ترى الدراسة أن نموذج الحكم الرشيد يُقدِّم مقاربة سياسية لتحقيق جودة الحكم وكفاءة التسيير، باعتبار أن عملية إصلاح الأنظمة السياسية وتأهيلها لتواكب التحولات المجتمعية المعاصرة تمثِّل مهمة ذات أولوية في العصر الحديث. ورغم الانتقادات التي وُجِّهَت لهذا النموذج، وتحديدًا المرتبطة ببعض تطبيقاته المُشَوَّهَة وقيمه المعيارية، تسعى الدراسة إلى رصد إمكانات الاستفادة من هذه المقاربة في تنمية النظم السياسية العربية، مع الإشارة إلى أهم الاختلالات التطبيقية لهذا النموذج باعتماد مرجعية منهجية تستند إلى المنهج الوصفي وبعض المقتربات التحليلية الخاصة بالأنظمة السياسية كالمقترب النسقي والاتصالي والبنيوي.

كلمات مفتاحية: الحكم الرشيد، النظم السياسية، الجودة السياسية، الفاعلية السياسية.

This study suggests that the good governance model presents a political approach to achieve quality governance and effective management given that the process of reforming and rehabilitating political systems to keep pace with contemporary societal transformations is a priority in the modern era. Despite the criticisms targeting this model regarding some of its distorted applications and normative values, the study seeks to examine the possibilities of benefiting from this approach in the development of Arab political systems, with reference to the most important flaws in the application of the model through a systematic reference based on a descriptive methodology and analytical approaches particular to political systems, such as the systematic, communicative and structural approach.

Keywords: Good Governance, Political Systems, Political Quality, Political Effectiveness.

مقدمة

إن تحقيق الشروط الموضوعية لفاعلية الأنظمة السياسية وترقية قدرتها على بلوغ مطامح الشعوب، وتجسيد متطلبات الحوكمة بكافة أبعادها ومستوياتها، تمثِّل غاية ملحَّة في الوقت الراهن الذي يتميز بالطفرة المعرفية وتطور وسائل الاتصال الحديثة والتكنولوجيا الرقمية، التي أسهمت في تماهي الحدود الذهنية والنفسية بين المجتمعات الإنسانية، بفعل التفاعل الشبكي وسرعة وشمولية نفاذ وسائل الاتصال الحديثة. وتحوَّل العالم على إثر ذلك إلى أشبه بكتلة مندمجة وظيفيًّا وتواصليًّا، وأضحى من الصعب على المجتمعات التي لا تمتلك وسائل التمكين ومقومات الجودة وعوامل التنافس أن تتعايش مع متطلبات العالم الرقمي الجديد، ولا مناص من تحقيق ذلك -من وجهة نظر سياسية- إلا بتطوير النظام السياسي وتحقيق مقومات فعاليته وجودته، باعتباره محور تطور كافة القطاعات، والعمود الفقري لبقية الأنظمة الاقتصادية والإدارية والثقافية والتعليمية والاجتماعية.

ومع تطور مستوى المجتمعات الحديثة، أصبح للمعرفة والتكنولوجيا دور بارز في ترقية ممارسات وطموحات الشعوب وطرق تفكيرهم، وتدفع هذه المتغيرات الجديدة بإلحاح إلى إعادة النظر في أساليب الحكم وسياسة البشر، وإدارة الدول الحديثة، خاصة في العالم العربي، الذي هو بأمسِّ الحاجة إلى تأسيس نظام سياسي يمتلك القدرة والفاعلية على الاستجابة لتطلعات الشعوب في حياة كريمة تتطلع نحو مستقبل زاهر، يتماشى بسلاسة مع التحولات الراهنة التي فرضها مجتمع المعرفة والعولمة المعرفية والانكشاف الإعلامي.

وفي هذا السياق، سعت مقاربة الحكم الرشيد، التي قُدِّمَت كنموذج إصلاحي حداثي للنظم السياسية، إلى طرح منظومة سياسية وقانونية واقتصادية لتطوير الأنظمة السياسية من خلال حوكمة التسيير، وترقية حقوق الإنسان، ورعاية مشاريع التنمية المستدامة، وتحقيق كفاءة الإدارة العامة، وفاعلية الأداء الحكومي. وتهدف هذه المقاربة على المستوى النظري إلى إيجاد الصيغة المثلى لهندسة نظامِ حكمٍ يتميز بالرشد والحكامة والفاعلية، إلا أنها على المستوى العملي واجهت العديد من الانتقادات جرَّاء التطبيقات السلبية والانتقائية لمعايير الحكم الرشيد بين الدول الغربية ودول العالم الثالث، لاسيما العربية منها. وعليه، سنحاول من خلال هذه الدراسة النقدية معالجة أهم الإشكالات المسبِّبة للعجز الوظيفي للأنظمة السياسية العربية، وإمكانات الاستفادة من منظومة الحكم الرشيد في الارتقاء بهذه الأنظمة، وإنعاش أدائها السياسي وفق الخصوصيات المميزة للسياق العربي وأدبياته الثقافية والاجتماعية والتاريخية.

  1. اعتبارات منهجية

أ- إشكالية الدراسة وفرضيتها

تنمو النظم السياسية وتتطور كغيرها من الظواهر الطبيعية والإنسانية، وهي بحاجة دائمة إلى التحديث والتنمية والإصلاح لتجديد بنيتها المؤسساتية وإنعاش أدائها السياسي، وفي هذا السياق، ولمعالجة موضوع الدراسة، يطرح الباحث الإشكالية الآتية: كيف يمكن الاستفادة من مقاربة الحكم الرشيد في تنمية الأنظمة السياسية العربية وتطوير أدائها وتحصينها من العجز الوظيفي؟

وتنطلق الدراسة من فرضية أساسية تربط بين قدرة النظام السياسي على تجديد أدواته وأهليته الوظيفية، وإمكانية استجابته للتحديات الداخلية والخارجية وتطلعات الشعوب. ويمكن صياغة الفرضية على هذا النحو: كلما كان النظام السياسي متمتعًا بالشرعية المؤسساتية والأهلية الوظيفية والقدرة على تجديد أدواته ومؤسساته السياسية، كان أكثر كفاءة في الاستجابة لتحديات البيئة الداخلية والخارجية، والتكيف مع متغيراتها والانسجام مع تطلعات الشعوب وآفاقها المستقبلية.

ب- أهمية الدراسة

تتجلى أهمية الدراسة في محاولتها وضع منظور نقدي استشرافي لتطبيقات نموذج الحكم الرشيد، واستلهام إمكانات الاستفادة منه في تنمية وتحديث الأنظمة السياسية العربية، مع مراعاة خصوصية هذه الأخيرة للاحتراز من إشكالية النمذجة والتعميم الذي لا يراعي الفوارق وميزات البيئة الثقافية والسياسية والتاريخية. فمقاربة الحكم الرشيد تسعى لتقديم منظور سياسي لتحقيق الجودة، والفاعلية السياسية، وهندسة السياسات العامة من منطلق براغماتي، كما تسهم تطبيقاته السليمة في الوقاية من العجز الوظيفي الذي تعاني منه أغلب الأنظمة السياسية العربية في استجابتها لتحديات التنمية، في ظل التنوع المجتمعي وتنامي طموحات الشعوب العربية المعاصرة.

ج- أهداف الدراسة  

تهدف هذه الدراسة إلى تحقيق ما يلي:

– التأكيد على شرط الفاعلية والتجديد المستمر كأهم رافد لديمومة الأنظمة السياسية، وقدرتها على التأقلم والاستجابة للمطالب الشعبية المتزايدة والمتنوعة في ظل حركيات العولمة وتحدياتها.

– نقد وتشخيص التطبيقات المُشَوَّهَة والقيم المعيارية لنموذج الحكم الرشيد في النظم الليبرالية، والاختلالات الناجمة عن النمذجة والتعميم المجرد لهذا النموذج على بيئات متباينة.

– إبراز إمكانات الاستفادة من نموذج الحكم الرشيد كفلسفة للحكم في تطوير أداء الأنظمة السياسية العربية وتحصينها من عوامل التفكك والعجز الوظيفي.

د- منهج الدراسة  

اعتمد الباحث في مقاربة مشكلة الدراسة وفرضيتها على المنهج الوصفي من خلال جمع المادة العلمية، وتحليل العلاقة بين متغيراتها، مع إبراز دور التحديات الحديثة، التي أفرزتها متغيرات العصر المعرفي والمجتمع الاتصالي، وتأثيراتها على الأنظمة السياسية العربية من حيث البنية والأداء.

كما استعان الباحث ببعض المقتربات المرتبطة بمجال الدراسة؛ كالمقترب النسقي لديفيد إيستون (David Easton)، الذي يهتم بالأنساق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحددة لطبيعة النظام السياسي وسلوكه، والمقترب الاتصالي لكارل دويتش (Karl Deutsch)، الذي يُعنى بدراسة الظواهر السياسية وتفاعلاتها، وذلك لتحليل علاقة الأنظمة السياسية بتطور البيئة السياسية والاجتماعية، وحركة الأفكار والمجتمعات المعاصرة مع إسقاط ذلك على السياق العربي. كما استخدم الباحث الاقتراب البنيوي لغابرييل ألموند (Gabriel A. Almond)، الذي يرى أن النظام السياسي هو أحد تجليات البناء الاجتماعي العام، ويُسهِم في أداء مجموعة من الوظائف المهمة التي يُقدِّمها للمجتمع عبر مؤسساته الرسمية وغير الرسمية كالأحزاب والبرلمان والمجتمع المدني والإعلام…إلخ.

  1. الأنظمة السياسية العربية: بين فاعلية الأداء والعجز الوظيفي

يُعد النظام السياسي للدول بمنزلة نظام التشغيل الخاص بأي جهاز أو آلة حديثة، وقد تطورت الأنظمة السياسية ومقارباتها ونماذجها بصفة متوازية مع تطور المجتمعات الإنسانية، وحركة نمو الفكر البشري، وأساليب التنظيم الاجتماعي، والبناء المؤسساتي للدول والمجتمعات، وللنظام السياسي أهمية بالغة في إدارة وتوجيه كافة النظم المجتمعية الأخرى.

وتعني كلمة “نظام” (System) في سياقها العام مجموعة وحدات فرعية منفصلة عضويًّا ومرتبطة وظيفيًّا؛ حيث لا يمكن أن يشتغل المجموع بفاعلية إلا باشتغال الوحدات الفرعية كل على حدة، وبحسب قدرتها وكفاءتها يُحْكَم على أداء النظام بالجودة أو الرداءة، فهو نسق متكامل من الوحدات المنسجمة في إطارٍ قانوني ووظيفي يحكم ويسيِّر علاقاتها الترابطية.

وقد ظهر مفهوم النظام في مجال العلوم الطبيعية لكن سرعان ما انتشر استخدامه في مختلف فروع المعرفة؛ حيث جرى التعامل مع مختلف وحدات التحليل في علوم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس، التي تعبِّر عن نظم أو أنساق قائمة بذاتها. وبالتطبيق على المجال السياسي، نجد أن النظام السياسي استخدم مرادفًا لنظام الحكم، فالمدرسة الدستورية فهمت النظام السياسي على أنه المؤسسات السياسية وبالذات المؤسسات الحكومية (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، ولكن تحت تأثير المدرسة السلوكية اتخذ مفهوم النظام السياسي أبعادًا جديدة، وأصبح يشير إلى شبكة التفاعلات والعلاقات والأدوات التي ترتبط بظاهرة السلطة سواء من حيث منطلقها (الجانب الأيديولوجي)، أو القائمون على ممارستها (النخبة)، أو الإطار المنظِّم لها (الجوانب المؤسسية)(1).

ويُعرِّف روبرت دال (Robert Dahl)، أستاذ العلوم السياسية بجامعة بال الأميركية، النظام السياسي (Political System) بـ”نمط مستمر للعلاقات الإنسانية يتضمن التحكُّم والنفوذ والقوة أو السلطة بدرجة عالية”(2). فالنظام -بحسب دال- هو أسلوب للحكم بين الأفراد يتضمن ممارسة السلطة والتحكُّم في دواليب الدولة لفرض جملة من الأوامر والقوانين التي يلتزم بها مجموع الأفراد لمدة طويلة نسبيًّا. فهذا التعريف ربط بين النظام السياسي والسلطة، وعرَّف النظام السياسي انطلاقًا من مفهوم القوة والسيطرة.

