مقدمة

كانت حصيلة التحولات السياسية في البلدان المغاربية، بعد ثماني سنوات من اندلاع ثورات الربيع، مختلفة ومتنوعة. ففي تونس على سبيل المثال تحقَّق تقدُّم ملحوظ على مستوى الدستور والحريات العامة وتداول السلطة، لكن المعوقات والتحديات لا تزال ماثلة، وأهمها عقبة الأوضاع الاقتصادية المتأزمة. أما في ليبيا، فرغم أن البلاد تخلَّصت من نظام حكم العقيد معمر القذافي، فإنها وقعت في أتون حرب أهلية على أسس جهوية ومناطقية، وأصبحت ميدانًا للصراعات الإقليمية والدولية. بينما كان المغرب أوفق حظًّا حينما بادر الملك محمد السادس بإدخال تعديلات دستورية على خلفية مظاهرات 20 فبراير/شباط 2011، وإجراء انتخابات برلمانية، غير أن ذلك فيما يبدو لم يكن كافيًا لإنجاز نموذج تنموي تتحقَّق بموجبه العدالة الاجتماعية. أما في الجزائر، فقد ظل الخوف من تكرار أحداث العشرية الدموية في تسعينات القرن الماضي حائلًا دون التجاوب مع ثورات الربيع العربي، وساعدت عوائد النفط في استدامة الاستقرار الهش، لكن يبدو أن تراجع أسعاره، واستمرار إحكام قبضة السلطة على مفاصل الدولة، والإصرار على ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة رغم حالته الصحية المتدهورة منذ سنوات، دفع الجزائريين لإعادة حساباتهم فبدأوا حراكًا نجح في إجباره على الاستقالة وإن كان لا تُعرَف مساراته الأخرى على وجه اليقين حتى الآن. وأخيرًا، فقد حافظت موريتانيا على استقرار سياسي نسبي بسبب هامش الديمقراطية الذي سمحت به السلطات تخوفًا من امتدادات ثورات الربيع العربي إليها، لكنها لم تذهب أبعد من ذلك، وظلت عملية الإصلاح السياسي غير مكتملة.

ذلك كله، وسط تحديات إقليمية تواجهها بلدان المغرب العربي حالت دون تحقيق الوحدة والتعاون بالشكل المتوقع منذ إنشاء اتحاد المغرب العربي عام 1989؛ إذ يقع هذا الاتحاد وسط بيئة تتهدَّدها جماعات العنف والإرهاب والجريمة المنظمة التي تنشط في تجارة المخدرات وتهريب الأسلحة والاتجار بالبشر، وهو ما أثَّر ليس على التنمية الاقتصادية والتجارة البينية فقط، وإنما أيضًا على فرص وآفاق التحول السياسي في بلدان هذا الاتحاد.

وكما يتضح من خلال هذه النظرة الإجمالية لأوضاع دول المغرب العربي الداخلية والخارجية، فإن حصيلة التحولات السياسية تبدو بعد سنوات من ثورات الربيع العربي متواضعة، وهو ما دفع مركز الجزيرة للدراسات ومركز الدارسات المتوسطية والدولية لتنظيم ندوة بحثية مشتركة في العاصمة التونسية، يومي 16-17 فبراير/شباط 2019، تحت عنوان “التحولات السياسية في المغرب العربي: الحصيلة والآفاق”، بمشاركة نخبة من الباحثين والخبراء من بلدان المغرب العربي.

 

