مقدمة

لا يمكن لأية دولة في العالم أن تعيش منعزلة عن سياق العولمة الجارف الذي يخترق الحدود والسيادات، ولذلك تدخل في علاقات مع الجوار الإقليمي والعالمي في إطار منظم أكثر ما يميزه حساب المكاسب والخسائر التي تنعكس على كافة قطاعات الدولة الحيوية. وعلى هذا الأساس ينطلق عمل التقييم لأي نشاط حكومي، وترتكز منهجية التدقيق في اتباعه لأنجع الطرق التي تسمح باتخاذ القرارات الصائبة بعد دراسات وافية تأخذ بعين الاعتبار نقاط الضعف والقوة في القطاعات جميعها وخاصة الاقتصادي منها الذي يمثِّل القطاع الأكثر حيوية الآن في سياق التفاعل والاعتماد المتبادل مع العالم.

انطلاقًا من هاتين النقطتين، فإن إشكالية البحث تسعى للإجابة على سؤال محوري بالنسبة للحالة الجزائرية، وهو: إلى أي مدى تم احترام سياقات التفاوض وربط الاتجاه للتوقيع على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في 2005 بأبجديات التقييم العلمي للاقتصاد الجزائري وتحديد نقاط القوة والضعف فيه تحسبًا لانعكاسات محتملة إذا تم التوقيع على تلك الاتفاقية؟ وهل تم التدقيق في مكاسب الجزائر وخسائرها المحتملة إذا وقَّعَت على مثل تلك الاتفاقية اعتمادًا، بصفة خاصة، على تجربتي تونس والمغرب السبَّاقتين إلى الدخول في سياق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي؟

لمقاربة هذه الإشكالية وتحليل أبعادها، ستركز الدراسة على العناصر التالية:

– السياسات العامة: أسس واقعية لمقاربة ناجعة.

– العلاقات الجزائرية-الأوروبية: السياق التاريخي، رؤية وتقييم.

– الاقتصاد الجزائري: تشخيص نقاط القوة والضعف.

– مضمون سياق الشراكة المعروض من الاتحاد الأوروبي.

– الجزائر واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي: الواقع الاقتصادي وتقييم الأداء التفاوضي.

– تقييم الأداء الحكومي من خلال اتفاقية الشراكة.

– آفاق الاتفاقية ووضع أسس لسياسات عامة رشيدة.

  1. السياسة العامة: أسس واقعية لمقاربة ناجعة

من الأهمية بمكان، عند معالجة موضوع شائك مثل الذي تتضمنه إشكالية البحث، التعرض لمبادئ السياسة العامة كما حددها الدارسون العارفون بهذا المجال الرحب، حيث أشاروا إلى وجوب توافر عناصر أساسية حتى يمكن النظر إلى تلك السياسة العامة باعتبارها ناجعة وذات مستقبل.

من بين تلك المبادئ التي تم الاتفاق عليها، عناصر خمسة، هي:

– الفكرة: أي المشروع الذي تقوم عليه أية سياسة عامة لتضمن جمع الموارد لإنجاحها.

– التخطيط والبرمجة: بمعنى وضع أسس علمية ورؤى تضمن لتلك السياسة العامة السير بانتظام/بنظام سعيًا لتحقيق نتائج مرضية.

– الموارد: بشرية ومالية وتدعيمية ضمانًا لتجسيد مخطط ومنظم للسياسة العامة والمعرفة المسبقة لاحتياجات يجب توفيرها سعيًا نحو نجاعة محققة.

– التقييم/التقويم: يستدعي البرمجة والتخطيط وضع مخطط مرحلي لتجسيد السياسة العامة والعمل على إجراء تقييم لما تم تحقيقه وتقويم الأخطاء (إدخال تعديلات) على الأخطاء التي تكون قد وقعت في مسار تلك السياسة.

– الاستشراف: وضع تصور مستقبلي إما لمآلات تلك السياسة وتداعياتها على التصور العام لمستقبل السياسة أو تصور مستقبلي بناء على عمليتي التقييم والتقويم لمجمل السياسة العامة التي تم التفكير فيها، وبرمجتها/تخطيطها وجمع الموارد لها.

انطلاقًا مما سبق ذكره، تعمد الدراسة إلى البحث في سياسة عامة تفاوضية لإقرار اتفاقية شراكة حيوية بين الجزائر وقطب اقتصادي كبير هو الاتحاد الأوروبي تأسيسًا، بصفة تراكمية، على الحالة الانكشافية التي يوجد فيها الاقتصاد الجزائري بفعل الضعف الهيكلي الناجم عن سياسة الريع النفطي، من ناحية، والحالة المزرية التي خرج بها من العشرية السوداء بعد تدخل الجيش لإلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية عام 1991.

وقد تم تصور تلك التراكمية الانكشافية اعتمادًا على عناصر مهمة تنطلق من حقيقة العلاقات الجزائرية-الأوروبية، في سياقها التاريخي، ثم دراسة الوضع الاقتصاد الجزائري من حيث ضعفه وتنافسيته وتنوُّعه وجاذبيته للاستثمارات الخارجية ونسبة انخراطه في سياق العولمة، وصولًا إلى قراءة في تقارير دولية من حيث نسبة الحرية في التعاملات/المعاملات الاقتصادية الجزائرية.

 

  1. العلاقات الجزائرية-الأوروبية: السياق التاريخي، رؤية وتقييم

عرفت العلاقات الجزائرية-الأوروبية تواصلًا مستمرًّا عبر التاريخ. فالجزائر كانت حينًا رومانية، وحينًا، بعد دخول الإسلام إليها، مَعبرًا للوجود الإسلامي في الأندلس ومستقرًّا للآلاف من الوافدين إليها بعد سقوط غرناطة عام 1492، إضافة إلى تعرضها لموجات الاحتلال أو الهجمات الأوروبية في العصور الوسطى وأثناء الوجود العثماني فيها. وكان الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، الذي دام فترة تقارب 132 سنة، أطول فترات التواصل الجزائري مع أوروبا، وقد استمر بفعل الإرث الاستعماري المتمثل في عاملين، هما: اللغة والعمالة المهاجرة الجزائرية الكبيرة في فرنسا.

