ملخص:
تهدف هذه الدراسة التي تُغطِّي 19 اجتماعًا سياسيًّا عربيًّا، إلى تسليط الضوء على الانعكاسات الحقوقية العميقة لاحتكار الموارد الاقتصادية في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويفحص البحث فرضية وجود علاقة إحصائية غير مباشرة بين وزن الموارد الطبيعية في الاقتصادات الوطنية والنزوع إلى اقتطاع الحياة وانتهاك حقوق الإنسان. وقد تمت مناقشة نتائج النموذج الإحصائي للدراسة باعتماد التأويل السيميولوجي لمحنة الجسد السياسية في العالم العربي.
كلمات مفتاحية: الموارد الطبيعية، الاستحواذ على الموارد، السلطة السيادية، الرعب السياسي، اقتطاع الحياة.
Abstract:
Covering 19 Arab political assemblies, this study aims to shed light on the deep human rights implications of monopolising economic resources in some countries in the Middle East and North Africa. The research examines the hypothesis of an indirect statistical relationship between the weight of natural resources in national economies and the inclination towards capital punishment and human rights transgressions. The results of the study were discussed through the psychological interpretation of the ordeal of the political body in the Arab World.
Keywords: Natural Resources, Resource Monopoly, Sovereignty, Political Terror, Capital Punishment.
“لا يسعني سوى أن آمل أن يكون قريبًا أَمَد المشنقة
وعمود التشهير ومنصة الإعدام والسوط والعجلة،
لتختفي إلى غير رجعة في ماضي سجلات التعذيب التي
تُعَدُّ علامات على بربرية العصور والمجتمعات، ودلائل
قطعية على ضعف تأثير العقل والدين في النفس البشرية”(1).
مقتطف من خطاب الدكتور بنجامين راش أمام جمعية
تعزيز البحوث السياسية في أميركا سنة 1787.
مقدمة
يُعبِّر الاقتباس أعلاه عن الروح التشاؤمية لأحد السياسيين الأميركيين بخصوص نزعة التعذيب المقاومة للتاريخانية في البلاطات الغربية على مشارف القرن الثامن عشر؛ غير أن الذكاء الثاقب للفلسفة الفرنسية في شخص ميشال فوكو (Michel Foucault) قد جعل من هذا الاقتباس الحافل بمشاعر العجز عن الفعل، شهادة حية على استنفاد التعذيب لممارساته المشهدية، بعد أن فَتَر بشكل ملحوظ ذلك الإغواء الذي ظل العقاب الاحتفالي يفعم به تجارب الوعي لدى الجماهير المستثارة(2). لقد شكَّل ذلك علامة على العبور الصعب من نسق عقابي مبني على الوظيفة التشريحية للجلاد، باعتباره جزار الجسد البشري الآثم، إلى عهد جنائي جديد تضطلع به الحراسة والمراقبة ويُؤَثِّثُه السجن والحجز. إنه انتقال غريب نحو الإخفاء البيروقراطي للعقوبة والكبت الإجرائي للشر الاجتماعي، بتعبير فوكو نفسه(3).
لقد ظل الجسد عبر التاريخ خارج اهتمامات القانون العام في علاقته المعرفية بطبيعة السلطة السياسية. وقد أسهمت قضية الكاتب الصحفي، جمال خاشقجي، الذي اغتيل داخل القنصلية السعودية بإسطنبول، في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، في تقويض المعرفة القانونية الشغوفة بفهم علاقات الحكم في العالم العربي من منظور ملفوظات المُشرِّع. لقد ظلت مخافر الشرطة وأقبية المخابرات في المنطقة العربية أو في غيرها، تشبه المجازر! مما يوحي بوجود مظاهر متشابهة و”وظائف تكفيرية” مشتركة بين المسلخ والقنصلية. أفلا يتعلق الأمر بنفس البنية السيميولوجية التي تحكم المصير الميتافزيقي لكبش الفداء، كما ورد في روائع روني جيرار (René Girard)؛ حيث يتم تطهير الذات الجماعية من الآثام الاجتماعية والسياسية، مع ما يقتضي ذلك من إسقاط تلك الشرور بشكل مريع على الضحية الحيوانية أو البشرية البريئة!(4). ليس هناك ما يدفع إلى الدهشة في جغرافيا سياسية ما زال بعض منها يتفنَّن في إخراج زواج غريب بين نظم القانون أو الشريعة من جهة، وحفلات التعذيب وطقوس التطهير السياسي من جهة أخرى.
إن ممارسات العقاب من طرف القائمين على الأمور هي ما يسمح بإدراج آليات الحكم في الاقتصاد السياسي للجسد، سواء تعلق الأمر بالإطباق عليه وخنق أنفاسه قبل تقطيعه إربًا أو بالعمل على إكثاره ورعايته وتحقيق حاجياته. ويمكن المجازفة بفرضية مفادها أن علاقات السلطة هي في الأصل علاقات جسدية تم تغليفها بحجاب قانوني سميك. ويعني ذلك أن الجسد، سواء بموجب القانون أو خارجه، يظل في العمق تلك المصفوفة القاعدية للهيمنة السياسية. فالممارسات الجنائية التي تُطبَّق عليه من أجل إقصائه أو تعديل أدائه الاجتماعي ليست سليلة النظريات القانونية الرهينة بتدخلات المُشرِّع في الحياة العامة أو الخاصة. على العكس تمامًا، تشكِّل تلك الممارسات، كنمط من أنماط السطوة على الجسد، فصلًا محوريًّا في الاجتماع السياسي.
فمن زاوية اللاهوت السياسي عند إرنست كانتوروفيتش (Ernst Kantorowicz)، يمكن التمييز بين نماذج من الجسد السياسي تتراوح بين الفيزيقا والميتافيزيقا، أي بين الوجود المادي والوجود المثالي(5). فالجسد الحي والمركزي في الدولة، والذي يستند فضلًا عن ذلك، إلى اعتبارات الميتافيزيقا السياسية، يشكِّل النظير الإيجابي، المنيع بالكامل والمُبَجَّل للغاية، للجسد العاري المدان، المُعَرَّض للتعذيب بدون عقدة ذنب سياسية. في هذه النقطة بالذات، تكمن أزمة فعالية القانون الجنائي أو الشرع الإسلامي في بعض النظم العربية ضد الجسد السياسي المنيع حيال إشهار “رداء روبسبيير” الملطخ بالدماء في وجه السلطات.
- الإطار المنهجي والنظري للدراسة
تُسائل الدراسة سياسة بعض الأنظمة العربية فيما يخص ممارسة الرعب السياسي ضد رعاياها، وتختبر مسافة ابتعادها الثقافي والتاريخي عن اللحظة التي وقف فيها حاكم البصرة، خالد بن عبد الله القسري، على منبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في يوم الأضحى. فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: “أيها الناس! انصرفوا إلى منازلكم وضحوا -بارك الله لكم في ضحاياكم-، فإني مضحٍّ اليوم بالجعد بن درهم”، ثم حمل “سيفه” وذبحه أمام المصلين وهم ينظرون!(6)
لا تحمل هذه القصة أية إساءة للرسالة السمحة التي أتى بها المصطفى الأمين، محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، ولكنها تعبِّر عن انحراف سياسي فج عن جوهر العقيدة الإسلامية في الاجتماع السياسي(7)، فضلًا عن كونها مَعْلَمَة زمنية عميقة تفيد في قياس مدى أَنْسَنَة السياسة في العالم العربي في زمن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فقد ارْتُكِبَت باسم الدين جرائم سياسية يندى لها الجبين. والملاحظ أن التاريخ المعاصر للدول العربية لا ينفلت من متلازمة التنكيل بالمعارضين، خاصة في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسعودية ومصر، إضافة إلى دول أخرى بالطبع. غير أنه يتوجب التنبيه إلى أن ظاهرة التعذيب السياسي ليست موقوفة على الجغرافيا السياسية التي تمتد من المحيط إلى الخليج(8)، كما سيتبيَّن ذلك لاحقًا من متن المعطيات التي يعتمدها البحث.
تهدف هذه الدراسة إلى بحث العوامل البنيوية التي تدفع القائمين على الأمور إلى النزوع نحو معاقبة المعارضين والتنكيل بهم خارج ما يقتضيه القانون. ويشمل هذا النزوع إلى الرعب السياسي على وجه التحديد، الاختطاف والاعتقال التعسفي إضافة إلى ممارسة أشكال مختلفة من التعذيب في الأقبية السرية ومخافر الشرطة والسجون قصد انتزاع الاعترافات، كما تضم القائمة أيضًا الاغتيال السياسي كأحد أهم أشكال الرعب وحشية وقتامة.
ينطلق البحث من فرضية تفيد وجود علاقات ارتباط دالَّة من الناحية الإحصائية بين نمط الاقتصاد السياسي المبني على احتكار الريع من طرف الحاكمين وطبيعة نظام الحكم من جهة، وبين الممارسة المنهجية للرعب السياسي من جهة أخرى. للتحقق من هذه الفرضية، اعتمد الباحث على قاعدة للبيانات تم العمل على تحليلها ودراسة العلاقات بين المتغيرات قيد الدراسة. وسوف يتم توضيح مصدر هذه البيانات وطبيعة المتغيرات التي تعبِّر عنها وذلك بعد سرد المرتكزات النظرية للدراسة.
وقد تم الاعتماد في دراسة العلاقة بين هذه المتغيرات على قاعدة البيانات التي يوفرها لفائدة الباحثين في مختلف أنحاء العالم، جين توريل(Jean Teorell) وزملاؤه في جامعة غوتنبرغ. وقام الباحث بتحليل تلك المعطيات باستعمال برنامج الحزمة الإحصائية للعلوم الاجتماعية المعروف اختصارًا بـ”SPSS” (Statistical Package for the Social Sciences)، وكذا باعتماد برنامج “بروسيس” (PROCESS) الذي يسمح بتحليل المسار والتعرف على المتغيرات الوسيطية في النماذج الإحصائية. وقد شمل التحليل الإحصائي 159 دولة من بينها 19 دولة عربية. ويهم الأمر المغرب، والجزائر، وتونس، وموريتانيا، وليبيا، ومصر، والسودان، واليمن، والمملكة العربية السعودية، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، وعُمان، وقطر، والكويت، والبحرين، والإمارات، إضافة إلى الصومال.
1.1. الإنسان المستباح في الاقتصاد السياسي للقمع: معالم نظرية في السطوة على الجسد
تنهل الدراسة مقوماتها النظرية من بعض مباحث الفلسفة السياسية المعاصرة، خاصة أطروحة السلطة السيادية والحيوية عند ميشال فوكو ومفهوم الإنسان المستباح عند الفيلسوف الإيطالي المعاصر، جورجيو أغامبن (Giorgio Agamben). ويعتمد البحث أيضًا من زاوية علم السياسة على نظرية الداروينية الجديدة في السلطة والاقتصاد السياسي كما تبلورت عند عالم السياسة الفنلندي تاتو فانهانن (Tatu Vanhanen) ورائد المؤسساتية الجديدة دوغلاس نورث (North Douglass) وثلة من زملائه الباحثين. وقد استند الباحث كذلك على تصنيفات ترتيبية للأنظمة السياسية لعالمي السياسة، الأميركي رونالد إنغلهارت (Ronald F. Inglehart) والألماني كريستيان ويلزل (Christian Welzel). وسوف نتطرق لكل مقوم بتركيز شديد، مقتصرين على الأوجه التي تمس بشكل مباشر إشكالية الدراسة.
