ملخص
تتناول هذه الدراسة الظاهرة المركبة لمجموعات الألتراس في المغرب، بوصفها فاعلًا اجتماعيًّا وسياسيًّا يتجاوز الإطار الرياضي التقليدي. وقد رصدت الدراسة تطوّر هوية الألتراس من انطلاقة تأسيسية اتسمت بالعنف إلى بنية جماعية تعكس انتماءات جغرافية وسياسية وثقافية متعدّدة، مع قدرة لافتة على استيعاب التباينات الأيديولوجية دون الإخلال بتماسكها الداخلي.
تُبرز الدراسة كيف شكّل الفضاء الرياضي منصة للتعبير عن المواقف تجاه قضايا وطنية، وعلى رأسها الوحدة الترابية، حيث استطاعت مجموعات الألتراس توظيف الرموز الوطنية والدينية بما يعزّز ارتباطها بالثوابت الجامعة، وفي مقدّمتها الولاء للمؤسسة الملكية. كما تسجّل الدراسة تنامي توجه داخل بعض هذه المجموعات يسعى إلى المواءمة بين ثقافة الألتراس والمرجعيات الدينية والقيم المجتمعية السائدة، في ظل تنوّع مرجعياتها بين اليسارية والقومية والدينية والأمازيغية.
وتخلص الدراسة إلى أن الألتراس المغربي قد أصبح مكوِّنًا فاعلًا ضمن الديناميكيات الوطنية، وأسهم في إعادة تشكيل العلاقة بين الشباب والهوية الوطنية، من خلال تفاعله الحيوي مع القضايا السيادية، دون الخروج عن الإجماع الوطني العام.
الكلمات المفتاحية: الألتراس المغربي، الحركات الشبابية، الهوية الوطنية، الفضاء الرياضي، الرموز الوطنية، الانتماءات الأيديولوجية، الوحدة الترابية، الثقافة السياسية.
Abstract
This study examines the complex phenomenon of Ultras groups in Morocco as influential social and political actors extending beyond their conventional role in the realm of sports. It traces the evolution of their collective identity from an initially confrontational foundation to a more structured entity reflecting diverse geographical, political and cultural affiliations, all while maintaining remarkable internal cohesion despite ideological divergence.
The paper highlights how stadiums have become platforms for expressing positions on national issues—most notably the question of territorial integrity. Ultras groups have effectively mobilised national and religious symbols to affirm their alignment with foundational state principles, particularly loyalty to the monarchy. The study also notes the emergence of tendencies within some groups aiming to reconcile Ultras culture with prevailing religious and societal values, amid a broader spectrum of ideological references including leftist, nationalist, religious and Amazigh currents.
The findings suggest that Moroccan Ultras have become active participants in the country’s national dynamics, contributing to the reconfiguration of youth engagement with national identity through their assertive stance on sovereign issues—while remaining within the bounds of national consensus.
Keywords: Moroccan Ultras, youth movements, national identity, sports arena, national symbols, ideological affiliations, territorial integrity, political culture.
مقدمة
نشأت ظاهرة الألتراس في المغرب في سياق سياسي واجتماعي ورياضي معقد، عقب الأحداث الإرهابية التي هزت الدار البيضاء، عام 2003، وهو الحادث الذي دفع السلطة إلى إعادة التفكير في هوية الشباب المغربي وانتمائهم، حيث جاء الخطاب الملكي عام 2005 معلنًا عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لتوجيه طاقات الشباب نحو الأنشطة الإيجابية، ومنها الرياضة(1).
شهدت المرحلة نفسها أزمة داخلية ضربت الأحزاب السياسية والنقابات(2)؛ مما أفسح المجال لازدهار ثقافات بديلة بين الشباب، مثل الراب والهيب هوب، وكان الألتراس جزءًا من هذه الثقافات. من الناحية الرياضية، أسهمت النجاحات التي حققتها فرق مغربية في إعادة الحماس إلى الملاعب؛ مما أدى إلى نشأة مجموعات ألتراس، مثل “غرين بويز” و”عسكري الرباط”، التي استلهمت أساليبها من ثقافة الألتراس الإيطالية(3) دون تدخل أو إيعاز من السلطة.
قامت العلاقة بين الألتراس والسلطة في البداية على هدنة غير رسمية، غير أنها سرعان ما تحولت إلى صراع بعد عام 2011 مع تطبيق قانون 09.09 وزيادة الإجراءات الأمنية في الملاعب الرياضية. أدى هذا التصعيد إلى تدهور العلاقة بين الألتراس والسلطة؛ حيث أصبحت هذه المجموعات ترى في أجهزة الأمن والإعلام خصومًا مباشرين. ورغم محاولات السلطة لاحتواء الألتراس، ظلت الأخيرة تعبِّر عن استقلاليتها وتتخذ مواقف معارضة؛ مما أدى إلى حظر أنشطتها عام 2016، وإن جاء هذا الحظر نتيجةً مباشرة لتزايد أعمال العنف بين المجموعات(4).
ظل الألتراس، رغم ذلك، تعبِّر عن تطلعاتها ومطالبها من خلال الشعارات المرفوعة في المدرجات، مؤكدة عدم ولائها لأي جهة سياسية محددة. فتارة تظهر كمعارضة للسلطة، وتارة مدافعة عن الثوابت الوطنية. ويعكس هذا التفاعل المستمر بين الألتراس والسلطة صراعًا دائمًا، يسعى فيه كل طرف إلى استغلال الآخر لتحقيق مصالحه وأهدافه الخاصة، تعبيرًا عن طبيعة العلاقة المعقدة بين الطرفين.
تتناول هذه الورقة البحثية العلاقة المعقدة بين الألتراس والسلطة في المغرب؛ حيث يعبِّر الألتراس عن تطلعاته ومواقفه من خلال شعاراته. وتحاول الإجابة عن عدد من الإشكاليات، من قبيل: كيف تتراوح مواقف الألتراس الهوياتية والأيديولوجية بين معارضة السلطة والدفاع عن الثوابت الوطنية؟ وهل يمتلك الألتراس هوية جماعية موحدة أم هويات متعددة؟ وهل يتماهى الانتماء إلى مجموعة الألتراس مع تبني أيديولوجيا محددة أم أن المواقف المعبَّر عنها تعكس أيديولوجيا التيارات المسيطرة داخل المجموعات؟ وما مواقف هذه المجموعات من الثوابت الوطنية؟ وما حدود هذه المواقف؟
ولمعالجة هذه الإشكاليات، تم اعتماد تصميم منهجي يستند إلى مقاربة مزدوجة تجمع بين المنهج الكمي والمنهج النوعي، للإحاطة بجوانب الظاهرة وتحليلها من زوايا متعددة تجمع بين التفسير السوسيولوجي، والفهم الأيديولوجي، والسياق السياسي. وتنقسم الورقة، في هذا الإطار، إلى أربعة مستويات تحليلية متكاملة: يشكِّل أولها الإطار النظري والمنهجي الذي يعرض الخلفيات النظرية والمعطيات المنهجية المعتمدة، يليه تحليل التحول من هوية مبنية على العنف إلى تمايزات هوياتية داخل مجموعات الألتراس، ثم تفكيك البنية الأيديولوجية لهذه المجموعات ومواقفها من منطق الهيمنة، وأخيرًا استجلاء تفاعل الألتراس مع السياق العام وتحديد تمثلاتها للثوابت الوطنية.
أولًا: الإطار النظري والمنهجي
تعكس الأدبيات العلمية التي تناولت ظاهرة الألتراس في السياق المغربي تعدد المقاربات النظرية والمنهجية وتنوع زوايا التحليل، بين القراءات السوسيولوجية، والمداخل السياسية، والدراسات التي تنطلق من تحليل الخطاب والسلوك الاحتجاجي داخل الملاعب. ويمكن تصنيف هذه الأدبيات وفق خط تراكمي يكشف عن انتقال تدريجي من دراسة الألتراس كظاهرة عنيفة إلى فهمها كفاعل رمزي وسياسي ضمن ديناميات اجتماعية وثقافية مركبة.
في هذا الإطار، يأتي عمل عبد الرحيم بورقية Des Ultras dans la Ville (5)، باعتباره من الإسهامات السوسيولوجية التي تناولت ظاهرة الألتراس بوصفها تعبيرًا عن أشكال جديدة من التنظيم الاجتماعي داخل الفضاءات الحضرية المهمشة، وقد انطلق من تحليل أشكال العنف الجماعي المرتبط بالملاعب الرياضية، متسائلًا عن منطق التحول من التشجيع الرياضي إلى العنف الرمزي والمادي، مع التركيز على الطقوس الاحتفالية التي تنتجها مجموعات الألتراس، مثل التيفوهات، والشعارات، والأهازيج، واللافتات. واعتُبرت هذه الممارسات امتدادًا لِبِنْيات جماعية قائمة على التضامن، يتم من خلالها التعبير عن الانتماء، ورفض التهميش، وإعادة بناء الرمزية داخل الحيز العام. وأكدت الدراسة أن التنظيم الداخلي للألتراس يُشكِّل نوعًا من “البدائل الاجتماعية” التي تسعى إلى إنتاج موقع ذاتي مستقل داخل المدينة، من خلال خطاب يقوم على المواجهة والتمييز الرمزي عن باقي مكونات المجتمع.
تندرج في السياق نفسه دراسة سعيد بنيس المنشورة في مجلة لباب(6)، التي تناولت تمثلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب وتأثيراته السياسية. وقد اعتمدت الدراسة مقاربة تحليلية لخطاب الألتراس، انطلاقًا من نظرية التفاعلية الرمزية لإيرفينغ كوفمان (Erving Goffman)، ومن خلال توظيف أدوات البحث الكيفي، كالملاحظة وتحليل التفاعلات الخطابية واللغوية الرقمية، ضمن أفق تأويلي يربط بين الأداء الاحتفالي في الملاعب وبلاغة الخطاب الاحتجاجي الرقمي. وخلصت الدراسة إلى أن الألتراس في المغرب يشكِّلون فاعلًا احتجاجيًّا جديدًا لا يندرج ضمن البنيات الكلاسيكية للمجتمع السياسي، بل يعيدون تشكيل شروط التعبئة من خلال “مسرحة” المطالب وتكثيف الرموز داخل فضاء افتراضي وواقعي مزدوج. وقدمت فرضية مفادها أن الملاعب باتت فضاءً بديلًا لممارسة الفعل السياسي، وأن الأشكال التعبيرية للألتراس تمثل إستراتيجيات مقاومة رمزية ضد منطق الإقصاء والتهميش؛ مما يمنح الخطاب الاحتجاجي لهذه الفئة الشبابية قوة رمزية وتأثيرًا سياسيًّا متصاعدًا.
أما في حقل العلوم السياسية، فقد تم الاشتغال على الظاهرة ضمن مسار تراكمي قام به حمزة الكندي، ابتدأ برسالة ماستر بعنوان “الألتراس بالمغرب: انتماء رياضي أم حركة سياسية؟”(7). وتناولت هذه الدراسة ظاهرة الألتراس من خلال تحليل بنيتها التنظيمية، والتمفصلات الداخلية التي تحكم سير عملها، وعلاقتها بالسلطة وموقعها داخل الحقل السياسي، إضافة إلى تفكيك المرجعيات المفاهيمية المميزة لها، ومقارنتها بظواهر مجاورة كالهوليغانز (Hooligans) والبارا برافا (Barras Bravas). وتم التركيز على تحليل الألتراس بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا له تمثلات جماعية، يسائل السلطة، ويؤسس لنمط خاص من التعبئة الرمزية داخل فضاء مديني وسياق سياسي محدد. وأُدرجت في هذا العمل مفاهيم مثل “نقابة المدرجات” و”الحركة الاحتجاجية الرمزية” لفهم أشكال التفاعل مع قضايا الشأن العام.