  1. ملامح التحول السياسي

1.1. تحديات التحول الديمقراطي في تونس

تعتبر تجربة التحوُّل السياسي في تونس الأكثر تقدمًا سواء أكان على المستوى العربي أم على مستوى بلدان المغرب العربي. فقد قطعت شوطًا مهمًّا في تغيير منظومتها الدستورية، وعرفت ثلاث مراحل انتخابية: انتخابات المجلس التأسيسي، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، فضلًا عن الانتخابات البلدية. ويمكن بناء على ذلك القولُ، ولو نظريًّا، بحسب ما ذهب إليه أحمد إدريس، مدير مركز الدراسات المتوسطية والدولية بتونس: إن المرحلة الانتقالية قد انتهت، لكن واقع الحال ينبئ بأن هذا القول قد لا يكون دقيقًا كل الدقة، فلا تزال التحديات السياسية والاقتصادية جمة؛ الأمر الذي جعل مسار التجربة متعرجًا ومتذبذبًا. فعلى سبيل المثال ثمة فجوة بين النصوص الدستورية التي يمكن وصفها بالتقدمية وبين إنزالها وتطبيقها على أرض الواقع. ولعل السبب يعود إلى ضعف الثقافة السياسية التي لا تتطور بالضرورة بنفس سرعة تطور النصوص الدستورية، فضلًا عن فقدان كثير من شرائح الشعب التونسي الثقة في الطبقة السياسية الحالية سواء من الحكومة أو أحزاب المعارضة، بسبب عدم تحقيق اختراق في مطالب الثورة التونسية ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية. لكن، ورغم ذلك كله، تبقى التجربة التونسية الوحيدة من تجارب الربيع العربي التي وصلت إلى مستويات متقدمة في الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والبنية الدستورية والتشريعية.

2.1. المغرب: التجاذب بين نزعتي الإصلاح والمحافظة

كان المغرب سبَّاقًا في السعي نحو الإصلاح السياسي، متخذًا خطوة إلى الأمام، استطاع من خلالها امتصاص ردات فعل ثورات الربيع العربي في البلدان المجاورة، وذلك حينما بادرت المؤسسة الملكية بإجراء تعديلات دستورية، أعقبتها انتخابات برلمانية، وتشكيل حكومة منتخبة. وقد ارتكزت عملية الإصلاح السياسي على مجموعة من العوامل، أبرزها، بحسب أستاذ القانون العام، امحمد المالكي: السعي نحو إعادة صياغة مفهوم جديد للسلطة يختلف عمَّا كان سائدًا من قبل؛ يرتكز على احترام القانون، وحكم المؤسسات، والانخراط في المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، فضلًا عن إنجاز الإصلاح القانوني المتعلق بالأحوال الشخصية لاسيما مدونة الأسرة.

وكان من نتيجة استجابة الملك لمظاهرات 20 فبراير/شباط بإدخال إصلاحات سياسية أن توسَّعت نسبيًّا سلطة الناخبين أمام سلطة المعيَّنين، فصار البرلمان المنتخب يفرز الحكومة ويحاسبها لكن مع إبقائهما تحت سلطة الملك، إلا أن هذا التوازن الجديد لم يتماسك بعد الانتخابات البرلمانية في 2016؛ إذ إن الحزب الفائز (العدالة والتنمية) أخفق في تشكيل الحكومة فدخلت البلاد فيما يشبه انسدادًا سياسيًّا امتد لأشهر عديدة ثم اضطر إلى القبول بشروط عزَّزت من سلطة المعينين والإداريين على حساب سلطة المنتخبين. إضافة إلى أنه خلال هذا الانسداد اندلعت احتجاجات الريف التي دامت نحو سبعة أشهر للمطالبة بالتنمية والعدالة، وقد اعترف الملك بعد ذلك بإخفاق مشروع “الحسيمة منارة المتوسط” الذي كان تحت إشرافه وموجَّهًا بالأساس لمعالجة هذه المشاكل.

ومع ذلك، فثمة جملة من التحديات حالت دون وصول عملية التحول السياسي في المغرب إلى منتهاها، من ذلك: هذا الشد والجذب بين نزعتين؛ الأولى: تلك التي تسعى نحو التغيير والإصلاح، والثانية: التي تعمل على المحافظة على الوضع القائم وربما العودة بالبلاد إلى الوراء. وقد ظلت عملية التحول السياسي رهينة هاتين النزعتين؛ ما انعكس على تفعيل الإصلاحات سابقة الذكر، وظهر ما يشبه الفجوة بين التحديث المؤسساتي من جهة، وخلق ثقافة سياسية جديدة تُفعِّل هذه القوانين وتلك المؤسسات من جهة ثانية، في حالة ربما تكون مشابهة للحالة التونسية بشأن الفجوة بين النصوص الدستورية والتطبيق العملي لها.