أ- تكنولوجيا السلطة والاقتطاع من الحياة
تشكِّل الحياة رهانًا مركزيًّا للسلطة السياسية ليس فقط من منظور الحفاظ عليها كقيمة إنسانية عليا، ولكن أيضًا من ناحية اقتطاعها وبث القمع في الجسد الحامل لها والقضاء عليه وفق ما يستوجبه استمرار السيادة السياسية. ويميز فوكو في هذا الشأن بين نمطين من تقنيات السلطة(9):
– السلطة السيادية: القائمة على مبدأ الحق في الإماتة أو الإبقاء على الحياة، حسب ما تقتضيه سلامة العاهل وديمومة سلطته وسلالته ودولته. ويشتغل هذا النوع من السلطة بمصفوفة من الأوامر والنواهي المقرونة بارتكاب العنف الجسدي ضد الانحراف عن القواعد الموضوعة(10). على منوال قاطع الطريق المتجول عند منصور أولسون (Mancur Olson)(11)، تقوم استمرارية هذا الصنو من السلطة على معادلة الاقتطاع: اقتطاع الثروات وحجز الممتلكات مع التنكيل بالجسد ووَسْمِه بسيمياء (علامة) الانحراف والخروج عن المألوف. فقد ظل جسد المذنب طيلة قرون طويلة بمثابة مرآة يعكس عليها الحاكم، عبر آلية التعذيب والنهش، سطوته وقوته.
ليس للحياة من قيمة حيوية سوى ما تعلق بمقدار مساهمتها في استمرار حياة العاهل من خلال إنتاج الخيرات القابلة للانتزاع أو التضحية بالذات لحماية جسده المنيع. يمكن إذن لهذه الحياة أن تخضع للاقتطاع أو تساق إلى الحرب دفاعًا عن الذات السياسية المتعالية.
– السلطة الحيوية: تُعبِّر عن تكنولوجيا جديدة للسلطة بدأت بوادرها في البزوغ مع نشأة الدولة الحديثة وحدوث تحوُّل جذري في المفهوم السياسي للسكان من مقوم قانوني للدولة إلى سند بيولوجي وديمغرافي(12). يقوم هذا النمط من السلطة على مبدأ الإحياء والحفاظ على الحياة حتى آخر رمق. وقد ارتبط هذا المبدأ بنشأة الاقتصاد الرأسمالي وما صاحبه من تحولات ثقافية وسياسية ونفسية. وتشتغل السلطة الحيوية على نَفَسَين: نَفَس انضباطي-رقابي يروم ترويض الجسد وضبط حركاته وتقنين زمنية اشتغاله وتعديل سلوكه من خلال المؤسسات الانضباطية، كالمدرسة والمستشفى والسجن وغيرها. ويهدف هذا الحشد من الآليات إلى توجيه طاقاته وإدماجها في الاقتصاد السياسي الجديد وما يتطلبه من سيرورات الإنتاج المختلفة عن منطق السلطة السيادية. ثم نَفَس بيوسياسي يقوم على إكثار الحياة والعناية بها من خلال السياسات الصحية والأسرية والجنسانية والجنائية. مع السلطة الحيوية كتقنية جديدة للسلطة، يحدث تحوُّل جذري في مفهوم الحياة التي تدخل عتبة الحياة السياسية من بابها الواسع. يقول ميشال فوكو بالحرف: “إن ما يمكن أن ندعوه بالحداثة البيولوجية لمجتمع ما إنما يتعين في اللحظة التي يدخل فيها النوع كرهان أساس في استراتيجياته الخاصة. لقد ظل الإنسان، لآلاف السنين، على ما كان عليه بالنسبة لأرسطو حيوانًا حيًّا، قادرًا بالإضافة إلى ذلك على وجود سياسي، أما الإنسان الحديث، فهو الحيوان الذي في سياسته توضع حياته ككائن حي موضع تساؤل”(13).
لا يعارض فيلسوف القانون العام، جورجيو أغامبن، ما توصل إليه ميشال فوكو بخصوص السلطة السيادية والحيوية، غير أنه يذهب بالبحث نحو البنى التشريعية والسياسية العميقة التي تجعل الحياة فضاء مستباحًا في منطق السلطة السيادية. استلزم منه هذا الأمر أن يشتغل كجنيالوجي مكابد لكي يوضح أن اصطلاح المقدس في التقاليد الإغريقية والرومانية واللاتينية كان يعني بالتحديد الإنسان الحرام أو المستباح؛ أي تلك النفس التي لا يجوز إدراجها بأي شكل من الأشكال في الطقس القرباني، ولكنها قابلة للإماتة دون أن تنتج عن ذلك أية مسؤولية جنائية(14).
يشير أغامبن إلى أن الفضاء السياسي للسلطة السيادية قد تشكَّل بناء على موقف مزدوج من جسد الإنسان المستباح الذي لا تصل روحه إلى محكمة الله بسبب عدم أهليته للتكريس الأضحوي، والذي بموجب مماته لا تنعقد محاكم الأرض لبحث على من تقع مسؤولية هلاكه(15). يعني ذلك أن الطابع المقدس للحق في الحياة الذي يحفل به القانون الدولي لحقوق الإنسان ضد سطوة السيادة، كان يفيد في الأصل قابلية الحياة العارية للاقتطاع. يقول أغامبن: “على القطبين المتطرفين للنظام القانوني، تُقدِّم سلطة السيادة والحياة المستباحة شكلين متماثلين ومترابطين في بنية واحدة: فالعاهل هو الكائن الذي في علاقته تغدو كل الذوات قابلة للاستباحة بشكل كامن؛ في حين أن الإنسان الحرام هو ذلك الشخص الذي يمكن للجميع أن يتصرف تجاهه بشكل سيادي”(16).
إن الجسد المستباح في فلسفة أغامبن هو بمنزلة التعهد الحي بالخضوع غير المشروط لسلطة القبض على الأرواح والتنكيل بالحياة إلى آخر ومضاتها. إن ذلك التعهد يشكِّل بدون مواربة، أساس الصياغة الأصلية لرابطة السيادة التي تجعل العاهل في فلسفة هوبز، حسب تأويل أغامبن، يبتلع المجتمع بأكمله(17).
ب- السلطة، والاقتصاد، والانتخاب في الاجتماع السياسي
من حق القارئ أن يعترض على جدوى الربط بين مفهوم الحياة المعرضة للاقتطاع كما نوقشت في الفلسفة السياسية عند فوكو وأغامبن من جهة، وبين الاقتصاد السياسي لسلطة السيادة عند دعاة الداروينية في الاجتماع السياسي من جهة أخرى. مما لا شك فيه أن الخيط الرفيع الذي يقود من الفلسفة إلى علم السياسة بروافده المتعددة، تتضح مساراته حين تُفْهَم استباحة الحياة كجزء ينتمي إلى متلازمة الاقتطاع التي تضرب الطوق أيضًا على الخيرات والموارد. وتحمل هذه المتلازمة العامة تحديدًا عاريًا للسياسة في مدار السلطة السيادية، كعلامة على حسم الصراع حول الموارد، تكون فيه حياة الأرواح معرضة للإزهاق؛ وهو ما يسمح فيما بعد بضبط الأشخاص وضمان خضوع أولئك الذين فضلوا الاستعباد والمذلة عوض وضع حياتهم رهانًا للتحدي من أجل الموت، حسب تصور هيغل(18)، ويجعل الاقتطاع، سواء تعلق بإيقاف تدفقات الحياة أو بالموارد، يندرج من الناحية الواقعية في الاقتصاد السياسي للسلطة السيادية.
وتتحدد السياسة في أطروحة تاتو فانهانن (Tatu Vanhanen) في الصراع بين المجموعات الاجتماعية حول الموارد النادرة التي تتأسس عليها السلطة(19). ويعتقد أن جميع أبناء البشر كيفما كانت ثقافتهم يشتركون في هذا النزوع الطبيعي إلى السيطرة على ما يضمن بقاءهم. وهو ما يجعل التطاحن بين المجموعات الاجتماعية أمرًا محتومًا، يصل بموجبه الأقوياء إلى مواقع السلطة بعد إقصاء منافسيهم، ويضطر الضعفاء إلى التكيف مع الوضع، مطوِّرين مع مرور الزمن مهارات تُمكِّنهم من العودة إلى حلبة التنافس متى كان ذلك في مقدورهم. ويشكِّل العنف واقتطاع الحياة في هذه المعادلة وسائل ناجعة ليس فقط من أجل فرض السطوة على الموارد، ولكن أيضًا من أجل انتزاع الخضوع واحترام قانون الهيمنة الجديد. وهو ما يعني أن مفهوم الانتخاب، كما صاغه داروين، يلعب أيضًا في مجال السياسة والاقتصاد أدوارًا لا يمكن إنكارها(20).
ويلاحظ فانهانن أن المجتمعات التي تشهد تمركز الموارد النادرة والنفيسة بيد أقليات بعينها، تحكمها مجموعات تحتكر السلطة وتتحكم في إنتاج القانون وصناعة المؤسسات التي تضمن الهيمنة وتحافظ على التقسيمات الموضوعية والرمزية السائدة. وكل تهديد لهذا الاقتصاد ولو بشكل ضمني أو ناعم، يقابله غيظ سياسي يفيض بتهديد مضاد بالتعذيب أو إنهاء الحياة. وهو عكس ما يجري في المجتمعات ذات الاقتصاد السياسي المفتوح على التنافس بين المجموعات المختلفة(21). ويقول فانهانن: “إن النقطة الأساسية في حجتي النظرية هي أن توزيع موارد السلطة يحدد إلى درجة كبيرة توزيع السلطة السياسية بين أفراد المجتمع، وأن التفسير التطوري للسياسة ينسجم مع ذلك. والواقع أن تحوُّل النظم السياسية من حكم الأقلية إلى حكم الأكثرية يرتبط بذات العلاقة بين الموارد والسلطة”(22).
وبالرغم من الأضرار المتبادلة للعنف الاجتماعي حول الموارد، يعتقد دوغلاس نورث (Douglass North) وزملاؤه بأن القدرة على ممارسته تُعَدُّ المحدد الرئيسي لتوزيع الامتيازات في أغلب المجتمعات(23)؛ حيث يغدو التحكُّم في السلطة السياسية بمنزلة الوسيلة الفضلى لاستدرار الريوع لفائدة عناصر الائتلاف الحاكم والدوائر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المرتبطة به. وتسعى النخب بشكل حثيث وبكل الوسائل إلى منع انبثاق تعبيرات سياسية منظمة تطالب الائتلاف الحاكم بحقها في الريوع، كما أنها تحارب كل من يشير بأصابع الاتهام إلى الأنشطة العامة المدرَّة للريوع كالاحتكارات والفساد، غير أنها تدرك أن تزايد المجموعات المناوئة القادرة على ممارسة العنف، يُنْذِر بخطر عدم استمرارها في السلطة عن طريق التهديد الفعلي لبنية الاقتصاد السياسي المفروض. لذلك، تميل نخب الائتلاف الحاكم إلى السماح للمعارضين الذين قويت شوكتهم بالاستفادة من بعض الأنشطة المولِّدة للريوع، وذلك من أجل تحفيزها على الإحجام عن الاستخدام الفعلي للعنف من أجل الموارد.