توسعت المقاربة في أطروحة الدكتوراه التي أنجزها الباحث نفسه تحت عنوان الأبعاد السياسية لحركة الألتراس بالمغرب: بين هاجس التقنين والصيرورة الاحتجاجية(8)، التي سعت إلى الربط بين الحقل السياسي والحقل الرمزي للألتراس، من خلال تأطير الظاهرة داخل ثلاثية: الهوية، والتنظيم، والعنف. واعتمدت الأطروحة مدخلًا تركيبيًّا يجمع بين علم السياسة والدراسات الرياضية وتحليل السياسات العمومية، مع التركيز على تمثلات المجموعات للثوابت الوطنية، وتحليل مشاركتها السياسية والمدنية، وانخراطها في قضايا الشأن العام من خارج الأطر التقليدية. وناقشت الأطروحة العلاقة بين السلطة والمجموعة، وحدود التقنين القانوني، والتوترات الناتجة عن تدخل الدولة في الفضاءات الرمزية التي يسيطر عليها الألتراس.
تعزز هذا المسار بكتاب لاحق بعنوان “الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة”(9)، قُدمت فيه مقاربة تحليلية تجمع بين التأصيل المفاهيمي للظاهرة، والسردية التاريخية لنشأتها وتطورها، وتحليل تفاعلاتها مع مؤسسات الدولة، انطلاقًا من بنيتها التنظيمية ومواقفها السياسية. وتم التركيز في هذا العمل على دراسة الانتقالات التي شهدتها الحركة من الاحتفالية الرياضية إلى التعبئة الرمزية، ومن الولاء للنادي إلى التفاعل مع قضايا اجتماعية وسياسية.
يُضاف إلى ذلك عمل بوشعيب فهمي “مجموعات الألتراس: نحو راديكالية العنف وتسييس مدرجات الملاعب”(10)، الذي تناول الظاهرة انطلاقًا من مقاربة سوسيولوجية تركز على تحليل العنف داخل الملاعب، من حيث كونه امتدادًا للعنف الحضري، ومن حيث ارتباطه بالبنية التنظيمية للمجموعات، وتموقعها في السياسات العمومية. وأبرز هذا العمل كيف أن العنف لم يعد مجرد رد فعل شبابي، بل تحول إلى أداة رمزية لإنتاج المعنى، في ظل غياب إستراتيجيات احتواء فعَّالة. غير أن المقاربة المعتمدة في هذا العمل ظلت تركز على البعد الزجري والاحتجاجي دون توسع في دراسة الرمزية الداخلية والخطاب المرتبط بالهوية أو الثوابت الوطنية.
رغم تنوع هذه المقاربات وتعدد زوايا تحليلها، فإنها لم تعالج بشكل مباشر العلاقة بين البناء الهوياتي لمجموعات الألتراس وتمثلاتها للثوابت الوطنية، وهي الزاوية التي تسعى هذه الدراسة إلى معالجتها، من خلال تحليل تمثلات الدين، والوحدة الترابية، والملكية، كمتغيرات دالَّة على الخطاب الرمزي للمجموعات، وعلى تموقعها داخل النسق السياسي المغربي.
تعتمد هذه الدراسة على مقاربة منهجية تجمع بين المنهج الكمي والمنهج النوعي، بما يتيح فهمًا تركيبيًّا لظاهرة الألتراس من زاوية الهوية والأيديولوجيا وموقعها من الثوابت الوطنية. وقد تم اختيار هذا الدمج المنهجي بالنظر إلى تداخل الأبعاد الرمزية والثقافية والسياسية للظاهرة؛ مما يستدعي استنطاق التجربة الذاتية (النوعي)، إلى جانب استقراء المؤشرات العامة داخل مختلف المجموعات (الكمي).
تم توظيف تقنية الملاحظة بالمشاركة من خلال حضور أكثر من مئة مباراة، موزعة على مختلف المنافسات الوطنية والقارية؛ مما أتاح رصدًا مباشرًا لسلوك الألتراس، وتوثيق الشعارات والمواقف الرمزية في سياقات متباينة. كما تم إجراء ثلاث عشرة مقابلة نصف موجهة مع أعضاء ينتمون لسبع مجموعات ألتراس بارزة، مع احترام المعايير الأخلاقية للبحث العلمي(11)؛ مما سمح بفهم التمثلات الذاتية لأعضاء المجموعات بخصوص الهوية، والسلطة، والثوابت الوطنية.
أما على المستوى الكمي، فتم توزيع 3068 استبيانات على أعضاء 23 مجموعة ألتراس، واحتُفظ بـ961 استبيانًا صالحًا يمثلون 11 ناديًا من مختلف أقسام البطولة. وتناولت الاستبيانات متغيرات الدراسة التابعة (مواقف من الدين، الوحدة الترابية، الملكية)، في مقابل متغيرات مستقلة تمثلت في: الانتماء إلى المجموعة، ومدة العضوية، والمستوى التعليمي، ونوع النشاط داخل المجموعة.
تم أيضًا تحليل وثائق صادرة عن مجموعات الألتراس، تشمل بيانات رسمية، وصورًا رقمية، وفيديوهات منشورة، وجداريات، بالإضافة إلى تفعيل منهج الإثنوغرافيا الافتراضية (Virtual Ethnography) لاستكشاف الممارسات الرمزية داخل الفضاء الرقمي. وتم تحليل المعطيات النوعية عبر تقنية التحليل الموضوعاتي، في حين عُولجت النتائج الكمية باستخدام أدوات التحليل الإحصائي الوصفي.
ثانيًا: من الهوية المبنية على العنف إلى التمايز الهوياتي
عرفت المرحلة التأسيسية لمجموعات الألتراس، نوعًا من الفهم المغلوط للظاهرة؛ حيث اتسمت خلال بدايتها بنوع من التخبط والانخراط في صراعات مبنية على العنف بين الفصائل وبذلك، أصبحت هوية هذه المجموعات مبنية على العنف، لتنخرط هذه المجموعات في عملية التأسيس لهوية جماعية تستند في مصادرها على المجال الجغرافي والتاريخ والسياسة والثقافة المحلية
- الهوية المبنية على العنف
كشف التكاثر الذاتي لمجموعات الألتراس خلال السنوات الأولى من نشأتها بالمغرب عن سمات مشتركة بينها وبين مجموعات الهوليغانز (Hooligans) البريطانية. فقد غابت في البداية القدرة على التمييز بين النموذجين، سواء لدى الجماهير المغربية أو لدى العديد من المجموعات نفسها. ويُعزى ذلك إلى أن الهوية التأسيسية(12) لعدد من هذه المجموعات كانت مبنية على العنف(13) والتعصب للمجال الجغرافي.
في هذه المرحلة التأسيسية من تشكل هوية الألتراس في السياق المغربي، لعبت الملاعب دور الحلقة الأخيرة في سلسلة التنشئة الاجتماعية التي تخضع لها هذه المجموعات. غير أن هذا المسار لا يبدأ داخل الملعب، بل يتبلور -أولًا- في أحياء المدينة، ومن خلال علاقات الأصدقاء، واجتماعات الخلايا والفروع، ثم الاجتماعات الموسعة للمجموعة. تبقى لحظة الالتحام داخل الملعب هي الذروة التي تبلغ عندها هذه العملية التربوية/الاجتماعية أقصى تجلياتها(14). ويتماهى هذا المسار إلى حدٍّ كبير مع تطور آليات التنشئة الاجتماعية عند مجموعات الألتراس في إيطاليا، كما أشار إلى ذلك(15).
بما أن الموقع المكاني لا يُعد مهمًّا فقط في توليد الخبرات والعادات المشتركة التي تسهم في تشكيل الهويات، بل كذلك في توفير فضاء للمقاومة ضد السلطة، وعدم المساواة، وأشكال القمع المتصورة(16)، فإن العديد من أعضاء مجموعات الألتراس يشيرون إلى أن انخراطهم في الحركية لم يبدأ في المدرجات، بل في أماكن اجتماعية أخرى.
يقول أحد أعضاء مجموعة “الألتراس ريد بيراط”: “في أزقة سلا، ستعرف أن الأطفال الصغار والشباب لا يمكن أن يعرفوا مكانة جمعية سلا بالنسبة للمدينة، كما لا يمكنهم معرفة هوية هذه المدينة التي طالها الإهمال. لذلك، فنحن نعمل على ترسيخ هوية مدينتنا وفريقنا من خلال الجداريات التي ستجدها في كل الأزقة والشوارع الرئيسية للمدينة”. ويضيف: “هذه الممارسة ينبغي أن تسهم في ترسيخ ذاكرة السلاويين وهويتهم”.
بهذا الشكل، يتم ربط تاريخ المدينة بحاضرها؛ مما يسهِّل على الأطفال واليافعين تعزيز انتمائهم للمجال. ومن ثم، تعميق ارتباطهم بالمجموعة التي تسهم من خلال أنشطتها في بناء هويتهم كأفراد، داخل وخارج الملعب. كما يتم تلقينهم مبادئ وأعراف المجموعة، حتى تنصهر هويتهم الفردية تدريجيًّا داخل هوية الجماعة(17).
يمثل امتلاك الهوية سلسلة من الممارسات التي يتم من خلالها تجسيدها وتتضمن علاقات القوة والتبعية والإقصاء(18). مع مرور الوقت، يصبح التسلسل الهرمي والكفاءة التنظيمية رسمية وملزمة. بالنسبة لمجموعة الألتراس “عسكري الرباط”، فأنْ تكون “ألتراس” يعني ببساطة أن تكون مؤمنًا بمبادئ المجموعة، مثل الثقة، والشجاعة، والتضامن، والصلابة، ونكران الذات، التي تصبح جزءًا لا يتجزأ من هوية الفرد عضو المجموعة. فأن تنتمي لمجموعة الألتراس “عسكري الرباط” يعني أن تتشرب هذه المبادئ منذ أول حضور لك لأي نشاط للمجموعة، وتواصل تلقيها طوال فترة عضويتك، وتعمل لاحقًا على نقلها إلى الأعضاء الجدد. إنها صيرورة حتمية مبنية على الأخذ والعطاء من أجل خدمة المدينة والنادي والمجموعة، التي تُعد الحلقة الأولى والأخيرة في هذه العملية(19).
يُعاد استيعاب التجربة والمبادئ والأعراف التي يتم تلقينها من خلال التنشئة الاجتماعية خارج حدود الملعب، ويتجلى ذلك في مظهر من مظاهر الهوية الجماعية المبنية على ما يمكن وصفه بـ”عسكرة الجماعة”. تظهر هذه العسكرة في رموز محددة، أبرزها وجود علم يُمنع سقوطه في يد الخصوم، إلى جانب قارعي الطبول، والأعلام، والرايات التي تجسد الانتماء إلى كيان يتمتع بهوية معنوية وبصرية دقيقة.
