ملخص:
تهدف الدراسة إلى المساهمة في فهم الواقع التونسي المعقد ودور الاتحاد العام التونسي للشغل في تشكيله باعتباره فاعلًا أساسيًّا في هذا الواقع، قديمًا وحديثًا، وإن ترجرج دوره بحسب سير الأحداث وتبدُّل الفاعلين السياسيين. وتقارب الدراسة دور الاتحاد العام أثناء الثورة وفي مرحلة الانتقال الديمقراطي برؤية تحليلية نقدية، معتمدة منظورًا سوسيولوجيًّا سياسيًّا يستنطق دلالات الوقائع التاريخية ومضامين خطاب الفاعلين السياسيين والنقابيين في تونس. وخلصت إلى أن الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، بمن فيهم مزدوجو المكانة والدور مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، مطالبون بحسم معركة الانتقال الديمقراطي لصالح الوطن ووضع حد للصراع القائم منذ أكثر من عقد من الزمن بين قوى الثورة المطالبة بإحداث تغيير حقيقي يحول دون الانتكاس والعودة إلى مربع الاستبداد، وقوى الثورة المضادة الرافضة للتغيير والمشكِّكة في الثورة والمُرَذِّلَة للممارسة الديمقراطية.
كلمات مفتاحية: الفاعل السياسي، الفاعل الاجتماعي، الانتقال الديمقراطي، الدور السياسي والاجتماعي.
Abstract:
This study aims to contribute to the understanding of the complex political reality in Tunisia and the role of the Tunisian General Labour Union (UGTT) in it as a key actor, both historically and currently, even if its role has deteriorated in accordance with the course of events and the change of political actors. The study deals with the role of the UGTT through an analytical and critical approach, using socio-political perspective that examines the significance of historical facts and the contents of the discourse of political and trade union actors in Tunisia. It maintains that social and political actors, including those with dual positions and roles such as the UGTT, are responsible for resolving the democratic transition in favour of the nation and putting an end to the conflict that has existed for more than a decade between the revolution forces demanding real change and the prevention of the return to tyranny, and the counter-revolutionary forces that reject change, question the revolution and vilify democratic practice.
Keywords: Political Actor, Social Actor, Democratic Transition, Socio-Political Role.
مقدمة
لا يختلف اثنان في تونس على أن الاتحاد العام التونسي للشغل(1) هو الطرف الأكثر تأثيرًا في مجريات الشأن العام في تونس بعد الثورة(2)، في ظل تشظي المشهد الحزبي وضعف الدولة وتمرد المجتمع عليها بعد أن تحرر من عقدة الخوف وأسقط رأس نظام الاستبداد وإن لم يُسقط النظام نفسه. وقد ساعده في الهيمنة على الطبقة السياسية وفرض إرادته عليها تهافتها على الحكم وقبولها بشروط الاتحاد المجحفة لشراء سلم اجتماعي هش لا يصمد أمام أي أزمة أو هزة.
لقد شاركت قواعد الاتحاد وقياداته الميدانية بفعالية في الثورة، فأحرجت القيادة المركزية التي كانت مترددة في مواجهة سلطة الاستبداد خوفًا منها وطمعًا فيها، لكنها لم تجد بدًّا في النهاية من الالتحام بالجماهير الهادرة التي زلزلت أصواتها جدران المباني السيادية مُعجِّلة بهروب رأس الدولة وانهيار الحزب الحاكم.
ذلك هو الاتحاد العام التونسي للشغل الذي وُلد من رحم مقاومة الاستعمار، فاستمرأ خوض غمار السياسة، فكان “خيمة” للمناضلين و”بيتًا” للشغالين و”ملاذًا” للسياسيين المعارضين، لكنه لم يسلم من “الانتهازية” و”الزبونية” و”الشعبوية”. واليوم، يجد نفسه في مصيدة صراع “الإقدام والإحجام”، فينتهج نهج “الذرائعية” لكنه يقع في فخ ملاحقة الأحداث بعد أن كان يصنعها. فهل بقي له دور حقيقي يلعبه في مسار الانتقال الديمقراطي المتعثر؟ أم بات هو الآخر عبئًا على البلاد المثقلة بالديون والرازحة تحت وطأة التخلف وعدم المعيارية؟ هل لا يزال الاتحاد عامل توازن سياسي وصمام أمان اجتماعي ومنقذًا من الانزلاق إلى الفوضى ومن الانحدار إلى السديم(3) أم على العكس من ذلك عنصرًا معطِّلًا للانتقال الديمقراطي وشوكة في خاصرة الدولة؟ أين الاتحاد من تصفية الحسابات السياسية ومن الصراعات الأيديولوجية؟ هل ما زال للاتحاد دور في تحقيق استحقاقات الثورة وأهدافها وفي حفظ مصلحة الشعب الفضلى؟ هل استطاع الاتحاد التوفيق بين دوره الاجتماعي -وما يفرضه من استحقاقات تتصل بحماية مصالح الشغالين والدفاع عنها- ودوره السياسي(4) الذي استمات في التمسك به وممارسته في كل الأحقاب تحت عنوان “النضال النقابي الوطني”؟
- في المنظور والمقاربة البحثية
لقد اعتمد الباحث في دراسته لدور الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة وفي مرحلة الانتقال الديمقراطي منظورًا سوسيولوجيًّا سياسيًّا مكَّن من مقاربة الموضوع وأبعاده بطريقة تحليلية نقدية تستفيد من دلالات الوقائع التاريخية ومن مضامين خطاب الفاعلين السياسيين والنقابيين في تونس. واجتهد في أن تكون المقاربة تأويلية تستنطق خلفيات المواقف التي يعبر عنها أو يتخذها أولئك الفاعلون ولا تقف عند سرد الأحداث أو وصف المشهد في ظاهره.
كما حرص الباحث على تنويع المراجع البحثية وعلى تحديثها، سعيًا إلى مواكبة الواقع السياسي في تونس في حركيته الدؤوب، وخاصة في سياق الانتقال الديمقراطي الذي أعقب الثورة التونسية وما تضمنه من أحداث نوعية ومن صراعات على السلطة في إطار بحث مختلف القوى والفعاليات والشخصيات السياسية والنقابية عن إعادة التموقع في مشهد رجراج وبيئة غير مستقرة.
أما أهم أهداف الدراسة فهو المساعدة على مزيد فهم الواقع التونسي المعقد ودور الاتحاد العام التونسي للشغل في تعقيده طورًا وفي المساهمة في حلحلته طورًا آخر. فالاتحاد -كما يُسمَّى في تونس- اختصارًا، هو فاعل أساسي في هذا الواقع وإن ترجرج دوره بحسب سير الأحداث وتبدل الفاعلين السياسيين. ولكن الثابت أن وجود الاتحاد في صدارة المشهد السياسي والاجتماعي هو حقيقة ذات وجهين، فهو إما فاعل معارض للسلطة الحاكمة يعمل على إحراجها وحشرها في الزاوية متوخيًا المناورة السياسية لتحقيق أهدافه، وإما فاعل مساند للسلطة -ولو بشكل مشروط أو محتشم- أملًا في تحييد خصومه وطمعًا في اكتساح مساحات جديدة وبسط السيطرة عليها لتعزيز موقعه السياسي والاجتماعي والاستعداد لخوض غمار معارك محتملة في المستقبل.