ويعني ذلك أن الريع الذي تم استدراره من خلال النهج الاستراتيجي للعنف قد أضحى قابلًا للاستعمال من أجل الحفاظ على مواقع السلطة ودعاماتها الاجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى، من أجل خفض العنف الفعلي عن طريق شراء ذمم المجموعات المناوئة القادرة على المواجهة. يقول دوغلاس نورث وزملاؤه: “وحيث إن مواقع وامتيازات وريوع النخب المُشَكِّلَة للائتلاف المهيمن ترتبط بتقييد حقوق الدخول الذي يستلزمه النظام السياسي، فمن مصلحة هذه النخب الدفاع عن الائتلاف المهيمن والذود عنه؛ لأن الفشل في تلك المهمة يعني السماح بالعنف والفوضى وكذلك فقدان الريوع”(24).
ويطلق دوغلاس نورث وفريقه من الباحثين اصطلاح النظام المقيد على هذا الضرب من التلاعب السياسي بالموارد الاقتصادية للدولة بهدف استدرار الريوع وتوظيف جزء منها في سبيل شراء الاستقرار السياسي. وينطوي مفهوم النظام المقيد على منطق ترتيبي من وجهة نظر قدرة المجموعات الاجتماعية على ممارسة العنف ودرجة تمركز الاقتصاد السياسي في يد الأقلية المهيمنة. ويمكن التمييز في الأنظمة المقيدة بين الأنظمة الهشة والأساسية والناضجة؛ غير أن ما يهمنا في هذا المقام النظري يخص بالدرجة الأولى النظام المقيد الأساسي الذي ترتبط فيه جميع المؤسسات الاقتصادية، العامة والخاصة، وتخضع فيه السياسة لسيطرة الدولة التي تحتكر ممارسة العنف وتعيش فيها المعارضة الحقيقية تحت التهديد. وتُعَدُّ هذه الحالة من التنظيم الاجتماعي-السياسي الأقرب إلى تجسيد السلطة السيادية المستبدة بالموارد والممارسة لاقتطاع الحياة.
ج- مصير الحياة مع مطلع قيم الذات: من السلطوية إلى الديمقراطية الفعلية
تلعب الثقافة السياسية دورًا بالغ الأهمية في تشكيل المخيال الجمعي وأنسجة الوعي القاعدية لدى المجموعات الاجتماعية، وتشكِّل هذه العناصر الأرضية الفنومنولوجية التي يقوم عليها جانب كبير من الأنظمة السياسية؛ حيث تتأثر هذه الأخيرة بطبيعة القيم السائدة في المجتمع وتتجاوب مع التحولات الثقافية والاجتماعية التي تخترقه من الداخل. وتنعكس أخلاق العناية، التي تكون الحياة موضوعًا لها أو الاقتطاع الذي يقبض على فعاليتها، على سلوك النظام السياسي تجاه السلامة البدنية للأشخاص وحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
غير أن الاعتراف بحقوق الجسد ضد السلطة، يرتبط إلى حد كبير بحظوته داخل التفاعلات الاجتماعية اليومية. فالمنظومات القيمية التي تشجع على العنف وسفك الدماء ستواجه صعوبات جمة في الإعداد لنظام سياسي يشمئز من بَتْر الأعضاء وإسالة الدماء. إن انتقال المجتمعات من منظومة القيم المتمركزة على أولوية الحاجات الفيزيولوجية كالبقاء والغذاء والأمن، إلى قيم التعبير عن الذات المتمركزة على الحاجيات السيكولوجية العليا، يرافقه انتقال سياسي من السلطوية إلى الديمقراطية الفعلية التي تراعي الحياة وحقوق الإنسان. ويبدو أن سيرورة التحديث التي تعرضت لها المجتمعات، قد أسهمت إلى حد كبير في تأنيث القيم الاجتماعية والسياسية(25)، وهو ما انعكس إيجابًا على القيمة التي أضحت تتمتع بها الحياة في العهد البيوسياسي(26).
وتقوم الأطروحة المركزية لنموذج الثقافة السياسية على مصادرة ضمنية تفيد بأن الديمقراطية الفعلية المحتضنة للحقوق والحريات المتمحورة حول الاختيار الشخصي، هي السمة السياسية البارزة في تحديها لاقتطاع الحياة؛ لأن طبيعة الثقافة القاعدية للمجتمع تشكِّل ذلك البناء الإسمنتي الذي تتأسس عليه مختلف أشكال السلطة. ويقول رونالد إنجلهارت (Ronald Inglehart) وكريستيان ويلزل (Christian Welzel): “ليست كل أصناف القيم المجتمعية والرأسمال الاجتماعي مواتية لنمط الديمقراطية المبني على حرية الاختيار. فالديمقراطية تتطلب ذلك النوع من القيم التي تدفع في اتجاه التعبير عن الذات والتحرر وتناهض التمييز. إن أطروحة تنمية الإنسان التي ندافع عنها لا تتماهى مع مجمل ادعاءات ألموند وفيربا حول الثقافة المدنية الضرورية للديمقراطية. على العكس من ذلك تمامًا، فإننا نعتبر أن الديمقراطية الواهنة وغير الفعلية لا ترتبط بالضرورة بضعف الانضباط الجمعي والامتثال للقواعد وغياب الالتزام السياسي. فغياب العصيان المدني وهشاشة قيم التعبير عن الذات هو ما يجعل مهمة المستبد يسيرة للغاية. ولكي تصبح المجتمعات أكثر ديمقراطية، تحتاج لأفق أكثر تحررًا وانعتاقًا بدل الامتثال والتوافق السياسي”(27).
2.1. متغيرات الدراسة
تقوم الدراسة على بحث بنية العلاقات الإحصائية التي تجمع بين المتغيرات التي تعكس الإطار النظري أعلاه. ويمكن التمييز في هذا الشأن بين المتغير التابع الذي يعبِّر عن النزوع السياسي إلى القبض على الجسد وسلب الحياة، وهو المكوِّن الذي تم التنظير له فلسفيًّا من خلال الإرث الفكري لكل من ميشال فوكو وجورجيو أغامبن؛ ويُدعى في الأدبيات الأمبريقية بمؤشر ممارسة الرعب السياسي. وتتشكَّل المتغيرات المستقلة من الخصائص المرتبطة بالاقتصاد السياسي للمجتمعات وطبيعة الأنظمة السياسية والبنى الثقافية التي تتأسس عليها. وتعكس هذه المكونات من جهة، أطروحات الداروينية الجديدة في مجالي الاقتصاد والسياسة، كما تعبِّر من جهة أخرى عن نظرية الحداثة الفردية وعلاقتها ببنية النظام السياسي وانعكاس ذلك على احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد والجماعات. ويمكن إجمال المتغيرات المستقلة في درجة احتكار موارد السلطة بين أيدي الأقلية المهيمنة، ومدى حضور الريع في الإنتاج الاقتصادي للبلد، إضافة إلى درجة ابتعاد العلاقات الاجتماعية للمجتمع الواحد عن العنف المميز لحالة الطبيعة كما رسم ملامحها النفسية والسوسيولوجية الفيلسوف الإنجليزي، توماس هوبز (Thomas Hobbes). وتتكوَّن المتغيرات المستقلة أيضًا من سلم ترتيبي للأنظمة السياسية في علاقتها بمدى حضور قيم الانعتاق والتحرر. وفيما يلي بسط موجز للمضامين المعرفية والقياسية لهذه المتغيرات:
– مؤشر الرعب السياسي: ينطوي هذا المتغير على أشكال العنف الفيزيقي التي تستبد بالجسد خارج ما تنص عليه النصوص التشريعية. ويغطي مؤشر الرعب أفعال الاختطاف والاعتقال التعسفي وممارسة التعذيب، إضافة إلى أعمال الاغتيال السياسي وإزهاق الأرواح بدم بارد. وقد تم إعداد النسخة الأخيرة من قاعدة البيانات الخاصة بالعنف السياسي(28) ضد المواطنين من طرف ستة باحثين(29) ينتمون إلى جامعات غربية تحت إشراف مارك جيبني (Mark Gibney). ويتَّبع توزيع القيم الإحصائية للمؤشر سلمًا ترتيبيًّا يتراوح بين 1 و5؛ حيث تفيد القيمة الدنيا غياب وقائع مرتبطة بقمع الجسد وسلب الحياة، بينما تدل القيمة العليا على اللجوء المنظم من طرف السلطات إلى التنكيل بأجساد المعارضين وتصفيتهم عند الاقتضاء. وقد تم الاعتماد في دراسة الرعب السياسي على ما تنقله المنظمات الدولية من انتهاك لحقوق الانسان عبر العالم، خاصة “هيومن رايتس ووتش” و”منظمة العفو الدولية”، إضافة إلى التقارير التي تُعِدُّها وزارة الخارجية الأميركية كل سنة. وبصرف النظر عن الانتقادات التي يمكن توجيهها لهذا المؤشر من الناحية القياسية والإبستمولوجية، فإنه يوفر معطيات قيمة يمكن استعمالها في الدراسات العلمية.
– متغير احتكار/توزيع الموارد: أُعِدَّ هذا المتغير من طرف عالم السياسة الفنلندي، تاتو فانهانن، في سياق فحصه لطبيعة العلاقة التي تربط بين مستوى الديمقراطية في مختلف بلدان العالم والاستحواذ على الموارد. ويشمل المؤشر 170 مجتمعًا من مختلف أصقاع المعمورة، كما أنه يغطي من زاوية الدينامية الزمنية ما يقارب قرنًا ونصفًا من الزمن. وهو بذلك يشكِّل عملًا جبارًا في إعداد بيانات ضخمة تسمح بتصنيف المجتمعات السياسية في سيروراتها التاريخية المتعلقة بالصراع حول الموارد. وقد تم بناء متغير الاستحواذ/توزيع الموارد اعتمادًا على المعطيات المتعلقة بالمتغيرات التالية(30):
- متغيرَيْ نسبة الأمية وعدد الطلبة الذين يتابعون دراساتهم في مؤسسات التعليم العالي. ويدل هذان المتغيران على درجة توزيع الرأسمال الثقافي في كل مجتمع وذلك باعتبار حيازة المعرفة موردًا رئيسًا في علاقات السلطة.
- الملكية العائلية للمزارع والأراضي ودرجة تمركز الأنشطة الاقتصادية غير الفلاحية. ويشير المتغيران إلى درجة احتكار أو توزيع الثروة الاقتصادية الفلاحية وغير الفلاحية.
