مقدمة

تصاعد الحديث عن نهاية عموم التيارات الإسلامية، لاسيما “الإسلام السياسي” منها -أو التيار الإسلامي الرئيسي كما قد يُسمَّى، أو يُشار إليه في الدراسة- وذلك لأسباب عدة، أهمها البيئة السياسية الإقليمية والدولية خاصة في العقد الأخير أو ما يزيد قليلًا، حيث يمكن تمييز توجهين رئيسين في حقبتين زمنيتين حَكَمَا الموقف من التيارات الإسلامية وتركا أثرهما على الإسلاميين أنفسهم، وكذلك على الوجهة التي اتخذتها الدراسات والأبحاث في تناول عموم التيار الإسلامي.

التوجه الأول في الحقبة الأولى، وكان في ظل إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، (2009 -2017)، وأصبح جزءًا مما سمي “الأوبامية”(1)، حيث كان الحديث عن صعود الإسلاميين وأنهم المستقبل في المنطقة ما يحتِّم محاورتهم هو التوجه السائد، الأمر الذي عكسه خطاب أوباما بالقاهرة، في 4 يونيو/حزيران 2009، وتعزز بعد أن انطلقت ثورات الربيع العربي عام 2011 ووصلت الذروة عام 2012، ليبدأ هذا التوجه بالتراجع نسبيًّا مع تراجع الربيع نفسه بالانقلاب على الرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، في 3 يوليو/تموز 2013(2). أما التوجه الثاني فبدأ مع ما سُمِّي “الثورة المضادة”، وجله في الحقبة الثانية التي بدأت مع إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وشهدت تصعيدًا ضد الإسلاميين وما زالت، وهو ما يعكسه أول خطاب لترامب بعد تنصيبه رئيسًا، في 20 يناير/كانون الثاني 2017(3)، وهي حقبة تشجع أي تحرك في المنطقة ضد الإسلاميين وكافة أطيافهم السياسية بما يصل إلى حد الاستئصال.

وبسبب هذا التحول الأخير والتوجه الثاني، يغلب الحديث عن المستقبل القاتم لتيارات “الإسلام السياسي”، وأنها تتراجع على الأقل أو أنها تتفسَّخ أو مُقْبِلة على التفسخ. وأصبح من الشائع تداول مرحلة ما بعد “الإسلام السياسي”(4) إيذانًا بمرحلة جديدة لن يكون الإسلاميون فيها إسلاميين كالسابق، أو على الأقل بمعايير إسلامية أقل من ذي قبل بكثير، وهو ما تشهد له الأزمات التي تتعرض لها كل هذه التيارات.

لاشك أن هذه القراءة تستند إلى حقائق في الواقع السياسي الراهن وقد تجيب على عدد من الأسئلة المتعلقة بواقع ومستقبل الإسلاميين، ومن الطبيعي أن تأخذ السياق السياسي والتطورات الميدانية في إجابتها عن أسئلة المستقبل، ولكن من الملاحظ تاريخيًّا أن الحركات الإسلامية بتأثير من الضغوط أو الاستهداف كانت تضعف أو تتحول في طريقة عملها أو في ترتيب أولوياتها لكنها لم تمت أو تندثر، فهي تعيد تجديد نفسها ولو بشروط أخرى لتبقى وتستمر بدفع من قواها الذاتية، حتى إنها تعود وتزدهر لدى أية محطة ديمقراطية تشهدها المنطقة، ومثال الربيع العربي ليس عنَّا ببعيد.

ولأن أية إجابة عن مستقبل الإسلاميين لن تكون كاملة إلا بدراسة الإمكانات والخيارات التي تختزنها القوى الإسلامية، والتي تعود في جلها إلى الأيديولوجيا التي تعتنقها، فإن هذه الورقة ستبحث في مستقبل تحولات الإسلام السياسي من خلال نموذج معرفي مقترح، يسمح بمراجعة السمات الأساسية التي تمتاز بها الأيديولوجيا الإسلامية، وما توفره من قوة ذاتية للإسلاميين أو قوة ناعمة في علاقتهم مع الجمهور، وتصلح لأن تكون مؤشرًا على اتجاه هذه التحولات في المستقبل.

ويتركز موضوع الدراسة على التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية، الذي من أهمه راهنًا على الأقل “حركة الإخوان المسلمين” ومن يدور في فضائها أو يشبهها، الذي يقبل “الديمقراطية” أو أهم مقتضياتها مثل الانتخابات البرلمانية وتداول السلطة و”الحكم المدني” وما إلى ذلك، لأنه “امتداد لمسار اجتماعي وسياسي عميق الجذور، ولا يملك أيديولوجيا مغلقة”(5) بقدر التيارات الإسلامية الأخرى لاسيما “الجهادية” وبعض “السلفية” منها.

ورغم أن مناط البحث في الدراسة هو الجانب الأيديولوجي، وليس السياق التاريخي، إلا أنه من المهم أن يُستصحب بعض هذا السياق في الدراسة بما يكفي لضبط مسارها، ولتوضيح اختلاف مسار التيار الإسلامي الرئيسي عمَّا سواه من بقية الجماعات، وذلك في ثلاث نقاط أساسية:

  • أن التيار الإسلامي الرئيسي، بغضِّ النظر عن الحكم عليه، هو جزء من المسار التاريخي الطبيعي للمنطقة التي كانت تحتكم للإسلام وتعود إليه سياسة واجتماعًا وثقافة (6) وليس “مؤامرة” أو دخيلًا عليها أو على المجتمعات الإسلامية فيها، كما قد يصوره خصومه أو عموم الإعلام الغربي.
  • أن “الإسلام السياسي”، “جزء من ظاهرة عالمية أكبر للإحياء الديني، وانعكاس لعلاقة المسلمين بالإسلام”، وموضع هذا الأخير من المجال العام وعلاقته بالدولة، وقد تعززت هذه الأسئلة بعد سقوط الخلافة الإسلامية. وكذلك هو جزء من أجوبة المسلمين على تحدي الحداثة وما تمثله من قوى، وتحمله من قيم للمجتمع المسلم، وتعود تاريخيًّا جذور هذا التحدي إلى منتصف القرن التاسع عشر، إلى فترة التنظيمات العثمانية التي قامت على فكرة المماهاة مع التحديث، والتي أثارت اعتراضًا حول تراجع الشريعة -التي هي أسلوب عيش المسلمين- في الدولة، ومن أشخاص هم جزء من آلية الدولة نفسها.
  • أن الحركات الإسلامية، تسعى منذ سقوط الخلافة الإسلامية إلى البحث في شرعية الحكم وحتى شرعية ممارسة السياسة، ولكن هي أيضًا وعلى عكس الأصولية البروتستانتية، ليست تعبيرات عن “حقيقة مقدسة”، ولا تنظر إليها الجماهير المسلمة على أنها “بيوريتانية” طهرانية معادية للحداثة، وخاصة تيارات الإسلام السياسي، وإن كان هناك بعض الجماعات الإسلامية “الهامشية”، تتصرف أو تدعي أنها كذلك (7).

كما لا يمكن للدراسة، لإتمام صورة الأيديولوجيا الناعمة للتيار الإسلامي الرئيسي وتأثيراتها فيه وما تقدمه له، إلا أن تتناول التيارات الأخرى، لاسيما الجهادية والسلفية، وذلك من باب المقابلة والمقارنة حيث يجب التمييز أحيانًا، لتداخل تأثيراتها أحيانًا أخرى، حيث تعود جميعها لنص ديني واحد، وإن كانت مختلفة في فهمها له فضلًا عن ظروف وجذور نشأتها التاريخية.

أما فرضية البحث فتقوم بالأساس على الصلة الوثيقة بين الإرث الإسلامي العلمي والبناء الأيديولوجي للإسلاميين؛ ما يستدعي اعتماد المنهج الوصفي التفسيري (8) لدراسة العلاقة الجدلية بينهما، وما يعني ذلك من شرح العلاقات بين الظواهر الاجتماعية والربط بين العوامل والعناصر المكونة لها، والوقوف على الأسباب الكامنة وراءها. فضلًا عن تفكيك وإعادة تركيب هذه العلاقة، بغرض المقارنة وبيان أوجه الاختلاف والاتفاق، وصلة ذلك ببناء منظور قادر على تفسير أسباب القوة الناعمة لأيديولوجيا الإسلام السياسي، وهو ما ينطبق أيضًا -وإن بتفاوت وببعض الاستثناء- على بقية التيارات الإسلامية الأخرى.

وتتضمن الدراسة لتحقيق غاياتها ثلاثة عناوين رئيسة: الأول يحدد المقصود بـ”الأيديولوجيا الإسلامية الناعمة”، والثاني -ويمثِّل صلب الدراسة- يطرح “النموذج المعرفي” لتحولات الإسلاميين و”سُلَّمه الأيديولوجي” ليكون الإطار المرجعي لفهم الأيديولوجيا وكيفية عمل قوتها الناعمة، ويبحث الثالث تحديات المستقبل، وقدرة الإسلام السياسي على “التكيف الأيديولوجي” للاستمرار والبقاء، أو حتى للنهوض والازدهار أحيانًا.

  1. الأيديولوجيا الإسلامية الناعمة

مما تهدف إليه الدراسة تقصي المسارات والتوجهات المستقبلية الرئيسة للتيار الإسلامي الرئيسي، من منظور “الأيديولوجيا” الناعمة التي يعتنقها الإسلاميون، أي ستراجع الخيارات السياسية لهذا التيار المستقاة من الإسلام نفسه كما يفهمونه هم، وتحديدًا من السردية الإسلامية (9) -وهي دينية بالضرورة- وما تركته من تأثير على أدائه، وبالتالي محاولة رصد هذه التأثيرات -وما يتصل بها- على مستقبله، بغضِّ النظر عن التطورات والوقائع والظروف السياسية والتاريخية إلا بقدر تفاعله معها.

أما تعريفات الأيديولوجيا الإسلامية فهي عديدة، لكن يمكن الوقوف عند تعريف ممتاز آر تركونة(10)، لأنه الأكثر اتصالًا بهدف الدراسة، ويقصد بها (الأيديولوجيا الإسلامية) “السعي لجعل الإسلام حاكمًا على كافة مجالات الحياة من الإيمان والفكر إلى السياسة والإدارة والقانون، والبحث عن حل لمشكلة تخلف الدول الإسلامية مقارنة بالغرب عن طريق الوحدة والتضامن”(11). وبعد أن أورد عدة تعريفات ومن بينها الأخير (12)، خلص الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، محمد عفان، إلى أنه “يمكن الوقوف على ثلاث صفات مميزة للإسلاموية: أنها معاصرة، وأنها حركة فكرية وسياسية معًا، وأن الفرضية الأساسية لها هي الطبيعة الشاملة للإسلام… فإن هذا المعتقد الخاص بالطبيعة الشاملة للإسلام هو ما يدفع الغالبية العظمى من الإسلاميين إلى المطالبة بإقامة الدولة الإسلامية”(13).

وبهذا الاعتبار، عند أي تناول لأيديولوجيا الإسلاميين وقوتها الناعمة، وخاصة التيار الرئيسي، يجب استصحاب أنه بحث في الجذور الدينية للإسلاميين، وأن الأيديولوجيا ليست في الأصل علاقة خاصة يعود بها الإسلاميون دون سواهم إلى الإسلام، لأن لها قدرًا مشتركًا بين عموم المسلمين -ومنهم الإسلاميون- في علاقتهم بالإسلام وسرديته السياسية. وهذا لا ينفي أن للإسلاميين بعض الخصوصية في بعضها، وهي التي تعطيهم سماتهم الخاصة.

ويجب الإقرار أيضًا، بأن التداخل بين الأيديولوجيا والدين -وهو أمر شائع- تحصيل حاصل مع “الإسلام”، بوصفه جامعًا للدين والدنيا ولكل مناحي الحياة والسياسة؛ حيث يعتمد الإسلاميون على “السردية الإسلامية” بما تشتمل عليه من أحكام فقهية وقيمية وما تشتمل عليه من دلالات نصًّا واجتهادًا وممارسة، للتأصيل لآرائهم ورؤاهم السياسية ولتطبيق فرضياتهم الأخلاقية ذات الصلة. وبالطبع، إن فهمهم “للسردية الإسلامية” يتأثر بـ”الأيديولوجيا” أيضًا، وتختفي أحيانًا المسافة بين هاتين الاثنتين في عملية جدلية مستمرة، حيث تتحول بعض المعاني الدينية إلى أيديولوجيا كما قد يتحول بعض من الأيديولوجيا إلى معان دينية (14). وهنا، تكمن قدرة التيارات الإسلامية وقوتها الأيديولوجية، حيث تمارس الأخيرة تأثيرين واضحين على الإسلاميين ومستقبلهم:

أولًا: هي قوة ناعمة: لأنها “إحدى الطرق” إلى بلوغ وتحقيق الإسلام -“بصورته الكاملة”- الشامل للسياسة في حياة المسلمين، وليس ذاك -الإسلام منزوع السياسة- الذي تقدمه المؤسسات الإسلامية التقليدية أو الرسمية التي هي بدورها جزء من “الدولة الوطنية القائمة”. والأيديولوجيا الإسلامية بهذا الاعتبار جزء من الإسلام نفسه (وفق السردية الإسلامية السائدة)، الذي يسعى كل مسلم إلى تطبيقه بقوة الواجب الديني في حياته اليومية أو في تطلعاته للمستقبل. وبعبارة أوضح، ليست القوة الناعمة (15) إلا تلك القدرة في “التأثير على سلوك الآخرين من خلال جذبهم أو جعلهم يريدون طوعًا ما تريد”(16)، وهذا ما تفعله أيديولوجيا الإسلاميين بالضبط، وهي المقصودة بالأيديولوجيا الناعمة، وهي التي تضمن للإسلاميين القدرة على الاستقرار والالتحام مع المجتمع المسلم وتطلعاته، وأن يتلقاهم بالقبول.

