ملخص:
تسعى الدراسة، ومن خلال مقاربة تحليلية، إلى تلمُّس تحديات وآفاق التحول الديمقراطي في السودان في أعقاب نجاح ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019. وتخلص الدراسة إلى أن نجاح الانتقال هذه المرة في ترسيخ الديمقراطية في السودان مرهون بأداء الطبقة السياسية السودانية بالرغم من فشلها المتكرر في التجارب السابقة. فإذا فشلت مجددًا، فإما ارتداد البلاد إلى الاستبداد أو انزلاقها نحو الفوضى.
كلمات مفتاحية: السودان، الانتقال الديمقراطي في السودان، الطبقة السياسية السودانية، ثورة ديسمبر/كانون الأول 2019 في السودان.
Abstract:
This study looks into the challenges and prospects of democratic transition in Sudan following the success of the December 2019 revolution. It argues that the success of the transition and the consolidation of democracy in Sudan depends on the performance of the political class. Despite repeated failures in previous experiences, failure this time will see the country reverting to tyranny or sliding into chaos.
Keywords: Sudan, Democratic Transition in Sudan, Sudanese Political Class, December 2019 Revolution in Sudan.
مقدمة
تُقدِّم الدراسة مقاربة تحليلية لتلمُّس التحديات التي تواجه تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان (2019-2022)، بعد الثورة الشعبية التي اندلعت ضد نظام الإنقاذ (1989-2019)، الذي جاء إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري، في 30 يونيو/حزيران 1989، على نظام حكم برلمان منتخب (1986-1989)، وحَكَم السودان نحو ثلاثين عامًا. وترتبط أسباب الثورة بتركيبة النظام وتناقضاتها الداخلية، وبتصاعد نفوذ القوى المعارضة له وتصدُّع قاعدته السياسية، فضلًا عن تدهور الأوضاع الاقتصادية الناجمة عن سياساته العامة في إدارة الاقتصاد واتساع دائرة الفساد في أوساط رموز النظام وسدنته. فكريًّا، رفع النظام شعار أَسْلَمَة الدولة والمجتمع (المشروع الحضاري)، وسياسيًّا، وظَّف المنتمين إليه في الوظائف المفتاحية في الدولة لتنفيذ مشروعه الحضاري على حساب الكفاءات الوطنية التي أُحيلت للصالح العام.
ولذلك، واجهت النظام منذ أيامه الأولى معارضة سياسية، قادتها الأحزاب والكيانات المناهضة للانقلاب وتوجهاته الإسلامية، كما واجه النظام تحديات عسكرية، تمثَّلت في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في أبريل/نيسان 1990، ثم معارضة الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق التي حاربت النظام لسنوات، ثم دخلت معه في مفاوضات طويلة، أفضت إلى اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005، التي مهَّدت الطريق لانفصال جنوب السودان عام 2011، وظهرت بعد عام 2002 حركات الكفاح المسلحة في دارفور ضد الحكومة المركزية في الخرطوم وقِسْمَتِها غير العادلة للسلطة والثروة. وإلى جانب هذه المعارضة الفكرية والسياسية والعسكرية، واجه النظام تصدعًا من الداخل، تمثَّل في المفاصلة السياسية بين قادة النظام وعرَّابه الفكري، حسن الترابي، عام 1999، والذي لَفَظَ النظام، وكوَّن حزبًا سياسيًّا معارضًا باسم المؤتمر الشعبي عام 2000. وبعد عقد ونيف من المفاصلة التي أثَّرت في بنية النظام الفكرية والسياسية، واجه النظام محاولة انقلابية فاشلة ثانية، عام 2012، بقيادة العميد محمد إبراهيم عبد الجليل (ود إبراهيم)، الذي كان يُعَدُّ من خلصاء النظام وأنصاره المجاهدين(1).
وفي تلك الأثناء، ظهرت داخل أروقة النظام حركة إصلاحية، تبنَّتها مجموعة “سائحون” الشبابية، ومجموعة من نواب الهيئة البرلمانية الحاكمة بقيادة غازي صلاح الدين، ومجموعة من أساتذة الجامعات الإسلاميين بقيادة محمد سعيد خليفة، مدير جامعة الزعيم الأزهري، لكنها لم تجد قبولًا وآذانًا مصغية من القيادة السياسية لحكومة الإنقاذ، والدليل على ذلك انشقاق غازي صلاح الدين وبعض الإصلاحيين من حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك، وتكوين “حركة الإصلاح الآن”. وإلى جانب هذه التصدعات الداخلية، واجه النظام أزمة اقتصادية بعد استقلال الجنوب 2011؛ لأن 70% من إيرادات الموازنة المركزية الناتجة من الموارد البترولية قد ذهبت إلى دولة جنوب السودان؛ حيث توجد حقول النفط الرئيسة.
وأدت الأزمة الاقتصادية بدورها إلى اندلاع انتفاضة سبتمبر/أيلول 2013، التي قمعتها الأجهزة الأمنية بقوة مفرطة، راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل وعدد من الجرحى؛ وبذلك نجحت الحكومة في إخماد الانتفاضة مرحليًّا، لكنها فشلت في تقديم حلول جذرية ناجعة للأزمة الاقتصادية المتصاعدة، والتي بلغت ذروتها عام 2018؛ حيث تصاعد سعر صرف الدولار الأميركي مقابل الجنيه السوداني إلى نحو سبعين جنيهًا، وواجهت البلاد نقصًا حادًّا في العملات المحلية، والنقد الأجنبي، والمواد البترولية، وارتفعت أسعار السلع الضرورية بمتوالية هندسية في الأسواق، وأضحى المزاج العام مهيَّأ للثورة ضد النظام الحاكم.
وفي ظل تلك الظروف الاقتصادية الحرجة، انفجرت الثورة في بعض الولايات الطرفية، في ديسمبر/كانون الأول 2018، مناديةً بإصلاح الوضع الاقتصادي وتحسين ظروف الناس المعيشية، ثم انتقلت إلى العاصمة الخرطوم، ومنها انتشرت أفقيًّا في معظم بقاع السودان، ورأسيًّا في أوساط قطاعات المجتمع المختلفة. وإلى جانب مطالبها الاقتصادية اصطحبت الثورة الشعبية معها أجندة سياسية، تنادي بتنحي النظام الحاكم دون شرط أو قيد (تسقط بس)، كما أنها حافظت على سلميتها وانتشارها الجماهيري الواسع لمدة أربعة أشهر في مواجهة أجهزة النظام القمعية. وبلغت المواجهة ذروتها بعد أن أعلن الثوارُ الاعتصامَ أمام مباني القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم، في 6 أبريل/نيسان 2019، وبذلك أضحى النظام أمام خيارين لا ثالث لهما، إما تفريغ المعتصمين أمام القيادة العامة بالقوة العسكرية بغضِّ النظر عن الخسارة البشرية المتوقعة، أو أن يتنحى النظام ويُسلِّم السلطة لقيادة الثورة الشعبية. وفي هذه اللحظة المفصلية أعلنت اللجنة الأمنية العليا الانقلابَ على رأس النظام ورموزه، في 11 أبريل/نيسان 2019، والانحيازَ إلى ثورة الجماهير.
بهذه الخطوة، مهَّد العسكريون الطريق إلى انتقال ديمقراطي، إلا أن عملية الانتقال لم تأت من أسفل إلى أعلى؛ لأن الثورة لم تستطع إسقاط النظام إسقاطًا كليًّا، بل أسقطته جزئيًّا بتدخل اللجنة الأمنية العليا. وعند هذا المنعطف، بدأت عملية التفاوض بين قيادة الثوار، الممثلة في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، وقيادة القوات النظامية بفصائلها المتعددة (القوات المسلحة، والدعم السريع، والشرطة، والأمن الوطني)، وأخيرًا أفضت المفاوضات بين الطرفين -والتي مرت بمنعرجات سياسية خطيرة- إلى تشكيل حكومة انتقالية من مجلس سيادة هجين، في أغسطس/آب-سبتمبر/أيلول 2019، برئاسة عسكرية، وعضوية مدنية (6 أعضاء) وعسكرية (5 أعضاء)، ومجلس وزراء مدني، ومجلس تشريعي لم يُشكَّل بعد. ورسمت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 خارطة طريق لمهام الفترة الانتقالية (2019-2022)، التي حصرت مهامها الرئيسة في إحلال السلام المستدام الشامل في المناطق المتأثرة بالحروب الأهلية في السودان، ومعالجة الوضع الاقتصادي المنهار، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، ووضع الإطار الدستوري والقانوني لعملية التحول الديمقراطي.