- الناتج الداخلي الإجمالي الحقيقي: ويدل على درجة النمو الاقتصادي المصحوب بتنوع وتوزيع الأنشطة الاقتصادية(31).
– مؤشر نسبة الموارد الطبيعية في الناتج الوطني الخام: يعبِّر هذا المؤشر الذي يُعِدُّه البنك الدولي كل سنة عن نسبة الموارد المستخرجة من بواطن الأرض في تشكيل حجم الاقتصادات الوطنية. وبصيغة أدق، يسمح بحساب نسبة الريع في بناء ثروات الشعوب ويعكس بالتالي، بشكل مباشر، القيمة الاقتصادية للمجهود الاجتماعي المبذول في سبيل التنمية والتقدم. ويُعَدُّ هذا المؤشر خير تعبير عن قدرة الشعوب على الإنجاز الاقتصادي عوض الاعتماد على ما تجود به الطبيعة على الإنسان. ويمكن تعريفه من الناحية التقنية بأنه الفرق بين المداخيل الناتجة عن استغلال الطبيعة والتكاليف التي تطلبها ذلك الاستغلال. ويغطي المؤشر عائدات النفط والغاز الطبيعي والغابات والبحار والحديد والصلب والموارد المعدنية الأخرى(32). ويستند إدراج هذا العامل ضمن متغيرات الدراسة إلى افتراض وجود علاقة دالَّة بين التكوين الريعي للاقتصاد والنزوع السياسي نحو ممارسة العنف السياسي.
– مؤشر هوبز حول درجة الابتعاد الاجتماعي عن حالة الطبيعة: تم بناء هذا المؤشر المركَّب من طرف بروس بينو دي ميسكيتا (Bruce Bueno de Mesquita) وزملائه(33) لدراسة مسافة المجتمعات البشرية عن الخصائص الرئيسة لحالة الطبيعة كما وصفها توماس هوبز (Thomas Hobbes) في مؤلفه المعروف “الليفياثان”. وتعكس ذلك الوضع الاجتماعي الذي تكون فيه حياة الإنسان قصيرة، معزولة وفقيرة، مقرفة ومتوحشة. لقياس هذا البؤس الذي يميز حالة الطبيعة، اعتمد الباحثون أعلاه على حساب عدد الوفيات ودرجة تقدم الحريات الفردية والدخل القومي، إضافة إلى درجة تغلغل وسائل الاتصال في المجتمع، ثم مدى تعرض هذا الأخير للحروب الأهلية والانتفاضات والثورات. وتتراوح قيم المؤشر بين 0 و100؛ حيث تدل القيم العليا على المسافة البعيدة التي قطعها المجتمع عن حالة الطبيعة، بينما تشير القيم الدنيا إلى الاقتراب والتماهي مع هذه الحالة.
– المتغير القياسي للأنظمة السياسية: توجد في الأدبيات السياسية المعاصرة تصنيفات متعددة للأنظمة السياسية من الصعب حصرها، إلا أن ما يميز تصنيف إيمي ألكسندر وكريستيان ولزل ورونالد إنجلهارت هو تركيزه على درجة احترام الأنظمة السياسية للقانون وتمتع المواطنين الفعلي بالحقوق والحريات الأساسية(34). وينسجم هذا الطرح مع المفهوم العميق للديمقراطية كما ورد في أطياف الفلسفة السياسية المعاصرة. وبناء على هذا المعيار، يميز الباحثون بين الأتوقراطيات المستبدة التي تحتل الدرجة السفلى على السلم الترتيبي والسلطوية العقلانية التي تأتي فيما بعدها، ثم الديمقراطية الأداتية (الشكلية) في المرتبة الثالثة، وأخيرًا، الديمقراطية الفعلية التي تحتل القيم العليا. وتندرج قيم المقياس بين 0 و100؛ حيث تمثِّل القيم العليا وجود ثقافة سياسية تحظى فيها الحقوق الأساسية بالاحترام والرعاية.
– متلازمة قيم التعبير عن الذات والاستقلالية: تم بناء هذه المصفوفة القيمية المركَّبة من طرف رونالد إنجلهارت وكريستيان ويلزل انطلاقًا من معطيات المسح الدولي للقيم، وذلك اعتمادًا على تقنية التحليل العاملي للمكونات الأساسية. ويتكوَّن من قطبين: قطب القيم الدنيا الذي يعكس هيمنة الحاجيات الفيزيولوجية المرتبطة بدوافع البقاء، وقطب القيم العليا التي تدل على الرغبة الدؤوبة في تلبية الحاجيات السيكولوجية العليا المعبرة عن الاعتبار الذاتي والاستقلالية والسعي نحو تحقيق الذات. وينطوي المؤشر من زاوية المضمون القياسي على القيم ما بعد المادية كما صاغها إنجلهارت منذ سبعينات القرن الماضي، والثقة الأخلاقية في الغير، والميل إلى التسامح مع الحريات الجنسية، إضافة إلى الرغبة في المشاركة في الاحتجاجات. وتندرج معدلات قيم التعبير عن الذات بين 0 و1.
– متغير انقسام النخب: حظي هذا المتغير باهتمام كبير من طرف الباحثين في قضايا الاستقرار السياسي في علاقته بكمية الريع التي تحظى بها النخب القادرة على ممارسة العنف من أجل السلطة(35). وتعكس تلك الكمية الأساس الاقتصادي الذي يضمن بقاءها في الائتلاف المهيمن عوض انسحابها ووقوفها إلى جانب المستائين أثناء الاضطرابات الاجتماعية(36). ويعبِّر هذا المفهوم من الناحية الإجرائية عن انخراط النخب على المستوى المحلي والوطني في مسارات متهورة من أجل المكاسب والمنافع السياسية والاقتصادية(37). هذا الانتهاك للعقد السياسي المهيمن قد يؤدي بالاجتماع السياسي إلى حافة الهاوية. ويدل هذا المتغير في مغزاه العميق على غياب الإجماع حول الطريقة التي يُدَبَّر بها الاقتصاد والسياسة في مجتمع معين. وقد تم بناء المؤشر من خلال التركيز على طبيعة الصراع السياسي وكثافة الانشقاق عن المركز السياسي، إضافة إلى العيوب التي تعتري العمليات الانتخابية. وهي ظواهر سياسية مُغَذِّية للتسلط في دول الجنوب(38).
- منع الصفح وإيقاع العقاب: حول الإدانة الفعلية للجسد المستباح في العالم العربي
أعادت حيثيات مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده بإسطنبول، راهنيته المنسية إلى السؤال التقليدي حول المتاهة السياسية للسلامة الجسدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لقد أوضحت فصول هذا الحادث الذي اهتزت له جوارح العالم قاطبة، بأن ممارسة العنف السياسي في معظم الأنظمة العربية ليست مسألة عرضية كما يعتقد بعض المراقبين. على العكس من ذلك تمامًا، يشكِّل قمع الجسد وسلب الحياة مكونات مفتاحية لتصرفات العاهل تجاه رعاياه. وهو ما يجعل بعض الأنظمة العربية، ملكيات وجمهوريات، تندرج بحكم واقع الأشياء في نموذج السلطة السيادية كما صاغه فوكو اعتمادًا على تاريخ الملكيات المطلقة في أوروبا. ومن اللافت للانتباه أن العناصر التحليلية لكل من أغامبن وفوكو تنطبق بشكل باهر على مواقف السلطة تجاه الحياة كأساس بيولوجي وديمغرافي سالب للاجتماع السياسي في العالم العربي.
وبصرف النظر عن الخطاب الرسمي للسلطة السياسية حول مفهوم العدالة والأقنعة الشرعية والقانونية التي لا تنفك آليات القبض على الجسد وخنق إمكانياته التعبيرية تجترح منها مسوغاتها العلمية، فإن السلطات الدائبة على انتهاك حرمة الجسد، تظل عازمة، كلما تطلب الأمر ذلك، على تحريك أقاليم الجحيم ضد من تصمهم بمعارضة النظام وتهديد استقراره. ومما لا شك فيه أن الأنظمة التي تقتل شعبها وتئد طاقاته الحية هي أسوأ الأنظمة على الإطلاق؛ لأنها بكل بساطة، تزهق أرواحًا بذل المجتمع مجهودات مضنية في إعدادها للحياة. لقد تنبأ صاحب العقد الاجتماعي، فيلسوف السياسة ذو الميول الديمقراطية، جان جاك روسو (Jean-Jacques Rousseau)، بأن أفضل الحكومات هي تلك التي تحافظ على رخاء مواطنيها(39). ويتناسب هذا الطرح مع النظرية السياسية المعاصرة لعالم السياسية الأميركي، رونالد إنجلهارت، في الديمقراطية(40) كمنظومة لتنمية المواطن والمساعدة على تفتُّق طاقاته. يقول روسو: “فما غاية الاجتماع السياسي؟ إنها حفظ بقاء أعضائه وتوفير رخائهم. وما أوثق علامة على حفظ بقائهم وحياتهم؟ إنها كثرتهم وعدد سكانهم. فلا حاجة إلى البحث عن هذه العلامة المتنازع فيها في أمور أخرى. وبقطع النظر عن جميع الجوانب الأخرى، إن الحكومة التي يوفر مواطنوها عمرانها ويتناسلون أكثر من غيرهم دون وسائل أجنبية، ودون تجنيس ولا مستعمرات هي أحسن الحكومات بلا ريب. والحكومة التي ينقص فيها الشعب ويضمحل هي أسوأها. فيا معشر أهل الحساب، إن هذا الشأن الآن شأنكم، فعدوا وقيسوا وقارنوا”(41).
أحيانًا، يتعارض الشرط الوجودي-السياسي في بعض المجتمعات مع مقولات حفظ النفس وانبثاق طاقات الحياة وحفظ الجسد، كما وردت في فلسفات التعاقد الكلاسيكية أو المستحدثة. ويرتبط ذلك الوضع بالتكثيف الأيديولوجي والسياسي للخطابات والتصرفات المُؤَسِّسَة لغريزة الموت. ولعل توزيع الأنظمة السياسية العربية حول معدلات مؤشر الرعب السياسي على مدى 40 سنة، كفيل بالكشف عن الطابع الدموي للممارسات السلطوية. ولابد من الإشارة في هذا الشأن إلى المجهودات التي بذلتها بعض الأنظمة العربية من خلال فتح صفحة العدالة الانتقالية وإن صاحب ذلك بعض الارتدادات المتفرقة. ويوضح الرسم البياني أسفله ترتيب البلدان العربية بالنسبة لمؤشر الرعب السياسي.
