب عملياتية سريعة، وقوارب انتحارية يديرها الإنسان(43).
إن سيطرة الحوثيين على صنعاء، عام 2014، مثَّلت فرصة ذهبية لإيران التي سرَّعت وتيرة توقيع اتفاقيات التعاون الاقتصادي مع الحوثيين في مجالات النفط والكهرباء والنقل الجوي والبحري، وتعهَّدت بتزويد اليمن بالمشتقات النفطية وإنشاء محطات لتوليد الكهرباء في محافظات عدن والحديدة وتعز(44). وكان التماثل الطائفي وتموقع اليمن في خاصرة السعودية عامل جذب لتطويق المملكة من الجنوب، وهو ما أكده علي رضا زكاني بأن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية، بيروت وبغداد ودمشق وصنعاء، وأن الثورة اليمنية لن تقتصر على اليمن وحدها، وسوف تمتد بعد نجاحها إلى داخل الأراضي السعودية(45).
ويلمِّح تصريح زكاني إلى مشروع إيران المتعاظم لتوسيع “الهلال الشيعي”، وإجمالًا لا تنفصل طبيعة الأهداف المبتغاة من دور إيران في اليمن عن أهداف طهران العامة في كل المنطقة، وهي تندرج في إطار استراتيجية شاملة لتوسيع النفوذ والهيمنة، انطلاقًا من تصورات مرتبطة بالثقافة السياسية والذاكرة التاريخية(46)؛ فضلًا عن توجيه رسالة مفادها أنه لابد من مراعاة مصالح إيران في المنطقة، والحيلولة دون تهديد مصالحها أو تجاهلها في أي ترتيبات ومشاريع مستقبلية(47).
ثالثًا: مصالح الإمارات في اليمن
يشير أندريا روغ (Andrea Rugh) إلى ثلاثة عوامل أسهمت في تشكيل الثقافة السياسية لقادة الإمارات العربية المتحدة، أولًا: المشاركة البريطانية المتنامية في شؤون الإمارات المتصالحة، ثانيًا: التحضر، ثالثًا: الحصول على كميات هائلة من الثروة عقب اكتشاف النفط(48). وقد أكدت تجربة الإمارات على نموذج دولة موزِّعة للثروة بدل أن تكون محتكرة لها؛ حيث وفَّر سخاء الدولة الريعية للأسرة الحاكمة ما أطلق عليه ستيفن وايت (Stephen White) تعبير “الشرعية الباعثة على السعادة”، وهي شرعية مستقاة من نمط معين من الرعاية الاجتماعية والرفاه الاقتصادي(49).
وترتبط الإمارات بعلاقاتٍ وجدانية وتاريخية مع اليمن، فالأسرة الحاكمة في الفُجيرة تنحدر من عشيرة الحفيتات الشرقيين الذين ينتسبون إلى مالك بن فهم، وقد غادروا اليمن عقب انهيار سد مأرب قبل أكثر من 2000 سنة، لذلك يتعبَّد شرقيو الفجيرة، خلافًا لباقي الإمارات، بالمذهب الشافعي(50)، وفي منتصف القرن التاسع عشر كان البُنُّ هو مورد التجارة الأول في علاقات الطرفين(51).
وتُعتبر الإمارات القوة الثانية في التحالف العربي في اليمن، وهي القائد الفعلي لعمليات التحالف جنوب اليمن، واللافت هو تباين، وأحيانًا تعارض، سياساتها مع المملكة العربية السعودية؛ حيث عَمدت الإمارات منذ عام 2016 إلى بناء تشكيلات شبه عسكرية، معظمها من السلفيين، يبلغ تعدادها 30 ألف فرد، وأطلقت على هذه القوة، التي تنشط خارج هيئة الأركان اليمنية، تسمية “الحزام الأمني”، وتوجد في عدن ولحج وأبين وحضرموت وشبوة والمهرى وسقطرى(52).