في ضوء هذه التوطئة، تحاول هذه الدراسة أن تضع إطارًا نظريًّا لتحليل التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية في السودان (2019-2022)، والمقترحات التي يمكن أن تساعدها في تجاوز هذه التحديات، وطرح بعض التقديرات الإيجابية التي ربما تُسهم في توجيه مسار الانتقال الديمقراطي المرحلي صوب التحوُّل الديمقراطي المستدام. وقبل مناقشة هذه التحديات والمقترحات المصاحبة لها تُقدِّم الدراسة عرضًا تحليليًّا للتجارب الانتقالية في السودان، للوقوف على إنجازاتها وإخفاقاتها، وكيفية توظيفها بشكل إيجابي للعبور بالفترة الانتقالية الحالية إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية واستدامتها.
- الإطار النظري للدراسة: مفهوم الانتقال الديمقراطي
يشير مفهوم الانتقال الديمقراطي، بشكل عام، إلى العمليات والتفاعلات المرتبطة بالانتقال من نظام حكم غير ديمقراطي إلى نظام آخر ديمقراطي. هناك عدة أشكال أو أنماط لنظم الحكم غير الديمقراطية، التي يمكن أن تكون شمولية أو تسلطية مغلقة، مدنية أو عسكرية، حكم فرد أو حكم أقلية…إلخ، مثلما أن هناك حالات ومستويات متعددة للنظام الديمقراطي الذي يتم الانتقال إليه. فقد يكون الانتقال من نظام تسلُّطي مغلق إلى نظام شبه ديمقراطي، يأخذ شكل ديمقراطية انتخابية. ويمكن أن يتحوَّل نظام شبه ديمقراطي إلى نظام ديمقراطي ليبرالي أو يكون قريبًا منه. ويمكن للانتقال أن يتم من أعلى، أي بمبادرة من النخبة الحاكمة في النظام غير الديمقراطي، أو جناح إصلاحي فيها، أو من أسفل بواسطة قوى معارضة مدعومة بتأييد شعبي واسع، أو من خلال مساومة وتفاوض بين النخب الحاكمة والقوى المعارضة لها، أو من خلال تدخل عسكري خارجي(2).
فعملية “الانتقال الديمقراطي” إذن، هي توصيف لمرحلة وسيطة تشتمل في الغالب على مراحل فرعية يتم خلالها تفكيك نظام غير ديمقراطي قديم، وبناء نظام ديمقراطي جديد محلَّه. وعادة ما تشتمل هذه العملية على عناصر أساسية في النظام السياسي، أهمها: إعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أُسُس ديمقراطية واضحة؛ وتشكيل حكومة من خلال انتخابات عامة حرة ونزيهة، على أن تمتلك هذه الحكومة القدرة والصلاحية على ممارسة السلطة وإقرار سياسات جديدة تعكس حالة الانتقال إلى الديمقراطية، فضلًا عن عدم وجود قوى أخرى تُنازِع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية صلاحياتها واختصاصاتها؛ وإصلاح مؤسسات الدولة بما يعزز كفاءتها في إدارة الشأن العام ومشاركة المواطنين في العملية السياسية؛ وإعادة صياغة العلاقات المدنية-العسكرية بما يتفق وأُسُس النظام الديمقراطي؛ وإنجاز العدالة الانتقالية(3). ويعتمد النجاح في إنجاز هذه المهام على عدة عوامل أهمها: توافق القوى السياسية الفاعلة في الساحة على خارطة طريق واضحة للانتقال الديمقراطي؛ وتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخها بما يحول دون وقوع انقسامات وصراعات تعرقل الانتقال؛ وتنفيذ برامج إسعافية لاحتواء الأزمات الاقتصادية والخدمية التي غالبًا ما تكون السبب في إشعال فتيل الغضب ضد النظام القديم؛ وتدعيم دور المجتمع المدني وتعزيز التمسك بالديمقراطية ونشر ثقافتها في المجتمع(4).
ومن خلال دراسته المعمقة لأبرز مداخل الانتقال إلى نظم الحكم الديمقراطية، يعطي عبد الفتاح ماضي أهمية خاصة لعامل التوافق بين القوى السياسية التي تنشد التغيير على نظام حكم ديمقراطي بأسسه ومبادئه وآلياته وضوابطه وضماناته المتعارف عليها، كنظام بديل للاستبداد. ويستلزم هذا التوافقُ إيمانَ القوى السياسية ذاتها بالديمقراطية، قولًا وفعلًا، واعتدال خطابها السياسي وانفتاحه على كافة القوى، والتكتل من أجل توسيع قاعدة المؤمنين بالديمقراطية كنظام سياسي، وكآلية لحل الصراعات السياسية بطرق سلمية والضغط على نخبة النظام القديم بغرض خلخلة تماسكها ودفعها للقبول بالديمقراطية. ويضيف عبد الفتاح ماضي في خلاصة دراسته التي تناولت عدة دول في جنوب أوروبا وشرقها، وأميركا اللاتينية، وجنوب شرقي آسيا، وإفريقيا، أن نوعية القيادة ومهارات السياسيين الإصلاحيين تُعَدُّ أيضًا من أهم عوامل النجاح في الانتقال الديمقراطي(5). وهذا يعني أن غياب التوافق والانسجام بين الفاعلين السياسيين يُعَدُّ من أبرز العقبات التي تحول دون إتمام عملية الانتقال الديمقراطي في المجتمعات شديدة التنوع، خصوصًا في ظل غياب قيادات نوعية تتميز بالمهارات العالية.
إن عملية “الانتقال الديمقراطي” معقدة بطبيعتها، وقد تتداخل في تشكيل مساراتها ونتائجها عوامل داخلية وخارجية عديدة. فربما تقود عملية الانتقال إلى ترسيخ نظام ديمقراطي في المرحلة الجديدة، وقد لا يتحقق ذلك في حال حدوث ردَّة أو انتكاسة تقود إلى نشوب صراع داخلي أو حرب أهلية كما في حالات سوريا واليمن وليبيا بعد انتفاضات الربيع العربي في هذه الدول، أو ظهور نظام تسلُّطي جديد كما حدث في السودان بعد انتفاضتي أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، وفي حالة مصر الراهنة. وربما تفضي مرحلة الانتقال إلى ظهور نظام سياسي هجين، نظام لا يُعتبر غير ديمقراطي بالمعنى الكلاسيكي، شمولي أو تسلُّطي مغلق، ولا يكون في الوقت نفسه نظامًا ديمقراطيًّا راسخًا، أي يجمع بين بعض عناصر النظم غير الديمقراطية وبعض ملامح وعناصر الديمقراطية(6).
وفيما يتعلق بتأثير العوامل الخارجية، يشير صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington)، ومن خلال دراسته لما أسماه “الموجة الثالثة للديمقراطية”، إلى بروز دور القوى الغربية والتكتلات الكبرى في دعم عمليات الانتقال الديمقراطي، سواء من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية للدول التي تمر بمراحل انتقال، أو تقديم الدعم المادي والفني للأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، أو ممارسة الضغوط السياسية وفرض العقوبات على النظم التسلطية…إلخ. وهناك أيضًا أدوار لكل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي في نشر وتعزيز الديمقراطية في مناطق مختلفة من العالم وبخاصة في جنوب وشرق ووسط أوروبا بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وفى أميركا اللاتينية بالنسبة للولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، أثر تنامي دور مؤسسات التمويل الدولية، وبخاصة صندوق النقد والبنك الدوليين، في دعم سياسات التحرير الاقتصادي والسياسي والتحول الديمقراطي في بلدان قارات آسيا وأميركا الجنوبية وشرق ووسط أوروبا. كما أن تمدد دور المجتمع المدني العالمي متمثلًا في المنظمات الدولية غير الحكومية المعنية بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان لعب دورًا مهمًّا في نشر الديمقراطية على الصعيد العالمي؛ حيث تقوم منظماته بتقديم أشكال مختلفة من الدعم لمنظمات المجتمع المدني المحلية ومراقبة الانتخابات في البلدان التي تمر بمراحل الانتقال الديمقراطي، وفضح ممارسات النظم التسلطية وممارسة الضغوط عليها…إلخ(7).
ويضيف حسنين إبراهيم أن انتشار قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في ظل العولمة وثورة المعلومات والاتصالات التي تجتاح العالم قد أسهم في خلق بيئة دولية ملائمة لدعم الانتقال الديمقراطي في مناطق مختلفة من العالم. وإجمالًا، يخلص حسنين إبراهيم إلى أن درجة تأثير العوامل الخارجية في عملية الانتقال الديمقراطي تختلف من حالة إلى أخرى حسب اختلاف استراتيجيات الفاعلين الدوليين، وطبيعة الظروف والعوامل الداخلية في البلدان المستهدفة، وأنه في بعض الأحيان أسهمت العوامل الخارجية في دعم وترسيخ النظم التسلطية بدلًا عن الانتقال الديمقراطي(8).