وفضلًا عن مسألة التجاذب بين نزعتي الإصلاح والمحافظة على الأوضاع سابقة الذكر، فإن التحول السياسي بالمغرب واجه تحديًا آخر يتمثل فيما يمكن تسميته بتشظي المشهد الحزبي؛ إذ ينشط على الساحة 26 حزبًا، معظمها -على حد وصف المالكي- أحزاب هشَّة، وهو ما لا تستقيم معه الحياة البرلمانية؛ إذ لا تقوم تلك الأحزاب بوظائفها الدستورية والسيادية المتمثِّلة في تأطير التمثيلية والوساطة. ثم إن الدولة في علاقتها بالأحزاب لا توفر الشروط الكافية كي تقوم هذه الأحزاب بوظائفها سابقة الذكر؛ الأمر الذي انعكس على بنيتها الداخلية، وأفقدها القدرة على تكوين كوادرها القادرة على المنافسة.

وإزاء هذا الوضع وآفاق تطور الحياة السياسية في المغرب فثمة قراءتان، الأولى تقول: إن المغرب قد قطع شوطًا في الإصلاحات، لكنه يحتاج إلى مزيد من الوقت لجني الثمار، ويستشهدون بالثورة الفرنسية التي تصارع الفرنسيون فيها قرابة 95 سنة حتى توصلوا إلى النظام الجمهوري القائم. لكن ثمة قراءة أخرى نقدية تقول: إن المغرب كان بإمكانه قطع هذه الأشواط في وقت أقصر لو توافرت إرادة سياسية تختصر الوقت، وتُطبِّق فحوى الدستور وبالأخص فيما يتعلق بالمساءلة والمحاسبة، وصياغة نموذج تنموي جديد يتجاوز الاختلالات الاجتماعية. فأية قراءة من هاتين القراءتين أصوب؟

الأصوب من وجهة نظر المالكي يتمثَّل في تعزيز الحريات، خاصة حرية التعبير والإعلام التي يبدو أن ثمة بوادر نكوص في مؤشراتها خلال السنوات الأربع الأخيرة، وأيضًا السعي نحو إيجاد نموذج تنموي جديد بعد الاعتراف الرسمي بفشل النموذج التنموي الحالي الذي أخفق في دمج فئات اجتماعية جديدة في منظومة العدالة الاجتماعية، ما عمَّق نفور الناس من السياسة.

 

3.1. موريتانيا: الربيع العربي يسهم في احترام قواعد اللعبة الديمقراطية

ما يميز الحالة الموريتانية أن البلاد لم تكن تعيش استبدادًا فتتهيأ مع الظروف لثورة شعبية على غرار ثورات الربيع العربي؛ إذ كان هناك انفراج نسبي حال دون ذلك. وقد حاولت قوى المعارضة عبر جملة من الفعاليات كالمظاهرات والمؤتمرات.. نقل مشاهد الربيع العربي إلى الداخل الموريتاني لكنها لم تنجح للسبب المذكور آنفًا.

ورغم وجود ديمقراطية من ناحية الشكل في موريتانيا، تتمثَّل في وجود دستور وأحزاب وانتخابات وإعلام، فإنَّ تحكُّم السلطة في المخرجات السياسية وبخاصة على المستويين التشريعي والتنفيذي جعل هذه الديمقراطية شكلية. لكن، ومع هذه الديمقراطية -ضعيفة المردود هزيلة النتاج- فقد أسهم الربيع العربي في وضعية لاحقة جعلت مسار الالتفاف على دستور البلاد، وبخاصة فيما يتعلق بمسألة العهدتين لرئيس الجمهورية غير القابلتين للتجديد، عسير التغيير كما في بعض البلدان، وقد يكون هذا ما أدى إلى احترام الدستور وإتاحة الفرصة للتداول على السلطة سواء من داخل النظام أو من خارجه.

