مقدمة
نجح الحراك الشعبي السوداني، في 11 أبريل/نيسان 2019، في إسقاط ثالث نظام عسكري عرفته البلاد خلال العقود الستة الماضية، ليُطرح من جديد سؤال مصيري عن الفرص والتحديات أمام هذا الحراك الشعبي الثالث ليكون مُنْتِجًا ويُسهم في تحقيق تغيير حقيقي عميق الجذور يحرِّر البلاد من بنية النظام السياسي القديم بكل إخفاقاته الموروثة، ويُؤَسِّس لمشروع وطني يسهم في بناء مجتمع ديمقراطي مستدام يضع السودان على أعتاب مستقبل جديد.
التحدي الماثل أمام الحراك الثوري السوداني الثالث أنه يواجه أيضًا أسئلة التأسيس وأجندة التغيير ذاتها التي واجهت سابقيه (في 1964، الذي أسقط نظام إبراهيم عبود، والثاني، في 1985، الذي أسقط نظام جعفر نميري)، فلماذا تمكَّن السودانيون من تحقيق تلك الانتفاضات ضد الأنظمة العسكرية، ومع ذلك يستعصي عليهم تحقيق تغيير سياسي واقتصادي واجتماعي شامل؟ وما العوامل المانعة لتأسيس نظام حكم فاعل يُخرج البلاد من حالة الأزمة المستدامة، والدوران في الحلقة المفرغة المعروفة في أدبيات السياسة السودانية بـ”الدورة الخبيثة” التي ظلت تتعاقب فيها الأنظمة الشمولية والثورات والفترات الانتقالية والحكم المدني بوتيرة على نسق متكرر يعيد فيه التاريخ نفسه دون عِظَةٍ ولا عِبْرَةٍ تُؤَسِّس لقطيعة مع النظام السياسي القديم المأزوم برمته، وتؤسس لبديل ناجع؟
ما أن نجح الحراك الشعبي في إسقاط نظام عمر البشير حتى تبيَّن للجيل الجديد من الشباب عماد هذه الثورة، أن ذلك ليس كافيًا وحده لحدوث تغيير تلقائي يحقق تطلعاته في التغيير وتجسيد مطالبه (حرية.. وسلام.. وعدالة)، فالصراع الذي احتدم عقب سقوط النظام بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير حول تشكيل وترتيبات الفترة الانتقالية، والتنازع المدني والعسكري، لا يعكس في الواقع سوى وجه واحد من وجوه عديدة وعوامل متشابكة تحكم الصراع على تشكيل مستقبل السودان.
يسعى هذا البحث لتحليل الأسباب التي تجعل حدوث تحوُّل شامل في بنية النظام السياسي والاجتماعي السوداني القديم المعطوب لتأسيس نظام جديد يحقق الاستقرار والسلام والتنمية والديمقراطية أمرًا محاطًا بالكثير من التعقيدات بفعل عوامل داخلية وأخرى خارجية، على الرغم من أن مطلب التغيير الجذري ظل حاضرًا بقوة في الأجندة الوطنية من خلال ثلاث انتفاضات ما فتئت تجهضها ظاهرة العجز المتكرر أيضًا للنخب السياسية في ترجمة هذه الفرص إلى واقع جديد.
وهنا، يبرز السؤال المركزي للدراسة: لماذا تنتهي محاولات السودانيين بعد كل حراك ثوري يسقط نظامًا عسكريًّا لتأسيس تحول ديمقراطي بالدوران في حلقة مفرغة تعيد إنتاج الواقع المأزوم؟ وهل ثمة معطيات جديدة أمام الحراك الثوري الثالث للخروج من هذا المأزق التاريخي؟
لدراسة هذه الإشكالية يستخدم الباحث منهج بنيويًّا-تاريخيًّا ووصفيًّا تحليليًّا، يرصد الوقائع التاريخية ويفكِّك
_____________________________________
* د. خالد التيجاني النور، باحث وخبير في السياسة السودانية.
البنى المُؤَسِّسة للكيان السوداني، اجتماعيًّا وثقافيًّا، وسياسيًّا، ويقوم بعملية تحليل مضمون لقراءة الأنساق التي تشكَّل من خلالها، ولتفسير أسباب الفشل في استيعاب تركيبته المتنوعة، واستدامة حالة الانقسام المجتمعي وتنازع الهويات، وتأثير معطياتها في تشكيل أوضاعه الراهنة، وتحديد مستقبله.
وتواجه هذه الدراسةَ معضلةُ البحثِ عن إجابةٍ لأسئلةٍ مستقبليةٍ فيما لا تزال وقائع الحراك الشعبي تتفاعل وسط عوامل متحركة وتعقيدات متشابكة، تتقلب فيها المواقف وتتقاطع الأجندة المتنافسة على تشكيل مستقبل السودان.
وثمة حاجة لتحرير مفهوم “الثورة” التي يرى كرين برنتن (Crane Brinton) أنها “من الكلمات التي تتصف بالغموض، ومرادف تأكيدي لكلمة تغيير، مع الإيحاء بأنه مفاجئ، وأن مصطلح الثورة يثير القلق لعالم الدلالة ليس بسبب مداه الواسع في الاستخدام فحسب، بل لأنه كذلك من الكلمات المشحونة بالمحتوى الانفعالي في الواقع”، ويخلص إلى تعريفها بأنها “حركية ديناميكية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى تأسيس بنيان اجتماعي آخر”(1)، وبهذا المفهوم، فإن استخدام وصف الثورة في الحالة السودانية، يأتي من باب المجاز من واقع أن حدوث تغيير جذري في البنية السياسة والاجتماعية لم يتحقق فحسب، بل يتم إعادة إنتاج نسق النظام السياسي القديم المأزوم نفسه، ولذلك فإن استخدام وصف “حراك ثوري” أقرب للتعبير عن حالة لا تزال معطياتها تتفاعل.
- المأزق التاريخي وجدلية التركيب
يصف محمد حاج حمد جذور الأزمة الوطنية بأبعادها المختلفة بـ”المأزق التاريخي وجدلية التركيب” الذي ظل يواجه الكيان السوداني(2)، فقد عادت لتواجه السودانيين مجددًا أزمة الافتقار إلى “مشروع وطني جامع”؛ إذ لا يزال العديد من قضايا التأسيس عالقة بلا اتفاق حولها، وتُعمِّقها حالة الانقسام المستدام في الواقع السوداني، التي تسببت في عرقلة التوافق الوطني “بسبب النظرة المحدودة لمقومات الوطنية السودانية، وعجز النخبة عن خلق إطار جامع يحتوي كل أهل السودان”(3). فمسائل تعريف الهوية، واستيعاب التنوع متعدد الأبعاد، والعلاقة بين الدين والدولة، وصراع المركز والهامش، والطائفية والقبلية، والصراع الأيديولوجي بين اليسار واليمين، والتنازع على السلطة بين المدني والعسكري، وتنافس الأجندة الأجنبية والإرادة الوطنية، كل هذه الثنائيات المتصارعة في الحياة السياسية السودانية ظلت العامل الثابت لعقود في الجدل حول تشكيل مستقبل السودان، كما تكشف مدى الانقسام المستدام بين المكونات المختلفة في تصوراتها حول ما ينبغي أن تُؤَسَّس عليه الدولة الوطنية.
ويقف سؤال الهوية مثار الجدل الأبرز في بلد شديد التنوع في تركيبته الإثنية والثقافية والاجتماعية والدينية، وفي الحالة السودانية ليس شأنًا نخبويًّا، فقد أدى الفشل في تعريف الهوية الوطنية المستوعِبة لهذا التنوع إلى أن يفقد السودان وحدته الترابية وتقسيمه بتبعات الفوارق الناشئة عنها التي أشعلت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في العام 1955، وأفضت إلى انفصال جنوب السودان في العام 2011، بسبب عجز الطبقة السياسية على مدار سنوات الحكم الوطني عن تقديم إجابة على هذا السؤال المركزي، واستسهال خيار تقرير المصير الذي قدم “الإجابة الخاطئة على السؤال الصحيح”(4).
وعزَّز الصراع بين المركز والهامش، كبعد آخر لمسألة الهوية المتنازعة، تأجيجَ الحروب الأهلية واتساع نطاقها بتحوُّل الاحتجاجات في الأطراف إلى تمرُّد مسلح ضد المركز النيلي العروبي الإسلامي المتهم بالسيطرة على السلطة والثروة منذ الاستقلال على حساب الهامش الغالب بإثنياته الإفريقية، ولم يحلَّ تقسيم السودان السؤال، فقد كان الرهان أن التضحية بوحدة البلاد ستجلب السلام المستدام، ولكن سرعان ما تبيَّنت الطبيعة المعقدة والمركبة لهذا الصراع حتى داخل الكيانين المنقسمين، فأعيد إنتاج الحرب في صراع داخلهما حول المفاهيم ذاتها.
ويرى عبد الغفار محمد أحمد أن قضية تعريف الهوية بتجلياتها المتعددة “لا تزال تمثِّل أحد العوامل شديدة الأهمية في تشكيل مصير السودان ومستقبله السياسي، فهو قُطر شهد في تاريخه تحركًا ديناميكيًّا متواصلًا، وشهد تحولات عبر القرون، وكان هدفًا لهجرات متعددة شكَّلت تركيبته السكانية، يُنظر إليه كجسر يربط بين الثقافتين العربية والإفريقية، بينما يراه علي مزروعي قُطرًا هامشيًّا متعدد الهامشية في علاقاته مع المنطقتين، وحتى في داخله”(5).
ويذهب إلى أن “تاريخ السودان يتميز باستمرارية بارزة، فهو يتكون من سلسلة أحداث وتطورات مترابطة ترجع إلى قرون عديدة، ولا يزال تأثيرها واضحًا في تشكيل العلاقات وحالات النزاع الراهنة في مختلف مناطق البلاد، وبدون الإلمام بديناميات التفاعل بين الناس خلال تلك الأحداث والتطورات، من الصعب تفهُّم التعقيدات المتعددة التي تميز الوضع الراهن”(6).