ونظرًا إلى أن “الانتقال الديمقراطي” يمثِّل مرحلة وسيطة كما أشرنا، فإن إتمامها يتطلب توافر عدة مؤشرات، منها: إنجاز الترتيبات الدستورية والمؤسسية بالتوافق خصوصًا إصدار دستور جديد؛ وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وتشكيل حكومة تعمل بشفافية وقادرة على ممارسة السلطة وإقرار سياسات تعكس حالة الانتقال إلى الديمقراطية لاسيما في تعزيز الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطنين. ما يأتي بعد ذلك هو “ترسيخ واستدامة الديمقراطية” بحيث يصبح الشعب ونخبه السياسية على إيمان راسخ بأنه مهما تعاظمت التحديات في المستقبل، تبقى الديمقراطية هي صيغة الحكم المثلى لمواجهتها(9). ويعني ترسيخ الديمقراطية أيضًا أن تصبح المؤسسات والممارسات الديمقراطية مُتَأَصِّلَة في الثقافة السياسية ومُتَجَذِّرة في الحياة الاجتماعية والمُؤَسَّسِية وتثمر مزيدًا من المساواة السياسية(10). وربما تستمر الصراعات والنزاعات في الديمقراطيات الراسخة، لكن دون أن يلجأ أي من الفاعلين الأساسيين إلى تحقيق أهدافه من خلال وسائل غير قانونية.
وبحسب هنتنغتون، تبقى هناك أربعة عوامل مؤثرة قد تُجْهِض عمليات التحول الديمقراطي وتحول دون ترسيخ الديمقراطية واستدامتها. أول تلك العوامل يتمثَّل في ضعف وغياب الالتزام بقيم الديمقراطية لدى القادة السياسيين الذين غالبًا ما ينادون بالديمقراطية عندما يكونون خارج السلطة، وعندما يصلون إليها سرعان ما يستخدمونها للانقضاض على الديمقراطية نفسها. وثانيها: يتمثَّل في الانتكاسات الاقتصادية شديدة الوقع على حياة الناس، والتي تؤدي بهم إلى الميل نحو الحلول العاجلة التي تستطيع أن تفرضها الحكومات الاستبدادية. وثالثها: الإخفاقات المنهجية للأنظمة الديمقراطية وعجز أجهزة الدولة عن العمل بكفاءة وفعالية لضمان إنفاذ القانون وحفظ الاستقرار. أما العامل الرابع فيتمثَّل في تدخلات القوى الخارجية غير الديمقراطية، خصوصًا عندما تزيد دولة غير ديمقراطية من قوتها بشكل كبير وتسعى للتوسع خارج حدودها مما يحفز الاستبداد في الدول الأخرى(11).
- تجارب الانتقال الديمقراطي في السودان: روافع ضعيفة وكوابح قوية
إذا أسقطنا الإطار النظري أعلاه على التجارب السودانية، نلحظ أن عددها قد بلغ أربع تجارب انتقال ديمقراطي متعثرة؛ إذ مهَّدت التجربة الأولى (1953-1956) الطريقَ إلى الاستقلال عام 1956، وجاءت الثانية بعد ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، والثالثة (1985-1989) بعد ثورة مارس/آذار-أبريل/نيسان 1985، والرابعة (2005-2010) بعد اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005، في حين لا تزال الفترة الانتقالية الخامسة (2019-2022) في مرحلة التشكُّل وبداية الطريق نحو التحول الديمقراطي المنشود. كان الهدف الرئيس للتجربة الانتقالية الأولى تحرير السودان من ربقة الحكم الإنجليزي-المصري (1898-1956)، وتحديد هويته السيادية والدستورية. ونصَّ الميثاق الوطني لثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964 على تمكين الحريات العامة، والإعداد لقيام نظام حكم برلماني في فترة لا تتجاوز آخر فبراير/شباط 1965، أي أن تنتهي الفترة الانتقالية بإجراء انتخابات عامة وحرة ونزيهة، يحكم كلياتها دستور السودان المؤقت لسنة 1956 والمعدل لسنة 1964 بعد إبعاد الفصلين الخاصين بلجنة السيادة والهيئة التشريعية.
وبعد نجاح ثورة مارس-أبريل 1985، نصَّ “ميثاق الانتفاضة” على قيام “نظام حكم قومي ديمقراطي انتقالي لفترة ثلاث سنوات”، بهدف إقرار الحريات العامة المستمدة من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وحلِّ قضية جنوب السودان في إطار حكم ذاتي-ديمقراطي وصلاحيات محددة ومشاركة إيجابية لكافة القوى السياسية في جنوب السودان؛ و”التحرر من التبعية الاقتصادية للإمبريالية العالمية”، وخلق بنية اقتصادية تُعنى بتنمية الثروات والموارد الوطنية، و”تعبئة الموارد القومية لمواجهة مشكلات الجفاف، والمجاعة، والغلاء، وشُحِّ المواد التموينية”؛ وتحرير السياسة الخارجية من التبعية الأجنبية “لتحقيق السيادة الوطنية وتبني سياسة عدم الانحياز، والالتزام التام بالانتماء العربي الإفريقي، وسياسة حسن الجوار، وتطوير العلاقات مع كافة الدول الشقيقة والصديقة”؛ وتأكيد مبدأ الحكم غير المركزي في إدارة البلاد وفق أُسُس ديمقراطية سليمة؛ و”تقويم وتحييد ملابسات الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة، والتخلص من الطبقة المايوية الطفيلية”. ثم اتفق الموقعون على الميثاق أن يكون دستور السودان المؤقت لسنة 1956 والمعدل لسنة 1964 حاكمًا لمؤسسات الفترة الانتقالية المتمثلة في مجلس رأس الدولة المدني (خمسة أعضاء)، ومجلس الوزراء التنفيذي (خمسة عشر وزيرًا)؛ إلا أن الانقلابيين العسكريين قطعوا الطريق أمام التجمع الوطني الديمقراطي بتشكيلهم لمجلس رأس الدولة من خمسة عشر عسكريًّا برئاسة المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب، في 9 أبريل/نيسان 1985. وتداركًا للموقف السياسي، طالب قادة التجمع الوطني بتقليص الفترة إلى عام واحد بدلًا عن ثلاثة أعوام، حسب ما كان مقترحًا في ميثاق الانتفاضة، وذلك خوفًا من استمرار العسكر في الحكم، ثم أعلنوا وزارتهم التنفيذية من خمسة عشر وزيرًا في 23 أبريل/نيسان 1985. وبعد ذلك، اتفق الطرفان على تفويض سلطة التشريع إلى مجلس الوزراء، وأن يكون المجلس العسكري مسؤولًا عن إصدار القرارات السيادية. وظل العمل بهذه الكيفية إلى أن صدر دستور السودان الانتقالي لسنة 1985، في 10 أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه. أما الفترة الانتقالية الرابعة التي نصت عليها اتفاقية السلام الشامل لسنة 2005، فكانت تشكِّل ضربًا من ضروب التغيير من أعلى إلى أسفل؛ لأنها وضعت لبنات التحول الديمقراطي لقيام نظام حكم رئاسي، مع الاعتراف بحق جنوب السودان في تقرير مصيره، إذا لم تكن ممارسة الطرف الآخر السياسية قادرة على خلق وحدة جاذبة تضمن استمرارية وحدة السودان حكومة وشعبًا(12).
ويلحظ القارئ المتمعن في تاريخ هذه الفترات الانتقالية أن النخبة الحاكمة قد عجزت عن تحقيق معظم أطروحاتها السياسية المشار إليها؛ بالرغم من أنها نجحت في إجراء الانتخابات العامة وتحقيق الانتقال إلى نظام حكم برلماني/رئاسي؛ لكن الأنظمة البرلمانية نفسها، باختلاف مكوناتها السياسية، قد فشلت في إحداث تحول ديمقراطي مستدام؛ لذلك ظل السودان حبيس الدائرة الشريرة (حكم عسكري، ثورة شعبية، فترة انتقالية، حكم برلماني) وهكذا دواليك. إذن، أين الخلل؟
يكمن الخلل في بنية تفكير النخب السياسية الحاكمة والمعارضة، التي حصرت نفسها في دائرة مكاسبها الحزبية وأيديولوجياتها المغلقة، دون النظر في بناء رؤية تأسيسية عن “كيف يُحكم السودان؟”. وبرزت هذه المشكلة في عدم قدرة الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة على تبني الديمقراطية في ممارساتها الحزبية أفقيًّا ورأسيًّا، فضلًا عن قلة احترامها للقيم الناظمة لمؤسسات الحكم البرلماني، مما أبعد القيادة السيادة عن دائرة القضايا الكبرى، مثل وضع دستور دائم للسودان، وإنشاء حكم فيدرالي في جنوب السودان، حسبما نصَّ عليه الميثاق الذي عقدته الأحزاب الشمالية (الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة) مع نظائرها الجنوبية في البرلمان عام 1955. ونتيجة للانشغال بالمكايدات السياسية والكسب الحزبي الضيق، ظل قانون الحكم الذاتي الذي وضعه المستعمر دستورًا مؤقتًا لحكم السودان المستقل، وفي الوقت نفسه اندلعت الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 1955، تعللًا بأن الساسة الشماليين لم يفوا بميثاقهم الذي قطعوه مع رصفائهم الجنوبيين بقيام حكم فيدرالي، بل أداروا ظهرهم إلى المطلب المشروع، الذي اعتبروه مدعاة لانفصال جنوب السودان، وبعد ذلك تآمر أحد الأحزاب السياسية الكبرى (الأمة) على النظام البرلماني عندما حثَّ الأميرالاي، عبد الله خليل، السكرتير العام لحزب الأمة، القوات المسلحة على الاستيلاء على السلطة عام 1958، بعد أن فشل في حلِّ بعض خلافاته السياسية بطريقة ديمقراطية مع خصومه داخل الحزب وخارجه؛ وبذلك أَسَّس لعملية تَدخُّل القوات المسلحة في إدارة شؤون البلاد السياسية.