ظاهريًّا، تتمثَّل المصلحة الرئيسة للإمارات في السيطرة على مئتي كيلومتر من الساحل اليمني، وهي دعامة مركزية في مخطط أبوظبي لتصبح قوة عظمى في مجال الطاقة، وتشمل هذه المنطقة موانئ الجنوب على ساحل خليج عدن والبحر العربي، ومضيق باب المندب وجزيرة سقطرى، وتدرك الإمارات أهمية عدن والمُخاء بالنسبة للبريطانيين، وكذا أهمية الحُديْدة وسقطرى للأميركيين؛ ما من شأنه أن يُعزِّز أواصر التعاون والتفاهم مع لندن وواشنطن حول الخطوط العريضة لتقاسم النفوذ(53).
واعتبارًا من منتصف 2019، تفاقمت حدَّة الخلاف السعودي-الإماراتي؛ ما دفع أبوظبي إلى تخفيض وجودها العسكري في اليمن، مقابل تعزيز الدعم لجماعات جنوب اليمن التي لديها خلافات ظاهرة مع فصائل تدعمها السعودية. وقد تفاقم الخلاف بعد أن أبدت المملكة استعدادًا للعمل مع عناصر الإخوان المسلمين في اليمن. والواقع أن خلاف الطرفين ليس بمستجد؛ حيث أنهت “معاهدة جدة”، عام 1974، نزاعات حدودية بين الطرفين، تُوِّجت بوصول السعودية إلى خليج إيران عبر ممرٍّ إماراتي، مقابل سيطرة رسمية للإمارات على قرى بواحة البريمي. ومن منظورٍ موازٍ يُلاحَظ أن تقارب الدولتين أسهم في عرقلة خطط مجلس التعاون الخليجي طويلة الأمد لإنشاء قوة بحرية وقيادة عسكرية مشتركة مقرها البحرين، وذلك بفعل تشكيل الطرفين، في ديسمبر/كانون الأول 2017، للجنة تعاون مشتركة كمجموعة فرعية عن مجلس التعاون الخليجي(54).
وجَلبَ صراع اليمن انتقادات غير مسبوقة للإمارات بشأن الآثار الإنسانية المترتبة على الانتهاكات، وكانت أخطر الاتهامات هي احتفاظ الإمارات بشبكة سرية من السجون في اليمن، وتسليح ميليشيات مناهضة للحوثيين، ومرتبطة بتنظيمي القاعدة و”الدولة الإسلامية”؛ وهي التُّهم التي ردَّت عليها حكومة أبوظبي بتوجيه إعلامها إلى تسليط الضوء على المساعدات الإنسانية التي قدَّمتها للشعب اليمني، والمقدرة بـ4 مليارات دولار، منها 1.25 مليار دولار مُنِحتْ سنة 2018(55).
وبشكل عام؛ وعودة إلى العمليات الميدانية، تُعَدُّ الإمارات الأكثر حضورًا عسكريًّا ونفوذًا على الأراضي اليمنية منذ عام 2015؛ حيث تنتشر القوات الإماراتية بشكل مباشر في ثلاث مناطق عسكرية من أصل سبع مناطق تغطي العمليات العسكرية في اليمن. ولئن كانت الإمارات تشترك مع دول التحالف في دوافع معلنة تتمثَّل في إسقاط الحوثيين، واستعادة مؤسسات الدولة اليمنية، ومحاربة بؤر الإرهاب، وتأمين خطوط الملاحة الدولية، فإنها تحتفظ لذاتها بأهداف تشمل إيجاد بديل لمضيق هرمز عبر مدِّ أنبوب نفط لساحل محافظة المهرة على بحر العرب، يكون في مقدوره تصدير النفط في حال تعرُّض مضيق هرمز للإغلاق من قِبلِ إيران، إضافة إلى أن بروز الإمارات خلال العقود الماضية كمركز دولي في الملاحة البحرية جعلها ترى أية محاولة لتطوير ميناء عدن الاستراتيجي مهدِّدًا لأمنها القومي وعلاقاتها الاقتصادية المتعاظمة، خصوصًا بعد أن ألغى اليمن، في 2012، الاتفاقية الموقَّعة مع الرئيس، علي عبد الله صالح سنة 2008(56).