- “الاتحاد” في زمن الهيمنة وفي زمن الثورة: الموقع والدور
أُسِّس الاتحاد العام التونسي للشغل، في 20 يناير/كانون الثاني 1946، على يد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور، رئيسًا، والزعيم النقابي والوطني، فرحات حشاد، أمينًا عامًّا. وقد كان فرحات حشاد ملتحمًا في نضاله النقابي مع شعبه المقاوم للمستعمر الفرنسي. وهو صاحب المقولة الشهيرة: “أحبك يا شعب” التي عنون بها مقالًا كتبه إثر أحداث “هنشير النفيضة” الدامية، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1950، التي أعقبت إضراب بعض العمال الفلاحين. ومن ثم اكتسب الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الدور الوطني(5)، بل إن زعيمه المؤسس قاد الحركة الوطنية حينما تمَّ اعتقال زعمائها ونشطائها السياسيين من قِبَل سلطات الاستعمار(6). وحيث تعاظم دور فرحات حشاد النقابي والوطني واستطاع أن يربط علاقات خارجية متينة، ولاسيما مع الجامعة الدولية للنقابات الحرة التي كانت تسيطر عليها النقابات الأميركية، عمدت السلطات الاستعمارية الفرنسية إلى اغتياله، في 5 ديسمبر/كانون الأول 1952. لكنَّ أثره وإرثه لا يزالان مستمرين؛ حيث يُعرَّف الاتحاد العام التونسي للشغل إلى اليوم بـ”اتحاد حشاد” في كثير من المناسبات السياسية والنضالية.
وبحصول تونس على الاستقلال بعد عشر سنوات من تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، كان هذا الأخير حاضرًا بقوة في أول حكومة تونسية بعد الاستقلال؛ حيث جرى إسناد عدة حقائب وزارية إلى شخصيات نقابية، مثل مصطفى الفيلالي وعبد الله فرحات والأمين الشابي. كما كان مؤثرًا في مشروع الدولة الوطنية الفتية؛ حيث تم اعتماد برنامج تنموي (اقتصادي واجتماعي) صاغته إطارات نقابية(7) بمناسبة انعقاد مؤتمر الحزب الحر الدستوري التونسي بمدينة صفاقس، في نوفمبر/تشرين الثاني 1955(8). كما كان للاتحاد أكثر من 15 نائبًا في المجلس القومي التأسيسي الذي صاغ دستور الجمهورية التونسية الأول (1959). وكان الحزب الحاكم في زمن الرئيس الحبيب بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري) يضم في مراكزه القيادية العديد من الزعامات النقابية، من أهمها الحبيب عاشور، الذي استقال من قيادة الحزب في أواخر السبعينات منتصرًا لاستقلالية المنظمة النقابية.
وحيث إن “حساب النقابي” غير “حساب الحاكم”، فقد دبَّ الخلاف بين قيادات الاتحاد ورموز الحكم، وعلى رأسهم رئيس الحزب الحاكم ورئيس الدولة، الحبيب بورقيبة، منذ أواسط الستينات. وقد بلغت الخلافات أوجها بين أمين عام الاتحاد العام التونسي للشغل، الحبيب عاشور، والوزير الأول، الهادي نويرة، في أوائل سنة 1978 بشن الاتحاد العام التونسي للشغل إضرابًا عامًّا يوم الخميس، 26 يناير/كانون الثاني 1978، في حركة تحدٍّ وتصعيد لم تَرُقْ للرئيس بورقيبة الذي أمر قوات الأمن والحرس والجيش بالتصدي للمحتجين في الفضاء العام وباقتحام مقرات الاتحاد واعتقال قياداته. فكان “خميسًا أسود” داميًّا سقط فيه كثير من المحتجين المدنيين الذين جوبهت تحركاتهم ومسيراتهم بالرصاص الحي.
ورغم بلوغ التجافي بين الحزب الحاكم والاتحاد العام التونسي للشغل حدًّا منذرًا بصراع مفتوح، إلا أن قيادتيهما استطاعتا “استهلاك” أحداث يناير/كانون الثاني 1978 وما أعقبها من ملاحقات أمنية وقضائية. فقد عاد التآلف القديم بينهما بصفة تدريجية، بعد أن تم إطلاق سراح النقابيين المودعين بالسجن في 1981، واستطاعتا تكوين “جبهة قومية” لخوض الانتخابات التشريعية معًا ضمن قائمة مشتركة في نوفمبر/تشرين الثاني 1981 والفوز فيها، مما بوَّأ الاتحاد عشرين مقعدًا في مجلس النواب (البرلمان التونسي).
وبعد مضي بضع سنوات على أحداث يناير/كانون الثاني 1978 اتسمت بالاحتقان الاجتماعي المكتوم وبتصاعد التماحك الأيديولوجي داخل الجامعة الذي بلغ أوجه يوم 30 مارس/آذار 1982 (ذكرى يوم الأرض بفلسطين)، حيث حصلت فيه واقعة دامية عُرفت في الأوساط الجامعية بـ”مجزرة منوبة”(9) وتلتها اشتباكات طلابية متفرقة، اندلعت “انتفاضة الخبز”، في 3 يناير/كانون الثاني 1984، إثر زيادة كبيرة في أسعار مشتقات الحبوب (الدقيق والسميد والعجين الغذائي) انجرَّت عنها زيادة غير مألوفة في ثمن الخبز. يومها، هبَّ الشعب التونسي للدفاع عن حقه في الحصول على رغيف الخبز رافعًا شعار “الخبز والكرامة”. وقد كان النقابيون حاضرين ميدانيًّا فيما سُمِّي بانتفاضة الخبز (يناير/كانون الثاني 1984) التي كادت تتحول إلى “ثورة جياع” لولا أن الرئيس بورقيبة سحب فتيل الأزمة بإعلانه الشهير “فلنعد إلى حيث كنَّا قبل الزيادات”(10)، وبه سحب البساط من تحت أرجل المناوئين له والمحتجين ضده. يومها، خرج أبناء عامة الشعب تلقائيًّا في مسيرات مساندة للرئيس ومندِّدة بوزيره الأول، محمد مزالي(11)، الذي لم يعمَّر حكمه طويلًا بعد تلك الأحداث.
وباعتلاء الرئيس زين العابدين بن علي، سدة الحكم، في فجر السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وسيطرته شيئًا فشيئًا على دواليب الدولة وعلى المشهد السياسي بقبضة بوليسية حديدية، عمد إلى استيعاب الدستوريين، وهو منهم، وتطعيم حزبهم “الاشتراكي الدستوري” ببعض الشخصيات غير المستهلكة من النخبة وغيَّر اسمه ليصبح “التجمع الدستوري الديمقراطي”. كما عمل على احتواء الاتحاد العام التونسي للشغل وتحييد دوره النضالي في الدفاع عن حقوق الشغالين وعموم المواطنين بتنميط الحوار الاجتماعي وضبط مواعيد قارَّة للمفاوضات الاجتماعية من أجل الزيادة الدورية في أجور العمال. كما دفع، بالتوازي مع ذلك، إلى انتخاب أمين عام قريب منه، محاولًا إنهاء العلاقة المتوترة أصلًا بين الاتحاد والسلطة الحاكمة وحسم الصراع بشكل “توافقي” يجعل الاتحاد حليفًا لتلك السلطة ولو بشكل غير معلن. وقد كان له ذلك بتولي إسماعيل السحباني الأمانة العامة للاتحاد إثر مؤتمر سوسة (1989). إنه التحييد بكسب التأييد. ولقد استثمر في ذلك ما بدا تعبيرًا منه عن “حُسن النية” حينما أعاد إلى الاتحاد ممتلكاته التي صودرت منه في غمرة احتداد الصراع بينه وبين النظام البورقيبي(12) واعترف بقيادته الشرعية الموحدة بعد أن فشل “النقابيون الشرفاء” المنشقون عن مكتبه التنفيذي، في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، في تثبيت منظمتهم النقابية التي أسسوها، في فبراير/شباط 1984، وأطلقوا عليها اسم “الاتحاد الوطني التونسي للشغل”(13).