أما ماكس فيبر (Max Weber)، عالم الاجتماع والسياسة والإدارة العامة الألماني وصاحب “النظرية البيروقراطية” في الإدارة، فقد أشار إلى البعد المؤسسي للنظام السياسي حيث عرَّفه بـ”النظام الذي يضمن تنفيذ الأوامر في المنطقة معينة الحدود وبصورة مستمرة بواسطة السلطة الفعلية عن طريق هيئة إدارية دائمة”(3). لقد حدَّد فيبر ثلاثة متغيرات في مفهوم النظام السياسي وهي: السلطة، والإقليم الجغرافي، والمؤسسة أو الإدارة، التي تضطلع بممارسة السلطة على حدودها القانونية، بهدف الحفاظ على بقاء واستمرارية النظام، فهو يشير إلى البعد المُؤَسَّسِي في بنية النظام السياسي، فالسلطة عنده تمارَس عن طريق هيئة إدارية.

وتشكِّل الأنظمة السياسية المعادلة المحورية في أية عملية انتقال حضاري، لأن انتعاش بقية القطاعات رهين بمدى تكَيُّف الأنظمة السياسية مع تحديات ومسارات التنمية ومتطلبات العصر المعرفي؛ حيث أصبح التغيير حتمية وجودية ليس لبقاء الأنظمة السياسية فحسب، بل لفعاليتها وقدرتها على الاستجابة لتطلعات الشعوب وتحديات القرن 21. فالأنظمة السياسية تنمو وتتطور كغيرها من الظواهر الطبيعية والإنسانية، وهي بحاجة دائمة إلى التحديث والتنمية والإصلاح لتجديد بنيتها المؤسساتية وإنعاش أدائها الوظيفي، لأن الفاعلية والتجديد يمثِّلان أهم رافد لديمومة الأنظمة السياسية، وقدرتها على التأقلم والاستجابة للمطالب الشعبية المتزايدة والمتنوعة في بيئة تشهد حركية وثَّابة، وتناميًا جامحًا للحاجات الإنسانية، وإعادة تشكُّل للمنتظم الدولي.

وبحسب غابرييل ألموند، المختص في الدراسات المقارنة حول الأنظمة السياسية وتحليل السياسات التنموية وصاحب كتاب “السياسة المقارنة في وقتنا الحاضر: نظرة عالمية”، فإن الأنظمة السياسية تقوم بأعمال كثيرة؛ إذ تعلن الحرب أو تشجع السلم، وترعى التجارة الدولية أو تقيدها، وتفتح الحدود لتبادل الآراء والخبرات الفنية أو تغلقها، وتفرض على السكان ضرائب عادلة أو غير عادلة، وتعمل على ضبط السلوكيات بحزم أو تتساهل في ضبطها، وتخصص الأموال اللازمة للثقافة والصحة والرفاهية أو تفشل في تخصيصها، وتُولِي الترابط بين البشرية والطبيعة ما يستحقه من اهتمام، أو تسمح باستنزاف الثروات الطبيعية أو بإساءة استخدامها. وللنهوض بكل هذه النشاطات لدى الأنظمة السياسية مؤسسات أو وكالات أو “بنى” مثل الأحزاب السياسية والبرلمانات والدوائر الحكومية والمحاكم، التي تقوم بنشاطات محددة أو تنجز “وظائف”، والتي بدورها تمكِّن النظام السياسي من صياغة سياساته وتطبيق النظام. والبنية والوظائف هي مفاهيم أساسية تساعد في معرفة كيف تؤثر السياسات في بيئتها الطبيعية والإنسانية وتتأثر بها(4).

فالنظام السياسي يجب أن يمتلك القدرة على تجنيد الموارد والطاقات البشرية والطبيعية والمادية والمواءمة بينها من خلال السياسات العامة والرؤية والأهداف التي يصوغها لتحقيق أهداف المجتمع وغايات التنمية، وهذا ما يجعله يمتلك صفتي البنيوية والوظيفية، فالأولى توحِّد بين المؤسسات المجتمعية في بناء هيكلي منسجم وفق تراتبية هرمية، والثانية تعبِّر عن قدرة هذه المؤسسات على الوفاء بمتطلبات المجتمع عن طريق جودة أدائها وفعاليته.

وفي إطار تحليل فاعلية النظم السياسية العربية، يمكن القول: إن أغلب الأنظمة السياسية في العالم العربي لا تزال مكبلة بقيود تراثية اجتماعية غير صالحة للواقع الجديد، وهي بحاجة ماسَّة إلى إعادة هندسة عميقة تشمل فلسفة الحكم، وبنية النظام السياسي وأداء المؤسسات، وإلى تحديث عميق يشمل “العلبة السوداء” و”العقل المتسلِّط” و”الثقافة الرديئة” و”البنية المتكلسة للنظام”، بحيث يعيد تشكيل أنساقه وترابطاته ومؤسساته ومرجعياته، وفق مسار تدريجي مدروس، للارتقاء بالمناخ السياسي حتى ينسجم مع مستوى طموح الجماهير المعاصرة، التواقة إلى الانعتاق وحرية التفكير والعمل والتحديث المستمر لكل نظم الحياة.

ولو أردنا أن نفهم حقيقة العطب البنيوي والوظيفي للأنظمة السياسية في الدول العربية، وكلفتها الباهظة على مستقبل الشعوب والأجيال القادمة، فيكفي أن ندرك أن محيطنا العربي يقع ضمن أغنى رقعة جغرافية على ظهر الأرض، تَجَمَّعَ فيها ما افترق عند غيرها من خيرات وثروات، ومع ذلك يعجز الكثير من الأنظمة العربية عن تحقيق شروط الانتقال الحضاري والتنمية المستدامة والتحديث الشامل؛ حيث نجد في مجتمعاتنا:

– أطباء جيدين وحُذَّاقًا، لكن نفتقد لمنظومة صحية سليمة ومتطورة.

– معلمين وأساتذة أكفاء ومهرة، لكن نفتقد لمنظومة تربوية وجامعية ذات جودة عالية.

– مهندسين بارعين، لكن نفتقد لمنظومة معمارية متميزة وراقية وذات أبعاد حضارية.

– قضاة ومحامين وفقهاء متميزين، لكن نفتقد لمنظومة قضائية عادلة ولسلطة قضائية مستقلة.

– أحزابًا وانتخابات ومنظمات للمجتمع المدني، لكن نفتقد لمنظومة سياسية تنافسية وآليات حقيقية للتداول على السلطة.

– آليات وأشكالًا ديمقراطية، لكن نفتقد لمنظومة ديمقراطية تشاركية حقيقية ومؤسسات فعالة وفَصْلًا حقيقيًّا بين السلطات.

– ثروات وأموالًا ومقومات اقتصادية عظيمة، لكن نفتقد لاستراتيجية رشيدة وسياسات تؤسس لمنظومة اقتصادية قوية ومنتجة للثروة خارج إطار الريع.

– قنوات إعلامية كثيرة وصحفًا ومجلات وجرائد، لكن نفتقد لحرية التعبير والتفكير والمصداقية والشفافية في كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤول.

– خصائص ومزايا سياحية متفردة، لكن نفتقد لمنظومة سياحية قادرة على التنافس والاستقطاب ورِفَادَةِ الاقتصاد الوطني.

– قوة وغالبية شبابية حيوية وذكية، لكن نفتقد لمنظومة مجتمعية هادفة ولرؤى منهجية فعالة تُحوِّل رأس المال الاستراتيجي إلى قوة اقتصادية واجتماعية.

– ذكاء وأفكارًا وإبداعات، لكن نفتقد لسياسات فعالة لاستثمار رأس المال المعرفي والفكري في التنمية المستدامة والنهضة الحضارية.

إذن، تزخر الدول العربية بكل مقومات الازدهار لكن واقعها يكشف مظاهر التخلف والتقهقر. وهو ما يجعلنا نسأل عن مكمن الداء ومركز العطب في فلسفة إدارة الدولة والمجتمع بالعالم العربي.

إن النظام السياسي المتآكل بنيويًّا بسبب اهتراء وفساد قواعده التأسيسية، لا يمكنه -على مستوى الأداء- أن يحقق جودة سياسية، أو تداولًا حقيقيًّا على السلطة، أو تنافسًا نزيهًا، أو يستجيب لتطلعات شعبه التي تفوق قدراته على التجاوب الفعال والسريع، لعدم كفاءة وقدرة أدواته ومنظومته على التغيير، فضلًا عن الإبداع والتطوير.

ووسط هذه البيئة المتخمة بداء عدم الفاعلية، تهاجر غالبية الكفاءات المتميزة في المجتمعات العربية نحو البلدان المتطورة الحريصة على تثمين المهارات، وتنمية الموارد البشرية، واستقطاب العقول من أصقاع المعمورة، لأن عدم فاعلية النظام السياسي سيؤدي حتمًا إلى توليد الأزمات دوريًّا. فكل ما نراه من مظاهر عدم الفاعلية يُعد مخرجات وانعكاسات طبيعية لآلية عمل النظام المُهتَلِك بنيويًّا والمُفلِس وظيفيًّا، وهذا ما نعاينه في مستوى أداء المنظومة التعليمية والجامعية والصحية والثقافية والحزبية والسياسية والإعلامية للدول العربية، باعتبار أن ذلك نتاج السياسات العامة للنظم السياسية العصية على التطوير والإصلاح.

فالنظام السياسي الفاقد للشرعية والفاعلية سيكون أداؤه ومنتوجه مُشَوَّهًا ولو كان يمتلك ثروات وموارد بشرية ومعرفية هائلة، لأن عطبه بنيوي ومزمن وليس شكليًّا، والعمل على تغييره بصفة سلمية يتطلب انتهاج مسلك الإصلاح المرحلي الداخلي (من داخل النظام) والإرادي (أي بمبادرة ذاتية دون ضغط خارجي)، وهذا يستلزم تغيير أسس الحكم المتقادمة ومرجعياته، وأدواته المتهالكة وشخصياته الوظيفية، بعد الاقتناع الفعلي بأن تكلفة البقاء ضمن النظام التسلطي ستكون أشد وأخطر على النخب الحاكمة والشعوب من تكلفة التحول نحو نظام سياسي فعَّال ومرن، يتمتع بالجودة والكفاءة والتنافسية والمشروعية السياسية والشرعية القانونية.

  1. الحكم الرشيد: مفهومه ومعاييره

إن تطور الفكر السياسي الحديث بمقارباته ومداخله وأدواته الحكمية، قد أفرز عدة نماذج للحكم وإدارة المجتمعات، وأضاف منظومة جديدة من القيم والأسس والأفكار التي تتماشى مع تطور الإنسانية وتقدمها الباهر في مجال التعليم والفكر القانوني والحقوقي والعلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، كالحكم الرشيد والتنشئة السياسية والترسيخ الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة والتنمية السياسية والهندسة السياسية، والشرعية (Legitimacy) والمشروعية (Legality)، وأنماط الأنظمة السياسية، وحوكمة التسيير وإدارة الجودة، والفصل بين السلطات…إلخ. وهي أطروحات أسهمت في تعزيز مستوى الوعي الجماهيري والتنشئة السياسية، وتنمية الإدراك والذكاء الجماعي، كما شكَّلت من جهة أخرى تحديات وجودية للأنظمة الجامدة أو التسلطية التي تفتقد لمتغير الفاعلية والكفاءة والشرعية؛ مما يجعلها متسببة في الاحتقان الاجتماعي والكبت النفسي للمجتمع، الذي يتعاظم مع تراكم الإخفاقات والسياسات الفاشلة وعدم فاعلية الإصلاحات الشكلية في حلِّ مشاكل المواطنين اليومية؛ الأمر الذي سيؤدي إلى انفجار مجتمعي شامل ويؤسس لمسار الثورة بكافة تبعاتها ورهاناتها ومجاهلها الغامضة.

ويشكِّل مفهوم الحكم الرشيد مقاربة سياسية حديثة في تسيير الدول من منظور الحكامة والرشادة السياسية، فهو يسعى إلى تحقيق جودة التسيير وفعاليته في استثمار الموارد المادية والبشرية للدولة بأعلى مستوى ممكن من الكفاءة والشفافية، بهدف تحقيق الجودة والكفاءة السياسية والنزاهة والتداول على الحكم وتفعيل مبدأ الرقابة والمحاسبة.