يبرز الألتراس في هذا السياق كعقيدة جماعية، تُقدَّم في شكل رؤية مانوية تُشعر المنتمين بالطمأنينة. وتقوم هذه الرؤية على ثنائية الأصدقاء مقابل الأعداء؛ مما يخلق مخيلة ثنائية تُعاد صياغتها باستمرار لدى المشجع الشاب. وتُغذَّى هذه المخيلة بشخصيات رمزية وأسطورية جديدة، ومضامين بصرية ومعنوية مستلهمة من سياق لعبة كرة القدم، ومن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، بل وحتى الديني في بعض الأحيان(20).
لهذا السبب، ظلت هوية الألتراس، خاصة عند ما يُعرف بالمدرسة القديمة، مبنية لفترة طويلة على القوة والعنف والتعصب. ويُعزى ذلك إلى قدرتها على تحويل “الكورفا” (Curva) بوجه خاص، والمدرجات بوجه عام، إلى عالم مصغر مكتفٍ بذاته وشامل. وأسهمت الأصول الاجتماعية، والدوافع والمحفزات الذاتية، ونمط الحياة، وأسلوب التشجيع المختلف، إضافة إلى القواعد والمعايير الناظمة لسلوك المجموعة، في تكريس هذا النموذج الهوياتي. تحولت هذه الخصائص إلى نموذج يحتذى به من طرف المشجعين الجدد، بل وحتى من قبل فئة واسعة من المشجعين القدامى.
فرضت هذه الثقافة نوعًا من الهيمنة على استخدام العنف وتوجيهه نحو من يُصنَّفون أعداءً خارجيين، وتمكنت من إخماد الآراء الشخصية المختلفة باسم الإيمان الجماعي المشترك. بذلك، نجحت في منح كل عضو من أعضاء مجموعات الألتراس بالمغرب سمات العالم المصغر المكتفي بذاته، الذي يضمن دمجًا عاطفيًّا لكل فرد في دوره الخاص، مع تحميله مسؤوليات وواجبات محددة داخل الجماعة، وتعزيز شعوره بالانتماء إلى الكل وإلى البُعد الجماعي للمجموعة.
يمكن فهم هذا التماهي انطلاقًا من تصور جاك دريدا (Jacques Derrida) حول الهوية، باعتبارها دائمًا مفككة. فالهويات، وفق هذا المنظور، لا تُختبر بوصفها مكتملة، وإنما تظل في حالة من النقص البنيوي، لأنها لا تتشكل إلا من خلال تمايز يحد في الآن نفسه من وحدتها، ويجعلها قائمة على حضور الآخر الذي يمنحها معناها ويكمل تعريفها.
- التمايز الهوياتي
أضحت القاعدة الجماهيرية لكرة القدم في المغرب تشكل امتدادًا لهوية الفرد من الناحية الوجودية؛ إذ لم يعد الفريق مجرد كيان خارجي يتابعه المشجع، بل أصبح امتدادًا ذاتيًّا له. يتجلى هذا التماهي في اللغة اليومية المتداولة داخل الفضاء الجماهيري؛ حيث يُستخدم ضمير الجمع في الإحالة إلى نتائج الفريق، فيقال مثلًا: “ربحناهم”، أو “غلبناهم”، أو “كيلناهم فالتيران”، في حين أن المقصود هو: “لقد فاز الفريق الذي أشجعه”. ويتكرر الأمر في الأسئلة الجماعية مثل: “شنو درتوا مع الحمرين؟” أو “شنو درتوا مع الخضرين؟”، وهي صيغ تشير إلى نوع من الذوبان الهوياتي للفرد داخل جماعة المشجعين.
إن استخدام ضمير الجماعة في هذا السياق يعبِّر عن انصهار الذات الفردية في الذات الجماعية، بحيث لا يُنظر إلى الفريق باعتباره كيانًا مستقلًّا، بل يُتمثَّل بوصفه جزءًا من هوية الفرد ومصدرًا لمشاعره الجماعية. كما يعكس هذا الاندماج نوعًا من التماهي في مواجهة الجماهير الأخرى أو في مواجهة السلطة ومؤسسات التسيير الرياضي، سواء تعلَّق الأمر بإدارة النادي أو بالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم. ويصبح التعبير بصيغة المفرد في هذا السياق حاملًا لمعاني الجماعة، التي يُنظر إليها بوصفها جسدًا واحدًا له هوية وذاكرة وانتماء مشترك.
عملت مجموعات الألتراس المغربية منذ الوهلة الأولى لتأسيسها على التوحد بجماعة يتقاسم الأفراد من خلالها الإحساس بالانتماء والشعور بالهوية المشتركة. وإن كانت الهوية التأسيسية لمجموعات الألتراس مبنية على العنف وثقافة القوة، فقد أضحت هذه المجموعات ترسخ التمايز فيما بينها على أساس الهوية، التي تُستمد من المجال الجغرافي، والثقافة، والتاريخ المحلي للمنطقة التي تنتمي إليها هذه المجموعات، إلى جانب هوية النادي بشكل أساسي، وهو ما يمكن استشفافه من خلال تسمياتها.
الملاحظة الأولى التي يمكن رصدها في تسميات مجموعات الألتراس المغربية هي غياب الهوية اللغوية العربية عنها؛ حيث ترتكز غالبية هذه التسميات على اللغة الإنجليزية(21)، باستثناء المجموعات المنتمية لشمال المغرب التي ترتكز على اللغة الإسبانية، مثل “لوس مطادوريس” (Los Matadores)، و”لوس ريفينوس” (Los Rifenos)، و”سييمبري بالوما” (Siempre Paloma)، وهو ما يُعزى إلى خضوع هذه المنطقة لفترة طويلة إلى الاستعمار الإسباني.
في حالات أخرى، تظهر هذه التسميات كاستعارة هوياتية مثل “حلالة بويز”؛ حيث يشير مصطلح “حلالة” إلى نبات محلي بمنطقة القنيطرة، أو “إيمازيغن”، و”صحارى”، و”سواسة”، و”ريفينوس”؛ إذ تحيل هذه الألفاظ على اسم ساكنة المناطق التي تنتمي لها هذه المجموعات(22). كما قد تحيل تسميات أخرى إلى هوية مبنية على القوة والعنف والتعصب، مثل “وينرز” (Winners)، و”فاناتيك” (Fanatic)، و”ماتادوريس” (Matadores)، و”فايترز” (Fighters).
قد نجد أيضًا مجموعات تبني هويتها على النشاط الاقتصادي للمنطقة، مثل “الألتراس شارك” (Ultras Shark) التي تحيل إلى القروش المنتمية إلى مدينة آسفي والتي ترتكز على الصيد البحري، إلى جانب “أورانج بويز” (Orange Boys) التي تشير إلى البرتقال في مدينة بركان؛ حيث تُعرف المنطقة بالنشاط الفلاحي المرتكز على زراعة الحمضيات(23).
تحيل تسميات مجموعات أخرى إلى هوية مبنية على أساس مجالي، مثل “عسكري الرباط” أو “2 طان” نسبة إلى مدينة طانطان، إلى جانب “بريغاد وجدة”. وقد تحيل إلى هوية ثقافية مثل “عيساوي بويز” التي تُحيل على موسيقى “عيساوة” المشهورة في مدينة مكناس، أو إلى هوية قبلية مثل “دوص كالاص” نسبة إلى قبائل دكالة المتواجدة بمنطقة الجديدة، أو “سواسة بويز” نسبة إلى قبائل سوس، و”الريف بويز” نسبة إلى قبائل الريف.
في العاصمة، الرباط، وبالنسبة للمجموعتين المساندتين لنادي الجيش الملكي، وهما: “الألتراس عسكري الرباط 5” و”الجيش الأسود 6″، يمكن تمييز الهوية المجالية للجماهير، والهوية العسكرية للنادي، من خلال بعض الرموز البصرية المعتمدة. يتجلى ذلك، على سبيل المثال، في لافتة التنقل الخاصة بمجموعة “الألتراس عسكري الرباط”، التي كُتبت عليها عبارة “RABAT” باللون الأبيض على خلفية تتخذ ألوانًا عسكرية. كما تُطرح في السوق مجموعة من المنتجات التي تحمل نفس الرموز اللونية؛ مما يعكس ارتباطًا رمزيًّا قويًّا بين هوية المجموعة والنادي الذي تمثله.
جدول (1): الدلالات الهوياتية لتسميات مجموعات الألتراس المغربية
اسم المجموعة | الدلالة الهوياتية |
الألتراس عسكري الرباط | الهوية العسكرية للنادي/الارتباط الهوياتي بالمجال–المدينة |
بلاك أرمي/الجيش الأسود | الهوية العسكرية للنادي/الارتباط الهوياتي بألوان النادي |
غرين بويز/أولاد الخضراء | الارتباط الهوياتي بألوان النادي |
ريد بيراط/القراصنة الحمر | الارتباط الهوياتي بألوان النادي–بتاريخ مدينة سلا |
إيمازيغن | الارتباط الهوياتي بالثقافة الأمازيغية |
حلالة بويز | الارتباط الهوياتي بالمجال–حلالة هي نبتة منتشرة بالقنيطرة ومدن الغرب بالمملكة المغربية |
سييمبري بالوما/الحمامة إلى الأبد | الارتباط الهوياتي بالمجال–الحمامة معلمة من معالم مدينة تطوان |
الألتراس هيركوليس | الارتباط الهوياتي بالمجال وبتاريخ المدينة–نسبة لمغارة هرقل وهي مَعْلَم من المعالم التاريخية للمدينة |
ألتراس صحارى | الارتباط الهوياتي بالمجال وبالصحراء المغربية |
ألتراس شارك | الارتباط الهوياتي بالمجال والنشاط الاقتصادي للمدينة |
المصدر: من إعداد الباحث
تعبِّر مجموعات الألتراس عن هويتها السياسية من خلال عدد من الرموز البصرية والممارسات الميدانية. يظهر ذلك، أولًا، عبر المنتوجات الرسمية للمجموعة أو أعلامها المعتمدة، التي تتضمن شعارات ذات حمولة سياسية واضحة، من قبيل النجمة الحمراء أو قبضة اليد(24). كما تُرفع صور بعض الشخصيات ذات الرمزية النضالية، مثل صورة تشي غيفارا (Che Guevara)(25) أو موحا أحمو الزياني(26). في السياق نفسه، تعمد مجموعات ألتراس مغربية إلى رفع أعلام دول معينة كموقف مناصر لقضايا التحرر الوطني، وعلى رأسها علم فلسطين، الذي بات مشتركًا بين جل المجموعات المغربية(27).
تنعكس الهوية السياسية أيضًا من خلال الرسائل الموجهة التي تعبِّر أحيانًا عن التوجه الأيديولوجي للمجموعة. فعلى سبيل المثال، ترفع مجموعة “الجيش الأسود” رسائل تحمل عبارات مثل “BLACK BLOC” و”ANARCHISME”، في دلالة على انخراطها في مرجعية أناركية.
تعتمد بعض المجموعات كذلك على الرمزية الوطنية في مظهرها الخارجي؛ إذ ظهرت المجموعة الموسيقية التابعة لـ”الوينرز” في مدرجات “الكورفا نورد” (Curva Nord) وهي ترتدي “السلهام” والطربوش الوطني، في تعبير مباشر عن ارتباط نادي الوداد الرياضي بتاريخ المقاومة(28)، وعن اعتباره “وداد الأمة” كما يصفه أنصاره.