ثانيًا: هي إطار لفهم النص والتعامل مع الواقع: تشكِّل الأيديولوجيا بالنسبة للإسلاميين أيضًا، المرجع والإطار المعرفي أي “الخيال السياسي”(17) الذي يعود الإسلاميون إليه كإطار مفاهيمي لفهم النص، وما يحمله هذا الأخير من خيارات واحتمالات وإمكانات (18) للتعامل مع الواقع. وهذا الوصف للأيديولوجيا أيضًا هو جزء بالأساس من “السردية الإسلامية” التي يرجع إليها عموم المسلمين، لمعرفة تطابق توجهاتهم وتصرفاتهم مع أحكام الإسلام وتوجهاته.

هكذا، تشترك “الأيديولوجيا الإسلامية” الخاصة بالإسلاميين في بعضها بالطبع وليس كلها، مع “السردية الإسلامية” المعتمدة من عموم المسلمين، في تشكيل “الخيال الإسلامي” الذي يفكر الإسلاميون بتأثير منه أو من وحيه، ما يجعل بينهم وبين عموم المسلمين مساحة مشتركة وواسعة في طريقة العمل والتفكير لاسيما في الجانب السياسي والقيمي الإسلامي. وحتى من الناحية النفسية فإنهما، الأيديولوجية والسردية، باستعارة مصطلح كارل يونغ (Carl Jung) عن اللاوعي الجمعي (19)، يشكِّلان بيئة شعورية واحدة من حيث كيفية مقاربة التعاليم الإسلامية أو السعي إليها. (وهذا لا ينفي وجود بعض آخر مما قد يعزز من التناقض بينهما).

ومن اللافت أن مصطلح الأيديولوجيا ليس شائعًا عند وصف الإسلاميين لأنفسهم أو لتوجهاتهم، لما قد يحمله من معان سلبية تجاههم أو لقصوره في التعبير عن معتقداتهم، وبالمقابل تشيع كلمة “الاعتقاد” والمتصلة بما يؤمن به المسلمون من معتقدات في دينهم. وللخروج من كثرة التداخل والجدل حول تلك المصطلحات ودلالاتها، وعلى مبدأ “لا مشاحة في الاصطلاح”، فإن الدراسة لا تريد من مضمون الأيديولوجيا إلا ذلك القدر الذي يكشف عن القوة الناعمة فيها، وعن الإطار الذي توفره للإسلاميين ليعودوا به إلى النص الديني وإمكاناته.

وبخلاصة موجزة، إن أهم السمات التي تمتاز بها الأيديولوجيا الإسلامية، أنها معاصرة وليست حبيسة الماضي، وأنها تحمل فكرًا مستمدًّا من الدين لكنه سياسي أيضًا، وأن شرعيتها مستمدة من دورها في العمل على استعادة شرعية الحكم بممارسة إسلامية مشروعة، وأن هناك تداخلًا بينها وبين الدين من حيث فهم أو استعداد جمهور المسلمين لفهمه، وهو جوهر قوتهم الناعمة.

  1. النموذج المعرفي والسُّلَّم الأيديولوجي

مرَّت التيارات الإسلامية بمراحل زمنية عدة أسهمت في صياغة بنيتها التنظيمية وخطابها الفكري، وأكملت بناءها الأيديولوجي في تشابه مع فهمها للرسالة التي تحملها، والهدف الذي تسعى إليه. وبالتالي كانت السردية الإسلامية -وما فيها مما يتصل بالدولة الإسلامية أو “الخلافة”- وبقية العلوم الإسلامية هي المرجع الذي يستقي منه الإسلاميون الحلول للتحديات التي يواجهونها، أو حتى في توصيفهم لها ومن ثم يعملون على إعادة تداوله.

وليس صعبًا ملاحظة أن العلوم المؤسِّسة للإسلام هي التي تعطيه السمات الرئيسة التي استلهمها الإسلاميون في صياغة أيديولوجيتهم. فسمة “شمول الإسلام” على الدنيا بما فيها من سياسة وحكم، هو مما تلحظه مثلًا علوم الفقه التي تتدخل في مجمل حياة المكلفين، السياسية كما سواها. وسمة “المعاصرة”، أي إنه دين لكل زمان ومكان، هو مما قامت عليه علوم أصول الفقه والإفتاء، التي تلحظ “الملاءمة” بين ما جاء به نص صريح وما لم يأت به نص، ليقيس الأخير كواقعة في الواقع المعاصر على الأول أي النص في زمن الرسالة. وهي التي تلحظ “فعالية” أحكام الشريعة في الواقع بتحقيق مقاصدها وإلا اندرست أي الشريعة نفسها. لا بل قبل هذا جميعًا فإن مجمل الدين قام على علم الحديث، كسبيل لتوثيق الإسلام كله، فكل ما جاء وصحَّ عن النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، هو أساس شرعية الشريعة وحتى أساس “شرعية مطالبتهم بتطبيقها”.

ووفق هذا التوصيف، يمكن تبيان وتفسير عناصر قوة الإسلاميين الأيديولوجية وكذلك التنبؤ بالإجمال بطريقة تفكير الإسلاميين واتجاهاتها بدفع من الأيديولوجيا، من خلال بناء نموذج معرفي خاص أو سلم أيديولوجي مستوحى منها ومما تتطابق فيه مع العلوم المؤسسة للإسلام وسرديته السياسية، بما يفسر مطالب الإسلاميين وقوتها.

وبهذا، يمكن أن يقوم النموذج المقترح على ثلاثة معايير أو ثلاث درجات في سلم أيديولوجي، تختزنها السردية الإسلامية وتستبطنها العلوم التي ترتبط بها، وهي: التوثيق لإثبات الشرعية الصحيحة، والملاءمة مع الواقع لقوة المرجعية، ثم الفعالية في تحويل الأفكار لمطالب وقرارات سياسية، أي الفعالية السياسية. وهذه جميعًا أساسية في “إحياء الشريعة” والحفاظ على شمولها للسياسة والحكم، وتفعيل دورها لحمايتها من الاندراس، وهي مهمة الإسلام السياسي وأيديولوجيته.

1.2. التوثيق الديني للشرعية ومقولات التأسيس

إن قوة الشرعية في التيارات الإسلامية تتصل بقوة الدين الذي تنسب نفسها إليه، وبصياغة أخرى هي تعتمد على قوة التوثيق الديني لشرعية وجودها ومطالبها، لأنها تقوم بهذا الاعتبار على نفس الأصل، فمن يقبل بالدين كأساس للشرعية سيقبل بشرعية من يسعى لإحيائه، أي شرعية الإسلاميين ومقولاتهم. ومن الطبيعي أن تسعى عموم الحركات الإسلامية إلى أقوى درجات التوثيق ألا وهي المطابقة بين الإسلام (السردية الإسلامية) وبين أبرز المقولات التأسيسية لكياناتها وتوجهاتها، لتكون كأنها شيء واحد، حقًّا وحقيقة، ما يحميها من التشكيك ما أمكنها ذلك، ويجعلها جزءًا من إيمان المسلم، وجزءًا من عمله اليومي المعتاد لاسيما في شقه السياسي.

وببعض التفصيل، هناك مقدمتان تعززان من شرعية تأسيس الحركات الإسلامية:

– الأولى: كل فكرة تكتسب شرعيتها وتملك فرصة للبقاء والصمود بقدر ما علا توثيقها لدى جمهور المسلمين دينيًّا (ومن باب أخص المحافظون منهم). ومنشأ ذلك، أن التوثيق أساس لصحة “الأخبار”(20) التي يقوم عليها الدين، واحتل بذلك مكانة تتجاوز صناعة التاريخ -في الثقافة الإسلامية- نحو صناعة العلم، فهي في الحقيقة مرادفة للعلم بالشيء، ومن ذلك وُصفت صناعة الحديث (علم الحديث) أي الإخبار عن النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم بالعلم، وهو أساس التصحيح والتصويب (الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف)، وحتمًا لا شرعية لما هو خطأ. ومن ذلك أنه جاء في مقدمة صحيح مسلم (21)، تحت “باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات”، قول محمد بن سيرين (22) عن علم الحديث يصفه في سياق دعوته لتحري نَقَلَته: “إن هذا العلم دين..” (23). أي يتوقف وجود الدين نفسه على وجود علم الحديث. ووفق نفس هذه المطابقة بين “علم الحديث” و”الدين” فإن بعض “الأفكار التأسيسية” في الحركات الإسلامية، جاءت وفق نفس الآلية والتطابق، فهي “دين”، ولو في سياق مختلف، وليس بمجرد الترويج أو الادعاء، بل باستدلال فقهي “يؤكد” أنها جزء من واجبات المسلم.

عند هذا المستوى يصبح الحديث عن ضرورة وجود الحركات الإسلامية، يشبه الحديث عن القطعيات التأسيسية في الإسلام، فحيث لا حركات إسلامية لا “سياسة شرعية”، لأنها تقوم بواجب في هذا المجال لا يقوم به سواها. والسردية الإسلامية تساعد على ذلك حيث يختلط الواجب التعبدي بالواجب السياسي المناط بالمسلم، فعلى سبيل المثال، يستدل الإسلاميون على انحسار الدين بتآكل شرعية الحكم، بحديث: ” لتُنْقَضَنَّ عرى الإسلام، عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحُكم وآخرهن الصلاة”(24). فالحديث يقرر الصلة بين واجبات المسلم الفردية التعبدية: الصلاة، وواجباته الدينية السياسية المجتمعية: “الحكم”. هذا المثال، ونظائره كثر، يقود إلى المقدمة الثانية.

– المقدمة الثانية: لا تزال الخلافة الإسلامية حاضرة في وعي عموم المسلمين -حتى يومنا هذا- على أنها النموذج الشرعي لـ “الدولة الإسلامية” بفعل التوثيق الديني لهذا النموذج سواء بالسنة أو القرآن، أو حتى الممارسة خلال القرون الأولى من تاريخ المسلمين، وكذلك لأن إقامة كثير من أحكام الإسلام يتوقف عليها. وشكَّل سقوط الخلافة -بما يحيل على انعدامها المطلق حتى على المستوى الرمزي من حياة المسلمين- صدمة كبيرة لوعي المسلمين وطرح سؤالًا، ربما لا يزال مطروحًا حتى اللحظة: هل هناك مدخل لسياسة مشروعة ولشرعية سياسية في غياب الحكم والحاكم الإسلامي، وكيف يمكن إعادة استئناف الحكم الإسلامي أو ما البديل الشرعي له؟ (25) ومن الأجوبة على مثل هذه الأسئلة، كانت نشأة “الحركات الإسلامية” التي ما تأسست إلا لاستعادة الحكم الإسلامي أو لإضفاء الشرعية على أية ممارسة سياسة في غيابه.

والخلاصة أن لدى الإسلاميين على اختلاف اتجاهاتهم مجموعة من “الأفكار التأسيسية” يتخذونها أصلًا في حيزهم التنظيمي والسياسي، تشكِّل مدخلًا خاصًّا لتؤكد التيارات الإسلامية “شرعيتها” في غياب الخلافة الإسلامية، بعد أن كانت هذه الأخيرة هي أصل السياسة المشروعة، وفي غيابها من المفترض أن تغيب السياسة المشروعة وتغيب الشرعية السياسية بطبيعة الحال.

لقد اعتمدت جل تيارات “الإسلام السياسي” على “الدعوة” كأساس لشرعيتها، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، ولكن “الدعوة” هنا لا تعني دعوة غير المسلمين إلى الإسلام وإن كانت متضمَّنة نظريًّا، لكنها دعوة المسلمين لاستئناف “الحكم الإسلامي” باعتبار أن الأخير جزء من دعوة الإسلام نفسها (وكل مسلم داعية)، فالإسلام دين ودنيا، وبتعبير آخر للشيخ حسن البنا: “الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون، وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعنى بكل شؤون أمته.. إلخ”(26). فهم يعرِّفون أنفسهم كتيار “دعوي” في السياسة، وتقوم بنيتهم التنظيمية وآلية عملها على “الدعوة” في جموع المسلمين أنفسهم، وهي الركيزة الأساس التي تعتمدها الجماعة في خطابها وتضفي بها الشرعية على “وجودها” ومشروعية مقاربتها للسياسة في ظل غياب الحكم السياسي الشرعي، لأن “ما لا يتم الواجب (الحكم الإسلامي) إلا به (أي بالدعوة له) فهو واجب”(27).

لهذا فإن جُلَّ التوثيق الشرعي ينصبُّ على “الدعوة” وكونها كانت “وظيفة الرسل والأنبياء”، ومن ثم هي وظيفة المسلمين المستمرة حتى في غياب الحاكم الشرعي. فمبرر وجود الجماعة كجماعة سياسية هو “الدعوة”، والدعوة ممكنة في كل ظرف ومكان وزمان ولها قيادة يتم “اختيارها” بنفس الطريقة على الأقل من حيث الشكل، التي اختير بها الخليفة أي “البيعة”، وهذا له تأثيره وإن كان من حيث قوته أقل (28). وقد وصف حسن البنا “حركة الإخوان المسلمين” كلها بأنها “دعوة” أي “دعوة الإخوان المسلمين”، وهو ديدن الجميع إلى اليوم، فهي الإسلام نفسه من حيث وقعها العاطفي والوجداني، ومنه تستمد شرعية نموذجها وإن كانت لا تمثِّله بالضرورة (29).

إن شرعية الإخوان في السعي إلى الخلافة، أو إلى إصلاح الحكم، من السهل التسليم بها لدى عموم جمهور المسلمين بهدي من السردية الإسلامية وما تقوم عليه من علوم؛ إذ إن تمسكهم بالدعوة إلى “حكم شرعي” هو الجزء الذي يحاكي رغبات عموم المسلمين إذا لم نقل: “نداء الواجب” لديهم ويضعهم والإسلاميين جميعًا على صعيد واحد، خاصة وأن المشكلة المزمنة في المنطقة العربية وجوارها الإسلامي، هي افتقار “الحكم” لأية شرعية متخيلة أو تلك المقررة في السردية الإسلامية.

وهذا الأصل يتحفظ عليه الجهاديون وخاصة من تنظيم القاعدة، لأنهم لم يجدوا في “الدعوة” وحدها كما يقدمها الإخوان ما يضفي الشرعية على العمل السياسي والتنظيمي في غياب “الإمام الشرعي” أي “الخليفة”، وأسهبوا في نقد رؤية الإخوان واستدعوا العديد من الشواهد على خطئها، حتى أنهم قد يصفون مصلحة “الدعوة” كما يقدمها الإخوان على أنها “صنم”(30) ابتدعوه لمهادنة الحكام وللقعود عن الجهاد.