وفي العموم، فإن المشكلة في موريتانيا والجزائر وليبيا -كما يقول الرئيس السابق لحزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية، محمد جميل بن منصور، في مداخلته- تتمثَّل في عدم وضوح وضعية السقف فيها، ففي تونس مثلًا فإن السقف مرفوع، وفي المغرب السقف معروف وتشتغل القوى السياسية تحت هذا السقف، أما في البلدان الأخرى الثلاث فلا سقف مرفوع ولا سقف معروف، وبالتالي تعاني هذه البلدان من هذه الوضعية؛ إذ لا يؤدي الأمر إلى انفتاح سياسي مفتوح كما هو في تونس أو إلى سقف معروف يتفاعل معه الجميع كما هو في المغرب.

4.1. التدخلات الإقليمية والدولية تعطل الانتقال السياسي في ليبيا

تعتبر الثورة الليبية هي الأكثر كُلفة بين ثورات الربيع العربي في بلدان المغرب؛ لأنها تحولت إلى حرب أهلية أسهمت التدخلات الإقليمية والدولية في تأجيج نيرانها. وقد بدأت مشكلات التحول السياسي في ليبيا منذ العام الأول للثورة، في 17 فبراير/شباط 2011، حينما تأسس المجلس الانتقالي، وأصرَّ وقتها الثوار المنتمون لعديد المدن على أن يكون لهم تمثيل فيه على أساس مناطقي، فبدأت العملية السياسية الليبية ومعها فيروس المحاصصة المناطقية والجهوية عوضًا عن تأسيس الدولة على مفهوم المواطنة. فضلًا عن ذلك، صدر الإعلان الدستوري، عام 2011، الذي يرسم ملامح المرحلة الجديدة وبه عوار قانوني كما يصفه الباحث السنوسي بسيكري، يتمثَّل في تخويل البرلمان اختيار رئيس الحكومة، ما أدى إلى أن يكون الأمر خاضعًا للمواءمات والتحالفات داخله حتى ولو كان الشخص المفترض أن يكون رئيسًا للحكومة قد حصل على أعلى الأصوات في الانتخابات المباشرة، وهو ما حدث مع الدكتور محمود جبريل الذي فاز حزبه (التحالف الوطني) بأغلبية الأصوات في الانتخابات البرلمانية، ومع ذلك لم يتمكن من تشكيل الحكومة.

وقريبًا من هذا الخلل القانوني والتشريعي ما نجم عن قانون العزل السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني عام 2013؛ إذ جاءت صياغة هذا القانون عامة ما أدت إلى إقصاء عشرات الآلاف من النخب الليبية التي كان بالإمكان إدماجها ضمن مؤسسات الدولة وهي في مرحلة إعادة البناء. أما على المستوى العسكري والأمني، فقد تفجَّر الوضع عام 2014 بين قوات فجر ليبيا بقيادة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، وقوات الكرامة، وأدى الصراع الدموي بينهما إلى انقسام سياسي وعسكري بين شرق البلاد وغربها لا يزال قائمًا، وتشكَّل بمقتضاه برلمانان وحكومتان ومصرفان مركزيان.

وحاول اتفاق الصخيرات، عام 2015، معالجة هذا الانقسام لكن لم ينجح؛ لأن الأطراف التي وقَّعت عليه كان ينقصها شرعية التمثيل، فالذي جاء ممثلًا عن شرق ليبيا لم يكن يمثِّل كل الشرق ما يخوِّل له التوقيع، وكذلك الحال بالنسبة للذي جاء من الغرب، فظلت هناك معارضة للاتفاق في الشرق والغرب معًا. وقد حاولت البعثة الأممية، وقد مرَّ عليها سبعة ممثلين/مفوَّضين، التقريب بين وجهات النظر لكن مقارباتهم لم تكن منتِجة بسبب التدخلات الإقليمية والدولية المؤثرة على أطراف النزاع؛ إذ لدى الشرق الليبي داعمون إقليميون ودوليون مختلفون عما لدى الغرب، ومن ثمَّ كان الموقف أثناء المفاوضات يتشكَّل بناء على توجهات هؤلاء الداعمين الساعين نحو مصالحهم الخاصة، فلم يتم الاتفاق على تسوية سياسية تُخرج ليبيا من هذا الوضع المتفجِّر.