أولًا: تعريف الحكم الرشيد

يعتبر مفهوم الحكم الرشيد (Good Governance) من المفاهيم التي دار حولها جدل واسع بين المختصين في الشأن السياسي والقانوني، ابتداء من التسمية والاختلاف حول الترجمة الصحيحة للمصطلح ما بين الحكم الرشيد، أو الحكم الراشد، أو الحكم الجيد، أو الحوكمة، مرورًا بأدوات الحكم الرشيد ومعاييره ومقارباته ومظاهره، وانتهاء بإسقاطاته المعيارية على البيئات والنماذج السياسية المتباينة من حيث المعطى الثقافي والتاريخي والسيوسيو-اقتصادي. غير أنه يمثِّل محاولة في سبيل تطوير الفكر السياسي وترقية أداء النظم السياسية، وهو لا يزال بحاجة إلى مزيد من النقد والتنقيح والتأصيل المفاهيمي، والاجتهاد في التكييف التنزيلي، خاصة لدى الدول العربية ذات الخصوصية الديمغرافية والتاريخية والثقافية المغايرة للبلدان التي نشأ فيها هذا المصطلح وتأصَّلت تطبيقاته داخل بيئتها. فالهدف من هذه الدراسة ليس السعي إلى محاكاة هذا النموذج وإسقاطه على الأنظمة السياسية العربية، لأن هذه المنهجية أثبتت فشلها في العديد من مشاريع الإصلاح الاقتصادي والتعليمي والسياسي، ولكن الهدف هو الاستفادة منها في سبيل البحث عن النظرية السياسية الأمثل والأصلح للنهوض بالواقع العربي.

لقد عرَّف البنك العالمي سنة 1997 الحكم الرشيد بـ”الطريقة الخاصة بإدارة وممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية قصـد تسييرٍ أحسن للشؤون العمومية”(5).

وتُعرِّف الأمم المتحدة الحكم الرشيد بأنه “ممارسة السلطة لإدارة شؤون المجتمع باتجاه تطويري وتنموي وتقدمي، أي إنه الحكم الذي تقوم به قيادات سياسية منتخبة، وإطـارات إدارية ملتزمة بتطوير موارد المجتمع وبتقدم المواطنين وتحسين نوعية حياتهم ورفاهيتهم، وذلك برضاهم مـن خـلال دعمهم ومشاركتهم”(6). “وفي سياق البيئة السياسية والمُؤَسَّسِية التي تدعم حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون، فإن الحكم الرشيد هو إدارة شفافة وخاضعة للمساءلة حول الموارد البشرية والطبيعية والاقتصادية والمالية لأغراض التنمية العادلة والمستدامة”(7).

بينما حدَّد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 الحكم الرشيد بـ”الحكـم الذي يُعزِّز ويدعم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشـر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولاسيما بالنسبة لأكثر أفراد المجتمع فقرًا وتهميشًا”(8).

ومن خلال تحليل التعاريف السابقة، يمكن التأكيد على أن مفهوم الحكم الرشيد ينبني على بعدين أساسيين:

– أولًا: البُعد المعياري: الذي يركز على قيم ومعايير العدل والديمقراطية والحوكمة والمساءلة والمحاسبة وحقوق الإنسان والحرية الإعلامية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، وإقرار شرعية الحكم في إدارة وتوزيع السلطة، والابتعاد عن مظاهر التسلط والحكم الشمولي.

ثانيًا: البعد المؤسسي: الذي يركز على ممارسة العملية السياسية في نطاق المؤسسات المنتخبة (مبدأ شرعية المؤسسات)، وتجنب أسلوب الانقلابات أو تزوير الانتخابات أو الانفراد بالحكم؛ حيث يرتكز الحكم الرشيد على مأسسة نظام الحكم بآليات ديمقراطية.

كما يمكن تحديد طبيعة الحكم الرشيد وآلياته من خلال التعريفات الآنفة وفق ثلاث مستويات رئيسة، وهي:

  1. على مستوى الأهداف: فمنظومة الحكم الرشيد تهدف إلى إرساء معالم الحرية، والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وترشيد الإنفاق، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في توزيع الموارد، والشفافية، والمساءلة…إلخ.
  2. على مستوى الآليات: فالحكم الرشيد يعتمد آليات للحكم تقوم على الانتخابات، والتداول على السلطة، والفصل بين السلطات، وسيادة العدالة، وحقوق الإنسان، والمشاركة السياسية، وتشجيع منظمات المجتمع المدني، والحرية الإعلامية والفكرية، والرقابة على عمل الحكومة.
  3. على مستوى الأشخاص: ترتكز منظومة الحكم الرشيد على شرعية الكفاءات والاقتدار المعرفي، وعلى الشخصيات النزيهة التي تحظى بالثقة والمصداقية الشعبية والشرعية القانونية والمشروعية السياسية عن طريق تمكين النخب وذوي المهارات المعرفية والخبرات الناجحة من تولي مناصب الحكم، سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية، وسواء على المستوى المحلي أو الوطني.

ثانيًا: معايير وقيم الحكم الرشيد

تجدر الإشارة أولًا إلى أن هناك ستة مؤشرات عالمية لجودة الحكم، يركز كل مؤشر على موضوع بعينه وله مقاييسه ودرجاته، وهذه المؤشرات الست هي: السيطرة على الفساد، وفاعلية الحكومة، والاستقرار السياسي، وجودة التشريعات وتطبيقها، وسيادة القانون، والمشاركة والمساءلة(9).

ورغم أهمية هذه المعايير تبقى نسبية بالمقارنة إلى تطبيقاتها المتباينة بين دول العالم، إلا أنها تمثِّل مؤشرات ضابطة لقياس جودة الحكم والسياسات، وفيما يلي يُقدم الباحث شرحًا موجزًا لهذه المعايير:

  1. السيطرة على الفساد: وتعني قدرة الجهاز الحكومي على تتبع منابع الفساد والحد من آثاره وانتشاره في المجتمع، خاصة على مستوى المؤسسات العمومية والمستويات العليا للدولة، ويشمل الفساد المالي والسياسي والتشريعي والقضائي والإداري.
  2. فاعلية الحكومة: أي قدرة الحكومة على التصرف في الموارد المحدودة بالكفاءة اللازمة التي تجعلها تستجيب لمطامح الشعب وتلبي رغباته، وهذا عن طريق تطوير كفاءات الموارد البشرية ومهاراتها في التسيير، واتباع الأساليب العلمية في الإدارة والتنمية.
  3. الاستقرار السياسي: والمقصود به سلامة المؤسسات والآليات والمرجعيات السياسية للدولة من خلال نزاهة العملية الانتخابية، والتداول السلمي على السلطة وعدم احتكارها، والفصل المتوازن بين السلطات، وشرعية الهيئات المنتخبة، وإبعاد تدخل رجال المال والمصالح في السياسة وفي اتخاذ القرار، لضمان مناخ سياسي تنافسي والبعد عن العنف والأساليب التسلطية التي تفضي إلى الاضطراب والفوضى واختلال الموازين.
  4. جودة التشريعات وتطبيقها: إن من عوامل جودة التشريعات شرعية الجهة المشرِّعة لها كنواب البرلمان والرئيس وبقية الهيئات المنتخبة، وكفاءتها العلمية والعملية، فالمنتخب شرعيًّا سيسعى للعمل على تشريع كل القوانين التي تخدم المصلحة العليا للمجتمع، ويمارس دوره التشريعي والرقابي بالكفاءة والاستقلالية اللازمة، ويسهر على تطبيق هذه القوانين والسير الحسن لكافة المؤسسات، من أجل أن يكتسب استقلاليته وسلطته من الجهة التي انتخبته (الشعب) وليس التي عيَّنته أو أوصلته إلى الحكم.
  5. سيادة القانون: أن يكون جميع الناس بمختلف مراكزهم الاجتماعية والسياسية سواسية أمام القانون دون وجود أي امتيازات أو محاباة، وتنطلق سيادة القانون أساسًا من خضوع كبار المسؤولين التنفيذيين للمساءلة والمحاسبة، وهو ما يضمن انصياع الجميع وأخذهم للعبرة وثقتهم في مصداقية المنظومة القضائية واحترام مبدأ المساواة أمام القانون.

ويتم ذلك من خلال ضمان “وجود أنظمة قانونية وقضائية واضحة ومستقرة ومستقلة فيما يتعلق بممارسة الأفراد والجماعات والسلطة الحاكمة لصلاحياتهم في كل المجالات، مع كفالة حق المساواة أمام القانون للجميع سواء في التمتع بفرص الحماية القانونية لحقوقهم، أو في التعرض للعقاب بمقتضى القوانين السارية، ويعتبر حكم القانون من الشروط الضرورية للمساءلة(10).

  1. المشاركة والمساءلة: تعني المشاركة ضمان النظام السياسي لحق مشاركة الشعب في إدارة شؤونه عن طريق الأحزاب والشخصيات والهيئات وجمعيات المجتمع المدني، وذلك عبر آليات انتخابية صادقة، وإدارة الشورى والحوار المجتمعي كأهم أدوات اتخاذ القرار. أما المساءلة فتتمثَّل في “واجب المسؤولين عن الوظائف الرسمية سواء أكانوا منتخبين أم معينين، وزراء

أم موظفين وغيرهم، في تقديم تقارير دورية حول سير العمل في المؤسسة أو الوزارة وبشكل تفصيلي، يوضح الإيجابيات والسلبيات ومدى النجاح أو الإخفاق في تنفيذ سياساتهم في العمل. كذلك يعني هذا المبدأ حق المواطنين العاديين في الحصول على التقارير والمعلومات اللازمة عن الموظفين المسؤولين في الإدارات العامة، وممثلي الشعب، مثل: النواب، والوزراء، والموظفين الحكوميين وأصحاب المناصب. ويهدف ذلك للتأكد من أن عملهم يتفق مع القيم القائمة على العدل والوضوح والمساواة، وأيضًا مع ما يحدده القانون لوظائفهم ومهامهم حتى يكتسب هؤلاء الشرعية والدعم المقدمين من الشعب لضمان استمرارهم في عملهم على هذه الأسس، وتفترض أنظمة المساءلة الفعالة وضوح الالتزامات والأطر وقنوات الاتصال وتحديد المسؤوليات(11).

لذلك يتمثَّل جوهر مبدأ المساءلة في خضوع المسؤولين للرقابة بصفة مستمرة مهما كانت مرتبتهم عن طريق ممارسة الشعب لحقه بكل أساليب الاحتجاج السلمي، وكذا عن طريق نوابه المنتخبين (كتفعيل آلية ملتمس الرقابة)، مع ضمان ذلك من طرف النظام السياسي وعدم غلق منافذ المساءلة واحتكار سلطة الإكراه والقهر والانفراد بالقرار دون محاسبة.

كما أن هناك مجموعة من المعايير الموضوعية الأخرى لقياس جودة الحكم، نذكر منها:

  1. الشفافية: وتعني تقاسم المعلومات وتداولها بطريقة مكشوفة دون أي غموض، وتتمثَّل أيضًا في حق المواطنين في معرفة ونشر المعلومات حول ما يُفترَض في موظفي الحكومة ومؤسساتها القيام به بالفعل وتحديد مسؤولياتهم، كما تقوم أيضًا على تعميم المعلومات المتعلقة بحقوق المواطنين والخدمات التي يحق لهم معرفتها(12)؛ فـالشفافية في صياغة وتنفيذ السياسات العامة تُمكِّن الجمهور من الوصول إلى الخدمات الاجتماعية والمطالبة بحماية حقوقهم… إن تسهيل وصول الجمهور إلى المعلومات يمكن أن يكون استراتيجية قوية في تحسين الإنفاق العام وحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية”(13).
  2. التنافسية: تفترض التنافسية أساسًا أن تُوَفَّرَ للمواطنين فرصة الاختيار بين الرؤساء والسياسات والمؤسسات، وأن تُوَفَّرَ أيضًا إجراءات تسمح للمواطنين بالانتقاء بين الخيارات المطروحة، وأن يمارسوا الضغط لترجيح كفة خيارات مختلفة، أو أن يتمكنوا من الاعتراض، وإيجاد حلول بديلة إذا أدركوا أن في السياسة انتهاكًا لحقوقهم(14).
  3. المساواة: وتعني أن يتساوى المواطنون في حقوقهم أمام القانون، وأن تُتاح لهم فرص متساوية لممارسة هذه الحقوق ومشاركتهم في إدارة الحكم.
  4. الرؤية الاستراتيجية: حسب مفهوم الحكم الرشيد، فإن الرؤية تتحدد بمفهوم التنمية والشراكة بين مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من خلال خطط بعيدة المدى لتطوير العمل المجتمعي من جهة، والعمل على التنمية البشرية من جهة أخرى، وحتى يتم تحقيق النتائج الإيجابية في رسم الخطط ضمن إطار الحكم الرشيد، يجب الأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية ودراسة المخاطر ومحاولة وضع الحلول(15).
  5. تكريس قيم المواطنة: يقصد بالمواطنة حسب دائرة المعارف البريطانية: “علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولـة، متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات تصبغ عليه حقوقًا سياسية، مثل: حقوق الانتخاب، وتولي المناصب العامة. وهناك من قدَّم المواطنة بوصفها حالة قانونية؛ حيث تُعطِي المواطنة للأفراد حقوقًا في النظام السياسي المنتمين إليه على الأقل، كحق الوجود والمشاركة في المنظومة السياسية للدولة. ولم تكتف إحدى موسوعات علم الاجتماع بوصف المواطنة بأنها: مجموعة من الحقوق التي يحوزها الفرد ومجموعة من الواجبات التي يلتزم بها، بل أضحى المصطلح يشير في العصر الحديث إلى المؤسسات والهيئات التي تنظم هذه الحقوق في دولة الرفاهية”(16).