إن الفكرة الأساسية التي بُنِيَت عليها الدعاية الجهادية في الثمانينات، في الجهاد الأفغاني: أن الجهاد هو المبرر الرئيسي لشرعية العمل السياسي (والأخير لا يقوم لوحده)، لأنه الفريضة السياسية الأساسية الوحيدة التي تصبح واجبة بذاتها، للدفاع عن المسلمين، خاصة عند الاحتلال الأجنبي أو الغزو، دون الحاجة لخليفة يعلنه، لأن الجهاد ضد المحتل لا يحتاج إلا لـ”أمير قتال” فحسب (31). وساعد على ترسيخ هذه الفكرة، ما صدر من فتاوى مؤيدة “للجهاد الأفغاني” يومها، من علماء من عدة دول إسلامية وعربية وخاصة المملكة العربية السعودية (32)، وإن كانت الغاية من الفتاوى حينئذ إضفاء الشرعية على الجهاد للدفاع عن مسلمين في قُطر آخر، لا حصر الشرعية السياسية فيه في غياب الخلافة، لكن التطورات اللاحقة أسست لأجيال جهادية جديدة بمفاهيم أبعد من ذلك مثل تنظيم القاعدة وما يماثلها.

ولا تزال تصدر مثل هذه الفتاوى، التي ترى وجوب “جهاد الدفع”، أي الدفاع عن النفس والدين دون اعتبار الحدود القُطرية للدول، حتى من مؤسسات دينية تقليدية، من حين إلى آخر كما كان الشأن إبَّان الثورات العربية، وليس من المتوقع أن تتوقف، لأن هذا القدر من “الجهاد” وعلى هذه الصفة، يحظى بقدر عال من التوثيق وعلى صلة مباشرة مع النص، وتؤيده السردية الإسلامية، في جملة كبيرة من الأدلة واجتهادات الأئمة المتقدمين والمعتبرين لدى عموم المسلمين.

أما التيارات السلفية، فقد يتعدد فيها مركز الشرعية الأساس، خاصة إذا ما حُمِّل مصطلح السلفية على أوسع معناه، ولكن التيار الوهابي(33) الذي مركزه السعودية ومن يدور في فضائه، فإن الفكرة الأساسية التي قامت عليها شرعية وجوده الأساس، فهي النقاء الديني عبر الإصلاح بشقيه العلمي والعقدي(34)، أي تصحيح التوحيد ونبذ التمذهب، وحتى هي سمحت له ببناء شرعية أخرى تستغني عن خلافة الدولة العثمانية(35) تاريخيًّا حال وجودها، ولكن شرعية وجوده الدينية المعاصرة كانت بالشراكة مع الدولة السعودية لاسيما بعد ولادة الدولة الحديثة.

وهذا القدر المتصل بـ “تصحيح معتقدات” المسلمين وفقًا لما صحَّ من الدين وتصويب فهمهم له، شكَّل الرافعة الأساسية لمجمل هذا التيار، حتى إنه استطاع أن يؤثِّر في مؤسسات وشخصيات دينية رسمية في الدول العربية. لا، بل سَرَت بعض سماته في تيارات إسلامية أخرى، فأصبحت هناك أوصاف جديدة في هذا الحقل لها دلالتها، مثل: “جهادي سلفي” و”إخواني سلفي”، وما إلى ذلك.

هذه السمات الأساسية تعتبر الأقوى لدى عموم التيارات الإسلامية، بسبب العلاقة المباشرة والوثيقة بين الأفكار المؤسسة لكل تيار منها، وبين النص الديني وما يُؤَمِّنه لها من شرعية وإن بتفاوت. وبالمقارنة بينها والإسلام السياسي، فإن أهمية “مصطلح الدعوة لدى الإخوان المسلمين، أنه يعكس حقيقة مرنة تشتمل على ما يقدمه الجهاديون من حيث رد الاعتداء، والسلفيون من حيث تصحيح الاعتقاد والدين، وإن من منظور مختلف. فالجهاد تاريخيًّا ارتبط لدى الإخوان بـ”فلسطين”، والسلفية لديه بالتجديد العلمي وهذا كله مما تعكسه “الدعوة” لدى الإخوان، فهم أصحاب “دعوة” بالمعنى الأيديولوجي (36)، فهي رسالة تعيد صهر مكتسبات التيارات الإسلامية الأخرى من القوة الناعمة، (وحتى من سواهم) لتتحول إلى مكتسبات لأيديولوجيتها الناعمة الخاصة بها.

2.2. الملاءمة للمرحلة والبناء التنظيمي

إن “صلاحية الدين لكل زمان ومكان” كإحدى أهم سمات أحكام الإسلام، شكَّلت جوهر خطاب الإسلاميين في سعيهم لإقامة الحكم الإسلامي، فالحركات الإسلامية ليست مجرد وعاء تنظيمي بل هي “إطار ديني وشرعي” (جماعة)، واجب الوجود لإقامة أحكام الإسلام “التدبيرية”، وكما أن الدين صالح لكل زمان ومكان فهي بالضرورة كذلك، وبالتالي صبت جهدها ووجهت مسارها نحو الملاءمة والمطابقة بين الواقع والنص” من حيث التدبير السياسي، وكانت جزءًا من ذلك النقاش أو الجهد للمواءمة بين مقاصد الدين ومقتضيات العصر، وأصبحت جزءًا من ذلك المسار ومن إرثه العلمي والفقهي لتبني عليه في الجانب السياسي والتنظيمي.

فابن تيمية، على سبيل المثال، والذي يَعُدُّه الباحثون أحد أهم المراجع التاريخية للأيديولوجيا الإسلامية، من أسباب احتفاء الإسلاميين بكتبه ومقولاته حتى وجدت لديهم قبولًا واسعًا، أنها تصدت لهذه المعضلة سواء بالتنظير أو الممارسة في بيئة افتقرت للشرعية الإسلامية المعهودة في زمنه (37). كما تصدى لتنظيم علاقة العقل مع النقل، أي الواقع مع الشرع في كتابه المشهور “درء تعارض العقل والنقل” في إجابة على نوازل منهجية في عصره وهي متكررة في العصور اللاحقة (38). وفي نفس السياق، أحد الأمثلة على هذه الحالة، محاولة حركة الإحياء الإسلامي بكل تلاوينها العلمية والاجتماعية وحتى السياسية -لاسيما مدرسة المنار وروادها: محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا- الملاءمة بين منجزات العلم الحديث والمعتقدات الدينية أو بين بعض ما جاء في القرآن والسنة وعدم تناقضها مع العلم (تحديدًا ما انتهى إلى سمع المسلمين من علوم في القرن التاسع عشر).

وقد لقيت هذه الدعوات تفاعلًا كبيرًا من عموم التيارات الإسلامية بغضِّ النظر عن ترحيب بعضهم بها كالإخوان المسلمين واعتبار أنفسهم امتدادًا إصلاحيًّا لها واندراجهم في مسارها التاريخي، أو نقدهم لها كما هي الحال مع التيار الجهادي وأغلب التيار السلفي والوهابي، ولا يزال هذا التفاعل مستمرًّا رغم المسافة الزمنية، لأن الأسئلة المطروحة بقيت ماثلة بتحدياتها وتحتاج لأجوبة تعزز من مكانة الدين وصلاحيته، ومنه الجانب السياسي، حذرًا من أن يتراجع أو يضمحل بفعل الزمن والتطور.

والإسلاميون بعمومهم معنيون بهذا السؤال المحوري حول الملاءمة، وليس الاكتفاء بشرعية نموذجهم فقط، فسعوا في هذا السياق نحو تقرير شكل نظام سياسي شرعي ملائم للعصر، أو على الأقل حالة من الشرعية تُبرِّئ الذمة من واجب إقامة الخلافة على الفور، وذلك إلى حين توفر الظروف الملائمة لإقامتها، مع حرصهم على إبقائها حية في ضمير المسلمين (39)، لأن المواءمة بين الشريعة الإسلامية والواقع السياسي المعاصر تضفي شرعية ممتدة تضمن للشريعة الازدهار والاستقرار في المجتمعات الإسلامية وتحول دون فتورها. وهذا لا يتأتى إلا من خلال حكم إسلامي شرعي أو إيجاد جماعة أو آلية تقوم مقامه، وكأن المسلمين في مرحلة انتقالية للوصول نحو الشرعية الكاملة أي “الخلافة”.

ووفق هذا المعيار، فإن الإخوان -وللتلاؤم مع الواقع- قبلوا بالدولة القُطرية ولكن من باب الضرورة كما يبدو من صنيعهم وتراثهم، على أن تكون محل إصلاح وتغيير للوصول إلى “الخلافة”، وهو الذي يغلب على ممارستهم السياسية، في حين استمرت الخلافة كمبدأ ديني وجزءًا من ثقافتهم وعقيدتهم السياسية، ولكن النموذج الأقرب إليهم الوصول لاتحاد يجمع الدول الإسلامية برأس واحد، ما يفتح الباب للتفكير بشرعية الحكم والخلافة خارج الإطار التقليدي، حيث يقول البنا عن الخلافة: “شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها…والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها، وأن الخطوة  المباشرة لإعادة الخلافة لابد وأن تسبقها خطوات: لابد من تعاون عام ثقافي واجتماعي واقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد… ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية، حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على “الإمام” الذي هو واسطة العقد…وظل الله في الأرض”(40).

أما الحركة الوهابية والتيارات السلفية التي تشبهها، كانت من أسرع التيارات الإسلامية في تحقيق الملاءمة وحسمها على صعيد الدولة القُطرية، حيث رأت في التزام الحاكم المسلم -في “الدولة القطرية”- بتطبيق الحدود الشرعية أي القوانين الجنائية الإسلامية -بالطبع إلى جانب الأحوال الشخصية- هو أدنى الشرعية، وهو المؤشر عندها على صحة الملاءمة بين “الدولة القطرية” و”النص” الشرعي. وانتهت الملاءمة لدى بعض التيارات السلفية (كالمَدَاخِلَة مثلًا (41)) إلى أنها تتصل بالسعي الدائم للمواءمة بين نموذج الدولة الشرعية ونظام الحكم في المملكة العربية السعودية، حيث الحاكم يطبق الحدود كما تقدمها النصوص دون أي تأويل أو تفريط بالنص، وذلك في تواصل مع النقاء الديني الذي قامت عليه عموم شرعية الحركة السلفية. ولم تُسقط الوهابية والحركات التي تشبهها الخلافة الإسلامية من وعيها، لكنها عمليًّا وضعت النقاء العلمي والعقدي كأولوية لأي حكم شرعي وشرطًا للوصول إليه، وأضفت الشرعية على “المملكة العربية السعودية” ككيان معاصر في قطر محدود “يحتضن رؤية إصلاحية” ويعمل على الترويج لها.

أما الجهاديون، فأدركوا أيضًا صعوبة إقامة الخلافة في الواقع الذي هم فيه، وإذا كان “دفع الصائل” مفهومًا على الصعيد الفردي فإنه غير مفهوم في التعامل مع السلطة والدولة وفي كيفية الوصول للتغيير الشرعي لنظام غير شرعي، وأفضت التطورات التي أسهمت في ولادة هذا التيار بصورة منظمة على الأقل في مثال “تنظيم القاعدة”، الذي يرى وجوب التغيير وإقامة الحكم الإسلامي في العالمين العربي والإسلامي عبر “الجهاد”، ولكن لن يتحقق ذلك إلا بهزيمة “الهيمنة” الأميركية والغربية والصهيونية في المنطقة التي تفرض شروط النظام الإقليمي، وبهذا يتعين الجهاد ليس لدحر المحتل فحسب بل لدحر هذه “الهيمنة” بكل أشكالها وما الحكام العرب إلا من نتاجها. هذه هي الفلسفة التي قام عليها ومن أجلها وبسببها تنظيم القاعدة، وكان إعلان أسامة بن لادن الشهير عام 1998 لمواجهة “الصليبيين والصهاينة”(42).

فالقاعدة، تسعى للملاءمة بين “فريضة الجهاد” والواقع السياسي “غير الشرعي” دون السعي لإعلان الخلافة في أية دولة قطرية بعينها، فهي معنية بالدفاع عن العالم الإسلامي ضد “الهجمة الغربية الصهيونية”، وضد “عملاء الاستعمار” أي “الأنظمة المستبدة” وكذلك “من لم يحكم بما أنزل الله” في المنطقة، في سبيل التمهيد للخلافة أو للحكم الشرعي، وليس لإقامتها على الفور.

ويمكن ملاحظة أن كل الحركات الإسلامية عمليًّا ترجئ إقامة الخلافة أو تأسيس “حكم شرعي” نهائي في إطار الدولة القطرية أو على أرض الواقع، حتى الوهابية ذات المركز السعودي تترك هامشًا عقائديًّا لتحقيق الخلافة، لأنه لا حل تقليديًّا من السردية الإسلامية يبرر تجزئة “الأمة” دولًا عدة وبشرعية نهائية، فضلًا عن أنه في الواقع المعاصر يعطي المملكة وعموم الفاعلين فيها، سياسيين وغير سياسيين، بعدًا جيوسياسيًّا يسمح لهم يتجاوز الحدود الوطنية، ويمتد حيث يمتد الدين.

وقد يكون هذا الجزء “التلاؤم مع المرحلة”، هو الأصعب على القوة الناعمة لأيديولوجيا مجمل التيارات الإسلامية، لأن الملاءمة تتطلب منها التخفف من حرفية النص (بالتأويل مثلًا) أو وضع مسافة ما معه، لصالح الاقتراب من الواقع لتحقيق مصالح الناس (بالمعنى الشرعي) وبالتالي مصالحها، سواء للبقاء أو الازدهار في ظل شرعية دينية.

ولكن تبدو الوهابية رغم “نصوصيتها” مرنة أكثر في قبولها السياسي للدولة القطرية في النموذج السعودي، ما يعطيها مزية على الصعيد الوطني سياسيًّا لدى الدولة، لكنها بالمقابل تلتزم مذهبًا ومسلكًا فقهيًّا ونموذجًا اجتماعيًّا مغلقًا، ما يجعلها عاجزة عن أية ملاءمة على صعيد الحقوق السياسية والإنسانية مثلًا.