5.1. الجزائر مرشحة لتحول سياسي كبير

لم يكن الجزائريون بعيدين عن ثورات الربيع العربي، لكنهم آثروا التريُّث تخوُّفًا من تكرار ما حدث في عقد التسعينات الذي عُرف بالعشرية الدموية، حينما فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات البلدية ثم بالجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، غير أن الجيش انقلب على العملية الديمقراطية، وألغى نتيجة الانتخابات، واعتقل عشرات الآلاف من كوادر الجبهة، ما اضطرهم إلى حمل السلاح، فدخلت البلاد في دوامة من العنف والعنف المضاد راح ضحيتها أكثر من 200 ألف قتيل، ثم توقف العنف أخيرًا مع تولي الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، السلطة عام 1999، وإقرار قانون الوئام المدني ثم ميثاق السلم والمصالحة الوطنية. وقد ساعد على استقرار الأوضاع الوفرة المالية الناجمة عن مداخيل النفط والغاز، وبخاصة إبان سنوات ارتفاع أسعاره عالميًّا. لكن فيما يبدو فإن الجزائر مرشحة لاحتجاجات شعبية واسعة النطاق مجددًا وذلك على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية بعد انخفاض أسعار النفط وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي، وإصرار النظام على ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رغم حالته الصحية الحرجة لولاية خامسة**.

  1. معوقات تحقيق الوحدة المغاربية وأثرها على التحولات السياسية

توضح مؤشرات التقارير الدولية المتعلقة بالديمقراطية والحوكمة وسيادة القانون أن بلدان المغرب العربي لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه على هذا المضمار. والأسباب وراء ذلك متعددة، بعضها يعود إلى اختلاف طبيعة أنظمة الحكم ما بين ملكية وجمهورية، وبعضها يعود إلى اختلاف درجة التحديث ومستويات الدَّمَقْرَطَة، فضلًا عن تنوع المشكلات والتحديات داخليًّا وخارجيًّا من بلد إلى آخر.

وفي العموم، فإن أهم ما أعاق عمل اتحاد المغرب العربي منذ تأسيسه قبل ثلاثين عامًا هو عدم توفر الإرادة السياسية لتفعيل مؤسساته، والإبقاء على المشكلات البينية دون حل، وبخاصة مشكلة الصحراء، فضلاً عن اختلاف التحالفات الاستراتيجية بين أعضائه، كما يقول الدكتور عبد النور بن عنتر؛ أستاذ محاضر في جامعة باريس 8 بفرنسا؛ إذ ترتبط بعض الدول بتحالفات استراتيجية مع قوى إقليمية أو دولية، ربما تكون على تضاد مع دولة عضو في الاتحاد ترتبط هي الأخرى بتحالف استراتيجي مغاير.

أما عن مصادر التهديد التي تحيط بدول المغرب العربي فأهمها: تنامي ظاهرة الإرهاب وجماعاته المنظمة، التي تتخذ من المناطق الحدودية الرخوة ملاذًا لها، كما هي الحال على الحدود بين الجزائر ومالي، وإلى حد ما بين الجزائر وتونس. والأخطر في هذه الجماعات -بحسب الحواس تقية، باحث في مركز الجزيرة للدراسات- هو تحالف بعضها مع بعض جماعات الجريمة المنظمة التي تنشط في تجارة السلاح والمخدرات وتهريب البشر إلى أوروبا، وهو ما يجعل بقاء دول الاتحاد نفسها، بقطع النظر عن مستوى ما وصلت إليه من دَمَقْرَطَة وحكم رشيد، على المحك.