كما تُعرَّف المواطنة تعريفًا جامعًا بأنها: “مجموعة من الحقوق المادية والمعنوية، الفردية والجماعية تتكفَّل الدولة بصيانتها وتمكين المواطنين منها، في مقابل مجموعة من الواجبات يسدي بعضَها المواطنون في شكل خدمات وتحت إشراف ومراقبة الأجهزة الإدارية للدولة”(17).

  1. التركيز على حقوق الإنسان: إن الحكم الرشيد وحقوق الإنسان يُعزِّز كل منهما الآخر، فمبادئ حقوق الإنسان توفر مجموعة من القيم لتوجيه عمل الحكومات والجهات الفاعلة السياسية والاجتماعية الأخرى. كما توفر مجموعة من معايير الأداء التي يمكن على أساسها محاسبة هؤلاء الفاعلين. علاوة على ذلك، فإن مبادئ حقوق الإنسان توجه محتوى جهود الحوكمة الرشيدة، فقد تساعد في تطوير الأطر التشريعية والسياسات والبرامج ومخصصات الميزانية والتدابير الأخرى. وبدون الحكم الرشيد لا يمكن احترام حقوق الإنسان وحمايتها بطريقة مستدامة. ويعتمد إعمال حقوق الإنسان على بيئة مواتية وتمكينية، وهذا يشمل الأطر والمؤسسات القانونية المناسبة وكذلك العمليات السياسية والتنظيمية والإدارية المسؤولة عن الاستجابة لحقوق واحتياجات السكان(18).

ويتطلب تحقيق هذه المعايير امتلاك القادة السياسيين لأفكار ومشاريع واعدة في التنمية والبناء الحضاري، كما يستلزم من كل فرد الوعي التام بالحقوق والواجبات، وتفعيل دور المواطن في التنمية بكافة أبعادها، والمشاركة الفعالة في المسؤوليات المجتمعية الكبرى، كالأمن وحماية البيئة ومراقبة عمل الحكومة والمشاركة السياسية، فالمواطن الجاهل تكون تكلفته باهظة على الدولة في جميع الأصعدة، أما المواطن الواعي فهو يحقق لها قيمة إضافية.

وفي إطار تحديد قيم الحكم الرشيد، يرى دويفيدي (Dwivedi) أنه ينبني على عشر قيم، وهي(19):

  1. التعددية الثقافية: أي احترام الحساسيات والتنوع الثقافي داخل الدولة.
  2. شرعية النظام: يجب أن يُنظر إلى الحكومة على أنها شرعية في سياق ما هو دستوري.
  3. الإجماع في صنع القرار العام: وهذا أمر مطلوب بين أولئك المتنافسين على السلطة في دولة ديمقراطية.
  4. المشاركة العامة في صنع القرار أو صياغة السياسات: من خلال فتح قنوات عامة مع الجمهور والفاعلين.
  5. سيادة القانون لضمان الإنصاف ونبذ التفرق.
  6. استجابة الحكومة لاحتياجات أصحاب المصلحة أو المجموعات المتنوعة في المجتمع.
  7. الكفاءة والمساءلة الفعَّالة لمؤسسات الحكم، وهذا أمر ضروري.
  8. الشفافية لبناء الثقة في الدولة لتقديم الخدمات للشعب.
  9. الشفافية في العمل لبناء الثقة في الآخرين (الشركاء).
  10. الحوكمة الأخلاقية: وهذا يعني الحرص على الخدمة العامة واحترام الأخلاق في عملية اتخاذ القرار العام.

وتمثِّل هذه القيم والمعايير نموذجًا مثاليًّا للحكم الرشيد، وتشكِّل منظومة فكرية وسياسية يمكن الاستفادة منها في رسم منظور متكامل لإصلاح الأنظمة السياسية العربية وتحقيق جودة سياساتها العامة، وهو ما يتطلب إيجاد النصوص القانونية والدستورية الضامنة لها، واستحداث المؤسسات الكفيلة بتجسيدها وترسيخها، حتى تمثِّل دعامة أساسية لفاعلية النظام السياسي وجودة أدواته الحكمية، وقدرته على مجابهة التحديات وإدارة التغيير الذي يُعد سمة هذا العصر. فالأنظمة السياسية في الدول العربية بحاجة ماسَّة إلى إعادة هندسة شاملة وفق منظور تدريجي مدروس للارتقاء بالمناخ السياسي والاجتماعي، وتطوير الممارسات السياسية حتى تنسجم مع مستوى طموح الجماهير المعاصرة التي تتوق إلى الانعتاق وحرية التفكير والعمل والتحديث المستمر لكل نظم الحياة.

 

  1. أبعاد ومرتكزات الحكم الرشيد وواقع الأنظمة السياسية العربية: رؤية تقييمية

أولًا: أبعاد الحكم الرشيد

يشير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن للحكم ثلاثة أضلع: “الاقتصادي والسياسي والإداري، فالحكم الاقتصادي يشمل عمليات صنع القرار التي تؤثر على الأنشطة الاقتصادية لبلدٍ ما وعلى علاقاته بالاقتصاديات الأخرى، وهو يترك بصورة واضحة آثارًا رئيسية على الجوانب المتعلقة بالعدالة والفقر ونوعية الحياة. أما الحكم السياسي فهو عملية صنع القرار من أجل صياغة السياسات، في حين أن الحكم الإداري هو نظام تنفيذ السياسات. والحكم الرشيد الذي يضم الأضلع الثلاث يحدِّد العمليات والهياكل التي توجه العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية”(20).

وبناء على ما سبق، فإن معالم الحكم الرشيد تتشكَّل وفق ثلاثة أبعاد متكاملة، وهي:

  1. البعد السياسي: ويرتكز على طبيعة السلطة السياسية ومدى شرعيتها من حيث التمثيل السياسي. وترى هدى ميتكيس أن البعد السياسي للحكم الرشيد يتضمن شقين أساسيين:

– أولهما: زيادة فاعلية الدولة بحيث تكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات.

– ثانيهما: تحقيق قدر أكبر من التعددية والمشاركة في توجيه السياسة العامة التي يجب أن تتسم بالعقلانية والرشادة(21).

وتنبني شرعية النظام وتمثيله على مدى توافر الأسس التالية:

– دولة الحق والقانون التي تتضمن احترام الحريات العامة للمواطنين.

– احترام حقوق الإنسان والمشاركة في رسم السياسات العامة.

– ضرورة وجود مجتمع مدني في إطار نظام ديمقراطي.

– حرية الرأي العام والتعبير من خلال وجود صحافة حرة ومستقلة ومنافسة، وحرية المعارضة.

– التداول السلمي على السلطة وحرية المشاركة السياسية.

– العدالة الاجتماعية وتساوي فرص الارتقاء الاجتماعي.

– ممارسة المجالس المنتخبة لدورها الرقابي والتشريعي باستقلالية(22).

وتعتبر هذه الأسس قيمًا مرجعية في تحديد شرعية النظام السياسي، وتشكِّل الآليات والأدوات البنيوية لتأسيس نظام سياسي فعال يتمتع بالمناعة والفاعلية في إدارة شؤون البلاد.

وإذا نظرنا إلى حال الأنظمة السياسية في أغلب البلدان العربية نلاحظ أنها ما زالت مكبَّلة بمخلَّفات الفكر الشيوعي الشمولي، والمنطق الأحادي الأوتوقراطي في الحكم، فالنخب الحاكمة التي عاصرت مراحل الثورات التحريرية وتشبعت بالثقافة الأحادية والفكر الاشتراكي، من الصعب جدًّا أن تؤمن بالقيم الديمقراطية، وتثق بوعي الشعوب، فضلًا عن أن تؤسس لممارسات سياسية راشدة، بل ترى في معايير الحكم الرشيد تهديدًا وجوديًّا لكيان الدولة، فتُحْجِم عن إجراء إصلاحات صادقة تُسفر عن تمثيل حقيقي للإرادة الشعبية وتمتين البناء المؤسساتي وترسيخ الآليات الديمقراطية في ممارسة الحكم والتداول عليه. وهذا المنطق السائد في أغلب الأنظمة السياسية العربية يشكِّل خطورة بالغة على المدى القريب والمتوسط، وقد يترتب عنه انهيار لكافة أشكال الدولة -لا النظام فحسب- على المدى البعيد، بسبب تماهي والتصاق مفهومَيْ الدولة والنظام في السياق العربي، وعدم وجود حدود فاصلة بينهما لانعدام ثقافة التداول والمحاسبة واستقلالية الأداء المؤسساتي والفصل الحقيقي بين السلطات؛ مما يجعل سقوط النظام هو سقوط للدولة بحدِّ ذاتها كما حدث في عدة دول عربية خلال مسارات ثورات الربيع العربي، وهنا مكمن الخطر.

على خلاف الدول الراسخة في التقاليد الديمقراطية والحوكمة، فإن سقوط نظام ومجيء آخر هو حالة صحية في عُرْفِهَا السياسي، لرسوخ منطق المحاسبة السياسية، واستقلالية المؤسسات، وعدم احتكار السلطة والتحكم في مؤسسات الدولة وترويضها لتنساق وراء أهواء الحاكم المسيطر.

  1. البعد الإداري-التقني

يعتمد ترشيد الإدارة العامة وتأمين استمراريتها بدرجة عالية من الكفاءة والفاعلية على الاهتمام بالجهاز الإداري والأنظمة والقوانين المعمول بها، والتي تحكم سير العمليات الإدارية، للتأكد من مدى ملاءمتها وقدرتها على تحقيق أهدافها والتركيز على الجودة الشاملة والمرونة واتخاذ القرارات. وهذا لا يتحقق إلا بالإبداع والسعي المتصل للاهتمام بالموظفين وإعدادهم مهنيًّا، وتنمية روح المسؤولية والولاء والانتماء، وبناء إطار لتنظيم شؤون العاملين والموارد البشرية، ووضع سياسات ومسارات وظيفية ومهنية قادرة على الجذب والاحتفاظ والتطوير للأفراد المناسبين، وتحفيز طاقاتهم نحو تقديم الخدمات والمنتجات العامة بكفاءة وفاعلية في الأداء(23).

فالتنمية الإدارية تنطلق من الاستثمار في الموارد البشرية، وإصلاح النظرة الكلاسيكية تجاه الموظفين، والانتقال من النظر إليهم على أنهم عبء وتكلفة للمؤسسة والدولة إلى اعتبارهم موردًا وثروة استراتيجية، يمكن من خلالها تحقيق الجودة والتنافسية، وهذه التوجهات تُعد أهم معالم الحكم الرشيد.

ويمِّثل الجهاز الإداري أداة السلطة التنفيذية في بسط نفوذها وتطبيق السياسات والقوانين، وتطرح في هذا السياق بصفة ملحَّة في بعض الدول العربية مسألة القوة التأثيرية لهذا الجهاز في تطبيق القوانين وإنجاح الرؤى والسياسات التنموية للسلطة، أو في تعطيل تنفيذ القرارات وإفراغها من فاعليتها وأهدافها المرجوة، وهو ما يُعبَّر عنه إعلاميًّا بمصطلح “الدولة العميقة” الرافضة لمساعي التغيير الذي يُفْقِدُها بعض الامتيازات ومواقع النفوذ.

  1. البعد الاقتصادي والاجتماعي

يتعلق بطبيعة بنية المجتمع المدني ومدى حيويته واستقلاليته عن الدولة في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وقدرته على التأثير في المـواطنين وعلاقتـه مـع الاقتصاديات الخارجية والدول الأخرى(24). ويشير مفهوم المجتمع المدني إلى “كافة الأنشطة “التطوعية” التي تقوم لتحقيق مصالح وأهداف مشتركة للمنخرطين فيها، وتشمل العديد من المنظمات غير الحكومية والمنظمات غير الربحية، مثل: النقابات المهنية، والمنظمات الخيرية، والمنظمات الدينية، وجمعيات حقوق الإنسان وغيرها”(25). ولأجل قيام مجتمع مدني فاعل، لابد أن يمتاز بجملة من الخصائص، منها:

الاستقلالية الوظيفية والعضوية عن النظام السياسي والأحزاب بشكل يجعله يتحوَّل إلى قوة اقتراح، وآلية لضبط الشفافية، وفرض الرقابة المجتمعية على الأداء السلطوي والمؤسساتي للدولة.