أما الحركات الجهادية، لاسيما المنظمة منها، فهي في الغالب ذات طبيعة مهاجرة، وتنتقل حيث تتلاءم البيئة معها وليس العكس، حيث الدولة هشة وتعاني من فراغ أمني وقانوني بما يسمح لها بأن تطبق تصوراتها على أرض أقل تطورًا وحداثة، ما يجعل التلاؤم معها أسهل.

وبالنتيجة، هذه الحالة من “الملاءمة بين الإسلام والواقع”، هي عبارة عن نضال يومي غالبًا ما يقوده الفقهاء والدعاة في الحركات الإسلامية بالدرجة الأولى ومن ثم أصحاب الخبرات الأخرى فيها، ولكن التيار الإسلامي الرئيسي يبدو أكثر مرونة من سواه، من حيث علاقته مع المجتمعات الإسلامية، فهو ينسب نفسه لمسار طويل من المصلحين المطالبين بإعادة إحياء الإسلام في المجتمعات الإسلامية دون الالتزام بمذهب فقهي أو مشرب ديني محدد، ما جعله منفتحًا أكثر من بقية التيارات الإسلامية الأخرى على علماء المسلمين في دول ومجتمعات شتى، فهو يبحث عن “إجماعات” لدى المسلمين في كل مرحلة وعلى كل صعيد دون أن يقف عند أحدها، فهو في تماه دائم مع الاجتهاد لأنه مشروع “غير ناجز” لا ينتهي ولا يريد أن يكون كذلك(43).

وهذا ما يفسر قدرة التيار الإسلامي الرئيسي على التأقلم مع المستجدات وتصدر القضايا والتحديات التي تواجه شرائح واسعة من الجمهور المسلم، وقد تحوز الشرعية لمجرد التصدي لها. وهذا أيضًا لا يعني أكثر من القدرة على التأقلم والبقاء والتصدر إذا سمحت الظروف في إطار النظام، وليس القيادة والتحكم به بالاستناد إلى شرعيتها الدينية، وهي مرحلة متقدمة من الشرعية والفعالية السياسية.

3.2. الفعالية السياسية وجواب الشرعية

المقصود بالفعالية السياسية الوصول إلى “الحكم” وممارسة السلطة في إطار تنظيمي متكامل يحمل شرعيته الدينية المستقاة من السردية الإسلامية، ولكن في ملاءمة مؤثرة مع الواقع (بغض النظر عن صحة ما تقوم عليه هذه الفعالية من عدمها). والفعالية -عمليًّا- خطاب يعلن إنجاز المطابقة بين واقع السلطة وشرعية النص في الحال، فهو يقدم إجابة على سؤال الشرعية حول الحكم بإعلانه إسلامية السلطة في محاكاة لـ”الخيال السياسي” لجمهور المسلمين، ومن موقع “السلطة” نفسها لتأكيد شرعيتها.

ويمكن القول: إن التيار الرئيسي الإسلامي قد وصل إلى مرحلة من الفعالية السياسية في تفاعل مع ثورات الربيع العربي، ولو لفترة ليست بالطويلة زمنيًّا، حيث استطاعت حركة الإخوان المسلمين الملاءمة بين “الحكم الشرعي” وفقًا لما جاء في السردية الإسلامية مع “حرية الاختيار” أو “الديمقراطية” التي جاءت بها ثورات الربيع العربي، فحسمت موقفها -ولو ببعض التحفظ- من شرعية الدولة القطرية الحديثة ووجدتها أمرًا ممكنًا، وقدمتها على ما استقر في ضمير أتباعها من أن لا شرعية إسلامية إلا لنموذج الخلافة (ودون التخلي عنها). فجذبت شرائح وجمهورًا واسعًا من الجمهور العربي والإسلامي ووصلت بفعاليتها السياسية إلى سدة الحكم في مصر، بفوز محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية عام 2012. وبالتوازي، تصدرت بعض فروعها أو المشابهة لها بقية الثورات “مثل النهضة في تونس”، أو التي تبنت أطروحاتها في معظم دول العالم العربي.

يرتقي وصول الإخوان إلى السلطة في مصر بأهميته إلى مستوى أهمية الحركة نفسها، فهي الحركة الإسلامية الأقدم تاريخيًّا وقامت باسم إعادة إحياء الخلافة، وهي الحركة “الأم” التي تناسلت منها أو خرجت منها أو عنها معظم الجماعات الإسلامية الأخرى، ولديها أذرع وقوة ثقافية، وأخرى سياسية، في معظم الدول العربية، وكذلك في دول إسلامية عدة، واستطاعت أن تصل إلى رئاسة إحدى أهم الدول العربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وببرنامج يشدِّد على أن “الإسلام هو الحل”، وبتحالف إسلامي يضم سلفيين أو بالأحرى معظم السلفيين دون أية قوة أخرى غير إسلامية، بما كان يُعَدُّ بنظر مؤيديه بناء نموذج جديد لـ”دولة إسلامية” على الأقل، وبنظر شريحة واسعة من الجمهور المصري، فضلًا عن شريحة مؤثرة في العالم العربي، وكادت تحدث انقلابًا في مفهوم الشرعية في المنطقة العربية، لاسيما أنها جاءت في سياق “ثورة” على الاستبداد، ولتقر “شرعية” جديدة مستأنفة في العالم العربي. وتركت سياسيًّا تأثيرا كبيرًا على الإقليم برمته حيث ظهرت حركة “مضادة للثورات” تحت عنوان محاربة الإخوان وأسقطت هذا الحكم بانقلاب عسكري في مصر في خضم اعتراضات شعبية على الرئيس محمد مرسي، ولا تزال الحركة تتعرض إلى محاولة استئصال في أكثر من دولة عربية، حتى إن تصنيف خطرها لدى بعض الدول العربية (خاصة الرباعية، مصر والإمارات والسعودية والبحرين) قد اقترن بخطر تنظيم الدولة وأنهما سواء، من حيث التطرف أو الإرهاب وإن اختلفت أساليب عمل كل منهما.

اللافت هنا أن أية حركة أخرى لم تصل، في سياق الربيع العربي، إلى “الفعالية السياسية” الموصوفة هذه، وبدت عموم الحركات الإسلامية، وخاصة بعد فوز الإخوان بالرئاسة في مصر، كالقاطرة التي يحرص الجميع على الاستقامة وراءها رغم الخلافات العميقة معها. حتى تنظيم القاعدة أوقف تصعيده ضد الإخوان وكأنه دخل في هدنة معهم وربما تجاوز ذلك لاسيما أن الثورات العربية قد تقاطعت زمنيًّا مع فَقْدِه لمؤسِّسه، أسامة بن لادن (اغتالته القوات الأميركية في 2 مايو/أيار 2011)، ودخل فيما يشبه المراجعة لنهجه السابق، وكان زعيمه الجديد، أيمن الظواهري، يتألَّف الإخوان ويُحذِّر من الدور الانقلابي الذي يمكن أن يلعبه الجيش. وبعد الانقلاب يمكن تلمُّس موقف واضح من الظواهري إلى جانب الرئيس، محمد مرسي، وإن استعمل لغة دينية متحفظة على “نهج الإخوان”، لكنها عكست تعاطفًا لم يُعْهَد في كلام القاعدة مع الإخوان (44).

وبالمقابل، كان الظهور الطاغي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، ولكن جاء في اتجاه معاكس وسار في سياق الحركة المضادة للثورات من حيث معاداته للديمقراطية أو “حرية الاختيار”، وكان مسار تجربته في سياق الربيع العربي، أشبه بقطار يصدم قطار حركة الإخوان المسلمين وعموم تيارات الإسلام السياسي وجهًا لوجه مستفيدًا من لحظة ضعفهم، فهو من الناحية السياسية واللحظة التاريخية استهدف تجربة الإخوان بشكل مقصود ومباشر، وكان حريصًا على التأكيد على “كفرهم وردَّتهم” بما يقوِّض شرعيتهم الدينية، على الرغم من أنهم كانوا يتعرضون -لاسيما في مصر- للملاحقة من الحكم العسكري الجديد بعد الإطاحة بهم، ومن المفترض أنهم لا يشكِّلون خطرًا على دولته البتة، وحتى في نطاق دولته كان الاتهام بالانتماء للإخوان يعني الحكم بالردة والقتل، أو الاستتابة على الأقل.

وبلغ التنظيم مرحلة متقدمة من التأثير العسكري والسياسي، باستدعائه نموذج الخلافة كما جاء في “السردية الإسلامية”، هذا أولًا، ومن ثم إعلانه إياها على رقعة من الأرض في “العراق والشام”، ثانيًا: كانت الملاءمة المؤثرة والمواءمة على هذا الأساس، حيث أقام “خلافة” وفق شروط دينية تاريخية ولكن على “أرض الواقع”، وهو ما لم تفعله أية حركة إسلامية منذ نشأة الدولة العربية الحديثة. واستطاعت دولة التنظيم بهذا أن تجذب أنصارًا ومقاتلين من عدة دول إسلامية وحتى غربية أو من بقية الحركات الإسلامية لاسيما الجهادية، وعملت على إعادة تأهيلهم ليتلاءموا مع تعاليمها المتشددة وكأنها استعادة لانبعاث الإسلام، واستعملت وسائل الاتصال الحديثة لترويج تعاليمها خارج أرضها وعلى نطاق عالمي.

قد يبدو تنظيم الدولة في طوره هذا أحد الأفكار المتقدمة على تنظيم القاعدة، فمن الناحية الفكرية قفز من التمهيد لإقامة الخلافة إلى إعلان “الخلافة” مباشرة في حيز مكاني، خارج حدود سايكس-بيكو، فشمل بعضًا من الشام وبعضًا من العراق، ولم يعترف بالنظام الدولي القائم ولا العلاقات التي يقوم عليها. وصادر بهذا الشرعية التي يقوم عليها تنظيم القاعدة، فشرعيته ليست منبثقة من “أمير قتال” بل من “خليفة المسلمين” وليس من “الجهاد” بل من “الخلافة” نفسها، فـ”شرعيته” بهذا تتجاوز تلك التي كسبتها القاعدة في كل تاريخها “الجهادي”. ولكن بخسارة تنظيم الدولة السيطرة المكانية، “أرض الخلافة”، وهي جوهر قوته الناعمة، فإنه تلاشى بسرعة، حتى إن تأثيره وحماسته قد ذبلت بنفس السرعة التي صعد بها.

وهذا ما يطرح السؤال حول حقيقة مستوى التأثير الذي وصله تنظيم الدولة، وإذا ما بلغ مستوى من “الفعالية السياسية” وفق الصفة المعتمدة في هذه الدراسة، والجواب يتأتى في هذا السياق على الأقل من جهتين:

أولًا: تجاوز التنظيم التوثيق الديني لشرعيته: حيث أعلن بعد إعلان “دولته” تمسكه بالشرعية المستقاة من “خليفة”، لا يعرفه الناس ولم يختاروه، وحاولوا المجادلة بصحتها بعدة منشورات على طريقة كتب الأحكام السلطانية، فكان التشكيك بشرعيته الإسلامية واقعًا لا محالة حتى في مجال سلطته، فضلًا عن التندر ببعض مقولاتهم على مستوى العالم الإسلامي. كما أهدر كل التوثيق للشرعية المستقاة من النص، عندما أهدر ذلك “الجهاد” الذي تعتمد شرعيته على دفع العدوان ولا يحتاج لخليفة ويكفي أمير قتال فيه، فلم يلتحق بالتنظيم إلا من يؤمن بشرعية الخليفة، فضلًا عن تآكل شرعية هذا الأخير مع الوقت وبسرعة.

ثانيًا: لم يستطع التلاؤم مع المرحلة: فالتنظيم منقطع عن أية تجربة إسلامية أخرى، ولا يملك تراثًا حقيقيًّا في الملاءمة بين النص والواقع لاسيما في المجال السياسي فضلًا عن سواه، واعتمد على “شرعيين”، كما كان يوصفون، لم يعرف لهم باع في العلم الشرعي وبعضهم كانت معرفتهم بسيطة قياسًا بحجم التحديات التي تتأتى من إعلان دولة، “وبعد إعلان الخلافة، لم تعد الحاجة تدعو لمن يُسَمَّوْن بـ”الشرعيين”، إلا لتطبيق “الشريعة” في بُعدها القضائي (للقضاء والتقاضي)، أو لتأكيد الخيارات والأحكام الدولتية التي يأمر بها “الخليفة البغدادي” أو أمراؤه “بتفويض منه”. وبعد أن انتهت دولته، كان التنظيم أصلًا قد خسر الشرعية التنظيمية، وهي الفكرة التي كانت توفرها القاعدة، التي ترى أن الجهاد في هذا العصر هو للتهيئة للخلافة، وهو كالجهاد لإقامتها. وهي الفكرة التي يحتاجها بعد سقوطه ويبدو الآن أنه يحتاج إلى مقولات بديلة لإعادة الحشد.

بعبارة أخرى، إن التنظيم أراد القفز إلى “الفعالية السياسية” بإعلانه “الخلافة” كونها مطلبًا جاذبًا لتطلعات الشعوب الإسلامية، دون أن يصل إليها مع شرعية إسلامية كافية، ودون أن يملك أجوبة للملاءمة بين النص والواقع ولو على الأقل على الصعيد السياسي. فهو لم يأخذ بالاعتبار أن الشرعية الدينية في هذا العصر كما في كل عصر راهن، لن تمر إلا بين يدي المجتمعات وواقعها المعاصر، بما يتضمنه من تحديات ومصالح وقيم، تختلف عن النموذج التاريخي الذي اكتفى باستدعائه وأراد أن يعيد تكوين الواقع ليتلاءم معه عبر الشدة والعنف.