ورفضًا للتدخل العسكري وتداعيات قضية الحرب في جنوب السودان، اندلعت ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1964، وطرحت الشعارات المذكورة أعلاه. لكن عجز الحكومة الانتقالية عن الاستجابة لتلك الشعارات “الرغائبية”، كما يسميها منصور خالد، كان ناتجًا عن عدم تجانس رؤية الفاعلين السياسيين الذين أسهموا في إسقاط النظام العسكري؛ لأنهم قد شغلوا أنفسهم بصراعات الحداثة والتقليد (الأفندية والزعماء التقليديين)، والحمولات الأيديولوجية (الشيوعيين والإخوان المسلمين)، ونزاعات الشمال والجنوب. وتبلورت حصيلة ذلك في استقالة سر الختم الخليفة، رئيس وزراء حكومة جبهة الهيئات، في 18 فبراير/شباط 1965، مبررًا استقالته بحرصه “على مصلحة البلاد وسلامتها، وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد” بين الحداثيين والتقليديين. فاعتمد مجلس السيادة استقالة الخليفة بعد ثلاثة أشهر ونصف من تاريخ تشكيل حكومته الأولى، ثم كلَّفه بتشكيل حكومة ثانية من الأحزاب السياسية، دون النقابات التي شكَّلت حكومة الثورة الأولى. وكانت هذه النقلة السياسية على حساب القوى الحديثة التي طالبت بتصفية الإدارة الأهلية لفكِّ الرابط بين الأحزاب السياسية التقليدية وقواعدها الجماهيرية في البوادي والأرياف والقرى. وفي ظل هذا الاصطفاف السياسي، أُجريت الانتخابات العامة، إلا أن الحكومة البرلمانية المنتخبة قد عجزت عن وضع دستور دائم يفي بتطلعات أهل السودان، وكذلك الوصول إلى اتفاق مقنع لحلِّ مشكلة جنوب السودان، لكنها أجهدت نفسها في تعديل الدستور وحلِّ الحزب الشيوعي السوداني، مضيفة بذلك إخفاقًا آخر إلى قائمة إخفاقاتها التي أفضت إلى انقلاب 25 مايو/أيار 1969؛ فتراكُمَ الغبن السياسي ضد حكومة مايو/أيار (1969-1985) وسياساتها الخرقاء قاد إلى اندلاع ثورة مارس/آذار-أبريل/نيسان 1985، التي وضعت حكومتها الانتقالية قائمة أولويات تتمثَّل في حل مشكلة جنوب السودان، وكفالة الحريات العامة، و”كَنْس” آثار حكومة مايو/أيار. إلا أن هناك جملة من العوامل أسهمت في عجز الحكومة الانتقالية عن إنفاذ هذه الأهداف الرئيسة، وأولها: قصر الفترة الانتقالية؛ لأن الأحزاب السياسية لم تكن مطمئنة لاستمرار العسكر في السلطة بعد أن أعلنوا سيطرتهم على مجلس رأس الدولة؛ وثانيها: إعلان المجلس العسكري أنه مكون ثان في الحكومة الانتقالية؛ الأمر الذي دفع جون قرنق، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان آنذاك، إلى وصف الحكومة الانتقالية بأنها “حكومة مايو الثانية” ولذلك رفض التعاون معها؛ وثالثها: الجبهة الإسلامية القومية التي وقفت عائقًا أمام إلغاء القوانين ذات الصبغة الإسلامية التي أصدرها الرئيس المخلوع، جعفر نميري، في سنواته الأخيرة من أجل المناورة السياسية. وعلى هذه الخلفية، أُجريت الانتخابات العامة التي أسهمت في تشكيل خمس حكومات ائتلافية متنافرة (1986-1989) برئاسة الصادق المهدي، شغلت نفسها بتصفية خصوماتها الحزبية، أكثر من اهتمامها بوضع برنامج طموح لحلِّ المشكلات القومية التي يعاني منها السودان. وفي ظل هذا الوضع المتشاكس داخليًّا، تآمرت الجبهة الإسلامية القومية على النظام البرلماني، ونفَّذت انقلابًا عسكريًّا في 30 يونيو/حزيران 1989، ظل في سدة الحكم قرابة ثلاثين عامًا (1989-2019)، معتمدًا في بقائه على أجهزته الأمنية الباطشة، ومراوغاته السياسية إلى أن أسقطت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 الرئيس المخلوع، عمر البشير، وعددًا من رموز المؤتمر الوطني في 11 أبريل/نيسان 2019. أما الفترة الانتقالية الرابعة، فقد أثبتت فشل طرفي اتفاقية نيفاشا لسنة 2005 في تحقيق الوحدة الجاذبة، فكانت النتيجة استفتاء مواطني جنوب السودان، الذين صوَّتوا بإجماع شبه كامل (98.3%) لصالح قيام دولتهم المستقلة، وعاصمتها جوبا عام 2011(13).
- الانتقال الديمقراطي (2019-2022): المعوقات والتحديات
يقودنا هذا العرض التحليلي إلى طرح سؤال محوري: هل الحكومة الانتقالية الحالية قادرة على الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة وضع السياسات الهادفة إلى إحداث قطيعة مع إرث الأنظمة الاستبدادية السابقة وتمكين ثقافة الانتقال الديمقراطي؟ أم أن النخبة الانتقالية الحاكمة ستعيد إنتاج أخطاء التجارب الانتقالية السابقة دون تجاوزها؟ وإذا كانت الإجابة سالبة، فما العوائق التي تعترض سبيل تنفيذ برنامج الثورة الذي تمَّ صَوْغُ خطوطه العامة في الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية المجازة في 17 أغسطس/آب 2019؟ تتجسَّد العوائق التي تقف في طريق الفترة الانتقالية الخامسة (2019-2022) في ضعف بنية الدولة السودانية نفسها، وغياب الرؤية الوطنية الجامعة التي يمكن أن تُشعر كل الفاعلين السياسيين بأنهم شركاء في إنجاح الفترة الانتقالية، والتركيبة البنيوية غير المتجانسة لقوى الحرية والتغيير التي تمثِّل القيادة الثورية للفترة الانتقالية، فضلًا عن المهددات الإقليمية التي تواجه عملية الانتقال الديمقراطي.
أولًا: ضعف بنية الدولة السودانية
تفترض هذه الدراسة أن ضعف بنية الدولة السودانية مرتبط بنشأتها الأولى في عهد الحكم التركي-المصري (1821- 1881)، ثم الحكم الإنجليزي-المصري (1898- 1956)، الذي وضع لبنات هيكلها الوظيفي لتطوير مواردها الطبيعية والبشرية لخدمة أولويات المستعمر الإمبريالية، دون النظر في ترسيخ قيم الوحدة الوطنية وتنمية قدراتها الاقتصادية والاجتماعية(14). ولذلك ظهرت الدولة الوطنية كوريث شرعي لدولة المستعمر؛ حيث حملت معها جينات النشوء المتمثلة في عدم التجانس الجغرافي، والتاريخي، والثقافي، والاجتماعي، فضلًا عن ضعف آليات الاندماج الوطني أو بناء الوحدة الوطنية، وغياب الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتوظيف موارد الدولة الطبيعية والبشرية في خدمة متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتكافئة(15). وفي عهد نظام الإنقاذ (1989-2019) تراكم هذا الضعف بخلق مؤسسات مدنية وعسكرية موازية لمؤسسات الدولة الوطنية، ثم توظيف أصحاب الولاء الحزبي (حزب المؤتمر الوطني الحاكم) في الوظائف العامة على حساب الكفاءات المهنية التي لم تكن على توافق مع نظام الإنقاذ الانقلابي. ونتج عن ذلك انهيار شبه كامل في أداء الدولة الوظيفي؛ حيث أصبحت الحكومة المركزية غير قادرة على بسط سلطانها الأمني ونظامها العام داخل حدود الدولة السياسية؛ لأن الحركات المسلحة المعارضة قد بسطت نفوذها في بعض الولايات الطرفية. ويضاف إلى ذلك، عجز الحكومة المركزية عن تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية لمواطنيها، وفشلها في إدارة التنوع الثقافي والاجتماعي والديني، وكذلك ضعف سياساتها العامة في تحقيق التنمية المتكافئة بين ولاياتها النيلية والطرفية.