 

خاتمة

تراوحت حصيلة التحولات السياسية في بلدان المغرب العربي، بعد ثماني سنوات، من النجاح النسبي، كما في حالة تونس، إلى الاقتتال الأهلي كما في الحالة الليبية، وبين هذين الطرفين تندرج حالات المغرب والجزائر وموريتانيا، التي شهدت إصلاحات جزئية حافظت على استقرار سياسي، لكنه استقرار هشٌّ معرض في أي وقت للاهتزازات.

فقد تمكنت تونس من الانتقال إلى نظام سياسي ديمقراطي توافقي مع الحفاظ على الاستقرار بشكل عام، لكن هذين الإنجازين يواجهان ضغوطات كبيرة نتيجة الصعوبات الاقتصادية وعدم المساواة بين المناطق. ويقف الوضع في ليبيا في الطرف المقابل؛ إذ إن التنافس على السلطة بين مختلف القوى لم يعد محصورًا في المؤسسات التمثيلية بل صار اقتتالًا أهليًّا أفرز حكومات متناحرة وعددًا واسعًا من الفصائل المسلحة، وجعل البلد متعثرًا سياسيًّا واقتصاديًّا وممزقًا إلى مناطق متنابذة. في المغرب، ورغم استجابة الملك لمظاهرات 20 فبراير/شباط بإدخال إصلاحات سياسية توسِّع نسبيًّا من سلطة الناخبين أمام سلطة المعينين، إلا أن هذا التوازن الجديد لم يتماسك بعد الانتخابات البرلمانية في 2016، وخاصة بعد أن أخفق الحزب الفائز (العدالة والتنمية) في تشكيل الحكومة فدخلت البلاد فيما يشبه انسدادًا سياسيًّا امتد لأشهر ثم اضطر إلى القبول بشروط عزَّزت من سلطة المعينين والإداريين على حساب سلطة المنتخبين.

وتمكنت الجزائر من المحافظة على استقرارها بعد موجة الربيع العربي، لكنه استقرار هشٌّ عصفت به الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن تدهور أسعار النفط والحراك الشعبي الذي انفجر قبل موعد إجراء الانتخابات الرئاسية، في 18 أبريل/نيسان 2019، ودفع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى تقديم استقالته بعد ترشحه للعهدة الخامسة.

تواجه موريتانيا مشاكل داخلية قد تهز استقرارها النسبي، فهي تعاني من قلة الموارد وضعف التنمية والنزاعات الإثنية، وقد يؤدي الجمع بين المشكلتين إلى توترات تؤثر سلبًا على قدرة السلطة في التعامل معها، خاصة وسط الاستقطاب السياسي الذي كشف عنه التصويت للدستور في 2017.

 علاوة على هذه المشكلات الداخلية لدول المغرب العربي تبرز مشكلات عابرة للحدود، متخذة أشكالًا مختلفة مثل “الإرهاب” والاتجار بالبشر والمخدرات واللاجئين، وتجد بيئة مواتية في اتساع رقعة الاحتجاج داخل دول المغرب العربي للإفلات من الرقابة وتشكيل منافذ آمنة لأنشطتها.

كان من المفترض أن تدفع التحديات الداخلية كالتنمية والخارجية كالإرهاب دول المغرب العربي إلى التعاون فيما بينها؛ باعتباره مصلحة مشتركة للجميع، لكن الخلافات البينية، خاصة بين الجزائر والمغرب في قضية الصحراء، وانهيار السلطة المركزية كما في ليبيا، تستنزف جهود تلك الدول ومواردها في النزاعات البينية وتعيقها عن التعاون في المجالات الحيوية التي تمس أمنها الخارجي، كما يعيق ضعف المؤسسات السياسية والنزاعات البينية القيادات المغاربية عن الاستفادة المثلى من الموارد المتناقصة، ويهيئ البيئة المواتية للتهديدات التي قد تتسع وتتسبب في مزيد من الاضطرابات السياسية والأمنية.

** عُقدت هذه الندوة قبل اندلاع احتجاجات الشارع الجزائري، في 22 فبراير/شباط 2019، وقد نجحت بعد سبعة أسابيع في إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على تقديم استقالته، في 2 أبريل/نيسان 2019.