ولكن رغم أن التنظيم لم يبلغ الفعالية السياسية الموصوفة، لكنه شكَّل تحديًا للإسلاميين عمومًا وصدمة للضمير الإسلامي. إن تنظيم الدولة اعتمد في التدليل على صحة نموذجه لـ”الخلافة” ووجوب إقامتها بنفس الإرث الفقهي والديني الذي يستند إليه عموم الإسلاميين -وما استقر في وعي عموم المسلمين- في تبرير نموذجهم الأساس، الذي يدعو لعدم التمييز بين الدين والسياسة، لا بل اعتمد أصح ما ورد من أحاديث وليس أضعفها، وأحيا كثيرًا من المقولات التي طالما سلَّم الإسلاميون بأولويتها في إقامة الدولة، مثل: إقامة الحدود، وتفعيل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما إلى ذلك من واجبات سياسية فضلًا عن النموذج الاجتماعي المتشدد الذي تبناه التنظيم. وبسقوط “أرض الخلافة”، أُسِّ قوته الناعمة، فُتحت بقية صفحات التنظيم وما تتضمنه من مآخذ عليه وما ارتكبه من “عنف شديد” حتى ضد من جاء -بحسب لغة التنظيم- ليخرجهم من “حكم الجاهلية” إلى حكم “الإسلام”، أي حاضنته ومن يفترض أنه جاء لاستنقاذهم.

وعلى الرغم من أن التنظيم كان مضادًّا لتيار الإسلام السياسي، فإنه سيبقى تحديًا قائمًا وأحد الأسئلة الكبيرة التي يجب عليهم الإجابة عليها.

ومن الواضح بالمقابل أن حركة الإخوان المسلمين، قد بلغت مرحلة متقدمة من “الفعالية السياسية” في سياق الثورات وبآلياتها وفي إطار الدولة القطرية وبرؤية إصلاحية، ولم تنته رغم سقوطها بانقلاب عسكري وبحركة مضادة للثورة واحتفظت لنفسها بمكانة ما بين جمهور الثورات العربية، رغم تراجعها الكبير والنقد الشديد الذي تتعرض له والمآخذ والأخطاء التي قد تُحسب عليها.

لم تدم فعالية الحركة طويلًا حتى إنها كانت تتراجع وهي لا تزال في الحكم، فالعسكر انقلب على الحركة منتهزًا فرصة انقلاب رأي شرائح شعبية وتظاهرها ضد الرئيس، محمد مرسي، (تظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013)، وذلك بغضِّ النظر عن النقاش حول صحة التآمر المحلي أو الإقليمي ونوايا الحركة الطيبة أو السيئة. فالحركة بعد أن وصلت إلى الرئاسة أخذت فعاليتها السياسية تتراجع بغض النظر عن التضحيات التي قدمتها، فقدرتها على الملاءمة بين خطابها الديني “وحرية الاختيار” أدى غرضه بالوصول إلى الحكم وتمكين أنصارها منه ولو نسبيًّا، ولكنها بعد ذلك عجزت عن الاستمرار بنفس القوة التي وصلت بها إلى الحكم.

ومن الواضح أيضًا أن تجربة الإخوان في مصر تركت أثرًا عميقًا في الإخوان أنفسهم، ففضلًا عن الخلافات التي نشبت بين إخوان مصر بعضهم بعضًا، فإن مجمل فروع الإخوان تراجعت أو غيرت من سلوكها، ودخل أكثرها إن لم يكن جميعها في مراجعات لا تزال مستمرة. كما أنها تركت تداعيات على مجمل التيار الإسلامي، فتراجع حركة بهذا الحجم سيثير تساؤلات حول صحة النموذج الإسلامي ومدى صلاحيته للتعامل مع الواقع السياسي المعاصر.

  1. مستقبل الإسلاميين والتكيف الأيديولوجي

إن مستقبل الإسلاميين، وخاصة التيار الرئيسي، من خلال المنظور الأيديولوجي يمكن تحديده، على الأقل بما يحقق غاية هذه الدراسة وبما تسمح به، من خلال آليتين تجيبان عن سؤالين، الأول: ما قدرة الأيديولوجية الإسلامية على التعافي لاسيما بعد تجربتها المرة إبان الربيع العربي وهو ما يعني القدرة على التكيف؟ وما العناصر الأساسية التي ستكون فاعلة في التيار الإسلامي في مرحلة الانحسار، وتسهم في تحديد مستقبله؟

فبالنسبة للأولى ذات الصلة بالتكيف الأيديولوجي: فقد شهد الإسلاميون مرارًا تراجعًا في دورهم وضعفًا في خطابهم الأيديولوجي، لكنهم لا يلبثون أن يتعافوا وينهضوا مرة أخرى، وفق آلية متكررة ليست بعيدة عن نموذجهم الأيديولوجي، ووفق دورة من التجدد الديني والأيديولوجي، تعيد التأكيد على شرعية نموذجهم السياسي بتجديد “التوثيق” له، وبإعادة تكيف من خلال ملاءمة بشروط جديدة: بين فهمهم للسردية الإسلامية والواقع المستجد، ما يضمن الاستمرار في تغذية “خيالهم السياسي” وشحذ قوتهم الدينية “الناعمة”، لتلعب دورًا أساسيًّا وفاعلًا في مواجهة أي تحديات مقبلة أو المساهمة في رسم المستقبل.

ومن باب التمثيل فقط ويقاس عليه، نجد إعادة توثيق وتكيف بملاءمة جديدة في كتاب “دعاة لا قضاة” الذي ألَّفه المرشد الثاني لحركة الإخوان المسلمين، حسن الهضيبي؛ إذ لم يُعَدَّ إلا لمواجهة الرؤى التي كادت تتكرس في الجماعة في سياق المواجهة مع الرئيس، جمال عبد الناصر (1954-1970)، ونتيجة لكتابات سيد قطب (أُعدم عام 1966)، “معالم في الطريق” أو لما قد يفهم منها، مما يتصل “بقضية التكفير” والدعوة لمواجهة الأنظمة والمفاصلة معها: إيمان في مواجهة كفر، و”العزلة الشعورية” عن المجتمع. فهذه الأفكار كانت عبئًا على جماعة الإخوان، وكان لابد من مراجعة تعيد التأكيد على “ثوابت” الجماعة وأهمها أنها حركة “دعوية” وليست معنية بالحكم على الناس ولا حتى على الأنظمة بالكفر من عدمه، إضافة إلى تصويبات أخرى تضمنها الكتاب.

فهذه المراجعات هي جزء من دورة أيديولوجية أصبحت أشبه بالسمة لعموم التيارات الإسلامية وليس لتيارات الإسلام السياسي فقط، ويمكن التمثيل بالمراجعات للجهاديين في مصر(45)، وكذلك في ليبيا(46)، وسواهما. فالحركات الإسلامية تشهد نشاطًا في زمن التأسيس ومن ثم تراكم تجارب وقد تشهد قوة وازدهارًا، ولكن ما تلبث أن تشهد ضعفًا وتراجعًا خاصة إذا ما عجزت توجهاتها عن التلاؤم مع الواقع أو استيعاب تحدياته، ومن ثم تدخل بعدها في دوامة من النقد والمراجعة، وغالبًا ما تكون ذاتية وكذلك من الآخرين باحثين وخصوم وسواهم، وذلك إلى حين التهيؤ مرة أخرى لانطلاقة أخرى إذا سمحت الظروف. ولكن حتمًا في استفادة من “الأيديولوجيا الناعمة” نفسها التي تسمح بهذه الدورة، سواء لاستنقاذ نفسها من الاندثار وهذا الحد الأدنى، أو لتحقيق وثبة أخرى إذا ما اكتملت أسبابها ومن أبرز أمثلتها ما كان من التيار الإسلامي الرئيسي، في الثورات العربية وتحديدًا حركة الإخوان المسلمين.

فقبيل الثورات العربية من الشائع القول: إن الإسلاميين -وخاصة حركة الإخوان- كانت الأكثر تنظيمًا، ولكن كانت على حال من الضعف لا يؤهلها للوصول إلى الحكم بسبب الكبت والتضييق الذي لازم الحركة سواء في مصر أو سواها، إلا أنها بدفع من الأيديولوجيا الناعمة استطاعت بلوغ ما بلغته في ذروة نجاح الثورات، كما أن بقية الإسلاميين كانوا قد تأقلموا مع الواقع الجديد وأحدثوا تغييرات أو كانوا على استعداد لتغيير عميق جدًّا وسريع نسبيًّا، في رؤاهم الثقافية وبناهم التنظيمية والسياسية.

وبنظرة شاملة، نجد مثلًا أن حركة الإخوان في التسعينات وما بعدها انفتحت على الحوار مع القوميين والعلمانيين(47) وكل المخالفين لها في الداخل، فضلًا عن الحوار مع الخارج وخاصة الغرب، فانتهت أكثر تقبلًا لأفكار كانت تتحفظ عليها وتشكِّك بمدى ملاءمتها “للسردية السياسية الإسلامية” كما تفهمها، فانفتحت على القيم العالمية المتصلة بالحريات وحقوق الإنسان وقبلت الاحتكام المطلق وبلا شروط تقريبًا للصناديق والرهان على الديمقراطية كسبيل للتغيير(48)، وهو ما تعزز مع الانفجار التكنولوجي وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، فما أن أصبحت على احتكاك مباشر مع الجماهير نسبيًّا واكتملت ظروف “الربيع العربي”، إلا كان خطابها الجديد قد اكتملت صورته في نسق محدد له سماته التي تعكسها الأيديولوجيا الناعمة نفسها، أي الجمع بين السردية السياسية الإسلامية وقيم الواقع السياسي المستجد، التي من أبرزها حرية الاختيار، لأنها قرينة “البيعة” و”الشورى” في السردية الإسلامية.

ومن المهم التأكيد في هذا السياق على أن الملاءمة التي ينحو الإسلاميون نحوها، وخاصة الإسلام السياسي، ليست “تكتيكية أو نفعية” بل هي حقيقية، ويمكن القول: إن تكيف الأيديولوجيا الإسلامية مع الواقع بما فيه من منجزات علمية كالإنترنت والتطور التكنولوجي أو قبول الدولة الحديثة، يقوم على قبول الواقع والبناء عليه وفق “المنظور الديني”، فعملية التكيف الأيديولوجي -باستعارة عبارة الكاتب أندرو هيود (Andrew Heywood) (49) مع بعض التصرف-  هي “إعادة بناء الدين داخل حدود الحداثة” باعتبارها الواقع القائم. وبالموازاة، يعمل الإسلاميون أيضًا على “التكيف مع الحداثة (الواقع) من داخل حدود الدين”.

ولكن أحيانًا يأخذ التغيير طابعًا جذريًّا وبسرعة مفاجئة بما يشي بخضوع “الأيديولوجيا” لشروط الواقع، كما حدث إبان أحداث الربيع العربي؛ إذ إن التغير الأيديولوجي لدى الإسلاميين كان أثناءه أشبه بالقفزة، ومن كل الاتجاهات الإسلامية، ومنهم التيار الإسلامي الرئيسي، حيث صعد الجميع سلم التغيير السياسي “الدولتي” بلا تردد، متجاوزين القضايا الأخرى التي كانت تحتل أولوية في مناهجهم الدينية ورؤاهم السياسية وبرامجهم العملية، وكانت جزءًا من هويتهم السياسية.

فالإخوان المسلمون قدموا أولوية التغيير السياسي “الدولتي” على الإصلاح الديني والدعوي للمجتمع، وهذه الأخيرة كانت السمة الأبرز التي كانت تميزهم عن سواهم، فترشحوا مثلًا لقيادة السلطة في مصر، وأعطوا في بقية دول الثورات الأولوية المطلقة للمشاركة في قيادة البلاد سياسيًّا، لا بل قبل ذلك كله قبلوا بالثورة كسبيل للتغيير وكانت في أدبياتهم السياسية مرفوضة بالأساس -واللافت أنه لم يرد اعتراض واضح من قيادات الإخوان على الثورة بل على العكس (50) – وهكذا دواليك.

وعلى نفس المنوال، سار تنظيم القاعدة، فاعتبر الثورات العربية “السلمية” إحدى “الوسائل الشرعية” للتغيير حتى على لسان أعلى قياداته، وهو الذي كان يرى التغيير السلمي وهمًا، ودافَعَ نسبيًّا عن الرئيس المصري، محمد مرسي، رغم ما لهم من خصومة عقائدية مع الإخوان فضلًا عن الأيديولوجية، وكان موقف القاعدة هذا أحد أسباب مفارقة تنظيم الدولة لها، أو من المبررات التي تذرَّع بها لانشقاقه عنها.

وكذلك فعل التيار السلفي؛ حيث انخرط بكل مشاربه في العملية السياسية أو أصبح أحد الفاعلين فيها سواء بالرأي أو بالعمل وتجاوز ذاك الجدال الديني المعتاد منه حول كفر بعض الممارسات السياسية من عدمه، حتى إن التيار الغالب فيه كان يحرِّم المشاركة بالقطع في الانتخابات البرلمانية أو الانتماء للشرطة أو الجيش؛ وإذا به -على سبيل المثال في مصر- يرشح للرئاسة أو يقترع لها ولسواها من أجهزة الدولة، دون الإشارة المعتادة إلى كفرها.

هذه القفزة في الحقيقة ليست بعيدة عن إعادة التشكل الأيديولوجي لاسيما لاكتساب القوة الناعمة، فالإسلاميون لا يتمسكون ببعض “التصورات” أو “المعتقدات” فقط لاستمرارهم بالاعتقاد بها، بل لاستقرارها أحيانًا في بنائهم التنظيمي أو الأيديولوجي رغم تراجعهم عنها، ولكن لما يدركوا أنها سقطت تمامًا من ضمير الجمهور، أو يتيقنوا من تحجرها أو تحولها إلى معوق يحول دون تقدمهم في رسالتهم الأيديولوجية، فإنهم يتجاوزونها، وخاصة في المحطات التأسيسية الكبرى، ولكن بهدي أو تأويل مستمد من السردية الإسلامية نفسها. وبقدر ما تبدو هذه العملية وكأنها انتقائية إلا أنها تستند على “السردية الإسلامية” نفسها، التي تقبل التجديد بشروط دينية تعتقد الحركات الإسلامية أنها “تدرك” حدودها.

