ملخص
ماذا لو بحثنا موضوع “الإسلام السياسي” خارج اعتباره ظاهرةً مَرَضية مُعيقة للتنمية باختلاف أوجهها، وأنها، لذلك، لا تنفك أن تكون وجهًا آخر للرأسمالية المتوحشة المحكومة بضرورة التحالف الوثيق مع القوى الإمبريالية؟ في ذات الوقت، ماذا لو لم نساير مقولات رفض حركات “الإسلام
_____________________________
* أ.د. احميدة النيفر، كاتب وجامعي من تونس، وأحد مؤسسي حركة النهضة التونسية سبعينات القرن الماضي وهو أول من راجع مواقفها وسياساتها في نهايات سبعينات القرن الماضي لتأسيس ما عُرف عندئذ بتيار الإسلاميين التقدميين.
Hmida Ennaifer, Writer and academic from Tunisia, one of the founders of the Tunisian Renaissance Movement in the early seventies of the last century. He was the first to review its positions and policies at the end of the seventies of the last century to establish what was then known as the progressive Islamists movement.
السياسي” حين تنظر إليها بعيون خارجية فلم نَستخف بالمضمون الحضاري للذات الثقافية وما تُصدره من خطاب للهوية في نقد سياق “حداثتنا العربية” وموقعنا الاستتباعي فيه؟
ماذا لو تخطينا موقفَيْ الرفض والنقد وتمثَّلنا خصوصية المقاربتَيْن لبناء بُعدٍ ثالثٍ رِهانُه وعيٌ نقديٌّ لحركات “الإسلام السياسي” من منظور تحمُّل الهمِّ الإنساني فكرًا وثقافةً وتموقعًا.
انخراطًا في هذا البُعد الثالث التركيبي يطرح هذا البحث جملة من الأسئلة، من أهمها:
– لماذا انحسر خطاب الحركات الإسلامية في الحقل السياسي بما أعجزها عن أي تغيير للمجال التديني في أبعاده الفكرية والثقافية والاجتماعية وركَّز لديها قيم الامتثال بعيدًا عن التحرر والتجديد؟
– كيف تحجز الفاعليات الإسلامية نفسها عن مراتع الاستبداد والفوضى؟ وكيف تتجاوز سياسات استدراجها لتكون مطية مستهدَفة داخليًّا وخارجيًّا؟
– كيف ينتهي الفرز الأيديولوجي المُنهِك للثورات العربية من أجل تجاوز سياسة فرض النظام الليبرالي للعولمة على الإسلاميين خاصة وعلى النظام العربي عامة؟
– أية رهانات وأية شروط تحتاجها النخب الصاعدة اليوم في نضالها المجدد إن أرادت فاعلية سياسية مدنية وطنية، لتقطعَ مع حال المُخاطِب لذاته المُعرض عن واقعه الرافض لمكاسب عصره؟
كلمات مفتاحية: الإسلام السياسي، الإسلاميون، الربيع العربي، خطاب الهوية، الدولة.
Abstract:
What if we explored political Islam without considering it a pathological phenomenon that impedes development in its various aspects and, therefore, continues to be another face of savage capitalism governed by the need for close alliance with the imperialist powers?
At the same time, what if we did not agree with statements rejecting political Islamist movements from a foreign perspective? Why do we undermine the civilizational content of the cultural self and its identity discourse in criticising the context of “our Arab modernity” and our subordinate position in it ?
What if we transcended the positions of rejection and criticism, and instead represent the particularity of the two approaches to build a third dimension subject to a critical awareness of the political Islamist movements from the perspective of concern for humanity in thought, culture and position?
Engaging in this synthetic third dimension, this research raises a number of questions, the most important of which are:
- Why did the discourse of Islamist movements decline in the political field in a way that made them unable to make any changes to the field of religiosity in its intellectual, cultural and social dimensions, focusing instead on the values of compliance away from liberation and renewal?
- How do Islamist actors keep themselves away from the breeding grounds of tyranny and chaos, and how do they overcome policies that lure them into becoming targeted internally and externally?
- How does the exhausted ideological separation of Arab revolutions end in order to bypass the imposition of the liberal system of globalisation on the Islamists in particular and the Arab system in general?
- What stakes and conditions do the rising elites need today in their renewed struggle for civil and national political activity to break with the state of self-discourse that exposes its reality that rejects the gains of its era?
Keywords: political Islam, Islamists, Arab Spring, identity discourse, state.
المقدمة
عندما انفجرت الأحداث الثورية سنة 2011، فيما سيُعرف لاحقًا بـالربيع، العربي تكشَّف عالم العرب بوجهيه: وجه مشرق متوثب عبَّـر عنه المخاض التغييري بما تكشَّف عن تصميم وطاقات وآفاقٍ، ووجه كالح تعرَّت فيه الإعاقات والهنات بصورة فاجعة مكَّنت لخيبة أمل وإحباط واسعَيْن.
انحسر وجه المعضلة العربية منذ الشرارة التي أوقدها “محمد البوعزيزي” بجسده، يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، احتجاجًا على ما سُلِّط عليه من قهر. وإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر فإن تلك الشرارة استطاعت منذ اتقادها أن تستشريَ وتتواصل متسارعة كل هذه السنوات لتمحِّص للباحث المتأمل أكثر من قضية مهمة في السياق المستجد وأن تدفع إلى استجلاء ما وقعت الاستهانة به من كبريات الأسئلة.
في مقدمة هذه القضايا الكبرى المهمشة يبرز “السؤال الديني” الذي ظلت عموم النخب المثقفة والحاكمة العربية مصرَّة طوال العقود على استصغاره بما أفضى به إلى أن يُصبح إعاقة إشكالية. لكن انتحار “البوعزيزي” وما نتج عنه في تونس وخارجها حوَّل وجهَ المعضلة العربية جاعلًا أول عناوينها وأبرزها هو ” الإسلام السياسي” حيث صار يحتل صدارة المشهد السياسي التونسي خاصة والعربي عامة.
إشكالية هذه الصيغة جعلتْ، ما كان يُعدُّ إعاقة تحديًا بما يطرحه “الإسلام السياسي” من اجتراح بُعدٍ ثقافي/أخلاقي للمجال السياسي، هو الإعلان عن ضرورة ولوج العالم العربي العصرَ الحاضر بزمن مغاير في قيمه وفيما انساقت فيه نخب عربية في العقود الخالية.
صميم المعضلة العربية في الزمن الجديد الذي أقحَم فيه “الإسلام السياسي” الفاعلين السياسيين هو إخضاعهم لثقافة “ناقل الريشة” وحيرتها. رمزية هذا الزمن تضع الفرد أو الجماعة أمام “اختيار إلزامي” مُجْبِـرٍ على تحمُّل عاقبة أخذ الريشة أو تركها على السواء. هو زمن الحرية المـُرَّة التي لا يُجدي معها التعالي أو التردد.
معنى ذلك أن إنسانية هذا الزمن تتكشف بجلاء لتبرز في القدرة على الاختيار لكن مع ضرورة الرضا بالتناهي والمحدودية.