ويؤكد روبرت كولينز (Robert Collins) على تأثير الاستمرارية في تاريخ السودان الممتد من مملكة كوش (760 ق.م–350م)، مرورًا بالدول المسيحية (نوباتيا- المقرة – علوة: 350-1505)، وعهد السلطنات الإسلامية في الفونج (1505 -1821)، ودارفور (1641 -1874) ثم (1899 -1916). ويرى أن “أي محاولة لفهم سودان اليوم يجب أن تقوم على البحث في وقائع مئتي عام الأخيرة؛ ذلك أن مجيء الأتراك والبريطانيين إلى السودان قبل وبعد الثورة المهدية (1881 -1898) لم يؤد فحسب إلى إضافة المزيد من التنوع المدهش أصلًا لشعوب السودان، فقد ترك كل طرف من أولئك الغزاة وراءه، وعلى طريقته الخاصة، طبقات إضافية من المؤسسات الغريبة فوق عناصر أصلية عميقة الجذور في نسيج الماضي السوداني”(7).
إن إعادة قراءة تاريخ السودان وتحليل الخلفيات التاريخية يُعَدَّان مدخلًا بالغ الأهمية في فهم جذور النزاعات السودانية الراهنة بطبيعتها المعقدة، والاستقطاب السياسي الحاد الذي تنتجه مع استمرار العجز في استيعاب التنوع والتعدد بتركيبته المتشابكة، ويرى فرانسيس دينق (Francis Deng) في ذلك “حرب رؤى ونزاع هويات نتاج المشاكل الإثنية والدينية التي ظلت مكبوتة لفترة طويلة، حيث تبرز لتعبِّر عن نفسها بالعنف الذي يهدد هذه الدول بالتجزئة والتفتت، وربما بالانهيار التام بسبب الصراع على السلطة ومصادر الثروة”(8).
أ- نشأة السودان الحديث
تُنْسَب نشأة السودان الحديث ككيان سياسي بحدوده المعروفة اليوم إلى محمد علي باشا، والي مصر، بحملته، في العام 1821، التي أنهت حكم سلطنة الفونج التي تأسست في العام 1505 كأول سلطنة إسلامية، والتي سيطرت على معظم وسط وشمال السودان، وتمدد الغازي التركي جنوبًا حتى منطقة البحيرات ثم ضمَّ لاحقًا سلطنة دارفور في 1874، ليضمها إلى الإمبراطورية العثمانية.
ولم يمنح الحكم التركي السودانَ، تحت راية محمد علي باشا، حدوده السياسية فحسب، بل كان سببًا في وضع أسس الدولة الحديثة بإدخال التطور الإداري وإنشاء الدواوين الحكومية، وإدخال التعليم النظامي المدني والعسكري، وتطوير القطاع الاقتصادي(9).
ب- نشأة الحركة الوطنية الحديثة
ارتبطت نشأة الحركة الوطنية المعاصرة في السودان بتطور التعليم الحديث عندما أسس البريطانيون “كلية غردون التذكارية” في العام 1902 كمعهد عال، أصبحت لاحقًا جامعة الخرطوم، لتخريج مواطنين يتم تأهيلهم للعمل في وظائف مساعدة للإدارة الاستعمارية، لينافس بذلك نظام التعليم المصري المدرسي الذي تأسَّس في العهد التركي السابق. كان لنظام التعليم وتأثيره أهمية بالغة في تشكيل وعي النخب المتعلمة، وفي تصوراتها عند البحث عن تأسيس “قومية سودانية”(10) وارتباطاتها، وفي صناعة خياراتها السياسية لاسيما في الصراع المصري-البريطاني حول مستقبل السودان السياسي.
بدأت تتشكَّل اتجاهات الحركة السياسية السودانية المعاصرة الرئيسية، حوالي العام 1920، بتأثير عدة عوامل كان في مقدمتها مبادرة الرئيس الأميركي، توماس وودرو ويلسون (Thomas Woodrow Wilson)، في 1918، التي تضمنت المبادئ الأربعة عشرة التي نادى بها كبرنامج للسلم العالمي داعية لحرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، ودعوته لإنشاء رابطة للأمم بغرض توفير ضمانات متبادلة للاستقلال السياسي والسلامة الإقليمية للدول كبيرها وصغيرها(11).
ومن بين هذه العوامل أيضًا اندلاع ثورة 1919 في مصر ومطالبة الوفد باستقلال مصر والسودان باعتباره جزءًا منها، وقول سعد زغلول: “إن مطالب الوفد تشمل السودان لأن مصر والسودان كل لا يقبل التجزئة، وأن السودان ألزم لمصر من الإسكندرية”(12).
كان للخلاف بين دولتي الحكم الثنائي، بريطانيا ومصر، حول مركز السودان ومستقبله السياسي الأثر المباشر في أن تبدأ الحركة السياسية السودانية منقسمة بين موقفين، فقد رفض فريق من السودانيين ادعاء ثورة 1919 بأن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، وأنه وطن قومية قائمة بذاتها، ونشأ عنها تيار الأحزاب الاستقلالية التي تبنت شعار “السودان للسودانيين”.
وما لبث أن نهض فريق آخر من نخبة المتعلمين، مناوئ لتيار “الاستقلاليين”، ليُؤَسِّس في العام نفسه 1920 “جمعية الاتحاد السوداني”، التي دعت للاستقلال التام لوادي النيل وترفض فصل السودان عن مصر، وعرَّفت نفسها بأنها “حركة وطنية في السودان أساسها القومية الصادقة، وغايتها تأييد الشعب المصري، وألا ينفصل السودان عن مصر بأي حال من الأحوال”(13). وكان ذلك إيذانًا بميلاد التيار الذي عبَّرت عنه لاحقًا الأحزاب “الاتحادية”.
أما التحول الذي سيترك لاحقًا تأثيرًا عميقًا في السياسة السودانية فهو اتخاذ الإدارة البريطانية موقفًا صارمًا ضد المتعلمين الذين شكَّلوا قاعدة لمقاومة للاستعمار، ولجأت إلى سياسة بديلة بتوطيد دور القوى القبلية التقليدية، وذلك بالتوسع في تطبيق الحكم المباشر القائم على نظام الإدارة الأهلية، والحد من دور المتعلمين في الخدمة الحكومية(14) لتُدخل بذلك العامل القبلي والتقليدي كلاعب أساسي في المعادلة السياسية ظلت تلجأ إليها السلطات المركزية، حتى في ظل الدولة الوطنية، كورقة في مواجهة دور النخب المتعلمة.
عاد الخريجون للاهتمام بالعمل السياسي، بعد كُمُونٍ نتيجة التضييق الاستعماري، بأثر من إبرام معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، والتي استفزهم إعلان أحكامها المتعلقة بالسودان دون مشاركة السودانيين، حيث أصيب الرأي العام السوداني المستنير بصدمة لأن المعاهدة تجاهلت الطموحات الوطنية(15).
أثار ذلك جدلًا ونقاشًا واسعًا بين الخريجين حول ما ينبغي عمله وواجبهم بعد هذه المعاهدة التي تجاهلت السودانيين في تقرير مصيرهم، لينعقد الاجتماع العام التأسيسي لـ”مؤتمر الخريجين”، في فبراير/شباط 1938، داعيًا إلى “تكوين القومية السودانية”، ولكنه لم يستطع شقَّ طريق مستقل للنخبة الوليدة لتجتمع حول مشروع وطني وسط الانقسام بين دعاة الاستقلال ودعاة الاتحاد مع مصر، فآثروا -وقد دبَّت الخلافات بينهم- الالتفافَ حول زعيمي طائفتي، الختمية بزعامة علي الميرغني، والأنصار بزعامة عبد الرحمن المهدي الذي رعى تأسيس حزب الأمة بتحالف ثلاثي بين أتباعه وزعماء العشائر ونفر من الخريجين، كأول حزب سياسي سوداني، في 13 مارس/آذار 1945(16)، ثم تبعه تأسيس حزب “الأشقاء” ذي الميول الاتحادية، والحركة السودانية للتحرر (حستو)، الذي أصبح لاحقًا الحزب الشيوعي في 1949، وتأسست جماعة “الإخوان المسلمين” في الفترة نفسها كرد فعل على المد الشيوعي.
ج- الجيش: من الاحتراف إلى السياسة
في الوقت الذي كانت تتشكَّل فيه الحركة السياسية المدنية، بدأ تأسيس الجيش السوداني بإنشاء “قوة دفاع السودان”، في 17 يناير/كانون الثاني 1925، وجاء تأسيسها بقرار من الحكومة البريطانية بعد إبعاد القوات المصرية من السودان في إطار الصراع بينهما على مستقبل السودان(17).
حرصت بريطانيا على إبقاء قوة دفاع السودان “مهنية احترافية”، وعزلتها عزلة تامة عن “المجتمع المدني” تجنبًا للمؤثرات السياسية، ونجحت السياسة البريطانية في إبعاد العسكريين عن لعب أي دور سياسي طوال الفترة الاستعمارية، ولم يُعرف للعسكرية السودانية دور في تحقيق الاستقلال.
عرف السودان أول انقلاب، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958، بتدبير من رئيس الوزراء، وسكرتير عام حزب الأمة، عبد الله خليل، حين أوعز إلى قيادة الجيش التدخل واستلام السلطة لتلافي مخاطر قدَّر أنها تحيط بالبلاد، فيما كان السبب المباشر لتسليمه السلطة للجيش قطع الطريق على تحالف رعته مصر لإسقاط حكومته الائتلافية(18).
ويرى محمد أحمد محجوب، رئيس الوزراء الأسبق، (1966- 1969) أن الأوضاع في السودان عقب الاستقلال عكست أزمة الأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة وتغليب مصالحها الذاتية في غياب توافق على مشروع وطني للدولة السودانية المستقلة حديثًا “كان الشيء الكثير متوقعًا من الأحزاب، فقصَّرت جميعها في تحقيق هذه التوقعات؛ إذ لم يكن لديها برامج مفصلة ومحددة لمعالجة النمو الاقتصادي والاجتماعي، وكل قضية طُرحت بعد الاستقلال كانت تُعالَج وفقًا لأهواء حزبية”(19).