ومن هذه الزاوية، تُعَدُّ عملية إصلاح الدولة من أهم أولويات الفترة الانتقالية والتحديات التي تواجهها؛ لأن فاعلية الدولة مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بتحقيق متطلبات الانتقال الديمقراطي. ولذلك نلحظ أن الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 قد نصَّت على ضرورة إصلاح مؤسسات الدولة في أكثر من مرفق حيوي. لكن الأسئلة المحورية التي تظل هاجسًا في أذهان صاغة القرار السياسي والإداري في الحكومة الانتقالية تتمثَّل في الآتي: من أين تبدأ عملية الإصلاح؟ وكيف تبدأ؟ وما القطاعات المستهدفة بالإصلاح؟ وهل يبدأ الإصلاح باستبعاد الكوادر البشرية التي وظَّفها النظام المباد في عهده التمكيني، أم بإصلاح السياسات العامة التي يمكن أن تستوعب الكفاءات البشرية بغضِّ النظر عن انتماءاتها السياسية؟ والتحدي الآخر يتمثَّل في كيفية إصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية وإخضاعها لسيطرة الحكم المدني؟
إن قوات الدعم السريع القبلية التي أسَّسها النظام لحماية نفسه من أهم القوات العسكرية المعنية بإعادة الهيكلة والتأهيل؛ لكن المادة 35 من الوثيقة الدستورية قطعت الطريق أمام أية عملية لإعادة هيكلتها عندما جعلتها نظيرًا للقوات المسلحة، ووصفتها بأنها “مؤسسة عسكرية وطنية حامية لوحدة الوطن وسيادته، تتبع للقائد العام للقوات المسلحة وخاضعة للسلطة السيادية”، وقانون الدعم السريع هو الذي ينظم علاقتها بالسلطة التنفيذية. وبناءً على ذلك، لا تتم عملية إعادة هيكلة قوات الدعم السريع إلا بموافقة الرجل الأقوى في المجلس السيادي، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والذي أسَّس قواته من ميليشيات قبلية، يفتقر معظم أفرادها إلى الدربة العسكرية والتأهيل المهني. فعملية دمجها في القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية والشرطية ستخلق أزمة داخلية في صفوف القوات النظامية؛ ووضعها خارج المنظومة العسكرية النظامية سيخلق تحديًا آخر للحكومة الانتقالية؛ لأن ولاءها سيكون مرتبطًا بشخص الفريق أول، حميدتي، أكثر من الحكومة الانتقالية. وحدوث أي خلاف بين الحكومة الانتقالية والفريق أول حميدتي ربما يفضي إلى انقلاب هذا الأخير على الحكومة الانتقالية، مستخدمًا قواته العسكرية. أما التحدي المزدوج الآخر، فإن أعدادًا كبيرة من القوات العسكرية والأجهزة الأمنية والشرطية لهم ولاء سياسي لحزب المؤتمر الوطني المحلول، أكثر من ولائهم القومي للوظائف التي ينتمون إليها، فعملية إعادة تكييفهم للعمل بشفافية والتزام مهني-أخلاقي يُعَدُّ واحدًا من التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية؛ لأن إحالتهم للصالح العام بحكم انتمائهم للنظام المباد ستخلق مشكلة سياسية وفراغًا مهنيًّا، واستبقاءهم على وضعهم الحالي يشكِّل تحديًّا آخر للحكومة الانتقالية.
ثانيًا: قوى الحرية والتغيير ومعضلة عدم التجانس
قوى الحرية والتغيير هي تحالف سياسي عريض، قاد حركات الاحتجاج الثورية بكفاءة عالية، نسبة لوحدة الهدف المتمثل في إسقاط النظام، لكن بعد سقوط رأس النظام، في 11 أبريل/نيسان 2019، وبداية المفاوضات بدأت تظهر معالم تركيبته البنيوية غير المتجانسة(16). فإذا نظرنا إلى التركيبة البنيوية للقوى الثورية التي تقف خلف الحكومة الانتقالية، نلحظ أنها تركيبة غير متجانسة، وإن اتفقت مرحليًّا على إسقاط النظام، لكنها تختلف في طرائق تفكيرها وتعاطيها مع كيفية إزالة آثار النظام القديم، وكيف يكون توجيه مسار الفترة الانتقالية لخدمة أجندة التحول الديمقراطي المستدام.
تنقسم قوى إعلان الحرية والتغيير الناظمة لهذه التركيبة البنيوية إلى ثلاث مجموعات رئيسة، أولها: المجموعة التي يتصدَّرها الحزب الشيوعي السوداني وبعض القوى اليسارية التي تدعو بحكم تركيبتها الأيديولوجية إلى تفكيك دولة الحزب الواحد، التي حكمت السودان لثلاثة عقود، تفكيكًا شاملًا لقوانينها ومؤسساتها وكوادرها البشرية؛ وثانيها: المجموعة التي يمثِّلها حزب الأمة القومي، والتي تدعو إلى “هبوط ناعم” عن طريق تفعيل آليات التحول الديمقراطي المتمثلة في تأسيس المفوضيات المسؤولة عن الإعداد للانتخابات القومية العامة والمؤتمر الدستوري، دون الانصراف التام إلى تفكيك دولة الحزب الواحد تفكيكًا شاملًا؛ وثالثها: حركات الكفاح المسلحة التي لم تضع أجندة واضحة وموحدة لإحلال السلام في المناطق المتأثرة بالحرب في دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، وشرق السودان، بل إن أطروحاتها السياسية تميل إلى تجزئة الحلول، وافتعال المواقف الثانوية المتعلقة بقضايا الكسب القطاعي والجهوي دون النظر في القضايا الكلية التي تحتاج إلى تشخيص علمي دقيق، وحلول موضوعية مبتكرة، تُراعى فيها طبيعة العلاقة الجدلية بين استحقاقات المتضررين الآنية في المناطق المتأثرة بالحروب وواقع الدولة الاقتصادي المنهار.
وفوق هذا وذاك، تأتي تركيبة الحكومة الانتقالية المعقدة، التي يحمل أحد أضلاعها الثلاثة بعض الجينات الوراثية للنظام القديم (العسكريين في مجال السيادة)، التي تجعل العسكريين غير مهتمين بتفكيك مؤسسات دولة التمكين التي عاشوا في كَنَفِها، وكذلك إعادة هيكلة المؤسسات العسكرية والقوات النظامية الأخرى لتكون أكثر مهنية وقومية من وضعها الراهن. وعلى الضفة الأخرى، يقف منتسبو حزب المؤتمر الوطني المحلول وحلفاؤهم الذين عارضوا الثورة في الخفاء والعلن من قبل سقوط النظام القديم، ويعمل كثيرون منهم على إجهاض مساراتها بسبب خوفهم على منافع اكتسبوها ومن محاسبة على مفاسد وَلَغُوا فيها وانتهاكات ارتكبوها.
ثالثًا: تحدي صناعة السلام الشامل
يأتي في مقدمة أولويات الحكومة الانتقالية وتحدياتها عملية بسط السلام والأمن الشامل في دارفور، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق؛ حيث شهدت تلك الولايات حروبًا أهلية طاحنة، نتج عنها نقص في الأنفس، وتدمير للممتلكات، وتهجير لقطاع واسع من المواطنين من مساكنهم، كما صحب ذلك العنف الرسمي تأسيس حركات كفاح مسلحة، تدافع عن حقوق مواطني تلك المناطق المنكوبة. ولذلك نصت المادة 8/1 في الوثيقة الدستورية على ضرورة تحقيق “سلام عادل وشامل” في المناطق المنكوبة، يقوم على مخاطبة جذور “المشكلة السودانية، ومعالجة آثارها” ويأخذ في الاعتبار “التدابير التفصيلية المؤقتة للمناطق المتأثرة بالحرب، والمناطق الأقل نموًّا، والمجموعات الأكثر تضررًا”. وعُضِّدَت هذه المادة بالمواد 68 و69 و70 التي تناولت قضايا السلام الشامل، كما أعطت الفقرة (2) من المادة 68 “الأولوية للعمل على إتمام اتفاق السلام الشامل… في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ التوقيع على هذه الاتفاق على أن تبدأ خلال شهر من تاريخ تشكيل مفوضية السلام”. فالإطار الدستوري لتوصيف المشكلة والأدوات المساعدة في حلها، لا تعني التحدي الحقيقي، ولكن التحدي الحقيقي يستند في المقام الأول إلى مواقف الحركات المسلحة داخل قوى إعلان الحرية والتغيير وخارجها من أطروحات السلام الشاملة المقدمة من الحكومة.
