مقدمة
منذ أولى حركات التعبئة السياسية العامة باستخدام الشبكات الاجتماعية التي عرفها العالم، مُتَمَثِّلَة في تلك الانتفاضة التي أدت إلى إسقاط حكومة جوزيف استرادا (Joseph Estrada) في الفلبين سنة 2000، ثم الحراك الذي عرفته الجمهورية الإيرانية في سنة 2009، والذي تميَّز بتوظيف الشبكات الاجتماعية لدفع شرائح من المجتمع الإيراني للانتفاض ضد الممارسات غير الديمقراطية التي سبقت الانتخابات الرئاسية في إيران آنذاك. تجلى أول المؤشرات التي دلَّت الملاحظين على احتمالية تحوُّل الشبكات الاجتماعية إلى أداة من أدوات التعبئة الجماهيرية وأداة من أدوات الفعل السياسي. وقد أكد بعدها الاستخدام الواسع النطاق للشبكات الاجتماعية، وكذا الدور الكبير الذي لعبته تلك الشبكات في تحريك الشباب وإذكاء ثورات الربيع العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، صحة الفرضية التي صاغها الكثير من الباحثين والمتخصصين في علوم الإعلام والاتصال آنذاك، والتي مفادها أن الفضاء الإلكتروني سيصبح فضاء عامًّا للتعبير ولممارسة الفعل السياسي الفاعل، وأداة من أدوات التحريض والتعبئة الجماهيرية لإطلاق الانتفاضات أو الثورات(1). ومؤخرًا فقط، أظهر الحراك الشعبي في كل من الجزائر والسودان، زخم وقوة النشاط السياسي الافتراضي الذي ألهب الاحتجاجات والمظاهرات، بعد أن خرجت فئات مختلفة من المجتمعين الجزائري والسوداني للتعبير عن رفضها للتمديد لفترات رئاسية جديدة للرئيسين المنتخبين في كلتا الدولتين.
لقد كانت العهدة الخامسة التي روَّج لها الحزب الحاكم والطبقة السياسية -المتنفذان في الجزائر- حتى فبراير/شباط 2019، أملًا منهما في فتح الباب أمام فترة رئاسية جديدة للرئيس المنتهية عهدته -على الرغم من حالته الصحية التي لا تسمح له بممارسة مهامه الدستورية على أكمل وجه- القطرة التي أفاضت الكأس وجعلت الملايين من الجزائريين يخرجون للشارع للتعبير ليس فقط عن معارضتهم للعهدة الخامسة للرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، المنتهية ولايته، بل أيضًا عن استيائهم من نظام حكم نخره الفساد المالي والسياسي، وفَقَدَ بذلك الشرعية الأخلاقية والسياسية التي تخوِّله الاستمرار في التحكم في القرار السياسي للبلاد. وقد زادت حالة الانغلاق في وسائل الإعلام التقليدية الناتجة عن تحكم السلطة في الإعلام الرسمي وتواطؤ القنوات التليفزيونية الخاصة -التي تمادت مع بداية الانتفاضة في تضليل الرأي العام بشأن تطورات المشهد السياسي في البلاد- من الحاجة لأدوات بديلة للتعبير ولتداول الطروحات السياسية المختلفة، التي لم تجد طريقها إلى التعبير الديمقراطي عنها في وسائل الإعلام التقليدية، بسبب الضغوط
الإدارية والاقتصادية، أو القانونية، الممارسة على تلك الوسائل.
وبذلك، باتت شبكات التواصل الاجتماعي ليست فقط وسائل بديلة للتعبير عن الرأي، أو وسيطًا يتمُّ عبره التواصل السياسي لإبلاغ الرسائل للفئات الاجتماعية المختلفة، بل عاملًا أساسيًّا من عوامل تشكيل الفضاء العام المؤثِّر على عموم الشعب، والمؤثِّر أيضًا على الحياة السياسية والتشريعية، بالمفهوم الذي وضعه يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)(2). كما باتت تلك الشبكات واقعًا افتراضيًّا للفعل وللحراك السياسين بأشكالهما المختلفة، انطلاقًا من إنتاج الخطاب والترويج له بأساليب مختلفة، مرورًا بتنظيم النشاط السياسي والتعبئة له، وصولًا إلى الحراك السياسي الميداني.
- الإجراءات المنهجية والإطار النظري للدراسة
أ- إشكالية الدراسة ومجالها
تسلِّط الدراسة الضوء على ظاهرة تشكُّل الفضاء العام الرقمي وآليات تعبئة الرأي في ذلك الفضاء العام الافتراضي، عبر فهم دوافع ومبررات تحويل الشبكات الاجتماعية إلى أدوات للفعل السياسي في الفضاء العام الافتراضي في لحظة ما من تاريخ الشعوب والمجتمعات، وتتخذ من الحالة الجزائرية نموذجًا. وسنسعى عبر دراسة وصفية تحليلية للانتفاضة الشبابية الجزائرية ضد العهدة الخامسة للرئيس المستقيل، عبد العزيز بوتفليقة، لمحاولة فهم لماذا خرج الشباب الجزائري في فبراير/شباط 2019 بينما رفض أن ينتفض في عِزِّ ديناميكية الربيع العربي في 2011، حين اكتسحت أمواج التغيير السياسي أكثر الدول العربية متانة في تماسكها الأمني، على غرار تونس وليبيا وسوريا ومصر، أو حتى في 2014، حين ترشح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة رابعة وهو مريض أيضًا. وتطرح في هذه الدراسة مجموعة من التساؤلات البحثية نوردها فيما يلي:
– ما الدوافع التي جعلت الشباب الجزائري يخرج في انتفاضة شعبية امتنع عنها في سياق الربيع العربي في 2011، على الرغم من صدور دعوات افتراضية لذلك على الشبكات الاجتماعية، وعلى الرغم من توافر نفس العوامل الموضوعية السياسية، الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت لحراك فبراير/شباط 2019؟
– ما سياقات وسيرورة النشاط السياسي الجزائري عبر شبكات التواصل الاجتماعي خلال ذلك الحراك؟
– من هم الفاعلون والنشطاء السياسيون الذين قادوا الحراك؟ وما الوسائط المستخدمة في النشاط السياسي عبر شبكات التواصل؟
– ما أنماط النشاط السياسي وأشكاله عبر شبكات التواصل الاجتماعي؟ وكيف تفاعلت السلطة مع مبادراته إعلاميًّا وسياسيًّا؟
– هل يمثِّل هذا الحراك مظهرًا من مظاهر تشكُّل بارادايم جديد في تحوُّل الفعل السياسي من نشاط سياسي تقليدي إلى نشاط سياسي رقمي، أم استجابة لحالة الانغلاق الإعلامي والسياسي في الجزائر؟
ب- فرضيات الدراسة
تقترح هذه الدراسة فرضية نقيضة لفرضية دوامة الصمت وهي فرضية “دوامة التعبير”، ويفترض هذا الطرح:
أولًا: وجود علاقة طردية (Positive correlation)بين زيادة نسبة التعبير الحر للأفراد في الشبكات الاجتماعية (العالم الافتراضي) ونسبة التعبئة العامة الفعلية في المجتمع الحقيقي؛ إذ كلما لاحظ أفراد المجتمع ديناميكية تعبير جارفة في الفضاء العام الإلكتروني، تقوم على عوامل موضوعية ملموسة تسمح لها بتوليد حالة من العمل الاجتماعي الهادف لحل المشكلات (Social action)؛ زادت النشوة الاجتماعية (Social euphoria) عند أفراد المجتمع، ما يولِّد الرغبة في الخروج من التعبير الافتراضي إلى التعبير الفعلي في الفضاء العام الحقيقي.
ثانيًا: وجود علاقة عكسية (Inverse relationship) بين نسبة المقاومة التي يتلقاها التعبير في الفضاء الإلكتروني (مهما كانت أشكالها) ومدى الجنوح نحو التعبير الفعلي في الفضاء العام الحقيقي عبر المشاركة في التجمعات والمظاهرات، أي كلما قلَّت المقاومة التي يجدها الخطاب المعارض في الشبكات الاجتماعية؛ زاد الجنوح نحو المشاركة في الحراك عبر التظاهر.
ج- مقاربة الدراسة ومنهجها
تعتمد الدراسة على مقاربة استكشافية (Exploratory research) نسعى من خلالها لمعرفة أبعاد استخدامات الشبكات الاجتماعية في الحراك الجزائري وقياس دور بعض متغيرات التفاعل المرتبطة بالسلوكيات الإرادية والسلوكيات غير الإرادية، كمتغيرات الإدراك، ومتغيرات التأثير، ومتغيرات السلوك في اتخاذ قرار التعبير، ثم في اتخاذ قرار المرور إلى الفعل السياسي الشبكي في مرحلة من المراحل. ومن مميزات الدراسات الاستكشافية أنها تسمح بمعرفة الاستفسارات التي يقدمها الأشخاص المستجوَبون ومعرفة المعاني التي يعطونها لأفعالهم، بعد حصر القضايا التي يهتمون بها، ما يساعد الباحث على جمع أكبر عدد من المؤشرات التي تسمح له باكتساب فكرة شاملة حول طبيعة الأبعاد المرتبطة بالظاهرة المدروسة(3). ولأن المقاربات الاستكشافية لا تسعى لتعميم النتائج التي تتوصل إليها خارج عينة الدراسة التي شملتها، فإنها لا تحتاج لتطبيق إجراءات الصدق والثبات التي تعرف بها المقاربات الإحصائية الكمية، والتي تسعى في الغالب لتعميم النتائج من عينة الدراسة على كافة مجتمع البحث.
د- عينة الدراسة ومجتمعها
أُجْرِيت الدراسة في شكل مقابلات نوعية غير مُقَنَّنَة على عينة غير عشوائية (عينة متاحة)، شملت 20 ناشطًا جزائريًّا على الشبكات الاجتماعية يمثِّلون مجتمع الدراسة، وذلك خلال الفترة الممتدة من 1 أبريل/نيسان 2019 إلى 30 مايو/أيار 2019. وجاءت سِنُّ أفراد العينة التي استطعنا الوصول إليها ما بين 19 و46 سنة، مع توزيع جغرافي شمل غربَ وشرقَ وشمالَ وجنوبَ الجزائر، وتوزيع نوعي ضم 7 إناث و13 ذكرًا. واختار الباحث أداة المقابلة غير المقنَّنة عبر الهاتف لعدة مبررات، لعل أهمها وجود الباحث خارج مجتمع الدراسة خلال فترة القيام بالبحث، ثم طبيعة الدراسة التي لا تسعى إلى الوصول لنتائج إحصائية مُمَثِّلَة لمجتمع البحث. وبُنِيَت أسئلة المقابلة على 15 محورًا، تم صياغتها كلها بأكثر قدر ممكن من الشمولية، حتى نضمن تغطية المتغيرات التي وردت في الفرضيتين اللتين تمَّ صياغتهما، وبما يضمن أيضًا تغطية الأسئلة البحثية التي طُرحت في إشكالية الدراسة. وغطَّت تلك المحاور عوامل مرتبطة بما يلي: الدافعية القائمة وراء الرغبة في استخدام الشبكات الاجتماعية بشكل عام، والدافيعة القائمة وراء المشاركة في النشاط السياسي الشبكي بشكل خاص، وعادات ونسب استهلاك وسائل الإعلام التقليدية، وعادات ونسب استهلاك وسائل الإعلام التفاعلية، والعوامل الإرادية القائمة وراء التعبير خلال الحراك، ثم العوامل اللاإرادية القائمة وراء التعبير خلال الحراك، وإدراك الفرد للأولويات السياسية المتعلقة بالحراك، ثم العوامل القائمة وراء اتخاذ قرار المشاركة في الحراك، ومدى تأثير عامل الخوف من الجهات الأمنية من عدمه خلال التعبير الافتراضي عن المواقف السياسية، ومدى تأثير عامل الخوف من الجزاء الاجتماعي من عدمه خلال التعبير الافتراضي عن المواقف السياسية، ومحددات الموقف الشخصي من مطالب الحراك الشعبي، والعوامل المحفزة على التعبير في الشبكات الاجتماعية وتلك المثبطة لها، وطبيعة المحتويات والمواقع التي يتفاعل معها الفرد على الشبكات الاجتماعية خلال الحراك الاجتماعي، وطبيعة الدور الذي يقوم به الفرد في الحراك السياسي على الشبكات الاجتماعية، ومدى المشاركة الفعلية في المظاهرات من عدمها.
ه- الإطار النظري للدراسة
تعتمد الدراسة في مقاربتها لموضوع استخدام الشبكات كأداة من أدوات الفعل السياسي على نظرية الاستخدامات والإشباعات التي صاغها كل من جاي بلوملر (Jay Blumler) وإليهو كاتز (Elihu Katz) وميشايل جورفيتش (Michael Gurevithch) في سبعينات القرن الماضي(4). وبُنِيَت هذ النظرية على ثلاث فرضيات أساسية، تدفع الأولى بأن المتلقي له دور نَشِط في اختيار وسيلته الإعلامية. وتقضي الثانية بأن المتلقي يفسر الوسيلة ويدمجها في حياته وفقًا لحاجاته. أما الثالثة فتقضي بأن هناك أنواعًا مختلفة من وسائل الإعلام التي تتنافس مع بعضها البعض على تلبية رغبات وحاجات الجمهور، علمًا بأن الوسيلة التي توفر أكثر ما يحتاجه المتلقي هي التي سيلجأ هذا الأخير لاستخدامها بكثرة.