إن سمة التأقلم والتكيف الأيديولوجي مع ظروف الواقع قديمة وهي سمة أساسية في السردية الإسلامية نفسها، وربما يمكن تشبيه ما حصل في “الربيع العربي” أو في بعضه من حيث كونه تغييرًا مفاجئًا، وبوصفه محطة تأسيسية كبرى لما بعده، بما حصل في موضوع التدوين في صدر الإسلام مع بعض التحفظ حيث يجب، وهو من أبلغ الأمثلة وأقدمها. فمِمَّا بُني عليه الإسلام نفسه، هو انتقال تعاليمه من عصر الرواية الشفوية لأحاديث الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم إلى عصر التدوين رغم شيوع النهي عن تدوينه وكتابته، كما تقول المصادر الإسلامية نفسها. وممن نهى عن ذلك بعد أن استشار الصحابة في التدوين، الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ولكن حاجة الرسالة للامتداد والاستمرار وعدم الفتور وخشية الاندراس حتَّمت جواز كتابة الحديث بعد أن كرهه أو منعه الصحابة أو جمهورهم على الأقل، وعلَّل علماء المسلمين المنع بأسباب عدة منها خشية اختلاط القرآن بالسنة (51). والأهم من هذا جميعًا أن فعالية الحضارة الإسلامية وتوسعها كان على ارتباط بالتدوين نفسه، فمن بعد ذلك انتقلت تعاليم الإسلام وإرثه من بيئة كانت متلائمة مع الرواية الشفوية إلى بيئات التدوين، وهو العالم الأوسع.

ومن الأمثلة المعاصرة والمفيدة في هذا السياق، أن التيارات السلفية الجهادية، ذات الطبيعة الفقهية المحافظة جدًّا، كانت تحرِّم صور كل ذي روح في إعلامها بناء على فتوى التحريم وأدلتها على ذلك شائعة، وهي سمة أساسية كانت تميزها عن بقية الإسلاميين، وكانت تُصدر مجلاتها خلال سنوات مشاركتها لاسيما الأولى منها، في “الجهاد الأفغاني”، بصور لأسلحة وجبال وما يشبه ذلك فقط (52)، وتحت عنوان الحاجة إلى الصورة للحث على الجهاد وما إلى ذلك من مبررات وضرورات ليس هنا مجال بحثها الفقهي. تحولت كل التيارات السلفية، الجهادية منها وحتى غير الجهادية، إلى جواز تصوير كل شيء دون تمييز، ويكاد لا يُسمع لمعترض ذي أهمية صوتًا.

ويمكن ملاحظة هذه السمة وبالذات في التيار الإسلامي الرئيسي، في التحول والتغير في كثير من القضايا مؤخرًا، فمنها مما يتصل بالمرأة والموسيقى والعلاقة مع غير المسلمين، ومزيد من المرونة في قضايا حرية التعبير وحقوق الإنسان وما إلى ذلك. وقد يكون لهذا التحول حدود وقيود وأطر تحدده، لكن المراد أن الأيديولوجيا الإسلامية تملك القدرة على التكيف، وهو ما قد يأتي على غير توقع أحيانًا.

ولكن يبقى التيار الإسلامي الرئيسي، هو الأكثر استفادة من هذه المحطات خاصة لو تكررت، وعلى مستويين: فعلى المستوى الأول، هي توفر له الفرصة لمزيد من الملاءمة ما بين النص والواقع، وسيقابل بمباركة من عموم الجمهور، لأنه يصنع التغيير بيديه ويدرك حقيقة الحاجة إليه ومقاصدها، فخلال الربيع العربي مثلًا، تكرست مسألة الحريات أكثر من ذي قبل ولم تواجَه صناديق الاختيار وفق الطريقة الديمقراطية بالإنكار، وتراجع التحفظ عليها المقترن بتكفير بعض أشكالها أو اعتباره غزوًا غربيًّا. وعلى المستوى الثاني، فإن هذه المحطات قد تدفع بتيارات أو حركات إسلامية أخرى باتجاه التيار الإسلامي الرئيسي، وهو ما حصل ما بين شرائح سلفية واسعة مع الإخوان، حيث وصلوا إلى الحكم والبرلمان بتحالف واسع ضم الطرفين إلى جانب آخرين. حتى القاعدة نفسها سلَّمت بمبدأ التغيير عبر الشارع.

أما بخصوص السؤال الثاني، ماذا بقي من “الإسلام السياسي” بعد الانحسار؟ فإنه وفقًا للسلم الأيديولوجي، وما تتضمنه هذه الأخيرة من قوة ناعمة، فإن التيارات الإسلامية إذا ما فقدت فعاليتها السياسية فإنها ستعود مرة أخرى للبحث عن ملاءمة جديدة كل في مجالها، وفي الأثناء ستتمسك بالأصل الذي يقرر شرعيتها، وهو ما يحصل في الوقت الراهن. وليس من المتوقع أن يخرج الإسلاميون من هذه المتوالية نحو فضاء أرحب أو أن يخرجوا من المشهد السياسي لاسيما العربي، إلا إذا حصلت في التيارات الإسلامية تحولات جذرية وفي هويتها التنظيمية والأيديولوجية، أو أن يحدث تحول كبير في المجتمعات العربية نفسها.

ولكن قبل الحديث عن الإسلام السياسي، يمكن إيراد ملاحظات لا يمكن القفز فوقها وسيكون لها تأثيرها على عموم الإسلاميين وستشكِّل تحديًّا للتيار الإسلامي الرئيسي، أبرزها:

أولًا: أن تنظيم الدولة عمليًّا لم يعد جهاديًّا بإعلانه الخلافة وهو حتمًا لا ينتمي لأي تصنيف ضمن بقية التيارات الإسلامية ويشكل نموذجه الخاص، وليس من المتوقع أن يستعيد فعاليته (الموصوفة سابقًا) لا بل تتعرض أُسس شرعيته وشرعية “الخلافة” التي أقامها للتشكيك، بسبب اعتماده على العنف المفرط ضد حاضنته فضلًا عن جمهوره ومؤيديه ولأسباب أخرى.

وهذا بدوره سيترك تأثيره على التيارات الجهادية، لاسيما تنظيم القاعدة، لأن “تنظيم الدولة” تناسل منها ونشأ في منظومتها الفكرية والشرعية، وهذا سيضع “العنف” الذي قد تمارسه القاعدة أو ما يشبهها من تنظيمات، محل تشكيك أو فحص من الجمهور من حيث كونه جهادًا، وستواجه صعوبات أكثر من ذي قبل مع الجمهور، ما خلا في ذلك المتعلق بـ”جهاد الدفع” أي لرد الاعتداءات عن المسلمين ودفاعًا عنهم، لأنه الأقرب للتطابق مع السردية الإسلامية والفقه التقليدي. وتواصلًا مع هذا الأخير “جهاد الدفع”، ستركز القاعدة -لتتفادى التشكيك بشرعية “جهادها”- على أن الاعتداء موجود بالفعل وفي كل بلاد المسلمين وأن “الأمة” أصلًا تواجه “حربًا صليبية صهيونية” بالفعل، وستحاول إقناع الجمهور بذلك، وفعلت ذلك سابقًا. ولكن بنفس الوقت ستستعيد خطابها الناقد بشدة لحركة الإخوان المسلمين وتحميلها وزر النتائج السلبية التي انتهت إليها تجربة “الثورات العربية” سواء في مصر أو في بقية بلدان الثورات، لتعيد ترميم أيديولوجيتها بعيدًا عن “الإخوان” بعد ما أصابها نتيجة مهادنتها لهم خلال مرحلة “الثورات”(53).

ثانيًا: أن التيارات السلفية، وجدت نفسها بعد الثورات العربية أمام مفترق طرق، فبعضها وجد نفسه ملزمًا بالبحث عن تسوية مع الواقع وعن ملاءمة جديدة ومؤثرة، وهي لم تملك سابقًا هذا السؤال فقد كانت تحتمي بالمنجز السعودي، الذي أغناها عن ذلك، حيث دولة عصرية تحكم بالشريعة. ودخل على وجه التحديد التيار السلفي المركزي في السعودية، في عملية أشبه بتطهر ذاتي من تيارات سلفية أخرى، وتحديدًا من السلفية الصحوية وأحيانًا تحت شعار محاربة الإخوان المسلمين، مع المبالغة في التشديد على “طاعة أولياء الأمور”، وهي سمة السلفية المدخلية أكثر من سواها، لأنها -أي “الطاعة”- تتقدَّم في خطابها للملاءمة مع الواقع حتى على إقامة الحدود التي هي أكثر توثيقًا وشرعية بالنص بخلاف الأخرى. يتميز التيار المدخلي بأنه عابر للحدود ومن ذلك مثلًا انحيازه للجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، في صراعه ضد الحكومة الليبية المعترف بها دوليًّا، وذلك رغم أن حفتر ليس “ولي أمر” حتى بأدنى المعايير المدخلية، لكن الموقف المدخلي يستبطن الطاعة للمركز السعودي؛ حيث يرى ملاءمة في “ولاية الأمر” هناك، النموذج والمركز الذي يجب أن يحتذى، وبالتالي إذا تغيَّر موقف المملكة من حفتر تغيَّر موقفه (54). في هذا السياق، يمكن فهم انخراط التيار المدخلي في محاربة حركة الإخوان المسلمين على مستوى الإقليم، وهو يعتمد على مفهوم “الطاعة لولاة الأمر” الذين خرجت عليهم الحركة إبان الربيع العربي، كمبرر للحد من نفوذها على الأقل في المجال السياسي السعودي، على امتداد العالمين العربي والإسلامي.

ولكن ليس من المرجح أن تنقطع الصلة بين السلفية في السعودية، لاسيما غير الرسمية، والإخوان المسلمين. وتفصيل ذلك أن التحولات الأخيرة التي شهدتها المملكة سواء على الصعيد الديني أو السياسي، أعطت رسالة أنها لم تعد تمثِّل هذا المركز لبعض التيارات السلفية (ليس كلها بالطبع)، وهذا يعني أنه يتعين على هؤلاء أن يجدوا إجابتهم في استقلال نسبي عن المملكة وفرصته للنمو ستكون خارجها أكبر. ويأتي على رأس هؤلاء التيار السلفي الصحوي(55)، لما يتشاركه تاريخيًّا من سمات مع حركة الإخوان أو مع من يدور في فضائها من الناحية الفكرية، وبسبب من تاريخه ومساره السياسي في رفض التحالف مع الغرب ضد دول عربية وإسلامية كما هو شأنه في التسعينات، حيث كان هذا التيار يرفض الاستعانة بالقوات الأميركية في حرب الخليج الثانية. وبسبب هذا التيار السلفي وأمثاله أو من يشبهه حتى من الشخصيات المستقلة، فإن الصلة بين التيارين قد تتعزز بدلًا من أن تضعف، وسيكون التيار الصحوي عند تراجع الخصومة هو الجسر الذي يصل بين الاثنين، بين تيارات الإسلام السياسي وبقية التيارات السلفية. وعلى الصعيد الرمزي وما تتميز به التيارات السلفية من حرص على النص أو على إعماله في الواقع فإن تيارات الإسلام السياسي ستتعزز قوة أيديولوجيتها الناعمة بالمقابل.

خاتمة

بالعودة لحركة الإخوان المسلمين فهي إضافة إلى ما سبق، أمام تحديات من حيث تعزيز أيديولوجيتها الناعمة أو من حيث تأثير الأخيرة على مستقبلها، ويمكن إجمالها في:

أولًا: أثبتت تجربة الربيع العربي أن التيارات الإسلامية تمتلك من التناقضات خاصة حين الاختلاف بين بعضها بعضًا، ما يفسد من قدرة قوى “الإسلام السياسي” على التلاؤم مع الواقع السياسي، أو يعرقل قدرتها على التطور بالتوازي مع المحافظة على قوة التوثيق الديني لمقولاتها الرئيسية، لأنها تستهدف أساس أيديولوجيتها الناعمة، أي خطابها الديني وبالتالي تضعف شرعيتها. كما هي خصومة التيار السلفي أو الجهادي لها، وهذا فضلًا عما تتعرض له قوى “الإسلام السياسي” من تحديات سياسية محلية أو إقليمية أو دولية سواء لاستهدافها لذاتها، أو في سياقات أخرى كما هو الشأن في سياق الربيع العربي.

فحركات “الإسلام السياسي” تحديدًا باتت تدرك أنها معنية بتعزيز شرعيتها من “النص”، بما يتجاوز الاجتهادات التقليدية المتصلة بالشأن السياسي في السردية الإسلامية، وفي المرحلة الراهنة لا يبدو أنها تملك مراجع علمية معتبرة، خاصة في إطارها التنظيمي، وإن كانت تعتمد على آخرين من الفقهاء المعتبرين ومن خارجها في قضايا عامة، أمثال الشيخ يوسف القرضاوي.

من المؤكد أن الإخوان سيواصلون تعزيز شرعية وجودهم السياسي من خلال التأكيد مجددًا على “وجوب الدعوة” كوظيفة دينية اجتماعية وسياسية، تتطابق مع النص الديني، التي كانوا قد أوجبوا معها مجموعة من الإجراءات التنظيمية مثل “الحلقات الدعوية” أي التثقيف الدعوي، و”البيعة” أو ما يشبهها من صيغ التعاقد، و”السمع والطاعة” للجماعة، و”الإصلاح السياسي”، وسواها (56). وهذه موثقة توثيقًا عاليًا ومباشرًا من النص الديني، وستكون هذه الأكثر استعصاء في أيديولوجيا الإسلام السياسي، في مواجهة محاولات استئصالها وإلغائها، ما يعطي الجماعة قوة على الاستمرار والصمود، وإن كانت بعض الإجراءات المتصلة بهذه الأيديولوجيا قابلة للتغير. لهذا ارتفعت أصوات إخوانية بعد تراجع المد الثوري للمراجعة، ودعت لالتزام “الدعوة” كما كان الشأن قبل الثورات، أي العودة إلى الملاءمة بين الدعوي والسياسي ولكن مع تقديم الأولى ودون الانخراط في سياسات تغيير الحكم. ويبدو أن بعض الانشقاقات التي شهدتها الحركة الإسلامية في الأردن على سبيل المثال استحضرت مثل هذه الآراء (57). لكن هذا الاتجاه هو الأقل حضورًا راهنًا ويبدو أنه في طور الانحسار.