استقلالية الذمة المالية لكيلا يكون عرضة للتوظيف أو التدجين السياسيين ولكي يحافظ على صفته المدنية المعبِّرة عن المواطنة المستقلة والمسؤولية.

– يتميز أيضًا بالنضج الديمقراطي وبالحس المواطني بصفة تجعله عماد الديمقراطية المحلية وفاعلًا محوريًّا في الديمقراطية التشاركية.

– المجتمع المدني بكونه شبكة من الجمعيات تتميز بالاختصاص الوظيفي سواء فيما يخص البيئة، والصحة، والثقافة وغيرها، مما يجعلها قادرة على أن تكون شريكًا وظيفيًّا للقطاع الوزاري الذي يقابلها، بما يسمح بتوسع احتمالات اتخاذ القرارات الأكثر توافقًا مع الحاجات الخاصة بالمجتمع في الميدان المعين، وهذا ما سيرفع أيضًا من حركية التنمية الإنسانية المستدامة، كما سيؤدي إلى تعميق النضج الديمقراطي في الدولة والمجتمع(26).

إن فاعلية المجتمع المدني عبر تنظيماته، وحركيته التي تستهدف بناء الوعي المجتمعي، تُعد من أهم دعائم الحكم الرشيد، فمن مصلحة النظام السياسي الفعال وجود مجتمع مدني متطور ومهتم بشكل مباشر بقضاياه البيئية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومسهمًا في إيجاد الحلول والتطبيق الأحسن للسياسات العامة، وفي الوقت نفسه يمارس دوره الرقابي على كافة المؤسسات والمسؤولين والمنتخبين في مدى وفائهم بالتزاماتهم.

ومن أكبر المعضلات التي تُشوِّه عمل منظمات المجتمع المدني في النظم غير الشرعية التي تتميز بعدم الفاعلية، انتهاج سياسة الاحتواء تجاه الجمعيات والكيانات المجتمعية، وسعيها لصناعة مجتمع مدني مزيف وغير مستقل تحت اسم “اللجان الشعبية”، أو التضييق على الكيانات المجتمعية ذات الامتداد الشعبي والنشاط المؤثِّر، وهذه السياسة لا تخدم بناء نظام سياسي رشيد، بل ستُسهِم في انغلاق النظام وغياب الرقابة الشعبية والمؤسساتية وتراكم الإخفاقات وتوليد الأزمات.

ثانيًا: مرتكزات الحكم الرشيد

يتأسس نموذج الحكم الرشيد على آليات وأدوات حكمية تُمثِّل الدعائم الرئيسة لتحقيق فاعلية النظام السياسي وحيويته، وتؤهله لامتلاك الكفاءة الضرورية للاستجابة لتطلعات المجتمع في جميع المجالات، وهي تُعد مقياس شرعيته وجودته في الحكم والتسيير، واتخاذ القرار ورسم السياسات العامة، وتتجلى الركائز التي يقوم عليها الحكم الرشيد فيما يلي:

  1. الانفتاح السياسي: ويتكون من الجانب القانوني ووسائل الممارسة السياسية مـع توفير ضمانات ممارستها.
  2. المشاركة السياسية: وتعني درجة المشاركة في الحكم بين النساء والرجال، وكـذا آليـات المشاركة والإطار القانوني الذي تتميز به، ومدى توافر الشفافية في الانتخابات(27).
  3. النظام الانتخابي: النظام الانتخابي يعتبر أحد استحقاقات ومرتكزات النظام الديمقراطي، ويمثِّل أهم الأدوات الفاعلة للمشاركة السياسية في إدارة الدولة، وتعتبر الانتخابات وسيلة السيطرة الأساسية على الحكم، لأنها تحدد وبشكل سلمي من هم الذين سيحكمون الدولة، وتعطي مشروعية للقرارات التي سيتخذونها. ولتحقيق ذلك يتعيَّن تنظيم الانتخابات بصفة دورية يشارك فيها المواطنون كافة لاختيار الأفراد المسؤولين عن صناعة القرار السياسي في الدولة.
  4. العقلانية في اتخاذ القرارات: وتعني امتلاك صانع القرار المعلومات الكاملة والأكيدة عن البدائل المختلفة ونتائجها، ووضوح الأهداف التي ينشدها وعدم تعارضها، والعقلانية تقتضي من صانع القرار تبني نهج عقلاني وبحث قائم على استراتيجية تعتمد على المعلومة الموثقة والمؤكدة والتحليل السليم، بعيدًا عن التصرف بردود الفعل المتهورة وغير المحسوبة، وذلك تطبيقًا للحقيقة القائلة: إن القرار الخاطئ له تكلفة باهظة، وهذا يعني أن الحكم الرشيد يفترض وجود أشخاص في الحكم يتمتعون بالرشد والوعي والإدراك لنتائج قراراتهم(28).
  5. استقلالية القضاء: أي استقلالية السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية والتشريعية، مع تحقق تبعية هاتين الأخيرتين لسلطة القضاء، واستقلالية القضاء تنعكس في محاربة الفساد فـي جميع أجهزة الدولة وقطاعاتها.
  6. حرية الإعلام: وتتعلق بمدى توفير ضمانات كافية لحرية التعبير والصحافة.
  7. كفاءة الإدارة: وتخص تحسين نوعية الخدمة، والتحكُّم في الفساد، والحياد، والتحكُّم في التهرب الجبائي، والحـد من تأثير وانتشار السوق الموازية، مع توفير سبل التحكُّم في الاستهلاك ومعدل التنمية، وحسن استغلال رأس المال البشري، والاعتماد على المنافسة وفرض الشفافية(29).
  8. الكفاءة والفاعلية: وتعني تحقيق نتائج تلبي احتياجات المجتمع بشرط الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة لهم، ومفهوم الكفاءة في سياق الحكم الرشيد يعني أيضًا: “الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية وحماية البيئة”. فالفاعلية الاقتصادية تتطلب ضمانات معقولة حول السلوك المستقبلي للمتغيرات الرئيسية، مثل: الأسعار، ومستويات العمال، فالحكومات بحاجة إلى الاستجابة بمرونة للظروف المتغيرة من خلال الترتيبات المؤسسية المناسبة(30).
  9. عدم المركزية: وتشير إلى عملية توزيع السلطة المركزية وعملياتها إلى هيئات وسلطات محلية، فتحسين إدارة الحكم يكون من خلال زيادة درجة الاستجابة والمشاركة والفاعلية، وخلق فرص أكثر أمام مشاركة الجمهور ومساهمتهم، عبر وضع المؤسسات الحكومية مباشرة في متناول المواطنين، وجعل المسؤولين الحكوميين أكثر استجابة تجاه الأوضاع المحلية(31).

كما حددت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مقومات الحكم الرشيد في أربع ركـائز تتعلـق بتوفير سبل إرساء دولة القانون، وتحسين تسيير إدارة القطاع العام، والمحاربة والسيطرة علـى الفساد، وتخفيض النفقات العسكرية للسماح بتوجيه الأموال لصالح التنمية(32).

وتشكِّل هذه المرتكزات الرئيسية للحكم الرشيد استراتيجية متكاملة لنجاح النظام السياسي في عملية الانتقال الديمقراطي

وبناء التغيير وفق آليات ديمقراطية سلمية تجسد بكفاءة إرادة الشعب وتعكس تطلعاته.

وتمثٍّل الانتخابات أهم وسائل تجسيد السيادة الشعبية وإضفاء شرعية النظام السياسي. وفي هذا السياق يثور الجدل دومًا حول تغوُّل وتغلُّب صلاحيات السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية المنتخبة شعبيًّا سواء على المستوى الوطني أو المحلي، أي رجحان صلاحيات الإدارة على المنتخبين مما يضع السيادة الشعبية على المحك، ومساءلة المنتخَبِين قد تبدو حينئذ غير مجدية لتحججهم بغلبة السلطة التنفيذية، وضيق خياراتهم مما يحدُّ من قدرتهم على تنفيذ وعودهم الانتخابية التي تصطدم بالبيروقراطية الإدارية المتحكمة.

وفي سياق ذي صلة، تشكِّل مسألة استقلالية القضاء العمود الفقري لرشادة النظام السياسي وحصانته من الانحراف والفساد، فالسلطة القضائية تحظى بمكانة خاصة في الأنظمة السياسية ودورها هو تقني بحت، لا يخضع لأي تجاذبات سياسية أو حسابات حزبية أو سلطوية، فلابد أن تتمتع بكافة الصلاحيات السيادية التي تمكِّنها من ممارسة دورها بحيادية واستقلالية، لأنها تمثِّل لسان الميزان الضابط لصلاحيات السلطتين: التشريعية والتنفيذية ولموازين القوة داخل الدولة، وهي المرجع الذي يُحتكم إليه عند الصراع، والحافظ لسلامة العمليات السياسية والقانونية ودستوريتها. فتوزيع السلطات بشكل عادل ومتوازن بين كافة المؤسسات كفيل بضمان الجودة السياسية واستمرارية النظام السياسي وتطوره بشكل مطرد مع الزمن، وتحقيق التنافس السياسي على أساس البرامج لا المصالح والولاء.

كما تعتبر الحرية الإعلامية مؤشرًا على انفتاح النظام السياسي على النقد والتقييم والتقويم، فالإعلام باعتباره يمثِّل رمزيًّا “السلطة الرابعة” وإحدى وسائل الضبط الاجتماعي، فهو يملك قدرة تأثيرية في صناعة الرأي العام وبناء التوجهات العامة للمجتمع، ولهذا تسعى النظم السياسية في الأنظمة الشمولية إلى بناء شبكة علاقات وظيفية مع رجال الإعلام لتسويق السياسات الرسمية، وضمان ولاء المؤسسات الإعلامية وتأثيرها في المجتمع، وكذا تسويق صورة النظام على المستوى المحلي والعالمي، وتشويه صورة المخالفين، وهذا مسلك غالبية الأنظمة الشمولية التي تستخدم الإعلام كأداة للدعاية والتسويق السياسي والتغطية على فشلها.

ولا يمكن الحديث عن مرتكزات الحكم الرشيد دون الإشارة إلى أخطر وأهم مسألة في النظام السياسي وهي مسألة “السلطة السياسية”، التي يضمنها الدستور ويجسدها رئيس الدولة ويمارسها عن طريق مؤسسات قانونية وشرعية منتخبة على أساس التوازن بين كافة السلطات الثلاثة، وفي هذا السياق يؤكد مونتسكيو (Montesquieu)، في كتابه “روح القوانين”، أن تَجَمُّعَ السلطات الثلاثة في يد شخص واحد يؤدي إلى الاستبداد، “فعندما تتحد السلطتان التشريعية والتنفيذية في نفس الشخص، أو في نفس هيئة القضاة، فلا يمكن أن تكون هناك حرية؛ لأنه قد تنشأ مخاوف من أن يسنَّ الملك، أو مجلس الشيوخ نفسه، قوانين استبدادية، لتنفيذها بطريقة استبدادية…فلا حرية إذا لم يحدث فصل السلطة القضائية عن السلطتين، التشريعية والتنفيذية”(33).

وهذا النمط الحُكمِي يعتبر من أخص علل فساد النظم السياسية في بعض الدول العربية وجنوحها نحو التسلط والجمود وعدم الفاعلية، كما أن ذلك يدفع نحو الانفراد بالقرار، ونشوء فكرة “القائد المسيطر”، و”الغرور السلطوي”، الذي يدفع بصاحب السلطة إلى تعديل الدستور، أو الانقلاب عليه وعلى مسار الانتقال الديمقراطي (كما حدث في بعض دول الربيع العربي)، لتأبيد حكمه وتعطيل مبدأ التداول على السلطة، الذي هو سبب حيوية النظام وتجدده، لأن التداول الفعلي على السلطة عن طريق آليات انتخابية صادقة ومعبرة عن الإرادة الشعبية، يضمن المحاسبة السياسية للمسؤولين الفاشلين، ويُطْلِعُ المجتمع على أفكار وسياسات جديدة، ويسهم في تقييم سابقاتها ومدى نجاعتها، ولهذا قيل: “السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة”.