بيد أن القراءة الفاحصة لما هو أبعد من العوامل الداخلية والصراع الحزبي الذي أدى إلى تدخل الجيش في السياسة وإجهاض حقبة الديمقراطية الأولى بإيعاز من طرف مدني، تشير إلى أن ثمة عوامل خارجية لعبت دورًا مؤثرًا في هذا الخصوص في إطار صراع النفوذ البريطاني-المصري على السودان الذي ظل محتدمًا طوال النصف الأول من القرن العشرين، ولعب دورًا مهمًّا في تشكيل اتجاهات السياسة السودانية ونشأة الأحزاب وتوجهاتها. فقد كشفت وثيقة بريطانية عن انقلاب 1958 أن التخطيط للانقلاب كان حاضرًا في الأجندة، منذ أزمة السويس 1956، “كان هذا إجراء احترازيًّا حكيمًا، وبعد سنة 1957 عندما بدأ المصريون يهددون الحدود الشمالية للسودان، تم تجديد وتعديل خطط السيطرة على الحكم المعدة مسبقًا من قبل الجيش، كما تم تعديل هذه الخطط مرة أخرى عندما اضطربت الأوضاع بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجيش العراقي في بغداد عام 1958″(20).
شكَّل نجاح انقلاب 1958 تربة خصبة هيأت انتقالًا جذريًّا في طبيعة الجيش السوداني من الدور الاحترافي كحارس للنظام إلى لعب دور الحاكم الممارِس “بنجاح انقلاب 1958، وضح لكل الأحزاب أهمية الجيش في حسم الصراعات السياسية، والدور المتوقَّع منه مستقبلًا، فتسارعت وتيرة الجهود في اختراقه وبناء الخلايا التنظيمية والقواعد وتيارات التعاطف في داخله. في تلك المرحلة، ولم يمض على نجاح الانقلاب أقل من عام، كان العمل السياسي التنظيمي الموجه من الأحزاب السياسية قد غرس أولى لبناته في جسم الجيش السوداني”(21).
اخترقت التنظيمات الأيديولوجية الناشئة، والحزب الشيوعي السوداني(22)، وجماعة الإخوان المسلمين(23)، الجيش كوسيلة فعَّالة للوصول إلى السلطة بأقصر الطرق، فقد نَفَّذَ تحالف ضمَّ “القوميين العرب، والشيوعيين، والضباط الديمقراطيين تحت راية تنظيم الضباط الأحرار انقلاب 25 مايو/أيار 1969. جاء ذلك التحالف إلى السلطة وهو يحمل برنامج الجبهة الديمقراطية، الذي ضمَّ في طياته الكثير من المشروع السياسي للحزب الشيوعي، وكان تشكيل مجلس قيادة ثورة مايو/أيار مرآة صادقة لذلك التحالف”(24).
- الحركة الإسلامية ونظام الإنقاذ
جاء الانقلاب الثالث، في 30 يونيو/حزيران 1989، خارج سياق سابقيه؛ حيث كانا شأنًا عسكريًّا خالصًا، تخطيطًا وتنفيذًا، وإِنْ دُبِّرا بإيعاز من قوى سياسية. وخلافًا لما يُعتقد على نطاق واسع من أن ضباطًا ذوي توجهات إسلامية قاموا به، إلا أن هذا الانقلاب تم بقرار وتدبير الحركة الإسلامية السودانية بزعامة حسن الترابي، وبتخطيط وتنفيذ كامل بواسطة “التنظيم الخاص”(25) ليسجل ذلك سابقة في السياسة السودانية بتدبير كامل من خارج القوات المسلحة، وهو تطور كانت له تبعاته، وخلافًا للانقلابيْن السابقيْن اللذين بقيت فيهما المؤسسة العسكرية مركز النظام الحاكم، فإن السلطة الحقيقية في حالة انقلاب “الإنقاذ” كانت في يد قيادة التنظيم الإسلامي، قبل أن تفقدها مع التحولات التي شهدتها الحركة نفسها لاحقًا بتأثير تفاعلات الصراعات الداخلية للسيطرة على النظام.
أ- استراتيجة التمكين وأَدْلَجَة الدولة
تبنَّت الحركة الإسلامية في أواخر سبعينات القرن العشرين “استراتيجية التمكين” للتوسع وتعزيز قدراتها التنظيمية والمالية والعسكرية بهدف الوصول إلى السلطة لتطبيق برنامجها القاصد إلى “أَسْلَمَة الحياة العامة وإعادة صياغة الدولة والمجتمع”، مستفيدة من أجواء المصالحة الوطنية، في عام 1977، بين نظام نميري والجبهة الوطنية المعارضة التي كانت جزءًا منها، وقررت خلافًا لحليفيهما في الجبهة، وهما: حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، الانخراط في النظام والاستفادة من الفرصة التي أتيحت لها للتوسع الرأسي والأفقي، وهو ما عزَّز نفوذها ومكَّنها من أن تصبح بالفعل القوة الثالثة في البرلمان الذي انتُخب عام 1986 بعد عام من سقوط نظام نميري، حيث قفزت عضويتها من بضعة نواب في الفترة الحزبية الثانية في الستينات إلى 51 نائبًا لـ”الجبهة الإسلامية القومية”، ذراعها السياسية الجديدة(26). ولعبت دورًا فعالًا في زعامة المعارضة قبل أن تشارك في الائتلاف الحاكم، منتصف العام 1988 حتى مارس/آذار 1989، حين أفلحت ضغوط مذكرة رفعتها قيادة الجيش(27) لرئيس الوزراء، الصادق المهدي، حول الأوضاع السياسية في البلاد وضغوط الحرب في الجنوب، في حل الحكومة، واعتبرت الجبهة الإسلامية أن الغرض من المذكرة إخراجها من الحكم، ومضت في اتجاه تفعيل خطتها للاستيلاء على السلطة، التي كانت جاهزة أصلًا كخطة بديلة(28).
على الرغم من أن السودان لم يعرف مشروعًا وطنيًّا محل إجماع بعد الاستقلال، وبقيت بنية الدولة هشة بفعل الصراعات الحزبية وتدخلات الجيش في السياسة، وسط تخلف اقتصادي وتنموي، إلا أن تجربة “الإنقاذ” فاقمت من المشكلات الموجودة أصلًا، كما تسببت في إضفاء المزيد من التعقيدات على الأزمة السودانية بفعل حمولتها “الأيديولوجية”. فالحرب الأهلية في جنوب السودان التي كانت ذات طابع سياسي وحرَّكتها الفوارق التنموية والتهميش السياسي والاقتصادي، اتخذت بُعدًا دينيًّا وصراعًا وجوديًّا على الهوية بعد إدخالها لمفهوم “الجهاد” في الحرب ضد المتمردين؛ مما أدى إلى تدويلها وكانت النتيجة اضطرار “الإنقاذ” للدخول في اتفاقية سلام في 2005(29)، تحت ضغوط غربية كثيفة أدت إلى فقدان السودان لوحدته الترابية وتقسيم البلاد بانفصال الجنوب في العام 2011، ولم تؤد هذه التضحية بوحدة البلاد إلى تحقيق السلام(30)، بل أسهمت في إعادة إنتاج الحرب الأهلية تحت الدواعي نفسها في جنوب البلاد الجديد وشرقها، وزادت من تأجيج الحرب في دارفور(31)، فيما استعرت الصراعات والنزاعات القبلية واستخدام الميليشيات التي قادت تبعاتها لأن يصبح رئيس البلاد مطلوبًا في المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب(32).
ومن العواقب الوخيمة لانقلاب “الإنقاذ” -خلافًا لسابقيْه اللذين حافظا على كيان وهيكل الدولة السودانية، حيث اقتصر التغيير فيهما على هرم السلطة فيما بقيت مؤسساتها الأخرى محافظة على طابعها “المهني الاحترافي” المستقل تحكمها معايير الكفاءة- لجأت الحركة الإسلامية في إطار استراتيجيتها للتمكين والمحافظة على السلطة، التي راهنت عليها كخيار صفري ربطت فيه مصيرها ومستقبلها باستمرار السيطرة عليها، إلى التمكُّن من مؤسسات الدولة وتفكيك بنيتها وإعادة هيكلتها وقامت بعملية إحلال واسعة النطاق طالت المؤسسات النظامية والخدمة المدنية وحشدتها بالموالين، ولم يكن ذلك فقط لإبعاد الخصوم بل أيضًا لمجرد توفير وظائف لمحسوبيها بغضِّ النظر عن تأهيلهم. وقد أدت عملية التطهير الواسعة هذه إلى تشريد الآلاف فيما عُرف بموجة “الإحالة للصالح العام” التي بدأت مباشرة بعد تسلم السلطة وظلت عملية الاحتكار هذه ممارسة حتى سقوط النظام، وكانت أحد أسباب عزلة النظام عن المجتمع.
ولم تكن السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة لصناعة “دولة عميقة” كافية وحدها لأغراض “تأمين بقاء النظام” فعمدت قيادة الحركة إلى تأسيس “دولة موازية” أو “دولة ظل” كسلطة بديلة خارج الأطر المتعارف عليها، تتحكَّم في صناعة القرار الفعلي في سياسات الدولة في المجالات كافة، وتستحوذ على مواردها وتتصرف فيها دون أن تكون خاضعة للمحاسبة أو المساءلة، مع وجود مؤسسات رسمية شكلية بلا صلاحيات حقيقية. فقد صنعت دبلوماسية شعبية في مقابل دبلوماسية رسمية، ودفاعًا شعبيًّا مقابل جيش رسمي، وشرطة شعبية مقابل شرطة رسمية، وأمنًا شعبيًّا مقابل أمن رسمي، واقتصادًا رسميًّا تحت لافتة سياسة “السوق الحر” بينما تسيطر على الاقتصاد شركات “رمادية” تتحكَّم في مفاصله، وهكذا أنتج مشروع “التمكين” الذي استولى على جهاز الدولة “طبقة إنقاذية حاكمة” احتكرت السلطة والثروة معًا، وتستخدمها في المساومات السياسية في عقد صفقات مع بعض القوى المعارضة المستعدة للانخراط في تسويات ثنائية مع النظام.
وفي إطار تعزيز هذا “التمكين”، جرت عملية مماثلة على الصعيد الاجتماعي بمشروع “إعادة صياغة الإنسان السوداني” تحولت إلى أداة سياسية عملت على إعادة هيكلة المجتمع الأهلي وخلخلة بنيته وعلاقاته وتوازناته الداخلية في محاولة لرسم خريطة جديدة وتجييرها لكسب الولاء السياسي. فأعادت إحياء الكيانات القبلية التقليدية واستخدمتها في صناعة قاعدة مجتمعية للنظام الحاكم، وهو ما اعتبره أحد المسؤولين “ردة في تفكير قادة الحركة الإسلامية”(33).