لا جدال في أن هذه الحركات المسلحة قد اشتركت في إسقاط النظام، وكانت ترى أن نجاح الثورة سيفسح المجال لتحقيق مطالبها في السلام الشامل والعادل. وبعد سقوط رأس النظام، في 11 أبريل/نيسان 2019، مرَّت مواقف تلك الحركات بمنعرجات مختلفة؛ حيث انسحب ممثلوها من وفد قوى إعلان الحرية والتغيير المفاوض مع المجلس العسكري آنذاك، تحججًا بأن تمثيلهم في الوفد المفاوض لا يرقى إلى مستوى إسهاماتهم في إنجاح الثورة، وتأسيسًا على ذلك رفضوا الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية، لزعمهم بأنهما لم تخاطبا جذور المشكلة الحقيقية في المناطق المتأثرة بالحرب، ولم تتغير نظرة المركز إلى الهامش. ولضمان اصطحاب الحركات المسلحة في عملية التغيير، أرجأت قوى إعلان الحرية والتغيير والعسكريون في المجلس السيادي تشكيل المجلس التشريعي، لحين التوصل إلى اتفاق مع حركات الكفاح المسلحة، علمًا بأن المفاوضات بين الطرفين(17) قد بدأت في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بمدنية جوبا، عاصمة دولة جنوب السودان، تحت رعاية وإشراف دول الإيقاد (IGAD)(18). لكن التحدي الأساس ليس الجلوس حول مائدة المفوضات، بل إنجاز السلام العادل والمستدام؛ لأن أجندة السلام تحتوي على تفاصيل شائكة ومعقدة، مثل عودة النازحين الذين هُجِّروا قسرًا من قراهم وبواديهم، وتعويضهم ماديًّا مقابل الأضرار التي لحقت بهم، وتأهيل أماكن سكنهم القديمة التي دمرتها الحرب والنزاعات المحلية، أو توطينهم في الأماكن التي آثروا الاستقرار بها، فضلًا عن ضرورة استيعاب قوات الكفاح المسلحة في القوات النظامية الحكومية بطريقة علمية وعملية. ولذلك، تعتبر قضية السلام العادل والشامل التحدي الأول الذي يواجه الحكومة الانتقالية؛ لأن الوصول إلى حلٍّ شامل بين الطرفين سيُسهم في خفض الصرف العسكري والأمني في موازنة الدولة لصالح التنمية والخدمات الضرورية (الصحة والتعليم)، ويترتب على ذلك الاستقرار الأمني ارتفاعٌ في معدل الإنتاج الزراعي والحيواني في المناطق التي تأثرت بالحرب، وبموجب ذلك ترتفع معدلات التنمية والاستثمار في المناطق الإنتاجية المتأثرة بالحرب.
رابعًا: تحدي الإصلاح الاقتصادي وتوفير متطلبات العيش الكريم
تشكِّل معالجة التدهور الاقتصادي التحدي الرئيس الذي تواجهه الحكومة الانتقالية، علمًا بأن المادة 8/4 في الوثيقة الدستورية نصت على ضرورة معالجته “والعمل على إرساء أُسُس التنمية المستدامة، وذلك بتطبيق برنامج اقتصادي واجتماعي ومالي وإنساني عاجل لمواجهة التحديات الراهنة”. وتأتي أهمية معالجة التدهور الاقتصادي من واقع أنه كان أحد الأسباب التي أدت إلى سقوط نظام الإنقاذ، ولذلك وضعته حكومة ما بعد الثورة في قائمة أولوياتها، وحساباتها الرامية إلى توفير السلع الضرورية لمعاش الناس، وإعادة الثقة في النظام المصرفي، وزيادة الإنتاج المرتبط بالسلع النقدية، وإيجاد حل لديون السودان الخارجية التي بلغت 54 مليار دولار أميركي في آخر إحصاء رسمي، علمًا بأن السودان لم يسدد أكثر من 80% من المتأخرات المستحَقَّة للدائنين؛ لذلك رفضت المؤسسات والصناديق المالية إقراض السودان قبل سداد الديون المستحقة. وأصل هذه الديون لا يتجاوز 17 مليار دولار، وفوائدها وغراماتها الجزائية الناتجة من تأخير السداد تبلغ 37 مليارًا. والشيء الذي يزيد الأمر تعقيدًا أن موازنة حكومة السودان منذ استقلال جنوب السودان عام 2011 أضحت تعاني من عجز مالي كبير، ارتفعت قيمته من 13 مليار دولار عام 2017 إلى 25 مليار دولار عام 2018. بمعنى أن الحكومة السودانية لا تستطيع أن تفي بسداد ديونها الخارجية إلا عن طريق إعفاء هذه الديون، أو إعادة جدولتها، ثم السماح لها بالاقتراض من المؤسسات النقدية العالمية(19).
وقد أسهمت هذه الأزمة المركَّبة بطريقة مباشرة في زيادة التضخم، وتدني سعر العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، وفقدان الثقة في البنوك المحلية والعمل المصرفي. ويشكِّل الفساد الـمُمَأْسَس والمستشري في دواوين الحكومة ومؤسسات القطاع العام والخاص ضلعًا آخر للأزمة الاقتصادية في السودان. وأكثر مواطن الفساد ترتبط بعقود التعدين المبرمة مع بعض الشركات المحلية والعالمية العاملة، علاوة على تهريب المعدن النفيس (الذهب) بكميات كبيرة خارج السودان، مما أَفْقَد الخزينة السودانية العامة أموالًا طائلة. ولذلك سيكون هذا الملف الاقتصادي مؤشر أداء مهمًّا في تحديد نجاح الحكومة الانتقالية أو فشلها.
خامسًا: التأثيرات الإقليمية والدولية
تُشكِّل التحالفات السياسية والعسكرية التي أنشأها الرئيس المخلوع، عمر البشير، أحد المهددات الإقليمية للأمن القومي في السودان، ونذكر منها القوات السودانية التي تحارب في اليمن تحت مظلة التحالف السعودي-الإماراتي، والتي أفاد الفريق أول، حميدتي، بأن عددها يقدر بثلاثين ألف جندي سوداني. فالتحدي الأساس يتجسد في أن التحالف السعودي-الإماراتي حريص على استبقاء القوات السودانية في اليمن، ومقابل ذلك دفع مبالغ مالية لحكومة السودان وقوات الدعم السريع. فَسَحْب القوات السودانية من هذا التحالف ربما يُحْدِث انشقاقًا داخل الحكومة الانتقالية؛ لأن أعضاء المجلس السيادي العسكريين قد وعدوا الرياض وأبوظبي باستمرار الجنود السودانيين في أرض المعركة إلى أن تنتهي مهمتهم. ومن زاوية أخرى، نلحظ أن دول المحور السعودي/الإماراتي/المصري حريصة على إبعاد السودان عن المحور التركي/القطري الذي تعتبره حاضنًا لجماعات الإسلام السياسي. وإلى جانب ذلك، نلحظ أن جمهورية مصر العربية لها أجندتها الخاصة، والمتعلقة بتخوفها من قيام حكومة ديمقراطية قوية في السودان، يكون لها رأي معارض للوجود المصري في مثلث حلايب، ولها موقف مساند لإثيوبيا في مفاوضات سد النهضة. أما دول المحور التركي/القطري فلم تتخذ خطوات واضحة تجاه تأييد التطورات السياسية في السودان، بالرغم من اهتمامها بمساعدة التحولات الديمقراطية في دول الربيع العربي.
إذن، يجب على قوى الحرية والتغيير أن تستثمر مواقف الدول الغربية والاتحاد الإفريقي لانتقال السلطة إلى حكومة مدنية، كما يجب عليها أن تتعامل مع الدول الإقليمية بحذر ويقظة شديدين؛ لأن الاصطفاف غير المدروس إلى أي منها ربما يعرقل مسار هذه الانتفاضة في تحقيق طموحاتها السياسية. ولذلك وضعت المادة 8/13 نصًّا صريحًا يهدف إلى “وضع سياسة خارجية متوازنة تحقق المصالح الوطنية العليا للدولة، وتعمل على تحسين علاقات السودان الخارجية وبنائها على أُسُس الاستقلالية والمصالح المشتركة بما يحفظ سيادة البلاد وأمنها وحدودها”. فمن الناحية النظرية هذه رؤية سياسية ثاقبة، لكن تطبيقها عمليًّا في ظل ظروف السودان الاقتصادية المتدهورة يشكِّل تحديًّا آخر أمام الحكومة الانتقالية؛ لأن أية سياسة خارجية لها فواتيرها التي يجب أن تُسدَّد لمصلحة الدول المانحة. وعالميًّا، يحتاج السودان أن يعيد تموضعه في الأسرة الدولية، ويخرج من قائمة الدولة المتهمة برعاية الإرهاب. وإقناع الولايات المتحدة الأميركية التي وضعت السودان في قائمة الدولة الراعية للإرهاب يشكِّل تحديًا آخر، يحتاج إلى جهد من أجهزة الحكومة الانتقالية لتحسين سجلها في حقوق الإنسان، والحريات العامة، وسيادة القانون، وإحلال السلام في المناطق التي دمرتها الحروب الأهلية. وإلى جانب ذلك، توجد قضية تسليم الرئيس المخلوع، عمر البشير، وثلاثة آخرين من رموز نظامه للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن الاتهامات الموجهة إليهم في جرائم القتل والإبادة التي حدثت في دارفور.