يُعبَّر عن الهوية السياسية أيضًا من خلال الأعلام المرفوعة داخل المدرجات، سواء تلك ذات البُعد المحلي كالعلم الأمازيغي الذي ترفعه مجموعة “إيمازيغن”(29)، أو الأعلام التاريخية مثل علم الإيالة الشريفة، الذي ترفعه مجموعة “الغرين غوست”، كرمز لتبنيها هوية سياسية تنطلق من تمثل وطني محافظ يعكس صورة “المور” المغاربة(30).
صورة (1): حضور الهوية بمدرجات الألتراس الغربي
المصدر: الصورة (1) من الصفحة الرسمية لألتراس وينرز، والصورة (5) من الصفحة الرسمية لألتراس حلالة بويز، أما باقي الصور فقد تم التقاطها خلال البحث الميداني.
ثالثًا:البنية الأيديولوجية
ليست الأيديولوجيا مفهومًا عاديًّا يمكن وصفه ببساطة من خلال تمثل واقعي مباشر، كما لا يُعد مفهومًا مجردًا متولدًا عن بديهيات ثابتة. بل هو بناء اجتماعي-تاريخي مركب، يحمل في طياته آثار تطورات وصراعات ومناظرات سياسية واجتماعية ممتدة. فهو، بهذا المعنى، يشبه مفاهيم كبرى مثل الدولة، والحرية، والمادة، والإنسان(31). وانطلاقًا من هذا التصور، يمكن لمحتوى رسائل الألتراس وأنشطتها أن يوفر معطيات مهمة حول العناصر التأسيسية للأيديولوجيا، وأشكال تمثلها داخل هذه المجموعات. غير أن هذه التعبيرات لا تُفهم بمعزل عن سياقاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وأحيانًا الرياضية. كما لا يمكن مقاربة مضمونها دون التوقف عند البنية الأيديولوجية المؤطرة لها.
ذلك أن الشعارات، والأغاني الرسمية، والبيانات الصادرة عن المجموعات، تعد أدبيات مرجعية تساعد على فهم توجهات الألتراس، وتموقعاتها ضمن الحركية بصفة عامة.
لفهم الخط الأيديولوجي والتوجهات السياسية والفكرية لكل مجموعة، ينبغي أولًا التعرف على الانتماءات الأيديولوجية لأعضائها، وموقف المجموعة من تبني أعضائها لهذه الأيديولوجيا، وهل تركز المجموعات خلال الانخراط على الانتماءات الأيديولوجية للأعضاء، حتى نتمكن من فهم التموقع الأيديولوجي لهذه المجموعات، وهل تعبر مواقفها عن تجانس أيديولوجي أم عن موقف الأغلبية المهيمنة.
يتبين من خلال نتائج هذا الاستبيان أن مجموعات الألتراس لا تعير أي أهمية للانتماء الأيديولوجي للأعضاء المنتمين لها. فحسب إجابات عينة البحث، لم يسبق لهذه المجموعات أن رفضت انضمام عضو لها أو طردت عضوًا بسبب توجهه السياسي أو الأيديولوجي. في المقابل، ذكر 34.75 بالمئة من الأعضاء المستجْوَبين أنهم يتموقعون أيديولوجيًّا في اليسار، في حين ذكر 13.73 بالمئة منهم أنهم يتموقعون في اليمين، كما ذكر 51.50 بالمئة أنهم أقرب أيديولوجيًّا إلى التوجه الإسلامي.
تؤكد هذه النتائج أن الانتماءات الأيديولوجية لأعضاء مجموعات الألتراس، كما هو مبين في “الشكل 2″، تعرف سيطرة تامة للأعضاء الأقرب تموقعًا إلى الخط الإسلامي على مستوى الحركة ككل؛ مما قد يفسِّر تبني بعض المجموعات لما يُعرف حاليًّا بـ”الألتراس بعقلية إسلامية”. كما أن بنية الحركة تعرف وجودًا وازنًا للأعضاء المتموقعين في اليسار، بينما يفسر وجود أقلية من الأعضاء المنتمين إلى اليمين الحضور القوي لراية الإيالة الشريفة في السنوات الأخيرة بالمدرجات المغربية، والتي تعد رمزًا رسميًّا لتيار اليمين القومي المغربي.
وجود أغلبية متموقعة في صف الإسلاميين لا يعني سيطرة الجماعات الإسلامية أو حزب العدالة والتنمية الإسلامي على مجموعات الألتراس المغربية كما حدث بمصر، ولا يعني أن العلاقة بين التيارات الإسلامية والمجموعات لها ارتباطات وعلاقات واقعية بالجماعات الإسلامية بالمغرب كما كانت العلاقة بين الألتراس والإخوان المسلمين في مصر. من جهة أخرى، فإن النتائج الواردة في “الشكل 2” تؤكد عدم سيطرة تيار أو خط أيديولوجي معين على مجموعة واحدة. وبذلك، فإن كل مجموعة تشكل مزيجًا من مختلف المشارب الأيديولوجية، والتي وإن كان من الممكن أن تتموقع في اليسار أو في اليمين أو إلى جانب الإسلاميين، إلا أنها ليست على نفس الخط(32). على سبيل المثال، عندما نتحدث عن اليسار عند مجموعة “الجيش الأسود”، فإننا نتحدث عن الماركسيين (Marxists)، والتيار الأناركي (Anarchism)، والماركسيين الجدد (New Marxists)؛ مما يعني أن داخل التموقع الواحد يوجد تشتت. هكذا، فالهوية السياسية للأعضاء ليست هوية موحدة(33).
شكل (1): مؤشر التموقع الإيديولوجي لأعضاء مجموعات الألتراس المغربي
المصدر: من إعداد الباحث
أما بالنسبة للتوجه السياسي العام لكل مجموعة على حدة، فقد اعتبر أغلب الأعضاء أن مجموعتهم ليس لها توجه سياسي محدد، باستثناء مجموعة “حلالة بويز” التي أكد جميع أعضائها المستجوبين أن للمجموعة خطًّا سياسيًّا واضحًا يتمثل في “التوجه الإسلامي”، وهو ما يفسر دعوات المجموعة لتبني مبادئ الألتراس بعقلية إسلامية. من جهة أخرى، أكدت نسبة 66.66 بالمئة من أعضاء مجموعتي الألتراس “إيمازيغن” و”الريد ريبلز” أن المجموعتين لهما توجه سياسي محدد يتماشى مع توجهات التيار القومي الأمازيغي، بما ينسجم مع سيطرة الحركة الثقافية الأمازيغية على الفصيلين، من جهة أولى. ومن جهة ثانية، يمكن تفسير هذا المعطى من منطلق الجغرافيا السياسية، إذ إن وجود المجموعتين بمنطقة سوس ماسة قد يفسر هيمنة التيار الأمازيغي عليهما.
جدول(2): مؤشر التوجه السياسي للمجموعة من وجهة نظر الأعضاء (34)
هل للمجموعة توجه سياسي محدد؟: | نعم | لا |
الغرين بويز والغرين إيغلز | 18 | 144 |
ألتراس عسكري والبلاك أرمي | 46 | 202 |
ألتراس وينرز | 0 | 242 |
ألتراس هيركوليس | 0 | 42 |
ألتراس ريزينغ | 10 | 38 |
ألتراس فتال تيغرز | 0 | 76 |
سيمبري بالوما ولوص ماتادوريس | 0 | 24 |
ألتراس إيمازيغن والريد ريبلز | 26 | 13 |
ألتراس حلالة بويز | 30 | 0 |
ألتراس ريد مان | 0 | 21 |
ألتراس ريد بيراط | 0 | 29 |
المجموع | 130 | 831 |
المصدر: من إعداد الباحث
عدم اعتماد مجموعة ألتراس على توجه سياسي محدد لا يعني أن هذه المجموعات تسير بدون توجهات سياسية، بل يدل على أن توجهات المجموعة تختلف باختلاف التيار المسيطر عليها. ويتضح هذا الأمر من خلال بيانات المجموعة ورسائلها وأنشطتها؛ فكلما كان التيار المسيطر راديكاليًّا، كانت الأنشطة أكثر راديكالية، وكلما كان التيار المسيطر معتدلًا، جاءت الرسائل المضمنة في الأنشطة معتدلة. بعيدًا عن قراءة مضمون أنشطة المجموعات، فقد تم طرح سؤال على الأعضاء المستجوبين ضمن عينة البحث حول التوجه المسيطر على المجموعة التي ينتمون إليها، وجاءت النتائج كما هي مبينة في “الشكل رقم 3”.
تُظهر المعطيات أن مجموعة “الكورفا تشي” يغلب عليها التوجه اليساري، وهو ما يفسر رفع أعلام تحمل صورة تشي غيفارا (Che Guevara) وشعار قبضة اليد داخل المدرج. أما مجموعة “الوينرز”، فتعكس نوعًا من التوازن بين التيارات اليسارية والتيار الإسلامي، وهو ما يتجلى في افتتاح بلاغاتها بالبسملة. في المقابل، تسيطر على مجموعة “هيركوليس” توجهات قريبة من الإسلام السياسي، ويمكن تفسير ذلك بوجود عدد معتبر من الأعضاء المنتمين إلى جماعة العدل والإحسان.
بالنسبة لمجموعات “ريزينغ”، و”ريد ريبلز”، و”إيمازيغن”، فإن التوجه القومي الأمازيغي الذي يميزها يرتبط أساسًا بانتمائها الجغرافي إلى مناطق ذات حمولة أمازيغية قوية. بينما يمكن تفسير التوجه اليساري لمجموعة “الفتال تيغرز” بحضور فاعل لشريحة من الطلبة الجامعيين بمدينة فاس، التي تُعد تقليديًّا معقلًا لليسار وللاتحاد الوطني لطلبة المغرب.
فيما يتعلق بسيطرة التوجه الإسلامي على كل من “الكورفا سود” (Curva Sud) (ألتراس غرين بويز وغرين إيغلز) وكذلك على “حلالة بويز”، فيُعزى هذا التوجه إلى عاملين اثنين: أولًا: تأثر هذه المجموعات بالتحولات التي طرأت على فكر الألتراس بعد مرحلة المنع؛ حيث تم تبني مفهوم “الألتراس بعقلية إسلامية”. وثانيًا: ارتباط مجموعة “حلالة بويز” بهوية “النادي القنيطري”، الذي تأسس أصلًا تحت اسم “النادي الإسلامي”.