هذا هو الزمن الجديد الذي دشنته شرارات الغضب تونسيًّا وعربيًّا في تحدٍّ صامت. هو زمن يضيق ذرعًا به الجميع والنخب السياسية تحديدًا لأنها، وقد نَشَأت وتخرجت بثقافة ملتبسة بعَلْمنة خاصة، لا تحتمل التعدد بل تُرسي مواقفها على شمولية وثوقية حدية مسكونة بنزوع إلى المسايرة وركون إلى المعهودية.
لذلك ينطلق اليوم هذا البحث من فرضية مركبة يقتضيها السياق السياسي-الدستوري الإقليمي المستجد الذي تلا وصول “الإسلام السياسي” إلى الحكم ثم اضطراره إلى مغادرته في تونس ومصر والمغرب. فرضية البحث يختزلها التساؤل التالي:
* ماذا لو بحثنا موضوع “الإسلام السياسي” بعد سنوات من التجارب التي تلت الأحداث الثورية لسنة 2011 وصولًا إلى سنة 2023 خارج اعتباره مجرد ظاهرة مَرَضية مُصطَنَعَة لا تستطيع أن تحقق أي نجاح لأنها مُعيقة للتنمية باختلاف أوجهها؟
* في ذات الوقت، ماذا لو لم نساير هذه المقولة الرافضة لحركات “الإسلام السياسي” الناظرة إليه بعيون خارجية بل صدرنا عن قول من داخل فضائه الثقافي المولي أهمية تأسيسية للمضمون الحضاري للذات الثقافية مع استحضار نقدي تحليلي للتعثرات والإخفاقات التي وقعت لـ”الإسلام السياسي” فيما بين 2011 و2023؟
فرضية هذا البحث تعمل على تخطـي مقولتي الرفض والتفهم النقدي مع استيعاب خصوصيتي المقاربتَيْن من أجل بناء بُعدٍ ثالثٍ رِهانُه وعيٌ نقديٌّ لحركات “الإسلام السياسي” من منظور إمكان تحمُّل الهمِّ الإنساني فكرًا وثقافةً وتموقعًا مع ما يستلزمه خطاب الهوية من نقد لسياق “حداثتنا العربية” وموقعنا الاستتباعي فيه؟
مفاهيم متعددة لظاهرة واحدة
لمعالجة أولى القضايا الكبرى للمعضلة العربية يُـطرَح السؤال المتعلق باستقرار مفهوم “الإسلام السياسي” في تداول الثقافة السياسية عربيًّا ودوليًّا؟
بالعودة إلى العقود الخمسة الماضية يتبين أن أول استعمال لهذا المفهوم كان في الولايات المتحدة الأميركية من قِبَل مارتن كرامر ( Martin Kramer)(2) في كتابه الصادر سنة 1980 بعنوان ” الإسلام السياسي” (Political Islam). جاء هذا الكتاب ليطور مقولتين نظَّـر لهما قبله أستاذه “برنارد لويس” (Bernard Lewis )(3) تتعلق الأولى بـ”صراع الحضارات”(4) بينما تتصل الثانية بما تبنَّاه من شرح لجذور “الغضب الإسلامي”(5). خلاصة المقولتين اللتين سيعتمدهما “كرامر” تفضي إلى أن “تسييس الإسلام” نجم عن عوامل تاريخية-سياسية ونفسية أدَّت إلى توتر تحوَّل إلى خلل سببه فشل أنظمة الحكم الحديثة في البلاد العربية(6). وفق هذا التفسير تكون حركات “الإسلام السياسي” قائمة بالاستثمار في هذه العطوبة لتحقيق تغيير سياسي على أساس أن الإسلام يشتمل على نظام للحكم وأن له نهجًا اجتماعيًّا وقانونيًّا واقتصاديًّا قادرًا على بناء مؤسسات الدولة.
على أساس مثل هذا التفسير تواصل استعمال مفهوم “الإسلام السياسي” لدى قسم من الباحثين الغربيين الذين اعتبروه تعبيرًا عن حالة مَرَضية تعاني منها “الحركات الإسلامية”. نتجت هذه الإعاقة أو الخلل كما يسميه “برنارد لويس” عن عجز أنظمة بلدان تلك الحركات ومجتمعاتها عن النهوض للتلاؤم مع مقتضيات العصر ومستلزمات الانخراط في التمدن الحديث.
استمر هذا الاستعمال دون أن ينفرد وحده بالتداول إذ حاذته مفاهيم مغايرة أخرى مثل “الأصولية الإسلامية” (Islamic fundamentalism ) أو “الإسلاموية” (Islamism) والمختلفة في تحديد دقيق للموضوع المدروس وخصوصية جذوره ومآلاته والسياسات التي ينبغي اتخاذها إزاءه.
في المجال العربي الإسلامي، لم يُحسم أمر اختلاف تسمية ظاهرة الحركات الإسلامية؛ فإذا تجاوزنا التسميات التبخيسية(7) التي يتناقلها بعض السياسيين والإعلاميين فإن عددًا من الباحثين المهتمين لم يتقبلوا مفهوم “الإسلام السياسي” لما كانوا يرون فيه من تضليل. لذلك ظلوا مترددين بين من يستعمل عبارة “عودة المقدس”(8) وبين من يفضِّل تسمية “الإسلام الاحتجاجي” أو “الإسلام المناضل”(9) بإزاء من يساير عبارة “الإسلاموية” للدلالة على مضمونها السياسي الأيديولوجي وعلى ما تحمله من فكر نسقي ضمن نوع من الوعي الموظف للدين لأهداف سياسية(10).
في الحفر التَفَهُّمي الأوروبي
ثم كانت سنة 2011 وما تلاها من أحداث نوعية دفعت بالحركات الإسلامية إلى صدارة المشهد السياسي ومواقع القرار في تونس ومصر والمغرب. بذلك غَلَب مفهوم “الإسلام السياسي” على بقية المفاهيم الأخرى(11) بالنظر إلى السياسات الواقعية لعموم الحراك الإسلامي في كونه لم يُولِ عناية لما تعنيه التسمية من تحكيم البُعد الثقافي في المجال السياسي.
اللافت للنظر أن أكثر من باحث غربي، وإن بقي مُقِرًّا لاستعمال مفهوم “الإسلام السياسي”، فإنه أسهم في تشكيل توجه متمايز عن منهج الوصم الاستشراقي المنحاز(12) الذي اشتغل عليه “برنارد لويس” و “مارتن كرامر” و”صامويل هنتنغتون” وذلك برفض اعتبار” الإسلام السياسي” ظاهرة مَرَضية كارهة لنفسها ولغيرها.
في طليعة هؤلاء الباحثين الذين تميزوا بمنهج تَفَهُّمِي يسعى إلى تحديد “معقولية” حركات “الإسلام السياسي” بصورة نقدية، نذكر الأنثربولوجي والمختص في العلوم السياسية والاجتماعية “برونو إيتيان” (Bruno Étienne) في كتابه “الإسلام الراديكالي”(13).