- آفاق التحول الديمقراطي في السودان (2019 – 2022): أسئلة وسيناريوهات
إجمالًا نقول: إنه وللمرة الثالثة، وفي غضون أقل من ستة عقود، يعود الشعب السوداني ليؤكد على اختيار الديمقراطية، دون سواها، نظامًا للحكم. يأتي الاختيار هذه المرة عبر ثورة فاقت سابقاتها في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، بأنها كانت الأوسع انتشارًا في جغرافية السودان الممتدة، والأكثف مشاركة من كافة شرائح المجتمع السوداني، والأطول نَفَسًا رغم آلة القمع التي استخدمها النظام السابق في مواجهة المحتجين. يضع هذا الاختيار الطبقة السياسية السودانية بصورة عامة، والذين يتصدَّون لقيادة الفترة الانتقالية المصيرية (2019-2022) بصورة خاصة، أمام أسئلة شائكة ومتشابكة تتصل بأربعة محاور، هي: تهيئة المناخ السياسي الملائم لنجاح الانتقال، وتعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة القضايا والتحديات الكبرى للبلاد، وإعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أسس ديمقراطية، وضمان كفاءة الأداء التنفيذي لأجهزة الدولة.
أولًا: ضرورة تهيئة المناخ السياسي لتأمين الانتقال السلس إلى الديمقراطية: هل ستنجح الطبقة السياسية السودانية، التي تبدو أكثر انقسامًا وتشتتًا في أعقاب سقوط نظام الإنقاذ مقارنة بالمراحل التي أعقبت ثورتي أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، في تحقيق توافق وانسجام سياسي يُؤَمِّن انتقالًا إلى ديمقراطية راسخة ومستدامة في السودان؟ لتحقيق ذلك، تحتاج النخبة السياسية إلى “مراجعات كبرى”، كما يسميها كمال عبد اللطيف(20)؛ تشمل جميع أطراف المعادلة السياسية، بهدف التأسيس لقواعد جديدة لإدارة الحراك السياسي ودينامياته المحلية، بعيدًا عن الممارسات السابقة التي قدَّمت المصالح الأيديولوجية المغلقة على مصالح الوطن والمواطن. وتأتي في مقدمة تلك المراجعات مراجعة الثنائيات التي أفسدت الحياة السياسية في السودان منذ الاستقلال، مثل ثنائية الحداثة والتقليد، والختمية والأنصار، والشيوعيين والإسلاميين، والشريعة الإسلامية والعلمانية. فالثورات الكبرى عمومًا تقوم على المراجعات، ولا مفرَّ من مراجعات كبرى في السودان على مستويين رئيسيين: على الأحزاب السياسية ممارسة النقد الذاتي المؤسسي لترسيخ الالتزام بقيم الممارسة الديمقراطية في إدارة صراعاتها الداخلية مع وضع معايير أخلاقية ضابطة للأولويات العليا؛ تمكنها من تقديم المصلحة الوطنية العامة على مصالحها الحزبية الضيقة. ويمثِّل المستوى الثاني للمراجعات المنتظرة علاقات الأحزاب الأفقية مع بعضها بعضًا في إطار التنافس والصراعات السياسية، والتي يجب أن تُؤَسِّس توافقات على السياسات والمصالح الوطنية العليا لا الاكتفاء بالتوفيقات الترقيعية التي تضع المنافع الحزبية قبل المصالح الوطنية.
ثانيًا: لابد من إيجاد آليات لتعزيز الوحدة الوطنية والاتفاق في القضايا الوطنية الكبرى بالانفتاح على كافة شرائح المجتمع السوداني وقواه الحية، بعيدًا عن الإسقاطات السياسية المُؤَدْلَجَة، لتنخرط في وضع الاستراتيجيات والسياسات التي تحقق غايات الثورة، وتضمن الانتقال إلى نظام ديمقراطي راسخ ومستقر. ولا ينبغي للتوافق الوطني أن يكون حصرًا على المساومات والاتفاقات بين الأحزاب والقوى السياسية كما جرت العادة في العهود السابقة، بل يجب ضمان مشاركة كافة القوى الحية في المجتمع، لاسيما تلك التي صنعت الثورة، مثل تيارات الشباب، ومنظمات المجتمع المدني، وكافة الفعاليات المؤثرة في أقاليم البلاد في وضع الاستراتيجيات ورسم السياسات التي تخاطب القضايا المفصلية. وهناك العديد من القضايا التي يجب أن تدار حولها حوارات واسعة وصولًا لاستراتيجيات وطنية شاملة لمخاطبتها، ولكن أهمها لهذه المرحلة هي الأزمة البنيوية للدولة السودانية الحديثة، والتي ارتبطت ابتداءً بنشأتها في كَنَف سلطة استعمارية متسلطة، وتعمقت خلال فترات الحكم الوطني بسبب سوء السياسات أو غيابها، مما أضعف قدرتها على الإنجاز إلى حدٍّ كبير، ثم هناك قضية إنهاء الحرب وتحقيق السلام، والإصلاح الاقتصادي والعلاقات الخارجية.
ثالثًا: تبرز قضية إعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على أُسُس ديمقراطية لتأسيس حكم مدني ديمقراطي مستقر في البلاد. ماذا سيفعل القادة الجدد (مجلس السيادة الانتقالي ومجلس الوزراء الانتقالي) في سبيل إعادة صياغة مهام المؤسسات البيروقراطية والأمنية وتغيير عقيدتها من السيطرة على المواطن إلى خدمة المواطن؟ وهل ستكون القوات النظامية المسلحة، بما فيها تلك التي كانت جزءًا من آلة القمع في ظل النظام السابق، خاضعة لسيطرة الإدارة المدنية وملتزمة بالقانون؟ وكيف ستتم محاسبة الضالعين في ارتكاب تلك الانتهاكات الجسيمة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على ولاء القوات النظامية، وطَمْأَنَة المواطنين بأن هذه القوات ستكون في خدمتهم؟ وكيف ستتجاوب السطات الجديدة مع مطالب الذين اُنتُهِكت حقوقهم الإنسانية في ظل النظام القديم وحتى في الفترة التي أعقبت سقوطه؟ ثم ماذا ستفعل السلطات الجديدة في مواجهة الأنماط المتطاولة من الفساد والإفلات من العقاب والتي ترسخت خلال سنوات النظام السابق؟ وكيف ستعزز الحكومة الجديدة من استقلالية القضاء وحرية وسائل الإعلام، وتمكينها كي تسهم في محاسبة المسؤولين، دون أن تشكِّل مراكز قوى معيقة لأداء الحكومة؟ وفي ظل وجود مجموعة من الحركات المسلحة التي كانت تقاتل الدولة في عهد النظام السابق في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان، ماذا ستفعل القيادات الجديدة لتحقيق السلام الشامل في ربوع البلاد وتعزيز القبول السلمي المتبادل بين تلك الحركات المسلحة و”أعدائها السابقين” في أجهزة الدولة النظامية؟
رابعًا: لابد من ضمان كفاءة الأداء التنفيذي لمؤسسات الدولة في المرحلة الجديدة لكي تتمكن من أداء وظائفها في ظل الواقع المعقد الذي خلَّفه النظام السابق. فهل يتحلَّى المعارضون السابقون الذين باتوا يمثِّلون حكام اليوم، بالخبرات البيروقراطية والتكنوقراطية والأمنية والقضائية التي تؤهلهم لإنجاز المهام ذات الأولوية، خصوصًا تلك المتعلقة بإدارة الاقتصاد وتقديم الخدمات الاجتماعية وإنجاز مطلوبات العدالة الانتقالية؟ وهل يستطيع القادة الجدد كسب ثقة المواطن محليًّا، والشرعية دوليًّا من خلال تدابير في إدارة مؤسسات الدولة تضمن احترام إرادة أغلبية الناخبين وحماية مصالح الأقليات، بما فيها تلك المرتبطة بالنظام القديم؟ ماذا ستفعل السلطات الجديدة لحشد تأييد واسع من الشعب لصالح سياسات ترمي لتحقيق النمو الاقتصادي وزيادة فرص العمل على المدى البعيد، بينما ستكون تبعاتها على المدى القريب مؤلمة على الشعب؟ وكيف سيتعامل القادة الجدد مع الشارع إن غضب إزاء ما يعتبره فشلًا في تحقيق تطلعاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ وكيف سيواجهون تحدي الانقسام والتشظي في جبهة القوى والحركات التي تحالفت لإزالة النظام القديم؟
تُبيِّن هذه الأسئلة المعقدة والمتداخلة المعضلات والتوترات الحتمية التي تواجه الطبقة السياسية السودانية بشكل عام، ومن يتصدَّون لقيادة الفترة الانتقالية في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بشكل خاص. ويبقى الرهان معقودًا على النخب السياسية السودانية المؤثرة من أحزاب وحركات مسلحة أن ترتقي بسلوكها وممارساتها إلى مستوى الرهانات الوطنية الكبرى للعبور إلى الحكم المدني الديمقراطي المستقر وفاءً للتضحيات الكبيرة التي قدَّمها الشعب السوداني من أجله. وبعد مرور عام على سقوط النظام السابق، فإن الواقع السياسي السوداني بانقساماته الحادة، والأداء المرتبك لقادة المرحلة الانتقالية في كافة الملفات الأساسية (الاقتصاد، العلاقات الخارجية، إيقاف الحرب وتحقيق السلام، تصفية تركة النظام السابق…إلخ) يثير مخاوف جدية من أن أفق الانتقال الديمقراطي في البلاد ربما بات مسدودًا، وأن مصير التجربة الراهنة في السودان لن يكون بأفضل من سابقاتها في تاريخ البلاد، أو تجارب بعض دول الربيع العربي التي تعرضت لانتكاسات مؤلمة. لكننا نرى أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على التجربة، وأن الفترة الانتقالية المتفق عليها بين “قوى الحرية والتغيير” و”المجلس العسكري الانتقالي”، في أغسطس/آب 2019، تبقَّى منها ثلاث سنوات.