 

  1. مظاهر الحكم الرشيد

تمثِّل مظاهر الحكم الرشيد الغايات والأهداف المبتغاة من خلال تطبيق كافة قواعده ومعاييره؛ إذ تشير إلى الوضعية التي يجب أن يكون عليها النظام السياسي، والفاعلية التي تميز أداءه ومؤسساته الشرعية، وتتجلى هذه المظاهر في:

  1. الاستقرار السياسي: وينعكس في قدرة النظام على تعبئة الموارد الكافية لاستيعاب الصراعات داخل المجتمع بدرجة تَحُولُ دون وقوع العنف فيه، بمعنى حفظ النظام من اهتزاز شرعيته وتدني فعاليته… فالأهمية البالغة للاستقرار السياسي ودوره في تحقيق البيئة المواتية لممارسة الحكم الرشيد، جعل البنك العالمي يتخذه مؤشرًا لقياس درجة الحكم الرشيد في ممارسات الدول.
  2. فاعلية الحكومة: من خلال نوعية وجودة الخدمات والوظائف التي تؤديها، ويرى آرثر لويس (Arthur Lewis) أن فاعلية الحكومة ترتبط بقيامها بالوظائف الحيوية التالية:

– المحافظة على الخدمات العامة (القانون والنظام والخدمات الاجتماعية الأساسية وحماية المواطنين والدفاع).

– التأثير في المواقف (في العمل، وحجم الأسرة، والمساواة بين الجنسين، والتقنيات الحديثة، والثقافة).

– تشكيل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية (خلق الأطر التشريعية والإدارية، توفير الحوافز للقطاع الخاص، فتح روح المبادرة للاستثمار والتنافس، تنسيق الأدوار التقليدية والعرفية للمؤسسات مع الأدوار المعاصرة).

– التأثير على استخدام الموارد (الأماكن الصناعية، والزراعة، والمعايير البيئية، وتبادل السلع والخدمات).

– المكافأة والتوزيع العادل للدخل لضمان رفاه جميع أفراد المجتمع.

– السيطرة على كمية المال والتقلبات الاقتصادية (ممارسة الرقابة التقديرية لاستقرار الاقتصاد، والحد من آثار تقلبات التجارة العالمية على الاقتصاد الداخلي).

– ضمان كامل للعمالة والتأثير على مستوى الاستثمار (تكوين رأس المال، وإضافة موارد جديدة، وجعل الموارد القائمة أكثر قابلية للاستخدام)(34).

إن التحول الذي حدث من مفهوم الحكم إلى مفهوم الحكم الرشيد ينطوي على بعد معياري إضافي يتعلق بجودة الحكم. وبالتالي، فإن نظام الحكم الرشيد ينبع من تلبية متطلبات عملية معينة فيما يتعلق بصنع القرار وصياغة السياسة العامة(35).

وتتمحور مقاربة الحكم الرشيد حول مسألة “عَقْلَنَة السلطة” وإيجاد السبيل الأمثل لتوزيعها بصفة متوازنة بين القادة والمسؤولين السياسيين، بما يكفل تحقيق جودة الحكم والتسيير الجماعي المنسجم، والاستفادة من تجنيد كافة الطاقات البشرية والموارد المادية والطبيعية في الدولة، وهذا هو الرهان الأكبر لمنظومة الحكم الرشيد، لأن معضلة الأنظمة السياسية العربية هي في التعامل مع مشكلة “الاستئثار بالحكم”، وما يتبع ذلك من تجفيف منابع الحياة السياسية، وتعطيل مبدأ التداول والتمثيل الحقيقي للشعب، وشمولية الحكم المفضي إلى العجز الوظيفي للنظام.

  1. محاربة الفساد: يؤدي الفساد إلى تقويض الحكم الرشيد، وتشويه السياسات العامة للدولة، وتردي الخدمات الحكومية والبنى التحتية، وخفض الإنفاق على الخدمات الأساسية ومستواها، مثل: الصحة والتعليم، إنه يؤدي إلى سوء توزيع موارد الدولة البشرية والاقتصادية كما يشكِّل عائقًا أمام الاستثمار الأجنبي؛ الأمر الذي ينتج عنه تقويض الثقة الجماهيرية في مؤسسات الدولة(36).

وزيادة على ما سبق، يضيف الباحث مظهرين آخرين من مظاهر الحكم الرشيد، وهما:

  1. ارتفاع الدخل الفردي ومستوى الرفاه وتراجع الفقر: فنتيجة للاستغلال الرشيد للموارد وكفاءة الاستخدام، وجودة السياسات التنموية، سيتحقق النمو الاقتصادي ويرتفع مستوى دخل الأفراد ويرتفع معه مستوى جودة الحياة، وهذا ما يتجلى في تطور معايير الصحة والسلامة وقلَّة نسب الوفيات بسبب الأوبئة والفقر والأمراض والتلوث البيئي، وهذا مؤشر على صحة وجودة آليات الحكم الرشيد.
  2. جودة التعليم وتراجع نسب الأمية: إن من أهم غايات ونتائج تحقيق الحكم الرشيد تطوير المستوى التعليمي في كل المستويات، وتراجع نسب الأمية ومظاهر التخلف، ومن مؤشرات ذلك زيادة الإنفاق على ميزانيات التعليم، وتشجيع مراكز البحث العلمي ومساهمتها في البناء الاقتصادي. فالمعرفة تمثِّل أساس القوة والثروة الحديثة، وهي عنوان كفاءة وفاعلية وجودة نظم الحكم المعاصرة القائمة على شرعية الكفاءات والمؤسسات.

 

  1. الحكم الرشيد بين الأدبيات المثالية والتطبيقات المشوهة

إن مقاربة الحكم الرشيد تمثِّل منظومة فكرية وقانونية وسياسية متكاملة تُسهِم في صقل الفكر السياسي، وترشيد ممارسة الحكم وإدارة المجتمعات الحديثة، إلا أن ثمة إشكاليات على مستوى التطبيق تتعلق بنمذجة الأنظمة السياسية المتباينة وتنميطها وفق نموذج معياري موحد (الحكم الرشيد)، والذي نشأ وصُقل من طرف الدول الغربية وفي سياقات تاريخية وثقافية وسياسية خاصة، ليُجعل أساسًا لتصنيف الأنظمة والحكم على مدى مطابقتها لمعايير الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، في الوقت الذي لا تزال فيه الكثير من الأنظمة الغربية تعاني من أزمة التطبيقات المشوهة والانتقائية في تنزيلاتها لمعايير الحكم الرشيد وتوصيفاته، وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدى إمكانية تجسيد مبادئ الحكم الرشيد، وعن مقومات البيئة الوظيفية الملائمة لتطبيقه في الأنظمة العربية لإصلاحها من عاهة الاستبداد والجمود.

إن الانتقادات التي وُجِّهت لمقاربة الحكم الرشيد تستمد وجاهتها من الممارسات الصادرة عن الدول التي تأسست ضمن مدارسها وحواضنها الفكرية مفاهيمُ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد وحرية التعبير، فرغم أن الأنظمة الغربية حققت مكتسبات معتبرة في التنمية الشاملة والحوكمة الاقتصادية والإصلاح السياسي، إلا أنها تعاني “أزمة أخلاقية مزمنة”؛ إذ إن منظومة القيم الحداثية النيوليبرالية واللائكية والرأسمالية، التي نشأت في سياقات تنازعتها خصوصيات تاريخية وثقافية وسياسية واجتماعية وقُدِّمَت طوال القرنين 19 و20 على أنها البديل الفكري العبقري الأمثل الذي يمكنه تفسير وتسيير الواقع الإنساني في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة والدين والأخلاق، أضحت بحاجة ماسَّة إلى مراجعة عميقة تطول أصولها الفكرية وتُخضِعُها للتقييم والنقد العلمي المتجرد، لنتساءل بعدها عن مدى نجاحها في صناعة “الإنسان النموذج” و”النظام المثالي” الذي بشَّرت به، وعلى حماية المجتمع الإنساني من المخاطر الكونية والنزاعات الإثنية وعذابات الضمير وجنايات الأنا الطاغية، فضلًا عمَّا تسبَّبت فيه هذه النماذج الفكرية في شقها السياسي والاقتصادي والأخلاقي من تبعات خطيرة على مستوى المنتظم العالمي، تجلى ذلك في المخاطر البيئية الناجمة عن الشراهة المفرطة للمؤسسات الاقتصادية الرأسمالية الكبرى، وما تبع ذلك من استنزاف بيئي وتغير مناخي وكثرة الحروب والتصارع على موارد الطاقة من طرف القوى العظمى “الديمقراطية” مما أضحى يهدد أمن الكون والإنسان معًا دون أن ننسى فشلها في الحفاظ على السلم والأمن العالميين وتعميق التعاون الدولي ليشمل المجتمعات الهشَّة وما سُمي بالعالم الثالث، إضافة إلى تعاظم مظاهر الظلم والأثرة وانعدام التوازن الاقتصادي بين دول الشمال والجنوب، والذي تجلى في استنزاف القوى الكبرى لمقدرات الشعوب المستضعفة، وارتهانها لمصالحها وخدمة سياساتها واقتصاداتها.

لقد وضعت الأزمات المتعاقبة المجتمعات التي وُصفت بالديمقراطية والليبرالية أمام “معضلة أخلاقية تاريخية” فأظهرت هشاشة منظومتها القيمية ومرتكزاتها الفكرية المثالية، التي تتحطم باستمرار على صخرة المأساة الإنسانية، كلما مرَّت باختبار حقيقي يكشف مدى مصداقية هذه القيم، كما شاهدنا ذلك في محطات عدة مع قضايا اللاجئين في ميانمار، وحصار غزة، وضحايا الحروب في ليبيا واليمن والعراق وأفغانستان وإفريقيا، واضطهاد الأقلية المسلمة في الهند، وطرق إدارة الحروب خاصة الحرب على الإرهاب عبر العالم، لاسيما العالم الإسلامي وإفريقيا، ناهيك عن ممارسات إسرائيل بحق الأسرى والمهَجَّرين، وتدمير منازل الفلسطينيين، وسياسة قضم الأرض المنتهجة ضدهم، والسكوت عن معاناة إقليم الروهينغا والإيغور، علمًا بأن الأنظمة التي تمارس كل هذا الاضطهاد أو تسكت عنه أو تزكي فاعليه، يُضرَب بها المثل في “ديمقراطياتها ” و”رشادة حكمها” و”نموذجها الاقتصادي الناجح”، القائم على معاناة الشعوب واستنزاف ثرواتهم.

أما على مستوى القيم الحقوقية التي لطالما اتخذها الغرب سجلًا تجاريًّا لابتزاز الأنظمة والتدخل في السياسات الداخلية للدول، متغافلًا عن مظاهر ابتذال المرأة وسَلْعَنَتِهَا في مجتمعاته، وعن قضايا التحرش الجنسي عند رجال الكنيسة، واستغلال القصَّر والنساء في الصناعة الإباحية، ومساندة الأنظمة العربية المستبدة في انقلاباتها والتغاضي عن بطشها بسجناء الرأي والإعلاميين، والقتل خارج إطار القانون مقابل الاحتفاظ بمصالحهم، وغيرها من القضايا والشواهد الكثيرة المسكوت عنها، والتي أثبتت نسبية قيم الإنسانية والعدالة والأخوة والمساواة وأدبيات الحكم الرشيد عند أصحاب هذه الأطروحات؛ إذ إن تطبيقاتها لا تتعدى أضيق دوائرها التي لا تَسَعُ سوى الإنسان الغربي.

إن القراءات التفسيرية التي قدَّمها زعماء الليبرالية والنيوليبرالية من أمثال فوكوياما وهنتنغتون حول النموذج المثالي للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات، ومآل العالم وسيناريوهات ما بعد الدمار الكبير، تهاوت تحت ضربات التجارب الإنسانية والوقائع التاريخية، والسياسات الاحتكارية التي تنتهجها الأقطاب الدولية عبر مؤسساتها الاقتصادية والثقافية والقضائية والعسكرية، التي تحتكر مصادر القرار بها تلك الدول الديمقراطية والعلمانية والليبرالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي للإنشاء والتعمير والمحكمة الدولية بلاهاي وحلف الناتو وغيرها من المؤسسات الدولية والإقليمية التابعة لها بصفة رسمية وغير رسمية، والتي لم تزد العالم سوى ارتهان في يد القوى العظمى، واحتكار وتحكم في موارد وسياسات الدول المستعمَرة والمستضعفة.

وبناء عليه، نؤكد أن هناك حاجة ماسَّة لإعادة مراجعة الأدبيات الليبرالية، وأطروحات ما بعد الحداثة وغيرها من المقاربات الفكرية والسياسية التي قُدِّمت كرؤى تفسيرية لحل مشكلات الإنسان وهندسة حاضره واستشراف مستقبله، ومن ذلك أيضًا مقاربة الحكم الرشيد التي لا تزال تعاني أزمة على مستوى التطبيق والممارسة، بسبب غلبة الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة والمنطق الاستعماري والاستعلائي في بناء العلاقات الدولية على أساس التبعية بين المركز والهامش، وتبني سياسة الأقطاب والمحاور التي أسس لها النظام الدولي الحالي، وما نجم عن ذلك من احتكار صناعة القرار الدولي وارتهان مصائر الشعوب وقرار الحرب والسلم في ثلة من القوى الكبرى.