بنفس المقاربة عالج الخبير في الحركات الإسلامية وفي القانون “فرانسوا بورجا” (François Burgat) الظاهرة في كتاب “الحركات الإسلامية في المغرب الكبير، صوت الجنوب”(14)، وفيما عاد إليه في كتاب “في فهم الإسلام السياسي: مسار البحث في الآخرية الإسلامية”(15).
ثالث ممثلي هذا التوجه نجده في أعمال الباحث والمختص في الفلسفة “أوليفي روا ( Olivier Roy) في كتابه “فشل الإسلام السياسي”(16) مؤكدًا نفس التوجه في بحث ثانٍ لاحق تحت عنوان “الإسلام السياسي: الإخفاق متواصل”(17).
لإضاءة هذا النهج المتميز بالحفر التفهمي النقدي في فرنسا، يؤكد “إيتيان” أنه ليس بصدد القيام بأي تبرير للإسلاميين، بل إن ما يحاول تحديده هو الوقوف على مكونات عالَمهم الذهني لأن إدراك حقيقة دين أو وجه ديني أو أسطورة أو طقس من الطقوس الخاصة يقتضي تحليل النسق الأيديولوجي الخاص به الذي أقيمت عليه مؤسساته الاجتماعية والدينية والذي يُعلن عن معناه الخفي(18).
مع “بورجا” في كتابه “الإسلام السياسي: صوت الجنوب”، يتعمق الحفر في الظاهرة الإسلامية التي يقرر أنها “طبيعية ناشئة عن مناهضة الاستعمار أولًا ومتطورة عن فشل الخطاب النهضوي القومي ثانيًا”. ثم يضيف أن الظاهرة “متولدة عن واقع مركب وهي التي تصنع الإسلام الراهن”(19)؛ وأنها إلى حدٍّ كبير أولى القوى المرشحة في مختلف أنحاء العالم العربي لتحل محل أنظمة الحكم الناجمة عن الحركات الاستقلالية(20).
أما “روا” فلا يتردد في القول إن ما يقوم به في حفره جعله ينتهي من فترة مبكرة إلى أن صعود حركات الإسلام السياسي مؤذن بفشلها نتيجة التصور الذي تحتكم إليه والقائم على اعتقاد أن القرآن هو برنامج حكم. بتعبير آخر، يقول “روا”: إن “مفهوم الدولة الإسلامية متناقض ومستحيل التحقيق”(21) مضيفًا أن “الإسلاميين سيظلون موجودين، وهذا هو المجهول الكبير”(22).
شرارات الفصل والوصل
مواكِبًا لهذا النهج التفهمي الغربي، توصل الوعي السياسي-الاجتماعي لقسم من النخب العربية والإسلامية إلى لحظة مفصلية تحتاج إلى توقف تمحيصي. لقد أضاءت شرارات 2011 مداخل مهمة للنظر والفعل في معضلة عالم عربي يسعى لدخول العصر للإسهام فيه من خارج دوائر الاستتباع.
معها، أُضيئت دروبُ وعي مفصول عن مقولة الوصم التي تعتبر الظاهرة الإسلامية حالة مرضية تكوينية في أصل الإسلام وتاريخه.
ذلك أتاح بحوثًا تفهمية لأكثر من مسألة بالقطع مع منظور المركزية الغربية في تعاطيها الجوهراني(23) الثبوتي لظاهرة “الإسلام السياسي”.
في طليعة العناصر الفاعلة ضمن التيار المتحرر من المشهد المعبأ بالتوتر الاستقطابي، تبرز عدة أسماء(24) نختار منها ثلاثة نماذج مختلفة تتكامل زوايا تحليلها في تجاوز الوصم الاستشراقي المنحاز باعتماد عوامل موضوعية تفتح أفق بُعد ثالث لمنظور إنساني من الداخل الثقافي الإسلامي.
أول هذه النماذج التحليلية المهتمة بدلالة “الإسلام السياسي” وفكره وخصائصه ومآلاته، نقرأ للمفكر والاقتصادي “سمير أمين”(25) أن “الإسلام السياسي” يمكنه الخروج “من هذه التجارب بقدر من النجاح إن هو وعى طبيعة التحديات المحلية والدولية وإن صاغ من خصوصياته الثقافية والاجتماعية الإجابات المطلوبة”(26).
تقدير “سمير أمين” لهذا الإمكان موصول برؤية إستراتيجية تحررية ناقدة للإسلام السياسي إن هو ظل يقود نضاله من منظور ديني تعبدي عاجز عن إدراك حقيقة أزمة المجتمع العربي المندرجة ضرورة ًفي نظام عالمي مأزوم ومفروض عليها(27).
بجانب هذه القراءة، نقف عند تشخيص الأستاذ الباحث “خليل العناني” الذي يرى أن سقوط جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر يمثل نهاية حقبة يمكن اعتبارها حقبة “الإسلاموية الأرثوذكسية” في تاريخ الحركات الإسلامية(28). خصوصية هذه القراءة وثيقة الصلة باختصاص العلوم السياسية المعتمدة على الدراسة الاستقرائية والتحليلية للنظم السياسية وتطورها وأثرها في المجتمع.
من هذه الزاوية يكون “الإسلام السياسي” قد بلغ، في الوضع المستجد، مرحلة استنفاد أغراضه الموضوعية في ارتهانه إلى ثلاثة أركان أساسية: الأيديولوجية المحافظة والتنظيم الصارم والقيادة المركزية الجامدة(29).
من هذا المنظور، يتبين أن المستجدات السياسية والدستورية جعلت “الإسلام السياسي” في أكثر من قُطر عربي، وخاصة في مصر وتونس، يواجه حالة انكفاء واضح بفعل موجات اكتساح عارم مناهض لم تجد إزاءها مناعة حضارية مكتسبة تتناسب مع توازنات السياق الدولي والإقليمي.
بهذا يتضح جانب من الإشكال الهيكلي للحراك الإسلامي الخاص بمرجعيته الفكرية والتنظيمية المركزية حين يلتقي مع القصور الاجتماعي الذي يجعل “الإسلام السياسي”، فاعلًا “غير مُشَـكَّل” وفق المجال الإستراتيجي وما يقتضيه من وعي بالجغرافية السياسية وتوازناتها الدولية والداخلية التي اهتم بها “سمير أمين”.
في مستوى الزاوية الثالثة، يقدم الأكاديمي السوداني وأستاذ العلوم السياسية “عبد الوهاب الأفندي” تحليلًا لـ”الإسلام السياسي” ركزه على أهمية العوامل البنيوية التحتية للمجتمع، التي لا يُمكن الاقتصار فيها على الجوانب النظرية للعلوم السياسية. بهذا تتأكد الحاجة لمراجعة مقولة وجود “إسلام سياسي” واحد في البلاد العربية لأن بنية الواقع المجتمعي الثقافي في اختلافها وحراكها تؤدي إلى اختلاف نوعي بين المسارات القُطرية لكل حركة إسلامية.