ب- تجريف الحياة السياسية
ومن ضمن سياسات النظام لبسط سيطرته عمد منذ البداية إلى تجريف الحياة السياسية بحرمان القوى الحزبية المعارضة كافة من ممارسة أي نشاط، مع اعتقالات واسعة في صفوفها لم تقتصر على القيادات مع ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في المعتقلات على نحو غير معهود في صراعات السلطة في السودان. وقاد التضييق على المعارضة للجوء إلى الخارج، خاصة مصر وإريتريا التي احتضنت تحالف “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي ضمَّ معظم القوى المعارضة في شمال وجنوب السودان للمرة الأولى بانضمام الحركة/الجيش الشعبي لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، وانخرطت في نشاط مسلح بهدف إسقاط النظام.
ج- من إقصاء الآخر إلى انقسام الذات
لم يأت العام 1999 حتى أدت تفاعلات الصراع على السلطة داخل النظام إلى فقدانه لتماسكه الداخلي نتيجة الخلافات بين جناحين في الحركة الإسلامية الحاكمة قادت إلى انشقاق زعيمها التاريخي، حسن الترابي، وتأسيسه لحزب معارض إثر خلافات مع جناح بقيادة البشير انحاز إليه أغلب مساعدي الترابي من قادة الحركة الممسكين بمفاصل السلطة، وكان الترابي أدرك متأخرًا أن المشروع الإسلامي فقد رصيده الأخلاقي وعجز عن تمثُّل الشعارات التي كان ينادي بها بعد وقوعه في شَرَك تأسيس سلطة شمولية قاهرة انتهكت كل المنظومة القيمية التي كانت تدعو لها، وذهبت بمصداقيته الفكرية(34).
أدى هذا الانشقاق إلى تخليص النظام من بعض الحمولة الأيديولوجية التي أكسبته تأييدًا داخليًّا وخارجيًّا من دول كانت منزعجة من توجهاته، وأسهمت في تخفيف عزلته الخارجية، وعلى الرغم من بقاء مجموعة كبيرة من الإسلاميين في السلطة إلا أنه أصبح وجودًا مرتبطًا بالمصالح والامتيازات.
دخل النظام الألفية في ظل أوضاع سياسية واقتصادية أفضل بكثير من عشريته الأولى، كانت أهم ملامحها دخوله نادي مصدِّري النفط(35)، مما أسهم في حدوث استقرار في مؤشرات الاقتصاد الكلي، وانتعاش للحركة الاقتصادية وتخفيف الضائقة المعيشية. وخفَّت عُزلة النظام الخارجية بعد خروج تيار الترابي، وتحسن العلاقات مع دول الجوار، والدخول في تعاون استخباري وثيق مع الولايات المتحدة في الحرب الأميركية على الإرهاب(36).
وعلى صعيد معالجة الحرب الأهلية في جنوب السودان، أفلحت جهودٌ قادَتْها واشنطن التي اعتمدت “سياسة لإنهاء الحرب الأهلية في جنوب السودان”، في العام 2001(37)، في تحرك كان دافعه الخشية من اختلال التوازن العسكري لصالح الحكومة نتيجة توافر موارد مالية من تصدير النفط، قاد إلى توقيع اتفاقية السلام الشامل، في 2005، وإقرار تقرير مصير جنوب السودان.
غير أن تقسيم السودان، في 9 يوليو/تموز 2011، أنتج دولتين فاشلتين بامتياز في الشمال والجنوب معًا، فبعد أقل من عامين دخلت دولة جنوب السودان الوليدة في حرب أهلية لا تزال مستمرة بسبب الصراع على السلطة. أما في شمال السودان، فلم تتحسب السلطات لتبعات انفصال الجنوب السياسية والاقتصادية، فقد كانت تعتبر أن الانفصال سيخفف عنها عبء الجنوب، لكنها اكتشفت متأخرة أن التبعات الاقتصادية لذلك أبعد مما كانت تتوقعها، فقد ظلت تتراكم في غياب أية آفاق للخروج من المأزق، وتلاعب السلطة بمحاربة الفساد المنتشر بكثافة في أوساط الطبقة الحاكمة المسيطرة على موارد البلاد، وإهدار المال العام في الإنفاق على الصرف الأمني وشراء الولاء السياسي. لذا، ما لبث الاحتقان الاجتماعي أن بدأ يتحول تدريجيًّا إلى احتجاجات سياسية وتصعيد في مواجهة النظام.
لم تكن الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي خرجت عن سيطرة السلطة إلا انعكاسًا لأزمة سياسية مستدامة أكثر عمقًا تتصل بطيعة النظام نفسه الذي تكلَّس في سدة السلطة لثلاثة عقود وأثبت عجزًا في قابليته للتطور وإحداث تغيير دستوري وسياسي يمكن أن يسهم في تحقيق تحوُّل تدريجي يجنِّب البلاد مشقة مسار التغيير الثوري الحتمي بكل تعقيداته.
كانت اتفاقية السلام الشامل بين حزب المؤتمر الوطني الحاكم بقيادة عمر البشير، والحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، أكبر فرصت لاحت لتحقيق تحوُّل ديمقراطي دستوري؛ ذلك أنه على الرغم من انتقاد الطبيعة الثنائية للاتفاق، إلا أن دستور السودان الانتقالي لعام 2005، والذي بني على أساسها، حظي بإجماع كامل من القوى السياسية المختلفة. ففي إطار التزام الاتفاقية بإحداث تحوُّل ديمقراطي كرافعة للوحدة والسلام، تضمن الدستور وثيقة حقوق(38) كفلت الحريات العامة على نسق غير مسبوق وتبني كل الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان، وقد شهدت السنوات الست للفترة الانتقالية انفتاحًا سياسيًّا كبيرًا، غير أنه تعرض لنكسات عديدة.
د- فرص الإصلاح الضائعة
في العام 2013، جرت محاولات في المؤتمر الوطني الحاكم للقيام بإصلاحات في الحزب والدولة والحياة السياسية، إثر مراجعات داخلية على خلفية تردي الأوضاع في البلاد وبروز مجموعات تنادي بالتغيير خاصة وسط الشباب داخله بتأثير مد ثورات الربيع العربي، وجرت نهاية هذا العام أكبر عملية تغيير في الطاقم الحاكم منذ انشقاق 1999، حيث أطاح البشير بكل رموز الحرس القديم، وتم الإعلان عنها في إطار مشروع إصلاحي كبير لإفساح المجال أمام الشباب، وأن بقاء البشير سيكون مؤقتًا ريثما يرتِّب الأوضاع لمن يخلفه.
أطلق البشير، في مطلع 2014، مبادرة للحوار الوطني دعا لها كل القوى السياسية وحركات المعارضة المسلحة، بأمل أن تخاطب كل قضايا السودان الملحَّة في السلام، والهوية، والحريات، والاقتصاد والعلاقات الخارجية. واستجاب لدعوته قادة تحالف المعارضة في قوى الإجماع الوطني، والمؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، والصادق المهدي زعيم حزب الأمة، بينما اشترطت القوى المعارضة الأخرى والحركات المسلحة تحقيق جملة مطالب لتهيئة المناخ قبل الدخول في أي حوار مع السلطة وسط تشكيك في جديتها.
كانت مبادرة “الحوار الوطني” آخر فرصة ممكنة لنظام “الإنقاذ” لتحقيق إصلاح سياسي شامل وتحوُّل ديمقراطي عبر مسار دستوري متواضَع عليه، لكن سرعان ما تبيَّن تعنُّت النظام وعدم استعداده للاستجابة لمطالب المعارضة المشروعة لتهيئة المناخ وتفعيل وثيقة الحقوق والحريات المضمَّنة في الدستور، وبدا واضحًا أن البشير الذي سبق له التعهد في العام 2013(39)، بعدم خوضه للانتخابات الرئاسية في 2015، تراجع عن موقفه وعزم على الترشح مجددًا، وتمهيدًا لذلك أطاح بمنافسيه المحتملين من الحرس القديم، واستخدم “مبادرة الحوار الوطني” لشغل الساحة السياسية، واستفاد بالفعل من هذه المناورات في كسب دورة رئاسية جديدة بنسبة مشاركة ضعيفة للغاية في انتخابات مشكوك في نزاهتها.
ظل البشير يناور بقضية “الحوار الوطني” الذي شاركت فيه قوى سياسية صغيرة محدودة التأثير باستثناء حزب المؤتمر الشعبي المعارض بزعامة الترابي، وبعض الفصائل المنشقة عن الحركات المسلحة، وخلص المؤتمر إلى جملة توصيات(40)، انتقى البشير منها ما يناسب استمرار سيطرته على السلطة رغم كل الدعاية السياسية التي حاول بها النظام إظهار الحوار الوطني كأفضل إنجاز له.
بيد أن التحدي الأبرز لسلطة البشير في السنوات الأخيرة لحكمه جاء من داخل حزبه الحاكم، فقد تنامت معارضة واضحة منذ أن أظهر نيته في الترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2020، في مخالفة للدستور الذي يقصر انتخاب الرئيس لدورتين استوفاهما البشير، وخاض سلسلة من المواجهات مع معارضي ترشحه في الأجهزة القيادية للمؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، التي يتولى أيضًا رئاسة قيادتها العليا. وفي ظل اتساع المعارضة داخل قاعدته الحزبية، سارع البشير في مطلع العام 2018 للإطاحة برموز هذا التيار وتمكين مؤيدي ترشيحه مما أسفر عن تمرير قرار باعتماد ترشيحه، والدعوة لتعديل الدستور. خلَّف إصرار البشير على الترشح أزمة عميقة وانقسامًا حادًّا وسط القاعدة السياسية الصلبة للنظام من “الإسلاميين” الذين باتوا تحت ضغوط كثيفة جرَّاء تزايد مظاهر فشل مشروع الحركة الإسلامية في تأسيس مشروع وطني بديل ودولة ناجحة، ووصول النظام الذي أسسوه إلى طريق مسدود، مع العجز عن تحقيق أي قدر من الإصلاحات لاسيما بعد فشل آخر محاولة كان يعوِّلون عليها في “مبادرة الحوار الوطني”، وعكست الحوارات الداخلية لمؤيدي النظام تنامي معارضة واسعة لسياسات البشير دون أن يترتب عليها فعل يتداركها، الأمر الذي أظهر مدى تفكك تماسكه الداخلي، وفقدان الدافعية الذاتية للتفاعل مع المخاطر والتحديات المتزايدة التي باتت تحيط بالسلطة وتهدد وجودها.