إذن، يتضح أن هناك تضاربًا وضبابية في مقاربات الدول الإقليمية الثلاثة تجاه التعامل مع الأزمة في اليمن، وقبل التطرق إلى التداعيات الإنسانية الخطيرة لهذا السباق حامي الوطيس، وَجَبَت مساءلة الدور الناعم الذي باتت تضطلع به سلطنة عُمَان في الأزمة؛ فعلى مدى العقود الأربعة الماضية آثرت السلطنة أن يُنظر إليها باعتبارها الوسيط المفيد والطرف المُوازن في حلِّ النزاعات الخليجية والعربية. فالتركيز على التنمية الداخلية وجذب السياح والاستثمارات الأجنبية دفع البلد، الذي يتميز بموارده المتواضعة، إلى محاولة النأي عمَّا قد يلحق به من أذى مُتصوَّر، غير أن سمعة “عُمان المحايدة” لم تبقَ كذلك بدءًا من 2018. فكما هو شأن بلجيكا وبولندا، سنة 1939، تجد عُمان ذاتها معرَّضة لأن تكون ضحية لأطماع القوى الجيوبوليتيكية المتنافسة في اليمن، وما زاد من حدَّة الضغط على نجاح دور الوساطة العُماني هو تفاقم الأزمة الدبلوماسية بين دول مجلس التعاون الخليجي، وبلوغُ السعودية إلى حدِّ الترويج لبناء مجرى مائي يهدف إلى عزل قطر جغرافيًّا ومن ثمَّ بتْرها عن دول المجلس، وهو الأمر الذي يبدو أنه لم ينلْ تأييدًا من السلطان الراحل، قابوس بن سعيد، ودوائر صُنع القرار المقربة منه؛ حيث ارتفعت صادرات عُمان إلى قطر بنسبة 144%، سنة 2017، كما أصبحت عُمان أكبر متلقٍّ للصادرات القطرية غير النفطية منذ بدء الحصار المفروض على الدوحة.
علاوةً على ذلك، فإن الهجوم الإماراتي على الحُديْدة (التي يزيد سكانها عن 700 ألف نسمة) طرح عديد المخاوف الأمنية للسلطنة. ومنذ عام 2015، عملت عُمان بجدية لتقديم المساعدة الإنسانية والطبية للمدنيين المتضررين من الحرب في اليمن، وقامت بنقل المصابين بجروح بالغة إلى مستشفيات مسقط لتلقي العلاج، ورغم ذلك لم تسلَمْ من اتهامات التحالف الإماراتي/السعودي بأنها مجال بحري وبري لتدفق الأسلحة الإيرانية إلى الحوثيين. لقد أبانتْ لعبة القوى الجيوبوليتيكية في الخليج عن أنه من الصعب على السعودية والإمارات تطويع الموقف العُماني لصالحهم ليُصبح شبيهًا لموقف البحرين، إلا أن ذلك، بالمقابل، أسهم في تنمية الشكوك عن طموحات إيران في احتضان مسقط، وعلى ضوء هذا، ما زالت عُمان تدافع عن موقفها الحيادي وتسعى جاهدة لإثبات مصداقيتها لدى جميع الأطراف المتخاصمة(57).
- التداعيات الإنسانية للحرب في اليمن
كشفت الأرقام، التي أبلغ عنها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، عن بلد يعيش أكثر من نصف سكانه على عتبة الفقر، وقُدِّر عدد السكان الذين هم في حاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة بـ 21.2 مليون نسمة. ومنذ بدء الغارات الجوية لقوات التحالف جرى الإبلاغ عن 30 ألف ضحية، علاوة على 2.7 مليون نازح و127.620 شخصًا فرُّوا من البلاد أو طلبوا اللجوء في مكان آخر، أغلبهم في سلطنة عُمان، العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي الذي قرَّر عدم الانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية، وكان من إفرازات القتال كذلك التدهور السريع في الأوضاع المعيشية؛ حيث جرى إحصاء 2.7 مليون شخص في حاجة إلى مأوى، و14.4 مليونًا يحصلون على طعام غير آمن، و19.3 مليونًا لا يحصلون على ماء نظيف، وهو الوضع الذي تفاقمت خطورته بعد الفيضانات التي اجتاحت اليمن في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 وأبريل/نيسان 2016(58)، وقد أدى انتشار وباء الكوليرا، عام 2017، إلى الاشتباه في إصابة ما يزيد عن مليون شخص(59).