 

  1. الأنظمة السياسية العربية ومستويات الانتقال الحضاري: منظور إصلاحي

إن التغيير في حياة الشعوب والحضارات هو سُنَّة دائبة عبر مسارات الحياة ومحطاتها المختلفة، وكما يسري التجديد على كافة المجالات، فهو ينطبق تمامًا على الأنظمة السياسية للدول، فهي تتجدد طرديًّا مع متغيرات الواقع وتحدياته وإكراهاته، وهذه المقدمة تجعلنا نؤكد أن تطوير الأنظمة السياسية هو حتمية موضوعية للاندماج والتكيف مع الحاضر، والتفاعل مع متغيرات المستقبل وآفاقه.

ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن معطيات القرن الحادي والعشرين تختلف بصفة جذرية عن معطيات وسياقات القرن العشرين من حيث نوعية الأيديولوجيات السائدة، والتوجهات الجديدة للمجتمعات وطبيعتها الثقافية التي سبَّبها الانفتاح والانكشاف الإعلامي وثورة الاتصالات، والموازين الجديدة للقوى وانحسار الكيانات التقليدية، وتوسع مفهوم الأمن نتيجة توسع وتغير طبيعة التهديدات، وقوة تأثير الفاعلين -العابرين للدول- على الأنظمة السياسية، وتراجع المنظور الواقعي التقليدي لدور الدولة المركزية كفاعل رئيس ووحيد في رسم السياسات العامة…إلخ، ومع كل هذه التغيرات الثورية والجذرية لا يزال الكثير من الأنظمة السياسية العربية مرتهنًا للنموذج الكلاسيكي في الحكم، الذي يفتقد للفاعلية اللازمة ولا يملك القدرة على إنتاج الأفكار الجيدة وتحقيق الجودة والفاعلية السياسية.

ونحن نقتحم اليوم عصر التكنولوجيات الذكية والطفرة المعرفية ومجتمعات المعرفة، والسرعة الاتصالية، والذكاء الصناعي وتقنيات النانو، والاقتصاد الرقمي، والإنسان الآلي، والبرامج والتطبيقات الذكية، والخدمات والتجارة والإدارة الإلكترونية، نحتاج عقولًا جديدة للتنمية والبناء، وأفكارًا غير تقليدية للتطوير والارتقاء، ونمطًا حديثًا للتسيير والحكم يستطيع أن يتفاعل إيجابيًّا مع متغيرات العصر وآفاقه، وهو نمط ذكي ومرن وفعال ومتَّقد ومبدع وحيوي، تمامًا كمثل خصائص هذا الجيل، جيل المعرفة والتكنولوجيا.

إن ما يجب استلهامه من تجارب الحراك في بعض الدول العربية هو جملة خلاصات محورية، ستؤسس لفاعلية مجتمعية، وحركية سياسية، وثقافة المحاسبة، في المنظور المستقبلي للمجتمعات العربية، فهذه التغييرات المأمولة كفيلة بإعادة هندسة رؤية جديدة تعيد تعريف علاقة الرئيس بالمرؤوس والمواطن بوطنه؛ حيث تُبنى على أساس الفعل المحاسبي والحس الموَاطَني والوعي المدني؛ إذ يجب أن تغيب فيها كل مظاهر الاعتلال السياسي والاجتماعي، مثل: الزبونية السياسية والتملق والنفاق السياسي وتضخيم الزعماء، والمنطق العشائري وغياب الوعي القانوني والمسؤولية الاجتماعية.

إن هذا التحول المنشود يستدعي تغييرًا عميقًا في الأنفس والممارسات، وأولى خطوات ذلك تتطلب معرفة عميقة بمكامن العطب والاستعداد للخلاص منها، لتكون نتيجة ذلك انتقال حضاري يُتوَّجُ بميلاد مجتمع وظيفي، لا تحكمه النمطية الكلاسيكية والعقل التقليدي، بل مجتمع متسم بالفاعلية والحركية والعقل التطبيقي الإبداعي، بأبعاد وملامح جديدة في الحكم والسياسة والفكر والاقتصاد والاجتماع والتعليم ونظم التفكير والممارسات السلوكية والأخلاقية، نموذج يقوم على الرشد والحكامة وجودة الإدارة. ويمكن أن نحدد أهم مؤشرات هذا الانتقال الحضاري المنشود من خلال المستويات التالية:

  1. مستوى التنمية البشرية: إن أولى خطوات تحقيق الانتقال الديمقراطي وتأسيس منظومة الحكم الرشيد هي بناء الإنسان وتشييد المعمار الفكري والأخلاقي والقيمي لهذا المورد الجوهري في صناعة الحضارات وتحقيق الانتقالات المصيرية في تاريخ الشعوب؛ إذ لا مناص من تركيز كافة الجهود نحو التربية والتعليم والتنشئة المعرفية والتربوية والسياسية والحضارية للشخصية المقتدرة والمؤهلة للاضطلاع بمهمة البناء والتغيير الإيجابي، وفي ظل الأنظمة الاستبدادية والشمولية المعادية للعلم والكفاءة، تقع المسؤولية على كل فرد من أفراد المجتمع في الإسهام بقدر المستطاع في بناء الوعي وإرساء معالم النضج والرشد السياسي.
  2. المستوى السياسي: يتطلب إصلاح النظم السياسية العربية والانتقال نحو جودة الحكم العملَ على بناء منظومة حكم مرتكزة على شرعية المعرفة والكفاءة، وذلك من خلال الانتقال من النظام التسلطي إلى النظام الديمقراطي التشاركي، ومن منطق احتكار السلطة إلى التداول على السلطة، ومن الانتهازية الحزبية إلى التنافسية الحزبية والسياسية، ومن معارضة الواجهة إلى معارضة المساءلة والاقتراح (حكومة ظل موازية)، ومن وضعية الراعي والرعية إلى وضعية المواطن والمسؤول، ومن دولة الأفراد إلى دولة القانون والمؤسسات. فبناء نموذجٍ فعالٍ للحكم الرشيد يقوم على مدى توافر الوعي السياسي والمجتمعي، وتجذر ثقافة المحاسبة والمراقبة، والتحسين المستمر وقيم الجودة والتنافسية السياسية، والحرية الفكرية والإعلامية وترشيد السلطة وعقلنتها، بالانتقال من التمركز حول الشخص إلى استقلالية الأداء المؤسساتي. فهذه المقومات تمثِّل دعامة بنائية ومنطلقات تأسيسية لدولة القانون والكفاءة والتنمية، فالحكم الرشيد كفلسفة للتفكير، وآلية للحكم والتسيير لا يمكن أن يؤتي ثماره إلا في ظل بيئة ثقافية وحقوقية وسياسية تحترم الإنسان ومبادئ القانون وتحتكم لسلطان العلم والمعرفة.
  3. المستوى المجتمعي: وفي هذا المستوى يجب التأسيس لمشروع مجتمع عملي وظيفي نابض بالفاعلية والتغيير البنَّاء، وذلك بالعمل على الانتقال من منطق الولاء والإذعان إلى منطق المساءلة والحسبة، ومن ثقافة انتظار المخَلِّصِ والشخصية المحورية إلى ثقافة العمل الجماعي والاجتهاد والاعتماد على الذات، ومن المنطق القبلي العشائري إلى ثقافة المواطنة الصالحة والفاعلة، ومن منطق التكديس البشري إلى منطق الجماعة الوظيفية والفاعلية المجتمعية اعتمادًا على العمل الممنهج في الأداء والرؤية والهدف.
  4. المستوى الاقتصادي والإداري: وهنا لابد من إرساء أعراف ونظم جديدة للتنمية الاقتصادية والإدارية، والارتقاء بمستوى الخدمات وتطوير الأداء الإداري، والتحول الطاقوي وتنويع الموارد الاقتصادية وذلك بالعمل على الانتقال من الاقتصاد الريعي والاستهلاكي إلى اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، والاستثمار في الطاقات المتجددة والذكاء الاصطناعي، والانتقال من الاستثمار في الموارد المادية والمالية إلى الاستثمار في رأس المال البشري والمعرفي، ومن ثقافة الاستيراد ومنطق التكديس (الكم) إلى ثقافة الإنتاج والجودة والتصدير، والانتقال من الإدارة البيروقراطية الجامدة إلى إدارة الجودة الشاملة والإدارة بالأهداف، ومن المنطق الكمي إلى المنطق الكيفي، ومن الإدارة الورقية إلى الإدارة الإلكترونية.
  5. المستوى الفكري والثقافي: لابد من العمل على بناء الوعي الفردي والجماعي وفق أسس منهجية لتنمية الطاقات البشرية، والتخلص من الرواسب الفكرية والاجتماعية البالية المعطِّلة للإرادة والفكر والموروثة من حقب الاحتلال والتخلف، وذلك بالعمل على الانتقال من التفكير في الحاجات البيولوجية إلى الحاجات الثقافية والفكرية، ومن التفكير الشعبوي إلى التفكير العلمي والعقلاني الممنهج، ومن ثقافة المحسوبية والزبونية إلى ثقافة الكفاءة والجدارة والاستحقاق، ومن منطق التشخيص والتقديس إلى منطق الفكرة والمعرفة والنقد العلمي، ومن ثقافة التقليد والمحاكاة إلى ثقافة الإبداع وتنمية المواهب، ومن ترف الثقافة إلى ثقافة المطالعة والإبداع العلمي.
  6. المستوى التعليمي: ضرورة العمل على بناء منظومة تعليمية رائدة ومتطورة، واعتبار التعليم محور عملية النهضة وعماد تطوير كافة القطاعات، وهذا يتطلب إجراء مراجعة شاملة وعميقة للمنظومة التعليمية بكل مراحلها لجعلها تتماشى مع تطلعات المستقبل، وإبعادها عن التجاذبات الأيديولوجية، وعدم اعتبار التعليم قطاعًا لامتصاص البطالة، بل هو مستودع لصناعة الإنسان ومواطن الغد، ولهذا يجب العمل على الانتقال من المقاربات الكلاسيكية في التعليم إلى المقاربات الحديثة في الوسائل التعليمية والمناهج وأنماط التدريس (البيداغوجيا)، ومن التعليم التلقيني الاسترجاعي إلى التعليم النقدي البنائي، ومن التركيز على الحفظ إلى استثارة العمليات الفكرية المختلفة كالفهم والتحليل والتركيب والاستنباط والاستنتاج، ومن الإغراق في التنظير إلى التركيز على الجانب التطبيقي والمخبري المعتمد على التجربة والممارسة، ومن غرس ثقافة التسليم والإذعان في المتعلم إلى خلق الدافعية للسؤال والاستشكال والمناقشة والحوار، ومن أسلوب إرساء المعلومات إلى استثمار وتوظيف المعلومات، ومن التعليم أحادي الجانب إلى التعليم التشاركي المتعدد، ومن التعليم المغلق (داخل القاعات) إلى التعليم المفتوح على البيئة والمجتمع.
  7. مستوي القيم الحضارية: وهنا يجب العمل على إرساء منظومة معرفية وسلوكية تستهدف تغيير النمطيات المجتمعية الحاضنة للفساد والمغذية لاستمرارية مظاهر الرداءة والرتابة في المسلك الاجتماعي والثقافي، وذلك بالعمل على الانتقال من ثقافة التعميم والتعويم بين المصلح والمفسد إلى ثقافة المفاضلة والثواب والعقاب والتحفيز على أساس التميز، ومن ثقافة المطالبة بالحقوق إلى المبادرة بالواجبات، ومن ثقافة النقد بالقول إلى النقد بالفعل (المبادرة والمبادأة)، ومن ثقافة الحضور للعمل إلى ثقافة إتقان العمل، ومن منطق الرعية إلى منطق المواطن، ومن التفكير الفردي الأناني إلى التفكير الجماعي وللصالح العام.

إن عملية التغيير والبناء لابد أن ترتكز على الفلسفات الكبرى لتأسيس منظومة حكمية ومجتمعية رائدة، وأهم هذه الفلسفات:

– تقدير أهل العلم حق قدرهم ورد الاعتبار لهم رسميًّا ومجتمعيًّا.

– الاستثمار في الموارد البشرية والمعرفية باعتبارها الثروة الاستراتيجية للمجتمعات الإنسانية.

– تطوير المنظومة التعليمية وإصلاح المدرسة والجامعة باعتبارهما مستودع بناء المواطن الواعي والصالح.

– إرساء قيم العدالة وسيادة القانون بآليات تمكينية عملية.

– تثمين الطاقات الإبداعية والتفكير الإيجابي الخلاق.