في تلك الأثناء، كان الرئيس زين العابدين بن علي يعمل حثيثًا على توطيد أركان حكمه مصطنعًا “معارضة كرتونية” رسمية باهتة وشبه موالية له وباطشًا بحزم وقوة بالتنظيمات السياسية التي اعتبرها “مناوئة” له أو “ساعية إلى الانقضاض على السلطة”، ولاسيما “حركة النهضة” الإسلامية التي صنَّفها على أنها حركة أصولية تمامية(14) مناهضة للحداثة والتحرر وذات مشروع مجتمعي مهدد لمكاسب المجتمع ونمط عيشه ولحقوق المرأة. كما تعامل نظام ابن علي بشدة مع “حزب العمال الشيوعي التونسي” الذي رفض “التطبيع” مع “صانع التغيير” والتسليم بأن ما قام به، فجر يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، هو “تحول مبارك” من “العهد القديم” (البورقيبي) إلى “العهد الجديد” (النوفمبري)، فلاحق قيادته؛ مما اضطرها إلى العودة إلى العمل السري كما كانت الحال في زمن بورقيبة.
وعلى أية حال، فإن علاقة الاتحاد العام التونسي للشغل بالسلطة السياسية في عهدي بورقيبة وابن علي اتسمت بنوع من “التعاون الصراعي”، والعبارة مقتبسة من أطروحة عالم اجتماع الفعل، آلان توران ((Alain Touraine 15)). كما أن “الارتباط التخادمي” و”التحالف الموضوعي” و”التقاء المصالح” و”حركة المد والزَّجر”(16) كلها ملامح أسهمت في رسم تلك العلاقة التي حاول الاتحاد من خلالها أن يحفظ وجوده ويعزز موقعه في المشهد السياسي ويحافظ على مكاسبه(17). لكن السلطة هي الأخرى حاولت من جهتها أن تستخدم الاتحاد كأحد أذرعها المتغلغلة في نسيج المجتمع، ولاسيما حينما كانت قياداته تنتمي سياسيًّا إلى الحزب الحاكم زمن بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري)، أو حتى حينما كانت تلك القيادات قريبة من “التجمع الدستوري الديمقراطي” (حزب الرئيس، ابن علي). وفي مطلق الأحوال، كان هدف السلطة السياسية الحاكمة مزدوجًا: الضغط على منسوب النضال النقابي و/أو السياسي ومراقبته، واحتواء الاتحاد وتحييد دوره الريادي(18).
وغداة اندلاع “ثورة الحرية والكرامة” (ديسمبر/كانون الأول 2010 -يناير/كانون الثاني 2011)، أسهمت فيها قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل الجهوية والمحلية وقواعده من خلال المشاركة الواسعة في المسيرات الاحتجاجية التي عمَّت البلاد، وأفضت إلى هروب الرئيس زين العابدين بن علي إلى المملكة العربية السعودية، مساء يوم الجمعة 14 يناير/كانون الثاني 2011، إثر مسيرة كبرى بشارع الحبيب بورقيبة(19) تلت تجمعًا صباحيًّا بساحة محمد علي الحامي بالعاصمة أمام مقر الاتحاد وانضمت إليها الفعاليات النقابية والشخصيات السياسية الحزبية والمستقلة، تلت مسيرة مشابهة وإضرابًا عامًّا بمدينة صفاقس(20)، يوم الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني 2011(21).
وقد ظل الاتحاد العام التونسي للشغل رقمًا صعبًا في المعادلات السياسية طوال مرحلة الانتقال الديمقراطي، ولم يكن بوسع أي حكومة من الحكومات المتعاقبة أن تتجاهله(22)؛ مما جعله يكتسب نوعًا من الوطأة على جميع تلك الحكومات ويتحكَّم بطريقة أو بأخرى ليس فقط في تركيبتها وإنما أيضًا في خياراتها وأولوياتها(23). كما كان الاتحاد ممثَّلا في تلك الحكومات بوزراء قريبين منه أو هم من قياداته السابقة.
- “الاتحاد” في زمن ما بعد الثورة ولعبة السياسة خارج إطار الأحزاب
ما من شك في أن الاتحاد العام التونسي للشغل، بإرثه التاريخي الوطني والنقابي، باعتباره سليل الحركة الوطنية المقاومة للهيمنة الاستعمارية، يمثِّل قوة اجتماعية ذات تأثير واضح في مجريات الحياة السياسية(24)، ولاسيما خلال السنوات العشر التي أعقبت الثورة التونسية(25). ويُعرِّف الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه بأنه “منظمة نقابية وطنية ديمقراطية” مستقلة عن كل التنظيمات السياسية(26). إلا أن هذا التعريف يحتاج، في نظر الباحث، إلى التدقيق والتنسيب ولاسيما في ضوء الخطاب النقابي الجديد (بعد الثورة) الذي أصبح فيه “الدور الوطني” (أي السياسي) للاتحاد حاضرًا، شكلًا وخلفية، بطريقة تكاد تحجب “الدور النقابي” (أي الاجتماعي)(27). ومع أن الاتحاد العام التونسي للشغل ليس حزبًا سياسيًّا، بالمعنى القانوني للكلمة، إلا أنه أصبح يلعب دور “الحَكَم بين الأحزاب السياسية” و”الوصي” على الحياة السياسية في تونس، دون أن يتحمل مسؤولية الأخطاء السياسية التي تقع فيها الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حدٍّ سواء؛ حيث إنه يتبرأ منها ومن أخطائها رافعًا شعار “الاستقلالية النقابية”. فهو “يحكم دون أن يحكم” ولكنه “يغنم دون أن يغرم” أي إنه يحكم باسمها ويحركها من وراء ستار ثم يمسح أخطاء الحكم في جلابيبها ويقفز على الربوة، وكذا يفعل مع كل وافد جديد على الحكم بعد الثورة(28).
ومما عزز موقف الاتحاد العام التونسي للشغل وجعل شوكته تقوى أكثر فأكثر قيادته للحوار الوطني، أواخر سنة 2013، إثر أزمة سياسية خانقة أعقبت اغتيال كل من شكري بلعيد، زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد (في 6 فبراير/شباط 2013)، ومحمد البراهمي، زعيم حزب التيار الشعبي (في 25 يوليو/تموز 2013)، ضمن ما عُرف بالرباعي الراعي للحوار(29). ورغم أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد حاول الاستثمار في رأس ماله الرمزي القديم حينما بادر منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2020 باقتراح إجراء حوار وطني جديد(30) يرعاه رئيس الجمهورية، قيس سعيد، إلا أن الرئيس لم يُعِر هذه المبادرة كثيرًا من الاهتمام معتبرًا أن البلاد تحتاج إلى حوار مباشر بين القيادة السياسية، ممثلة في رئيس الجمهورية، والشعب الذي يعبِّر عن إرادته دون أجسام وسيطة(31). ومع ذلك، بدا أن موقف الاتحاد العام التونسي للشغل قد رجَّح، بعد بعض التردد المكتوم، مساندة ما سُمِّي بحركة 25 يوليو/تموز 2021 أو “حركة تصحيح مسار الثورة”، في محاولة منه لاستيعاب هذا المسار وتوجيهه وتوظيفه والاستفادة منه هو الآخر، إلا أن نزوع رئيس الجمهورية، قيس سعيد، إلى احتكار البطولة والزعامة جعل الاتحاد في موقف ارتكاسي يلاحق هذا مسار الغامض الأفق ولا يستطيع احتواءه(32).