خريطة رقم (4) تبين صعوبة وصول المنظمات الإنسانية إلى المناطق المتضررة(60)
قدَّم تقرير مجلس حقوق الإنسان نتائج تفصيلية عن الانتهاكات والتجاوزات المرتكبة في اليمن منذ سبتمبر/أيلول 2014 وإلى غاية 2019؛ حيث تركت الأزمة الإنسانية آثارها على المرافق الصحية والتغذية والإسكان الآمن، وبشكل غير متناسب مع الفئات الاجتماعية، فمن بين 24.1 مليون يمني، الذين يحتاجون إلى الحماية والمساعدة الإنسانية، 18.2 مليونًا هم من النساء والأطفال، ومن بين 3.3 ملايين نازح 83% منهم نساء وأطفال. وفي الفترة بين 2018 و2019، قَدَّر صندوق الأمم المتحدة للسكان أن 3 ملايين امرأة وفتاة معرضة للعنف القائم على النوع الجنساني، وأن 120 ألف فتاة وامرأة معرَّضات لخطر القتل نتيجة أشكال مختلفة من العنف(61).
وعقب استنزاف قدراتهم القتالية، واجه الحوثيون اتهامات بتجنيد الأطفال وإقرار عقوبة الإعدام للفارين من ساحات القتال، وقد أشارت إحدى الدراسات إلى استقطاب أنصار الله لحوالي 16 ألف طفل في سن العاشرة(62).
شكل رقم (1) يبرز إحصائيات وتوقعات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية
بشأن الأوضاع الإنسانية المتأزمة في اليمن(63)
إن معاناة اليمن من تدمير جزئي للبنية التحتية، وعدم دفع الرواتب وتسديد النفقات التشغيلية للقطاع العام، قد أوصل البلاد إلى حافة الانهيار(64)؛ حيث تشهد أزمة سيولة نقدية دفعت البنوك إلى التردُّد في منح الائتمان للتجار الساعين لاستيراد السلع الأساسية. وقد انخفضت احتياطات النقد الأجنبي للبنك المركزي من 4.7 مليارات دولار أواخر عام 2014 إلى أقل من مليار دولار في سبتمبر/أيلول 2016، وتزايد عجز الموازنة العامة بأكثر من 50%، وتم دفع رواتب موظفي المرافق الصحية والمعلمين وباقي العاملين في القطاع العام بطريقة متقطِّعة، مما ترك 1.25 مليون شخص من موظفي الدولة و6.9 ملايين ممن يعولونهم (ما يقارب 30% من السكان) دون دخل منتظم، في وقت تشهد فيه البلاد نقصًا في السلع وارتفاعًا في الأسعار(65)؛ لذلك ليس من الغريب أن توصف الأزمة الإنسانية في اليمن بأنها الأسوأ في العالم؛ وقد نبَّه مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى مخاطر المستقبل الغامض لليمن استنادًا إلى إحصائيات الواقع المتأزم.
- مستقبل الحل السياسي في اليمن
يحتاج اليمن إلى إعادة استنهاض مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في منتصف مارس/آذار 2013، وهو مؤتمر استيعابي شارك فيه 565 عضوًا، وراعى هذا المؤتمر التركيبة اليمنية المتنوعة والفاعلة في المشهد السياسي، بما في ذلك حزب المؤتمر الشعبي العام الذي ترأسه الرئيس السابق، علي عبد الله صالح. ووفقًا لكاتيا باباجياني (Katia Papagianni)، فإن الحوارات الوطنية تنطوي على تقاطعات عَرَضية بين الجناة والضحايا، وميزتها هي الابتعاد عن عقد صفقات على مستوى النخبة عبر فسح المجال لمصالح متنوعة للتأثير في مسار المفاوضات، فهدف الحوارات هو المساعدة على التعافي وتسوية الخلافات بين الأطراف المتناحرة على أن يشمل الحوار إشراك شرائح واسعة من المجتمع، فالحوار الوطني كما جاء في وصف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو لمُّ شمل مجموعة متنوعة من الأصوات لإنشاء نموذج مصغَّر عن المجتمع الكبير(66).