وعلى خلاف وسائل الإعلام التقليدية، باتت الوسائط الجديدة مثل الإنترنت والشبكات الاجتماعية، توفر خصائص انتقائية تسمح للأفراد بتكييف الرسائل بحسب احتياجاتهم أكثر من أي وقت مضى. وبحسب أصحاب هذه النظرية، هناك العديد من الحاجات التي تدفع المتلقي لاستخدام وسائل الإعلام، كالحاجات المعرفية التي ترتبط بالحصول على المعلومات للمساعدة في التفكير وفهم المحيط، والحاجات العاطفية التي ترتبط باستخدام الناس للوسائط الإعلامية بهدف إثارة بعض المشاعر داخل أنفسهم، مثل السعادة أو الخوف أو المتعة، والحاجات النفسية المرتبطة بالتكامل الشخصي، الذي يتعلق بتعزيز صورة الشخص أو سمعته أو حالته، ثم بالحاجة للتنفيس والتقليل من التوترات عبر الهروب من الواقع، وأخيرًا، الحاجات الاجتماعية المرتبطة بالتكامل الاجتماعي الذي يهدف إلى تحقيق التفاعل مع العائلة والأصدقاء وأفراد المجتمع عبر التواصل معهم.
و- الدراسات السابقة
لا توجد دراسات سابقة كثيرة تمحورت حول موضوع استخدام الشبكات الاجتماعية في عملية التعبئة السياسية في الجزائر، كما لا يوجد بعد أدبيات علمية بحتة تتمحور حول موضوع الشبكات الاجتماعية والحراك السياسي في الجزائر بعد انتفاضة فبراير/شباط 2019 بشكل محدد، وهذا يعود لحداثة موضوع الحراك السياسي في الجزائر، والذي لم يمر من الزمن على بدايته سوى ما يقارب الأربعة أشهر. لكن حصرنا دراستين مهمتين سابقتين لفترة الحراك السياسي الشعبي في الجزائر، كان مجال اهتمامهما المجتمع الجزائري تحديدًا.
– الدراسة الأولى ذات صلة بالبعد المرتبط بآليات التعبير عن الرأي في الفضاء العام من منظور نظرية دوامة الصمت، وهي تلك التي أعدها ونشرها كل من لوصيف سعيد وبلعموري نعيم تحت عنوان “محددات التعبير العلني عن الرأي: محاولة لاختبار نظرية دوامة الصمت في السياق الجزائري”. وقد انصب اهتمام هذه الدراسة على التعرف على سياقات التعبير العلني عن الرأي كمتغير تابع عبر تحليل أجوبة عينة عرضية من مئتي أستاذ جامعي جزائري تمَّ استقصاؤهم لمعرفة آليات تَشَكُّل آرائهم وتوجهاتهم إزاء سياسات الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة. وخلصت الدراسة إلى عدم وجود مؤشرات كافية في السياق الجزائري، تؤكد كليًّا الفرضيات التي ذهبت إليها إليزابيث نويل نيومن (Elisabeth Noelle-Neumann)(5).
– الدراسة الثانية أعدها هواري حمزة بعنوان “مواقع التواصل الاجتماعي وإشكالية الفضاء العمومي”. وتكمن أهمية هذه الدراسة في أنها حاولت تحليل إن كانت الشبكات الاجتماعية تسهم في إعادة بعث الفضاء العام المؤثر إيجابًا في الحياة السياسية وفي الشؤون العامة بالصيغة التي تحدث عنها يورغن هابرماس. وخلصت الدراسة التي ركزت على تحليل استخدامات فيسبوك في الجزائر إلى أن هذه المنصة الرقمية لم ترق في الجزائر إلى المساهمة في بعث فضاء عام بنَّاء يسمح لها بالتأثير على آليات اتخاذ القرار في البلاد، وذلك لأنها باتت فضاء للتقسيم وليس أداة للتلاقي بسبب الاستخدامات السيئة لتلك المنصة، خاصة ما يتعلق منها بالتضليل عبر اختلاق الأكاذيب والترويج للإشاعات، ثم السخرية من الآخر، وهي كلها عوامل منعت من بروز النقاش العقلاني، الذي يُعَدُّ أحد الشروط الأساسية لظهور فضاء عام حقيقي(6).
أما خارج الدراستين سالفتي الذكر، فلا نجد غير دراسات ذات صلة بموضوع بحثنا دون أن يكون مجتمع البحث المدروس هو المجتمع الجزائري حصريًّا. ويمكننا هنا أن نذكر دراسة كمال حميدو بعنوان “الإعلام الاجتماعي وتحولات البيئة الاتصالية العربية الجديدة” التي تناولت خصوصيات البيئة الاتصالية الجديدة في العالم العربي، ثم السياقات الخاصة المفسرة لتحولات المنظومة الاتصالية إلى صيغتها الجديدة في البلدان العربية، ثم معاني وحيثيات تحول السلوك الاتصالي عند المستخدم العربي. كما عملت الدراسة على تفسير دلالات تباين الاستخدامات ومركب التفضيلات عند المستخدمين، وانعكاسات التحولات في الممارسات الاتصالية على تشكل وعمل الفضاء العام في العالم العربي. وخلصت الدراسة إلى أنه على الرغم من أن الشبكات الاجتماعية الافتراضية ما زالت تحتفظ لنفسها بقوة لا يستهان بها على التعبئة والمناوئة من خلال ما تتيحه للفاعلين الجدد من قدرة على تحريك الجماهير، فإن تأثيرها ليس سابقًا في العالم الافتراضي للحراك الذي ينشأ في العالم الحقيقي، بل يكون لاحقًا له. كما أنه يستمد أهميته فقط من تدخله كعامل مُسَرِّع لحراك يكون العالم الحقيقي هو منشأه الفعلي وليس الفضاء الافتراضي(7). كما خلص الباحث إلى أن “التأثير السياسي للفضاء العام الافتراضي في الفضاء العام الحقيقي لا يكون ذا مغزى سوى في حالة الغليان السياسي الذي يرتبط بزخم الاستحقاقات الانتخابية في الدول التي تعرف بين الفينة والأخرى حملات انتخابية رئاسية أو برلمانية أو محلية. كما يتزايد مقدار ذلك التأثير خلال الأزمات الكبرى، خارجية كانت أم داخلية، حين يحدث استقطاب إعلامي تُنْشِئُه وسائل الإعلام التقليدية وتغذِّيه الشبكات الاجتماعية”.
ومن الدراسات ذات الصلة بموضوع الشبكات الاجتماعية والحراك السياسي الجديرة بالذكر أيضًا، نورد دراسة حديثة أعدتها عبير أبو دية ومراد كامل، والتي نُشرت بعنوان “الوظيفة السياسية لمنصات شبكات التواصل الاجتماعي: الحراك السياسي العربي أنموذجًا”. وأجريت هذه الدراسة على عينة تتكوَّن من 217 فردًا من طلبة كلية الإعلام في جامعة الشرق الأوسط بالأردن، خلص الباحثان فيها إلى أن الشبكات الاجتماعية أسهمت بشكل كبير في عملية التواصل التنظيمي بين المحتجين، كما أنها أسهمت في التهيئة والتحريض على المشاركة في المسيرات والاعتصامات كشكل من أشكال التعبير السياسي. كما توصلت الدراسة أيضًا إلى أن تلك الشبكات أسهمت في مقاومة الرقابة والحجب والدعاية الرسمية للحكومات عبر وسائل إعلامها التقليدية(8).
هناك أيضًا دراسة وردة بن عمر بعنوان “تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الحراك السياسي في الدول العربية: مصر أنموذجًا”، وقد حاولت التعرف على الدور السياسي لشبكات التواصل الاجتماعي في مصر، وتوصلت إلى أن تلك الشبكات أسهمت في كسر حاجز الخوف من التعبير السياسي الحر بين أفراد المجتمع المصري، وأسهمت في إنجاح الثورة عبر ما أتاحته مختلف تلك الوسائط من حشد وتعبئة للجماهير، ثم من خلال تمكينهم من تنظيم أنفسهم والتنسيق فيما بينهم، عبر نشر طروحات الثورات والترويج لها. كما أن خصائصها التي تسمح بالتشبيك الواسع سمحت لها أيضًا بربط مختلف فئات الشباب المُؤَطِّرِين للحراك بعضهم ببعض ما سهَّل عليهم تنسيق جهودهم في ما بينهم(9).
كما حصرنا مساهمة نظرية جديرة بالذكر ضمن الدراسات السابقة، قدَّمها معتصم بابكر في كتابه “أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام”، وتُعَدُّ هذه الدراسة مهمة نظرًا لما حاولت أن تصوغه من مفاهيم جديدة تفسر هيمنة الشبكات الاجتماعية وآليات تأثيرها على المجتمعات المعاصرة. وذهب المؤلف في كتابه إلى أن الثورة الاتصالية الكبرى والتكنولوجيات الجديدة لوسائل الإعلام الإلكترونية باتت مُؤَدْلَجَة في كينونتها وليس فقط في محتوياتها. وحدد بابكر خمسة أنواع من الأيديولوجيات المرتبطة بجوهر الشبكات الاجتماعية، وهي: الأيديولوجيا التقنية المرتبطة بالوسيلة نفسها، وأيديولوجيا اللغة، وأيديولوجيا النص، وأيديولوجيا الصورة، وأيديولوجيا الإعلان المعتَمَدة في الترويج للرسائل نفسها(10).
ويذهب بابكر في تحليله إلى أن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي في الرأي العام يتم عبر ثلاث مستويات مترابطة، أولًا: المستوى العاطفي الذي ينتج عن تفاعل المجموعات فيما بينها عبر الشبكات بشكل يؤدي إلى إعادة بناء العواطف وإعادة تحديد الأولويات المرتبطة بالأذواق والاختيارات بناء على ما تفرضه تلك المجموعات من نماذج مهيمنة. ثانيًا: المستوى المعرفي الذي باتت المجموعات المُشَكَّلَة مصدرًا جديدًا من مصادر إنتاجه مع ما يرافقه من تحديد جديد للقيم وتلقين مختلف لمعارف باتت تسهم في تشكيل الوعي بالقضايا العامة التي يتم تداولها في الفضاء العام الافتراضي. ثالثًا: البُعد السلوكي المرتبط بأفعال الناس، وهو بعد يُعَدُّ لاحقًا للمستويين الأولين غير أنه أعمقها من منظور المُؤَلِّف. وقد خلص إلى أن الشبكات الاجتماعية باتت تسهم كثيرًا في تشكيل فضاء عام اجتماعي جديد، يقترب من الصيغة المثالية التي تحدث عنها الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس، باعتبار أن فضاء الويب الثاني يتيح تشكل رأي عام حر عبر جدلية الصراع بين المعلومات والأفكار التي يتبادلها الفاعلون الاجتماعيون فيما بينهم، وهو ما يمنح القدرة على التأثير في القضايا العامة والضغط على الجهات الحاكمة.
أما فيما يخص الدراسات الغربية التي اهتمت بموضوع الشبكات الاجتماعية والحراك السياسي في العالم العربي، فيمكننا أن نذكر دراستين مهمتين: الأولى لتوفكسي زينب (Tufekci Zeinep) وويلسون كريستوفر (Wilson Christopher) بعنوان “الإعلام الاجتماعي وقرار المشاركة في الاحتجاج السياسي: ملاحظات من ميدان التحرير”. واهتمت هذه الدراسة بمعرفة المحفزات التي دفعت المتظاهرين المصريين للمشاركة في اعتصامات ميدان التحرير خلال الثورة الشعبية المصرية في سنة 2011. وتوصلت الدراسة إلى أن منصة فيسبوك بشكل خاص ومنصات الشبكات الاجتماعية بشكل عام لعبت دورًا كبيرًا في تزويد المُؤَطِّرِين للحراك بمعلومات سمحت لهم بتنظيم أنفسهم وتنظيم باقي المشاركين في المظاهرات والاعتصامات(11). أما الدراسة الثانية فأعدها كل من هوارد فيليب (Howard Philip) ومزمل حسين (Muzammil Hussein) بعنوان “الثورات في مصر وتونس: دور وسائل الإعلام الرقمية”، وخلصت إلى أن الشبكات الاجتماعية باتت الوسائل التي تسهل الحركات الاجتماعية. فالاحتجاجات الاجتماعية في العالم العربي، يقول الباحثان، توالت من بلد إلى آخر إلى حد كبير، لأن الوسائط الرقمية سمحت للمجتمعات بالتوحد حول المظالم المشتركة ورعت استراتيجيات قابلة للنقل للتعبئة ضد الديكتاتوريات.
كما أكدت الدراسة على أن استخدم الناس للوسائط الرقمية جاء لبناء استجابة سياسية لتجربة محلية من الحكم غير العادل. ويدفع الباحثان بأن تلك الاحتجاجات لم تكن مستوحاة من فيسبوك، بل من المآسي الحقيقية التي كانت تُوَثَّق في فيسبوك، وبذلك أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تمثِّل الدعامات التي يمكن أن يُبْنَى عليها المجتمع المدني. كما يدفع الباحثان بأن تقنيات المعلومات الجديدة باتت تمنح الناشطين أشياء لم تكن لديهم من قبل، ألا وهي شبكات المعلومات التي لا تسيطر عليها الدولة بسهولة، وأدوات التنسيق المدمجة بالفعل في شبكات موثوق بها من العائلة والأصدقاء. وخلصت الدراسة إلى أن الوسائط الرقمية غيَّرت أساليب الحركات الديمقراطية بتسهيلها إشعال احتجاجات من دون أن يكون لها قادة معروفون، أو مُؤَطِّرُون أيديولوجيون من ذوي الشخصية الكاريزمية، أو زعماء من النقابات العمالية، أو المتحدثون باسم الدين، والذين كان حضورهم غائبًا خلال الحراك العربي، وبشكل ملحوظ(12).