الشكل رقم (1) يبرز ترتيب الدول العربية حسب معدلات الرعب السياسي وفقًا لمعطيات منظمة العفو الدولية
المصدر: من إعداد الباحث اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية
وتعكس القيم المتحصَّل عليها من طرف الدول العربية على مقياس الرعب السياسي درجة الرسوخ السياسي للممارسات السلطوية المستبدة بالجسد عبر التعذيب والاعتقال والاختطاف أو الاغتيال. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذه النتائج ذات التكوين الكرونولوجي، لا تأخذ في الحسبان الانتهاكات التي اقترفتها بعض الأنظمة في مطلع سنتي 1918 و1919. وهو ما كان سيدفع بسوريا مثلًا إلى قمة هرم الجناية السياسية في العالم العربي. ويمكن التمييز بين ثلاث مجموعات من الأنظمة العربية حسب تباين شدة العنف السياسي:
– المجموعة الأولى: وتشمل عُمان وقطر ولبنان، وهي الدول التي تسجل أدنى معدلات الرعب السياسي بين 1976 و2016.
– المجموعة الثانية: وتتمركز على مستوى القيم الوسطى لمقياس مارك جيبني وزملائه، وتشمل هذه المجموعة البحرين وموريتانيا والمغرب وتونس والجزائر والإمارات والكويت، إضافة إلى الأردن.
– المجموعة الثالثة: وتشمل الدول المرموز لها بالأسود كعلامة على الوضعية الحرجة للسلامة البدنية على مدى أربعين سنة. ويتعلق الأمر بليبيا والسعودية ومصر واليمن وسوريا والصومال والسودان والعراق. وتسجل هذه الدول معدلات مرتفعة مقارنة بالبلدان العربية الأخرى.
بالرغم من وجاهتها الميدانية، لا تغني معطيات الإحصاء للأفعال الإجرامية ذات الطابع السياسي، عن السفر الفنومنولوجي، من أجل فهم الممارسات السلطوية للقائمين على تفعيل منطق السلطة السيادية. ولا غرو أن ثمة ما يغري في اللحظة التي تعقب اختطاف أو القبض على الجسد المتمرد قبل إنزال العقاب اللائق بصكِّ الاتهام المصمم ضده. فالمغزى السياسي لتلك اللحظة لا يتوقف عند حيثيات الجناية السياسية ولا حتى عند قذارة الدرك الأسفل الذي ينحدر إليه العنف المؤسسي، ولكنه يكشف عن ألغاز الاشتغال الميداني لأسلوب السلطوية السيادية في عريها التام، على جسد الإنسان المستباح.
ينهل هذا الأسلوب مقوماته الواقعية من مصادرة ضمنية تقوم على حيازة السلطة السيادية لحقين متلازمين: الحق الكامن في الإدانة المطلقة، والحق في توزيع الغفران والرحمة. وبينما يقوم الأول على احتمال الخطيئة السياسية المتجذرة في حتمية سلوك بني البشر في علاقتهم بـ”النظام العام”، كما تؤوِّله أدوات الحكم الخاصة بالائتلاف المهيمن، يحيل الثاني إلى صلاحيات الأبوية السياسية في الصفح أو إيقاع العقاب الذي يتمتع به العاهل كما هو عليه الأمر في فلسفة أغامبن. ويقول سلافوي جيجيك (Slavoj Zizek) في هذا الشأن: “نجد هنا في صدد نوع من التقاطع والتداخل بين الإدانة الكلية المحتملة (فكل ما تُقْدِم على فعله يشكِّل جرمًا) وبين الرأفة أو الرحمة (أي إنه مسموح لك بأن تتابع حياتك في سلام، ليس إثباتًا أو نتيجة براءتك، بل بوصف ذلك برهانًا على رحمة وكرم أخلاق، وعلى نوع من فهم وقائع الحياة ممن هم في السلطة). وهذا يشكِّل دليلًا على أن الأنظمة الشمولية هي، تحديدًا أنظمة رأفة ورحمة، إنها تتسامح وتتحمل انتهاك القانون؛ لأن مثل هذا الانتهاك، مضافًا إلى الرشوة والغش، هي شروط البقاء والاستمرار بالنسبة إلى الطريقة التي تعتمدها هذه الأنظمة في صوغ الحياة الاجتماعية وتأطيرها”(42).
في كلتا الحالتين، يهدف منطق السلطة السيادية إلى غرس شعور غريب بالذنب يستبد بسيكولوجية الجاني المقبل على مصير مجهول. ويستتبع تفعيل حقي السلطة السيادية، مسلسلًا من الإذلال الممنهج للمتهم والزج به في غياهب التوسل غير المجدي، قبل المرور به إلى مصيره المحتوم. بالنسبة للثقافة السياسية المبنية على القمع، لا يهم كثيرًا ما يقوله صاحب الجسد المستباح وهو على حافة الانهيار في هذه اللحظة الحرجة بالذات؛ لأن مصيره قد قرره العاهل وانتهى الأمر. غير أن الأهم من الناحية التحليلية هو خطاب الرأفة المزيف ومزحة عروض الرحمة التي ينفثها الجلاد في وجه ضحية لم يتبق لها سوى الرهان الميؤوس على ذرَّة رجاحة عقل سياسي متنور، وتعليق كل حساباتها على خيط من الأمل صعب التحقق. يمكن أن نتصور الجلاد متلاعبًا بمشاعره ومُؤَنِّبًا لضميره ودافعًا إياه إلى حافة الهاوية، وهو يقول له في زعم ظاهري رحيم ولكنه مخادع: “انظر إلى حالك اليوم، أنت في غنى عن هذه الملابسات، فقد كنت تعيش في سلام وتحظى بكل شيء؛ فما الذي أودى بك إلى الخوض في أمور السياسة والحكم؟! لقد ارتكبت خطأ فظيعًا، بعد أن كنت في منزلة حسنة، تحظى بالاحترام والسكينة. أما الآن فأنت موشك على الهلاك لا محالة، إن لم يرجع سيدك في قراره. فمن يدري؟ لعل وعسى…”.
يمكن تعميم هذا القول على المحادثات التي تعقب القبض على “مثير الفتن” في الاجتماع السياسي العربي، خاصة خلال العقد الأخير من القرن العشرين. ويفيد هذا الاقتباس المتخيل بخصوص اللحظة السابقة عن ارتكاب الجناية السياسية، اعتمادًا على استنطاق داخلي لاستيهامات العنف السياسي، بأن التجارب الكئيبة للشعوب تحت ظل الأنظمة السلطوية، إنما تنبثق عن الفرض القسري لمنزلتين من الملكوت السياسي لا ثالث لهما: كي لا تثير نقمة الحكام وتسلم بجلدك، عليك أن تختار بين وضعية التملق، مع ضرورة استبصار الأضرار الجانبية التي يمكن أن يسفر عنها التنافس القاتل بين لاحسي الأحذية رفيعي الشأن، ووضعية استسلامية، داروينية في عمقها، تتوخى الحفاظ على النفس، فتغشاها الاستكانة الظاهرية ويطغى عليها داخليًّا، كَبْح رقابي لاختلاجات النفس العدوانية وشرورها الانتقامية إلى أقصى الحدود، كي يتم عدها في صفوف الأزلام. من الواضح أن هذا الوصم لا ينطبق على الاجتماع السياسي في العديد من الأنظمة التي قطعت أشواطًا لا بأس بها في مجال حقوق المواطن كتونس وقطر ولبنان؛ ولكن حبس الأنفاس من الناحية السياسية لا يزال معمولًا به في مصر وسوريا والسودان.
لا تنطلي أحجية التساوق الأيديولوجي الوثيق بين الحاكم والمحكوم على الذهنية السياسية للقائمين على النظام العام والذين لا يستسلمون بسهولة لأسطورة القيصر والفلاح، المُؤَسَّسَة على النزعة الملكية للدهماء من المزارعين والرعاة(43)، ولا تفترض تلك الذهنية أيضًا، البراءة الأصلية وحسن النوايا في تقييم الخرائط المعرفية والمواقف السياسية للمحكومين، بل تتحسب من جانبهم صفة الغدر ومهارة الخداع التي يمنعها الضعف وحساب الخسارة المتوقعة من الظهور إلى العلن، تمامًا وكأن الأمر أشبه بوضعية الكلب النائم عمدًا، كما ورد في رواية شهيرة لأونوريه دي بلزاك (Honoré de Balzac) تحمل عنوان (الفلاحين): “يا أبنائي لا تقتحموا الأشياء مباشرة، أنتم ضعفاء جدًّا، خذوها مني، اقتحموها جانبيًّا، تظاهروا بأنكم أموات، تمثَّلوا دور الكلب النائم”(44).
تشكِّل صورة الكلب الذي يغالي في مديح سيده في الظاهر ويقابل جميله خلسة بالغدر والنكران، مَتْن النص المعرفي الذي تَغْرِف منه بعض النخب الحاكمة تصوراتها تجاه المحكومين. فاستكانة هؤلاء إلى السلم والقبول بالوضع، لا ينم في نظر النخبة المهيمنة، عن تماه أصيل مع الأبوية السياسية أو عن حب مسحور للطريقة التي تسير بها الأمور. وبالرغم من مجهوداتهم الأيديولوجية، لا يثق القائمون على الأمور في علاقتهم بـ”الكلاب البشرية”، بنظرية الوعي الزائف والمفعول السياسي المزدوج للاعتراف والتجاهل كما صاغهما بيير بورديو (Pierre Bourdieu) في أعماله المبكرة(45). إنهم يعتقدون بأن خضوع المحكومين العلني يستند إلى الوعي بضعف الخيارات المتاحة(46) الذي يُحْبِط كل أشكال التحدي من جانبهم ويعيد الغدر إلى وضعية الإذعان نصف-النائمة، وبأن انبعاث الخطاب المعارض من الرماد من حين لآخر، يُعَدُّ من وجهة نظرهم، أكبر دليل على صواب تقديرهم للأمور. هكذا يُرْجِعون ما يجول بخاطر المحكومين تجاههم، لا إلى السيكولوجيا السياسية الجمعية الناتجة عن مفاعيل السلطة، كما يرى ذلك مؤسس التحليل النفسي(47)، ولكن إلى خصائص طبيعية وجوهرية مُتَأَصِّلَة في روح الرعاع. وإذا كان لا أحد يعرف بالضبط سُمك الشر الكامن في روح المجتمع، كما قال الكاتب المسرحي، فاكلاف هافل (Václav Havel)، ذات يوم، فإن الانخراط القسري للمحكومين في بنية الخطاب الرسمي، يُعَدُّ في نظر السلطة السيادية، بمثابة الحُجَّة الفعلية على استمرار التحكُّم في زمام الأمور(48).
لا مندوحة أن انتهاك هذه القاعدة الجوهرية المتمثلة في إلزامية الامتثال والتكريس الاجتماعيين، على مستوى السلوك والمواقف، للاتجاه العلني الذي تتوخاه السلطة، يَعِدُ بتعليق توزيع الغفران وتفعيل حق الإدانة الكلية، الحامل لوابل من استباحات الجسد العاري. وتتباين الأنظمة العربية فيما بينها كما رأينا، من زاوية حجم الانحراف الذي تسمح به في هذا المضمار، وإن كان معظمها لم يسدل الستار بعد على العنف التأسيسي لوجودها السياسي.