هو اختلاف وازن في مسارات كل تجربة عن بقية التجارب، يتضح خاصة في حالتي كل من مصر وتونس ومسيرة الإسلاميين فيهما. في هذا، يقول عبد الوهاب الأفندي: “لقد تصرف الشيخ الغنوشي بحكمة وعقلانية بعد أن تعرضت النهضة لابتزاز مفضوح من الفئات التي رفضها الشعب، فسعت كما كان الأمر في سوريا لتمزيق البلاد وتدميرها نكاية في النهضة”(30).
أهمية هذه المقاربة التفهمية الثالثة أنها في اشتغالها على التنوع الحركي القُطري للإسلاميين وفي علاقتها بالنموذجين السابقَيْن إنما تكشف ما للحركات الإسلامية من قدرة على العَوْد للنمو بعد محاولات اجتثاثها.
ذلك يحيل على مجالٍ ذَكرَه “أوليفي روا” عن “الإسلاميين الذين سيظلون موجودين” رغم فشلهم في الحكم.
سؤال الدولة واستتباع المركزية الأوروبية
في نقد صارخ للحركات الإسلامية في العالم العربي، يقرر عبد الوهاب الأفندي(31) أن قياداتها عجزت عن أن تتصدى لأي دور إيجابي في مواجهة أزمة سير الأمة نحو الهاوية. مرجع هذا العجز عنده هو الفكر السياسي الذي “يقود خطى هذه الحركات والذي عجز أن يُشكـِّل الجسر الذي تَعبُر من خلاله هذه الحركات من السلبية إلى الإيجابية”(32).
مؤدى هذا أنه لا سبيل للتصدي لهذه الأزمة إلا “بإعادة صياغة كاملة للفكر الإسلامي المتعلق بالدولة وشؤونها”(33).
طرْحُ “الأفندي” مسألة الدولة في كامل فصول كتابه، بجعله معضلةً فكرية-تاريخية وتعطلًا حركيًّا-أخلاقيًّا تعاني منه الحركات الإسلامية، يكشف قضية كبرى ثانية مهمشة في العالم العربي زادت في إبرازها شرارات الحراك الثوري العربي.
ذلك أن مسألة الدولة حين تُطرح بِمَعِيَّة “السؤال الديني” فإنها تدفع بدائرة معالجة مفهوم “الإسلام السياسي” إلى بُعدٍ ثالث، هو بُعد لا يرى في ” الإسلام السياسي” ظاهرةً مَرَضية مُعيقة ويتجاوز تقدير أنها مجرد تعبير سياسي فكري يحلـَّل بعيون خارجية بحثية، يتجاوز ذلك ليرى أنها تصدر من مضمون حضاري إنساني للإسلام تكتسيه نزعات ملحوظة في حراك قسم من مسلمي اليوم.
حين يفعَّل سؤال الدولة بسؤال الدين يتضح قصور مفهوم “الإسلام السياسي” عن الإفصاح عما في الظاهرة الإسلامية من طبيعة إشكالية مركبة تتداخل فيها متغيرات متعددة تستدعي إجابة قابلة للاتساع والمراجعة بصورة مستمرة.
بتناول مسألة الدولة تظهر الحاجة إلى بُعدٍ ثالث متحرر من المركزية الأوروبية في تمثلها للإسلام دينًا وتاريخًا منجزًا وإمكانًا حضاريًّا إنسانيًّا. مع البعد الثالث الحضاري لمقاربة الظاهرة الإسلامية تتبين حالة المفارقة التاريخية (anachronisme) التي عاشتها الظاهرة بعد 2011 وجعلتها في وضع مُفَوَّتٍ. حقيقة هذه المفارقة أن الإسلاميين في إدارتهم التسييرية لأوضاع الحكم استندوا إلى البناء التنظيمي وليس باعتماد الكفاءات الذاتية والوطنية.
حصل هذا التفويت من عدم وضوح علاقة السياسي بالثقافي في فكر الإسلاميين، ومن الخلط المخل بين استحقاقات التنظيم واستحقاقات الدولة عند توليهم مقاليدها. نتج ذلك أيضًا من أن التحديث القسري كان مدخلًا للاستلاب والاستبداد وأنه كان من اللازم القطع مع باراديغماته؛ لاسيما أنه فقد بريقه وجاذبيته لدى النخب العربية الصاعدة.
ذلك ما أعاق العشرية التي تلت الشرارات العربية بتعذُّر الإسهام في بناء مشروع وطني متناسب مع مقتضيات العصر في المستويات المادية والعقلية والروحية. لقد أُهدرت فرصة تاريخية لمعطى إستراتيجي كامن كان من المتاح للحركات الإسلامية أن تفعِّله بصورة ناجعة تمكينًا لمشروعيتها وإسهامًا في الارتقاء بالمشروع الوطني الجامع. في ذات الوقت، يتم دحض خطاب المركزية الأوروبية التي لا ترى في الحراك الإسلامي إلا تعبيرًا من شعوب متخلفة ثقافيًّا، انقسامية سياسيًّا في سياق معولم؛ هي لذلك لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتدُّ لعصورها القديمة وحدها.
هو خطاب الوصم المنحاز والمبني على أن الغرب وحده هو القادر على اختراع الحداثة المنفتحة، بينما تنغلق الشعوب الإسلامية في إطار “تقاليد” جامدة لا تسمح لها بفهم حجم التغييرات الضرورية واستيعابها.
ما يضيفه البعد الثالث للطبيعة الإشكالية المركبة لـ”الإسلام السياسي” هو تحقيق معالجة توليفية مزدوِجَة المداخل لواقعه الملتبس. بذلك يتبين ترسخ علاقة “الإسلام السياسي” بمرحلة تاريخية ماضية بينما كان يخوض تحديات واقع حضاري حديث مختلف باسم الهوية الثقافية الدينية التي لم يكن يمتلك منها وعيَها الفاعل ورؤى عبقريتها المميزة.
من هذا المنظور، تكون معضلة “الإسلام السياسي” في بنيته المـُعْتَلَّة نتيجة ما يمكن تسميته بالالتباس المؤسساتي. هي معضلة السعي، بعد ثورة 2011، بحراك سياسي رافعٍ شعارَ الهوية ظنًّا منه امتلاك نجاعتها فيما يعتمده من مكوناته المرجعية والتنظيمية والقيادية. هو سعي مختل يظن أن رفع الشعار الحضاري للذات الثقافية وما تُصدره من خطاب للهوية قادر على تجاوز سياق “الحداثة العربية” في موقعها الاستتباعي.
ثقافة الدولة إزاء خطاب الهوية
كان طور إدارة الحكم الذي صارت إليه قيادات “الإسلام السياسي” بعد 2011 فاجعًا وذلك بتسجيل منسوب عالٍ من الفشل السياسي لأكثر من اعتبار. أهم هذه الاعتبارات أنه كان جزءًا من فشل عام استنفد طاقات “النظام العربي” في إقامة دولة متميزة بوظائفها السياسية-السيادية والإستراتيجية وفاعليتها الاجتماعية والقانونية.