شكل (2): التوجه الإيديلوجي المسيطر على مجموعات الألتراس
المصدر: من إعداد الباحث
رابعًا: تداعيات الخط الأيديولوجي على موقف الألتراس والهيمنة المفاهيمية
يشير مصطلح الأيديولوجيا، حسب ريمون آرون (Raymond Aron)، إلى التطلع نحو تحقيق هدف بعينه، وإلى الاتصال بالناس، وإلى شيء تحكمه الفكرة والإرادة. كما يشير بندكس (Bendix) إلى أن المصطلح يعبِّر عن الشعور بالانتماء إلى الشيء المختار، وإلى الأمن الذي يوفره النسق المغلق للأفكار القادر على إمداد الإنسان بتفسير لمعنى التاريخ ولمعنى ذاته وموقعه من الوجود، كما يشير إلى الشعور بالفخر الناتج عن محاولة وصل الماضي بالمستقبل من خلال ما يقوم به الناس في الحاضر(35). أما كارل ماركس (Karl Marx)، فقد وسَّع مفهوم الأيديولوجيا ليشمل مفهوم الثقافة؛ إذ استخدم مصطلح الأيديولوجيا في كتابه “الأيديولوجية الألمانية” (The German Ideology) ليشير به إلى القانون، والسياسة، والأفكار، ووعي الناس بالأشياء وبمجتمعهم، واللغة التي تتخلل كافة جوانب الإنتاج الروحي والعقلي والفكري والسلوكي. بينما سعت التعريفات التي قُدِّمت للأيديولوجيا خارج الإطار الماركسي إلى تضييق المفهوم، لتصبح الأيديولوجيا أحد مكونات الثقافة بدلًا من كونها مرادفًا لها؛ إذ تشير إلى نسق الأفكار والأحكام المنظمة بوجه عام، الذي يقوم بوصف وتفسير وتأويل وتبرير وصنع الجماعة، ويحدد -استنادًا إلى قيم معينة- اتجاهًا محددًا للعمل التدريجي للجماعة أو التجمع(36)، وهو التعريف الذي قدمه ويليام توماس جيفرسون (William Thomas Jefferson) بوصفه تحديدًا للموقف.
يملك المشهد الرياضي وظيفة الجهاز الأيديولوجي للدولة؛ حيث يحيط بالشعوب المهيمن عليها من خلال مصالحها الطبقية، ويملك في الوقت نفسه وظيفة رفع الأيديولوجيا؛ إذ يُعد الوقت الذي ينظم فيه كأس العالم أفضل الأوقات لكي يفقد الناس إحساسهم السياسي(37). كما تقدم كرة القدم، في شكلها التنظيمي الحالي، أرضية مثلى لتأكيد الهويات الجماعية وما ينافسها من هويات محلية وإقليمية، من خلال قدرتها على الحشد وإبراز الانتماء عبر روح الفريق والجماهير المساندة له(38). إذ تؤلف هذه الظاهرة الاجتماعية ممارسة وعرضًا في آن معًا؛ مما يجعلها ظاهرة جماهيرية شديدة الانتشار، ولا تنغلق في أي تحديد يمكن أن يختزلها(39). وبهذا الشكل، تصبح كرة القدم ظاهرة أكثر كونية من الديمقراطية، وأكثر كونية من اقتصاد السوق الذي يُقال إنه بلا حدود(40).
يمكن القول: إن الخصائص العامة للأيديولوجيا، مرادفًا للثقافة، تعود لدى الألتراس المغربي إلى فترة ظهور ثقافة القاعدة الجماهيرية وإضفاء الطابع المؤسسي على جماهير كرة القدم في المغرب، منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ففي تلك الفترة، وأثناء مرحلة تميزت ببلقنة المشهد السياسي، بدأت مجموعات الألتراس في تطوير مواقفها المناهضة للدولة، بوصف الدولة معادية للظواهر التنظيمية التي تشتغل خارج بنيتها، كما بدأت في تطوير هويتها الانطوائية، وتعززت الخصائص السياسية والحقوقية للحركة بعد المناظرة الوطنية الثانية للرياضة، خصوصًا مع مناقشة مشروع القانون 09.09. وترسخت مواقف المجموعات بين مناهضة للخطاب الذي تروجه السلطة وموالية له مع ظهور حركة العشرين من فبراير. وعلى الرغم من بداية ظهور ما يسمى بالعقلية الإسلامية في أدبيات الحركة، لم تؤكد هذه المجموعات ارتباطها الوثيق بتنظيمات الإسلام السياسي في المغرب، بخلاف ما حدث في التجربة المصرية، ولا بأيٍّ من الأيديولوجيات الوطنية السائدة.
من ناحية أخرى، يرتبط توطيد القيم المناهضة لكل ما هو سياسي أو صادر عن السلطة مباشرة بتصرفات الحكومة تجاه مشجعي كرة القدم، خاصة بعد دخول القانون 09.09 حيِّز التنفيذ، سنة 2012. وقد تحولت هذه القيم تدريجيًّا إلى أيديولوجيا قائمة بذاتها، مكَّنت المجموعات من تبني موقف معارض للمنطق الجديد الذي فرضته الحكومة والجامعة الملكية المغربية لكرة القدم.
تمت مقاربة هذا الموقف من زاوية التقاليد الغريزية، بوصفه تمسكًا بأسلوب الحياة التقليدي للمشجعين. ويُعد هذا التمسك استجابة مباشرة للتحولات الاجتماعية الجارية. في هذا السياق، يُفسَّر التشبث بقيم “المدرسة القديمة” للألتراس باعتباره شكلًا من أشكال إعادة بناء الهوية الجماعية، وإعادة تأكيد لمقومات الهوية الذكورية داخل هذه المجموعات.
أسهمت مجموعة من الأحداث المأساوية التي شهدتها الملاعب الرياضية في المغرب في بلورة وعي مزدوج لدى حركة الألتراس: وعي رسمي بأزمة المجموعات، ووعي ذاتي بالأزمة العميقة التي تعاني منها الحركية. وقد تجسد هذا الوعي، بدايةً، عبر تشكيل إطار تنسيقي جمع قادة ونوى المجموعات، عُرف باسم “عصبة ألتراس المغرب”، قبل أن يتطور لاحقًا إلى “اتحاد ألتراس المغرب”.
أفرز هذان الإطاران نتائج لافتة، من أبرزها بروز توجه ثالث ضمن الحركية، يتجاوز التقاطب التقليدي بين المدرسة الكلاسيكية والمدرسة الحديثة، ويتمثل هذا التوجه فيما يُعرف بـ”الألتراس بعقلية إسلامية”، وهو خيار اعتمدته بعض المجموعات التي تدعو إلى وحدة الألتراس، وترى في العقلية الإسلامية مدخلًا لإعادة بناء النموذج وتجديد تصوراته(41).
من وجهة نظر التيار الداعي إلى “الألتراس بعقلية إسلامية”، ورغم أن فكرة الألتراس مستوردة من السياق الغربي، فإنه يمكن تكييفها بما ينسجم مع تعاليم الدين الإسلامي، القائمة على التسامح، ونبذ العنف، وتعزيز قيم العيش المشترك داخل المجموعة الواحدة. ووفقًا لهذا التصور، ينبغي تجاوز منطق العنف بين الفصائل باعتباره سلوكًا مرفوضًا دينيًّا وأخلاقيًّا؛ حيث يعد الألتراس ظاهرة اجتماعية تتغير قيمها ومبادئها بتغير المجتمعات، وبالتالي يجب إعادة بنائها بما يتماشى مع المرجعية الإسلامية وقيم الأمة، استنادًا إلى الحديث النبوي: “إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار”.
ورغم الانتقادات الشديدة التي وُجِّهت إلى هذا التيار، لاسيما تلك المتعلقة بتقسيم الحركية إلى فئتين: “الألتراس المسلم” و”الألتراس بمرجعية غربية”، فإن بروز هذا التوجه كشف عن اعتراف صريح، ولو متأخرًا، بعمق الأزمة البنيوية التي تعاني منها الحركية. كما عكس هذا الخطاب حجم القلق الذي ينتاب “الأنوية” داخل المجموعات إزاء مستقبل الألتراس في ظل التصاعد المستمر للعنف والتعصب بين الفصائل، بما يهدد بتفكك الحركية برمتها.
أضحت ثقافة الألتراس المغربي متجانسة من حيث الطبيعة العامة (محافظة، مناهضة للسلطة، معادية للحزبية)، لكنها في الوقت نفسه تتوزع بين من يتبنى قيم اليسار الفوضوي (Anarchist Left)، واليسار الماركسي (Marxist Left)، والتوجه الإسلامي. وينعكس هذا الاختلاف أيضًا في تبني قيم الألتراس بين أنصار المدرسة القديمة، والمدرسة الحديثة، وأنصار الألتراس بعقلية إسلامية. وبذلك، فإن نهج الألتراس المغربي يُعد فريدًا في مستواه العالمي، حيث تروج مجموعات الألتراس لاختيارات أيديولوجية وطنية وسياسية مختلفة، بل إن المجموعات نفسها قد تتبنى توجهات مختلفة عبر الزمن.
مثالًا على ذلك، تبرز مجموعة “بلاك آرمي” بوصفها حالة دالة على تعددية المرجعيات الأيديولوجية داخل المجموعة الواحدة. فقد سبق أن رفعت شعارات ذات دلالة أناركية واضحة، مثل “BLACK BLOC” و”ANARCHISME”، بالإضافة إلى أعلام تتضمن صورة تشي غيفارا. غير أن المجموعة نفسها رفعت لاحقًا رسالة تحمل العبارة الشهيرة “ما العمل؟” (What Is To Be Done?)، وهي عبارة مركزية في أدبيات الماركسية اللينينية(42)؛ مما يعكس غياب الانسجام الأيديولوجي الداخلي، سواء على مستوى الشعارات أو الممارسات الجماعية.
رغم هذا التعدد الظاهر، لا تبدو المجموعة منشغلة بتوحيد المرجعية الأيديولوجية لأعضائها، بقدر ما تنجح في تدبير الاختلافات الداخلية بكفاءة، مركِّزة جهودها على مواجهة الفاعلين الخارجيين والسعي نحو فرض خطابها وتوجهاتها داخل المجال العام.
يفتح هذا المعطى أفقًا لفهم تموقع الألتراس إزاء “الثوابت الوطنية”، انطلاقًا من مقاربة تتجاوز دراسة الحالات الفردية نحو فهم أكثر شمولًا لكيفية إعادة إنتاج الأيديولوجيا الوطنية داخل المجموعات الشبابية غير الرسمية.
خامسًا: التوجه العام للألتراس
نشأ الألتراس بالمغرب في ظل نسق سياسي واجتماعي وثقافي له خصوصيته، وهو ما جعله يعمل، بالضرورة، على تجسيد موقفه من الثوابت الوطنية للمملكة، خصوصًا الوحدة الترابية، من خلال أنشطته وآلياته وأسلوبه في التعبير، سواء داخل المدرجات بوصفها فضاءً عامًّا، أو ضمن فضاءات أخرى ترتبط بفهم الألتراس للمجال.
- الألتراس والملكية
تقوم بنية النظام السياسي المغربي على أساس إثبات حضور الملك في صميم جميع المجالات وقطاعات الحياة الاجتماعية بالبلاد، سواء تعلق الأمر بالمجال الديني أو السياسي أو الاقتصادي أو مجال العنف المشروع(43)، بما يعكس الحرص على ألا يترك لأي طرف آخر المجال مفتوحًا للحصول على وضعية اعتبارية أو موقع نفوذ(44). وبذلك، يستقبل الملك الوفود الرياضية، وتُهدى له الانتصارات والألقاب والميداليات والجوائز الرياضية التي تحققها النخبة الوطنية أو الأندية على المستويين القاري والعالمي، وهو ما جعله يُلقَّب بالرياضي الأول في المملكة.