نتيجة لهذا، إذن، فالعلاقات الجزائرية-الأوروبية طبيعية بحكم التاريخ والتقارب الجغرافي والترابط الجيوسياسي، وهي كلها عوامل أسهمت في إيجاد سياق تفاعلي حيوي للطرفين سارعت الجزائر، بعد الاستقلال، للإبقاء عليه ليأخذ أشكالًا مختلفة ابتداء بالسياسة المتوسطية الشاملة الأوروبية، مرورًا بالحوار العربي-الأوروبي، ووصولًا إلى مساري برشلونة للشراكة المتوسطية واتفاقية الشراكة المبرمة سنة 2002 والتي دخلت حيز التنفيذ عام 2005.

وقد تميزت هذه العلاقات بعدة خصوصيات، يمكن إجمالها في النقاط التالية:

أ- المبادرة بربط العلاقات شكلًا ومضمونًا كانت دائمًا من الجانب الأوروبي.

ب- تتميز المبادرات الأوروبية بتعددها واختلاف مضامينها؛ فهي سياسة متوسطية شاملة، ثم حوار عربي-أوروبي، ثم مبادرة شراكة متوسطية وصولًا إلى الشراكة المترافقة مع سياسة أوروبية للجوار تغطي الجزء القيمي، أي نشر مبادئ الديمقراطية ومعايير النزاهة في ملفات حقوق الإنسان والحرية والانتخابات.

ج- تتميز المبادرات الأوروبية بتفضيلها لمبدأ التعامل من منطلق القطب في مقبل أطراف يشكِّلها جغرافيًّا (المتوسط، 5+5) أو يتعامل معها دولة دولة وليس في إطار تجمعات تكون الأطراف الأخرى قد أنشأتها للتنسيق فيما بينها على غرار اتحاد المغرب العربي مثلًا.

د- تتميز هذه العلاقات أيضًا بالتركيز الشديد أوروبيًّا على الأمن.

ه- تتميز هذه العلاقات بتنوع الشكل الذي تنطلق منه أوروبا في ربطها مع الأطراف جنوب المتوسط، فهي اقتصاديًّا تتعامل بالمؤسسات الأوروبية الاتحادية، وأمنيًّا، باعتبار أن دولها أعضاء في حلف شمال الأطلسي، بالذراع الأطلسية جامعةً بالتالي القوة بشكليها الناعم والصلب.

و- في المقابل، تتميز العلاقات من جانب دول جنوب المتوسط (الجزائر إحدى دول هذه المنطقة) بغياب التنسيق بل وغياب التعامل في إطار جماعي إلا فيما فرضه الطرف الأوروبي ورسمه من مبادرات تستدعي الحضور الجماعي ليس إلَّا.

ز- يعني هذا المضمون التعاملي من جانب دول الجنوب أن تفاوضها الفردي مع قطب اقتصادي وأمني بذراع أطلسية يعاكس منطق التفاوض وسياسة الأحلاف التي يعتمد عليها كمنطلق لموازنة القوة الطاغيــة والحصول، بالتالي، على نتائج، وإن كانت ضئيلة، في تفاوضها وتعاملها والاستفادة أقصى استفادة من المبادرات الموجهة والمستقطبة أصلًا لتحقيق الصالح الأوروبي فقط.

تمَّ التركيز في النقاط السابقة على مميزات العلاقات الأوروبية-الجزائرية (المغاربية والمتوسطية عمومًا) وصولًا إلى استنتاج المنطق الذي يحكم تلك العلاقات على خلفية استمرار جدليات: التقدم/التخلف، القـوة/الضعف والتنسيق/التشرذم بين ضفتي المتوسط، مما يضفي على السياقات التعاملية أو التفاوضية التي تنخرط فيها دول من جنوب المتوسط، في علاقاتها مع الطرف الأوروبي، الاختلالَ، وعلى الاتفاقيات المتوصَّل إليها، بالتالي، التَّوجُّهَ لتحقيق مصالح الطرف الأوروبي فقط.

إن هذا الوضع، بالنسبة للتقييم الذي يستحقه العمل الحكومي في بلدان جنوب المتوسط في سياق العلاقات مع الطرف الأوروبي (ومنها طبعًا اتفاقيات الشراكة التي تم التوصل إليها)، يدفعنا إلى القول بأن إدارة الشؤون العامة في هذه الدول تتسم بإهدار السيادة وعدم الاهتمام بمستقبل الفئات الأكثر هشاشة في مجتمعاتها وسعيها الدائم لترقية مصالح النخبة الحاكمة وضمان ديمومة بقائها في الحكم على حساب مصالح حيوية لتلك الدول.

يسمح الحكم السابق على سياق العلاقات الأوروبية-الجزائرية بالاقتراب أكثر من منهجية تقييم يمكن الاعتماد عليها والانطلاق منها لدراسة الاقتصاد الجزائري كنموذج حَوْكَمَة لباقي شؤون الحكم والاستنتاج تبعًا لهذا بأن الحكم في الجزائر تنقصه معايير الرشادة بتضييعه لقيمتين، هما: الكفاءة والتخصص، كما سيأتي لاحقًا.

 

  1. الاقتصاد الجزائري: تشخيص نقاط القوة والضعف

يتميز الاقتصاد بكونه اقتصادًا ريعيًّا يعتمد في مداخيله على مادة أساسية هي النفط والغاز؛ إذ تشكِّل مواردهما ما يقارب 98% من إجمالي موارد الجزائر المالية، وهي بالتالي تعتمد على مادة ناضبة ومُعَرَّضة لتقلبات أسعار السوق من ناحية، وللأوضاع الاقتصادية العالمية، من ناحية أخرى. وللاطلاع على وضعية الاقتصاد الجزائري، يستدعي ذلك الإجابة على الأسئلة التالية:

أ- هل الاقتصاد الجزائري تنافسي؟

تُجْمِع المؤسسات الدولية الاقتصادية على أن الاقتصاد الجزائري يحتل المراتب المتأخرة في تصنيف التنافسية مغاربيًّا، وعربيًّا، ومتوسطيًّا، وإفريقيًّا وعالميًّا. يقول ريحان شريف في مداخلة بعنوان “دور مناخ الاستثمار في دعم وترقية  تنافسية الاقتصاد الوطني الجزائري: دراسة تحليلية تقييمية”:لقد أوضح تقرير التنافسية العالمي لعام 2012-2013 تراجعًا طفيفًا لمرتبة الجزائر التنافسية إلى 110 عالميًّا من بين 144 دولة مقارنة مع المرتبة 87 من بين 142 دولة خلال العام 2011-2012؛ حيث إن القوانين الضريبية ومعدلات الضرائب وإمكانية الحصول على التمويل هي أهم المشكلات التي تواجه رجال الأعمال خلال مزاولتهم الأعمال في الجزائر…واعتمد تصنيف التنافسية العالمية على دراسة حالة كل دولة وفقًا لـ 12معيارًا من مقاييس التنافسية العالمية والتي تشمل أساسًا جودة المؤسسات، والبنية التحتية، واستقرار الاقتصاد، إلى جانب مدى استفادة أكبر عدد من المواطنين من التعليم الأساسي والرعاية الصحية القاعدية، والتعليم العالي والتكوين المهني، فضلًا عن جودة سوق البضائع والخدمات والسوق المالية، ومستوى التقدم التكنولوجي، وحجم السوق، ومدى قوة الإبداع في النشاطات الاقتصادية”(1).