ثانيًا: من الواضح أن حركات الإسلام السياسي عامة، باتت تدرك حاجتها لشرعية أخرى أكثر من الشرعية الدينية لتكون جزءًا من قوتها الناعمة، فهي منذ النشأة تسعى للتغيير في العصر الذي تعيشه عبر أدواته، أي من خلال الطرق السياسية، كالبرلمان والعمل الحكومي وما إلى ذلك بغية تطبيق الشريعة في الدولة الحديثة. وما تغير أنها بعد الربيع العربي، باتت تعتمد على الإنجاز السياسي بقدر أكبر من السابق، وأخذ يتعزز الاعتقاد لدى شرائح واسعة في “الإسلام السياسي” بأن الدور الديني فيها تضخَّم على حساب غيره وأكثر مما تدعو له الحاجة، أو للحاجة الماسَّة فيها لأدوار أكثر تخصصية كما هي الدعوات راهنًا، لاسيما تلك المتصلة بالأدوار السياسية والتنظيمية (58). ولهذا أخذت تتصدر حركات “الإسلام السياسي” دعوات لفصل السياسي عن الدعوي، وبادرت “حركة النهضة” إلى تسريع تحولها من جماعة إسلامية نهضوية شاملة ترى في تغيير المجتمع سبيلًا لتغيير السلطة إلى حزب سياسي يعترف بالدولة الحديثة ككيان شرعي لممارسة التغيير أو رعايته، وهو ما انتهى إلى إعلان الحركة فصل العمل السياسي عن الدعوي من باب تخصصها بالأول -وترك الأخير للمجتمع المدني- ولتصبح الدولة هي المطلب الأول والأولوية القصوى للعمل السياسي لهذه الحركات، وهو ما تختصره إحدى تصريحات راشد الغنوشي عند حديثه عن مؤتمر حركته العاشر (عُقد في مايو/أيار 2016) وما يحمل من تغييرات: “نريد أن ننتقل من جماعة غلب على منهجها الاحتجاج إلى حركة تقود الدولة وتؤسس فكر الدولة. نريد لهذا المؤتمر أن يقدم رسالة واضحة أن تاريخ الصراع مع الدولة قد انتهى”(59). وهذا الإجراء، بغض النظر عن طريقة تطبيقه، سيصل صداه إلى كل التنظيمات المحسوبة على التيار الإسلامي الرئيسي، وفي كل الدول، ولكن ستعوزه الملاءمة المناسبة ليكون جزءًا من أيديولوجيتها الناعمة، لأنه لا يحظى بتوثيق عال من النص على أنه جزء مباشر أو على صلة مباشرة بواجبات المسلمين الدينية اليومية، وإن كان لا يخرج عنها. وهو تحد سيعيد الإسلاميين إلى المربع الأول، إلى البحث عن فقهاء لديهم القدرة على الاستفادة من القفزة التي حققوها على صعيد ثورات “الربيع العربي” لتأسيس منظومة سياسية جديدة ذات صلة مباشرة بالسردية الإسلامية في وعي الجمهور، وذلك بانتظار فرصة جديدة لقفزة أخرى نحو “الفعالية السياسية”.

ثالثًا: على الرغم من حاجة حركة الإخوان المرحلية إلى الفصل التام بين “الدعوي والسياسي” لصالح الأخير، وعلى الرغم من قوة مؤيدي هذا التوجه، إلا أنه يبدو من الصعب أن تلجأ إلى هذا الخيار، لأن التخلي عن “الدعوة” كأساس لأيديولوجيتها يعني التخلي عن أساس قوتها الناعمة والتخلي عن تأييد أصل ديني “لدعوتها” فضلًا عما يعنيه ذلك من التخلي عن الإرث والتكيف التاريخي للحركة مع هذا الأصل الذي يكاد يساوي جوهر وجودها. فالأقرب إلى حركة الإخوان المسلمين بشكل عام أن تتجه نحو مزيد من التمييز ما بين “الدعوي” والسياسي” تنظيميًّا دون أن تتحدد صورته النهائية على الأقل في المنظور القريب، وهو جزء من المراجعات التي تعصف بالحركة وفروعها، لأن هذا التوجه الجديد يتطلب من الحركة جهدًا جديدًا لملاءمة جديدة أكثر صعوبة من ذي قبل، ولأنه سيعيد الحركة إلى مناقشة علاقة الديني بالسياسي مرة أخرى، ولكن من منظور نقاش: إسلامي/إسلامي حول كيفية الملاءمة بين الدين والسياسة في الواقع الراهن -وليس نقاش إسلاميين في مقابل علمانيين أو قوميين- وسيعتمد على تأويل النصوص أو تحقيق مقاصدها وهو منحى أصبح واضحًا في معظم إنتاج الإسلاميين في الفترة الأخيرة، وستجد الحركة نفسها مضطرة لأن تبرر نفسها أمام جمهورها أو لتوعيته فضلًا عن جمهور المسلمين بارتباط مجموعة من القيم الحديثة بالدين ارتباطًا ضروريًّا ومباشرًا، كالحريات وحقوق الإنسان والمواطنة ومقاومة الاستبداد وما يشبهها، في حين أن القوى الأخرى ستراها تنازلًا من الإسلاميين لصالح توجه لطالما نادوا به، سواء من الليبراليين أو اليساريين وسواهم، ولكن بمعزل عن الدين.

إن ملاءمة هذه القيم مع الدين في بيئات أكاديمية أو حتى لدى جمهور الإسلاميين يبدو ممكنًا وأحيانًا قد يكون مهمة سهلة، ولكن حتى تصبح جزءًا من أيديولوجيا الإسلاميين الناعمة فلابد أن تكون على صلة مباشرة بدلالة النص وبتأييد من السردية الإسلامية، وأحيانًا تبدو هذه المهمة صعبة عندما يراد تقديمها لعموم المسلمين، إلا أن ما يخدمها أنها ارتقت خلال الربيع العربي وثوراته الشعبية أكثر من ذي قبل إلى كونها مشتركات إنسانية تحقق مقاصد الشريعة، لكنها لم تصبح مسلَّمات و”إجماعًا” لدى المجتمعات الإسلامية.

وفي الختام، هذا لا يمنع بل يؤكد أن التغيير “الدولتي” في سياق الدولة القُطرية، سيتعزز أكثر لدى حركة الإخوان المسلمين وما يشبهها، فهي لأول مرة تدفع ثمنًا كبيرًا وبوضوح من أجل المحافظة على سلطة شرعية في دولة قطرية -دولة المركز مصر- أو بسببها، فالقتل الذي تعرضت له الحركة وأنصارها في “ميدان رابعة” (14 أغسطس/آب 2013)(60)، وما رافقه أو تلاه من اعتقالات لرموزها ولرئيس شرعي منتخب ويمثلها، فضلًا عن انخراطها في عموم ثورات “الربيع العربي”، أصبح جزءًا من رؤية الحركة ومن هويتها الجديدة التي هي قيد الصياغة، وسيسهم في تكريس شرعية الدولة العربية الحديثة في خطابها الإسلامي، وقد يصبح مفهوم “الخلافة” بالنسبة إليها واقعة تاريخية ذات قيم مُلْهِمَة أو حاكمة أكثر مما هو حقيقة دينية واجبة الوجود بذاتها.

ومن الواضح أن مسار الإسلاميين بعد الربيع العربي لن يكون مثل ما قبله، ستسعى عموم القوى الإسلامية من غير الإسلام السياسي لتعزيز ما تظنه يشكِّل قوة ناعمة لأيديولوجيتها، وستبحث عن الرواية التي تتلاءم معها رفضًا أو قبولًا، وستصوِّب على “الإسلام السياسي”، لأنه اعتاد أن يستفيد من تراجع سواه حتى وهو يتراجع، ولكن ينتظر الجميعَ بلا استثناء مسار من المراجعات.

الأقرب أن يحتفظ الإخوان بالدعوة كأساس لحركتهم وأن يتأوَّلوا الفصل الذي يقصدونه وهو أسهل من أن يتأوَّلوا النص لأساس جديد لأيديولوجيتهم الناعمة خاصة في هذه المرحلة، وسيسعون لأن تكون قيم “الربيع العربي” هي التفسير السياسي لها، لما دفعوه من ثمن، وسيدفعون ثمنًا إضافيًّا لتأكيدهم على أنهم في صراع بين ثورة وثورات مضادة، لاسيما أن العالم العربي يشهد ما قد يسمى “الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي”، أي “الحراك” السوداني والجزائري، وهذه الأخيرة ستكون الاختبار الأهم للتيار الإسلامي الرئيسي، لأن فعاليته السياسية التي جاءت بها موجة الثورات الأولى، تكرست بالصناديق وخطاب الحريات ولا تزال سارية، لكن هذا التيار لم يتصدر المشهد مرة أخرى بعد.

المراجع

(1) وجَّه الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، في الرابع من يونيو/حزيران 2009، خطابًا إلى العالم الإسلامي. يمكن الاطلاع على “نص خطاب باراك أوباما في القاهرة”، في موسوعة الجزيرة، الجزيرة نت، دون تاريخ، (تاريخ الدخول: 9 أبريل/نيسان 2018):

 https://bit.ly/2Jhlt7m

(2) كشف تحقيق في نيويورك تايمز عن تواطؤ للرئيس، باراك أوباما، مع دول عربية في الانقلاب على الرئيس المصري محمد مرسي. انظر:

Kirkpatrick, David, “The White House and the Strongman”, Nytimes, 27 July 2018, (Accessed on 9 April 2019):

(3) تعهد فيه أن يمحو “الإرهاب الإسلامي المتطرف” عن وجه الأرض. انظر خطاب ترامب في القدس العربي، “نص خطاب ترامب: أميركا أولًا… والقواعد الرئيسية لسياساتنا الولاء التام للولايات المتحدة”، 20 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 9 أبريل/نيسان 2018):

https://bit.ly/2I84zHa

(4) من أمثلته، عقد مؤتمر في الأردن في مايو/أيار 2018، تحت عنوان: “ما بعد الإسلام السياسي: الشروط، السياقات والآفاق”، بدعوة من مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية ومؤسسة فريدريش أيبرت في عمَّان. انظر: صحيفة الدستور الأردنية، “انطلاق أعمال مؤتمر ما بعد الإسلام السياسي”، 2 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

http://bit.ly/2UKMRjr

(5) مقابلة عبر الهاتف مع الدكتور بشير نافع، مؤرخ وخبير في الشؤون العربية، في 22 أبريل/نيسان 2019.

(6) يقول وائل حلاق، في مقدمة كتابه “الدولة المستحيلة”: إن المنطقة ولمدة اثني عشر قرنًا، “كان القانون الأخلاقي للإسلام، المعروف باسم الشريعة، ناجحًا في التفاعل مع المتعارف عليه والأعراف المحلية السائدة” أي هو السائد فيها طبيعيًّا. ويقول أيضًا: “تظل الشريعة مصدرًا للسلطة الدينية والأخلاقية عند الغالبية العظمى من المسلمين اليوم”. انظر: حلاق، وائل، الدولة المستحيلة، ترجمة عمرو عثمان، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2015)، ط 2، ص 19-20.

(7) اعتمدت الدراسة في التأكيد على هذه الثوابت في فهم السياق التاريخي لتيارات “الإسلام السياسي”، بالاقتباس مع تصرف، من ورقتين غير منشورتين، باللغة الإنجليزية، للدكتور بشير نافع، إضافة إلى مقابلة عبر الهاتف، في 22 أبريل/نيسان 2019.

“Islamic Contemporary Movements and Islamic Political Parties Introductory Remarks on the Origins, Expressions and Trajectories of the Islamic Political Forces”.

(8) انظر: سرحان، باسم، طرائق البحث الاجتماعي الكمية، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017)، ط 1، ص 54.

(9) السردية كمصطلح، هي للدلالة على ما به يكون الخطاب سردًا، والسردية هي ظاهرة تتابع الحالات والتحولات الماثلة في الخطاب والمسؤولة عن إنتاج المعنى. والمراد بالسردية الإسلامية -كما يقصدها الباحث هنا على وجه التحديد- هي التي تعنى بدلالة النصوص والأفعال السردية، في تعاقبها ودلالاتها، ويشكِّل إطارها الزمني الإسلام نفسه كنص واجتهاد وممارسة. أما مركزها المتصل بالسياسة “الشرعية” كما يدركها الإسلاميون فهو الدولة الإسلامية التاريخية، حيث الحاكم الواحد والدولة الواحدة لكل المسلمين، وما نتج عن ذلك من إرث أو اتصل به من تراث فقهي وفكري وتاريخي وقيمي وسوى ذلك من العلوم الدالَّة عليه. للتوسع، راجع: شقير، شفيق، أطروحة السياسة الشرعية في غياب راعي الرعية، (بحث لنيل درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، شعبة القانون والفقه وأصوله، كلية الدعوة الجامعية للدراسات الإسلامية، 1439 هـ-2018)، ص 26-27. وانظر أيضًا: مشاورة، عثمان، “في مفهوم السردية ومكوناتها”، جريدة الخليج، 21 مايو/أيار 2012، (تاريخ الدخول: 17 أبريل/نيسان 2019):

 https://bit.ly/2EzQ2lU

(10) خبير في الشأن السياسي، وكاتب عمود في صحيفة “زمان” التركية.

(11) Aktay, Yasin, “The “Ends” of Islamism: Rethinking the Meaning of Islam and the Political”, Insight Turkey, (Volume 15, Number 1, Winter 2013), p. 114, (Accessed on April 9, 2019):

 https://bit.ly/2VvOgqw

(12) الترجمة العربية لتعريف تركونة المعتمد في الدراسة مأخوذة من الدكتور محمد عفان، الوهابية والإخوان: الصراع حول مفهوم الدولة وشرعية السلطة، (جسور للترجمة والنشر، بيروت 2016)، ط 1، ص 67.

(13) المرجع السابق، ص 67-68.

(14) المرجع السابق، ص 66.

(15) ينتمي مفهوم القوة الناعمة في الأصل إلى مجال العلاقات الدولية، وأول من استخدم المصطلح وصاغ أطره هو الباحث الأميركي، جوزيف ناي، الذي عمل مساعدًا للرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون. انظر: حسين باكير، علي، مستقبل الصين في النظام العالمي: دراسة في الصعود السلمي والقوة الناعمة، (أطروحة جامعية غير منشورة مقدمة إلى الجامعة العربية في بيروت، كلية الحقوق والعلوم السياسية)، ص 96 وما بعدها.

(16) See: Nye, Joseph. S. The Paradox of American Power: Why the World’s Only Superpower Can’t Go It Alone, (Oxford University Press, New York, 2002), pp. 8-12.