من جهة أخرى، تعد كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية في المغرب؛ مما يجعل تصميمات التيفو، والرسائل، والأنشطة، والأغاني التي تعرضها مجموعات الألتراس، تظهر في التغطيات التليفزيونية والصور المنتشرة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بما يصل إلى جمهور أوسع من المهتمين بعالم كرة القدم. ويسهم ذلك في تداول الخطاب السائد في المدرجات داخل الخطاب اليومي العام، أو العكس أيضًا؛ ما يعني أن الألتراس المغربي يمثل فاعلًا اجتماعيًّا له تأثير نسبي في النقاش العام ويتأثر به كذلك.
من منطلق سيطرة الملكية على مختلف مجالات الفضاء الاجتماعي المغربي، تحرص المؤسسة الملكية خصوصًا على ضبط نظام التواصل داخل تلك المجالات، بهدف تفادي أي إمكانية لتحالف اجتماعي قد يشكل تهديدًا لها(45). وقد ظهر هذا الحرص جليًّا في خطاب مجموعات الألتراس خلال فترة الربيع العربي؛ حيث انخرطت في ترويج خطاب السلطة من خلال المدرجات. مثالًا على ذلك، أصدرت الفصائل الرجاوية أغنية، يوم 21 فبراير/شباط 2011، أي بعد يوم واحد من نزول حركة 20 فبراير إلى الشارع، حملت شعارًا يعبِّر عن موقف السلطة: “الملك نزيه ولا يسيء التصرف، والمقربون منه –أي الحكومة وبقية السياسيين– فاسدون”؛ حيث ترددت العبارات: “ملكنا واحد، محمد السادس، والباقي شفارة، كيعمروا الشكارة، بفلوس الفقراء، وعلينا حكارة”، أي “هناك ملك واحد، هو محمد السادس، والباقي لصوص يملؤون الحقائب بأموال الفقراء ويعتدون عليهم”.
تتضح الصورة أكثر عند استحضار أجواء الديربي رقم 110، الذي جرى في ليلة التاسع من أبريل/نيسان 2011. فقد اجتمع رئيسا ناديي الرجاء والوداد، مع والي أمن جهة الدار البيضاء الكبرى ووالي الجهة، لتدارس الجوانب الأمنية واللوجستية المرتبطة بالمباراة، التي كانت تُعد أكبر تجمع شعبي مرتقب منذ بداية حراك 20 فبراير. وفي ظل السياق الإقليمي الذي شهد مواجهات عنيفة بين الجماهير ورجال الأمن، لم يكن من الممكن السماح بإجراء المباراة يوم الأحد من دون ضوء أخضر من القصر الملكي؛ ولو كان القرار بيد وزارة الداخلية وحدها، لكان تم تأجيل المباراة إلى الأربعاء أو تقديمها إلى السبت(46).
تحولت المباراة إلى أداة للدعاية الرمزية؛ حيث امتلأت جنبات الملعب والشوارع المؤدية إليه بالأعلام الوطنية وصور عملاقة للملك. لم تعد الأجواء المحيطة توحي بأنها مباراة قمة بين الرجاء والوداد، بل بدا المشهد وكأنه مواجهة رمزية بين الملك و”الآخرين”(47). وشهدت المدرجات رفع شعارات موحدة بين جماهير الرجاء والوداد للمرة الأولى في التاريخ، معبِّرة عن الاحتجاج ضد الفساد من خلال العنف الرمزي، بترديد شعار: “فلوس بيضاوة كاع ديتيهم، سير يا أكرم…”، وكذلك الهتاف الساخر: “الشعب يريد إسقاط لاربيط/حكم المقابلة”(48)، قبل أن تختم الجماهير بهتاف: “كلشي كلشي/ الجميع الجميع، إلا الملك”(49).
يفسر ريمي لوفو (Rémy Leveau) هذا المشهد بأن المخزن يقيم نظامًا من النزاعات المتحكم في خيوطها من قبل الملك، بما يُبقيه في موقع الأمر والنهي ضمن الحركة الاجتماعية، عبر كيان شمولي يسير في مسار تحول متسارع(50).
من زاوية أخرى، لا تسعى جماهير الألتراس إلى الاصطفاف مع طرف بعينه، بل تسعى إلى أن يكون الجميع إلى جانبها. يتجلى ذلك في الشعار الذي رفعته جماهير الوداد البيضاوي بعد افتتاح التسجيل: “الملك ودادي، والقذافي رجاوي”، ليعاد ترديد الشعار نفسه من جانب جماهير الرجاء بعد تسجيل هدف التعادل، مع تبديل المواقع؛ حيث أصبح الملك رجاويًّا والقذافي وداديًّا(51). وفي الأسبوع التالي، ردَّت جماهير الجيش الملكي خلال مباراة فريقها ضد الرجاء بتيفو ضخم في ملعب محمد الخامس، حمل عبارة بالخط العريض: “النادي الملكي”، مرفقة برسالة واضحة: “نجمة البلاد في شعار الفريق، شرف وانتماء”(52).
يتم تناول مفهوم القومية لدى مجموعات الألتراس بوصفه أيديولوجيا وهوية تحددها مجموعة من الرموز والصور والبيانات المرتبطة بفكرة الأمة، التي تنتجها هذه المجموعات. وهي هوية ذات طبيعة ديناميكية متغيرة. تسهم هذه الأيديولوجيا في تأميم الواقع الاجتماعي من خلال إعادة تعريف عناصره بوصفها مكونات وطنية، مع تقديم تصور خاص للأمة. وإذا كانت الأيديولوجيات القومية ترتبط غالبًا بالدين أو الطبقة الاجتماعية، فإن الألتراس يربط مفهوم الأمة بالمجتمع المحلي والإقليم والتاريخ، واضعًا معايير تحدد من يُعد منتميًا ومن لا يُعد كذلك.
تجسد ذلك في لوحة بصرية ضخمة (كوريغرافيا) رُفعت في مباراة حساسة بين المنتخب المغربي ونظيره الجزائري(53)، تمثلت في خلفية حمراء تتوسطها نجمة خضراء وتحمل شعار “الله، الوطن، الملك”، بالتزامن مع عزف النشيد الوطني. وقد جاءت هذه الكوريغرافيا في سياق سياسي ووطني وإقليمي محتقن، لتتجاوز الطابع الرياضي، حاملةً رسالة سياسية واضحة موجهة إلى “أعداء الوحدة الترابية”، خصوصًا المتعاطفين مع “حركة 20 فبراير”. وأكدت التلاحم بين الشعب المغربي وملكه، وجعلت الشعار الوطني جزءًا من الخطاب اليومي المتداول في وسائل الإعلام الوطنية والدولية.
صورة (2): التيفو وسيلةً للتعبير عن تشبث المغاربة بالثوابت الوطنية
المصدر: القناة الأولى المغربية
لا يمكن اختزال الكوريغرافيا في كونها مجرد أداة للتأثير السياسي، بل تمثل أيضًا تجسيدًا عميقًا لتشبث جماهير كرة القدم بالثوابت الوطنية. في مناسبات متعددة، يظهر تصميم “التيفو” وترديد الشعارات الوطنية، سواء في مباريات المنتخب الوطني أو مواجهات الأندية المحلية؛ مما يعكس الرموز والشخصيات التاريخية، ويبرز القيم المرتبطة بتصور مجموعات الألتراس للأمة(54). تستغل هذه المجموعات المساحات المتاحة في الملاعب لإبراز مواقفها من القضايا الوطنية والسياسة الخارجية للدولة؛ حيث تتحول المدرجات إلى فضاء للتفاعل الشعبي والجماهيري الذي يتجاوز حدود الرياضة ليصبح تعبيرًا عن الانتماء الوطني.
على الرغم من أن هذه المجموعات تستوعب الأيديولوجيات والهويات الوطنية المتداولة في الخطاب العام، إلا أنها تعيد صياغتها داخل سياقاتها الخاصة، لتنتج أيديولوجيات وهوية فريدة تميزها عن غيرها من الفئات الاجتماعية(55). ويتعدى هذا التبني إلى تحويل ملاعب كرة القدم إلى منصة للتعبير الاجتماعي والسياسي؛ حيث يُوظف الألتراس هذه الفضاءات للتعبير عن رؤيته وتصوراته الوطنية. يعزز هذا التفاعل المتشابك بين الرياضي والسياسي فهمًا أكثر تعقيدًا للهوية الوطنية، ويكشف عن الدور الفاعل الذي يلعبه الألتراس في إعادة إنتاج الرموز الوطنية وتوظيفها ضمن إطار يتجاوز البعد الرياضي ليصل إلى خطاب اجتماعي–سياسي راسخ في الواقع المغربي.
جدول (3): تشبث مجموعات الألتراس بالثوابت الوطنية
الألتراس والنشاط | الكلمات | المعنى | الحقل الدلالي |
ألتراس وينرز، أغنية كل ساعة نقول غَا نْنْسَى. | الوداد لعبو فيها الملوك، والرجاء حبوها “الشمكارة”. | الوداد نادي لعب فيه الملك محمد السادس، والرجاء يحبها مدمنو المخدرات. | تمجيد المؤسسة الملكية وربط النادي بالمؤسسة. |
Labanda Maganista, ولد الخضراء فالمونديال. | إم سيس حضر للفينال، ميرسي الأسرة العلوية، استقبلتينا ف 2000 عاودتيها ف 2013، الله يخليك لينا، ويا الملك نعتز بيك، لكوب الجايا نهديوها ليك، وأنت مومو عينينا. | محمد السادس حضر نهائي كأس العالم للأندية لمتابعة نادي الرجاء الرياضي، واستقبله في القصر الملكي كما استقبله سنة 2000، شكرًا للأسرة العلوية التي نحبها، فنحن نعتز بملكنا، أطال الله عمره. | تمجيد المؤسسة الملكية. |
ألتراس غرين إيغلز، العقلية السياسية. | بالعقلية السياسية، جينا نقولو الصحراء مغربية، … رجاوي خايب فريو، هجنا على بوليزاريو. | بالعقلية السياسية للمجموعة، جئنا لنقول: إن الصحراء مغربية، جمهور الرجاء جمهور مزاجي، وقد واجه البوليساريو. | الوحدة الترابية للمملكة. |
ألتراس عسكري الرباط، only asfar | منين نبدا، باش نسالي، 58 تأسسات الغالية، ليفار لييندا، فريق كبير، بعد الاستقلال رجل عظيم، الحسن الثاني، ظهير شريف، مقدمة فحدِّ ذاتها تاريخ. كيفهم ماحتاجيناش، نطبعو مع الاحتلال، غير خبرني شنو جاب كافي لبالي روايال. | بعد الاستقلال، سنة 1958 تأسس نادي الجيش الملكي على يد رجل عظيم، الملك الحسن الثاني بظهير شريف، مقدمة هي التاريخ نفسه. لم نكن في حاجة للتطبيع مع المستعمر لنؤسس النادي، ولا يمكن المقارنة بين نادٍ تم تأسيسه بالقصر الملكي ونادس تم تأسيسه بمقهى. | تمجيد الملك الحسن الثاني. الافتخار بانتماء النادي للمؤسسة الملكية.
|
المصدر: من إعداد الباحث
تسعى كل مجموعة من مجموعات الألتراس في المغرب إلى إبراز العلاقة الوثيقة بين النادي الذي تشجعه والمؤسسة الملكية، وما يقدمه القصر الملكي من اهتمام ورعاية لهذا النادي. كما تعمل هذه المجموعات على التأكيد القوي لدفاعها عن الوحدة الوطنية والترابية للمملكة، بالإضافة إلى إبراز دورها مدافعةً عن الهوية الإسلامية، التي ستتحول بدورها إلى توجه محوري ثالث في فكر الألتراس بالمغرب، كما تم بيانه سابقًا.