ولم تتحسن الوضعية بل ازدادت سوءًا؛ إذ أكد المنتدى الدولي الاقتصادي في تقريره لسنة 2013-2014 التصنيفَ المتردِّيَ للاقتصاد الجزائري بعيدًا عن اقتصاديات دول ضعيفة في القارة الإفريقية لا تملك موارد وقدرات الجزائر، التي احتلت المرتبة 108 اعتمادًا على مواردها الطبيعية على عكس تونس التي دخلت مثلًا ما يُعرف بـ”الاقتصاد الفعال”(2).

ب- هل الاقتصاد الجزائري متنوع؟

لا يزال الاقتصاد الجزائري يعتمد في موارده على النفط والغاز ولم تتشكَّل بعد في مفاصله أسس التنوع، وهو ما تُجمع عليه المصادر المحلية والدولية. وحتى بالنسبة للآفاق، فهي غير إيجابية لفشل الاستراتيجيات الاقتصادية المعتمدة.

ج- هل الاقتصاد الجزائري جاذب للاستثمارات؟

غابت الجزائر عن المراتب العشرة الأولى للدول الأكثر جذبًا للاستثمارات في القارة الإفريقية، وتفوقت عليها أيضًا دولٌ بعيدة عن اكتساب قدرات الجزائر ومواردها، وهو ما يعني أن الاقتصاد الجزائري لا يوفر الفرص الاستثمارية في غير قطاع الطاقة(3). وأكدت منظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة (كنوساد) نفس الاتجاهات في جذب الاستثمارات الأجنبية، كما يوضحه الجدول أدناه.

تطورات الاستثمارات الأجنبية في الجزائر وتونس والمغرب من 2007 إلى 2012 (بالمليون دولار)(4)

البلد 2007 2008 2009 2010 2011 2012
الجزائر 1.662 2.593 2.746 2.264 2.571 1.484
تونس 1.616 2.759 1.688 1.513 1.148 1.918
المغرب 2.805 2.487 1.952 1.574 2.568 2.836

د- ما حجم انخراط الاقتصاد الجزائري في سياق العولمة؟

عاشت الجزائر بسبب الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي عزلة عميقة في الوقت الذي كان العالم يجهز نفسه لولوج العولمة؛ حيث أصبحت وجهة غير محبذة للتفاعل أيًّا كان نوعه وكان من نتائج ذلك تأخر البلاد في الانخراط في سياق العولمة. ولئن حاولت استدراك هذا التأخر تشريعيًّا وبالمسارعة في تجهيز أساسيات الاستثمار الأجنبي، فإنها ما زالت بعيدة عن معايير العولمة الأساسية ومنها نسبة المساهمة في التبادل التجاري العالمي، وجاذبية الاقتصاد الجزائري بل والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وقد لخص الطيب شنوف عوائق انخراط الجزائر في الاقتصاد العالمي والعولمة، على هذا النحو:

– اعتماد الجزائر شبه الكلي على مادة النفط كمورد أساسي لمداخيلها.

– شكوك بقدرات الجزائر التنافسية في مجالي النفط والغاز؛ وذلك على المديين المتوسط والطويل.

– الـتأخر في إجراء الإصلاحات الهيكلية؛ وهو ما لم يسمح بتحسن الميزان التجاري خارج المحروقات بسبب ضعف الفوائض القابلة للتصدير.

– التعقيد والتأخر في ميادين الإصلاحات الاقتصادية، والإدارية والمؤسسية(5).

ه – الجزائر والحرية الاقتصادية:

يشير تقرير مؤسسة هيريتاج وفايننشيال تايمز البريطانية إلى تصنيف الجزائر في “نادي العشرين” الأكثر تدهورًا في الحرية الاقتصادية، وذلك وفقًا للمؤشرات التالية(6):

– فقدت الجزائر خلال عشرين سنة 5 نقاط في مؤشر الحرية الاقتصادية وهو ما يضع الجزائر ضمن قائمة الـعشرين دولة في العالم الأكثر تدهورًا في مجال الحرية الاقتصادية.

– تراجعت الجزائر بمرتبة واحدة في تصنيف عام 2014، حاصلة على المرتبة 146 دوليًّا ضمن 178 دولة شملها المسح.

– حصلت الجزائر في مجال الحرية الاقتصادية على 50.8% بارتفاع قدره 1.2 نقطة مقارنة بعام 2013. ورغم هذا التحسن في العلامة إلا أن الجزائر تظل متأخرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي تحتل بها المرتبة ما قبل الأخيرة، وراء المغرب (103) وتونس (109).

– يرجع ارتفاع علامة الجزائر إلى ما اعتبره التقرير تحسنًا طفيفًا في حرية الاستثمار وتسيير نفقات الحكومة، وتبقى الجزائر بهذه المرتبة تقبع في خانة الاقتصاديات “الأكثر خنقًا للحريات”، أي في تصنيف ما قبل الأخير الذي يضعه معهد هيريتاج.

– لاحظ التقرير الذي نُشر على موقع معهد هيريتاج “بعد أن تم إهمال الإصلاحات الاقتصادية أو لِنَقُلْ: قَلْبُها”-في تلميح لإجراءات الوطنية الاقتصادية سنة 2009- أصبحت الجزائر أكثر اعتمادًا على قطاع المحروقات”.

– اتباع الحكومة لبرنامج توسعي للإنفاق العمومي لتتفادى حالة عدم الرضا الاجتماعي، في وقت قامت بجهود قليلة لتحسين تسيير الميزانية.