إن ما وقع في القنصلية السعودية بإسطنبول، وغيره من الانتهاكات التي ظلت طي الكتمان في البلدان الأخرى، يكشف عن قبح هذا النوع من عدم الوعي المُؤَسَّسِي الذي تستند إليه ممارسة السيادة السياسية. ففرادة الحادث المريعة لا ينزع عنه كونه ينهل من العادات السياسية السحيقة المتمثلة في عدم التسامح السياسي مع انتهاك الأسس العلنية للسلطة السيادية. هذا العنف القابل للانفلات من عقاله عند أدنى استثارة لغيظ الحكام، لم تفلح المؤسسة في التبرؤ منه؛ لأنه لصيق بالتربة السفلية لمنظومة الإدانة الكلية. وهو ما يكشف عنه الفحص الزمني لمؤشر الرعب السياسي المعبر عن رسوخ اقتطاع الحياة في بعض التقاليد السياسية. على سبيل المثال، يوضح الرسم البياني أسفله أن تداعيات مقتل جمال خاشقجي كانت قابلة للاستبصار.
الشكل رقم (2) يبين تطور معدلات الرعب السياسي في المملكة العربية السعودية
المصدر: من إعداد الباحث، اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية
يسمح المنحنى بالوقوف على اللحظة السياسية التي عرفت ارتفاع معدلات الرعب السياسي في المملكة العربية السعودية. فمنذ سنة 1994، عرفت قيم المؤشر تصاعدًا ملحوظًا قبل أن تستقر نسبيًّا بين 2000 و2006، لتعود بعد ذلك إلى التصاعد. وبصرف النظر عن شخصية العاهل الذي يحتل قمة الهرم السياسي وأدوات الحكم المعتمدة، فإن ما يثير الانتباه عند فحص مكونات العنف المسلط على الجسد هو عنفوان ظاهرتي الاغتيال السياسي والاختفاء القسري اللتين بلغتا في السنين الأخيرة مستويات ملحوظة. وتؤكد تقارير المنظمات الحقوقية الأهلية والدولية بأن سنة 2019 كانت بالنسبة للمملكة العربية السعودية عامًا مكللًا بالعار في مجال حقوق الإنسان(49). وينطبق التوصيف تقريبًا على أنظمة عربية أخرى مثل نظام عمر البشير المخلوع، إضافة إلى النظام السياسي المصري في ظل حكم السيسي(50). وتكشف سرديات التعذيب التي يحكيها الناجون من مخالب النظام السوري عن المتاهة الحقيقية للجسد العاري في منطقة الشام.
ويكمن الهدف من استراتيجية القمع المعتمد في محاولة قطع دابر السياسة التحتية والعلنية وملاحقة تفاصيلهما في أعماق سرائر الأفراد، حتى تجعل الرعية من السيطرة على جوارحها الدفينة وابتلاع هرطقاتها السياسية السيئة، مفاتيح بقائها على قيد الحياة. إن المغزى السياسي وراء العنف يكمن في فرض تَصَنُّع الإذعان في العلن على الشعوب، حتى لو كانت هذه الأخيرة تتمنى لأدوات السلطة، مسيرة موفقة إلى جهنم، كبراميل مليئة بالمسامير، على حدِّ تعبير جيمس سكوت (James Scott)(51).
من شأن القارئ الذي تغيب عنه معطيات دولية مقارنة في مجال الرعب السياسي أن يستسلم لروح التشاؤم بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي. ربما يكون هذا الموقف الوجداني صائبًا بصرف النظر عن الأضرار المعرفية الجانبية ذات الطابع القاتم التي توحي بها المعطيات المعتمدة والتي يتجاهلها الإعلام العربي الرسمي. إن مربط الفرس يكمن في مقارنة توزيع ظاهرة اقتطاع الحياة بين الجغرافيات الإقليمية؛ حيث تتخذ الهويات الثقافية والسياسية موقعها المستحق بين أمم العالم.
وتحافظ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على موقع متميز بين التشكيلات السياسية الإقليمية فيما يخص التنكيل بالجسد وسلب الحياة. ويبيِّن الرسم البياني أسفله أن الجغرافيا السياسية العربية تتأرجح بين المرتبة الثانية والثالثة مع دول جنوب آسيا فيما يتعلق بالتطور التاريخي لممارسة القمع والتنكيل برعاياها. وبينما يميل هذا المؤشر إلى الانخفاض عبر الزمن بالنسبة لبعض الأمم، يحافظ على عنفوانه في السياسة العربية وفي دول إفريقيا جنوب الصحراء، إضافة بالطبع إلى دول جنوب آسيا التي تشكِّل فيها إبادة المعارضين عملة رائجة. وسوف نبيِّن في الجزء المتبقي من الدراسة، العوامل البنيوية الضالعة في النزوع السياسي إلى اقتطاع الحياة العارية.
الشكل رقم (3) يوضح تطور الرعب السياسي حسب الجغرافيا السياسية
المصدر: من إعداد الباحث، اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية
- لعنة الموارد ومعضلة العنف السياسي في العالم العربي
لا تنفك المتاهة السياسة للسلامة البدنية تُسائِل الثقافة من زاوية انتشار هذا النوع من أساليب اقتطاع أوصال الحياة؛ فالعلاقة السياسية بالجسد وقيمة الحياة لا يمكن فصلهما عن التراث السياسي للشعوب. ويعني ذلك أن النزوع إلى اقتطاع الحياة يُحْتَمَل فيه التباين حسب الجغرافيات الثقافية؛ حيث تطغى خبرات اجتماعية تُغَذِّيها معان سياسية وتراكيب مفهومية متباينة الاتجاه نحو تحرير طاقات الحياة أو الموت(52).
من المفترض أن تضطلع الثقافة السياسية، كشبكة من التراكيب المفهومية التي تضفي معقولية على الوجود الإنساني كما شدَّد على ذلك غليفورد غيرتز (Clifford Geertz) في سياسة المعنى(53)، بشكل مباشر أو غير مباشر بدور معين في تثبيط أو تشجيع النزوع نحو اقتطاع الحياة. فالقيم الاجتماعية المجبولة على تكريس الوضع الاعتباري للجماعة على حساب حرية الفرد، لن يعكِّر صفو مزاجها الزجُّ بالمعارضين في مجاهل الأقبية(54). أفلم يَدَّعِ بعض الزعماء العرب، استنادًا إلى أقوال منسوبة لمذهب الإمام مالك، أن بإمكانهم التضحية بثلث الأمة الفاسد للحفاظ على الثلثين المتبقيين؟!
إن هوس الحفاظ على ديمومة الجماعة وهويتها السياسية والثقافية، ولو تطلب الأمر بَتْر بعض من أعضائها، يشكِّل عصابًا جمعيًّا ملازمًا للثقافة الجماعاتية وبوتقة بنيوية للعنف. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة حصانة الثقافة الفردانية ضد ممارسات إزهاق الأرواح بدل الحفاظ على الحياة. وبالرغم من أنه لا يليق من الناحية الأخلاقية المفاضلة بين الأمم، في مجال النزوع نحو اقتطاع الحياة، فإن تفاوت منسوب شر العنف السياسي حسب الجغرافيا الثقافية لا يجوز تفسيره من خلال مقولة السمات الثقافية الثابتة كما يحلو لمزاعم التحليل الجوهراني. فالظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية المقارنة لابد لها من استحضار مبدأ النسبية الذي يستقي مرتكزاته على المعطيات التاريخية والثقافية المتجذرة في ميادين التجربة الإنسانية. ولا غرو أن علاقة الثقافة السياسية بالعنف، منظورًا إليها من خلال التقسيم الجغرافي، تتعرض لفترات من المد والجزر ولا تستقر على حال عبر التاريخ الطويل للشعوب.
مما لا شك فيه أن تجربة القتل العمد لدوافع سياسية أو اجتماعية-اقتصادية، تثير أشد أنواع الاشمئزاز في الثقافات الإنسانية. وبالطبع، لا تشكِّل الثقافة العربية الإسلامية استثناء في هذا الشأن. فالضفاف الثقافية والدينية المغايرة لدار الإسلام، بما فيها تلك التي تحفل بمدح ذاتي بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا تبشر بالربيع في علاقة الجسد بالسياسة. لقد أزاح مقتل المواطن الأميركي، جورج فلويد، الستار ليس فقط عن ذلك الصنو من الزهو الإرعائي(55) المفعم بالثناء على الثقافة الأميركية باعتبارها تبشيرًا بالخلاص السياسي للشعوب، ولكن أيضًا عن الوجه القبيح للعنصرية الذي يتوارى وراء النسيج المؤسساتي.
إن إثارة الانتباه تلك، إلى حقيقة الوجودية السياسية للجسد الحرام في الثقافة الغربية، لا يعطي تبريرًا لما يجري في بعض أنظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولعل موقع هذه الجغرافيا على مؤشر انتهاك السلامة البدنية خارج القانون، لخير دليل على ضرورة التوسل بتعويذات فكرية انعكاسية، ضد الشر الكامن في قمقم الثقافة السياسية العربية كما تنسجها الأنظمة السياسية.
الشكل رقم (4) يبين الرعب السياسي حسب المناطق الثقافية في العالم
المصدر: من إعداد الباحث، اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية والخارجية الأميركية
هكذا يبدو العالم العربي على ضوء تقارير الخارجية الأميركية ومعطيات بعض المنظمات الحقوقية: معدلات مرتفعة نسبيًّا على مستوى ممارسة الرعب السياسي بشكل يفوق المعدل الدولي، وفروقات جوهرية ذات معنى من الناحية الإحصائية، حيث بلغت قيمتا اختبار -t – لمؤشري الرعب 4.13 في معطيات منظمة العفو الدولية و4.2 فيما يتعلق ببيانات الخارجية الأميركية، وكانتا دالَّتين عند مستوى 0.001.
ولا تنفك هذه المعطيات المقارنة تؤكد زيف المجال العام الذي بلغ، في الاجتماع السياسي العربي، شأوًا جعله يفتقد إلى منافذ السياسة الأصيلة كما حددتها الفلسفة السياسية عند حنَّة أرندت (Hannah Arendt)(56). إن النزوع نحو ممارسة الرعب السياسي الرسمي يشكِّل أحد الأوجه البارزة لآليات دفاعية تدفع أدوات الحكم في السلطة السيادية إلى إسقاط رهابها من المقاومة الاجتماعية، على الجسد المتمسك بحقه الوجودي في الكلام(57).
ومن سخرية القدر أن يدفع الرهاب السياسي الشديد إلى تجاوز الإمكانيات الهائلة التي يسمح بها احتكار آليات العنف المشروع لتأديب الخروج عن القانون، وذلك في اتجاه الاقتطاع المروع للحياة خارج النواميس الإلهية والوضعية، وهو ما ينعكس سلبًا على منسوب قيم التعبير عن الذات في الاجتماع السياسي العربي، بالرغم من حيازته لما تجود به بواطن الأرض من موارد طبيعية(58)، يمكن توظيفها في تنمية الإنسان عوض إهدار طاقاته وكبح جماح تطلعه المشروع إلى الحرية والانعتاق(59). ويلخص الجدول أسفله معضلة التخلف الاجتماعي والسياسي في المجتمعات العربية: معدلات مرتفعة للموارد الطبيعية في الاقتصادات الوطنية، مصحوبة بضعف تمكين الأفراد وهزالة الديمقراطية الفعلية مقارنة مع المعدلات الدولية.