في هذا تلتقي حركات “الإسلام السياسي” مع منافسيها وخصومها في عجز مشترك عن التوصل إلى معالجة معضلة الحكم في النظام العربي الحديث إزاء تصاعد مطالب الحرية والكرامة والتنمية في مختلف الأقطار.
ما يحتاج إلى توقف خاص عند تقييم الأداء العام لحركات “الإسلام السياسي” استشرافًا لمستقبلها يتعلق بالمرجعية التي تستند إليها وما تنشره من خطاب الهوية الثقافية والدينية. إشكالها المرجعي أنها ظلت مجرد مرجعية تحشيدٍ إذ لم تُفَعَّل لبناء خيارات مميزة يمكن أن تشتغل عليها الحركة بمنظور حضاري ضمن تيار تحالفي سياسي-اجتماعي يُقلِّص من منسوب الاستقطاب السياسوي الذي ساد بعد سنة 2011.
قبل ذلك وطوال سنوات النشأة والتوسع والقهر، أكسب الموقفُ الحدي لخطاب الهوية مناضلي “الإسلام السياسي” مكانة وتأثيرًا بالغيْن. لقد وفَّر لهم خطاب الهوية موقفًا لافتًا مَكَّنهم من التقدم والنهوض والصمود. كان ذلك اعتمادًا على العاملِ الثقافي الاجتماعي الذي اتخذ مكانة مرجعية للتغيير بالإحالة على التراث العربي الإسلامي أساسًا وليس انطلاقًا من الشروط العالمية للرقي والتحرر.
بذلك تمكن “الإسلام السياسي” من تجاوز مقولة “اللحاق بركب الحضارة” التي ذاعت مع التجارب العربية المختلفة في البناء والتنمية القُطريين عقب الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة. بذلك تحول موضوع الهوية إلى ركن أساسي تمكن به الإسلاميون أن يُرسوا خطابًا نِديًّا يواجه الحضارة المعاصرة بتحول للـ”ذات” من عامل مُندرج في السياق التاريخي العالمي إلى مرجع مستقل عنه.
لكن هذا الوضع شهد تغيرًا نوعيًّا بعد انفجار الأوضاع الداخلية للنظام العربي، سنة 2011، عندما واجه “الإسلام السياسي” حراكًا ثوريًّا ممتدًّا بتحديات نوعية مركبة دون حصانة ثقافية مميزة. واجه قضايا حيوية من قبيل: علاقة الحكم بالمشروع الوطني ومقتضياته التنموية، والمجتمع وإستراتيجيات الواقع، والسيادة الوطنية في منظور الجغرافيا السياسية، مكتفيًا بخطاب للهوية مُستَقدَمٍ من مرحلة النضال ضد الأنظمة القمعية. ذلك لم يعد عنصرًا مقنعًا في ممارسة الحكم للمساهمة في بناء انتظام سياسي ناجع.
من ثم توالت تعثرات “الإسلام السياسي” في تحديد إجرائي لمفهوم الهوية وفي طبيعتها وهل هي بنية ثابتة لا تتغير وجوهر قارٌّ لا يتبدل أم أنها جملة من الخصائص والسمات في تشكُّل وصيرورة دائبين؟
نجم هذا القصور نتيجة فقدان مستلزمات ثقافة الدولة وما أدى إليه من ضعف من ارتباك الإسلاميين في اختياراتهم وسياساتهم ضمن المشهد الوطني العام الخاص بالإنجاز التنموي.
امتد هذا القصور أيضًا لمجالات متفرعة عن البنية الحضارية للهوية تناولت قيمة الفرد المسلم وحاجياته الروحية والعقلية والمادية ضمن مجتمعه، وهل يتواصل الإقرار بإعطاء الجماعة والتنظيم الأولوية المطلقة فيما تقوم عليه من بناء للمستقبل؟
من هذه التساؤلات تظهر أهمية مسألة الدولة وثقافتها في العالم العربي بما يستدعي الطرح الإشكالي: هل من المُجدي قيام عمل سياسي حزبي دون ثقافة، أي دون رؤية تتشكل في نظم مختلفة باختلاف الأزمنة والبيئات يطلُّ من خلالها العقل على مجمل البنية الاجتماعية ومستلزماتها؟
الواضح أن فقدان هذه الثقافة جعل الفكر الذي ينبثق عن مفهوم الهوية الثبوتي فكرًا قاطعًا وحَدِّيًّا لا يتصور للمجتمع والإنسان علائق أخرى غير العلائق الدينية التنميطية فلا يعترف بالمجال السياسي الاجتماعي وبضوابطهما الخاصة.
السياسة ثقافة أو لا تكون
عندما تختزل الهويةُ مجال الاجتماع البشري وحراكه في البعد الظاهري للدين فإنها تصبح كيانًا ناجزًا وذاتًا افتراضية لانقطاع صلتها بأي واقع تاريخي مما يُفقدها إمكانية التطور والنمو ويقلِّص عالمية رسالتها.
مثل هذا التوجه في فهم الهوية ينتهي إلى الاعتقاد بأن مشاكل المسلمين وعوامل ضعفهم موجودة في الواقع السيء الذي يعيشونه فقط وليس فيما يحمله المسلم من رؤية وتصورات عن ذاته وتاريخه وعن الآخر.
تلك هي هوية الانطواء على الذات صونًا لها من دواعي التعدد والاختلاف اللذين يشملان العالَم من حولها بما يعتمل فيه من حركة وتفاعل دائبين.
ينسى دعاة هذه الهوية القلقة حضاريًّا حقيقتين: الأولى إنسانية وهي أنَّ الأصالة ليست تكرارًا للأصل وإلا غدت مـسخًا وانحدارًا بصوره الرائعة إلى صور حائلة زائلة. أما الحقيقة الثانية فهي أن الهوية في دلالتها الإسلامية الرسالية تنطلق من التصور القرآني للوجود بأنه خلق يزداد ويرتقي بالتدرج والاختلاف مع استيعاب نوعي لمقتضيات واقع هذا التحول(34).
مؤدى هاتين الحقيقتين في المجال الحضاري-السياسي هو أن يهتدي كل جيل بما ورثه من آثار أسلافه من غير أن يعوقه ذلك التراث في تفكيره وحكمه وحل مشكلاته الخاصة. إشكال هذه الخصوصية في واقع حركات “الإسلام السياسي” وهي تدير الحكمَ أنها انزوت في التنظيم وعناصره فأنهكت التنظيم وشتتتْ ولاء عناصره ليتضاءل وزنها في حاضنتها الشعبية قبل أن تنتهي مكانتها في الحكم.
مصدر هذا الانتكاس في التباس الأولويات الإستراتيجية المحلية وما ينجرُّ عنها من اختيارات وسياسات في علاقة بالمعادلات الداخلية والإقليمية والدولية. ذلك ما سمح بالقول عن الإسلاميين في الحكم أنهم أصحاب الأيدي المرتعشة لكونهم الأقل امتلاكًا لثقافة الدولة وحسن إدارة شؤونها وقصورها الإستراتيجي والاجتماعي.