إن إفشال الحرب للوحدة الاندماجية يضع اليمن أمام خيارين، إما العودة إلى التشظي والنظام الشطري، وإما إعادة بناء المشروع الوحدوي على أسس جديدة تُلغَى وفقها الدولةُ المركزية الاتحادية وتنتقل إلى الدولة غير المركزية التي تحمي اليمن من التفكك. وبخصوص القضية الجنوبية، فيمكن تلمس ثلاثة اتجاهات رئيسة: يحصر الأول الحلول في إطار الوحدة، وهو التوجُّه المدعوم من تكتل أحزاب اللقاء المشترك ومختلف التيارات السياسية في الشمال، أما الاتجاه الثاني فيتبنَّى إقامة دولة فيدرالية بإقليمين، شمالي وجنوبي؛ في حين يصدح الاتجاه الثالث بصوت التحرير والاستقلال، وهو خيار متنام في صفوف الجنوبيين(67).
ويمكن إسقاط وتطبيق سياسات متنوعة على اليمن غير أن ذلك يتوقف أساسًا على حالتي الاستقرار والحرب(68)، ومن خلال الجمع بين هذين المعيارين يمكن وضع صورة محتملة لليمن في قادم السنوات على النحو الآتي:
شكل رقم (2) يوضح سيناريوهات مستقبلية لليمن(69)
وتتزامن الحاجة إلى الحل السياسي مع حاجة موازية إلى تقوية السلطة اليمنية في عملية صنع القرارات، ويشمل ذلك إنشاء شراكات متينة مع الجهات الدولية الفاعلة، بما فيها منظمة الأمم المتحدة، إضافة إلى منح فرص أكبر للشتات اليمني المحترف الذي في مقدوره أن يُسهم في حَوْكَمَة وإعادة إعمار اليمن بعد الصراع(70).
ويجب التطلع إلى الاستثمار في سلطنة عُمان كوسيط مؤهل لأداء دور هادئ ومثمر في اليمن، نظرًا لأن السلطنة حافظت على علاقات جيدة مع جميع الأطراف الداخلية منها والخارجية المتورطة في صراع اليمن، كما أن لعُمان مصلحة في دعم جهود السلام كونها جارة غربية لليمن(71).
إن عملية إصلاح تشظِّي اليمن تستدعي، وبغضِّ النظر عن شكل النظام المستقبلي، تغليب الحوار في توزيع السلطات والموارد والثروات، ويجب تعزيز الهوية القومية عبر دعم التعليم والحملات الإعلامية التي تحتفي بالفسيفساء الدينية والاجتماعية والسياسية، وكذا تطوير سياسات جديدة تضمن حق المواطنين في حرية التنقل، مع تجريم ممارسات التمييز أو استثارته على أسس جنسية وطائفية ودينية، وينسحب الأمر على المناصب العسكرية والسياسية، والتي يجب أن تُسند على أساس الكفاءة والجدارة وليس الانتماء الطائفي أو العشائري، مع عدم إهمال انتهاكات حقوق الإنسان التي وقعت أثناء النزاع، ويكون ذلك عبر تفعيل آليات للإنصاف والتعويض تحددها قوانين للمصالحة والعدالة الانتقالية(72).
خاتمة
أبانت الأزمة في اليمن عن تعقيد وترابط متناميين للسياسة الدولية، فالتطورات الحاصلة داخل دولة واحدة ستؤثر لا محالة على الآخرين، كما تمَّ الوقوف على أن الحرب بالوكالة، رغم تكاليفها الباهظة، قائمة فعلًا وتتمدَّد؛ إضافة إلى أن الحكومات، وبغضِّ النظر عن نوعية النظام، تتجه غرائزيًّا إلى الاستمرار في إيجاد مبررات للتدخل في أمكنةٍ أخرى. ويواجه اليمن تحديات كبيرة في مسار فكِّ الارتباط مع حالات الاستقطاب الشديدة التي يعيشها منذ سنة 2011، وتبرز إلى الواجهة اختلافات عميقة حول سبل الإصلاح والاستتباب الأمني وقواعد الحكم الرشيد، غير أن تحقيق مصالحة مستدامة في اليمن يتوقف حتمًا على معالجة جذرية لثالوث: مطالب الانفصال في الجنوب، وتمرد الحوثيين في الشمال، وغياب الاستقرار والسلام المدني الذي تفاقم منذ عام 2015.