وقد نجح الرئيس قيس سعيد في اللعب على التناقضات الأيديولوجية القائمة بين أكبر قوة اجتماعية بالبلاد، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يهيمن على قيادته اليسار النقابي وبعض الأطياف القومية، وأكبر قوة سياسية وهي حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية(33). وقد استفاد من تعميق الشرخ القائم بينهما في خلق صراعات جانبية بين معارضيه؛ حاول الاتحاد أن ينأى بنفسه عنها وأن يستفيد هو الآخر من تشظي المشهد السياسي ليبرز قوة نقابية مؤثرة في الحياة السياسية مستنجدًا بدوره الوطني الذي لطالما أبرزه رقمًا صعبًا في المشهد السياسي دون أن يكون منضبطًا بقواعد العمل الحزبي ونواميسه بحيث يحصد المغانم ويتنصَّل من مسؤولية المغارم. لكن هذه اللعبة المفضلة لدى الاتحاد العام التونسي للشغل لم تعد تجدي كثيرًا في ظل الواقع الجديد الذي فرضه الرئيس قيس سعيد بعد أن أصبح اللاعب السياسي الوحيد الذي يهيمن على كل مفاصل الدولة ويكاد يجمع بين يديه كافة السلطات بما في ذلك السلطة القضائية حيث عيَّن بنفسه أعضاء مجلس القضاء المؤقت بعد أن حلَّ المجلس الأعلى للقضاء وأعفى أكثر من خمسين قاضيًّا من مناصبهم من بينهم رئيس المجلس نفسه(34). وقد أدرك الاتحاد ذلك وعبَّرت قيادته عن هذا الإدراك في أكثر من مناسبة، لكنه ظل يراوح بين موقفين لا يستطيع أن يصدح بأي منهما، فلا هو مستعد لإعلان مساندته الصريحة لمشروع الرئيس قيس سعيد الذي بدأت تتضح معالمه نسبيًّا بعد عرض الدستور الجديد على الاستفتاء، يوم 25 يوليو/تموز 2022(35)، ولا هو في وارد إعلان معارضته الواضحة لهذا المشروع الذي سيهمش الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية الكبرى على حدٍّ سواء وسيسحب البساط من تحتها دون أن يكون بديلًا عنها(36).
- “الاتحاد”: عامل توازن سياسي وأمان اجتماعي أم عنصر معطل لمسار الانتقال الديمقراطي؟
ما من قوة سياسية أو اجتماعية في تونس تستطيع أن تتجاهل دور الاتحاد العام التونسي للشغل في تحقيق التوازن السياسي والأمان الاجتماعي في البلاد(37). وقد برهن الاتحاد على قدرته على لعب هذا الدور حينما قاد تجربة “الرباعي الراعي للحوار الوطني”، في 2013، على صعوبتها وحساسية الظروف التي حفَّت بها(38). لكن الاتحاد نفسه يحتاج إلى إعادة ترتيب بيته الداخلي وحسم بعض المسائل الحساسة المتعلقة بالتداول على القيادة العليا وتعزيز شغل المرأة للمناصب القيادية(39)، والتناغم بين القيادات القطاعية والقيادة المركزية وبين هذه الأخيرة والقيادات الوسطى والميدانية. وحتى لا يكون الاتحاد مضطرًّا إلى صرف أنظار النقابيين إلى الخارج في حركة هروبية إلى الأمام تتجاهل مشاكل الداخل، فهو مدعو إلى تقوية جبهته الداخلية التي أصابها ما أصابها من التصدع والهشاشة، ولاسيما إثر “التمديد القسري” لولاية أمين عام الاتحاد، نور الدين الطبوبي، وبعض أعضاء المكتب التنفيذي الذين كان يفترض أن يغادروا جميعًا طبقًا للنظام الداخلي للاتحاد بعد إتمامهم لدورتين متتاليتين(40). ولهذا لن يسهم الاتحاد بالفعالية المطلوبة في تحقيق التوازن السياسي والأمان الاجتماعي المطلوبين على الصعيد الوطني دون أن يحقق أسباب القوة اللازمة لذلك. وقوة الاتحاد في تماسكه داخليًّا وفي وحدته كيانًا وموقفًا. وتونس تحتاج أكثر من أي وقت مضى لمنظمات وطنية قوية وفاعلة يسهم جميعها، إلى جانب الأحزاب السياسية الوازنة وسائر القوى المدنية الحية في تجنيب البلاد سيناريوهات الانهيار والفوضى والانفلات التي باتت مخاطرها غير بعيدة الاحتمال(41).
ويُحسب للاتحاد العام التونسي للشغل أن قيادته وإن تأخرت في دعم الثورة، فإنها لم تتأخر في المشاركة في تأسيس مجلس حماية الثورة، أواسط فبراير/شباط 2011، ثم في تأسيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي؛ حيث كان ممثلًا فيها بخمسة أعضاء. كما أسهم الاتحاد في تركيز أول هيئة عليا مستقلة للانتخابات وفي إنشاء فروعها بالجهات (المناطق). وقد شاركت قواعد الاتحاد وقياداته الميدانية قبل ذلك في اعتصامي القصبة (1 و2) اللذين فرضا خيار انتخاب مجلس تأسيسي تكون مهمته الأساسية كتابة دستور جديد للبلاد. وقد تمت المصادقة على هذا الدستور التوافقي بأغلبية ساحقة، في 26 يناير/كانون الثاني 2014(42). كما حرص الاتحاد على توقيع العقد الاجتماعي قبيل ذلك، 14 يناير/كانون الثاني 2014، من أجل مأسسة الحوار الاجتماعي. ومع أن الاتحاد قد ناهض حكومة الترويكا (حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات) وكان من أشد خصومها(43) ومن أكثر المطالبين برحيلها في اعتصام باردو (صائفة 2013)، إلا أن قيادته رفضت مسايرة المعارضة في مطالبتها بحل المجلس التأسيسي، تقديرًا منها أن مثل تلك الخطوة هي قفزة في المجهول قد تُدخل البلاد في متاهة لا تعرف نهايتها(44). بل إن الاتحاد خطا خطوة نوعية إلى الأمام حينما دعا إلى حوار وطني جامع أفضى إلى التوافق على تشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة (تكنوقراط)، في أواخر سنة 2013، كانت مهمتها الأساسية استكمال المرحلة الانتقالية وتهيئة المناخ الملائم لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في أواخر سنة 2014. وقد فعلت ثم فسحت المجال لحكومة حزبية توافق عليها “الشيخان”(45). وقد كان نجاح الحوار الوطني وما أفضى إليه من استقرار سياسي وراء منح الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى جانب بقية مكونات الرباعي الراعي للحوار، جائزة نوبل للسلام، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2015.
ومع أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد دأب على الدعوة إلى الحوار والتفاوض -وله في ذلك تقاليد راسخة- حيث انضم في 13 يوليو/تموز 2015 إلى تسعة أحزاب ومنظمتين وطنيتين (الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري) للتوقيع على “وثيقة قرطاج” التي اقترحها الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، في إطار مبادرته المتعلقة بتشكيل “حكومة وحدة وطنية”، ثم بادر بطرح مبادرة للحوار في أواخر سنة 2020 حينما تفاقمت الخلافات بين رئاسة الجمهورية من جهة، ورئاستي البرلمان والحكومة من جهة ثانية، إلا أن ذلك وغيره مما سبقت الإشارة إليه لا يعفيه من جانب من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من فوضى وهشاشة وغموض رؤية وعدم استمرارية للدولة، ولاسيما في ظل تفاقم الصراعات السياسية وتعاقب الحكومات الظرفية وعدم وضوح الخيارات والأولويات وعجز السلطات العمومية عن تحقيق أهداف الثورة والاستجابة لانتظارات المواطنين.