– أشار التقرير في نسخته العشرين إلى أن نصف المعاملات تتم في الاقتصاد الموازي، بعيدًا عن الرقابة القضائية التي تُعَدُّ ضعيفة على العموم وثقيلة وغير واضحة؛ حيث أحال التقرير إلى تحقيق أجرته وزارة الداخلية الجزائرية أوضح أن ربع الإنتاج الوطني من المواد البترولية يُهرَّب عبر الحدود.

– بيَّن التقرير أن العبء الضريبي يمثِّل 10% من الناتج المحلي الخام، في حين يشكِّل إنفاق الحكومة 40% من الناتج المحلي الخام، مسجِّلًا أن قطاع المحروقات ما زال أداة تحسين المالية العمومية.

– انتقد التقرير وجود حواجز بيروقراطية مهمة تعيق نشاط المؤسسات والتنمية الاقتصادية، مشيرًا إلى أن إنشاء مؤسسة يتطلب 10 إجراءات، إلى جانب اشتراط وجود رأسمال أدنى، في وقت يستغرق الحصول على رخصة النشاط أكثر من مئتي يوم.

– استنتج التقرير أن سوق العمل تبقى فاقدة للمرونة؛ ما يفسر معدلات البطالة المرتفعة لدى الشباب التي تفوق 20%. وفي محور انفتاح السوق، ذكر التقرير أن معدل التعريفة الجمركية في الجزائر يبلغ 12.1%، لافتًا إلى أن الحكومة تقيد الواردات من الأدوية والمواد الطبية، والتجهيزات المستعملة.

– اعتبر أن عدم قدرة الأجانب على تجاوز نسبة 49% في الاستثمارات الجديدة عائق يحول دون رفع الاستثمار الأجنبي في الجزائر، وذكر أن صعوبة الحصول على التمويل جعلت من مساهمة القطاع الخاص ضعيفة.

– أوضح أن البورصة في الجزائر تبقى متخلفة بحيث لا يمثِّل رأسمال مؤسساتها 1% من الناتج المحلي الخام.

يتضح نتيجة للنقاط الواردة أعلاه مدى الهشاشة التي يتسم بها الاقتصاد الجزائري بسبب الحوكمة السيئة لدواليبه واستمرار تسييره بطريقة بعيدة عن تحقيق النجاعة المرجوة وبسبب غياب (تغييب) استراتيجية تنموية متوسطة وبعيدة الأمد من شأنها تغيير وجهة هذا الاقتصاد وإخراجه من مشاكله الهيكلية.

وقد يكون من المجدي الرجوع إلى تقييم “كوفاس” الفرنسية لمخاطر الاقتصاد الجزائري الذي رأت فيه جوانب سلبية كثيرة إلا تلك المتصلة بالاحتياطي من العملة الأجنبية للبنك المركزي، وغياب المديونية ووجود آفاق للنمو الاقتصادي في السنوات الثلاثة القادمة بسبب النفط، وهي -كما نرى- كلها عوامل إيجابية ظرفية لها علاقة وثيقة بالنفط وليس نتيجة لإصلاحات هيكلية ولا نتيجة لمشروع استراتيجي لوجهة تنموية مستقبلية أكيدة(7).

  1. مضمون سياق الشراكة المعروض من الاتحاد الأوروبي

تُبْرِز النقاط السابقة نسبة الانكشاف التي يوجد فيها الاقتصاد الجزائري، وهي مقدمة للإقرار بأن المفاوضات لم تجر في ظروف تمكِّن الاقتصاد الجزائري من الاستفادة من تلك الشراكة كما أن تلك المفاوضات لم تجر في ظل ندية، أو على أقل تقدير إمكانية لفرض وجهات نظر الجزائريين بشأن نسبة الانكشاف ووجوب أن يأخذ الاتفاق بعين الاعتبار ذلك الضعف “الهيكلي” لبناء أسس اتفاقية يستفيد منها الجزائريون أيما استفادة.

يضاف إلى ما تم ذكره اعتراف وزير جزائري سابق(8) بأن المفاوضات لم تجر أصلًا بل جاء الأوروبيون باتفاقية جاهزة لمعرفتهم، وبخاصة الجانب الفرنسي، بمدى احتياج الجزائريين لتلك الاتفاقية في مقابل منح الأوروبيين مساعدتهم للجزائر لمواصلة محاربة الإرهاب والرضا من قبلهم عن كل الإجراءات التي تم اتخاذها لإحداث القطيعة مع فترة العشرية السوداء.

انطلق التفاوض مع الاتحاد الأوروبي لعقد اتفاقية الشراكة في السنوات التالية للعشرية السوداء وفي الوقت الذي كانت تونــس والمغرب قد أتمَّتا فيه إقرار الاتفاقية مستفيدتين أساسًا من انشغال الجزائر بالحرب الأهلية، وهي الحرب التي كانت قد أتت على جزء كبير من البنية التحتية، فكيف تنطلق المفاوضات بشأن اتفاقية حيوية مثل هذه في ظل ظروف أقل ما يقال عنها إنها كانت مأساوية بالنسبة للاقتصاد الجزائري؟!

إذا عدنا إلى مضمون الاتفاقية، نجد فروقات كبيرة بين ما تم الاتفاق عليه مع الجزائر من ناحية ومع إسرائيل من ناحية ثانية والمغرب وتونس من ناحية ثالثة وذلك في الجوانب التالية:

أ- بلغ عدد مواد الاتفاقية مع الجزائر 112 مادة في حين أن الاتفاقية مع البلدين المغاربيين لم تتعد مئة مادة.

ب- أُدرج بالنسبة للاتفاقية مع البلدان المغاربية جزآن مهمان، وهما: الالتزامات وإجراءات الثقة، وهو ما لم يتم إدراجه في الاتفاقية مع إسرائيل.

ج- الاتفاقية ضمَّت أيضًا أجزاء خاصة بالشؤون السياسية والأمنية كما أشارت إلى ملفات حقوق الإنسان في تداخل مريب مع المبادرات الأخرى على غرار السياسة الأوروبية للجوار، مسار برشلونة للشراكة الأورو-متوسطية إضافة إلى توازي اتفاقية الشراكة مع برنامج ميدا الاقتصادي.