إن معظم الدراسات السابقة التي أوردناها أعلاه باستثناء دراسة حميدو ودراسة لوصيف، طغت عليها المقاربة الوصفية التي ركزت على تحليل الدور الذي لعبته الوسائط الإلكترونية في بعده الإجرائي، مركِّزة على الإجابة عن السؤال: (كيف) حصل التأثير؟ وبأي قوة؟ دون الخوض فيما هو أبعد من ذلك. وقد انقسمت تلك الدراسات بين ما خلصت إلى أن الشبكات الاجتماعية ومنصاتها باتت قوة حقيقية للتأثير وخلق الثورات، وتلك التي نَظَرَت لدور تلك المنصات والشبكات بشيء من النسبية. إن الإضافة التي ستقدمها دراستنا هو أنها تتعاطى مع موضوع تشكيل الرأي العام الافتراضي من منظور أوسع يرتبط بفهم آليات حدوث التأثير ودوافعه عبر الإجابة عن السؤالين: كيف؟ وبأي تأثير؟ لكن مع توسيع دائرة الاهتمام للإجابة عن السؤالين: متى؟ ولماذا؟ في بعديهما المرتبط بالسياق الزمني الذي يدفع المواطن إلى اتخاذ القرار بأن يصبح ناشطًا عند مرحلة من المراحل دون سواها. كما يكمن الجديد الذي ستقدمه هذه الدراسة في تقديم نموذج نظري يشرح آلية تشكل الرأي العام في الفضاء العام الافتراضي عبر شرح ميكانيزمات التعبئة اعتمادًا على تفسير جديد يدور حول مفهوم “دوامة التعبير” التي باتت واحدة من خصائص الفضاء السايبراني في نظرنا، خاصة في أوقات الاضطرابات السياسية المفصلية داخل المجتمعات. وينبني هذا الطرح على مقاربة مختلفة عن دوامة الصمت في كونها تنتفي معها بعض من الفرضيات الخمسة التي بَنَتْ عليها إليزابيث نيومن نظريتها، خاصة الفرضية الأولى المتعلقة بالتهديد بالعزلة (Threat of isolation)، والفرضية الثانية المتعلقة بالخوف من العزلة (Fear of isolation).
كما تَنْبَنِي فرضية هذه الدراسة أيضًا على فكرة نقيضة لما توصلت إليه مؤخرًا بعض الدراسات التي أجريت في المجتماعات الغربية، على غرار الدراسة التي أجراها الفريق المكوَّن من الباحثة من كايت هامبتن (KeithHampton)، ولي ريني (Lee Rainie)، ويكسو لو (Weixu Lu)، وإنيونغ شين (Inyoung Shin) وكريستن بورسل (Christen Purcell) من مركز بيو للأبحاث(13)، والتي خلصت إلى أن دوامة الصمت موجودة أيضًا في الفضاء الافتراضي. فقد جمع الباحثون من السياق الأميركي مؤشرات تُثْبِت أن الأفراد لا يرغبون في التعبير عن آراء قد تتعارض مع أفكار جماعاتهم حول المسائل الخلافية. لكن نرى أن نتائج تلك الدراسة التي قد تنطبق أكثر على بيئة المجتمع الأميركي إزاء القضايا الخلافية العادية في المجتمعات المُتَشَبِّعة بالديمقراطية، قد لا تنطبق على مجتمعات العالم العربي المُتَعَطِّشَة للتعبير، خاصة في حالات الاضطرابات الاجتماعية الكبرى الناتجة عن فساد النظم السياسية. ويعود انتفاء عامل الخوف من الجزاء الاجتماعي في العالم العربي لخاصية التعبير باستخدام الهويات المستعارة، وإمكانية التخفي التي باتت تتيحها الشبكات الاجتماعية للأشخاص الذين ينشطون على تلك الشبكات؛ ما يجعل المرء في منأى عن التخوف من ردات الفعل الانتقامية من المحيطين به.
- التواصل الاجتماعي والنشاط السياسي المواطِن في الحراك الجزائري
2.1. فيسبوك ويوتيوب على رأس الشبكات الاجتماعية المؤثرة في الحراك
باتت خدمات الهواتف المتحركة وخدمات الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياة الجزائريين في السنوات الأخيرة؛ إذ وبحسب الإحصائيات الرسمية التي تقدمها مواقع عالمية متخصصة في تتبع استخدامات شبكة الإنترنت، فإن العدد الإجمالي لمستخدمي الإنتنرت في الجزائر تجاوز 24 مليون مستخدم في 2019 من إجمالي عدد سكان قُدِّر بأزيد من 42 مليون نسمة(14). وقد بلغت نسبة الاشتراك في خدمة الهاتف المحمول في الجزائر 117% نظرًا لامتلاك الأفراد أكثر من شريحة هاتفية، بينما تنامت الزيادة السنوية لمستخدمي الإنترنت بنسبة 17% في الفترة ما بين 2018 و2019. وجاء معدل الزيادة السنوية للاشتراك في خدمة الهواتف المتحركة عند 4%، كما تنامى الدخول على الإنترنت باستخدام الهواتف المحمولة بنسبة 11%. وتُظْهِر لنا نفس الإحصائيات أن عدد مستخدمي الشبكات الاجتماعية في الجزائر بلغ 23 مليون جزائري، 21 مليون منهم يدخلون على تلك الشبكات باستخدام وسائط محمولة. وتُعَدُّ شبكة فيسبوك أكثر الشبكات استخدامًا في الجزائر؛ إذ بلغ عدد مستخدميها 22 مليون شخص في يناير/كانون الثاني 2019، بينما لم يتجاوز عدد المستخدمين مليونين وثمانمئة ألف في سنة 2012، أي أن العدد تضاعف بمقدار ثماني مرات تقريبًا في ظرف سبع سنوات(15).
وتبيَّن من خلال المقابلات التي أجراها الباحث مع أفراد عينة الدراسة أن أكثر الشبكات التي استخدمها هؤلاء للمشاركة في الحراك السياسي الشعبي منذ بدايته، في 22 فبراير/شباط 2019 إلى 30 أبريل/نيسان 2019، كانت على التوالي: فيسبوك بمتوسط 6.53 ساعات يوميًّا، يليه يوتيوب بمتوسط 5.37 ساعات يوميًّا، ثم تويتر بعيدًا في المرتبة الثالثة بمتوسط ساعة وثلاث وعشرين دقيقة يوميًّا، ثم إنستغرام بمتوسط ساعة وخمس دقائق يوميًّا، وواتساب بمتوسط نصف ساعة يوميًّا، ثم إيمو بمعدل 25 دقيقة يوميًّا، وفايبر بمتوسط 23 دقيقة يوميًّا، وبنترست بمعدل 21 دقيقة يوميًّا، وأخيرًا، ريديت بمتوسط 19 دقيقة يوميًّا. يتبيَّن إذن أن منصة فيسبوك كانت أكثر المنصات استخدامًا من طرف أفراد العينة المستجوبة خلال مشاركتهم في الحراك الشعبي للمطالبة برحيل حكم بوتفليقة وإدخال إصلاحات سياسية جوهرية في الجزائر.
شكل رقم (1) يبرز المنصات الأكثر استخدامًا للحراك بين أفراد العينة بالساعات يوميًّا من 22 إلى 30 أبريل/نيسان 2019
وقد فسَّر المستجوَبون تفضيل استخدام هذه الشبكة على تويتر بكونها “الأكثر شعبية في الجزائر” أولًا، ثم “بالنظر لما تتيحه من إمكانية للتعبير المستفيض، باسخدام النص والصورة”، على خلاف ما يتيحه تويتر بالنظر لمحدودية عدد الكلمات المتاحة أمام مستخدمي هذه المنصة. وقد أكد موقع ديجيتل(16) تفضيل الجزائريين استخدام فيسبوك على حساب تويتر خلافًا للكثير من الدول العربية؛ إذ أحصى هذا الموقع 22 مليون مشترك في الجزائر في شبكة فيسبوك، مقابل 482.000 مشترك فقط في شبكة تويتر.
أما بخصوص استخدام يوتيوب، فقد فسَّر أغلب أفراد العينة المدروسة تفضيل هذه المنصة “بحرصهم على متابعة سير الحراك بالصوت والصورة”، سواء “على المباشر أو عبر المحتويات التي تُرسَل بعد تسجيلها بدقائق”. وجاءت الأرقام السابقة التي قدَّمها الأفراد المستجوبون متوافقة نسبيًّا مع الإحصائيات التي نشرها موقع ستاتكاونتر (انظر الشكل أدناه رقم 2) حول الشبكات الاجتماعية الأكثر استخدامًا في الجزائر بين شهري مايو/أيار 2018 وأبريل/نيسان 2019؛ إذ نلاحظ أن هناك تقاربًا بين يوتيوب الذي انتقل إلى المرتبة الأولى خلال منتصف شهر مارس/آذار 2019 بـ48.86%، وفيسبوك الذي كان في المرتبة الأولى إلى غاية بداية الحراك، قبل أن يتقهقر إلى المرتبة الثانية شهرين بعد بداية الحراك بـ40.82%، يليه تويتر بـ5.36%، ثم بعض الشبكات هامشية التأثير كشبكة بنترست بـ4.18%، وريديت بـ0.31%، وأخيرًا إنستغرام بـ0.28%.
شكل رقم (2) يظهر الشبكات الاجتماعية الأكثر استخدامًا في الجزائر خلال شهر أبريل/نسان 2019 بحسب موقع ستاتكاونتر(17)
2.2. تصنيف الفاعلين والمواقع الأكثر دخولًا في الحراك
أظهرت ملاحظاتنا لاستخدامات شبكة فيسبوك في الجزائر خلال الفترة التي سبقت بداية الحراك بشهر تقريبًا، تحولًا جوهريًّا في طبيعة الاهتمامات المهيمنة في تلك الشبكة. فبعد أن كانت الاهتمامات الرياضية والفنية والاجتماعية هي المهيمنة حتى نهاية 2018، بدأ الحقل السياسي الداخلي يُقْحِم نفسه شيئًا فشيئًا في الفضاء الفيسبوكي، خاصة منذ أن بدأت ترتسم في الأفق مؤشرات ترسيم ترشح الرئيس المريض لعهدة خامسة، بعد أن قام بعض الأطراف بجس نبض الشارع عدة مرات ببالونات اختبار عبر تسريب بعض التصريحات لبعض المقربين من جماعة الرئيس يقرُّون فيها بحتمية العهدة الخامسة وتزكيتهم لها.
وقد سبق لحميدو كمال أن لمس في دراسة سابقة، توجه الشباب العربي -ومن ضمنهم الشباب الجزائري- نحو الاهتمام بالقضايا السياسية الدولية والإقليمية أكثر من اهتمامه بالقضايا السياسية الداخلية فيما يتم تداوله من محتويات على الشبكات الاجتماعية(18). ويأتي هذا كانعكاس لطبيعة البيئة السياسية التي تطبع أغلب الدول العربية، والتي تتسم بغياب دولة القانون، وغياب الثقافة الديمقراطية في التعامل مع الأفكار المخالفة للرأي المهيمن داخل المجتمعات العربية. هذا، بالإضافة إلى تداعيات العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر من 1991 حتى 2001، والتي رافقها الإعلان عن حالة الطوارئ في البلاد، وتجريم الفعل السياسي والإعلامي المتعلق بالأمن العام أو بشخص رئيس الدولة.
إذا ما تأملنا في طبيعة الفاعلين في الشبكات الاجتماعية الذين أسهموا في تحريك الشارع الجزائري خلال انتفاضة 2019، نجد أن هناك نوعين من الفاعلين، أحدهما كان له تأثير قيادي محركًا للرأي العام الافتراضي عبر توجيه الحراك وتأطيره وتنظيمه، وآخر كان له تأثير تابع مُتَمَثِّل في الذين كانوا يكتفون بالاطلاع على محتويات الشبكات الاجتماعية، لكن مع التعليق على تلك المحتويات بالتعبير عن مساندتهم للحراك، مع إعادة إرسال تلك المحتويات على شبكاتهم الخاصة. وقد أكدت المقابلات التي أجراها الباحث مع أفراد عينة الدراسة هذا الواقع؛ إذ توزعت دوافع المشاركة في الحراك عبر الواقع الافتراضي بين الأفراد المستجوبين بين فئة قليلة ممن كان يسعى لتأطير الحراك والتأثير على مجراه عبر كتابة نصوص تعبوية أو عبر إعداد بودكاستات من ميدان الحراك وبثها على الشبكات، ومن كان يكتفي بالسعي لتبرير مشروعيته عبر مساندته للمحتويات التي كانت تبث من خلال “الإعجاب” (اللايكات)، أو من خلال إعادة الإرسال، رغبة منهم في ضمان استمرارية الحراك حتى يحقق كامل أهدافه.
وأظهرت نتائج المقابلات التي أجراها الباحث مع أفراد عينة الدراسة أن أكثر المحتويات التي تم التعاطي معها على صفحات فيسبوك أو على يوتيوب، باعتبارهما المنصتين الأكثر استخدامًا في الحراك الجزائري، هي الصفحات التابعة لبعض قادة الرأي على غرار صفحة مغني الراب، لطفي دوبل كانون، وصفحة المعارض السياسي الجزائري، فضيل بومالة، وصفحة المعارِضة السياسية، أميرة بوراوي، وصفحة المعلق الرياضي، حفيظ الدراجي، أو بعض الصفحات الجماعية النابعة من مبادرات بعض الناشطين على غرار صفحة “1،2،3 تحيا الجزائر”، وصفحة “دي زد ويكيليكس”، وصفحة “ثورة الشباب الجزائري”، وصفحة “بجاية سيتي”، وصفحة “لا للعهدة الخامسة”، وصفحة “مليون ونصف مليون في الشارع، لنستخدم الرمزية”.