لقد كانت قيادة الاتحاد حريصة على الزعامة والريادة ومسك خيوط اللعبة السياسية وتدجين الحكومات المتعاقبة، ومن ثم إضعاف الأحزاب والقوى السياسية التي تشكِّلها أو تدعمها وتسفيهها؛ مما أسهم في ترذيل الحياة السياسية والعمل البرلماني، ومن ثم شيطنة السياسيين والنواب المتحزبين وإظهارهم في صورة المتهافتين على السلطة والانتهازيين المنصرفين عن الاهتمام بمشاغل المواطنين. صحيح أن البرلمان شهد مماحكات ومناكفات عديدة، وصحيح أن الحكومات ظلت تلاحق المشكلات ولا تستبقها، وتعالج الأعراض دون أن تهتم كما يجب بالجوهر. لكن صحيح أيضًا أن الاتحاد قد أطلق العنان لكل النقابات التي تتبعه، في كل القطاعات، لكي تستخدم حق الإضراب على إطلاقه -بما في ذلك الإضراب العشوائي(46)- وتطرح ما يحلو لها من المطالب دون أن تلتزم بأي سقف ودون أن تراعي أي ضابط تنظيمي كُتب في نص قانوني أو جرى به العمل. بل إن قيادة الاتحاد دأبت على الدفاع عن منظوريها ونصرتهم ظالمين أو مظلومين وقلما عبَّرت عن عدم موافقتها على مطلب غير واقعي أو على إضراب غير قانوني أو على سلوك غير منضبط صدر من أحد النقابيين في حق أي مسؤول من مسؤولي الدولة بمن في ذلك كبار المسؤولين. لقد فاق تمرد النقابيين على القواعد القانونية، بما في ذلك القواعد المنظمة للتفرغ النقابي(47) أو للإضراب عن العمل، وتجرؤهم على مسؤولي الدولة ورموزها، وتعطيلهم لسير العمل بالمرافق العامة والخاصة، وتدخلهم السافر في تسيير المؤسسات، وتنمرهم على كل من يتشبث بتطبيق القانون ويحرص على إعلاء المصلحة العليا(48)… لقد فاق كل ذلك وغيره من التجاوزات كلَّ التوقعات.
وإذا كانت القيادات النقابية الوسطى والميدانية قد “تحررت” إلى حدٍّ ما من سلطة القيادة النقابية المركزية حتى إنها أصبحت تتحداها من حين لآخر، وتضعها أمام الأمر الواقع، مستغلة بعض الصراعات و/أو التوازنات الداخلية، فإن ذلك يحدث بالأساس في الأوساط المهنية ولا يكون له في الأعم الأغلب بعد سياسي واضح. أما مواقف الاتحاد من التحولات السياسية والأحداث الجارية والخيارات المطروحة على الصعيد الوطني، فإنها من اختصاص القيادة النقابية العليا. وهي مسؤولة عنها أمام منظوريها ولكن أيضًا أمام الفاعلين السياسيين الوطنيين؛ حيث إن هؤلاء وإن نادوا في زمن السلم والاستقرار بضرورة أن يكتفي الاتحاد بإبراز هويته النقابية فيصدر عن مرجعيتها المضيقة في نضالاته وتحركاته تاركًا السياسة وإدارة الشأن العام للسياسيين الذين فوضهم الشعب للقيام بذلك وسيحاسبهم عبر صناديق الاقتراع، إلا أنهم سرعان ما يهرعون إلى ساحة محمد علي الحامي (مقر الاتحاد) كلما احتد بينهم الصراع أو أصاب بعضهم التهميش أو الإزاحة عن المشهد السياسي معولين على سطوته على خصومهم وآملين في نصرته لهم. ويبدو أن الاتحاد قد استمرأ هذا الدور، دور الملجأ والملاذ الذي يجعل الجميع يخطبون وده ويُعرضون عن محاسبته بل ويغضون الطرف عن أخطائه. كيف لا، وهو المربط النشيط والمحور الذي يدور حوله بقية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين؟! والاتحاد يدرك ذلك تمامًا. لذلك، فهو يعمد إلى التمنع والتسويف وسائر أشكال المناورة كلما عاد إليه قصب السبق أو استعاد زمام المبادرة. لكن الاتحاد يدرك أيضًا أنه ليس بمنأى عن المحاسبة، تمامًا مثلما يدرك أنه قد يجد نفسه في مرمى “النيران الصديقة”. لذلك، هو يحاول أن يدير اللعبة بحذر مطالبًا السلطة القائمة بضمانات واضحة.
خاتمة
رغم الرصيد الذي راكمه الاتحاد العام التونسي للشغل في مضمار إدارة الأزمات والتعاطي مع الوضعيات المتأزمة، بما في ذلك السياسية والاجتماعية والاقتصادية منها، لا يزال خطاب أمينه العام يعكس جنوحًا إلى توخي أسلوب المناورة والحذر في التعبير عن موقف الاتحاد مما يحصل من تحولات وأحداث منذ أن تم إعلان الإجراءات الاستثنائية من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز 2021. وهذا قد يُفهم على أنه جزء من إستراتيجية الاتحاد لإعادة التموقع في المشهد السياسي الجديد الذي تبدو فيه الأحزاب مهمشة وشبه عاجزة عن التأثير في مجريات الأحداث. أما المنظمات الوطنية، وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل، فهي تناضل من أجل البقاء وتعمل على إيصال صوتها والتأثير في النخب وفي الجمهور العريض في ظل هيمنة خطاب شعبوي حرص الرئيس قيس سعيد على أن يوظفه في كل مناسبة لتخوين خصومه وشيطنتهم.
وحيث إن حبل الشعبوية قصير، لأن مطارق الواقع أشد منها تأثيرًا في مواقف الناس واتجاهاتهم، فإن كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين الديمقراطيين، بمن فيهم مزدوجو المكانة والدور مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، مطالبون بحسم معركة الانتقال الديمقراطي لصالح الوطن ووضع حدٍّ للصراع القائم منذ أكثر من عقد من الزمن بين قوى الثورة المطالبة بإحداث تغيير حقيقي يحول دون الانتكاس والعودة إلى مربع الاستبداد، وقوى الثورة المضادة الرافضة للتغيير والمشكِّكة في الثورة والمرذِّلة للممارسة الديمقراطية. ولكن، هل الاتحاد الذي آثر منذ أكثر من سنة مراقبة الأحداث على الانغماس فيها ولم يلق بثقله في الميدان قادر في الوقت الراهن على قلب المعادلة والانتصار للشعب وللديمقراطية وبالتالي للثورة بعيدًا عن الشعبوية التي تثير الجعجعة والزبد الرابي(49) ولكنها لا تنتج ما ينفع الناس ويمكث في الأرض(50)؟
المراجع
(1) يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل أكبر منظمة نقابية في تونس، حيث بلغ عدد منخرطيه 500 ألف منخرط، سنة 2017. وهو ممثَّل ترابيًّا في كامل ولايات الجمهورية التونسية (24 اتحادًا جهويًّا). ويلاحظ أن أغلب منتسبي الاتحاد العام التونسي للشغل هم من موظفي القطاع العام.