د- بالرغم من كون الاتحاد الأوروبي تجمعًا جهويًّا ضم بلدانًا أوروبية في سوق أوروبية بداية ثم اتحاد بعد ذلك بعقود، فإن الاتفاقية لم تشر إلى الاتحاد المغاربي كما لم تعر اهتمامًا للتنسيق بين الدول المغاربية قصد إيجاد تعامل بين تجمعين عوض التعامل مع الدول منفردة.

في ظل وجود هذه النقائص، أتمت الجزائر المفاوضات، وهي تعلم أن اقتصادها لن يتحمل تبعات الاتفاقية؛ لأنه غير مهيَّأ وفق المعطيات العلمية لانعكاسات اتفاقية شراكة تُوقَّع مع قطب اقتصادي عالمي وفي غياب تنسيق مغاربي كان سيحد من تلك الانعكاسات.

كما يجب ألا ننسى أن الاتفاقية كانت ستُتبع بمساعدة أوروبية لدخول الجزائر إلى المنظمة العالمية للتجارة وهو ما لم يتم بعد عشرية من توقيع الاتفاقية بل إن بعض الأعضاء الأوروبيين في اتفاقية الشراكة يضع العراقيل بشروط تعجيزية ما زالت تَرِدُ إلى الجزائر دوريًّا ولعل ذلك جزء من الإرادة الأوروبية في الإبقاء على أوراق ضغط بأيديها قصد دفع الجزائر إلى تنازلات أكبر في إطار رفع الحواجز الجمركية وربما للاستفادة أكثر من موارد الطاقة الجزائرية.

ويتضح من خلال مفاوضات رفع تلك الحواجز والتي كانت قد جرت في السنوات التالية للتوقيع على الاتفاقية، أن الدروس لم يتم استيعابها بعد بدليل أن التقديرات الأولية كانت قد أشارت إلى فقدان الجزائر حوالي 8.5 مليارات دولار في حال تم إقرار العمل بالشروط الجمركية لدخول السلع الأوروبية إلى الجزائر وهي السلع التنافسية بالمقارنة مع السلع الجزائرية. لكن، عند النظر في حقيقة الأمور، نجد أن الاستيراد ما زال في ارتفاع والاقتصاد الجزائري باق في وضعية متردية بدليل، أيضًا، تقارير المؤسسات الدولية التي تطلق من حين إلى آخر صفارات إنذار باتجاه إعادة النظر في حوكمة الاقتصاد لبقائه معتمدًا على الطاقة وهو القطاع الذي يجر النمو الاقتصادي للجزائر بطريقة آلية(9).

وحتى نقف على ثبات الأداء التفاوضي ومنهجية الحوكمة الجزائرية للاقتصاد، يجدر بنا الرجوع إلى القرارات الاقتصادية التي تنم عن أن مضمون المفاوضات التي تُظهر فهم السلطات للواقع التفاوضي والمصالح العليا للاقتصاد الوطني هي مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، وهذه القرارات كثيرة، نذكر منها اثنين، كان لهما الأثر البالغ على الاقتصاد الوطني ومصداقية البلاد خارجيًّا، والقراران هما:

– اعتماد قانون للمحروقات بدون إخضاعه لدراسة كافية مما أدى بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى إلغائه مما مسَّ مصداقية الجزائر في الأوساط الطاقوية العالمية.

– اعتماد قرار العمل بسلة عملات أساسها الدولار الأميركي حتى بعد تردي قيمته بالمقارنة مع اليورو بفارق كبير كانت عاقبته على الجزائر، وفق ما أوردته بعض الأوساط الاقتصادية العالمية، خسارة ما يربو على 15 مليار دولار من 2003 إلى 2008، وهي السنوات التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في سعر النفط في الأسواق الدولية.

 

  1. الجزائر واتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي: الواقع الاقتصادي وتقييم الأداء التفاوضي

يحتم هذا الواقع الاقتصادي -الذي تم بيانه- على الفريق التفاوضي التحلي بالواقعية لاستخراج أقصى ما يمكن الاعتماد عليه للحصول على مكاسب. وللوصول إلى ذلك، يجب أن يتحلى هذا الفريق بالكفاءة العالية التي تستلزم الإحاطة بملفات التفاوض، وبخاصة الجوانب التقنية فيها التي تستوجب الحصول على آراء المختصين، والهدف النهائي لكل ذلك هو الجلوس على طاولة المفاوضات لتحجيم الخسائر وتعظيم المكاسب.

ويستلزم الاعتراف بالواقع الاقتصادي استخدام أنجع الطرق للوصول إلى تحديد نقاط القوة (وإن كانت قليلة) ونقاط الضعف (وإن كانت كثيرة) وهي منهجية مربحة في نهاية الأمر، لأن التفاوض الاستراتيجي بشأن ملفات، أيًّا كان موقعها في تلك النقاط، تكون مرجعيته الكفاءة التفاوضية للفريق وهي جزء من الحَوْكَمَة الرشيدة للإدارة العامة المرتكزة أساسًا على معطيين حيويين، هما: الاختصاص والكفاءة.

وعند النظر في الملف الاقتصادي الجزائري، فإن ما يميزه وفق معايير دولية معتمدة هو غياب الرشادة في إدارته من ناحية، وغلبة الاختلالات الهيكلية على جل قطاعاته، من ناحية أخرى. وإذا أضفنا إلى هذا اعتماد النظام السياسي على نخبة تنقصها الكفاءة وغياب أهل الاختصاص عن تسيير دواليب الاقتصاد، فإن ما نصل إليه حتمًا هو الإدارة التفاوضية السيئة للملف الاقتصادي في إطار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

عند الرجوع إلى النخبة الجزائرية المشرفة على دواليب النظام السياسي منذ الاستقلال، فإن ما نطلع عليه هو عدم خضوعها لمبدأ الدوران ومن ثم بقاء نفس الأشخاص أو الدوائر التي يمثِّلونها على رأس النظام. يضاف إلى ذلك إشراف النظام السياسي على جل القطاعات في البلاد، ومنها القطاع الاقتصادي، بيد من حديد بداية في ظل الاقتصاد الموجه ثم في ظل الاقتصاد المنفتح لكن غير الليبرالي لتكون الدولة هي المخطِّطة والمسيِّرة والمنفذة لـــ”الاستراتيجيات” الاقتصادية دون الانفتاح على المعيارين المذكورين: الكفاءة والاختصاص، لأن ذلك سيحتم على النظام فتح الباب على مصراعيه لمبدأ دوران النخب وهو ما يحتم أيضًا الانفتاح على القطاع الخاص اقتصاديًّا والتهيؤ للانفتاح على المجتمع المدني سياسيًّا، والدخول في مسألة “التغيير” غير المحبذ من النظام بكل حال.