أما على يوتيوب، فقد انصبَّ اهتمام العينة المستجوبة على المحتويات التي كانت تبثها بعض الشخصيات الفاعلة على يوتيوب، على غرار أنس تينا، ودي زد جوكير، والعربي زيتوت، وأمير دي زد. وقد تميز الحراك الجزائري بتوظيف متميز لفيديو البودكاست كسلاح ذي حدين، أولًا: كسلاح إعلامي ينقل ما كان الإعلام الرسمي يتحاشاه بغرض التقليل من زخم الحراك. ثم كسلاح لحماية الفاعلين ضد أية اعتداءات أو استفزازات من طرف الجهات الأمنية أو أية جهات أخرى خلال المظاهرات. وهناك نوعان من فيديو البودكاست التي تم توظيفها في الحراك الجزائري، فثمة من جهة تلك الفيديوهات العفوية التي كانت تنقل المظاهرات من الشارع، أو تلك التي تتضمن بعض التعليقات الجدية أو الطريفة المرتبطة بالحراك. وهناك من جهة أخرى الفيديوهات شبه الاحترافية التي كانت تبثها بعض الشخصيات اليوتيوبية المؤثِّرة على غرار فيديوهات أنس تينا، ودي زد جوكير. وكان هذا الصنف الأخير يحظى بشعبية كبيرة بين أوساط الرأي العام الافتراضي حتى قبل بدء الحراك، على غرار فيديو أنس تينا المعنون بـ”راني زغفان”، أي: أنا غاضب، والذي تم بثه في 2018، أو فيديو دي زد جوكير الذي تم بثه في 2017 بعنوان “ما نسوطيش”، أي لن أقفز، وكلها فيديوهات كانت تنتقد الوضعين السياسي والاجتماعي اللذين آلت إليهما البلاد في ظل حكم بوتفليقة، وقد حققت ملايين المشاهدات في ساعات وجيزة فقط من تحميلها على يوتيوب أو فيسبوك.
2.3. خصائص الحراك الشعبي وردود الفعل الرسمية
على الرغم من أن الحراك الشعبي في الجزائر بدأ رسميًّا في الثاني من فبراير/شباط 2019، إلا أن إرهاصاته الأولى بدأت حين أطلقت بعض الدوائر السياسية والإعلامية في البلاد بالونات اختبار إعلامية، تجس نبض الشارع الجزائري حول مدى استعداده لتقبل عهدة خامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الرغم من الموانع الصحية التي تمنع هذا الأخير من القيام بمهامه على أكمل وجه. فقد سبق الإعلان الرسمي عن ترشح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة خامسة، والذي تجسَّد حين أودع ملفَّه في المجلس الدستوري بتاريخ 3 مارس/آذار 2019، فترة من الترقب دامت ثلاثة أشهر تقريبًا، عرفت البلاد خلالها زخمًا لا مثيل له من المحتويات الإعلامية الشبكية، والتسريبات والتسريبات المضادة، التي شكَّكت في نزاهة مسؤولين سياسيين أو عسكريين غير محسوبين على حاشية الرئيس، مقابل أخرى شكَّكت في قدرة الرئيس على قيادة البلاد، وكشفت بين الفينة والأخرى كيف أن قوى غير دستورية، مُمَثَّلَة في عائلة الرئيس وحاشيته المقربة، هي التي تتحكِّم بزمام القرار السياسي في الجزائر، بَانِيَةً نفوذها على شراء ذمم المسؤولين وإرهاب معارضيهم في الداخل، وكسب الدعم عبر تقديم الامتيازات الاقتصادية والتنازلات السياسية في الخارج.
غير أنه، وعلى الرغم من تلك الإرهاصات السابقة في الشبكات الاجتماعية، لم يكن أغلب المراقبين يراهنون على التجسيد الفعلي للحراك في الشوارع الجزائرية، بسبب قوانين منع التظاهر أولًا، ثم بسبب القبضة الأمنية الحديدية التي كانت أجهزة الدولة تضرب بها على كافة مناطق البلاد. إذن، يمكن القول: إن أهم خاصية تميز بها الحراك الجزائري هو طابعه المفاجئ وشبه التلقائي، بحكم أنه لا يُعْرَف له مُؤَطِّرون أيديولوجيون، ولا مُحَرِّكون واضحو التوجه والأهداف. يضاف إلى ما سبق خاصية أخرى ذات دلالة مهمة اقترنت بالحراك الجزائري على الشبكات الاجتماعية، تمثَّلت في محدودية حضور الجيش الإلكتروني الجزائري في المعركة الإلكترونية التي كانت رحاها تدور في الشبكات الاجتماعية. فالجزائر التي تُعَدُّ من أولى الدول التي بنت جيشًا إلكترونيًّا للدفاع عن توجهاتها ومواقفها في العالم الافتراضي، تملك جيشًا إلكترونيًّا قويًّا، تمرَّس على مختلف فنون التأثير على توجهات الشباب على الشبكات الاجتماعية. وقد كان لذلك الجيش حضور مميز في مختلف المعارك الإلكترونية التي شارك فيها، بدءًا من الدور الذي لعبه خلال الحرب الإعلامية التي أُقْحِمَت فيها الجزائر ضد الإعلام المصري خلال التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010، ثم خلال الربيع العربي حين أُطْلِقَت حملة استهدفت الرأي العام الجزائري لدفعه للخروج في ربيعه العربي بعد انطلاق الثورة الشعبية ضد نظام الحكم في ليبيا سنة 2011(19).
إن ردة الفعل الموزونة التي طبعت موقف الجيش الإلكتروني الجزائري من أحداث الحراك الجزائري لسنة 2019 تحتمل تفسيرين، فإما أن ذلك الموقف نابع من قناعات فردية لأفراد ذلك الجيش بأن نظام بوتفليقة كان فعلًا فاسدًا ولم يكن من السهل عليهم الدفاع عن نظام فاسد ضد قناعاتهم الشخصية، أو أن الجيش الإلكتروني التزم الصمت بأوامر فوقية في إطار صراع الأجنحة على السلطة بين التيارات المتصارعة عليها. أما الخاصية الثانية التي اقترنت بهذا الحراك فهي شموليته الديمغرافية والجغرافية؛ إذ إنه لم يستثن منطقة من مناطق البلاد، كما أنه لم يستثن شريحة من شرائح أفراد المجتمع من الإسهام فيه. الخاصية الثالثة التي تميز بها الحراك الجزائري هي طابعه السلمي والحضاري الذي أسهم كثيرًا في زيادة شعبيته وتقبله بين أفراد الشعب، وجنَّب سقوطه في فخ العنف والعنف المضاد الذي كان سيؤدي حتمًا لانحساره وتراجعه حتى قبل تحقيق أبسط أهدافه.
فمنذ الأيام الأولى للحراك، نشر الناشطون الجزائريون ما يمكن تسميته بميثاق المتظاهر الجزائري الذي تضمَّن ستة عشر بندًا، تم احترام أغلبها بحذافيرها، خاصة ما تعلق منها بتنظيف أماكن التظاهر بعد انتهاء التجمعات، وعدم رفع شعارات دينية، وعرقية أو جهوية، وعدم الاحتكاك برجال الأمن، ثم تأطير المظاهرات من طرف متطوعين وتسليم الدخلاء والمشبوهين إلى رجال الأمن (انظر النموذج التالي من بعض صفحات التوعية التي كان يتداولها المشاركون في الحراك على الشبكات الاجتماعية).
صورة رقم (1) تمثل نسخة من وثيقة المتظاهر المسؤول التي تداولها الناشطون الجزائريون على فيسبوك(20)
وقد ترافقت تلك الدعوات بدعوات أخرى لم تخلو من الربط بالبعد الحضاري الذي رافق بعض الفتوحات الإسلامية، نذكر منها ما نشره الناشط والصحفي الجزائري، لزهاري لبتر، الذي عمَّم على فيسبوك وبعض الشبكات الاجتماعية الأخرى صفحة أورد فيها عشر وصايا دعا الجزائريين للالتزام بها في سبيل ضمان نجاح الحراك واستمراريته جاء من ضمنها: “لا تقطعوا شجرًا، لا ترموا حجرًا، لا تكسروا زجاجًا، فكل شيء ملك للشعب، ابقوا سلميين ومتضامنين، لا تردوا على الاستفزازات …”.
2.4. دوافع التعبير في سياق الحراك السياسي في الجزائر
عن مبررات رفع التعبير السياسي في الفضاء العام الافتراضي هذه المرة دون سالف المرات، خاصة في المرة التي ترشح فيها الرئيس بوتفليقة بمعطيات صحية مقاربة، لعهدة رابعة في 2014، وفي سياق موجة احتجاجات ما سمي بالربيع العربي في 2011، أورد أفراد العينة المبحوثة ردودًا تتمحور حول فكرة أن “السياق السياسي الدولي الذي ارتبط بالربيع العربي في 2011” هو الذي دفعهم إلى التحفظ عن الاستجابة لدعوات التظاهر آنذاك، على الرغم من صدور الكثير من دعوات الحراك على الشبكات الاجتماعية. وقد أشار أفراد العينة إلى مبررات تخص تحديدًا “ما رافق ثورات الربيع العربي من تدخلات أجنبية”، لافتين الانتباه بشكل خاص إلى “تدخلات حلف الناتو” و”التدخل الفرنسي في ليبيا”، ثم “تبني عرَّابين أجانب مؤدلجين ضد الأمة العربية لإذكاء تلك الثورات” كموانع قوية دفعتهم لعدم “الانصياع” وراء تلك الدعوات “للثوران ضد النظام الشمولي الفاسد” الذي “سمح للرئيس بوتفليقة بالاستمرار في سدة الحكم لقرابة عشرين سنة.
يتجلى لنا إذن، أن الوعي السياسي المرتبط برفض الفوضى السياسية المخطط لها لتحقيق حسابات سياسية إقليمية أو دولية، ورفض التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للبلاد لزرع الفتنة وتقسيم البلاد، على غرار ما حصل في بعض بلدان الربيع العربي، كانت هي العوامل الأساسية التي حالت دون لجوء أفراد العينة للتعبير المعارض في الشبكات الاجتماعية وفي الشوارع في 2011 و2014. بل أكثر من ذلك، كانت تلك المخاطر دافعًا لهم للمساهمة في “مقاومة التعبئة الجماهيرية الافتراضية” على الشبكات الاجتماعية ضد نظام بوتفليقة آنذاك. في مقابل ذلك، عبَّر أفراد العينة المستجوبة عن “رغبة جامحة في نفوسهم”، هذه المرة، للتعبير عن نيتهم في “إزاحة نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة”، وهي الرغبة التي تولدت لديهم بحسب تعبيرهم أساسًا من إدراكهم “بالخطر المحدق بالبلاد” جرَّاء “التعديات الصارخة” التي لاحظوها في السنوات التي سبقت الحراك “على صلاحيات الرئيس الدستورية”، ثم “إدراكهم التام بعدم قدرة الرئيس على أداء مهامه الرئاسية على أكمل وجه”.
كما أورد الأفراد المستجوبون مبررات تتعلق بتفشي حالة من القلق الاجتماعي (Social unrest)، “والتي سادت بين أغلبية أفراد المجتمع الجزائري بسبب “الفساد العلني” الذي بات ينخر المجتمع الجزائري على كل المستويات”، والذي رافقته سياسات اقتصادية تقشفية “رحيمة بالميسورين وصارمة مع ذوي الدخل الضعيف والمتوسط”، ثم “ضيق الأفق الاجتماعي للكثير من الشباب” الذين “لم يعد في إمكانهم رسم مخططات طموحة لمستقبلهم ما عدا أحلام الهجرة”. كما أورد الأفراد المستجوبون مبررات أخرى تتعلق “بالاستفزازات السياسية والإعلامية” التي تعرضوا لها “كمواطنين من طرف بعض المسؤولين السياسيين دون أن يلقوا أي رادع لهم ولا أن يحاسبهم أحد”، ثم مبررات تتعلق “بمظاهر عبادة الشخصية المرتبطة بصورة الرئيس بوتفليقة”، والتي بدأ بعض المسؤولين السياسيين في إدخالها في الطقوس الإعلامية والسياسية بالبلاد. كما ذكر أفراد العينة مبررات تتعلق بالمساس “بصورة الجزائر وكرامتها على الصعيد الدولي نتيجة حكم البلاد من طرف شخص غير مؤهل صحيًّا لذلك”، وهي الصورة التي كرَّر الكثير من المستجوبين بأنها “اهتزت في السنوات الأخيرة” و”قلَّلت من وزن الجزائر على الساحة الدولية”، بسبب “غياب الرئيس عن المحافل الإقليمية والدولية”، وتمثيله في تلك المحافل من طرف شخصيات “غير ذات تأثير في العلاقات الدولية”، ما أزاح الجزائر من مكانة متقدمة بين الدول إلى مكانة “هامشية” بحسب تعبيرهم.