(2) “يُعد الاتحاد العام التونسي للشغل من أكبر الحركات النقابية وأكثرها تأثيرًا على السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية وعلى المشهد السياسي في تونس؛ حيث إنه يمثِّل فاعلًا مدنيًّا اجتماعيًّا مركزيًّا ليس للدفاع عن حقوق الشريحة العمالية فحسب بل لتأمين الوحدة الوطنية أيضًا (…) كل ذلك وغيره جعل منه ركيزة لإنقاذ مرحلة الانتقال الديمقراطي من جهة وصاحب شرعية شعبية وسياسية لدى النخب السياسية من جهة أخرى”. انظر: سهام الدريسي، “الاتحاد العام التونسي للشغل: المكون المدني المشارك في إدارة الحكم”، مركز الفكر الإستراتيجي للدراسات، 14 يونيو/حزيران 2022، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3AuUaOz.
(3) التشوش والبلبلة والخواء (chaos).
(4) للدور السياسي متطلبات واستحقاقات تضع الجهة التي تمارسه تحت عدة ضغوط قد تضطرها لتقديم تنازلات أو للقيام بمناورات من شأنها أن تحيد بها عن مبادئها وقيمها المرجعية.
(5) “التداخل بين السياسي الوطني والنقابي المطلبي يُعد خصوصية تونسية بامتياز”. انظر: سالم لبيض، “عن الخيار الثالث والحاجة إلى الإنقاذ الوطني في تونس”، العربي الجديد، 10 ديسمبر/كانون الأول 2021.
(6) من الأقوال المنسوبة للزعيم النقابي، فرحات حشاد، قوله: “إن السياسة موجودة حيث ما كنَّا، وإننا إذا ما حاولنا تجاهلها فإنها لن تتجاهلنا”.
(7) اعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل أن من مهامه الإستراتيجية المساهمة بفعالية في بناء دولة الاستقلال وفي وضع خياراتها التنموية وتوجيه سياساتها الاقتصادية والاجتماعية في إطار “عقد اجتماعي” صريح أو مضمر هدفه إرساء السلم الاجتماعي وتحقيق الاستقرار.
(8) كان للاتحاد العام التونسي للشغل دور أساسي في تنظيم هذا المؤتمر وحمايته؛ حيث عُقد في غمرة الصراع بين صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة اللذين بلغ الخلاف بينهما ذروته في علاقة بصيغة استقلال البلاد التي يتعين تبنِّيها (استقلال مرحلي: داخلي ثم خارجي، كما قبل به بورقيبة، أم استقلال تام ضمن منظور تحريري مغاربي، كما نادى به ابن يوسف؟). وقد وقف الاتحاد إلى جانب الحبيب بورقيبة وساعده أيما مساعدة في حسم الخلاف لصالحه.
(9) في صباح يوم الثلاثاء، 30 مارس/آذار 1982، شهد الحي الجامعي بمنوبة (سكن جامعي مخصص لطلبة المرحلة الجامعية الأولى بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس) أعمال عنف دموي استهدفت طلبة إسلاميين. وقد نُسبت هذه الأعمال إلى طلبة يساريين قدموا للغرض من عدة مؤسسات جامعية.
(10) “نرجعو وين ما كنا قبل الزيادات”. وردت هذه الجملة باللهجة العامية التونسية في خطاب مسجل للرئيس الحبيب بورقيبة بُثَّ عبر الإذاعة والتليفزيون، صباح يوم الجمعة 6 يناير/كانون الثاني 1984.
(11) من بين الشعارات التي رفعها المحتجون وقتئذ ضد الوزير الأول، محمد مزالي، الذي كانت زوجته، فتحية مزالي، وزيرة للمرأة: “مرتو وزيرة وهو وزير، وآش يهمو في الفقير”.
(12) “يتجدَّد الجدل حول دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الشأن السياسي الوطني عادة عندما يحصل التوتر بين المركزية النقابية والسلطة السياسية الحاكمة التي تتهم المنظمة النقابية بتجاوز وظيفتها الطبيعية من المطلبية الاجتماعية إلى الشأن السياسي. وفي المقابل، لا تجد تلك السلطة حرجًا في الاستنجاد بالاتحاد عندما تعترضها الأزمات. ويمكن القول تجوزًا: إن الاتحاد يُستدعى إلى المعارك ولا يُستدعى إلى الولائم”. انظر: عبد اللطيف الحناشي، “دور الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة والانتقال الديمقراطي”، مركز رع للدراسات الإستراتيجية، 19 يونيو/حزيران 2021، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://rcssegypt.com/4078.
(13) حظي هذا “الاتحاد الموازي” وأمينه العام، عبد العزيز بوراوي، بالدعم وقتئذ من السلطة الحاكمة. لكنه لم يعمر طويلًا، حيث عُقد، في يناير/كانون الثاني 1987، مؤتمر توحيدي بين المنظمتين المتماحكتين أُعيد فيه عبد العزيز بوراوي إلى المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل.
(14) التمامية (integrism) هي اتجاه فكري يحاول الاحتفاظ بتمام نظام معين (كالدين مثلًا). وقد أطلق هذا الوصف، تاريخيًّا، على الكاثوليك الذين يرفضون كل تطور ويأبون مجاراة الحياة الاجتماعية الحديثة.
(15) Alain Touraine, Sociologie de l’action (Paris: Editions du Seuil, 1965).
(16) تشير هذه العبارة في الأصل إلى حركة البحر التي تراوح بين “المد والجزر”. لكننا قصدنا استعمال مفردة “الزجر” عوضًا عن مفردة “الجَزْر” لأنها تعبِّر بشكل أفضل عما نعنيه.
(17) “تمتع الاتحاد العام التونسي للشغل بنوع من حرية الحركة والنفوذ؛ مما أتاح له القدرة على التعبير عن مصالح العمال والتأثير في مجريات العملية السياسية في شتى مستوياتها، والمساهمة في تنشئة عدد من الكوادر السياسية، كما شكَّل قناة مزدوجة للاتصال بين العمال من جانب والنخبة السياسية من جانب آخر (…). ولم يكن تحرير البلاد، وهو الهدف المشترك بين الحزب والاتحاد، ليحجب بدايات تشكُّل الطابع الخلافي بينهما وظهور التناقض بين موقف حزبي يؤكد على ضرورة سير الاتحاد في اتجاه الحزب، وموقف نقابي يدعو إلى تثبيت خصوصية الاتحاد واستقلاله. وقد برهنت مجريات الصراع بين الطرفين على أن الحزب الحاكم رغم نجاحه أحيانًا في إحكام قبضته على الاتحاد عبر التأثير في عناصره تارة واللجوء إلى العنف تارة أخرى، إلا أنه أخفق إخفاقًا ذريعًا في تطويع الاتحاد”. انظر: عائشة عياش، “الاتحاد العام التونسي للشغل والشراكة في بناء الدولة الوطنية: جدلية الفعل النقابي والسياسي”، المركز الديمقراطي العربي، 26 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3B6vPi9.
(18) لطالما حاولت السلطة الحاكمة أن تجعل من “الاتحاد” مجرد “أداة ضغط” في يدها تستخدمها أحيانًا لإضعاف المعارضة، وأحيانًا أخرى لاحتواء المطالب الاجتماعية. أما وسيلة التحييد المفضلة لدى السلطة في تعاملها مع المنظمة النقابية فهي كسب تأييدها، مثلما حصل سنة 1981 بمناسبة الانتخابات التشريعية (التحالف بين الاتحاد والحزب الحاكم في إطار “الجبهة القومية”) وما حصل سنة 2004 حينما أيد الاتحاد ترشيح الرئيس، ابن علي، للانتخابات الرئاسية.
(19) الشارع الرئيسي بمركز تونس العاصمة.
(20) ثاني أكبر المدن التونسية و”العاصمة الاقتصادية” للبلاد.
(21) شهدت مدينتا القيروان (وسط البلاد) وتوزر (جنوب غربي البلاد) إضرابًا عامًّا في نفس اليوم.