وإذا أردنا الاطلاع على منهجية التفاوض التي يعتمدها الفريق المفاوض المعين من قبل النظام، فعلينا الاطلاع على نموذج محدد ننطلق منه كمثال نعتمده للحكم على منهجية التفاوض المعتمدة في إطار إبرام اتفاقية الشراكة، لأن التعميم هنا ممكن اعتمادًا على ما ذكرناه من خيار النظام بشأن مسألة النخبة وبالتالي فإن هذا الخيار سينسحب على تلك المنهجية التفاوضية وبخاصة مع غياب (تغييب) معياري الكفاءة والاختصاص.

إن النموذج المعتمد هنا -والذي أشارت إليه الصحافة بإسهاب- هو نموذج استثمار شركة رونو الفرنسية للسيارات بوهران، وهي مفاوضات تميزت بالكشف عن الاستخفاف بالسيادة الوطنية وبخاصة إذا عرفنا فحوى الاتفاقية التي تم التوصل إليها بضغط فرنسي قاده الوزير الأول الفرنسي السابق اليميني، جون بيار رفاران (الذي تم الاحتفاظ به حتى بعد سقوط نيكولا ساركوزي في رئاسيات 2012)، والرئيس المدير العام لشركة رونو، وعناصرها هي:

أ- تعيين مكان الشركة باختيار فرنسي استراتيجي، وهو مدينة وهران في غرب البلاد وعلى بعد 500 كلم من مقر الاستثمار لنفس الشركة في المغرب.

ب- التوصل إلى الاشتراط على الجزائر شرطين سياديين، وهما: عدم قيام أية شركة بالاستثمار في الجزائر لمدة ثلاث سنوات، وتعيين حدٍّ لمستوى الاندماج بحيث إن الشركة الفرنسية هي من ستختار شركات المناولة دون أدنى نقل للتكنولوجيا باعتماد رونو سياسة توظيفية (وبالأخص على مستوى الإطارات) تمنح بموجبها مناصب الشركة الحيوية لإطارات فرنسية.

ج- اشتراط رونو لعدد السيارات ونوعها دون مستوى ما اتفقت عليه مع الجانب المغربي مما يعني أن المصنع في الجزائر هو للاستهلاك الداخلي دون أدنى نية فرنسية مستقبلية للمشاركة في بناء قاعدة صناعية وطنية في بناء المركبات الصناعية.

عند النظر بتركيز في هذا الأداء التفاوضي، فإن ما نراه ظاهرًا هو رهن السيادة الوطنية لصالح شركة فرنسية وهو ما يمكِّننا، عند التعميم على منهجية التفاوض الجزائرية، من الاطلاع على الظروف التي أحاطت بعملية إبرام اتفاقية الشراكة مع قطب قوي عالميًّا هو الاتحاد الأوروبي.

  1. تقييم الأداء الحكومي من خلال اتفاقية الشراكة

يمكن وصف الأداء الحكومي الجزائري في المفاوضات التي تم على أساسها إقرار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بالآتي:

أ- الضعف.

ب- عدم الكفاءة.

ج- عدم الاختصاص.

هذه الحقائق صاحبت مسار المفاوضات، وهي في الأصل نابعة من الاختلالات الهيكلية التي أغرقت النخبة الحاكمة فيها البلاد، وقد يعود ذلك إلى مرحلة الثورة التحريرية ثم الأزمة التي شهدتها الجزائر في صائفة 1962 انطلاقًا من مؤتمر طرابلس ووصولًا إلى أزمة الحكم المستمرة بكل تفاصيلها إلى الآن.

وعند الرجوع إلى السياسات الاقتصادية الجزائرية منذ الاستقلال نجدها جميعها تمت دون تفكير استراتيجي بل في إطار توجيهي فوقي اعتمد الخيار الأيديولوجي بعيدًا عن النجاعة الاقتصادية الحقيقية. ويكفي التذكير ببعض السياسات التي تم انتهاجها للاطلاع على غياب (تغييب) التفكير الاقتصادي الاستراتيجي، بالرغم من اعتماد سياسة المخططات. ومن تلك السياسات، على سبيل المثال لا الحصر:

– الثورات (الصناعية والزراعية أساسًا)، التي انتُهجت في عهد الرئيس الراحل، هواري بومدين، والتي يؤكد الاقتصاديون أنها أوردت البلاد المهالك كون الجزائر بلادًا زراعية تحتاج إلى موارد تضخ في الزراعة لتعود البلاد “وعاءً غذائيًّا” كما كانت على مرِّ التاريخ منذ العهود الرومانية.

– عدم اعتماد برنامج اقتصادي ناجع يتم بموجبه ضخ موارد النفط في مخططات تنموية مدروسة وهو ما كان أشار إليه عبد السلام بلعيد، وزير الصناعة في عهد بومدين، في مذكراته، وهو البرنامج الذي لم يُعتمد.

– اعتماد سياسة المشاريع بصيغة “المفتاح في اليد” دون الاستفادة منها للتكوين ولوضع أسس قاعدة صناعية حقيقية.

– عدم فتح الباب أمام القطاع الخاص واستمرار العمل بخيار الاقتصاد الموجه.

– اعتماد الاقتصاد الريعي قصد شراء السلم الاجتماعي بدلًا من الاتجاه نحو الاستفادة من الموارد النفطية لبناء قاعدة اقتصادية حقيقية.

هذه السياسات الفاشلة تمثِّل أساس الاختلالات الهيكلية وهو ما نتج عنه الاستمرار ببرامج الإنعاش لاقتصاد يشكو مرضًا عضالًا اسمه الريع وغياب (تغييب) الكفاءة والاختصاص والرشادة في دراسة المشاريع والتخطيط لتنفيذها ثم الاعتماد على أهل الكفاءة والاختصاص لتحويلها إلى حياة اقتصادية ناجعة.