إذا ما حلَّلنا الحراك الشعبي الذي عرفته الجزائر، منذ الثاني والعشرين من فبراير/شباط 2019، بغرض فهم دوافع الحراك ضمن سياقه السياسي والتاريخي التراكمي على امتداد العشرية التي سبقت الحراك، لوجدنا أن هذا الأخير لم يكن وليد الصدفة بل جاء نتيجة لتراكمات عديدة من الأخطاء في الخيارات والسياسات المنتهجة، ترتب عنها ردَّات فعل متعددة الأشكال، خلقت التربة الخصبة التي ستهيئ الجزائريين للتقبُّل الجماعي لفكرة الثورة على الحاكم وعلى نظام حكمه. فمنذ وصول الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، إلى سدَّة الحكم في الجزائر سنة 1999، عمل هذا الأخير بأساليب منهجية على غلق المجال السياسي والإعلامي أمام مختلف أشكال التعبير المعارض لخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع الحفاظ على ديمقراطية تنفيس صورية، تسمح بالتعبير الشعبي المناهض للحاكم، ما دام ذلك التعبير لا يأخذ شكلًا منظمًا، يمكنه أن يصبح فاعلًا إلى درجة التأثير على موازين القوى في البلاد. فقد عرفت فترة حكم بوتفليقة نَسْفًا منهجيًّا للأحزاب السياسية المعارضة من الداخل، عبر خلق الانشقاقات والانقلابات بداخلها، ما كان يفضي إلى انقسامها وانحسار فاعليتها في الساحة السياسية الداخلية. كما لم يسمح باعتماد أحزاب جديدة ما عدا تلك التي كان يضمن ولاءها له، بل وعرفت فترة حكمه عودة وسائل الإعلام العمومية إلى ممارسات التمجيد لشخصه والتعبئة لمشاريعه ورؤيته، تمامًا كما كان يحدث لوسائل الإعلام خلال الحقبة السوفيتية.
بالإضافة لما سبق، عرفت الصحافة ووسائل الإعلام المستقلة في ظل حكم بوتفليقة، عودة لسياسة تكميم أفواه الصحفيين، عبر ممارسة شتى أنواع الضغوط القانونية والاقتصادية على وسائل الإعلام المستقلة وعلى مالكيها، بهدف إخضاعهم وإخضاع خطابها لما يرغب فيه الرئيس ومقربوه. أكثر من ذلك، لجأ الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لغلق المجال السياسي عبر تحويل الديمقراطية الجزائرية الفتية التي نشأت في 1990 نتيجة لانتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988، إلى ديمقراطية عقيمة، بعد أن أطلق سياسة التحالفات الحزبية الخادمة لرؤى الرئيس وسياساته، والتي حوَّلت الأحزاب السياسية الرئيسية في البلاد، عمليًّا، من أحزاب معارضة إلى أحزاب خاضعة. فباتت موالاة تلك الأحزاب تُشْتَرَى بنسب من المقاعد البرلمانية التي تُمْنَح لها، أو بعدد من الحقائب الوزارية التي تُسْنَد لها مقابل إبداء طقوس الطاعة والولاء لرئيس الجمهورية، ومقابل المدح والثناء على سياساته، أيًّا كانت عواقب تلك السياسات على اقتصاد البلاد، أو على تماسكه الاجتماعي، أو على استقراره السياسي. وفي ظل هذا الغلق السياسي المنهجي للحياة السياسية في البلاد، تطبَّعت تلك الحياة بالكثير من الرتابة والملل؛ إذ كانت نفس الوجوه تتعاقب على رئاسة الحكومات أو الوزارات المتعاقبة على امتداد عشرين سنة، والتي كانت في معظمها وجوهًا تجاوزت الستين والسبعين من العمر، رجعية في تفكيرها، تقوم بتدوير نفس السياسات الفاشلة، وتُسَوِّقُها للرأي العام على أنها الحلول المثلى، في ظل استبعاد تام للرؤى الجديدة التي تقترحها الفئات الشبابية، وفي ظل تجاهل تام لمطالبها، ولتطلعاتها.
2.5. الملاعب والشبكات الاجتماعية فضاء عام مستقل للتعبير والتعبئة في غياب قنوات التعبير الرسمية
أمام الغلق التام للحياة السياسة في البلاد، والذي سدَّ أدوات التعبير العمومية أمام الفئات الشبابية ذات الطموحات والتطلعات المختلفة عن جيل أربعينات القرن الماضي، بدأ ظهور التجليات الأولى من التعبير السياسي الشبابي الساخط في ملاعب كرة القدم أولًا، عبر تزايد استخدام الأغنية السياسية والاجتماعية لانتقاد الواقع المعيش(21). وقد أسهمت تلك الأغاني -التي اعتمدت كثيرًا على الرمزية في توصيل رسائلها- بشكل كبير في بناء العقل الاجتماعي الشبابي الذي سيسهم لاحقًا في بناء الوعي الاجتماعي الذي سهَّل بروز مجال عام في الفضاء الإلكتروني، وخلق النقاش والجدل العامين اللذين أَدَّيا لاحقًا إلى ظهور الحراك الشعبي في العالم الحقيقي وتأطيره تأطيرًا صحيحًا حتى يحافظ على سلميته وعلى أهدافه. وقد استفحلت ظاهرة استخدام الأغنية السياسية والاجتماعية في الجزائر مع بداية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، بعد أن أصبحت ملاعب كرة القدم فضاء لمختلف أدوات التعبير المعارض المنتقدة للأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في البلاد، وهو الدور الذي لم يقم به البرلمان بحكم هيمنة الأحزاب المتحالفة في الحكم عليه، ولا الأحزاب السياسية بحكم انخراط أهمها في السياسات التي كان يضعها الرئيس وطاقم حكومته بعد أن أصبحت جزءًا منها، ولا السلطة القضائية بحكم عدم استقلاليتها، ولا الإعلام بحكم إخضاعه للسلطات الأخرى بقوة القانون أو بسلاح موارد الإعلان.
وبذلك، باتت الأغاني والأهازيج السياسية والاجتماعية، وكذا اللافتات ذات الشعارات السياسية العملاقة “التيفوهات”، التي كانت تُرفع في الملاعب، متنفسًا مسكوتًا عنه، يُسْمَح عبره بالسخط على المسؤولين السياسيين، وعلى رجال الأمن، بل وحتى على الإرهابيين في بعض الحالات. واستخدم المشجعون الرياضيون تلك الأغاني واللافتات العملاقة لانتقاد سياسات قتل الأمل في نفوس الشباب، وكذا السياسات الاقتصادية والنقدية العقيمة، التي أدت إلى غلاء المعيشة وتفقير شرائح كبيرة من أفراد المجتمع، ودفعت بالكثير من الشباب الجزائري إلى اختزال أحلامهم في مجرد الحصول على فرصة لامتطاء قوارب الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، أملًا منهم في الحصول على حياة أكرم. كما استخدمت تلك الأغاني أيضًا، لانتقاد النخبة الحاكمة والفئات الثرية، التي لا تتوانى في إرسال أبنائها للسياحة أو للدراسة خارج البلاد، في وقت يعاني فيه الشباب الجزائري من الفئات الفقيرة والمتوسطة، من مختلف إجراءات التقشف التي تفرضها الحكومات المتعاقبة.
وغطَّت أغاني الملاعب انشغالات جمعت بين الأبعاد السياسية والاجتماعية، أبان فيها الشباب الجزائري عن وعي كبير بمختلف خبايا القضايا والفساد التي كانت وراءها النخبة الحاكمة في الجزائر. وليس صدفة أن أصبحت أنشودة أنصار الاتحاد الرياضي لمدينة الجزائر العاصمة “لا كاسا ديل موراديا”، ترنيمة الحراك في الجزائر منذ الثاني والعشرين من فبراير/شباط 2019. ويعني اسم الأنشودة حرفيًّا “دار المرادية”، نسبة إلى قصر المرادية الذي يحتضن رئاسة الجمهورية الجزائرية، وهو الاسم الذي يستحضر رمزياته ودلالاته من مسلسل تليفزيوني إسباني، يدور حول مجموعة من اللصوص المحترفين الذين كانوا ينشطون في قصر بابل. وتنتقد الأغنية العهد الرئاسية المتلاحقة للرئيس بوتفليقة وانعكاساتها السياسية والاجتماعية السلبية، كما تُبْرِز الدور التوعوي الذي تقوم به تلك الأغنيات بين الشباب من خلال الكلمات التالية: “ساعة الفجر وما جاني نوم” (حلَّ الفجر ولم يأتني النوم)، “راني نكونصومي غير بِالشّوِية” (أنا أتناول المخدرات قليلًا، قليلًا)، “شكون السبَّه؟ وشكون نلوم؟ ملِّينا المعيشة هديّا” (من السبب؟ ومن ألوم؟ سئمنا من هذه المعيشة)، “في اللّولا نقولوا جازت، حشاوهالنا بالعشرية” (في العهدة الأولى ومررناها لهم، استغفلونا بالعشرية السوداء)، “في الثانية لحكاية بانت” (في الثانية ظهرت الحقيقة)، “في الثالثة البلاد شيانت، بالمصالح الشخصية” (في الثالثة نحفت البلاد، بسبب المصالح الشخصيبة، أي النهب)، “في الرابعة البوبية ماتت، وما زالت القضية”، (في الرابعة ماتت الدمية أي ماتت البلاد، وبقيت القضية)، “والخامسة راهي تسويفي، بيناتهم راهي مبنية” (والخامسة في الطريق، فقد طبخت الأمور بينهم)، و”الباسي راهو أرشيفي، لافوا نتاع الحرية” (الماضي المؤرشف يشهد لنا، اختيارنا الدائم لطريق الحرية). “فيراجنا الهدرا بريفي، يعرفو كي يتقيّا” (في جناحنا في الملعب، الكلام ملكية خاصة لنا، هم يعلمون حين نتقيَّأ فيه ما بداخلنا)، “مدرسة لازم سي في، بيرو محو الأمية”، (هو مدرسة لا يدخله سوى من يملك سيرة ذاتية، هو مكتب لمحو الأمية، أي لنشر الوعي السياسي بين الشباب).
وهناك أغنية أخرى سبقت فترة الحراك بأشهر، وهي تلك التي أطلقها مشجعو فريق مولودية الجزائر تحت اسم “في سوق الليل”، والتي يقول فيها المشجعون: “قل لي علاش، نقولك شوف لتحتا، كاين لي فطر وما تعشَّاش” (اسألني: لماذا؟ أقول لك: انظر للأسفل، هناك من تغدَّى ولم يتعشَّ)، “قل لي كيفاش نقول لك جايّه هاكدا، اللِّي حاكمينها ما خلاَّوش”، (اسـألني: كيف؟ أقول لك: هكذا هي الأمور، حكام البلاد لم يتركوا شيئًا من النهب)، “قل لي وقتاش، نقول لك هذي مدّا، ليسونسيال أنا ما نشفاش” (قل لي: متى؟ أقول لك: إن هذا الشيء بدأ منذ مدة، حتى إنني لا أتذكَّر متى)، “قاع ما عشناش حلُّوا باب القنطة، مادام غلقوا باب التقلاش” (لم نعش حياتنا، أبدًا منذ أن فتحوا باب القنوط، وأغلقوا باب الرفاهية). “أوَّاه، أوَّاه، جامي ننسى الباسي، وعلينا كيفاش تبدَّل الحال” (لا، لا، أبدًا لن أنسى الماضي، وكيف تغيَّر الوضع علينا).
وفي أغنية أخرى بعنوان “المملكة 2018” (بمعنى الجزائر 2018) والتي استوحت شخصياتها من مسلسل كوميدي سياسي مشهور في الجزائر اسمه “عاشور العاشر”، والذي تحاكي شخصياته وأحداثه بشكل طريف بعض شخصيات وأحداث “جزائر بوتفليقة”، يقول المشجعون: “ياربِّ فرَّج علينا، والمملكة راهي في حالة (في حالة يرثى لها)، وحنا اللِّي صاري فينا، والشكوى للعالي مولانا”، “كي تشوف الأمير لقمان” (حين ترى الأمير لقمان، والمقصود به ابن الملك) “في موريتي راهو يتقلَّش” (في موريتي وهو يتمتع، وموريتي هي إقامة دولة في الجزائر خاصة بالوزراء والمسؤولين وأبنائهم)، “والزوالي مشتاق طعام” (الفقير مشتاق إلى الطعام). “في ضربة واحدة زدتو لكلشي” (فجأة رفعتم أسعار كل شيء)، “ويحيا فارس الجنرال، اللِّي عندو كامل الحقوق” (وَلْيحيا فارس الجنرال الذي لديه كامل الصلاحيات، وفارس في المسلسل هو شخصية عميلة للخارج كان يتحكم بأمن المملكة قبل تنحيته). كما استهدفت الأغنية حاشية الرئيس بالعبارات التالية: “وشحال يعجبني النوري” (شخصية في المسلسل تتودد دائمًا من السلطان وتتقرب منه بنقل الأخبار)، “يرفد الموطو ويديماري” (يأخذ دراجته النارية بسرعة، ليبلِّغ الأخبار إلى السلطان) “ويقول لـ”الشيتة” (ويقول لفرشاة تنظيم الملابس، تعبير جزائري للدلالة على التزلُّف للمسؤولين والتملُّق لهم)، ميو أموري (كلمة إيطالية تعني: أنت حبي). “ويحياو كامل الفقاقير، من لحدادة لحدادة” (أي يحيا عامة الشعب الفقير، من الحدود إلى الحدود)، وفي هذا التعبير تهكم صريح من رئيس الوزراء السابق، عبد الملك سلال، الذي اختلق جمعًا جديدًا لكلمة فقير حين استخدم في تصريح رسمي كلمة “فقاقير” للدلالة على جمع كلمة فقير، بدلًا من كلمة فقراء). كما لمَّحت الأغنية إلى زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الجزائر في 2017 وما رافقها من خنوع من طرف النخبة السياسية في البلاد للقوة الاستعمارية السابقة بقولهم: “كي جا عندنا دحمانوس، رفدوا لعلام ولبسوا الحايك، يا حيلة ما يديرهاش إبليس” (حين جاء عندنا دحمانوس، حملوا الأعلام الفرنسية، ولبسوا اللباس النسائي التقليدي الجزائري، يا لها من حيلة لا يستخدمها حتى إبليس) وهي دلالة على خنوع النخبة الحاكمة للخارج، ودحمانوس هو اسم ملك مملكة في الضفة الأخرى من البحر المتوسط ورد ذكره في مسلسل عاشور العاشر. “وعاشور منو خايف؟ يا عاشور حبينا نشوفوك وانت لي تحكم ماشي خوك، والمملكة راهي تسوفري” (وعاشور ممن يخاف؟ يا عاشور نريد أن نراك أنت من تحكم ليس أخلك، فالمملكة حقًّا تعاني). ويختم المشجعون أغنيتهم برسالة استغاثة تحمل في طياتها نبرة اعتذار موجهة إلى أمهاتهم لشعورهم بالذنب بعد وقوعهم في شَرَك المخدرات والهجرة غير الشرعية بقولهم: “راني مغبون يامَّا” (أنا في الغبن يا أمي)، “وخايف نباصي” (أخشى أن أقع في ورطة)، “ماكاش الحلول، وكيفاش نواسي” (لا حلول في الأفق، فماذا أفعل؟).