الجدول رقم (1) يبرز المعدلات المقارنة لمتغيرات الدراسة بين العالم العربي ودول العالم
الدلالة | اختبار – t | المتوسطات | الدول المعنية بالدراسة | المتغيرات قيد الدراسة | م |
0.001 | 3.84- | 6.3975 | دول العالم | نسبة الموارد الطبيعية في الاقتصاد الوطني | 1 |
15.1773 | العالم العربي | ||||
0.004 | 3.63 | 0.03 | دول العالم | مؤشر قيم التعبير عن الذات | 2 |
0.057- | العالم العربي | ||||
غير دال | 0.24 | 13.5980 | دول العالم | مؤشر توزيع الموارد | 3 |
12.6889 | العالم العربي | ||||
0.001 | 4.19 | 36.44 | دول العالم | مؤشر الديمقراطية الفعلية
| 4 |
10.16 | العالم العربي |
المصدر: من إعداد الباحث، اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية
ويعني ذلك أن الموارد الطبيعية التي حوَّلها الاقتصاد الدولي إلى ثروات كبيرة، تُسْتَعْمَل في ترسيخ السلطوية السيادية والحفاظ على مقومات اشتغالها. فترى السياسيين، كما يقول تلميذ جاك لاكان، مصطفى صفوان، يصنعون الشعوب على صورتهم، فيشترون الذمم وينشرون الرعب ويمنعون كل تجمع يمكن أن يساهم في بناء تضامنات حقوقية(60). فمن دون ثقافة تضامنية ذات طابع أفقي، من السهل على الحاكم سحق المقاومة العلنية والزج بالقادة في غياهب السجون، يقول صفوان: “قد تتجدَّد تظاهرات المقاومة، إلا أنها لن تتوصل أبدًا إلى قلب النظام. إنها تشجع في أحسن الأحوال على وقوع انقلاب عسكري. لكن هذه السياسات ليس لها من هدف سوى إبقاء الرعايا تحت نير الملك، إلا أن الأدهى يتمثَّل في سياسة تجعل الرعايا، تبعًا لأقوال دي لا بويسيه، “يتخلون عن فكرة الحرية ذاتها” أو هم “يكتفون بتذكرها في حالة من الاستكانة المُرَّة”(61).
لعلها مفارقة كبرى أن ينقلب تشبث الاجتماع السياسي الرسمي بِمُثُل الدين إلى مسارح لاقتطاع الحياة ومسالخ لشطب الأجساد من الوجود وترويع النفوس. فقد فضحت الجرائم البشعة للسلطوية السيادية في جزء مهم من المنطقة العربية، زيفَ الحقائق العليا والمثل المتعالية التي تزعم الأنظمة تَمْثِيلَها. إن المؤشرات التي تجعل الدولة العربية تحتل مراتب متقدمة ومعدلات مرتفعة على مستوى اقتطاع الحياة، تجمعها ارتباطات إحصائية دالة مع الممارسة الحقيقية للرعب السياسي. ويعني ذلك أنه كلما زادت نسبة الريع في الاقتصاديات الوطنية واستحوذ الائتلاف المهيمن على الموارد وظل المجتمع قاب قوسين من حالة الطبيعة وكانت الديمقراطية الفعلية هشة، ارتفع منسوب الاغتيال السياسي واشتدت ممارسات التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي. وهو ما يوضحه الجدول أسفله؛ حيث معاملات ارتباط بيرسون دالة عند مستوى 0.001.
الجدول رقم (2) يبين الارتباط الإحصائي بين المتغيرات قيد الدراسة ومؤشر الرعب السياسي
م | المتغيرات قيد الدراسة | مؤشر الرعب السياسي | |
حسب معطيات الخارجية الأميركية | حسب معطيات منظمة العفو الدولية | ||
1 | نسبة الموارد الطبيعية في الاقتصاد الوطني | 0.37 | 0.34 |
2 | مؤشر الاستحواذ على الموارد | 0.38 | 0.37 |
3 | مؤشر هوبز لحالة الطبيعة | 0.45 | 0.44 |
4 | مؤشر غياب الديمقراطية الفعلية | 0.70 | 0.63 |
المصدر: من إعداد الباحث اعتمادًا على معطيات الرعب السياسي الخاصة بمنظمة العفو الدولية والخارجية الأميركية
وتجدر الإشارة إلى أن معامل ارتباط متغير نسبة الموارد مع المتغير التابع (الرعب السياسي) تبدو أعلى بكثير من المؤشرات العديدة التي يعتمدها مايكل روس (Michael Ross)، والتي تركز في مجملها على البترول والغاز الطبيعي(62). ويرجع ذلك في نظرنا، إلى التكوين القياسي الشاسع للموارد الطبيعية الذي يشمل إضافة إلى المتغيرات الطاقية، موارد معدنية ذات قيمة نفيسة في السوق الدولية.
عادة ما ينظر الحس المشترك إلى الموارد الطبيعية على أنها هبة حبا الله بها شعوبًا على وجه المعمورة دون غيرها. وعادة ما يحفز هذا التوزيع العشوائي الذي لا يعكس مطلقًا أي قصد ميتافزيقي، بعضًا من مشاعر الحقد ومعاني الغيرة ضد المجتمعات “المحظوظة”. وبالرغم من اختلاف طبيعة الموارد وعلاقة ذلك بتثبيت أركان النخب الحاكمة، فإن هيمنة المداخيل الاقتصادية غير الخاضعة للضريبة العامة لا تعبِّر بالضرورة عن مفهوم النعمة، خاصة من وجهة نظر انعكاس تلك الموارد نفسها على شكل الاجتماع السياسي وبنيته، وكذلك على التقدم الاقتصادي(63). وحيث إن الجغرافيا موضوع الدراسة تعتمد على الثروات الطبيعية في اقتصادها السياسي، فقد حاول الباحث مقاومة الإغراء الذي يمارسه اصطلاح لعنة الموارد وذلك لسبيين رئيسين: أولهما: مخافة استباق النتائج والقفز إلى الاستنتاجات المتسرعة، خاصة أنه لم يثبت أن كل الموارد تقوِّض الاجتماع السياسي ورابطة العيش المشترك(64)، وثانيهما: تفاديًا لصعق القرَّاء الذين يرون في قدرية الكشف عن الموارد في باطن الأرض، آخر المعاقل المأمولة للخروج من التخلف الاجتماعي والبؤس السياسي.
ويعود استعمال مصطلح لعنة الموارد إلى عالم الجغرافيا الاقتصادية، ريتشارد أوتي (Richard M. Auty)، في كتاب مثير للجدل حول “دعم التنمية في الاقتصاديات المعدنية: أطروحة لعنة الموارد”(65)، وقد توالت بعد ذلك استعمالات اصطلاح لعنة الموارد من طرف صانعي السياسات العمومية وحشود الباحثين في مجال الاقتصاد السياسي. ويقوم المفهوم على صرح أمبريقي يفيد وجود علاقة دالة من الناحية الإحصائية بين الثروات الطبيعية، خاصة البترول، من جهة، واستماتة الاستبداد السياسي واندلاع الحروب الأهلية، إضافة إلى التخلف الاقتصادي من جهة أخرى. وتشكِّل هذه الدراسة إضافة متواضعة إلى قائمة أطروحة لعنة الموارد من خلال بحث علاقتها غير المباشرة بممارسة الرعب السياسي.
ويعتقد الأنثروبولوجي الماركسي، موريس كودليي (Maurice Godelier)، بأن العلاقات بين بني البشر لا يمكن فصلها عن علاقة الإنسان بالطبيعة(66)، كما أن الطريقة التي يحصل بها الائتلاف المهيمن على موارد الدولة يؤثر على المؤسسات السياسية وطبيعة القواعد القانونية التي تحكم الاجتماع السياسي(67). ويأخذ هذا المنطق دلالته الاجتماعية والسياسية في اللعبة القذرة التي تضطلع بها الموارد الطبيعية على مستوى تكثيف الرعب السياسي. وهو ما يعبِّر عنه النموذج الإحصائي للدراسة؛ حيث يندرج تأثير نسبة الموارد الطبيعية في نسق من العلاقات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى استباحة الجسد في الأنظمة السياسية السلطوية:
الشكل رقم (5) يوضح النموذج المفاهيمي والإحصائي للدراسة
المصدر: من إعداد الباحث، باستعمال برنامج “بروسيس” (Process)
من خلال النموذج المعتمد، برزت أربعة متغيرات تأكد ضلوعها المباشر وغير المباشر في التأثير على تصعيد الرعب السياسي ضد الجسد. ويُظهر تحليل المسار أن نسبة الموارد الطبيعية تضطلع بدور المتغير المستقل البعيد الذي يمارس تأثيرًا غير مباشر على النزوع نحو استباحة الجسد العاري. ويمر هذا التأثير عبر الاستحواذ على الموارد ودرجة انقسام النخب التي تؤثر بدورها إيجابيًّا في تكريس السلطوية الأوتوقراطية والتي تسهم في رفع منسوب العنف(68).
وبصرف النظر عن جزئيات النموذج، فإن ما يثير الانتباه حقًّا في تحليل المسار هو مركزية طبيعة الاقتصاد السياسي في توتير العلاقة مع الرعايا، غير أن ذلك الدور يمر عبر وساطة أسلوب الحكم وطبيعة توزيع المنافع، مع ما يستتبع ذلك من انتشار مشاعر الاستياء السياسي لدى المحرومين؛ وهو ما يسهم في ارتفاع احتمال وقوع ممارسات القمع، خاصة في الأنظمة التي تجعل من السلطة السيادية منهجًا في التدبير السياسي للرعايا. إن محورية الموارد الطبيعية في النموذج النظري الذي تم التحقق من صلاحيته إحصائيًّا، لا ينفك يُذكِّر بالصواب النسبي للعبارة القدحية المتمثلة في “غائط الشيطان”، وهي العبارة التي أطلقها مؤسس الأوبك، خوان بابلو بيريز ألفونسو (Juan Pablo Pérez Alfonzo)، على الانعكاسات السلبية للزيوت الطاقية(69).