وستكون السيناريوهات المستقبلية المحتملة للانتقال الديمقراطي في السودان محكومة بشكل أساسي بمستوى أداء الطبقة السياسية السودانية، وما تُحرزه من تقدُّم في المحاور الأربعة: تهيئة المناخ السياسي، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة صياغة البنية الدستورية والقانونية للدولة على قيم الديمقراطية، وضمان كفاءة الأداء التنفيذي للدولة. فإن استطاعت هذه الطبقة السياسية، رغم بداياتها المتعثرة، أن تتدارك نفسها، وتستفيد من دروس التجارب الوطنية المتعثرة في الانتقال الديمقراطي سابقًا، ومن عِبَر الانتكاسات المؤلمة في بعض دول الربيع العربي، وتُحقِّق تقدمًا ملموسًا في المحاور أعلاه، فالمرجَّح أن ينجح السودان هذه المرة في اجتياز عتبة الانتقال إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية واستدامتها. وحتى إِنْ لم تُفْلِح في تحقيق المطلوب على الوجه الأتم، فلربما تمكنت الطبقة السياسية من الحفاظ على سلامة الدولة واستمرارية الوضع الانتقالي، ريثما تبرز تيارات جديدة من رحم الحركة الشبابية الواعدة والقوى الحية التي صنعت ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 بوعيها وتضحياتها. أما إذا واصلت الطبقة السياسية السودانية أداءها المرتبك، وعجزت عن تحقيق الحد الأدنى من المطلوبات لضمان الانتقال الآمن للديمقراطية، في ظل تنامي النفوذ الإقليمي والدولي وتدخله في الشأن السوداني الداخلي، ووجود حركات حاملة للسلاح، فإن سيناريوهات الارتداد إلى الحكم الاستبدادي أو الانزلاق نحو الفوضى والحرب الأهلية تبقى واردة بشكل كبير.
المراجع
(1) الطيب زين العابدين، “مستقبل الحوار الوطني في السودان”، مركز الجزيرة للدراسات، 18 أغسطس/آب 2014، (تاريخ الدخول: 20 فبراير/شباط 2020): https://bit.ly/34zRLl0.
(2) حسنين إبراهيم، “الانتقال الديمقراطي: إطار نظري”، مركز الجزيرة للدراسات، 24 يناير/كانون الثاني 2013، (تاريخ الدخول: 6 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2wBTYQu.
(3) المرجع السابق.
(4) عبد الفتاح ماضي، “مداخل الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية”، في علي خليفة الكواري وعبد الفتاح ماضي (محرران)، لماذا انتقل الآخرون إلى الديمقراطية وتأخر العرب: دراسة مقارنة لدول عربية مع دول أخرى، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009)، ص 31-83.
(5) المرجع السابق.
(6) إبراهيم، “الانتقال الديمقراطي: إطار نظري”، مرجع سابق.
(7) Samuel Huntington, “Democracy’s Third Wave,” Journal of Democracy, Vol. 2, no. 2, (Spring 1991): 12-34.
(8) إبراهيم، “الانتقال الديمقراطي: إطار نظري”، مرجع سابق.
(9) Larry Diamond, Developing Democracy: Toward Consolidation (Baltimore: John Hobkins University Press, 1999).
(10) Sujian Gao, Gary A. Stradiotto, Democratic Transitions: Modes and Outcomes (New York: Routledge, 2016).
(11) Huntington, “Democracy’s Third Wave,” op, cit.
(12) أحمد إبراهيم أبو شوك، “تجارب الانتفاضات الشعبية في السُّودان: التحديات والدروس المستفادة”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 1 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 6 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2XCUbhp.
(13) المرجع السابق.
(14) التجاني عبد القادر حامد، “دارفور وأزمة الدولة السودانية”، في: عبد الوهاب الأفندي وسيدي أحمد ولد أحمد سالم (محرران)، دارفور: حصاد الأزمة بعد عقد من الزمان، (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، 2013)، ص 73-104.
(15) حيدر إبراهيم علي، الديمقراطية السودانية: المفهوم، التاريخ، الممارسة، (القاهرة، مركز الدراسات السودانية، 2013)، ص 265.
(16) حسن حاج علي، “مراحل انتقال الثورات العربية: مدخل مؤسسي للتفسير”، مجلة خطاب، (العدد 6-7، 2014)، ص 65-94. يرى كاتب هذا المقال أن قياس مخرجات الفترات الانتقالية في ثورات الربيع العربي يتوقف على ثلاثة عوامل، هي: “الإرث المُؤَسَّسي الذي خلَّفته الدولة القديمة، وطبيعة التغيير الثوري الذي يؤثر على وجود آليات للتغذية الاسترجاعية أو عدمها، وتحالفات النخب”، ص 65.
(17) يمثِّل الحركات في المفاوضات الجبهة الثورية وحركة تحرير السودان جناح عبد العزيز الحلو. ويتكوَّن وفد الحكومة الانتقالية المفاوِض من الفريق أول، محمد حمدان دقلو (رئيسًا)، وعضوية كل من الفريق شمس الدين كباشي (مجلس السيادة)، والفريق ياسر العطا (مجلس السيادة)، ومحمد حسن التعايشي (مجلس السيادة)، ومحمد الفكي سليمان (مجلس السيادة)، وعمر مانيس (وزير شؤون مجلس الوزراء)، ويوسف آدم الضي (وزير الحكم الاتحادي)، وسليمان آدم الدبيلو (رئيس مفوضية السلام).
(18) يُقصَد بـ”إيقاد” (The Intergovernmental Authority on Development) الهيئة الحكومية للتنمية، وهي منظمة شبه إقليمية في شرق إفريقيا، ومقرها في دولة جيبوتي، تأسست في عام 1996، لتحلَّ محلَّ السلطة الحكومية الدولية للإنماء والتصحر (IGADD) التي أُنْشِئَت عام 1986، وكان الهدف من إنشائها مقاومة الجفاف والتصحر الذي كانت تعاني منه دول الساحل الإفريقي آنذاك. وتشمل عضوية إيقاد جيبوتي، والسودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا، والصومال، وإرتيريا، وأوغندا، وكينيا. وفي عام 1996، اجتمعت الدول الأعضاء في نيروبي، واتفقت على تعديل ميثاق المنظمة، وتغيير اسمها إلى الهيئة الحكومية للتنمية.
(19) عماد عبد الهادي، “ديون السودان الخارجية: أعباء ثقيلة وفشل بالسياسات الاقتصادية”، الجزيرة نت، 30 مايو/أيار 2019، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2020): https://bit.ly/2wBMbCc.
(20) كمال عبد اللطيف، “ما بعد الثورات العربية: زمن المراجعات الكبرى”، في: إدريس لكريني وآخرون، أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 31-64.