- الحراك الثوري الثالث: تعقيدات وتحديات
فاجأت موجةُ الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في عدة مدن، أواخر العام 2018، الطبقةَ السياسية برمتها، فقد كانت الحكومة مع إقرارها بتردي الأوضاع الاقتصادية مُطْمَئِنَّة إلى عجز خصومها عن تحريك الشارع على نحو يهدِّد سلطتها من واقع خبرتها خلال ثلاثين عامًا وثقتها في قدرة أجهزتها الأمنية على إجهاض أية تحركات مماثلة، بينما كانت المعارضة على الجانب الآخر تتساءل: لماذا يطول صمت الشارع؟ ولماذا لا ينتفض في وجه النظام مع توافر كل المعطيات المحفزة لذلك؟
وخلافًا للانتفاضتين السابقتين، اللتين بادرت بالدعوة لهما وقيادتهما من قبل المجتمع المدني، اتحاداتُ الطلاب والنقابات المهنية، ولحقت بها النخبة السياسية، فإن الحراك الشعبي هذه المرة بدأ عفويًّا نتيجة تراكم الاحتقان الاجتماعي على خلفية تطاول أمد الأزمة الاقتصادية في ظل عجز حكومي تام عن معالجتها؛ إذ لم تتم الدعوة للثورة من قبل نخبة سياسية أو اجتماعية أو مشروع معين يحدد أطرها وآفاقها تنظيمًا وقيادةً، فقد فوجئت بالأحداث وسارعت للحاق بالموجة والدفع باتجاه توظيفها لتحقيق الشعار الذي التف حوله المحتجون “تسقط بس”.
وعكست مباغتةُ الحراك الثوري للجميع حالةَ “العزلة” بين الشارع والطبقة السياسية في جانبي الحكم والمعارضة؛ ذلك أنه على الرغم مما شهدته سنوات الإنقاذ الثلاثين في السلطة من حدة خصومة بين الطرفين إلا أنه كانت هناك علاقة ملتبسة بينهما تجعلهما يبدوان كوجهي عملة واحدة، من خلال التعايش والاعتماد المتبادل تم التعبير عنها من خلال اتفاقيات سياسية ثنائية بين السلطة وبعض أطراف المعارضة، كانت أقرب لصفقات اقتسام السلطة والثروة بين النخب السياسية.
عمَّق تبادلُ الأدوار هذا حول لعبة السلطة وسط النخبة السياسية، بالطبع مع بعض الاستثناءات المحدودة، الوعيَ بأن تطلعات الشعب معزولة عن انشغالات محترفي السياسة، وأن الصراع بينهم في جوهره ليس حول رؤى ومشروع تحوُّل وطني نحو تأسيس نظام ديمقراطي وفق الشعارات المرفوعة والاستعداد لدفع استحقاقات ذلك كاملة، بل تنازع بين الطبقة السياسية التي لا تزال تعمل بذهنية النظام السياسي القديم، على اختلاف أطيافه، حول امتيازات السلطة والتي كانت سببًا في انقساماتها المستدامة تاريخيًّا وعجزها عن تحقيق مشروع وطني جامع يثبت جدوى الدولة المستقلة.
وتعمَّقت حالة العزلة هذه أكثر بـ”الفجوة الجيلية” الكبيرة بين غالب سكان السودان اليوم وبين قادة الطبقة السياسية، ذلك أنه في الوقت الذي لا تزال تتسوَّد المشهد السياسي في البلاد قيادات في الأحزاب الرئيسية برزت مع “ثورة” 1964، وتنافسها إلى حد ما قيادات برزت مع “انتفاضة” 1985، فقد كان عماد “الحراك الثوري” من الجيل الجديد الذي تغلب عليه الاستقلالية من غير المنتمين لقوى سياسية منظمة، وإن تحققت له قاعدة واسعة داعمة من خلال تفاعل مجتمعي عريض من الفئات المختلفة.
أ- الجيل الجديد وإعادة تعريف السياسة
كان العامل الأهم في الحراك هو حدوث عملية تراكم وعي نتاج حراك شبابي منتظم في العقد الأخير؛ فقد شهد السودان خلاله تحولات مهمة في تفاعل الجيل الجديد مع الشأن العام عبر انخراطه في العديد من المبادرات الهادفة لخدمة المجتمع، وكذلك في رفع الوعي السياسي وفق مفاهيم جديدة عبر دخول مجموعات عديدة في نقاشات حول قضايا البلاد العامة شارك فيها منتمون لتيارات سياسية مختلفة. ويرى الباحث أن ذلك الحراك الشبابي “دلالة وعي شبابي يتجاوز التنظيمات السياسية والأيديولوجية باتجاه إعادة تعريف السياسة في الواقع السوداني المعطوب(41). وذهب عطا البطحاني لتأكيد ما ذهب إليه الباحث معتبرًا أن “إعادة التعريف تحمل دائمًا معها ضرورة الانتقال من فضاء معرفي (بارادايم) إلى فضاء معرفي آخر، فمضمون إعادة تعريف السياسة لابد أن يحررها من الفهم الاستغلالي والتسلطي القائم على فهم مقاييس القوة كمعادل للقوة العسكرية والنزعة الحربية والعنف والإبادة لمفهوم يرى السياسة مجالًا عامًا رحبًا للمشاركة والتضامن والإيثار وتقديم النموذج الأخلاقي”(42).
أسهمت هذه المبادرات الاجتماعية، والحوارات الشبابية العابرة للأجندة الحزبية والأيديولوجية في تشكيل شبكة علاقات متضامنة واسعة ترفع مطلب التغيير، وبدأت تنشط في فضاء خارج الأطر التقليدية للنظام السياسي السوداني القديم، ولا غرو أن هذه المجموعات التي تميزت بقدرات تنظيمية عالية سارعت لالتقاط إشارة الحراك الشعبي، وأسهمت في تنظيمه وقيادته لاسيما إبان فترة الاعتصام في محيط القيادة العامة للجيش.
كان لهذه التطورات المهمة انعكاسات مؤثرة داخل النظام الذي ركن إلى خبرته المتراكمة في تخطي تحديات مماثلة هدَّدت قبضته على السلطة، ولكنه لم يحسن هذه المرة تقدير الخطر الجدي على سلطته، ليس بسبب تنامي الزخم الثوري فحسب، بل كذلك لغفلته عن الضعف الذي أصاب قاعدة النظام السياسية والأمنية. فقد بقي الحزب الحاكم متفرجًا، وفي ظل عجز مؤسسات النظام السياسية وصراعات أجنحته، أصبح جهاز الأمن يؤدي مهمتين متناقضتين، فمن جهة يقوم بالتصدي الأمني للاحتجاجات بحكم وظيفته، ومن الجهة الأخرى تَقَدَّم مديره، صلاح قوش، لملء الفراغ السياسي.
فقد انخرط قوش(43) في حوارات سرية مع قادة قوى المعارضة، وسعى لإقناع المعارضة بسيناريو تسوية يقوم على إكمال البشير لدورته الرئاسية مع التزامه بعدم الترشح في انتخابات 2020، والتخلي عن قيادة الحزب الحاكم، ونقل صلاحياته لرئيس وزراء يتم الاتفاق عليه مع المعارضة ليشكِّل حكومة كفاءات تدير البلاد لحين إجراء الانتخابات، ووجد عرضه تجاوبًا حذرًا وشكوكًا في إمكانية تحققه.
وفي الإطار نفسه، نجح في إقناع اللجنة الأمنية العليا، التي تضم قادة الأجهزة النظامية بقيادة نائب الرئيس، عوض بن عوف، التي أوكل إليها البشير التصدي للحراك الشعبي، بجدوى سيناريو “الهبوط الناعم” بحكم إطلاعها على حقائق الموقف، وإدراكها لهشاشة النظام، ورفعت للبشير مذكِّرة بهذا الخصوص، وكان من المفترض أن يعلن البشير قبوله هذه المبادرة في آخر خطاب له في 22 فبراير/شباط 2019(44). واستباقًا لمقاومة تيار متشدِّد في قيادة الحزب الحاكم لهذا السيناريو سارع قوش إلى إبلاغ الصحافيين بتفاصيلها، إلا أن الخطاب جاء أقل بكثير من هذه الخطوات حيث اكتفى بدعوة البرلمان لتأجيل مشروع تعديلات دستورية كانت تهدف لتمكينه من الترشح، وشكَّل حكومة جديدة برئاسة أحد المقربين له من قادة الحزب الحاكم، وأعلن حالة طوارئ مكَّنته من تعيين حكام عسكريين للولايات.
اتضح أن قيادة الحزب الحاكم عقدت اجتماعًا برئاسته قبيل خطابه وتدخلت لقطع الطريق على هذا السيناريو، وهو ما أثار حفيظة القادة العسكريين للنظام الذين انتظروا وفاء البشير بوعده لهم بقبول مذكرتهم، فقرروا الانتقال إلى الخطة (ب)، وإطاحته والتمهيد لذلك بتسهيل وصول الاحتجاجات إلى محيط القيادة العامة للجيش التي أعلن الثوار عنها في 6 أبريل/نيسان، لتوفير غطاء لتنفيذ مخططهم.
ب- احتدام الصراع المدني/العسكري
لم تسر الأمور كما توقعت تقديرات القادة العسكريين بعد إعلانهم الانحياز للحراك، بأن إسقاط البشير سيكون كافيًا لتحقيق مطالب الثوار، فقد زادت وتيرة الاحتجاجات بعدما اعتبرت أن ذلك استمرار للنظام، وقادت ضغوط الشارع إلى إرغام رئيس المجلس العسكري الجديد، ابن عوف، ونائبه رئيس الأركان، عبد المعروف، ومهندس التحرك، صلاح قوش، على الاستقالة ليصعد إلى الواجهة الرجل الثالث في قيادة الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي.