المستوى الأخطر للتحديات التي برزت بعد الأحداث الثورية لـسنة 2011 يتعلق بخصوصية “الإسلام السياسي” في كونه ظاهرة ثقافية اجتماعية وتاريخية. ذلك يعني أنها ظاهرة “حديثة” تاريخيًّا نجمت عما اندرجت فيه مجتمعات جنوب المتوسط ونخبه منذ القرن التاسع عشر في تحديث يرتكز إلى الثقافة الأوروبية وباتباع نمط حياتها. الأهم في هذا التلازم هو أن حركة التحديث التي ستتولاها النخب العثمانية والتركية والعربية ستواكبها سياسة تعزيز أوروبي جعلت من التحديث بوابة لهيمنة مفروضة على مجتمعات الجنوب التي انساقت في استلاب حضاري واضح. هذه السيرورة لا يستطيع الإسلاميون تجاوزها مهما كانت أفكارهم في الأطوار اللاحقة.
من ثم صارت سمة حداثة الإسلاميين هذه، إشكالية بصورة مركبة: هي تتطلب، أولًا، الوعي بها، وهي تدعوهم، ثانيًا، للاستمداد من المخزون التراثي ما يثري إسهامهم في الإجابة عن الأقضية المستجدة. ثم هي تعني، ثالثًا، التحرر من وطأة الحداثة الغربية في الحاجات والقرارات وفيما تعيشه الحداثة من أزمة فكرية وأخلاقية فاقمها النموذج المعولم.
كيف يمكن للإسلاميين أن يُوَفـَّقُوا في التوصل إلى توازنات جديدة يتعدون بها المصالح الاستعمارية وما وقع إرساؤه من سياسات الهيمنة بعد ذلك في أطوار الاستقلال اللاحق؟(35)
حصيلة هذه التحديات جميعًا تقتضي الوعي المركب بأن التحديث القسري كان مدخلًا للاستلاب الحضاري وأن سند التحرر منه بالنجاعة في مجالات العدالة والتنمية والسيادة وأن صميم التوازنات الفاعلة هو أن السياسة ثقافة أو لا تكون.
البعد الثالث والوعي الحضاري
عند إيجاز ما توصل إليه البحث في الطبيعة المركبة لـ”الإسلام السياسي” وفي علاقة هذه الطبيعة بتعثراته في الحكم، يتبين أن مسيرته تواجه تقويضًا لمشروعيته بما يهدده جديًّا بالاندثار.
ما يُرَجِّح هذا الاستخلاص:
1- تَدَرُّج الإسلاميين من خطاب احتجاج دفاعي عن الموروث القيمي والشرعي إلى أيديولوجية عقائدية انتهت بهم إلى مواقع الحراك السياسي ومؤسسات الحكم لكن دون التوصل للإسهام في الخروج بمجتمعاتهم من حال الانقسام والاستتباع والخصاصة.
2- تشكيلهم ظاهرةً هجينة: عنوانها المحافظة ومكوناتها وأهدافها حديثة. هو تهجين إشكالي لكونه جمع بين حداثة غربية نظامها السياسي متجرد من البعد الأخلاقي إلى درجة كبيرة دون إحالة على قيم دينية أو تاريخية وبين حراك يسعى لرد الاعتبار إلى الذات برفض القول بالقطيعة التاريخية مع اعتماد تصور وقيم للحياة بفكر حضاري مغاير.
3- اندراجَ منافسي الحراك الإسلامي في هجنة أخرى جعلتهم في نضالهم السياسي الأيديولوجي غير مستحضرين أن الحداثة ليست مسألة تقليد أو اقتباس أو استيعاب عقلية. إنها إفراز داخلي لكل مجتمع نتيجة ما يعيشه من صراع تاريخي بين قواه الداخلية والخارجية لبناء مستقبل جماعي يعزز قوته ونفوذه.
4- عبثية التعدد السياسي العربي الذي تلا 2011 أدَّى إلى تكريس حالة التدابر والتنافي بين الفرقاء في مختلف الأقطار بما واصل الانسياق في حضور مركزية غربية متهافتة بفرض ذاتها ونموذجها في الحياة والوجود. يحصل هذا رغم تنبيهات عدد من المفكرين الداعين إلى ضرورة التيقظ لمخاطر التحديث والعولمة شأنَ جهود الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس” في التعريف بأزمة الحداثة الأيديولوجية والفلسفية الكبرى(36).
بالعودة إلى مقاربة “البُعد الثالث” في رهانه على الداخل الثقافي لحركات “الإسلام السياسي” فإن أهم ما يعمل على التوصل إليه هو ضرورة معالجة مفارقة “الإسلام السياسي” في علاقته المختَلَّة بالسند المرجعي الذي يميزه.
عنوان هذه المعالجة وعي حضاري يسمح ببلوغ أخص مخرجات “البعد الثالث” في استعماله نقدًا بنائيًّا بما يمكِّن الإسلاميين من تحمل الهمِّ الإنساني فكرًا وثقافةً وتموقعًا.
مقتضى هذا المنظور تثمين السند المرجعي للإسلاميين على أساس أنه ليس مجرد شعار تحشيدٍ بل إنه مستودع معرفي وحضاري وأخلاقي يتوفر على خبرات وطاقات هائلة قادرة على فتح أبواب المساهمة الفعلية في مواجهة المصاعب الإستراتيجية والسياسية وحل المعضلات الاجتماعية الاقتصادية.
هو حسٌّ حضاري حاضر لدى عدد من المشتغلين على المشاريع التاريخية الكبرى في الغرب من أمثال الأميركي “مارشال هودجسن” (Marshall Hodgson)(37)، والألمانيين “فريتس شتيبات” ( Fritz Stepat)(38) و”توماس باور (Thomas Bauer)(39).
أساس “البعد الثالث” هو أن لا بديل عن طرح موضوع الوعي الحضاري للإسلاميين ولمخالفيهم على السواء. مدخل الإجابة عن هذه القضية المستقبلية أن الحداثة ليست صيغة واحدة وأمرًا مُعْطـى يُستنسخ ويُقتبس بل هي حداثات تعبِّر كل واحدة منها عن إرادة لحياة أعدل وفق تاريخ وثقافة واحتياجات كل مجتمع حي في عالم متحرك بمشاغله ومضائقه.
بناء على ما ستنتهي إليه أشغال تفعيل الحس الحضاري يمكن أن تتحدد مآلات “الإسلام السياسي” في المستقبل المنظور، وهل يمكنه التوصل إلى بدائل دينية أو فلسفية واجتماعية مميزة.
مربط الفرس في جملة هذه الإمكانيات هو الإسهام في إقامة نظام سياسي تُحَدَّدُ فيه مجالات التفاعل والتمايز بين سؤالي الدين والدولة اللذين اعتمدهما هذا البحث. ذلك هو الرهان الحضاري الوازن.