إن انعدام الأمن بشكل كاف على طول الحدود البرية والبحرية لليمن يزيد من احتمالات تنامي الإرهاب والاتجار غير المشروع وتهريب الأسلحة في جميع أنحاء المنطقة؛ ما يُسهم في نشر نزاعات عبر وطنية تتجاوز إيران ودول مجلس التعاون الخليجي لتشمل مناطق مضطربة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر. إذن، يستدعي الأمر حاجة ملحَّة للاسترشاد بالتوجيهات الغروسيوسية (نسبة إلى غروسيوس) العقلانية التي تركز على مَأْسَسَة الهوية والمصالح المتبادلة بين الدول، وصناعة وصيانة المعايير والقواعد والمؤسسات المشتركة؛ فطريق تعافي اليمن وإعادة تبنِّي المقولة الشهيرة: “يا يمنْ، أنا في رهبة منك” تمرُّ حتمًا عبر تأشيرة احترام تمنحها الدول لعقل وضمير المجتمع الدولي.
المراجع
(1) Laura S. Etheredge, Middle East region in transition :Saudi Arabia and Yemen, 1st ed. (New York: Britannica Educational Publishing, 2011), 74.
(2) رئاسة الجمهورية اليمنية، المركز الوطني للمعلومات، (تاريخ الدخول: 15 يناير/كانون الثاني 2020): shorturl.at/aNP35.
(3) رعد محمود البرهاوي، اليمن: من الإمام يحيى حميد الدين إلى الرئيس عبد ربه منصور هادي 1918-2014، ط 1 (عمان، دار المعتز للنشر والتوزيع، 2016)، ص 7-11.
(4) جان جاك بيربي، جزيرة العرب: أرض الإسلام المقدسة وموطن العروبة وإمبراطورية البترول، ترجمة محمد خير البقاعي، ط 1 (الرياض، مكتبة العبيكان، 2002)، ص 156-158.
(5) عبد الزهرة شلش العتابي، “الموقع الجيوبولتيكي لليمن: أهميته وانعكاساته على أوضاعها الداخلية والخارجية”، مجلة كلية التربية الأساسية (جامعة بابل، العراق، العدد 49، 2006)، ص 228-237.
(6) Ginny Hill, Yemen Endures: Civil war, Saudi adventurism and the future of Arabia (Oxford: Oxford University Press, 2017), 9.
(7) شهاب الدين القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، كتاب المناقب، (لبنان، دار الكتب العلمية، د.ت)، ص 9.
(8) Hill, Yemen Endures, 10.
(9) Prasanta Kumar Pradhan, Arab Spring and Sectarian Faultlines in West Asia: Bahrain, Yemen and Syria, 1st ed. (New Delhi: IDSA, 2017), 62-63.
(10) Amanda Guidero and Maia Carter Hallward, Global Responses to Conflict and Crisis in Syria and Yemen, (Switzerland: Palgrave Macmillan, 2019), 8.
(11) Kumar Pradhan, Arab Spring and Sectarian Faultlines in West Asia, 63.
(12) Vali R. Nasr, “If the Arab Spring Turns Ugly,” The New York Times, August 27, 2011.
(13) Kumar Pradhan, Arab Spring and Sectarian Faultlines in West Asia, 10-11 .
(14) كاظم شبيب، المسألة الطائفية: تعدد الهويات في الدولة الواحدة، ط 1 (بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2011)، ص 24-25.
(15) أنور بن قاسم الخضري، “الطائفية وفتيل الحرب الأهلية في اليمن”، سياسات عربية (الدوحة، العدد 6، يناير/كانون الثاني 2014)، ص 66-67.
(16) Gabriele Vom Bruck, Islam, Memory, and Morality In Yemen: Ruling families in transition, 1st ed. (New York: Palgrave Macmillan, 2005), 131.