– تفعيل مبدأ المساءلة والمحاسبة والمشاركة وتمكين الكفاءات، لتحقيق فاعلية وجودة المؤسسات الدستورية والسياسية.

 

خاتمة

لقد فرضت حيوية المجتمعات الحديثة، وانفتاحها الإعلامي والتواصلي في إطار البيئة المعولمة، على النظم السياسية الحديثة شروطًا أساسية لاستمرارية فعاليتها وارتقائها إلى مطامح الشعوب المعاصرة وتحديات المستقبل، في ظل تغير نمطية المجتمعات وأذواقها وسلوكياتها وتنامي مستوى الوعي بسرعة كبيرة؛ الأمر الذي يتطلب تغييرًا في الذهنيات القيادية والأطر التقليدية المتقادمة التي أصبحت تشكِّل عقبة كَأْدَاءَ في طريق التنمية والتطوير والبناء، وتحدُّ من قدرة النظام السياسي، خاصة في الدول العربية، على الاستجابة لتطلعات الجماهير التواقة إلى الحرية وحقوق الإنسان وارتقاء المستوى المعيشي، وتحديث أساليب الحياة العصرية في الإدارة والاقتصاد والخدمات وإدارة المجتمع.

وتتطلب الاستفادة من مقاربة الحكم الرشيد في إصلاح النظم السياسية بالدول العربية وضع بناء منهجي لعملية الانتقال الديمقراطي، وضمان شفافية النظام الانتخابي، واستقلالية العدالة والقضاء، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية، واستقلال المجتمع المدني، وفاعلية الأحزاب السياسية كقوة اقتراح ومراقبة، وتفعيل حرية الصحافة والإعلام في كشف الحقائق، ونقد المسؤولين وسياساتهم، ويستوجب ذلك توافر القناعة الراسخة والعمل الجاد على تأسيس مناخ سياسي وقانوني وثقافي وأخلاقي واجتماعي مناسب لإحلال مبادئ الحكم الرشيد وتحديث النظم السياسية العربية.

وفي هذا الإطار يقترح الباحث جملة من التوصيات، أهمها:

– ضرورة الاستثمار في المورد البشري بالدول العربية وإيلائه عظيم العناية والاهتمام من خلال مختلف البرامج والسياسات التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والوظيفية، واعتبار الإنسان محور عملية النهضة والانتقال الحضاري، فنجاعة كافة الاستراتيجيات التنموية ترتكز على كفاءة المورد البشري على مستوى المعارف والمهارات والسلوكات.

– ضرورة تبني معايير علمية وموضوعية في تولي المناصب السيادية وجعل المعرفة والكفاءة معيارًا للمفاضلة في تسيير الشأن العام، بعيدًا عن أضرب الممارسة الشعبوية والحزبية والمحاصصة، فالدول الحديثة تستند إلى مراكز البحث والتفكير الاستراتيجي والعقول الخلاقة والأفكار غير التقليدية وثقافة التحسين المستمر، وهذه قيم ومعايير الجودة والتنافسية.

– التأسيس لثقافة المواطنة الفاعلة والإيجابية، والتي تعتبر من أخص ركائز الحكم الرشيد والتنمية بمختلف أبعادها؛ حيث يكون الفرد فيها محور نجاح كافة المشاريع التنموية والإصلاحية، بممارساته المسؤولة القائمة على الحس الوطني والوعي الحضاري.

– ضرورة العمل على تحقيق التوازن بين السلطة التنفيذية والتشريعية، أي وضع حدود واضحة للسلطات الثلاثة ومنع تغول السلطة التنفيذية على التشريعية والقضائية، لأن هذا من أكبر عوامل جمود النظام السياسي في الدول العربية.

– الفصل التام للسلطة القضائية وسيادتها على باقي السلطات والمؤسسات والأشخاص، لأنها تمثِّل الحصانة من أي انحراف للنظام السياسي أو للأشخاص، وهي صمام أمان لاستمرارية الدولة. وتتحقق استقلالية وسيادة السلطة القضائية من خلال إبعاد أية شبهة للتداخل بين السلطة التنفيذية والقضائية فيما يتعلق بصلاحيات التعيين، وذلك باتخاذ إجراءات مهمة، منها: تجريد الرئيس من صفة القاضي الأعلى للبلاد، واعتماد آلية الانتخاب للقضاة ووكلاء الجمهورية والنواب العامِّين وكل المناصب السيادية في السلطة القضائية، أو تعيينهم من قضاة المحاكم العليا المنتخبين من نظرائهم، وأن ينحصر دور وزير العدل في الصلاحيات التنسيقية واللوجستية.

– ضرورة التأسيس لشرعية ونزاهة العملية الانتخابية باعتبارها الآلية الأساسية للتداول السلمي على السلطة من خلال تطوير أدواتها ومؤسساتها ومرجعياتها القانونية، وهذا يستوجب تطوير النظام الانتخابي ووضع آلية انتخابية فعَّالة ودقيقة تعكس بصدق توجهات الناخبين وإرادتهم، وذلك باستخدام التكنولوجيات والبرمجيات الرقمية الحديثة، لأن شرعية الأنظمة السياسية تتم عبر نزاهة العملية الانتخابية بكافة مراحلها، وضمانها لمبدأ التمثيل الحقيقي الذي سيفضي إلى التداول على السلطة دوريًّا.

– لابد من تفعيل المحاسبة والمراقبة الشعبية الدائمة على كل مؤسسات الدولة، والتحوُّل نحو ثقافة الجودة والكفاءة والنزاهة، واستعادة السيادة الشعبية عبر المشاركة الفعالة في المواعيد الانتخابية وتوكيل الشرفاء والعلماء والأكفاء ودعمهم للوصول إلى المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

– تطوير القطاع التعليمي حتى يصبح رافدًا للمجتمع والاقتصاد ومنتجًا للثروة الحقيقية للشعوب وهي “المورد البشري”، والاستثمار في رأس المال المعرفي والفكري ودوره في صناعة الفعل الحضاري والرشد السياسي وتطوير مستوى التفكير والأداء والذكاء المجتمعي، وذلك لإيجاد ممارسات مجتمعية حضارية.

– خلق البيئة القانونية والسياسية لإيجاد مجتمع مدني مستقل وفاعل ورافد للمشاريع التنموية للدولة من خلال طرح البدائل والأفكار الجيدة في مختلف القطاعات. فميزة المجتمعات المعاصرة هو إطلاق الإرادات والمبادرات المجتمعية لتنمية الإبداع الجماعي والمساهمة في المشاريع التنموية التي لا يمكن للدولة أن تستوعبها، فالمجتمع المدني القوي هو داعم حيوي وعنصر أساس في نجاح السياسة العامة.

 

المراجع

(1) علي الدين هلال ونيفين مسعد، النظم السياسية العربية وقضايا الاستمرار والتغيير، (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، (د. ت. ن))، ص 10.

(2) مها عبد اللطيف الحديثي ومحمد عدنان الخفاجي، النظام السياسي والسياسة العامة، (العراق، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية، 2006،) ص 3.

(3) حسان محمد شفيق العاني، الأنظمة السياسية الدستورية المقارنة، (بغداد، مطبعة جامعة بغداد، 1986)، ص 13.

(4) جابرييل ألموند وجي بنجهام باويل، السياسات المقارنة في وقتنا الحاضر: نظرة عالمية، ترجمة هشام عبد الله، (عمان، الدار الأهلية للنشر والتوزيع، 1997،) ص 17.

(5) محمد غربي، “الديمقراطية والحكم الراشد: رهانات المشاركة السياسية وتحقيق التنمية”، مجلة دفاتر السياسة والقانون (جامعة قاصدي مرباح، ورقلة، عدد خاص، أبريل/نيسان 2011)، ص 371.

(6) المرجع السابق.

 (7) Franziska Walter et al., Federal Ministry for European and International Affairs, Directorate-General for Development Cooperation, Austrian Development Agency, Good Governance )Vienna: 2011,( 5.

(8) ابرادشة فريد، الحكم الرشيد في الجزائر في ظل الحزب الواحد والتعددية الحزبية، (أطروحة دكتوراه، كلية العلوم السياسية والاقتصادية، جامعة الجزائر 3، يونيو/حزيران 2014)، ص 29-30.

 (9)Abdul Rahim, “Governance and Good Governance: A Conceptual Perspective,” Journal of Public Administration and Governance, Macrothink Institute, Vol. 9, no. 3, (2019): 136.

(10) لياس شوبار وجوادي عصام، “الحكم الراشد والنمو الاقتصادي في الدول العربية: دراسة قياسية باستعمال بيانات بانيل خلال الفترة 2000/2012″، مجلة إدارة الأعمال والدراسات الاقتصادية (جامعة زيان عاشور بالجلفة، العدد 3، 2016)، ص 7.

(11) أحمد فتحي الحلو، دور تطبيق مبادئ الحكم الرشيد في المنظمات غير الحكومية في قطاع غزة في تحقيق التنمية المستدامة، (رسالة ماجستير، كلية التجارة، الجامعة الإسلامية بغزة، فلسطين، 2012)، ص 33.

(12) شوبار وعصام، “الحكم الراشد والنمو الإقتصادي في الدول العربية”، مرجع سابق، ص 7.

 (13)Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights, Good governance practices for the protection of Human Rights (Geneva: United Nation, 2007(, 5.

(14) شوبار وعصام، “الحكم الراشد والنمو الإقتصادي في الدول العربية”، مرجع سابق، ص 7.

(15) محمد الأمين بوحلوفة وإبراهيم بن عمار، “قراءة في أسس الحكم الراشد في دولة الأمير عبد القادر”، مجلة الحقيقة، (جامعة أحمد درارية، أدرار، العدد 37)، ص 178.

(16) حليلو نبيل، “دور الأسرة في ترسيخ قيم المواطنة”، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، (جامعة محمد بوضياف المسيلة، العدد 11، يونيو/حزيران 2013)، ص 131.

(17) سيدي محمد ولديب، الدولة وإشكالية المواطنة: قراءة في مفهوم المواطنة العربية، ط 1 (عمان، دار كنوز المعرفة، 2011)، ص 49.

 (18) Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights, Good governance practices for the protection of Human Rights, 1.

 (19)Lysias Dodd Gilbert, Fidelis Allen, “Democracy and Good Governance: The Missing Link in Nigeria,” Mediterranean Journal of Social Sciences, Vol 5, no 16, (July 2014(: 526.

(20) وثيقة السياسات العامة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة، (نيويورك، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، يناير/كانون الثاني 1997)، ص 8.

(21) غربي، “الديمقراطية والحكم الراشد”، مرجع سابق، ص 373.

(22) عبد العزيز خيرة، الحكم الراشد بين الفكر الغربي والإسلامي: دراسة مقارنة، (أطروحة دكتوراه، جامعة الحاج لخضر باتنة، 2013/2014)، ص 35.

(23) المرجع السابق، ص 37.

(24) زاهر ناجي إسماعيل عطا الله، دور الرقابة البرلمانية في تعزيز الحكم الرشيد: دراسة تطبيقية على المجلس التشريعي الفلسطيني 2008/2013، (رسالة ماجستير، جامعة الأقصى، فلسطين، 2016)، ص 99.

(25) محمد أحمد علي المفتي، مفهوم المجتمع المدني والدولة المدنية، (السعودية، مطبعة مكتبة الملك فهد الوطنية، 2014) ص 13.

(26) امحند برقوق، مفاهيم في السياسة المقارنة الجديدة: محاضرات ضمن مقياس النظم السياسية المقارنة، (كلية العلوم السياسية والإعلام، جامعة الجزائر 3، 2008/2009)، ص 40.

(27) غربي، “الديمقراطية والحكم الراشد”، مرجع سابق، ص 373.

(28) إسماعيل عطا الله، دور الرقابة البرلمانية في تعزيز الحكم الرشيد، مرجع سابق، ص 101.

(29) غربي، “الديمقراطية والحكم الراشد”، مرجع سابق، ص 373.

(30) المرجع السابق، ص 373.

(31) خيرة، الحكم الراشد بين الفكر الغربي والإسلامي، مرجع سابق، ص 32.

(32) المرجع السابق، ص 43.

(33) “فصل السلطات في سنغافورة”، ويكيبيديا، (تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021): https://bit.ly/3nEyCd6.

(34) غربي، “الديمقراطية والحكم الراشد”، مرجع سابق، ص 373.

 (35)Friedl Weiss, Silke Steiner, “Transparency as an Element of Good Governance in the Practice of the EU and the WTO: Overview and Comparison,” Fordham International Law Journal, Vol. 30, Issue. 5, (2006): 1548.

(36) خيرة، الحكم الراشد بين الفكر الغربي والإسلامي، مرجع سابق، ص 28-29.