سعيًا للتدليل، أكثر، على ما تمت الإشارة إليه، فإن مجرد الاطلاع على الآثار الكارثية للاتفاقية على الاقتصاد الجزائري، من خلال مؤشر واحد، هو حجم التبادل الاقتصادي/التجاري، يمكِّننا من تقييم ذلك الأداء التفاوضي بل فهم، أيضًا، السياسة العامة التي كان يسوس بها النظام الجزائري البلاد دونما اكتراث، من حيث تناسب ذلك مع مبادئ السياسة العامة، بالتداعيات على المديين القصير والمتوسط.

إذا اطلعنا، على هذا المؤشر، فإن كل المعطيات تتحدث حول وجوب مراجعة الاتفاقية، على أقل تقدير؛ ذلك أن مبادئ الرشادة في تسيير الاقتصاد لم تكن بوصلة النظام السياسي في تسيير الآلة الاقتصادية قبل خوض غمار ذلك التفاوض كون الاقتصاد كان ريعيًّا، من حيث طبيعته، إضافة إلى اتسامه بالضعف الهيكلي فيما يخص عدم التوازن بين الصادرات التي كانت، بصفة حصرية، تتكوَّن من المواد الطاقوية في حين أن الواردات كانت متنوعة وتكاد تكون شاملة لكل الموارد، لأن الاستثمار لم يركز على الرفع من الطاقة الإنتاجية للقطاعات خارج المحروقات خدمة لاستراتيجية واحدة خالصة هي “الاقتصاد الريعي” شكلًا ومضمونًا.

وتبدو هذه الاستراتيجية بارزة في هذه الاتفاقية حيث إن الاقتصادين، الجزائري والأوروبي، مختلفين حجمًا ومن حيث التوازن بين الواردات/الصادرات، وهو ما تم وصفه، في السنوات التالية لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، بولوج “قضاء العاصفة” بين الجانبين لأن الصادرات الأوروبية، برسم التعريفات الجمركية، كانت لصالح الأوروبيين، لأن طبيعة الواردات الجزائرية من دول الاتحاد الأوروبي كانت تشكِّل قرابة النصف (50%) من وارداتها العالمية وكانت تسير نحو الارتفاع، في حين أن صادراتها إلى الاتحاد هي مواد طاقوية (غاز، غالبًا) وتتجه إلى الانخفاض.

وقد أدى هذا إلى طلب الجزائر إرجاء إلغاء التعريفات الجمركية لأن ذلك كان، وفق تدقيق لاقتصاديين جزائريين، سيصبُّ في خانة المصالح الاقتصادية الأوروبية دونما تأثير بالرفع من أداء الاقتصاد الجزائري أو إخراجه من دائرة الضعف الهيكلي.

إضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن الحديث، هنا، عن الجرأة الأوروبية في انتقاد السياسة العامة الاقتصادية الجزائرية التي حاولت، بعد بروز تلك النقائص، تدارك ذلك من خلال الضغط على الأوروبيين عبر تنويع شركائها الاقتصاديين حيث رفعت اللجنة الأوروبية صوتها بانتقاد ارتفاع الواردات الجزائرية من الصين وكذلك منح الجزائر صفقات إنجاز بعض المشاريع القاعدية (بنى تحتية، طرق) لذات البلد(10).

  1. آفاق الاتفاقية ووضع أسس لسياسات عامة رشيدة

بالنظر للظروف التي تم فيها التفاوض وإقرار هذه الاتفاقية في ظلها، فإنه لا يمكن ترجيح أي سيناريو متفائل بشأن الحوكمة في الجزائر، وهل يمكن ترجيح غير هذا المسار المستقبلي للحوكمة في ظل:

أ- استمرار نفس النخبة في إدارة شؤون الحكم وتربعها على الإدارة وكافة مفاصل الحياة في الجزائر.

ب- استمرار نفس مؤشرات التردي في كافة مناحي الحياة.

ج- استمرار رفض واقع التردي وبيع النظام لصورة خاطئة عن الجزائر.

د- استمرار البلاد في الاعتماد على مورد الطاقة ورفضه فتح الباب أمام مبادرات من شأنها إيجاد قاعدة تنوع للاقتصاد في المستقبل.

ه- غياب (تغييب) المعارضة أو ما يمكن تسميته بفرصة فتح المجال أمام دوران النخب مما سيسمح حتمًا بإيجاد خيارات أخرى لاقتصاد واعد في بلد بحجم قارة؟!(11).

ويمكن الإشارة هنا، في مجال الحوكمة إلى النقاط التالية(12):

– دولة قانون مسترجعة بنظام قانون مستقل ومنفصل وبمساواة الجميع أمام القانون دون قيد أو شرط غير دستوريين وبرلمان بدور تشريعي كامل وإيجاد توازن كامل بين كافة السلطات.

– مؤسسات مسؤولة أمام المواطن الجزائري وبخدمات للمواطن الجزائري مع تكافؤ الفرص أمام جميع المواطنين وحرية إعلامية مكفولة للجميع إضافة إلى تسيير شفاف للميزانيات العمومية وتوفير تقييم مستمر ومستقل لتسيير مفاصل الدولة وجعل هذا الأمر محور الحوكمة.

– مجتمع مدني أكثر حرية، وأكثر نشاطًا وبإمكانيات للتحرك تُمنح له بشكل مستقل عن نشاط المؤسسات إضافة إلى كفالة حرية إنشاء الجمعيات رفقة حريات أساسية على غرار الحريات الشخصية مما سيسمح بتحرير الطاقات الحية للمجتمع المدني الذي توفر له، أيضًا، وسائل تقييم مستقلة للمؤسسات كما تمنح له القدرة على التحاكم على مستوى السلطات العمومية لإسماع صوته والمطالبة بحقوقه.

– دولة عصرية بقدرات تمكن المواطن من الوصول إلى التنمية الحقيقة ولا يتحقق ذلك إلا باستعادة الدولة لقدراتها وسلطاتها مما سيسمح لها بخدمة المواطن والاقتراب أكثر من انشغالاته وهذا سيجعل الدولة مؤسسة ودافعة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إذن هناك معايير يجب أن تحترم، وتحرك يجب أن يتم في اتجاه إيجاد نشاط يوفر هذا الزخم الذي من شأنه توفير أجواء استعادة الدولة لدورها من جديد لتكون المؤسسة للتنمية الحقيقة اقتصاديًّا واجتماعيًّا. ومن بين شروط تحقق هذه الأجواء إعادة النظر في قوانين دوران النخب وفسح المجال أمام نخب تتوفر على الكفاءة والاختصاص لتتبوأ المكانة التي تليق بها في أعلى سلم اتخاذ القرار وهو ما سيسمح، حتمًا، بأداء تفاوضي يكون أحسن من الذي تم في ظله التفاوض وإقرار اتفاقية الشراكة مع قطب قوي هو الاتحاد الأوروبي مما أهدر السيادة الوطنية ورهن مستقبل البلاد.