تسوية تاريخية لعمران جديد
في معالجة دقيقة لما كنا بصدده، نقرأ للأستاذة المصرية في العلوم السياسية “هبة رءوف عزة”(40) ما يساعد على استشراف مآلات “الإسلام السياسي” بعد تجربته في الحكم. تتحدث عن أسباب الارتباك في الإدارة السياسية لتلك التجربة فتربطها بالعلل الكامنة في بنية الدولة الحديثة؛ حيث تقول: إن ما لم ينتبه إليه “القطاع الأوسع من التيار الإسلامي (أنه) ظنَّ أنها (الدولة الحديثة) حصن يمكن الاستيلاء عليه في حين أن من درس الدولة القومية ونشأتها وعرف خرائطها التاريخية والمنطق الكامن فيها يعلم أنها ثقب أسود يلتهم الأيديولوجيا والأخلاق لصالح الهيمنة والتحكم ومصالح رأس المال وأنها كيان قام على العلمانية”(41).
أخطر ما في تجربة “الإسلام السياسي” للحكم أنه فوَّت على نفسه الاستفادة من الخبرة التاريخية للمسلمين لكونها كانت إحدى تجارب السلطة في علاقتها بالمجتمعات والثقافات في التاريخ. ما نجم عن ذلك أن التحدي الذي واجه هذه التجربة من منظور الدولة الحديثة وطبيعة الانتظام السياسي لم يعتمد نظرية في الدولة تتمثل مكوناته الثقافية-الرمزية والاعتقادية-الأخلاقية والحضارية-الإنسانية.
أكثر من ذلك، لقد رجحت ممارسات “الإسلام السياسي” في الحكم بعد 2011 ما ذهب إليه “وائل حلاق” في كتابه “الدولة المستحيلة”(42) إلى أن امتناع قيام الدولة بالمفهوم الحديث في المجال الثقافي الاجتماعي العربي الإسلامي وفق ما أقامته ونادت به جماعات “الإسلام السياسي” وحركاته يعود إلى الأزمة الأخلاقية التي عرفتها الحداثة الغربية. حصل ذلك لتعذر استعادة تجربة تاريخية ماضية إلا وفق المنظور الحاضر مما يجعل تلك التجربة الماضية موضوعًا للحكم عليها وليست مصدرًا للهداية والتمثل في ذاتها.
مع ذلك، فإن ظاهرة “الاسلام السياسي” تبقى تتحرك، مع كافة القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في المجال العربي، بعطبها الهيكلي والفكري ضمن منطقة فقدت سيطرتها على مصيرها، هذا من جهة. هي من جهة أخرى يمكن أن تظل في اتصال بدورة حضارية جديدة تفرض نفسها على المثقفين والسياسيين كما تفرضها على عموم القوى الاجتماعية والمدنية.
طوق نجاة الجميع، في هذه الحالة، يتمثل في إدراك مُضي لحظة حضارية وقدوم أخرى تختلف عنها فيما تستدعيه من مراجعات نوعية طالما أعرض عنها حزبيو “الإسلام السياسي” مكابرة بما أعجزهم عن بناء تصور ثقافي ديني يقتضيه الواقع والعصر.
ما لا يدع مجالًا للشك أن “الإسلام السياسي” يظل مدفوعًا لمراجعات نوعية مريرة وأكيدة دونها الاندثار التنظيمي. ذلك أنه، إضافة إلى أزمته المزدوجة في الحكم المحلي وفي انفكاك قاعدته الشعبية، يواجه أزمة الحكم في العالم العربي في ارتهانها بأزمة الدولة الوطنية في السياق المعولم.
لم يَبْقَ عندئذ للإسلاميين من خيار سوى التسوية التاريخية الشجاعة للخروج من حال التشظي العام بما يواصل سيرورتهم ضمن الإسهام في تأسيس المشترك الذي يحرر الديني من سطوة الدولة بما يُعيد السياسة للعرب ويرأب الصدع الاجتماعي والإقليمي.
ذلك هو الخيار المتاح لبناء مشروع وطني جامع من أجل عمران جديد(43) قادر على تنمية شاملة مستدامة. بهذا الخيار يبلغ الإسلاميون أعلى مراحل حضورهم باكتسابهم وعيًا تاريخيًّا وإستراتيجيًّا مؤسِّسًا للمواطنة السيادية التي ينبلج بها صبح التعدد في الوطن العربي.
لكن الإشكال يبقى، في النهاية، متعلقًا برِهان التسوية التاريخية وتوافر شروطه. إنه تحدٍّ مطروح على الأطراف السياسية ذات المرجعية الإسلامية لكنه في ذات الوقت مركز اهتمام كل مكونات المشهد السياسي الاجتماعي المحلي والعربي بمختلف أطرافه سواء من كان في السلطة أو كان خارجها. إشكال منطق التسوية يتطلب من الجميع مراجعات صميمية بعيدة عن لغة الثأر والاستئثار والإقصاء والاستقواء والاستئصال.
فهل سيتمكن الجيل العربي الصاعد من الإجابة عن هذا السؤال التاج؟
المراجع
(1) استعملتُ عبارة “الإسلام السياسي” بين ظفرين لأني لا أرى صلاحيتها لفهم الظاهرة بصورة موضوعية دقيقة بما تنطوي عليه من دلالات فكرية وتاريخية لحراك البلاد العربية في الفترة المعاصرة ولما لمفهوم “الإسلام السياسي” من صلة بالاستشراق وبنزعة المركزية الغربية.
ما أعتبره أصلح في تسمية الظاهرة هو “الإسلام الحركي” الذي قدمتُه بصفته تلك. أي صفة الظاهرة الاجتماعية الثقافية التي مرت بمراحل تطورت من خلالها لتصبح حركة سياسية منظمة يمكن تقدير تاريخ لانطلاقها ومدى فاعليتها الواقعية.
(2) مارتن كرامر (و. 1958): مستشرق وباحث أميركي-إسرائيلي مختص في الشأن السياسي الشرق أوسطي المعاصر.
(3) برنارد لويس (1916- 2018) مؤرخ ومستشرق أميركي-إسرائيلي مختص في التاريخ الإسلامي وشؤون الشرق الأوسط: عالج في العديد من مؤلفاته موضوع السياسة والإسلام في السياق الحديث والمعاصر خاصة في كتبه: أصول الإسماعيلية، 1940، وعودة الإسلام، 1985، ومستقبل الشرق الأوسط، 1997، وأزمة الإسلام، 2003.
(4) استعمل برنارد لويس هذا المصطلح في محاضرة له في أغسطس/آب 1957، بجامعة جونز هوبكنز بواشنطن في تحليل ما حصل إثر العدوان الثلاثي على مصر، سنة 1956، معتبرًا أن ما يجري في منطقة الشرق الأوسط لا يقتصر على موضوع قناة السويس ولا يعني حربًا بين دول وشعوب بل هو في حقيقته صراع بين حضارتين إحداهما آفلة بعد أن كانت رائدة والأخرى مهيمنة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا.
(5) عاد برنارد لويس بمزيد من التفصيل لنفس التحليل في بحث جذور الغضب الإسلامي، راجع: Lewis Bernard, The Roots of Muslim Rage, in Atlantic Monthly in sep.1990; 266, 3.