(17) الخضري، “الطائفية وفتيل الحرب الأهلية في اليمن”، مرجع سابق، ص 65-68.
(18) لمزيد من المعلومات، انظر:
Christopher Ward, The water crisis in Yemen: Managing Extreme Water Scarcity in the Middle East, 1st ed. (London: I.B. Tauris & Co L.T.D, 2015).
(19) إريك روبنسون وآخرون، “ما العوامل التي تدفع الأفراد إلى رفض التطرف العنيف في اليمن”، مؤسسة راند، (2017)، ص 8-10.
(20) المرجع السابق، ص 9.
(21) Alexandra Siegel, Sectarian Twitter Wars: Sunni- Shia Conflict and Cooperation in the Digital Age, (Massachusetts: Carnegie Endowment for International Peace, 2015), 1.
(22) Alexandra Siegel, “Twitter Wars : Sunni-Shia Conflict and Cooperation in the digital age”, in Beyond Sunni and Shia: The Roots of Sectarianism in a Changing Middle East, Fredeic Wehrey, ed., (Oxford: Oxford University Press, 2017), 165 .
(23) عادل مجاهد الشرجبي وآخرون، القصر والديوان: الدور السياسي للقبيلة في اليمن، (اليمن، المرصد اليمني لحقوق الإنسان، 2009)، ص 47.
(24) سمير العبدلي، ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية لقبائل اليمن: دراسة ميدانية، سلسلة أطروحات الدكتوراه (62)، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 73-76.
(25) الشرجبي وآخرون، القصر والديوان، مرجع سابق، ص 50-51.
(26) هاني عبادي محمد المغلس، “الدولة والاندماج الاجتماعي في اليمن: الفرص والتحديات”، عمران (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 4، ربيع 2013)، ص 106-110.
(27) العبدلي، ثقافة الديمقراطية في الحياة السياسية لقبائل اليمن، مرجع سابق، ص 98-111.
(28) المغلس، “الدولة والاندماج الاجتماعي في اليمن”، مرجع سابق، ص 112.
(29) Charles Schmitz, Understanding the Role of Tribes in Yemen, CTC Sentinel, Vol. 4, Issue 10, October 2011): 21.
(30) “اليمن: الأطراف الرئيسية وآفاق السلام”، المعهد الملكي للشؤون الدولية، (17-18 نوفمبر/تشرين الثاني 2015)، ص 6-7.
(31) Kumar Pradhan, Arab Spring and Sectarian Faultlines in West Asia, 11.
(32) Ibid, 70.
(33) Ofira Seliktar and Farhad Rezaei, Iran, Revolution, And Proxy Wars (Switzerland: Palgrave Macmillan, 2020), 220-228.
(34) Fozia Jan and Shazia Majid, Yemen Crises and the Role of Saudi Arabia, International Journal of Arts and Humanities, Spring Journals, Vol. 5(1), (January 2017): 193.
(35) Kumar Pradhan, Arab Spring and Sectarian Faultlines in West Asia, 74-76.
(36) Ibid, 76-79.
(37) Seliktar and Rezaei, Iran, Revolution, And Proxy Wars, 221.
(38) فراس عباس هاشم، النفوذ المتعاظم: إيران وأعباء التفكير الاستراتيجي حيال الصعود الإقليمي، (عمَّان، دار المعتز للنشر والتوزيع، 2016)، ص 120.
(39) حيدر الخفاجي، “حقيقة النوايا الإيرانية من إغلاق مضيق هرمز الدولي”، مركز البيان للدراسات والتخطيط، 5 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 27 ديسمبر/كانون الأول 2019): shorturl.at/koKX0.
(40) Seliktar and Rezaei, Iran, Revolution, And Proxy Wars, 222.
(41) عباس هاشم، النفوذ المتعاظم، مرجع سابق، ص 120-121.
(42) Seliktar and Rezaei, Iran, Revolution, And Proxy Wars, 222.
(43) Ibid, 223.
(44) محمد حسن القاضي، “الدور الإيراني في اليمن وانعكاساته على الأمن الإقليمي”، مركز الخليج العربي للدراسات الإيرانية، (د.ت)، ص 30-31.
(45) عباس هاشم، النفوذ المتعاظم، مرجع سابق، ص 119-120.