يمكننا أن نسرد أيضًا كلمات أغنية “قيلونا، قيلونا” (اتركونا وارحلوا، اتركونا وارحلوا)، التي أطلقها أنصار اتحاد العاصمة لانتقاد الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتردي، الذي نتج عنه الكثير من الأمراض الاجتماعية “كظاهرة الحرقة” (الهجرة غير الشرعية) واستهلاك المخدرات الثقيلة والخفيفة، ثم الوقوع في الأمراض الاجتماعية المختلفة كالفساد الأخلاقي، والجريمة والسرقة. وتقول جماهير اتحاد الجزائر في تلك الأغنية: “آه، آه، الليل طويل نخمم في غدوة يا درى إذا نقدر نعيش” (آه، آه الليل طويل، وأنا أفكر في الغد إن كان سيمكنني العيش)، “يا مِّي محتاج الدعاء، الله كبير وما تبكيش” (يا أمي أحتاج لدعائك، والله أكبر فلا تبكِ عليَّ)، “قيلونا من سياستكم يُنمار” (اتركونا وارحلوا، فقد ضقنا ذرعًا بسياستكم)، “قيلونا راهو رشَّاني التعمار” (اتركونا فقد أفسدني ملء رأسي بالمخدرات)، “العين حمرا وقاعد نخمَّمْ أين هو البترول والغاز؟” (العين احمرَّت بسبب المخدرات، وأنا أتساءل: أين تذهب عوائد البترول والغاز؟)، “في هاذ البلاد ما زال تتعلَّم كيفاش إيفيديوْ لاكيس” (في هذه البلاد ستتعلم كل يوم كيف يتفنَّنون في إفراغ الخزينة)، “الجيل لي شاف الدَّم، ما توكلولوش الحلوى” (الجيل الذي عاش سنوات العشرية الدموية لا يمكنكم استغفاله بالحلوى)، “قيلونا من سياستكم يُنمار” (اتركونا وارحلوا، فقد ضقنا ذرعًا بسياستكم).
وهناك الكثير من أغاني الملاعب السياسية المشابهة لما أورداناه سابقًا، والتي أسهمت كثيرًا في بناء الوعي الجماعي عند الشباب الجزائري في الملاعب الرياضية، قبل أن ينتقل ذلك الوعي للتشكل لاحقًا في الشبكات الاجتماعية الافتراضية، ويمكننا أن نذكر منها على سبيل المثال الأغنية التي أطلقها مشجِّعو نادي اتحاد الحراش بعنوان “شكون سبابنا؟” (من المسؤول عمَّا صرنا إليه؟)، أو أغنية “بابور اللُّوح” التي تعني “سفينة الخشب”، والتي أطلقها مشجِّعو فريق نادي اتحاد العاصمة. وأغنية أخرى لمشجِّعي فريق مولودية الجزائر بعنوان “عام سعيد”، والتي تنتقد عمل النظامين، السياسي والقضائي، في الجزائر، وتنتقد بشكل غير مباشر تدخل شقيق الرئيس، السعيد بوتفليقة، في التأثير على عمل النظامين المذكورين.
ما يلاحظ إذن، هو أنه وفي ظل غلق المجال السياسي أمام الأحزاب السياسية المعارضة، ثم أمام المجتمع المدني، وفي ظل التعدي على الإرادة العامة مرارًا وتكرارًا، خلال مختلف المحطات الانتخابية البرلمانية، أو الرئاسية، أو البلدية التي عرفتها البلاد خلال عشرين سنة الماضية، بسبب تزوير نتائج تلك الانتخابات وتعمُّد تحديد نسب الفائزين فيها مسبقًا، لجأ العقل الجمعي الجزائري إلى اختراع آليات جماعية بديلة للتعبير، لا يمكن أن تتيح للجهات الأمنية فرصة إسكاتها. وقد لاقت وسيلة التعبير تلك نجاحًا كبيرًا نظرًا لمساهمتها في خلق سلوك جماعي بالمعني السوسيولوجي للكلمة داخل جماعات أولية، توظف آليات شعورية وأخرى لا شعورية لتخلق الإحساس بـ”النحن”، ما يعزز الشعور بالانتماء لتلك الجماعة، ويسمح للفرد بالتلاحم مع أفراد آخرين لتكوين مركَّب جديد يختلف في خصائصه عن الخصائص الفردية لكل واحد منهم، ما يجعل الفرد يستجيب بطرق غير متوقعة للمؤثرات الجماعية حين يكون في تلك الجماعة الأولية.
2.6. آلية دوامة التعبير المُشَكِّلَة للرأي العام المهيمن في الفضاء العام الافتراضي
عند استفسار أفراد عينة الدراسة عن العامل الموضوعي المُفَجِّر للرغبة في التعبير لديهم والذي دفعهم لكسر حاجز الصمت في الشبكات الاجتماعية هذه المرة دون غيرها من المرات السابقة، تحدث المستجوبون عن “ارتسام رغبة جامحة لديهم للتعبير عن سخطهم” بمجرد مشاهدتهم “لما بثته وسائل الإعلام الرسمية وما تناقلته الشبكات الاجتماعية من صور تتعلق بإعلان حزب جبهة التحرير الوطني ترشح الرئيس بوتفليقة” لعهدة خامسة عبر “تزكية إطار صورته” التي كانت تُحْمَل في التجمعات الرسمية في ظل تعذر حضوره الجسدي في تلك التجمعات لأسباب صحية. وقد أجمع أفراد العينة على أن ذلك العامل الموضوعي ولَّد لديهم رغبة ذاتية لا إرادية قوية، للتعبير عن “امتعاضهم الشديد من تلك السلوكيات”، معتبرين إياها شيئًا مستفزًّا “لكرامتهم كجزائريين”، و”مخالفًا لقناعاتهم الدينية”، من منطلق أنهم نظروا لتلك السلوكيات وكأنها “شكل من أشكال الطقوس الوثنية الجديدة” التي يراد إدخالها على المجتمع الجزائري، أو كأنها “شكل جديد من أشكال عبادة الشخصية” التي “لا يمكن للعقلية الجزائرية تقبلها”. نلاحظ، إذن مع هذه الردود، أن وسائل الإعلام التقليدية أسهمت، وعلى خلاف ما ذهبت إليه نيومن في الفرضيات التي بَنَتْ عليها نظرية دوامة الصمت، في ظهور خطاب مقاوم لتشكيل رأي عام يذهب بالاتجاه الذي كانت تريده الجهات القائمة على المؤسسات الإعلامية العمومية، أو المؤسسات الإعلامية الخاصة التي كانت تساند مخططات السلطة.
وعند استطلاع رأي أفراد عينة الدراسة عن العوامل المشجعة على التعبير المعارض مع بداية الحراك وعن العوامل المثبِّطة له، ذكر الأشخاص المستجوبون عوامل فردية مشجعة مرتبطة “بشعور مفاجئ بالمسؤولية الذاتية على مصير البلاد”، تولَّدت لدى كل واحد منهم “بشكل فردي”، حين “عرفوا من بعض الشبكات الاجتماعية “فساد جل المسؤولين السياسيين”، وحين تيقَّنوا من “خيانة أولئك للأمانة” عندما قام بعض الفاعلين في الشبكات الاجتماعية “بكشف الولاءات الداخلية والخارجية لأهم المسؤولين السياسيين، والفاعلين الاقتصاديين، أو الإعلاميين بالبلاد”، وبيَّنت كيف أن “المصالح الشخصية لهؤلاء المسؤولين هي التي كانت توجه قراراتهم في أغلب الأحيان وليست المصلحة العليا للبلاد”. وقد أورد الأفراد المستجوبون أن ما تم كشفه من طرف الشبكات الاجتماعية ولَّد “هبَّة وطنية” عند كل واحد منهم، وأن “مجموع تلك الهبات الفردية” كانت وراء بروز “هبة جماعية” لإنقاذ الجزائر من المخاطر التي كانت “عصابة الحكم تقود البلاد نحوها”.
يتضح إذن أن محتويات الشبكات الاجتماعية لعبت دور المثير الاجتماعي الذي كان المنطلق لخلق قناعات شخصية ولَّدت بدورها وحدة شعور استثنائية، نشأت بين عموم المواطنين الجزائريين منذ أول يوم من الانتفاضة. وقد أورد الأشخاص المستجوبون في عينة الدراسة أن الرغبة الذاتية لديهم في التعبير عن امتعاضهم من نظام بوتفليقة، والرغبة في الخروج للشارع للمشاركة في المظاهرات، كانت في ديناميكة تصاعدية، وتتزايد مع الأيام بتزايد الإجماع الوطني على ضرورة إخراج الرئيس بوتفليقة من الحكم في الجزائر. ونقرأ من ردود الأشخاص المستجوبين أن هناك عاملين زاداهما التزامًا بالخروج للتظاهر في العالم الحقيقي بعد المساهمة في خلق ديناميكية الحراك في الشبكات الاجتماعية أو في تزكيتها: الأول: يتمثَّل في التحرك الإلكتروني الجماعي في الفضاء الافتراضي للمواطنين الجزائريين، ما أعطاهم انطباعًا بقوة المجموعة الوطنية المدافعة عن المصلحة العامة في مقابل مجموعة من المسؤولين الذين فقدوا الشعور بالمسؤولية التاريخية تجاه البلاد.
وقد ولَّد هذا العامل لديهم شعورًا بعدم المبالاة بمخاطر التعبير أيًّا كانت عواقبه، من منطلق أن القضية التي باتوا يناضلون من أجلها، هي قضية مشروعة ومصيرية لدولة وشعب بأكملهما. أما العامل الثاني فهو الإحساس الجماعي بالمسؤولية الوطنية، التي جعلت كل واحد منهم يلتمس اللحمة الوطنية بين أفراد المجتمع، خاصة بعد أن تيقَّن أفراد المجتمع من سلمية الحراك وحضاريته، وتأكدوا من الحرص الجماعي على الحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى مقدرات الجزائريين وأرواحهم. وتنحو هذه المؤشرات نحو تأكيد فرضية بحثنا الأولى والقائلة بوجود علاقة طردية بين نسبة التعبير لأفراد المجتمع المدني في الشبكات الاجتماعية ونسبة التعبئة العامة الحقيقية بين أفراد الشعب.
أما فيما يخص العوامل المثبطة للتعبير في الشبكات الاجتماعية أو في الفضاء العام الحقيقي، فقد تبيَّن عند محاورة أفراد عينة الدراسة لمعرفة الحدود التي يتوقف عند مداها الاستعداد للتعبير، عدم وجود قيود ذاتية مرتبطة بالخوف سوى عند أربعة أشخاص من الأفراد العشرين الذين تم استجوابهم. في حين اتضح انتفاء عامل الخوف كمبرر للسكوت عن نفس الوضع خلال الأعوام التي سبقت التجليات الأولى لحراك الثاني والعشرين من فبراير/شباط 2019، على الرغم من توفر نفس المعطيات المرتبطة بالحالة الصحية للرئيس بوتفليقة، ونفس المعطيات السياسية المرتبطة بطغيان نخبة سياسية غير نزيهة، وتفشي الفساد. ولم يرد الدفع بمبرر الخوف المرتبط بالجزاء الاجتماعي ولا الخوف من الملاحقات الأمنية عند أي من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم كدافع من دوافع التزام الصمت وعدم انتقاد نظام بوتفليقة في السنوات السابقة. كما نفى كل الأشخاص المستجوبين أن يكون لشعور الخوف دور فيما تبنوه من خيارات، وتوجهات، أو سلوكيات سابقة. وقد علَّلوا استحالة أن يكون الخوف من ردَّات فعل انتقامية من جهات أمنية، أو من مخاطر التعرض للعزل من طرف جماعات الانتماء أو من طرف الجماعات المرجعية الافتراضية على الإنترنت، هما العاملين اللذين منعاهم من التعبير في السابق، بإمكانية التعبير المخفي عن طريق استخدام الأسماء المستعارة، ثم بإمكانية استخدام الشبكات الشخصية الافتراضية (VPN)، التي تتيح إخفاء أرقام الأجهزة المشبوكة على الإنترنت عبر تحويلها إلى دول أجنبية، ما يصعب من عملية تتبع أصحابها.