(6) انظر برنارد لويس، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين، ترجمة محمد عناني، جامعة أكسفورد لندن 2010.- وL’Islam en crise, Paris, Gallimard, 2003. Lewis Bernard,
(7) من قبيل الخمينيون، الإخوانجية، المتاجرون بالدين.
(8) عبد القادر الزغل، عودة المقدس، الطلب الإيديولوجي الجديد للشباب المدرسي مثال البلاد التونسية، الدليل السنوي لإفريقيا الشمالية، سنة 1979.
(9) استعمل مفهومي ” الاحتجاجي ” و”المناضل” الباحث الاجتماعي عبد الباقي الهرماسي، الإسلام الاحتجاجي في تونس، بحث مقدم لجامعة الأمم المتحدة، المستقبليات العربية البديلة، مبحث الصحوة الدينية بحث مرقون دون تاريخ، نُشر بعد ذلك في مركز دراسات الوحدة العربية لبنان، 31 مارس/آذار 1989، عدد الصفحات 53.
(10) انظر محمد الحاج سالم، الإسلاموية وما بعدها، بين إشكالية المفاهيم والمطلب الاجتماعي، https://nohoudh-center.com/research-study/%D8%
(11) من المفاهيم التي استُعملت في البدايات نذكر: الأصولية، التشدد الإسلامي، التطرف.
(12) تُنسب إلى برنارد لويس مطالبته إدارة الرئيس بوش قبل واقعة 11 سبتمبر/أيلول 2001 وبعدها بغزو العراق، انظر رضوان السيد، وجهة نظر أخرى في “الغضب الإسلامي”، صحيفة الحياة، اللندنية، 30 يونيو/حزيران 2007.
(13) L’islamisme radical, Paris , Hachette 1987.
(14) L’Islamisme au Maghreb : la voix du Sud, Éditions Karthala, 1988.
(15) Comprendre l’Islam politique : une trajectoire de recherche sur l’altérité islamiste, 1973-2016, Paris, La Découverte, 2016.
(16) L’Échec de l’Islam politique, Paris, Le Seuil, 1992.
(17) L’islam politique, toujours en échec, Esprit 2015/5 (Mai).
(18) L’islamisme radical, Hachette, Paris 1987.
(19) الإسلام السياسي: صوت الجنوب، الطبعة الأولى 1992، ترجمة لورين زكري، نشر دار العالم الثالث.
(20) المرجع السابق.
(21) Olivier Roy : « Comme solution politique, l’islamisme est fini » entretien, Rue 89, nouvelobs.com, 20 février 2011.
(22) المرجع السابق.
(23) التعاطي الجوهراني (Essentialiste) الذي يثبت الفروق ويجعل منها حواجز عازلة لا يمكن تخطيها بأي حال.
(24) من هؤلاء نذكر: *محمد أبو رمان: الكاتب والمحلل والوزير السابق الأردني: مؤلف “السلفيون والربيع العربي”؛ “الإصلاح السياسي في الفكر الإسلامي”؛ “الحل الإسلامي في الأردن”؛”الإسلاميون والدين والثورة في سورية”.، ما بعد الإسلام السياسي: مرحلة جديدة أم أوهام إيديولوجية؟
*حسن أبو هنية: الباحث والخبير في شؤون الجماعات الجهادية، من مؤلفاته نذكر: “المرأة والسياسة من منظور الحركات الإسلامية في الأردن”؛ “الإخوان المسلمون في الأردن: أزمة الديني والسياسي في السياق الوطني”. – آصف بيات: الباحث الاجتماعي والكاتب الإيراني الأميركي، من مؤلفاته نذكر: “ثورة بلا ثوار: كيف نفهم الربيع العربي؟”؛ “ما بعد الإسلاموية الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي”؛ “الحياة السياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط”.
(25) سمير أمين (1931- 2018): مفكر وكاتب ماركسي مصري ركز كتاباته حول جملة من المفاهيم المحورية مثل المركزية الأوروبية وهو من أهم مؤسسي نظريات المنظومات العالمية والتبعية والمركزية الأوروبية.
(26) من نص صدر في كتاب “ما بعد الرأسمالية المتهالكة”، نشر دار الفارابي ط.2003؛ يمكن الرجوع إلى كامل النص على الرابط http://www.e-joussour.net/ar/node/6861
(27) أزمة المجتمع العربي، دار المستقبل العربي، القاهرة ط1، 1985.
(29) خليل العناني، الإسلاميون في مصر تحولات الفكر والممارسة، جسور للترجمة والنشر، القاهرة 2019.
(30) خليل العناني، تآكل السردية «الإخوانية» الشمولية وسقوط “الإسلاموية الأرثوذكسية”، قنطرة، 5 يناير 2015، (شوهد في 2يناير 2023): https://rb.gy/lv587:
https://ar.qantara.de/content/%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-
(31) عبد الوهاب الأفندي، “الغنوشي والواقعية ونهاية الحلم الإسلامي بالسلطة”، 5 يناير/كانون الثاني 2015، http://www.alquds.co.uk/?p=274968
(32) الإسلام والدولة الحديثة، نحو رؤية جديدة، دار الحكمة، لندن، د.ت.
(33) المرجع السابق، المقدمة ص 3.
(34) المرجع السابق، ص 4.
(35) راجع الآيات “يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير” (سورة فاطر: 35/1)؛ “والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون” (سورة النحل: 16/8)؛ “يسأله من في السماوات والأرض كلَّ يوم هو في شأن” (سورة الرحمن: 55/29).
(36) Pierre Robert Baduel, Modernité : Charge et ambiguïtés d’un concept ; ,https://www.persee.fr/doc/remmm_0997-1327_1994_num_72_1_1646
(37) Habermas Jürgen, Le discours philosophique de la modernité. Douze conférences, Bibliothèque de philosophie, Editions Gallimard, Paris 1988.
(38) انظر كتابه “مغامرة الإسلام، الضمير والتاريخ في حضارة عالمية”، ترجمة أسامة غاوجي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة 1، بيروت 2021.
(39) انظر كتابه “الإسلام شريكًا، دراسات عن الإسلام والمسلمين”، ترجمة عبد الغفار مكاوي، عالم المعرفة، عدد 302، الكويت 2004.
(40) انظر كتابه، ثقافة الالتباس: نحو تاريخ آخر للإسلام، تر. رضا قطب، ط.1 نشر دار الجمل بيروت-بغداد 2017.
(41) هبة رءوف عزة ( و. 1965- ): مفكرة وجامعية مصرية مختصة في العلوم السياسية وناشطة سياسية ومحاضر زائر بالجامعة الأميركية في القاهرة وكاتبة صحفية.
(42) انظر الخيال السياسي للإسلاميين: ما قبل الدولة وما بعدها، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت ط.2 2015.
(43) الدولة المستحيلة، الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط. 3، بيروت 2015.
(44) انظر هبة رءوف عزة، نحو عمران جديد، سلسلة الفقه الإستراتيجي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت ط.1- 2015.