(22) “لقد حررت الثورة العمل النقابي من التبعية للسلطة ولحزبها. وتحققت الحريات السياسية وإن بقيت ملغومة ومهددة”. انظر: خميس عرفاوي، “الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة وفي الانتقال الديمقراطي”، موقع النهج الديمقراطي، 17 أيار/مايو 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3ePbI0I.
(23) “إن نفوذ الاتحاد العام التونسي للشغل في الحياة السياسية لم يأت من فراغ، وإنما جاء تبعًا لإرث تاريخي ونضالي حافل منذ تأسيسه. فشرعية الدور الحالي هي نتاج للدور الذي لعبه في الماضي؛ إذ لا أحد ممن قرأ التاريخ التونسي يمكنه تجاهل دور الاتحاد العام التونسي للشغل في النضال الوطني قبل الاستقلال. وقد واصل التزامه بالمبدأ الأساسي الذي قامت عليه أولى تجاربه في العمل النقابي، وهو عدم إمكانية الفصل بين الدفاع عن المطالب الاجتماعية والمطالب السياسية. ولذلك، من غير الممكن إزاحته من اللعبة السياسية”. عياش، “الاتحاد العام التونسي للشغل والشراكة في بناء الدولة الوطنية”، المركز الديمقراطي العربي، مرجع سابق.
(24) “إن الاتحاد العام التونسي للشغل منظمة مدنية تراوح بين العمل النقابي والفعل السياسي؛ حيث لا يمنع نظامه الداخلي من تولي أحد قياداته أو منخرطيه النقابيين مناصب سياسية أو الالتحاق بحزب سياسي. وهذا ما يجعل التوجهات النقابية مؤثرة ومنتشرة داخل الأحزاب السياسية. فهي متغلغلة ضمن فكر اليسار التونسي. وتظهر دائمًا انتقادات من طرف الخصوم السياسيين للنقابة ولليسار التونسي، من خلال اتهامهم بالتحالف والتحزب مثلما حصل في انتخابات 2014”. الدريسي، “الاتحاد العام التونسي للشغل”، مركز الفكر الإستراتيجي للدراسات، مرجع سابق.
(25) في ظل تعددية نقابية ناشئة وبيئة شبه خالية من تكافؤ الفرص والحظوظ، يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل المنظمة النقابية الأعرق والأقوى في تونس، بل والأقرب إلى الحزب السياسي غير المعلن رسميًّا؛ حيث إنها تحتمي بالغطاء النقابي الذي يقيها من هجمات السياسيين ولاسيما المتحزبين منهم.
(26) تتلخص مبادئ الثقافة النضالية للاتحاد في أربعة، هي: الدفاع عن الشغالين، والنضال الوطني، والاستقلالية، وإعلاء قيم “العدالة والحرية والكرامة”.
(27) تعتبر الباحثة هالة يوسفي الاتحاد العام التونسي للشغل “أكثر من نقابة عمالية وأقل من حزب سياسي”؛ فهو باعتقادها “منظمة هجينة. فلا هو بالسلطة ولا هو بالسلطة المضادة. وإنما هو قوة توازن…”. انظر كتابها: الاتحاد قصة شغف تونسية: بحث مسحي حول النقابيين الثائرين:
Héla Youssefi, L’UGTT: une passion tunisienne: enquête sur les syndicalistes en révolution, 2011-2014 (Tunis: IRMC, 2013), 102.
(28) هذا السلوك السياسي المتسم بالمناورة يترجم جيدًا المثل الشعبي التونسي القائل: “داخل في [حساب] الربح، خارج من [حساب] الخسارة”.
(29) الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين.
(30) انظر نص الورقة التي نشرها الاتحاد على موقعه الإلكتروني: أحمد العسالي، “مبادرة للخروج من الأزمة في اتجاه خيارات وطنية جديدة”، موقع الاتحاد، 1 ديسمبر/كانون الأول 2020، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3KuoMUT.
(31) “اللقاء بين من يرى في نفسه شريكًا في المشهد السياسي الاجتماعي بعد الثورة ومن يتقدم على أنه بديل عن الوضع كله يبدو مستحيلًا. لذلك لم يكن ممكنًا أن يقبل الرئيس قيس سعيد بدعوات الاتحاد المتكررة إلى الحوار، قبل 25 يوليو/تموز وبعده. فالحوار عند قيس سعيد سيكون مع الشعب التونسي ومع الشباب”. انظر: زهير إسماعيل، “الاتحاد وسعيد والشراكة المستحيلة”، ألترا تونس، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3RCRk16.
(32) “بعد انتظار وترقب، لم يكن موقف المركزية النقابية معارضًا للإجراءات الاستثنائية، وكان أقرب إلى مساندة مشروطة بضمانات منها التسقيف الزمني للإجراءات الاستثنائية حتى لا تتحول إلى حالة دائمة تصادَر فيها الحريات وتهيئ لعودة الاستبداد والتفرد بالرأي…”. “ومع تطور الأحداث (…) عرف موقف الاتحاد صعودًا ونزولًا دون أن يؤثر ذلك في أصل الموقف. والاتحاد في كل ذلك مشدود إلى توازنات مكتبه التنفيذي وتفاعلات المشهد السياسي والموقف الدولي المراقب”…ولئن كان “الاتحاد أقرب إلى المنظومة القديمة في صراع القديم والجديد بعد الثورة، فإن طبيعته النقابية الاجتماعية تجعل سقفه سقف الدولة نفسه. فالاتحاد في كل الأحوال يقدِّم نفسه نظيرًا اجتماعيًّا بدرجة أولى وشريكًا سياسيًّا بدرجة ثانية. وكان هذا حتى في أشد الفترات توترًا زمن حكم الترويكا. ومن هذا المنطلق كان أحد أهم أعمدة الحوار الوطني التي أخرجت البلاد من أزمة 2013”. انظر: إسماعيل، “الاتحاد وسعيد والشراكة المستحيلة”، ألترا تونس، مرجع سابق.
(33) تفترض عائشة عياش، الأستاذة بكلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر 3، أن “التعارض بين المعلن والمضمر والشعار والممارسة، هو الذي طبع شكل العلاقة الجدلية بين حركة النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل بعد ثورة الياسمين”. انظر: “الاتحاد العام التونسي للشغل والشراكة في بناء الدولة الوطنية”، المركز الديمقراطي العربي، مرجع سابق.
(34) “إلى جانب الصراع الديمقراطي داخل المنظومة الديمقراطية وبسقف الدستور، انطلق مع انتخابات 2019 صراع جديد (الصراع ضد الديمقراطية) نتيجة صعود قوتين جديدتين (قيس سعيد، والدستوري الحر) تتقدمان على أنهما بديل عن الديمقراطية ونظامها الجديد وليسا من الشركاء في استكمال تأسيسه”. زهير إسماعيل، “سنوات الانتقال العشر في تونس: رؤية من الداخل”، ألترا تونس، 30 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3U95CbI.
(35) يوافق هذا التاريخ الذي اختاره الرئيس قيس سعيد موعدًا للاستفتاء على الدستور، الذكرى الخامسة والستين لإعلان الجمهورية.
(36) “في ظل هذا الفراغ يفرض دور اتحاد الشغل نفسه ويدفع به إلى الأدوار السياسية. ولو قبل قيس سعيد بالشراكة مع الاتحاد وروافده لنجح (…) في إعادة بناء المشهد كما يريده خصوم المسار الديمقراطي من شركاء تونس التقليديين وحلفائهم في الداخل. لذلك يبرز الاتحاد وحركة النهضة قوتين لعلهما الرافعة السياسية الوحيدة للمشهد السياسي… وفي هذا السياق، يأتي تذكير البرلمان الأوروبي بدور الرباعي الراعي للحوار، وفي ذلك تلميح إلى أن المخرج لن يكون إلا بحوار وطني شامل بمرجعية الدستور والديمقراطية”. انظر: إسماعيل، “الاتحاد وسعيد والشراكة المستحيلة”، ألترا تونس، مرجع سابق.