- الألتراس والوحدة الترابية
تُسهم القومية والوطنية، عبر حضورهما في الخطاب، في خلق “مجتمع متخيل”، من خلال دمج صور الأمة داخل مجتمع محدد وربطها بالبنيات الاجتماعية المتنوعة مثل الرموز الوطنية، والدين، والإقليم، والتاريخ، والسلوكيات. تؤدي إعادة إنتاج هذه الصور والبنيات الاجتماعية إلى توليد شعور بالانتماء لدى الأفراد؛ مما يعزز القدرة على التعبئة السياسية، خاصة في أوقات التهديدات المحتملة، استنادًا إلى الإيمان الراسخ بوحدة المصير المشترك. وبهذا، تؤكد القومية على التداخل بين التمثيل السياسي والأمة (الدولة-الأمة)؛ مما يعزز التصور بأن العالم مقسم طبيعيًّا إلى أمم، وأن الجنسية جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية.
في سياق مجموعات الألتراس، تحتل القضايا الوطنية مكانة محورية في خطابها؛ إذ تُعد قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية، من طنجة إلى الكويرة، القضية الأولى التي تحظى بإجماع غير مشروط لدى المغاربة. وتُعد هذه القضية، بحسب مجموعة “الفتال تيغرز”، أولوية قصوى إلى جانب قضايا حيوية مثل التعليم والصحة(56). ينبع رفع “التيفو” أو تنفيذ أي نشاط داعم لقضية الصحراء المغربية من التوجه الفكري والفلسفي للمجموعة، الذي يتمثل في الدفاع عن الوطن ومصالحه. وتعكس هذه المواقف موقف الأمة المغربية المتشبثة بوحدتها الترابية، تأسيسًا على القاعدة الراسخة التي تقول: إن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”(57).
صورة (3): تيفو لألتراس فاتال تيغرز “صحراؤنا وطننا”
المصدر: الصفحة الرسمية لألتراس فاتال تيغرز
تحولت مباريات كرة القدم، سواء في البطولات الوطنية أو القارية، إلى منصات تعبِّر من خلالها مجموعات الألتراس عن مواقفها تجاه القضايا الوطنية. لم تعد هذه المباريات مجرد مواجهات رياضية، بل أصبحت فرصة لإيصال رسائل واضحة حول ارتباط قضايا الأمة المغربية بمواقف الألتراس؛ مما يؤكد دور الرياضة، وبالأخص كرة القدم، كأحد أوجه “الدبلوماسية الناعمة”.
في هذا السياق، وعلى الرغم من قرار الجزائر بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية، شكَّل لقاء اتحاد العاصمة الجزائري بنادي الجيش الملكي، ضمن ربع نهائي كأس الاتحاد الإفريقي 2023، بملعب 5 يوليو، حدثًا فارقًا. فبينما كان متوقعًا أن تقاطع مجموعتا “عسكري الرباط” و”بلاك آرمي” هذه المواجهة، لأسباب سياسية وللعلاقة المعقدة بين الألتراس المغربية وبعض المجموعات التونسية، فاجأت المجموعتان الجميع بحضورهما. لم يكن هذا الحضور عاديًّا، بل استُغل لتمرير رسائل سياسية مباشرة من قلب الجزائر.
جاء في اللافتة التي رفعتها المجموعتان عبارة: “حاضرون بالأجساد، تعيش البلاد”، حاملة تحديًا مزدوجًا(58). فمن جهة، كان الرد موجهًا لمجموعة “ألتراس وينرز”، التي كانت قد قاطعت مباراة الوداد الرياضي ضد شبيبة القبائل الجزائري، مستندة إلى الأزمة السياسية بين المغرب والجزائر، ومعلنة أن حضورها كان “بقلبها فقط”. ومن جهة أخرى، كانت الرسالة تمجيدًا للدولة المغربية؛ حيث زُيِّنت بخريطة المغرب كاملة باللون الأحمر تتوسطها النجمة الخضراء، في تأكيد واضح على وحدة التراب الوطني.
تجاوزت هذه الرسالة إطار التحدي والمواجهة التقليدية بين مجموعات الألتراس، لتتحول إلى بيان سياسي صريح يعبِّر عن موقف واضح من القضايا الوطنية، ويسلط الضوء على الدور المتنامي الذي تؤديه مجموعات الألتراس في تأكيد وحدة الأمة والمشاركة في الدفاع عن قضاياها الجوهرية.
صورة (4): رسالة سياسية تُعبِّر عن رمزية الوحدة الوطنية المغربية، التُقِطت في أحد شوارع الجزائر
المصدر: الصفحة الرسمية لمجموعة “بلاك آرمي”
في سياق مشابه، وخلال مباراة الرجاء الرياضي ضد نادي مولودية وجدة ضمن الجولة 13 من البطولة الاحترافية لموسم 2022/2023، قامت مجموعة “غرين إيغلز” بالرد على الخطاب الذي ألقاه حفيد نيلسون مانديلا أثناء افتتاح كأس إفريقيا للاعبين المحليين، 2023، التي استضافتها الجزائر. في هذا الرد، رفعت المجموعة لافتة كُتب عليها باللغة الإنجليزية: “Little Mandela, the only remaining colony in Africa is Orania”، في تعبير صريح عن موقفها تجاه قضية الصحراء المغربية.
تعكس هذه الرسالة موقفًا عميقًا وحاسمًا من المجموعة تجاه ما تعده ازدواجية المعايير في الخطاب الإفريقي حول الاستعمار. لم تكن الرسالة مجرد ردٍّ على تصريحات شخصية، بل شكَّلت تجسيدًا لوعي سياسي تجاه قضايا التحرر الوطني في إفريقيا. من خلال الإشارة إلى أورانيا، وهي مستوطنة للأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا تُعد رمزًا لاستمرارية العقلية الاستعمارية، سلطت مجموعة “الغرين إيغلز” الضوء على التناقض في انتقاد السياسات المغربية بشأن الصحراء مع تجاهل مظاهر الاستعمار الداخلي في القارة الإفريقية ذاتها.
يُبرز هذا التوجه مدى وعي مجموعات الألتراس بالقضايا السياسية والدبلوماسية الكبرى، واستخدامها لكرة القدم منصةً لإيصال رسائل سياسية قوية. كما يعكس هذا الفعل التزام المجموعة بالدفاع عن السيادة الوطنية، وإبراز قضية الصحراء المغربية ضمن سياق أوسع يرتبط بتاريخ التحرر والاستعمار في القارة الإفريقية؛ مما يجعل رسائل الألتراس جزءًا من النقاشات العامة حول الهوية والسيادة على المستويين، الإقليمي والدولي.
صورة (5): رد مجموعة الغرين إيغلز على خطاب حفيد نيسلون مانديلا بالجزائر
المصدر: الصفحة الرسمية لألتراس إيغلز
تُعد قضية الوحدة الوطنية، وخاصة قضية الصحراء المغربية، مسألة محورية بالنسبة لمجموعات الألتراس في المغرب. ومن اللافت أن هذه المجموعات، التي غالبًا ما تتبنى خطابًا احتجاجيًّا يتسم بمعاداة السلطة، لا ترى في ذلك أي تناقض مع مواقفها الحازمة في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة. يعكس هذا الجمع بين معارضة السلطة والتمسك بالوطنية فهمًا سياسيًّا عميقًا لدى الألتراس لمفهوم الانتماء الوطني؛ حيث يُنظر إلى الدولة ليس فقط كجهاز سلطوي، بل كوطن يحمل رموزًا ومبادئ ترتبط بالسيادة والوحدة.
يُظهر تحليل هذا السلوك، من منظور علم السياسة، تداخلًا معقدًا بين مفهومي “القومية” و”الوطنية” كما وردا في الأدبيات السياسية. فالقومية، بوصفها مفهومًا سياسيًّا، غالبًا ما ترتبط ببناء الهوية الوطنية وتحديد العلاقة بين الأفراد والدولة على أساس قيمي ومصلحي مشترك. وفي هذا السياق، تتبنى مجموعات الألتراس نموذجًا من القومية يعيد تشكيل مفهوم الوطنية بطريقة تناسب خصوصية تجربتها؛ حيث تحوِّل الملاعب الرياضية إلى فضاءات جديدة للتعبير السياسي.
من خلال استخدام الملاعب، سواء داخل المغرب أو خارجه، كمنصة لإعادة إنتاج خطاب الوطنية، تمكنت مجموعات الألتراس من إدماج الرياضة في الأبعاد الرمزية والسياسية لقضية الصحراء المغربية. يشير هذا الاستخدام المبتكر للرياضة منصةً للدبلوماسية الشعبية إلى تحول في أشكال التعبئة السياسية الحديثة؛ حيث لم تعد الأحزاب السياسية أو المؤسسات الرسمية الفاعل الوحيد في الساحة الوطنية بل تقدم مجموعات الألتراس نموذجًا جديدًا للتعبئة الشعبية، يدمج بين النشاط الاحتجاجي والدفاع عن القضايا الوطنية.
وباستخدام أدوات التحليل المفاهيمي لعلم السياسة، يمكن القول: إن هذه المجموعات تسهم في توسيع نطاق “الدبلوماسية الناعمة”، كما صاغها جوزيف ناي (Joseph Nye)، التي تشير إلى قدرة الفاعلين على التأثير في الآخرين عبر الجذب والإقناع، بدلًا من الاعتماد على القوة العسكرية أو الاقتصادية. ومجموعات الألتراس، رغم كونها تنظيمات غير رسمية، تمارس هذا الدور من خلال توظيف الرموز والرسائل القوية في الملاعب الرياضية.
إن دفاع الألتراس عن الوحدة الترابية بأسلوبه الخاص، واستخدامه الفعال للرياضة أداة لنشر رسائله الوطنية، يعزز الفكرة القائلة بأن الهوية الوطنية هي بناء اجتماعي مستمر، يتشكل ويتجدد عبر مساهمة فاعلين مختلفين، بما في ذلك الفئات الشبابية غير الرسمية مثل مجموعات الألتراس.
خاتمة
تكشف نتائج هذه الورقة أن الألتراس في المغرب ليس مجرد حركات جماهيرية مرتبطة بالرياضة، بل هو ظاهرة اجتماعية وسياسية متعددة الأبعاد، نشأت في سياق معقد يعكس تفاعلات المجتمع المغربي مع السلطة والهوية الوطنية.
تتسم هذه المجموعات بقدرتها على استيعاب اختلافات أعضائها الأيديولوجية والتفاعل معها دون أن تؤثر على وحدتها الجماعية. فعلى الرغم من تنوع الانتماءات السياسية والأيديولوجية داخل صفوف الألتراس، تبقى الهوية الجماعية متماسكة، وتعكس مزيجًا من التوجهات اليسارية والإسلامية والقومية والأمازيغية.