وعند استفسار المبحوثين حول مبررات عدم التحرك خلال العهدتين الانتخابيتين الماضيتين، ذكروا متغيرًا آخر ذا أبعاد ذاتية عاطفية، دفعهم إلى الامتناع خلال السنوات الماضية عن التعبير عن معارضتهم لنظام الرئيس المعاد انتخابه، يتعلق الأمر بالرصيد الإيجابي الذي كان يحظى به عبد العزيز بوتفليقة في أعينهم في السنوات الماضية. وقد أشار الأشخاص المستجوبون تحديدًا إلى المواقف الإيجابية التي أسهمت في بناء الصورة الذهنية التي كانوا يحملونها عنه والمرتبطة “بتاريخه الثوري”، ثم “بالحنكة الدبلوماسية التي اتصف بها”، ثم بإسهامه في “إطفاء نار العشرية السوداء وتحقيق المصالحة الوطنية”، ثم في “غيرته على كرامة الجزائر” في بعض المواقف، والتي تجلت بحسبهم في “قرار تعبئة موارد الدولة لنقل المشجعين الجزائريين إلى أم درمان” في سياق الاعتداء على المنتخب الجزائري في القاهرة خلال تأهيليات كأس العالم 2010. غير أن الأشخاص المستجوبين أوردوا أن نشأة ذلك الرصيد الإيجابي لم يكن بتأثير من وسائل الإعلام التقليدية “سوى بنسبة هامشية”، ذلك أن تلك الصورة الذهنية بُنِيَت في معظمها عن “طريق التفاعل الاجتماعي المواجهي” مع باقي أفراد المجتمع.
وحول مدى ثبات العزيمة على التعبير في الفضاء الافتراضي أو في الفضاء العام الحقيقي، حين هدَّد بعض المسؤولين في الأجهزة الأمنية، وبعض الأجهزة الإعلامية باتخاذ خطوات قانونية قبل بداية الحراك، أبان أربعة أشخاص من أفراد عينة الدراسة العشرين أنهم شعروا بشيء من الخوف في فترات معينة، خاصة حين وصلتهم بشكل مباشر، “بعض رسائل التهديد” في وقت من الأوقات، أو “رسائل تخوين واتهام بالعمالة لجهات خارجية”، كان مصدرها من اعتبروهم “ذبابًا إلكترونيًّا يعملون لجهات تابعة للمسؤولين الفاسدين في الدولة”. غير أن ستة عشر شخصًا من أفراد عينة الدراسة صرحوا بأنهم لم يصلهم أي تهديد من أية جهة كانت، كما أنهم لم يلمسوا في الشبكات الاجتماعية مقاومة من جهات خفية، يمكن القول: إنها كانت ترمي بثقلها لكسر الإجماع الافتراضي على ضرورة إحداث التغيير. وهذا ما شجهم أكثر على التعبير، في الشبكات الاجتماعية أولًا، ثم على الخروج للمشاركة في المظاهرات، بشكل أقوى خاصة بعد أن اكتسب الحراك شعبية كبيرة بين أفراد المجتمع المدني. وبهذا تتأكد أيضًا فرضية العلاقة العكسية بين نسبة المقاومة التي يتلقاها التعبير في الفضاء الإلكتروني ومدى الجنوح نحو التعبير الافتراضي أولًا، ثم مدى الجنوح نحو التعبير الفعلي في الفضاء العام الحقيقي عبر المشاركة في التجمعات والمظاهرات؛ إذ تبين أنه في غياب مقاومة للخطاب المعارض للحراك في الشبكات الاجتماعية، زاد الجنوح نحو التعبير الافتراضي في الشبكات، ونحو المشاركة في الحراك عبر التظاهر في الشوارع.
- دور اليوفوريا الاجتماعية والحس التشاركي في اتساع نطاق دوامة التعبير
من منظور إليزابيث نويل نيومن، تبدأ دوامة الصمت عندما يخشى الناس من العزل أو من ردود فعل انتقامية بسبب رأي ما قد يُبدونه لا يتوافق مع الرأي الغالب، ثم تتصاعد الدوامة من ذلك بتغذيتها من ذلك الصمت(22). وتفترض نيومن أن الناس يملكون ما يمكن وصفه بقدرة فطرية أو حس شبه إحصائي لتحسس الرأي العام. لكن وبما أنهم لا يمكنهم جس نبض الملايين من الآراء لمعرفة الرأي الغالب في المجتمعات الجماهيرية، افترضت نيومن أنهم يعتمدون على وسائل الإعلام في مساعدتهم على القيام بتلك المهمة. وبذلك تؤثر وسائل الإعلام على ما يعتقده الفرد بأنه الرأي الغالب خلال لحظات حاسمة من تاريخ المجتمعات عن طريق ما ترسمه تلك الوسائل للناس من توجهات مجتمعية، أكان ما يعكسه ذلك التصوير واقعًا حقيقيًّا أم واقعًا مفبركًا. وبذلك، يمكن اعتبار مفهوم نظرية دوامة الصمت للرأي العام كما تصورته نيومن على أنه شكل أشكال الضبط الاجتماعي(23) عبر تفاعل ثلاثة عوامل فيما بينها، هي: العوامل الشخصية (النفسية والإدراكية)، والعوامل الجماعية (الاجتماعية)، ثم محتويات وسائل الإعلام إزاء القضايا التي تكون محلَّ جدل اجتماعي.
غير أنه وعلى خلاف طرح دوامة الصمت الذي اقترحته إليزابيث نويل نيومن في سبعينات القرن الماضي، جمعت دراستنا هذه مؤشرات نوعية تدل على أن الخوف من العزلة وردود الفعل الانتقامية في عصر الويب الثاني (2.0) ليس هما الدافعين الأساسيين اللذين يجعلان الأفراد يستسلمون لقوة التيار الإلكتروني الذي يهيمن ويوجه الرأي العام للفعل السياسي في مراحل الاضطرابات السياسية الجوهرية التي تعرفها المجتمعات في بعض مراحلها التاريخية المفصلية، بل نفترض أن النشوة الاجتماعية (Social Euphoria) التي تتولَّد بين أفراد المجتمع بفضل تزايد الحس التشاركي بالقيام بواجب جماعي للدفاع عن الصالح العام هي التي تكون المحرك الأساسي لإطلاق شرارة التعبير لتتَّسع هذه الأخيرة شيئًا فشيئًا إلى أن تصبح دوامة تلتهم في طريقها كل من كانت لديه قناعات دفينة في أعماقه بمشروعية الحركة الاجتماعية الإصلاحية المتولدة من تلك الديناميكية. (انظر الشكل التالي الذي شرح آلية عمل دوامة التعبير في زمن الرأي العام الافتراضي).
شكل رقم (3): نموذج يفسر آلية عمل دوامة التعبير بتأثير من الشبكات الاجتماعية في حالة الاضطرابات السياسية
وقد تأكدت محدودية دور وسائل الإعلام عند مناقشتنا أفراد عينة الدراسة عن طبيعة استهلاكهم لوسائل الإعلام التقليدية في الجزائر، وتبيَّن أن أحد عشر شخصًا فقط من أفراد العينة العشرين يخصصون ما معدله ساعتين يوميًّا لاستهلاك القنوات التليفزيونية، أما باقي المستجوبين فلا يخصصون سوى ما بين نصف ساعة وساعة يوميًّا. ثم إن نسبة 63% ممن يشاهدون البرامج التليفزيونية بمعدل ساعتين يوميًّا لا يتعاطون نهائيًّا في استهلاكهم ذاك مع مواقع تلك القنوات على الشبكات الاجتماعية، كما أنهم لا يتعاطون في استهلاكهم ذاك سوى مع البرامج الرياضية أو الترفيهية عند أغلبيتهم، وبنسبة كبيرة في قنوات ليست جزائرية، ما يعني انحسار التعرض للبرامج التي تسهم في تكوين الآراء والمواقف والاتجاهات من منظور ما تريده تلك الوسائل. وتبيَّن أيضًا من المقابلات مع أفراد العينة أن معدل ما يتم تخصيصه للبرامج الإخبارية والبرامج السياسية الوطنية يوميًّا لا يتجاوز نصف ساعة. أما من يخصصون معدل نصف ساعة إلى ساعة يوميًّا لمشاهدة التليفزيون فنجد أن 55% منهم يخصصون ذلك الوقت لمشاهدة برامج إخبارية أو وثائقية علمية، أغلبها في قنوات تليفزيونية غير جزائرية.
وعند مناقشة أفراد العينة عن مبررات الاهتمام الضعيف ببرامج القنوات الوطنية، خاصة ما يتعلق بالبرامج الإخبارية والسياسية، كانت معظم الإجابات تتمحور حول “رداءة البرامج المحلية المقدمة”، و”غياب البرامج الحوارية السياسية الجادة التي تحمل طرحًا مختلفًا”، ثم “روتينية النشرات الإخبارية ورتابتها”. أما فيما يخص استهلاك البرامج الإذاعية، فقد وجدنا أن 9 أشخاص فقط من أفراد العينة يخصصون ما معدله ساعة يوميًّا للاستماع للبرامج الإذاعية، لكن فقط داخل سياراتهم خلال تنقلاتهم اليومية المختلفة، دون استخدام مواقع تلك القنوات على الشبكات الاجتماعية، مع تخصيص ذلك الاستماع للمنوعات والبرامج الترفيهية أساسًا، ثم لنشرات الأخبار بشكل عرضي.
وعند مناقشة أفراد العينة عن مبررات هذا الاستهلاك، كمًّا ونوعًا، تمحورت جلُّ الردود حول “رداءة البرامج السياسية والإخبارية المقدمة عمومًا في القنوات الوطنية”، ثم طبيعة الاستهلاك “غير الاختياري للبرامج الإذاعية” بحكم أنه تفرضه عوامل مرتبطة “بتمضية الوقت” خلال التنقلات المختلفة اليومية، وهو السياق الذي يوجه بطبيعته نحو البرامج الخفيفة والمنوعات أكثر من البرامج الحوارية السياسية أو البرامج الإخبارية. أما فيما يخص مطالعة الجرائد، فقد تبين أن 13 شخصًا من أفراد العينة “يتفحصون” الجرائد بشكل شبه يومي، لكن مع أولوية للصفحات الرياضية عند سبعة أشخاص، ومع تجنب تام للمواضيع السياسية الداخلية عند 6 أشخاص من أفراد العينة. في مقابل ذلك، أورد سبعة أشخاص اهتمامًا ثانويًّا بالمواضيع السياسية المرتبطة بالشؤون الداخلية للبلاد. وعند مناقشة أفراد العينة عن مبررات هذا الاستهلاك تبيَّن أن معظم من يطالعون الجرائد لا يشترونها أصلًا، بل يتصفحونها إما إلكترونيًّا في مواقع تلك الجرائد على الإنترنت، أو يتصفحونها في البيت حيث يشتريها رب البيت عادة، أو في الشارع عن طريق استلاف النسخ الورقية من الأصدقاء، أو في مكان العمل وقاعات الانتظار المختلفة. وقد تبيَّن عند هذه الشريحة أن المواضيع السياسية الجادة لا يتم قراءتها سوى في بعض الجرائد التي تتميز بطرح مختلف عما تذهب إليه جل الجرائد الأخرى، بحكم خطها التحريري الذي يعطي هامشًا للنقد العلني أو المبطن.
حين استفسرنا أفراد عينة الدراسة عن الوسائط التي يفضلون التعاطي معها للحصول على المعلومات حول الحراك الشعبي ضد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لعهدة خامسة تحديدًا، لم تذكر وسائل الإعلام التقليدية سوى بشكل هامشي، مع تفضيل للقنوات التليفزيونية الخاصة، لكن فقط بعد تغيُّر موقفها من الحراك عقب استقالة بوتفليقة من منصبه. فقد طغى استخدام الهاتف المحمول عند كل أفراد العينة المستجوبة، مع غلبة لاستخدام الشبكات الاجتماعية للحصول على المعلومات، يليها المواقع الإخبارية الإلكترونية التابعة لجهات غير حكومية، ثم مواقع الوكالات والصحف الأجنبية. وعن مبرر تفضيلهم لوسائل الإعلام الجديدة أورد أفراد العينة المستجوبة أن وسائل الإعلام التقليدية، وخاصة الحكومية منها “كانت تُشعرهم بالإحباط” نظرًا لتغطيتها التي لم تكن تمتُّ للواقع بصلة. كما أورد الأشخاص المستجوبون أنهم كانوا “بحاجة للمحتويات التي تعززهم في خياراتهم وتزيد من وحدة الشعور الجماعي لديهم”، في ظل الديناميكية الجماعية الإيجابية التي خلقها الحراك “وليس تلك الوسائل التي تثبِّط مساعيهم”.