وعلى الرغم من تأكيد المجلس العسكري على أنه لا يحمل أي برنامج لحل مشكلات البلاد، واستعداده لتسليم السلطة التنفيذية لحكومة يشكِّلها قادة الحراك خلال أسبوع واحد، مع بقاء المجلس ليقوم بالمهام المتعلقة بحفظ الأمن وتحقيق السلام خلال فترة انتقالية لعامين، إلا أنه سرعان ما برز صراع إرادات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير حول تشكيل وترتيبات الفترة الانتقالية ومهامها، وأسهم في ذلك أن قوى الحرية والتغيير، الائتلاف المكوَّن من تحالفات أحزاب المعارضة الرئيسية الذي فوَّضه الثوار كقيادة سياسية للحراك، لم يتحركوا بالسرعة اللازمة لتشكيل الحكومة وملء الفراغ، ويعود ذلك لسببين، أولهما: أن الإطاحة بالبشير جاءت على نحو مباغت وسريع لم يتحسبوا له، ولم يكونوا جاهزين للتعامل مع تبعاتها، حسب إفادة الصادق المهدي رئيس حزب الأمة المعارض(45). والسبب الآخر يعود إلى طبيعة تكوين هذا الائتلاف العريض المعقدة الذي يضم تحالفات بين قوى سياسية متباينة في اتجاهاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، جمعها حلف مرحلي هدف لإسقاط النظام، دون أن يكون هناك اتفاق بينها حول البرنامج التفصيلي بشأن مرحلة ما بعد البشير، وبالتالي لم تكن هناك ترتيبات عملية مثل تشكيل حكومي جاهز لتولي المسؤولية مباشرة؛ وهو ما أحدث فراغًا سلطويًّا تمدَّد فيه المجلس العسكري بحكم سلطة الأمر الواقع حيث بدأت أجندته تتحول تدريجيًّا من مجرد ضامن ووسيط عابر تقتصر مهمته على تأمين انتقال السلطة من نظام منهار لنظام انتقالي جديد، إلى انتداب نفسه للعب دور الشريك في تشكيل وإدارة المرحلة الانتقالية، ورافق ذلك انتقاله في سبيل تعزيز هذا التوجه من الاكتفاء بممارسة دور الحكم بين أطراف الساحة السياسية إلى دخول الملعب السياسي كلاعب. وفي خطوة لانتزاع صفة الممثل الوحيد للحراك الثوري من قوى الحرية والتغيير، استغل بروز أصوات من داخله تنادي بإقصاء القوى السياسية الأخرى، التي كانت جزءًا من النظام حتى سقوطه، من المشاركة في المرحلة الانتقالية، ليجعل منها قاعدة سياسية مؤيدة لضمان استمرار دوره.
تضافرت عدة عوامل جعلت من الوصول إلى توافق سريع بشأن ترتيبات الفترة الانتقالية محاطًا بكثير من التعقيدات، فقد مضت أربعة أشهر منذ سقوط البشير، والبلاد في حالة فراغ دستوري وتنفيذي، دون أن يتمكن المجلس العسكري الانتقالي، الذي أصبح سلطة الأمر الواقع، وقوى الحرية والتغيير، من التوصل إلى اتفاق نهائي قابل للتنفيذ بشأن الترتيبات الدستورية المؤقتة حول الفترة الانتقالية. فقد اتسم التفاوض بين الطرفين طوال الفترة الماضية بتقلبات عديدة تمَّ خلالها إعلان أكثر من اتفاق وشيك وطي الخلافات، ما تلبث أن تُنقض أو تعرقَل من أحد أطراف المعادلة الراهنة لتعود الأمور مجددًا إلى طريق مسدود.
وحاول كلا الطرفين استخدام أقصى ما يملك من أدوات ضغط لتعديل كفة ميزان القوة لصالحه، حيث استندت قوى الحرية والتغيير على توظيف مصدر قوتها “الناعمة”، عامل الضغط الشعبي، من خلال الاعتصام الاحتجاجي، أو العصيان المدني، أو من خلال مظاهرات شعبية وجدت تجاوبًا جماهيريًّا ضخمًا. من جهته، استخدم المجلس العسكري قوته “الصلبة” في فض الاعتصام الشعبي في محيط القيادة العامة لحرمان قوى الحرية من هذه الورقة، ولكنه وجد نفسه محاصرًا بردود الفعل القوية على العنف المفرط الذي أدى لسقوط عدد كبير من الضحايا والانتهاكات الفظيعة، وقادت هذه اللعبة قصيرة النظر لتطور بالغ الأهمية في مسار التفاوض بتدخل دولي نقل ملف الأزمة السودانية من الفضاء الوطني وخارج إرادته، ليكون تحت إرادة خارجية عبَّر عنها مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الإفريقي(46)، ليصبح بدعم دولي مجمع عليه، أكثر من مجرد وسيط إلى مشارك في تشكيل مستقبل الدولة السودانية، مع ما يحمله ذلك من خدمة أجندات أطراف فاعلة لبعض القوى الإقليمية والدولية.
ج- خلافات حلفاء قوى الحرية والتغيير
يبدو في ظاهر الأمر أن الطرفين الأساسيين في الصراع المحتدم حول تشكيل مستقبل السودان السياسي، يقتصر على المجلس العسكري، وقوى الحرية والتغيير، اللذين يُنظر إليهما بحسبانهما كيانين منسجمين وموحَّدين في تصوراتهما ومواقفهما التفاوضية المتناقضة حيال ثنائية مدني/عسكري، بيد أن وقائع التطورات خلال الأشهر الماضية تشير إلى أن الأمور أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، وتداخلت فيها أجندة داخلية وخارجية متناقضة، لتبرز ظواهر الصراع داخل الكيانين، وعناصر أخرى ذات تأثير على المشهد.
جاء تشكيل قوى إعلان الحرية والتغيير، في مطلع يناير/كانون الثاني 2019، كأوسع ائتلاف عرفته الحياة السياسية، ضمَّ تحالف نداء السودان المكوَّن من حزب الأمة، والمؤتمر السوداني والجبهة الثورية التي تضم الحركات المسلحة في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وتحالف الإجماع الوطني بقيادة الحزب الشيوعي ومجموعة من القوى اليسارية والقومية، وتجمع المهنيين الذي يضم عدة نقابات موازية، والتجمع الاتحادي المعارض، وتجمع القوى المدنية، وانضم إليها لاحقًا عشرات من التنظيمات الصغيرة. جاء تكوين الائتلاف على عَجَل كضرورة مرحلية يحمل مطالب عريضة، كان أبرزها تنحي عمر البشير، وتشكيل حكومة كفاءات لفترة انتقالية مدتها أربع سنوات، وتصفية تركة نظام الإنقاذ، ولم يكن هناك برنامج مفصل محل اتفاق بين القوى الأساسية المكونة للائتلاف لإدارة الفترة الانتقالية، ولذلك ما أن دخلت في تفاوض مع المجلس العسكري بشأنها، لم تقتصر الخلافات على ما بين الطرفين المدني والعسكري، بل تخطتها لتبرز اختلافات حادة بين مكونات قوى الحرية والتغيير الأساسية حول مسائل جوهرية.
لم تكن هذه الاختلافات في الواقع جديدة على الرأي العام، فقد كانت محل تجاذب حاد بين تحالف قوى الإجماع الوطني الذي كان يتبنى سياسة معارضة ثورية راديكالية ترفض مبدأ التفاوض مع نظام الإنقاذ وتنادي بإسقاطه واقتلاعه من جذوره. ويرى الحزب الشيوعي أن المجلس العسكري لا يعدو أن يكون امتدادًا للنظام، وبالتالي يرفض أي دور للعسكريين في ترتيبات الفترة الانتقالية، وعلى الرغم من مشاركته في لجنة التفاوض فقد ظل يحتفظ بمواقف معارضة لمعظم الاتفاقات التي أُعْلِنت بين المجلس وقوى الحرية والتغيير. على الجانب الآخر، كان تحالف نداء السودان يتبنى نهجًا معارضًا معتدلًا لا يرى بأسًا في الانخراط في تفاوض مع النظام لتحقيق تحوُّل إصلاحي إذا توافرت الشروط الموضوعية، ولذلك واصل النهج ذاته في التعامل مع المجلس العسكري معتبرًا أن هناك مبررات لدوره في المرحلة الانتقالية.
وتعمقت هذه الخلافات برفض قوى الإجماع التوقيع على الاتفاق السياسي الإطاري للمرحلة الانتقالية الذي قاده وسطاء الاتحاد الإفريقي، في 5 يوليو/تموز 2019، بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير ممثَّلة في كتلة نداء السودان وتجمع المهنيين والتجمع الاتحادي، غير أنه ما لبث أن شهدت كتلةُ نداء السودان نفسَها في مواجهة رفض من الجبهة الثورية، أحد مكوناتها الأساسية، بحجة أنها لم تكن ممثلة في لجنة التفاوض عن قوى الحرية بما يتفق ووزنها ودورها في المقاومة المسلحة للنظام، مما قاد لعرقلة التوقيع على الوثيقة الدستورية التي تم الإعلان عن أنه سيتم توقيعها في غضون اثنتين وسبعين ساعة لتفتح الطريق أمام تشكيل هياكل سلطة الفترة الانتقالية، وأدى هذا التطور إلى انتقال التفاوض إلى أديس أبابا وهذه المرة بين بعض مكوِّنات قوى الحرية والتغيير، وصُدم الرأي العام، ولاسيما الشباب الثائر، حين كُشف أن السبب الحقيقي للخلاف هو اعتراض الحركات المسلحة على عدم حصولها على نسبة مقدرة من حصة قوى الحرية والتغيير في المجلس السيادي الذي سيحل محل المجلس العسكري مناصفة بين المدنيين والعسكريين، وفي الحكومة التي كان الاتفاق أن تتشكل من كفاءات مستقلة، على أن يتم تمثيل القوى السياسية في المجلس التشريعي.