(37) “لقد استفاد الاتحاد من الثورة؛ إذ تخلص نهائيًّا من التبعية للحزب الحاكم وحقق استقلاليته. وهذا ما رشحه للعب الأدوار الأولى في مرحلة الانتقال الديمقراطي”. انظر: عرفاوي، “الاتحاد العام التونسي للشغل في الثورة وفي الانتقال الديمقراطي”، موقع النهج الديمقراطي، مرجع سابق.
(38) “تموقع الاتحاد العام التونسي للشغل كشريك أساسي في مختلف اللحظات الفاصلة خلال المرحلة الانتقالية، حيث تميز بدور الوسيط المفاوض كلما تزعزعت شرعية السلطة الحاكمة، وتدخل في إعادة هندسة المشهد السياسي التونسي كلما “تصدع جهاز الهيمنة” على حد تعبير المفكر غرامشي”. الدريسي، “الاتحاد العام التونسي للشغل”، مركز الفكر الإستراتيجي للدراسات، مرجع سابق.
(39) “تتعرض المنظمة العمالية لانتقادات واسعة من طرف النقابيات المنتميات إليها ومن باقي الجمعيات النسوية، بسبب التهميش للمرأة من الأدوار القيادية”. انظر: الدريسي، “الاتحاد العام التونسي للشغل”، مركز الفكر الإستراتيجي للدراسات، مرجع سابق.
(40) بعد محاولات عديدة، تم تنقيح الفصل 20 من النظام الداخلي للاتحاد العام التونسي للشغل في صائفة 2021 بما يتيح للقيادة النقابية الحالية (الأمين العام وبعض أعضاء المكتب التنفيذي) الترشح لدورة ثالثة تدوم خمس سنوات. وقد تم على هذا الأساس التمديد لنور الدين الطبوبي وإعادة انتخابه أمينًا عامًّا للاتحاد، في فبراير/شباط 2022.
(41) بكثير من التفاؤل، كتب زهير إسماعيل يقول: “المشهد برمته يتحرك نحو حوار وطني شامل ينقذ الدولة (…) ويُفعِّل تدريجيًّا المؤسسات الديمقراطية المعطلة. وسيكون لاتحاد الشغل دور ريادي إذا التقط اللحظة، بعد ترميم صفه الداخلي، فالهشاشة التي تعرفها المنظمة الشغيلة غير مسبوقة”. انظر: “الاتحاد وسعيد والشراكة المستحيلة”، ألترا تونس، مرجع سابق.
وقد ذكَّرني ذلك بما كتبه مسعود الرمضاني قبل خمس سنوات (2017) في تقديمه لكتاب: “الانتقال الديمقراطي العسير”؛ حيث أشار إلى أن “المسار يتجه عمومًا نحو النجاح. ولكن هذه التجربة الفريدة لا تخلو من إشكاليات ساهمت في تعطيل المسار وألقت بظلال هواجس كبيرة حول مستقبل البلاد ومدى نجاحها في تجاوز هذه المرحلة”. انظر: “الانتقال الديمقراطي العسير”، سلسلة قضايا الإصلاح (36)، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2017، ص 7.
(42) لا تخفى الدلالة الرمزية لهذا التاريخ (اليوم والشهر) على الملاحظ المتنبِّه. فهو في سنة 1978 ذكرى أليمة دامية في سياق صراعي ومأزوم، بينما هو في سنة 2014 تتويج لمسار تشاوري/توافقي وحَّد الفعاليات السياسية والمدنية وسائر القوى الحية في تونس وجمعها حول دستور توافقي يلبي تطلعات الجميع ويستجيب لانتظاراتهم في ذلك الوقت.
(43) اتسمت العلاقة بين الاتحاد و”حكومة الترويكا”، التي كان يرأسها حمادي الجبالي، أمين عام “حركة النهضة”، ثم علي العريض، نائب رئيسها، بالتوتر لأسباب سياسية وأخرى أيديولوجية. وقد شهدت ساحة محمد علي الحامي (المقر المركزي للاتحاد)، يوم 4 ديسمبر/كانون الأول 2012، اشتباكات بين بعض النقابيين وعدد من نشطاء “روابط حماية الثورة” القريبة من بعض مكوِّنات حكومة الترويكا. على إثر ذلك، هدد الاتحاد بشن إضراب عام يوم 13 ديسمبر/كانون الأول 2012، وطالب في بيان أصدره يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2012 بحلِّ هذه الروابط.
(44) كان ذلك موقفًا وطنيًّا رصينًا يُحسب للاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يكن ممثلًا بأي نائب في المجلس الوطني التأسيسي، على غير ما كانت عليه الحال في كل المجالس والدورات النيابية السابقة منذ استقلال البلاد إلى حين قيام الثورة، حيث كان للاتحاد نواب شعب يمثلونه بطريقة أو بأخرى خلال كامل الحقبة الممتدة من 1956 إلى 2010.
(45) يشير مصطلح “الشيخين” في تونس إلى رئيس “حركة النهضة”، الشيخ راشد الغنوشي، ورئيس “نداء تونس”، الباجي قائد السبسي.
(46) تسببت الإضرابات عن العمل التي دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل لدعم مطالب توفير الوظائف وزيادة الأجور في إلحاق أضرار واسعة النطاق بالاقتصاد منذ سنة 2011. وقد انسحبت في الأثناء عدة شركات تصنيع إلى خارج البلاد في مواجهة المطالب غير الواقعية بأجور أعلى، وبتوظيف عمال وموظفين إضافيين دون حاجة لهم عادة.
(47) تُضبط قائمات النقابيين المخولين بالتفرغ النقابي، في الأصل، بالاتفاق بين الاتحاد ورئاسة الحكومة، وتُراجع بصفة دورية. لكن فرض التفرغ النقابي أمرًا واقعًا من قبل بعض القيادات النقابية الوسطى غيَّب هذه الآلية منذ قيام الثورة.
(48) لقد كنتُ مستهدفًا بمثل تلك السلوكيات حينما كنت وزيرًا للتربية، سنة 2014؛ حيث وصل الأمر إلى حدِّ اقتحام مكتبي والاعتصام داخله من قبل بعض النقابيين.
(49) أي الذي يعلو فوق الماء لكنه سرعان ما يضمحل ويتلاشى ثم يندثر.
(50) حسب الباحثة، عفيفة المناعي، “يرتبط الجواب عن هذا السؤال بمدى قدرة النقابات العمالية ومن بينها الاتحاد العام التونسي للشغل على تشكيل قوة تنظيمية بديلة تكرس دور العمال في عملية التغيير وتقطع الطريق على الثورة المضادة سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا من خلال دورها في طرح مشاريع مجتمعية بديلة لبناء أنظمة ديمقراطية اجتماعية، أولًا، وضمان الاستقلالية النقابية في مرحلة الانتقال الديمقراطي وإبعادها عن كل التجاذبات السياسية، ثانيًا”. انظر مقالها الموسوم: “الاتحاد العام التونسي للشغل والانتقال الديمقراطي”، مبادرة الإصلاح العربي، برنامج دعم البحث العربي- الدورة الثانية، 4 يناير/كانون الثاني 2015، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2022)، https://bit.ly/3RGx3aZ.