إذن، يبرز لنا من دراستنا النوعية انحسار دور وسائل الإعلام التقليدية -في السياق الجزائري المرتبط بالحراك السياسي ضد ترشح الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، لعهدة خامسة- إلى أدنى مستوياته، وبذلك ينتفي في حالتنا الافتراض الآخر الذي انْبَنَت عليه نظرية دوامة الصمت والمرتبط بدور وسائل الإعلام التقليدية -ذات الخط التحريري الموجه- في تشكيل الرأي العام كشكل من أشكال الضبط الاجتماعي العمودي من أعلى إلى أسفل. فنيومن تصف آلية تشكيل الرأي العام بأنها عملية ديناميكية، تجعل الصورة المقدمة عن الرأي العام من طرف وسائل الإعلام التقليدية في وقت من الأوقات هي الصورة المهيمنة، وذلك عندما يصبح الواقع المصور من طرف وسائل الاعلام الاتقليدية -واقعا راهنًا (Status quo)-، فيضطر من يعتقدون أنفسهم بأنهم صاروا أقلية لِكَتْم صوتهم، خاصة في الحالات الثلاث التالية: حين يكون الإعلام موجهًا لخدمة الرأي الذي يراد له أن يكون غالبًا، وحين يلقى من يصورون على أنهم أغلبية تشجيعًا للتعبير عن آرائهم، وحين يخلق سياقًا يجعل الناس لا يعبرون عما في فكرهم إلا إن توافق ذلك مع التوجه السائد. بينما اتضح من بحثنا هذا محدودية دور وسائل الإعلام التقليدية في تشكيل الرأي العام في الفضاء الافتراضي على الرغم من حضور تلك الوسائل على الشبكات الاجتماعية أيضًا، في مقابل تعاظم دور الشبكات الاجتماعية في بناء توجهات الرأي العام بشكل أفقي، مع غياب تام لخط تحريري مهمين على تلك المحتويات، يمكنه أن يوكل لتلك الشبكات شكلًا من أشكال الضبط الاجتماعي العمودي لتشكيل الاتجاهات.
خلاصة
جمعت هذه الدراسة مؤشرات نوعية مهمة ومتنوعة، تعطي أساسًا علميًّا نوعيًّا للفرضيتين اللتين دفعنا بهما، وهو أساس جدير بالتعمق فيه لاحقًا عبر دراسة كمِّية مُكَمِّلة، تتبنى مقاربة تقوم على قياس العلاقة بين المتغيرات باستخدام معامل الثبات. وقد بيَّنت تلك المؤشرات صحة الفرضيتين المرتبطين بالعوامل الموضوعية، سواء الأولى التي دفعت بوجود علاقة طردية بين نسبة التعبير عند الأفراد في الشبكات الاجتماعية ونسبة التعبئة العامة الحقيقية بين أفراد الشعب، أو الفرضية الثانية التي دفعت بوجود علاقة عكسية بين نسبة المقاومة التي يتلقاها التعبير في الفضاء الإلكتروني ومدى الجنوح نحو التعبير الافتراضي أولًا، ثم مدى الجنوح نحو الفعل السياسي الحقيقي عبر المشاركة في الحراك فعليًّا. غير أننا توصلنا في دراستنا هذه لوجود دور لعوامل مهمة أخرى مرتبطة بزيادة نسبة الوعي السياسي والشعور بالمسؤولية تجاه مصير البلد، وهي عوامل أسهمت كثيرًا بالدفع بالمواطن الجزائري إلى دوامة التعبير في الفضاء العام الإلكتروني، ثم المشاركة في الحراك بساحات المظاهرات في كل المدن الجزائرية.
وعلى الرغم من محدودية نطاق نتائج هذه الدراسة بحكم محدودية العينة المدروسة، ثم بحكم تعذُّر إجراء دراسة كمية على عينة مُمَثِّلَة لكل المجتمع الجزائري كان من شأنها أن تضفي على نتائجها الكيفية قابلية التعميم، إلا أننا توصلنا إلى حصر مؤشرات مهمة تسمح بفهم طبيعة وآلية التأثير السياسي المتعاظم الذي باتت وسائل الإعلام البديلة تحظى به في الحياة السياسية العامة بالجزائر في سياق الحراك السياسي الشعبي. فمن حيث القدرة على التأثير، دفعتنا المؤشرات المجمَّعة لأن نخلص إلى أن وسائل الإعلام المواطنة البديلة، باتت في زمن الويب الثاني تلعب دورًا فاعلًا كمثير اجتماعي يسهم بقوة في لحظة من لحظات تاريخ المجتمعات في خلق ما أسميناه “بالنشوة الجماعية” الناتجة عن الحراك الجماعي الساعي للدفاع عن الصالح العام، خاصة في مراحل عدم التكامل الاجتماعي (Social disintegreation)، أو في حالة التفكك الاجتماعي (Social disorganization) التي تنشأ في المجتمعات نتيجة لفقدان النخب الحاكمة للشرعية السياسية من جهة، ثم لانحسار الاتصال بين الحاكم والمحكوم، ولعدم أخذ الحاكم تطلعات الشعب السياسية في الحسبان، أو نتيجة لما أسماه هابرماس بالتواصل المشوَّه (Distorted communication).
أما فيما يخص آلية التأثير، فإن المؤشرات المذكورة توحي بأن الإعلام البديل بشبكاته الاجتماعية ومحتوياته الحرة غير الخاضعة للتأطير المؤسسي الضابط هو بصدد إعادة بعث الفضاء العام حين يُنشئ سياقًا سياسيًّا يُشعر الفرد بمسؤوليته التاريخية تجاه بلده، وسياقًا تكنولوجيًّا يتيح للفرد فرصة التعبير، ثم سياقًا فكريًّا يتيح للفاعلين في تلك الشبكات فرصة التعاطي العقلاني مع القضايا، ما يسمح بتجاوز عقبات التعبير الغوغائي المشوش في تلك الشبكات أو عقبات التشويش المؤسسي، كشرط من شروط حصول الإجماع. وبهذا، يقترب ذلك الفضاء العام المشكَّل من صيغته المثالية التي كان عليها في القرن الثامن عشر بحسب وصف يورغن هابرماس، قبل أن يبدأ ذلك الفضاء في التلاشي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أي بمعنى ذلك الميدان الذي يلتقي فيه الناس لمناقشة القضايا السياسية ولتبادل آرائهم حولها، بنيَّة التأثير على الحياة السياسية العامة وليس لمجرد النقد والتعبير. وتوحي نتائج الدراسة بأن هذا الفضاء العام الجديد بات يتداخل وبتوافقية أكبر مع مفهوم الرأي العام، ليس باعتباره المجموع الحسابي للآراء والتوجهات الفردية التي يتم تداولها في عالم الإنترنت، بل باعتباره ديناميكية جماعية جارفة باتت مُدخلاتها أفقية المسار، يتعاظم دورها خلال مراحل التفكك الاجتماعي أو عدم التكامل الاجتماعي، عبر خلق وحدة شعور بين أفراد المجتمع بضرورة السعي الجماعي لتحقيق التغيير المنشود، دفاعًا عما تعتقده الجماعة الوطنية بأنه الصالح العام.
من جهة أخرى، أظهرت الدراسة أن الشبكات الاجتماعية باتت تفرض نموذجًا (Paradigm) جديدًا لشرح آليات تأثير وسائل الإعلام في تكوين الرأي العام -خلال الظروف الاستثنائية- التي تعيشها المجتمعات في لحظة من تاريخها، حين يظهر فيها قلق اجتماعي كمعطى موضوعي، ينتج عن فساد النظام السياسي القائم، ووعي جمعي متنام بوجود ذلك الفساد السياسي، لتتغذى عليهما الشبكات الاجتماعية التي تضخِّم حالة القلق حتى تحولها إلى اضطراب اجتماعي. وقد أسمينا ذلك الباردايم الجديد بدوامة التعبير، نظرًا للديناميكية التعبيرية القوية التي أحلَّها الإعلام الجديد البديل محلَّ آلية دوامة الصمت بالصيغة التي بَنَتْها عليها إليزابيث نويل نيومن في سبعينات القرن الماضي، والتي شرحت خلالها كيف أن الخوف من الجزاء الجماعي بالعقاب أو بالعزلة يسهلان من مهمة وسائل الإعلام التقليدية، كأدوات ضبط اجتماعي في تشكيل الرأي العام عبر تعميم آراء معينة وتقزيم أخرى.
غير أن المؤشرات التي جمعناها من المقابلات النوعية توجه إلى أن الإعلام البديل والشبكات الاجتماعية يدفعان الفرد في سياق الاضطرابات الاجتماعية المرتبطة بالحراك السياسي نحو التعبير أكثر مما يدفعانه نحو الصمت، وبذلك ينتفي دور الخوف من العزل أو من الجزاء الاجتماعي -اللذين دفعت بهما نيومن- أصلًا كعامل من عوامل تكوين الرأي العام في الشبكات الاجتماعية، نتيجة للخصائص المرتبطة بإمكانية التعبير المتخفي أولًا، ثم بسبب السياق السياسي العام الذي يدفع الفرد للشعور بمسؤوليته “المواطنية” التي تجعله على استعداد لمواجهة مخاطر المحاسبة الأمنية أو السياسية، أو الاجتماعية، ما دام تعبيره يهدف للدفاع عن الصالح العام. كما لا تتأتى الرغبة في التعبير بحسب ردود أفراد عينة الدراسة من تماشي رأيهم مع توجه الرأي العام في الشبكات الاجتماعية -ما دام الخوف من ردود الفعل الانتقامية قد انتفى أصلًا-، بل من الديناميكية الجماعية الجارفة التي تنشأ من وحدة الشعور بالدفاع عن الصالح العام، كأسمى تجلٍّ من تجليات الفضاء العام، كما حدده يورغن هابرماس.
المراجع
(1) كمال حميدو، “الشبكات الاجتماعية على الإنترنت: نحو عالم مواز أم نحو ارتسام جديد لمفهوم التواصل؟”، المجلة التونسية لعلوم الاتصال، (تونس، العدد 63-64، يوليو/ تموز 2014- يونيو/حزيران 2015)، ص 192.
وكانت الدراسة التي تم تسليمها للنشر قبل أحداث الربيع العربي قد تنبأت بتحول الشبكات الاجتماعية لعامل تعبئة جماهيرية سياسية.
(2) Jürgen Habermas, The Structural Transformation of the Public Sphere: An Inquiry into a Category of Bourgeois Society, 5 ed. (Cambridge: The MIT Press, 1991), 74.
(3) Russell, K. Schutt, Investigating the Social World: The Process and Practice of Research, 7 ed. (SAGE Publications, 2012), 13.
(4) Elihu Katz, Jay G. Blumler & Michael Gurevitch, “Uses and Gratifications Research,” The Public Opinion Quarterly, 37(4): 514.
(5) سعيد لوصيف، نعيم بلعموري، “محددات التعبير العلني عن الرأي: محاولة لاختبار نظرية دوامة الصمت في السياق الجزائري”، مجلة بحوث العلاقات العامة الشرق الأوسط، (مصر، العدد 17، أكتوبر/تشرين الأول 2017)، ص29.
(6) هواري حمزة، “مواقع التواصل الاجتماعي وإشكالية الفضاء العمومي”، مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، (جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، العدد 20، سبتمبر/أيلول 2015)، ص 230.
(7) كمال حميدو، “الإعلام الاجتماعي وتحولات البيئة الاتصالية العربية الجديدة”، مركز الجزيرة للدراسات، 6 مارس/آذار 2018، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2019)، https://bit.ly/2IpL9x4.
(8) عبير مجلي أبو دية، كامل خورشيد مراد، “الوظيفة السياسية لمنصات شبكات التواصل الاجتماعي: الحراك السياسي العربي أنموذجًا”، مجلة الاتصال والتنمية، (الرابطة العربية لعلوم الاتصال، بيروت، العدد 19، يوليو/تموز 2017)، ص 76.
(9) وردة بن عمر، “تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على الحراك السياسي في الدول العربية: مصر أنموذجًا (رسالة ماجستير، جامعة الحاج لخضر، الجزائر، 2014)، ص 87.
(10) معتصم بابكر، أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام، ط 1 (الخرطوم، مركز التنوير، 2014)، ص 51-52.
(11) Zeynep Tufekci, Christopher Wilson, “Social Media and the Decision to Participate in Political Protest: Observations From Tahrir Square,” Journal of Communication, no. 62-2, (2012): 376.
(12) Muzammil Hussain, Philip Howard, “The Upheavals in Egypt and Tunisia: The Role of Digital Media,” Journal of Democracy, no. 22-3 (2011): 42.
(13) Keith Hampton, Lee Rainie, Weixu Lu, Maria Dwyer, Inyoung Shin & Kirsten Purcell, “Social media and ‘the ‘Spiral of Silence’,” Pew Research Center, August 26, 2014, accessed June 27, 2019. https://pewrsr.ch/2FQUKL1.
(14) “Digital 2019 Algeria,” fr.slideshare.net, January 2019, accessed April 19, 2019. https://bit.ly/2FOAkSU.
(15) Ibid.
(16) Ibid.
(17) “Social Media Stats Algeria,” June 2019, accessed June 19, 2019. https://bit.ly/2FTgC8i.
(18) حميدو، “الإعلام الاجتماعي وتحولات البيئة الاتصالية العربية الجديدة”، مرجع سابق، ص 16.
(19) “L’armée électronique, la nouvelle recrue du régime algérien,” operationleakspin.wordpress.com, Septembre 8, 2011, accessed May 12, 2019. https://bit.ly/2XQKjky.
(20) “Algérie: comment les réseaux sociaux favorisent le mouvement decontestation contre la candidature de Bouteflika,” francetvinfo.fr, Mars 2, 2019, accessed April 30, 2019. https://bit.ly/2FRYcVt.
(21) Mahfoud Amara, “Football Sub-Culture and Youth Politics in Algeria,” Journal of Mediteranean Politics, no. 12-1, (2017): 11.
(22) Elizabeth Noel Neumann, “The spiral of silence; a theory of public opinion,” Journal of Communication, no. 24-2, (1974): 47.
23– لوصيف، وبلعموري، “محددات التعبير العلني عن الرأي”، مرجع سابق، ص 29.