لم تفلح محاولات النفي في تدارك الإحباط الذي أصاب قاعدة الحراك الشعبي الذي كان فجوة التباعد بينه وقيادة قوى الحرية والتغيير تتزايد بفعل إحساسها بأنها لم تفلح في ترجمة الروح والمطالب التي رفعها الجيل الجديد وهو ينشد التغيير، فإذا به يرى الطبقة السياسية القديمة تواصل ممارسة نهج المحاصصات واقتسام السلطة والثروة في السوق السياسي، الذي برع فيه نظام الإنقاذ، فضلًا عن ضعف، أو شبه غياب، تمثيل الشباب من الجنسين في آليات ومفاوضات صناعة المستقبل السياسي، حيث احتكر ممثلو النخبة السياسية القديمة التفاوض باسم الحراك الثوري، كما أن ضعف التواصل بين الطرفين والافتقار للشفافية في إطلاع الرأي العام على ما يجري في الكواليس أسهم في توسيع فجوة عدم الثقة، وتراجع فاعلية التفويض الذي كانت تحظى به قيادة قوى الحرية والتغيير.
د- بروز صراع الجيش وقوات الدعم السريع
على صعيد المجلس العسكري الانتقالي، فإن وضعه لم يكن أحسن حالًا، فقد تراجعت التصورات التي كانت موقنة بتماسكه ووحدته في تمثيل القوى النظامية، الجيش والدعم السريع والشرطة وجهاز الأمن والمخابرات، التي شكَّلت ما يُعرف بـ”المنظومة الأمنية” التي أدى تدخلها لإنهاء نظام البشير، ويعود السبب في ذلك إلى بروز صراعات داخل هذه المؤسسات العسكرية وفيما بينها. ويرجع القاسم المشترك في هذه التوترات بالأساس إلى صعود دور قوات الدعم السريع وقائدها محمد حمدان “حميدتي”. على أن الحساسية وسط الجيش من قوات الدعم السريع ليست جديدة، وكانت أحد أبرز خلافات البشير مع قادة الجيش في السابق منذ تأسيسها في العام 2013، حيث رفضت تبعيتها عند محاولة إلحاقها به بحسبانها ميليشيا ذات طابع قبلي، وغير احترافية، مما اضطره لوضعها تحت قيادته المباشرة تحت إشراف جهاز الأمن والمخابرات، قبل أن تصبح قوة نظامية مستقلة بقانون خاص بها في مطلع العام 2017.
وقد ظل التدخل العسكري في الشأن السياسي مقتصرًا على القوات المسلحة، غير أنها المرة الأولى التي يحدث فيها تدخل عسكري عبر مظلة موسعة أُطلق عليها “المنظومة الأمنية” تضم إلى جانب الجيش، ثلاث قوات نظامية أخرى، هي: الأمن والشرطة والدعم السريع، اقتضتها ضرورة ضمان مشاركة الجميع في التغيير دون أي انقسام، ومن بين هذه القوى التي كانت مشاركتها محل جدل هي قوات “الدعم السريع” خاصة في ظل الدور المحوري الذي لعبته في تنفيذ عملية إطاحة البشير، والصعود المتزايد لحميدتي في المشهد السياسي، في ظل حضور محدود للبرهان.
ظل دور قوات الدعم السريع محل جدل واسع في الساحة السودانية منذ بروزها من بين الميليشيات ذات الأصول العربية ضد الجماعات المسلحة في دارفور، ذات الأصول الإفريقية، ولم تقم من باب “تأجير” خدماتها لصالح الحكومة، بل كذلك لحماية مصالحها ضمن مفهوم سوق العنف السياسي الذي وصفه أليكس دي وال (Alex de Waal) بسوق “مزاد الولاءات في دارفور”(47). وشخَّص دي وال عاملَ حميدتي بأنه يمثِّل وجه السوق السياسية العنيف في السودان، كنموذج لـ”تسليع العنف في السوق السياسي”، معتبرًا أن مهنته بمنزلة درس موضوعي في ريادة الأعمال السياسية من قبل متخصص في العنف، ويقول: “إن سلوكه والإفلات من العقاب هما المؤشر الأكيد على أن السياسة المرتزقة التي عُرفت منذ فترة طويلة في أطراف السودان، قد حُملت الآن إلى العاصمة، الخرطوم، فالدعم السريع هي اليوم القوة المهيمنة في الخرطوم”(48).
وجسَّدت هذه الهيمنة العسكرية الميدانية لقوات الدعم السريع على الخرطوم، وتوظيفها في فرض الشروط السياسية لحميدتي، في تحديد قواعد اللعبة لترتيبات الفترة الانتقالية، في ظل انحسار شبه كامل لدور القوى النظامية الأخرى، بحسبانها العامل الأكثر تأثيرًا في المشهد الراهن والتي تتقاطع بدرجات متفاوتة مع الجيش، والقوى المدنية، وبعض الأطراف الخارجية. فعلى صعيد القوات المسلحة، أعلن المجلس العسكري عن ضبطه لخمس محاولات انقلابية كان آخرها اتهام رئيس الأركان، الفريق أول هاشم عبد المطلب، نفسه بالتورط في واحدة منها، مما أدى لاعتقال عدد كبير من الضباط، وقيادات مدنية من الإسلاميين، وسط ملابسات لا تزال غامضة، غير أنها جميعًا، على الرغم من عدم تقديم أي من الموقوفين لمحاكمة، على صلة بحالة التململ وسط الجيش من تمدد نفوذ حميدتي وقواته، ومحاولة فرض هيمنتها على القوات المسلحة في ظل موقف غامض لرئيس المجلس العسكري من هذه التطورات، وإن اتسمت مواقفه المعلنة سابقًا بتثمين دور الدعم السريع، وانتقال حالة الاضطراب المسيطرة على القوى السياسية المدنية إلى داخل المؤسسة العسكرية وسط دعوات لإعادة هيكلتها كلية بشبهة السيطرة الأيديولوجية للإسلاميين عليها، تفتح الباب واسعًا أمام احتمالات راجحة لحدوث انقلاب عسكري حقيقي، وسط قناعة بأن المحاولات الانقلابية المعلن عنها حتى الآن لا تعدو أن تكون فقاعات للتوظيف في كسب نقاط في توازنات صراع الإرادات الحالي.
ولا تجد هيمنة قوات الدعم السريع احتجاجًا من الجيش فحسب، بل تشاركها كذلك القوى المدنية في قوى الحرية والتغيير لاسيما من الحزب الشيوعي الذي يطالب بحلها، ومن قاعدة الحراك الثوري من الشباب الذين يحمِّلونها مسؤولية ارتكاب الفظائع والانتهاكات في عدد من حوادث ضدهم كان أكبرها عملية فض الاعتصام التي أدت إلى مقتل العشرات من زملائهم، وهو ما يخلق وضعًا بالغ التعقيد بالنسبة لترتيبات الفترة الانتقالية، وسط الدعوات لتحقيق مستقل، ليس واضحًا ما سيترتب على نتائجه في حالة تحميل قوات الدعم السريع مسؤوليتها، على الرغم من أنها كانت عملية مشتركة مع القوات النظامية الأخرى. ومن جهة أخرى، تتعامل بعض فصائل قوى الحرية والتغيير مع دور الدعم السريع كأمر واقع لا يمكن تخطيه للوصول إلى تسوية ممكنة.
لا يقتصر عامل الدعم السريع المهيمن على المعادلات الداخلية، فقد أصبح كذلك رافعة أساسية لتحرك المحور الإماراتي/السعودي لفرض أجندته في تشكيل المستقبل السياسي للسودان، والذي يأتي تتويجًا لمشاركة هذه القوات في تحالفهما في حرب اليمن، الذي مكَّن لتعزيز نفوذ حميدتي ماليًّا واقتصاديًّا على الساحة السودانية وفرض إرادته السياسية، وهو دور لا يجد ترحيبًا من مصر ذات المرجعية التاريخية في الشأن السوداني بحكم الجوار وتشابك مصالحهما واستراتيجيتهما للأمن القومي، والتي ظلت تعتمد على علاقة وثيقة مع الجيش السوداني الذي تراه يتضعضع تحت نفوذ الدعم السريع الطارئ على معادلاتها في السودان.
ولا تقتصر فرضية تأثير الدور الخارجي غير المحفِّز لحدوث تحول ديمقراطي كنتاج للحراك الشعبي في السودان، على المحيط الإقليمي، فالاتحاد الأوروبي الذي استثمر في مساعدة النظام السابق له في مكافحة الهجرة غير الشرعية، وكذلك استثمار الولايات المتحدة في التعاون غير المحدود الذي وجدته من الاستخبارات السودانية في حربها ضد الإرهاب، تجعلهما يفضِّلان استمرار دور فاعل للمجلس العسكري في الفترة الانتقالية لحماية مصالحهما.
خاتمة
فيما لا تزال تبعات وتداعيات الحراك الشعبي السوداني الثالث تتفاعل بعد عدة أشهر من سقوط نظام “الإنقاذ”، تشير المعطيات الراهنة -وفق التحليلات التي ذهبت إليها هذه الدراسة من واقع مواقف وممارسات الطبقة السياسية، المدنية والعسكرية على حد سواء، المتصارعة على تشكيل وترتيبات الفترة الانتقالية والنظام السياسي الذي ينجم عنها- إلى أن التوقع بأن تسفر مجمل هذه التفاعلات عن تأسيس نظام سياسي جديد يقطع مع تجربة حكم الإنقاذ، ويحقق تحولًا نوعيًّا في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية السائدة لينتج نظامًا مدنيًّا ديمقراطيًّا مستدامًا، لا يزال أمرًا بعيد المنال.
فقد تميَّز الحراك الثوري السوداني بطابعه الشبابي الذي حرَّكه التطلع إلى تغيير جذري في بنية الدولة السودانية يؤسس لقطيعة، ليس مع نظام الإنقاذ فحسب، بل مع النظام السياسي السوداني القديم برمته الذي ظلت معادلاته تسيطر على الحياة السودانية لقرن كامل، وعجز عن إحداث أي تغيير حقيقي مع تعاقب الأنظمة، إلا أن التعبير السياسي عن هذا التميز للجيل الجديد لا يزال غائبًا، فقد أعادت النخبة السياسية القديمة نمط الصراع الموروث نفسه حول المكاسب الحزبية، وليس حول مفاهيم ومهام انتقال أكثر عمقًا تستجيب لاستحقاقات تحوُّل نوعي في مسار مستقبل الدولة السودانية بما يتفق وتطلعات جيل جديد منشغل بأجندة المستقبل أكثر مما هو مشدود للماضي بكل إخفاقاته.