من خلال نشاطاته في الملاعب، يستخدم الألتراس الفضاء الرياضي منصة للتعبير عن مواقفه من الثوابت الوطنية، خاصة فيما يتعلق بقضية الوحدة الترابية للمملكة. ويؤكد هذا التفاعل أن الرياضة تمثل أداة فعالة للتعبئة الجماهيرية والدبلوماسية الشعبية؛ حيث يعزز الألتراس من خلالها الموقف العام من القضايا الوطنية ويقدم دعمًا غير مباشر للسلطة. وعلى الرغم من الطابع الاحتجاجي للألتراس ضد السلطة السياسية، فإن هذه المجموعات تُظهر ولاءً قويًّا للمَلَكية، وتُوظف الرموز الوطنية والدينية لتأكيد انتمائها ودعمها للقضايا السيادية.
تشير نتائج الورقة أيضًا إلى أن مجموعات الألتراس المغربية تمتلك قدرة فريدة على توظيف الاختلافات الأيديولوجية لتعزيز وحدتها الداخلية. فالتنوع الأيديولوجي لا يؤدي إلى التنافس الداخلي، بل يسهم في تفاعل إيجابي مع السياق الوطني العام؛ حيث تسعى كل مجموعة إلى الدفاع عن مصالحها عبر تبني موقف وطني داعم للوحدة والسيادة الوطنية، مع إبراز الولاء للمؤسسة الملكية.
ختامًا، يمكن القول: إن الألتراس المغربي قد تجاوز حدود دوره التقليدي كمجموعات تشجيعية رياضية، ليصبح فاعلًا اجتماعيًّا وسياسيًّا مؤثرًا. فهو يسهم في إعادة إنتاج الهوية الوطنية، عبر استخدام فضاءات الملاعب منصات للتعبير عن مواقفه؛ مما يعزز موقعه جزءًا فاعلًا ضمن الديناميكيات السياسية والاجتماعية بالمغرب، دون الخروج عن الإجماع الوطني حول الثوابت الأساسية.
المراجع
(1) محمد السادس، الخطاب الملكي المؤسس للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، 18 مايو/أيار 2005.
(2) عبد الرحيم منار سليمي، “التوجهات الكبرى للمشهد الحزبي والنقابي بالمغرب خلال سنة 2004″، المغرب في مفترق الطرق، العدد 32، منشورات وجهة نظر، بدون مدينة نشر، 2005، ص 32.
(3) حمزة الكندي، الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة، بدون رقم طبعة، الناشئة للنشر، الرباط، 2024، ص 55.
(4) المصدر نفسه، ص 88–95.
(5) Abderrahim Bourkia, Des Ultras dans la ville, 2ème édition enrichie, La Croisée des Chemins, Casablanca, 2022.
(6) سعيد بنيس، “تمثلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب وتأثيراته السياسية”، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، قطر، 2019.
(7) حمزة الكندي، الألتراس بالمغرب: انتماء رياضي أم حركة سياسية؟، رسالة ماستر، تخصص القانون الدستوري وعلم السياسة: الديمقراطية الدستورية وحقوق الإنسان، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، جامعة محمد الخامس، الرباط، بدون سنة نشر.
(8) حمزة الكندي، الأبعاد السياسية لحركة الألتراس بالمغرب: بين هاجس التقنين والصيرورة الاحتجاجية، أطروحة دكتوراه، تخصص العلوم القانونية والسياسية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، جامعة محمد الخامس، الرباط، 2024.
(9) الكندي، الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة، مرجع سبق ذكره.
(10) بوشعيب فهمي، مجموعات الألتراس: نحو راديكالية العنف وتسييس مدرجات الملاعب، مكتبة دار السلام، الرباط، 2019.
(11) تم التنبيه إلى أن الأسماء المدرجة للمستجوبين، وتاريخ الاستجواب وموقعه، جميعها معلومات وهمية.
(12) كانت مجموعات الألتراس المغربية تمجِّد نفسها من خلال العنف الذي تمارسه خلال المباريات، وتبرز قوتها عبر وصف نفسها بكونها “هوليغانز”؛ حيث كانت جماهير الجيش الملكي تردد شعار: “جيناكم جينا، هوليغانز العاصمة”، ومجموعات الرجاء كانت تردد: “رجاوي هوليغانز”، وكذلك ألتراس وينرز بشعار: “والعقلية هوليغانز، هذا فيراج لي وينرز”.
(13) حمزة الكندي، الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة، مرجع سبق ذكره، ص 131.
(14) المصدر نفسه، ص 131–132.
(15) Balestri, C., & Roversi, A. “Italian Ultras Today: Change or Decline?” “European Journal on Criminal Policy and Research”, 8th ed., Springer, no place of publication, 2000, p. 187.
(16) Massey, D. Spatial Divisions of Labour: Social Structures and the Geography of Production, 2nd ed., Macmillan, Basingstoke, 1995.
(17) مقابلة أجراها الباحث مع عادل سنتيسي، عضو مجموعة “ريد بيراط”، 6 مايو/أيار 2022، سلا، المغرب.
(18) Sibley, D.”Geographies of Exclusion: Society and Difference in the West” No edition specified, Routledge, London and New York, 1995. (19) مقابلة أجراها الباحث مع سهيل الودغيري، عضو مجموعة “الألتراس عسكري الرباط”، 22 مايو/أيار 2022، الرباط، المغرب.
(20) مثالًا على ذلك، تبنت عدة مجموعات ألتراس ما أصبح يعرف في المغرب بـ”الألتراس بعقلية إسلامية”، ومنها: “الوص ماتادوريس”، و”حلالة بويز”، و”الفاتال تيغرز”.
(21) سعيد بنيس، “تمثلات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب وتأثيراته السياسية”، مرجع سبق ذكره، ص 5.
(22) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(23) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(24) الصورة رقم 4، منتوجات “الألتراس عسكري الرباط” لسنة 2011، تتضمن النجمة الحمراء وقبضة اليد، كتعبير عن الهوية السياسية للمجموعة خلال المرحلة؛ حيث أعربت المجموعة رسميًّا عن نزولها مع حركة 20 فبراير.
(25) الصورة رقم 8، علم رسمي لمجموعة “بلاك أرمي”، يتضمن صورة “تشي غيفارا “(Che Guevara)، تعبيرًا عن الهوية السياسية وسيطرة التيار الأناركي على المجموعة.
(26) الصورة رقم 6، علم رسمي لمجموعة “Ultras Révoltés”، يتضمن صورة للمقاوم موحا أحمو الزياني، تعبيرًا عن الهوية التاريخية لمدينة خنيفرة.
ملاحظة: محمد (أُحَمُّو) الزَّيَانِي من أبرز رجال المقاومة من خنيفرة في التاريخ المغربي الحديث.
(27) الصورة رقم 5، حضور العلم الفلسطيني في مدرجات مجموعة “حلالة بويز”، تعبيرًا عن الهوية السياسية المناصرة لقضايا التحرر الوطني.
(28) الصورة رقم 1، للمجموعة الموسيقية التابعة لـ”ألتراس وينرز”؛ حيث يرتدي الأعضاء الطربوش والجلباب المغربيين، تعبيرًا عن افتخار المجموعة بهوية النادي الذي أسسه رجال الحركة الوطنية.
(29) الصورة رقم 2، رفع العلم الأمازيغي في مدرجات مجموعة “ألتراس إيمازيغن”.
(30) رفع علم الإيالة الشريفة في مدرجات مجموعة “غرين غوست”، تعبيرًا عن الهوية السياسية للمجموعة، التي تمثل توجه “المور المغاربة” أو اليمين القومي المغربي.
(31) عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، بدون رقم طبعة، المركز الثقافي العربي، بدون مدينة نشر، 2003.
(32) مقابلة أجراها الباحث مع لا شيء، عضو مجموعة “فتال تيغرز”، 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، الرباط، المغرب.
(33) مقابلة أجراها الباحث مع بلاك بلوك، عضو مجموعة “بلاك أرمي”، 23 يناير/كانون الثاني 2023، تمارة، المغرب.
(34) إنجاز الباحث –بناء على معطيات البحث الميداني– تفريغ نتائج الاستبيان.
(35) نبيل محمد توفيق السمالوطي، الأيديولوجيا وقضايا علم الاجتماع: النظرية والمنهجية والتطبيق، الطبعة الأولى، دار المطبوعات الجديدة، الإسكندرية، بدون سنة، ص 27.
(36) المصدر نفسه، ص 32.
(37) عبد الحافظ مجدي، “ديانة كرة القدم: تأملات على الحدود بين الرياضة والفكر”، مجلة إبداع، العدد 8، جمهورية مصر العربية، أغسطس/آب 1998، ص 46.
(38) المصدر نفسه، ص 48.
(39) المصدر نفسه، ص 46.
(40) المصدر نفسه، ص 44.
(41) حمزة الكندي، الأبعاد السياسية لحركة الألتراس بالمغرب: بين هاجس التقنين والصيرورة الاحتجاجية، مرجع سبق ذكره.
(42) في تفسير أحد أنوية مجموعة “الألتراسبلاك آرمي” لهذه الرسالة، ذهب إلى كونها مستوحاة من الفكر الماركسي، احتجاجًا على إدارة النادي بهدف إعادة الفريق إلى مساره الصحيح.
(43) ريمي لوفو (Rémy Leveau)، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، العدد 2، ترجمة محمد بن الشيخ، منشورات وجهة نظر، الرباط، 2011، ص 303.
(44) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(45) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
(46) Boukhari, Karim.”La révolution c’est moi?” “TelQuel”, issue of March 1, TelQuel, Casablanca, 2012.
(47) Ibidem.
(48) Ibidem.
(49) Ibidem.
(50) ريمي لوفو، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، مرجع سبق ذكره، ص 303.
(51) حمزة الكندي، الألتراس بالمغرب: العنف والسلطة والسياسة، مرجع سبق ذكره.
(52) المصدر نفسه.
(53) مباراة المنتخب المغربي ضد المنتخب الجزائري، الجولة الرابعة للمجموعة الرابعة، التصفيات المؤهلة لكأس الأمم الإفريقية 2012، 4 يونيو/حزيران 2011، الملعب الكبير بمدينة مراكش.
(54) حمزة الكندي، الأبعاد السياسية لحركة الألتراس بالمغرب، مرجع سبق ذكره.
(55) المصدر نفسه.
(56) بيان “ألتراس فتال تيغرز”، على هامش لقاء نادي المغرب الرياضي الفاسي ضد المغرب التطواني، ضمن الدورة الأولى من البطولة الوطنية الاحترافية القسم الأول 2022/2023، المركب الرياضي بفاس، السبت 3 سبتمبر/أيلول 2022.
(57) الرسالة المرفقة بـ”التيفو” الذي رفعته مجموعة “فتال تيغرز” تحت عنوان “صحراؤنا وطننا”، المصدر نفسه. النص مقتبس من الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، 20 أغسطس/آب 2022.
(58) توضيح أن المقاطعة كانت متوقعة لسببين رئيسيين: الأول سياسي يتعلق بتوتر العلاقات الدبلوماسية بين المغرب والجزائر وإغلاق المجال الجوي، والثاني يرتبط بالعلاقات المتوترة بين الألتراس المغربية وبعض مجموعات الألتراس التونسية، لاسيما في ظل إقامة مباراة شبيبة القبائل ضد الترجي التونسي بالتزامن في العاصمة الجزائرية.
* – حمزة الكُندي، دكتوراه في العلوم القانونية والسياسية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي، جامعة محمد الخامس بالرباط.
Hamza Elkoundi, Ph.D. in Legal and Political Sciences, Faculty of Legal, Economic and Social Sciences, Mohammed V University-Souissi, Rabat.