إن المعايير التي يتم بها الدخول في الاتفاقيات الكبيرة والحيوية مثل اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ليست معايير على شاكلة تلك التي تم بها الاتفاق مع دول عربية لإنشاء سوق عربية مشتركة مثلًا، مع العلم بأن تلك السوق ضرب من الخيال لضعف إمكانيات البلاد العربية الاقتصادية من ناحية، وضعف التبادل البيني بين البلدان العربية أصلًا، من ناحية أخرى. وحتى تلك السوق، اكتشف القائمون على انضمام الجزائر إليها الخسائرَ التي مُنِي بها الاقتصاد الجزائري أمام اقتصادات هشة على غرار الاقتصادين التونسي والأردني.

خاتمة

دخلت الجزائر المفاوضات لإقرار اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي دون أدنى دراسة لأوضاعها الاقتصادية بل ودون التدقيق في نقاط القوة والضعف فيه مما يدل على غياب حوكمة رشيدة للاقتصاد، وهو أمر ثابت يمكن الإشارة إليه في تسيير شؤون البلاد منذ سنوات الاستقلال الأولى، حيث تم اتخاذ قرار بالإبقاء على جميع الملفات في أيدي جماعة واحدة استحوذت على مقدرات الجزائر. إنها باختصار “المنظومة الاستبدادية” بكل حذافيرها تعمل في إطار ضبابي تحقيقًا لمصالحها العليا، وهي البقاء في الحكم من خلال تلك المنظومة بــ”نخبة” -يمكن تسميتها فريقًا أو جماعة لتضمُّن مصطلح النخبة معنى الصفوة- بمميزات لا نجدها في المشرفين على شؤون البلاد.

إن مجرد النظر في مسار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي (أوروبا عمومًا) يطلعنا على مدى تجذر المنظومة الاستبدادية؛ إذ لا يعقل أن تربط علاقات بين الطرفين دون أدنى حساب للمكاسب والخسائر إلا ما كان متصلًا ببقاء تلك “النخبة” في الحكم مما يضفي على جميع أعمالها عدم الرشادة المطلقة. إن عملية تقييم الأداء التفاوضي بأوضاع متردية على شاكلة تلك التي عليها الاقتصاد الجزائري المختل هيكليًّا، لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحكم بأن السياسة العامة المنتَهَجة منتِجة للفشل، وهو رهان تلك المنظومة باعتبار الجدلية القائمة الآن في العالم العربي وفي الإدراك المرسَل من قِبل القائمين على تلك المنظومة إلى العالم الخارجي والمواطنين على حد سواء، والتي ترتكز على: إما الاستقرار بتلك المنظومة مهما بلغت الخسائر والتنازلات للقوى الدولية، وإما الانطلاق في مغامرات “الانتفاضات” مثل التي حملت تسمية “الربيع العربي” والمنتهية حتمًا بأحد السيناريوهات المحتملة (أو النتائج الماثلة أمامنا): فوضى، وتفكك لأوصال الدولة، والجمود السياسي، وفشل الدولة بل احتمال زوالها، وانقلاب أو حرب أهلية.

المراجع

(1) ريحان شريف، “دور مناخ الاستثمار في دعم وترقية تنافسية الاقتصاد الوطني الجزائري: دراسة تحليلية تقييمية”، مجلة كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، (كلية بغداد للعلوم الاقتصادية الجامعة، العراق، العدد 32، المجلد 8، أبريل/نيسان 2013)، ص 34.

(2) Abderrahmane Mebtoul , “World Economic Forum Report 2015–2016,” la nouvelle république, December 06, 2015.

(3) Alain Faujas, “Classement, où investir en Afrique en 2019?,” jeuneafrique.com, février 13, 2019, accessed June 1, 2019”. https://bit.ly/2SJfT1i.

(4) “Les pays émergents investissent la Méditerranée: Bilan 2012 de l’attractivité des pays MED en matière d’investissement étranger,” ANIMA, Octobre 19, 2013, p. 13.

(5) Tayeb Chennouf, L’Algérie face a la mondialisation, (Dakar: Codesria, 2008): 10-11

(6) محمد سيدمو، “الجزائر في نادي العشرين الأكثر تدهورًا في الحرية الاقتصادية”، قناة الجزائر، 18 يناير/كانون الثاني 2014، (تاريخ الدخول: (2 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2J0EY1V.

يقيس مؤشر الحرية الاقتصادية، 2014، مستويات الحرية الاقتصادية في عشر دعائم، هي: حقوق الملكية (العلامة 30)، والحرية من الفساد (28.7)، وإنفاق الحكومة (51.0)، والحرية الجبائية (80.5)، وحرية الأعمال (66.3)، وحرية العمل (48.3)، والحرية النقدية (67.8)، وحرية التجارة (60.8)، وحرية الاستثمار (45.0)، والحرية المالية (30.0).

(7) صحيفة الخبر، العدد 2، يناير/كانون الثاني 2014.

(8) Arezki Benali, “Un ancien ministre révèle les dessous de la signature de l’accord d’association entre l’Algérie et l’UE,” algerie-eco.com, Mai 28, 2019, “accessed June 1, 2019”. https://bit.ly/323kHjG.

الوزير هو السيد الهاشمي جعبوب، وزير تجارة سابق.

(9) Sabrina Mouloud, “Accord d’association L’Algérie -union européenne,” dzentreprise.net, Octobre 16, 2012, accessed June 2, 2019. https://bit.ly/2YnywYc.

(10) kadi Ihsane, “La semaine éco: L’Accord d’association entre l’Algérie et l’Union européenne glisse vers une zone de tempête,” elwatan.com, Octobre 29, 2018, accessed June 2, 2019. https://bit.ly/2IYYXhu.

(11) انظر في هذا المجال التقرير التالي:

“Rapport Nabni 2020,” nabni.org, Janvier 2013, accessed June 2, 2019, https://bit.ly/2NovrpT.

(12) النقاط ملخصة من “تقرير نبني”، المرجع السابق.