وتؤكد حالة السيولة والاضطراب السياسي والاجتماعي الراهنة، وغموض مستقبله، عجز نخبة النظام السياسي السودان القديم وفشلها في التقدم لقيادة المرحلة وملء الفراغ، وعدم القدرة على التوافق على مشروع بناء الدولة وسط عجز سياسي بنيوي وقدرة على استشراف رؤية وطنية جديدة، ولذلك عادت للانقسام والتشرذم وسط بزوغ المشاريع الحزبية والفئوية المتنافسة لتحقيق المكاسب الضيقة في السوق السياسية القائمة على مفهوم عقد الصفقات بين النخب لاقتسام السلطة والثروة التي كانت أحد أبرز أدوات نظام الإنقاذ، ودخلت القوى العسكرية أيضًا في هذه اللعبة تحاول الاستفادة من اهتراء المجتمع المدني والسياسي لضمان الحفاظ على امتيازاتها.
ويعقِّد من المشهد السوداني كثافة التدخلات الخارجية الساعية لتطويع ترتيبات الفترة الانتقالية لخدمة أجندتها المتنافسة والمتناقضة مع المصالح الوطنية، وسط إظهار العديد من أطراف المعادلة الراهنة، من العسكريين والمدنيين، تماهيها مع بعض المحاور الأجنبية، مما يكشف غياب الإرادة الوطنية لديها وتأثير ذلك في تحديد مستقبل السودان السياسي.
ومع استمرار سيطرة عقلية النظام السياسي القديم، وبقاء الجيل الجديد خارج دائرة الفعل بحسابات المعادلة الراهنة، فإن إعادة إنتاج فترة انتقالية هشة هو السيناريو الراجح، كما أن فرص حدوث تحوُّل ديمقراطي حقيقي تتضاءل في ظل غياب رؤية مستقبلية استجابة لتطلعات الشباب، والافتقار لإرادة وقيادة حاسمة لتغيير جذري لبنية النظام السياسي السوداني القديم، يرشح استمرار الدوران في الحلقة المفرغة ذاتها.
المراجع
(1) كرين برنتن، تشريح الثورة، ترجمة سمير الجلبي، (بيروت، دار الفارابي، 2009)، ص 24.
(2) محمد أبو القاسم حاج حمد، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل: جدلية التركيب، ط 2 (بيروت، دار ابن حزم، 1996)، م 1، ص 11.
(3) منصور خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين، (لندن، دار تراث، 2003)، ص 257.
(4) خالد التيجاني، الخيار صفر، (الخرطوم، دار هوادي، 2013)، ص 7.
(5) عبد الغفار محمد أحمد، السودان جذور وأبعاد الأزمة، (الخرطوم، منشورات مدارك، 2007)، ص 10.
(6) المرجع السابق، ص 23.
(7) Robert Collins, A History of Modern Sudan (Cambridge University Press, 2008).
(8) Francis M. Deng, War of Visions: Conflict of Identities in the Sudan (Brookings Institution Press, 1995).
(9) خالد، السودان: أهوال الحرب وطموحات السلام، مرجع سابق، ص 75.
(10) خالد الكد، الأفندية ومفاهيم القومية في السودان، (أم درمان، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2011)، ص 17.
(11) فيصل عبد الرحمن علي طه، الحركة السياسية السودانية والصراع المصري-البريطاني بشأن السودان 1936-1953، (أم درمان، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2004)، ص 49.
(12) عبد الرحمن الرافعي، ثورة 1919، (القاهرة، (د. ن)، 1987)، ص 165.
(13) جعفر محمد علي بخيت، الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان 1919 -1939، (دار نشر جامعة الخرطوم، 1972)، ص 72.
(14) المرجع السابق، ص 136.
(15) طه، الحركة السياسية السودانية والصراع المصري-البريطاني بشأن السودان، مرجع سابق، ص 77.
(16) المرجع السابق، ص 197.
(17) عصام الدين ميرغني، الجيش السوداني والسياسة، (القاهرة، مركز الدراسات السودانية، 2002)، ص 24.
(18) جمال الشريف، الصراع السياسي على السودان 1840-2008، (الخرطوم، (د.ن)، 2010)، ص 659.
(19) محمد أحمد المحجوب، الديمقراطية في الميزان، (الخرطوم، (د.ن)، 1970)، ص 177.
(20) وليد محمد سعيد الأعظمي، السودان في الوثائق البريطانية: انقلاب الفريق إبراهيم عبود، (بغداد، (د.ن)، 1990)، ص 21.
(21) ميرغني، الجيش السوداني والسياسة، مرجع سابق، ص 34.
(22) محمد محجوب عثمان، الجيش والسياسة في السودان، (الخرطوم، (د.ن)، 1975)، ص 43.
(23) حسن مكي، تاريخ الحركة الإسلامية في السودان 1945-1969، (الخرطوم، الدار السودانية للنشر، 1985)، ص 176.
(24) ميرغني، الجيش السوداني والسياسة، مرجع سابق، ص 37.
(25) شهادة حسن الترابي في برنامج “شاهد على العصر” مع أحمد منصور، شبكة الجزيرة، وقائع وملابسات انقلاب 30 يونيو/حزيران 1989، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2QKS0WV.
(26) حسن الترابي، الحركة الإسلامية في السودان: المنهج والكسب والتطور، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2009)، ص 41-44.
(27) ميرغني، الجيش السوداني والسياسة، مرجع سابق، ص 212.
(28) المحبوب عبد السلام، الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء وخيوط الظلام: تأملات في العشرية الأولى للإنقاذ، (القاهرة، دار مدارك، 2009)، ص 89-103.
(29) انظر ديباجة اتفاقية السلام الشامل 2005، رئاسة الجمهورية، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2LHkMoB.
(30) منصور خالد، تكاثر الزعازع وتناقص الأوتاد، (القاهرة، دار مدارك، 2010)، ص 36.
(31) انظر: مجموعة من المؤلفين، دارفور: حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان، تحرير عبد الوهاب الأفندي، سيدي أحمد ولد أحمد سالم، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013).
(32) “Al Bashir Case, The Prosecutor v. Omar Hassan Ahmad Al Bashir, ICC-02/05-01/09,” www.icc-cpi.int, accessed July 7, 2019, https://bit.ly/1Xn2nek.
(33) ذكر عبد الحليم المتعافي، وزير الصناعة ووالي الخرطوم السابق، في مقابلة في برنامج “مراجعات” بقناة النيل الأزرق، في 20 أبريل/نيسان 2014، أن ما حدث في عهد “الإنقاذ” من تعميق للبُعد القبلي والجهوي في شغل الوظائف العامة سواء على مستوى الولايات أو المركز كان نتاج ما وصفه بـ”الردة في تفكير قادة الحركة الإسلامية”، وذكر أنه حتى العام 1997 كان يجري تعيين الولاة على أساس قومي، حين قرر هؤلاء القادة تعزيز نفوذ “الحركة الإسلامية” بتغذية البعد القبلي والجهوي، ولفت إلى أنه نشأت تحركات لتجميع بعض القبائل وإيجاد نفوذ لها برعاية قيادة الحركة الإسلامية في الخرطوم، ووصف أن هذا الذي حدث وأدى لتعميق القبلية والبعد الجهوي في إدارة الحكم “تمَّ عن وعي كامل”.
(34) التيجاني عبد القادر، نزاع الإسلاميين في السودان: مقالات في النقد والإصلاح، (الخرطوم، (د.ن)، 2006).
(35) السر سيد أحمد، سنوات النفط في السودان: رحلة البحث عن الشرعية والاستقرار الاقتصادي، (دار مدارك للنشر، 2013)، ص 69.
(36) Greg Miller and Josh Meyer, “U.S. relies on Sudan despite condemning it,” Los Angeles Times, June 11, 2007, accessed July 10, 2019), https://lat.ms/32URNTx.
(37) “U.S. Policy to End Sudan’s War,” csis-prod, February 1, 2001, accessed July 9, 2019, https://bit.ly/2YpRf4y.
(38) انظر: دستور السودان الانتقالي لعام 2005، الباب الثاني، وثيقة الحقوق.
(39) “البشير: لن أترشح للرئاسة مجددًا”، الجزيرة نت، 20 مارس/آذار 2013، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2YazcE2.
(40) الطيب زين العابدين، “السودان: مخرجات مؤتمر الحوار الوطني ومآلاته”، مركز الجزيرة للدراسات، 22 فبراير/شباط 2017، (تاريخ الدخول: 29 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2YazgUi.
(41) خالد التيجاني، “مبادرات شبابية تعيد تعريف السياسة: من هنا يبدأ التغيير”، التغيير، 20 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/32U3vxD.
(42) عطا البطحاني، “إعادة تعريف السياسة: ما بين جمعية اللواء الأبيض ومجموعة شباب شارع الحوادث”، سودارس، 29 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/30XJm87.
(43) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع الفريق أول صلاح قوش، المدير العام السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، في 21 أبريل/نيسان 2019، الخرطوم.
(44) أحمد فضل، “في جمعته الطويلة.. البشير يتحرك في حقل الاحتجاجات الملغوم”، الجزيرة نت، 22 فبراير/شباط 2019، (تاريخ الدخول: 20 يوليو/تموز 2019): https://bit.ly/2YkWPJF.
(45) مقابلة خاصة أجراها الباحث مع الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة، ورئيس تحالف نداء السودان العضو في ائتلاف الحرية والتغيير، في 15 أبريل/نيسان 2019، الخرطوم.
(46) “بيان مجلس السلم والأمن الإفريقي حول الوضع في السودان”، الاجتماع رقم 854، بتاريخ 6 يونيو/حزيران 2019، أديس أبابا.
(47) Alex De Waal, The real politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power (Cambridge: Polity, 2017), p. 52 – 68.
(48) Alex De Waal, “General Mohamed Hamdan Dagolo ‘Hemedti’,” July 1, 2019, tufts.edu, accessed July 7, 2019, https://bit.ly/2OmTqpS.