Nye, Joseph, “The Benefits of Soft Power”, Harvard Business School, 8 February 2004, (accessed on 10 April 2019):

 https://hbs.me/2GGAr4i

(17) يمكن العودة إلى تعريف “الخيال السياسي” كما قدَّمته الدكتورة هبة عبد الرؤوف، حيث الارتكاز على النص جزء من رؤية الإطار المعرفي أو كما يسميه جيرار جينيت (Gérard Genette) “النص المعماري” أي النص المرجعي الأم، أو النص الماورائي الأعلى الذي لا يمكن فهم النص المحدد من دون النظر في مرآة النص “الماورائي”. للتوسع راجع: عبد الرؤوف، هبة، الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بعدها، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت 2015)، ط 2، ص 71.

(18) المرجع السابق، ص 71-72.

(19) يرجع كارل غوستاف يونغ “شيوع اللاشعور الجمعي إلى تشابه العقل في جميع أجناس البشر ويعود هذا التشابه إلى التطور المشترك”. ويونغ طبيب نفسي سويسري (1875- 1961) اشتهر بنظريته حول “اللاوعي الشعوري”. حول التعريف بكارل غوستاف ونظريته، انظر الموسوعة العربية، (تاريخ الدخول: 10 أبريل/نيسان 2019):

  http://arab-ency.com/detail/10119

(20) أي الحديث النبوي وما يُروى عن الصحابة والتابعين.

(21) لم يثبت أن تبويب صحيح مسلم هو من صنيعه، ولكن ما تحت هذا الباب من أحاديث تتسق معه قطعًا.

(22) تابعي وأحد الأئمة في علم الحديث كما في سواه، توفي عام 110 للهجرة.

(23) انظر: مقدمة صحيح مسلم. صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، (دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1991)، ج 1، ص 14.

(24) انظر الحديث في موقع إسلام ويب، موسوعة الحديث الشريف، مسند الإمام أحمد، رقم الحديث: 21582، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2019):

 https://bit.ly/2OqKfB1

(25) حول إشكالية الفجوة بين ما يعيشه المسلمون وما يتطلعون إليه من قيم أخلاقية دينية. انظر: حلاق، وائل، الدولة المستحيلة، مرجع سابق، ص 30 وما بعدها.

(26) رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ويكي إخوان، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2019):

 http://bit.ly/2GMIuw1

(27) هناك كتيب صغير، يشكِّل نموذجًا عن أهمية “الدعوة” وكأساس في حركة الإخوان المسلمين، ويُعتقد أن مؤلفه الحقيقي هو عبد الله عزام. للتوسع، راجع: أمين، صادق، الدعوة الإسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية، (دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، مصر، بدون تاريخ).

(28) البيعة المطروحة لدى الإسلاميين هي بيعات خاصة دون بيعة الخليفة، الإمام الأعظم.

(29) يمكن العودة لرسائل حسن البنا، وفيها وصف لـ “دعوة الإخوان”، ومشحونة بمعان صوفية وسياسية وجدانية وفكرية.

(30) يجتمع على وصف الإخوان بهذا الوصف “الجهاديون” وبعض “السلفيين”. وقد استعمل أسامة بن لادن في تسجيل له هذا الوصف في سياق انتقاده تلك “الجماعات الأخرى (ويقصد الإخوان) التي تضخم عندها الحذر حتى وصل إلى درجة الخوف المُقعد عن القيام بالجهاد”. انظر: قناة الجزيرة، ما وراء الخبر، متابعة لكلمة أسامة بن لادن في 20 مارس/آذار 2008، (تاريخ الدخول: 25 مارس/آذار 2019):

https://bit.ly/2V6c3N4

(31) انظر: شقير، شفيق، “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 26 أبريل/نيسان 2019):

  http://bit.ly/2Vqv4h1

(32) انظر: فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز حول الجهاد في أفغانستان، الموقع الرسمي لابن باز، (تاريخ الدخول: 27 أبريل/نيسان 2019):

http://www.binbaz.org.sa/noor/2871

(33) هناك تفسيرات للسلفية وحتى للوهابية في سياق مختلف قد تتجاوز هذ النمط موضوع المناقشة.

(34) لأن الواقع الذي جاءت الحركة الوهابية لتواجهه كان يستدعي ذلك برأيها، يصف ابن غنام، حال المسلمين في حديثه عن نجد: “أكثر المسلمين -في مطلع القرن الثاني عشر الهجري- قد ارتكسوا في الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية…”. انظر: الشيخ الإمام حسين بن غنام، تاريخ نجد، حرره وحققه ناصر الدين الأسد، (دار الشروق، بيروت، 1994)، ط 4، ص 13 وما بعدها.

(35) ينفي رموز التيار السلفي، لاسيما الشيخ عبد العزيز بن باز، خروج الشيخ محمد بن عبد الوهاب على الدولة العثمانية، وبغضِّ النظر عن هذا النقاش، فإن الحركة الوهابية استطاعت النهوض بشرعيتها الخاصة دون الحاجة أو الاعتماد على شرعية الخلافة العثمانية التي كانت قائمة آنذاك. حول رد التيار الوهابي على “شبهة خروج الشيخ على دولة الخلافة”، انظر: عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف، دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عرض ونقد، (دار طيبة للتوزيع والنشر، الرياض، 1989)، ص 233 وما بعدها.

(36) يذهب عبد الله العروي في كتابه “مفهوم الأيديولوجيا” إلى القول بأن “لفظة الدعوة” لعبت في العلوم الإسلامية دورًا محوريًّا مثل كلمة أيديولوجيا. راجع: عبد الله العروي، مفهوم الأيديولوجيا، (المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012)، ط 8، ص 9.

(37) فتوى ماردين لابن تيمية مثلًا، في التمييز بين دار الحرب ودار الإسلام، قال بأنها دار ثالثة وفيها من الدارين. شكَّلت الفتوى نموذجًا متقدمًا للإسلاميين ليحكموا على شرعية الواقع السياسي القائم راهنًا.

(38) لم يحظ كتابه هذا بالاحتفاء كما هو الشأن مع فتاويه، إلا أن روح الأخيرة كانت من هديه، تجيب على أسئلة تعتبر نسبيًّا شبيهة بواقع التيارات الإسلامية المعاصر ولو ببعض التصرف والقياس.

(39) من شدة حرص الإسلاميين على تأكيد أهمية الدولة الإسلامية شرعيًّا، فإنهم قد يعترضون حتى على استخدام بعض المصطلحات العلمية الإسلامية إذا كانت تعكس تقليلًا من أهميتها. من أمثلة ذلك مؤخرًا، أن رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أحمد الريسوني، قد أثار جدلًا كبيرًا بسبب مقالة كتبها تحمل عنوان: “مستقبل الإسلام بين الشعوب والحكـام”، اعتبر فيها الدولة الإسلامية من الفروع، ورأى أن بعض الإسلاميين يبالغ في مكانتها من الإسلام. فجاءت عدة ردود بالمقابل، ومن ثم أوضح مراده. انظر: موقع رابطة أهل السنة، 13 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 27 أبريل/نيسان 2019):

http://bit.ly/2PxiKX7

وكمثال على أحد الردود، انظر: أبو الورد، فتحي، “مساحات الاتفاق والاختلاف في مقال الريسوني”، الجزيرة مباشر، 20 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 27 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2PAyKaL

وانظر أيضًا توضيح الريسوني في موقع “الإسلاميون”، 28 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 27 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2GQ1Ujz

(40) راجع: رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، مرجع سابق. وانظر أيضًا: بلقزيز، عبد الإله، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004)، ط 2، ص 126.

(41) حول تعريف السلفية المدخلية ومن تنسب إليه، انظر: “المدخلي سلفي سعودي هاجم الإخوان وعارض الربيع العربي”، موسوعة الجزيرة، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

http://bit.ly/2VB9fvC

المَداخِلة.. ولاء للسلطة وحرب على التيارات الإسلامية، موسوعة الجزيرة، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2IIR3cq

(42) انظر: شقير، شفيق، “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية أو تيار ما بعد الجهادية”، في تنظيم “الدولة الإسلامية”: النشأة والتأثير، والمستقبل، مجموعة من المؤلفين، تحرير فاطمة الصمادي، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2016)، ص 44 وما بعدها.

(43) مقابلة الباحث مع بشير نافع، مرجع سابق.

(44) انظر: شقير، شفيق، “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (تاريخ الدخول: 26 أبريل/نيسان 2019):

  http://bit.ly/2Vqv4h1

(45) بدأت المراجعات مع الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد المصريين، وكبرت ككرة ثلج وتحولت إلى نقد قاس لتنظيم القاعدة. انظر: على سبيل المثال مراجعات سيد إمام عبد العزيز الشريف “المعروف بالدكتور فضل” بنقده للقاعدة في “وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم”، ورَدَّ عليها الظواهري بكتاب: “التبرئة: تبرئة أمة السيف والقلم من منقصة تهمة الخَوَر والضَّعف”. ثم ردَّ سيد إمام على الرد بـ”مذكرة التعرية لكتاب التبرئة”، ونشرتها صحيفة الشرق الأوسط عام 2008 على حلقات. انظر: الشرق الأوسط، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2008، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

 https://goo.gl/zhqInH

(46) قامت مجموعة من الجماعة الليبية المقاتلة، ومنهم عبد الحكيم بلحاج، بإجراء مراجعة شاملة، وكانت على طريقة كتاب الهضيبي من حيث الغاية، ولم تتعرض لقضايا تنظيمية بل لمسائل ومفاهيم فقهية تعتبرها أساس التشدد. انظر: دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس، أُعدت تحت إشراف عبد الحكيم الخويلدي الحاج (وآخرون)، (دار المعرفة، بيروت، 2010)، ط 1.

(47) انظر: الفهداوي، خالد، الفقه السياسي الإسلامي، (دار الأوائل للنشر والتوزيع، دمشق، 2008)، ص 443 وما بعدها. وانظر أيضًا: كوثراني، وجيه، تاريخ التأريخ: اتجاهات مدارس مناهج، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الطبعة الأولى، 2012، ص 332 وما بعدها.

(48) يقول راشد الغنوشي: “لا يحتاج الإسلاميون إلى جهد لإقناعهم بالخيار الديمقراطي، فتيارهم العام بما حقق من نضج فكري وبما ترسب في وعيه من محصول تجاربه في مقارعة الاستبداد، قد اجتمعت كلمته على هذا الخيار مبدأ ومصلحة”. الغنوشي، راشد، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، (مركز الجزيرة للدراسات، الدار العربية للعلوم، ناشرون، 2012)، ط 1، ص 76.

(49) يقول أندرو هيود في حديثه عن التكيف الأصولي مع الحداثة بما فيها من منجزات كالإنترنت أو قبول الدولة الحديثة، إنها تقوم على “احترام العقلانية الدنيوية”، ويرى أن عملية التكيف الأصولي هي “إعادة بناء الدين داخل حدود الحداثة، في أثناء قيامها (أي الأصولية) بالتكيف مع الحديثة من داخل حدود الدين”. انظر: هيود، أندرو، مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية، ترجمة محمد صفار، (المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2012)، ط 1، ص 353-354.

(50) يقول حسنن البنا في رسائل المؤتمر الخامس: “وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح”. رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، مرجع سابق.

(51) انظر: عجاج الخطيب، محمد، السنة قبل التدوين، (مكتبة وهبة، القاهرة، 1988)، ط 2، ص 303 وما بعدها.

(52) أخذ تنظيم القاعدة وقتًا حتى أباح الصور في دعايته، انظر على سبيل المثال، المقابلة مع أحد مصوري ابن لادن والمجاهدين في أفغانستان آنذاك وصعوبة عمله مع فتوى التحريم: الشافعي، محمد، مصور ابن لادن، “جلست 18 شهرًا قبل أن أقنعه (أي ابن لادن) بأهمية الكاميرا”، الشرق الأوسط، 26 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 16 أبريل/نيسان 2019):

 https://bit.ly/2Zg27U8

(53) انظر: الراشد، بدر، “الظواهري يهاجم “الإخوان” ومرسي في ذكرى رابعة”، العربي الجديد، 14 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 25 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2DyEc9k

(54) انظر على سبيل المثال حول مثل هذا الاحتمال: علي، أسامة، “تصدع جبهة حفتر: انقلاب سلفي وشيك”، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 30 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2UZu1Fw

(55) حول تعريف السلفية الصحوية، انظر: “الصحوة تيار فكري سعودي تصادم مع النظام”، موسوعة الجزيرة، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

http://bit.ly/2V8YhNE

(56) حول المعايير والإجراءات التنظيمية في الإخوان، ينظر: العناني، خليل، “داخل الإخوان المسلمين: الدين والهوية والسياسة”، ترجمة عبد الرحمن عياش، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2018)، ط 1، ص 182 وما بعدها.

(57) أجرى الباحث عدة مقابلات في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، مع بعض قادة جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، إحداها مع القيادي السابق في الجماعة، عبد المجيد ذنيبات، الذي اعتبر أن دخول الجماعة خلال ثورات الربيع العربي في سياسات تغيير الحكم هو خطأ، لاسيما في الأردن، وأن عليها أن تعود لتكون “دعوة”. ذنيبات كان قد انشق عن إخوان الأردن أو بالأحرى أصدر ترخيصًا جديدًا باسم “جمعية جماعة الإخوان المسلمين” في مواجهة الجماعة الأساس.

(58) شقير، شفيق، “علماء التيار الجهادي: الخطاب والدور والمستقبل”، مركز الجزيرة للدراسات، 9 مارس/آذار 2017، (تاريخ الدخول: 26 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2DnLpcp

(59) شقير، شفيق، “ما بعد الربيع العربي.. الإسلاميون بين مسار الخلافة ومسار الدولة”، وكالة الأناضول، 27 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 18 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2VTu5mK

(60) تفاوتت المصادر في تقديرها لعدد القتلى ما بين بالآلاف أو المئات. انظر: “لماذا تضاربت أرقام ضحايا فض اعتصام رابعة؟”، الجزيرة نت، 6 مارس/آذار 2014، (تاريخ الدخول: 19 أبريل/نيسان 2019):

 http://bit.ly/2VVWR67