(46) حسن القاضي، “الدور الإيراني في اليمن وانعكاساته على الأمن الإقليمي”، ص 31.
(47) عباس هاشم، النفوذ المتعاظم، مرجع سابق، ص 120.
(48) Andrea B. Rugh, The Political Culture of Leadership in the United Arab Emirates, 1st ed. (New York: Palgrave MacMillan, 2007), 217.
(49) كريستوفر دافيدسون، ما بعد الشيوخ: الانهيار المقبل للممالك الخليجية، ط 1 (بيروت، مركز أوال للدراسات والتوثيق، 2014)، ص 99.
(50) Rugh, The Political Culture of Leadership in the United Arab Emirates, 196.
(51) Karen E. Young, The political Economy of Energy, Finance and Security in the United Arab Emirates: Between the Majilis and the Market, 1st ed. (New York: Palgrave MacMillan, 2014), 22.
(52) “عاصفة الحزم في عامها الرابع: هل يريد الخليج الانتصار على إيران أم لديه أطماع في اليمن؟”، مركز أبعاد للدراسات والبحوث، (مارس/آذار 2018)، ص 12-13.
(53) المرجع السابق، ص 22.
(54) “The United Arab Emirates (U.A.E): Issues for U.S. Policy,” Congressional Research Service, (November 2019):10-14.
(55) Ibid,13-14.
(56) “مستقبل النفوذ الإماراتي في اليمن”، مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، (د.ت)، ص 3-4.
(57) Leon Goldsmith, Oman-The conflict in Yemen Endangers Oman’s Neutrality, The Maghreb and Orient Courier, 5th year, 40th Issue, (April- May-June 2018): 1, 3.
(58) Alba Ripoll Gallardo et al., Yemen’s Unprecedented Humanitarian Crisis: Implications for International law, The Geneva Convention, and the Future of Global Health Security, (Disaster Medicine and Public Health Preparedness, 2016), 2.
(59) “تضييق الخناق: عراقيل التحالف والحوثيين تفاقم المعاناة الناجمة عن الأزمة الإنسانية في اليمن”، (لندن، منظمة العفو الدولية، 2018)، ص 9.
(60) مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، “اليمن: لمحة عامة حول شدة الصعوبة في وصول المساعدات الإنسانية”، (جنيف، نيويورك، يوليو/تموز 2018)، ص 1.
(61) “حالة حقوق الإنسان في اليمن بما في ذلك الانتهاكات والتجاوزات المرتكبة منذ أيلول/سبتمبر 2014″، (جنيف، مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة، سبتمبر/أيلول 2019)، ص 214-220.
(62) Seliktar and Rezaei, Iran, Revolution, And Proxy Wars, 228.
(63) “خطة الاستجابة الإنسانية لليمن”، (نيويورك، مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ديسمبر/كانون الأول-يناير/كانون الثاني، 2017)، ص 62.
(64) “تضييق الخناق”، مرجع سابق، ص 9.
(65) “خطة الاستجابة الإنسانية لليمن”، مرجع سابق، ص 5.
(66) Ibrahim Fraihat, Unfinished Revolutions: Yemen, Libya, and Tunisia after the Arab Spring (New Haven and London: Yale University Press, 2016), 75-79.
(67) جمانة فرحات، “الثورة اليمنية: الخلفية والآفاق”، عمران (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، العدد 4، ربيع 2013)، ص 251.
(68) الإسكندر مترسكي، “الحرب الأهلية في اليمن: صراع معقد وآفاق متباينة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (سبتمبر/أيلول 2015)، ص 10.
(69) المرجع السابق، ص 11.
(70) نهى أبو الدهب، “استرداد مستقبل اليمن: دور الشتات اليمني المحترف”، مركز بروكنجز، (أبريل/نيسان 2019)، ص 15.
(71) ماجد المذحجي وآخرون، “أدوار الفاعلين الإقليميين في اليمن وفرص صناعة السلام”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، (يونيو/حزيران 2015)، ص 6.
(72) عبد الكريم غانم، “تحدي التشظي الاجتماعي في اليمن”، مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، (مارس/آذار 2019)، ص 5.