ثمة لغز محير في العلاقة المشؤومة بين الموارد وممارسة الرعب السياسي. يتطلب ذلك تأويلًا قمينًا بتبديد الغموض الذي لا يزال يكتنف النموذج المفاهيمي-الإحصائي للدراسة؛ فمن المؤكد أن وراء الطابع السادي والارتيابي للسلطة ونزوعها نحو العنف، نمط من العَقْلَنَة يستوجب ضربًا من التخمين والتفسير. ومما لا شك فيه أيضًا أن القائمين على الأمور يتصرفون مع الرعايا وفق تكتيك حسابي مبني على تقدير الخسائر والفوائد التي ستنتج عن ممارسة القمع واقتطاع الحياة. ففي المجتمعات التي يقوم فيها اقتطاع الموارد على المساهمات الضريبية للرعايا، يميل القمع السياسي إلى الانخفاض، لأن بقاء الائتلاف الحاكم يتطلب نوعًا من التوفيق بين ضمان احترام النظام العام والحفاظ على حياة الرعايا الضرورية لإعادة إنتاج الاقتصاد السياسي للدولة(70). وبالمقابل، يميل النظام السياسي الدائب على استثمار الموارد الطبيعية والاستحواذ عليها إلى ممارسة الرعب السياسي لسببين رئيسين: يتجلى الأول في عدم ارتباط الائتلاف الحاكم بالمداخيل الضريبية والأنشطة الإنتاجية للمواطنين. أما السبب الثاني فيتجسد في كون الخسائر التي تعقب فقدان المناصب السيادية، عن طريق العنف أو الثورة، في منظومة اقتصاد الريع أفدح بكثير من خسارة موقع سيادي في نسق الاقتصاد الضريبي(71).
وينسجم هذا الطرح مع فحوى فكرة صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) الذي يرى في تراكم أرباح الزيوت الطاقية دعامة رئيسية للقوة البيروقراطية للدولة. فعائدات مداخيل الموارد الطبيعية تجعل الدولة السلطوية في غنى عن المساهمات الضريبية لمواطنيها(72). وكلما أصبحت الدولة مصدِّرة للموارد الطبيعية المدرَّة للريوع، زادت فرص استعمال تلك العوائد في تأبيد السيطرة السلطوية(73)، مع ما يرافق ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان. وتقود هذه المواقف المعرفية إلى سؤال النضوب المرتقب للموارد الطبيعية ونوع الآثار التي قد يخلِّفها ذلك على علاقة الحاكمين بالمحكومين في البلدان العربية.
خلاصــة
تحمل هذه الدراسة نقدًا علميًّا مباشرًا للموارد الطبيعية كبوتقة للسلطوية السيادية وممارسة القمع واقتطاع الحياة، خاصة في الدول التي تستعمل تلك الثروات في خدمة أهداف تتعارض مع تنمية الإنسان وتطلعاته الديمقراطية والبيوسياسية. كما أنها تحمل تأكيدًا للاتجاه الذي تسير فيه الدراسات الدولية التي تعالج الروابط بين الاقتصاد والعلاقة السياسية بالجسد في الأنظمة المختلفة للاجتماع السياسي. ولكن مع ذلك، لا يشكِّل هذا البحث المتواضع، بيانًا دعائيًّا ضد أية دولة أو دول معينة أو حتى جغرافيا ثقافية بعينها. فضمان الحق في الكلام للمعطيات التي تنبثق من الواقع، في مسألة اقتطاع الحياة في علاقتها باقتصاد الريع، قد حدَّد وجهة الباحث وجنَّب البحث من السقوط في الأحكام التي تفتقر للمعطيات. وعليه، فإن جعل البحث الدول ذات الاقتصاد “الطبيعي” في مرمى التحليل النقدي المبني على البيانات لا ينبني على خلفيات سياسية أو أيديولوجية، سوى تلك المسبقات النظرية التي تستقي ماهيتها من الفلسفة السياسية المعاصرة وعلم السياسة ذي النفحة الأنجلوسكسونية بروافده الاقتصادية والثقافية والنفسانية.
وحيث إن جودة الدراسة ونموذجها المفاهيمي والإحصائي، إنما يرتبط بالدرجة الأولى بمدى التوفيق في اختيار المسبقات النظرية والمتغيرات التي تعبِّر عن تلك المسبقات، وأن العلاقة بين العناصر المفهومية والعوامل الإجرائية هي علاقة احتمالية في طبيعتها، فلا مناص من وجود نقائص عدة تعتري هذه الدراسة. ولا غرو أن معقولية النتائج المحصل عليها ومصداقيتها ترتبط أيضًا بجودة المعطيات والبيانات التي تم اعتمادها للتحقق من الفرضية الرئيسية للدراسة. وبالنظر إلى ضخامة هذه المعطيات وعدم قدرة الباحث وحده على بناء بيانات خاصة مماثلة، فإنه يكون مضطرًّا، مثله في ذلك مثل مختلف الباحثين في أنحاء العالم، للاعتماد على ما أعدَّه باحثون آخرون ومؤسسات جامعية غربية.
تلعب هذه الاعتبارات دورًا لا يستهان به في تفسير محدودية النتائج التي توصلت إليها الدراسة. فبالرغم من كون العلاقات الإحصائية المدرجة في النموذج دالة، إلا أن معاملات الانحدار ليست قوية بما فيه الكفاية. ويعني ذلك أن البحث يحتاج إلى التحقق من وجود متغيرات مستقلة ووسيطة أخرى من شأنها تحسين مقدرات النموذج الإحصائي. فالمتغير المستقل يظل عامًّا ونحتاج في الواقع إلى التمييز بين طبيعة التأثير الذي تمارسه الموارد المعدنية من جهة والموارد الطاقية من جهة أخرى. كما نحتاج كذلك إلى الأخذ بعين الاعتبار أثر العوائد الناتجة عن تصدير هذه الموارد كل صنف على حدة، على مستوى النزوع نحو اقتطاع الحياة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن تأثير التوجه السلطوي الأوتوقراطي على منسوب الرعب السياسي، ليس تأثيرًا مباشرًا فقط، ولكن من المتوقع أيضًا أن يمر مفعوله عبر متغيرات سياسية وثقافية أخرى كمنظومة القيم السائدة في الجسد الاجتماعي؛ وهو ما يعني أن النموذج الإحصائي للدراسة تعتريه بعض النقائص التي تكشف عن المسارات المستقبلية للبحث في الاقتصاد السياسي للسلطوية.
المراجع
(1) Negley K. Teeters, The Cradle of the Penitentiary: The Walnut Street Jail at Philadelphia (Philadelphia: Sponsored by the Prison Society, 1955), 30.
(2) Michel Foucault, Surveiller et Punir, la Naissance de la Prison (Paris: Gallimard, 1975).
(3) Ibid, 15.
(4) René Girard, Le bouc émissaire (Paris: Grasset, 1982).
(5) Ernst Kantorowicz, The King’s Two Bodies: Study in Medieval Political Theology (Princeton and Oxford: Princeton University Press, 2016), 193-271.
(6) يوسف زيدان، اللاهوت العربي وأصول العنف الديني، (القاهرة، دار الشروق، 2009)، ص 170.
(7) محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي: محاولة تأصيل فقهي وتاريخي، ط 2 (بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1999)، ص 30-87.
(8) بن أحمد حوكا، “عدالة الملك: في الأسس الفلسفية والقانونية لممارسة العنف المشروع”، مجلة وجهة نظر (الدار البيضاء، عدد مزدوج 44-45، 2010)، ص 3-6.
(9) Michel Foucault, Il faut Défendre la Société (Paris: Gallimard, Seuil, 1997), 213-244.
(10) Frédéric Gross, “Y a-t-il un Sujet Biopolitique?,” Nóema 9 (3), (2013): 31-42.
(11) منصور أولسون، السلطة والرخاء: نحو تجاوز الديكتاتوريتين الشيوعية والرأسمالية، ترجمة ماجدة بركة، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003)، ص 49-87.
(12) بن أحمد حوكا، “حين تكف السلطة عن القتل لتراقب الحياة: أنثروبولوجيا الوقائع البيولوجية في نظام الحالة المدنية”، مجلة وجهة نظر (الدار البيضاء، عدد 38، 2008)، ص 61 -64.
(13) ميشال فوكو، تاريخ الجنسانية: إرادة العرفان، ترجمة محمد هشام، (الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2013)، ص 119.
(14) Giorgio Agamben, L’homo Sacer: Le Pouvoir Souverain et la Vie Nue, Trans. Marilène Raiola (Paris: Seuil, 1997), 81-95.
(15) Ibid, 93.
(16) Ibid, 94.
(17) Giorgio Agamben, La Guerre Civile : Pour une Théorie Politique de la Stasis, Trans. Joël Gayraud (Paris: Points, 2015), 33- 72.
(18) Emmanuel Renault, “Reconnaissance, Lutte, Domination : Le Modèle Hégélien,” Politique et Sociétés 28, (3), (2009): 23–43.
(19) Tatu Vanhanen, Prospects of Democracy: A Study of 172 Countries (London: Routledge, 1997).
(20) Tatu Vanhanen, Democratization: A Comparative Analysis of 170 Countries (London: Routledge, 2003), 27-28.
(21) Tatu Vanhanen, The Process of Democratization: A Comparative Study of 147 States, 1980–88 (New York: Crane Russak, 1990), 50.
(22) Vanhanen, Democratization: A Comparative Analysis of 170 Countries, 28.
(23) دوغلاس نورث وآخرون، في ظل العنف: السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ترجمة كمال المصري، (الكويت، منشورات عالم المعرفة، 2014)، ص 29.
(24) North C. Douglass et al., Violence and Social Orders: A Conceptual Framework for Interpreting Recorded Human History (New York: Cambridge University Press, 2009), 20.
(25) Steven Pinker, The Better Angels of Our Nature (New York: Viking Press, 2011), 684-688.
(26) Ronald F. Inglehart et al., “Declining Willingness to Fight for One’s Country: The Individual-Level Basis of the Long Peace,” Journal of Peace Research 52(4), (2015): 418–34.
(27) Ronald F. Inglehart & Christian Welzel, Modernization, Cultural Change, and Democracy (New York: Cambridge University Press, 2005), 248.
(28) يعود مشروع البحث حول الرعب السياسي إلى مجهودات الباحث مايكل ستول(Michael Stohl) وطلبته بجامعة بيردو بالولايات المتحدة في بداية ثمانينات القرن الماضي. وقد كان الهدف من المشروع هو التحقق من كون المساعدات الخارجية الأميركية تُمنَح لأنظمة سياسية تضرب بحقوق الإنسان عرض الحائط، وهو ما يشكِّل مخالفة من طرف السلطات الأميركية للقوانين الفيدرالية. وقد شمل البحث في البداية 59 دولة، ثم ما لبث أن توسع لتغطية عدد كبير من دول العالم. وقد تولى مارك جيبني (Mark Gibney)، الباحث بجامعة كارولينا الشمالية بالولايات المتحدة الأميركية، قيادة المشروع الذي يغطي أكثر من 160 دولة إلى حدود اليوم.
(29) Mark Gibney et al., “The Political Terror Scale 1976-2016. Date Retrieved, from the Political Terror Scale,” politicalterrorscale, 2017. “accessed March 30, 2019”. shorturl.at/elCNQ.
(30) Vanhanen, Democratization: A Comparative Analysis of 170 Countries, 89.
(31) حول طريقة حساب هذا المتغير في الأدبيات الاقتصادية الجديدة، راجع:
Jutta Bolt et al., “Rebasing ‘Maddison’: new income comparisons and the shape of long-run economic development,” (University of Groningen, 2018), “accessed March 14, 2019”. shorturl.at/suGMX.
(32) لمعرفة كيفية حساب هذا المؤشر المركب، راجع:
The World Bank, “The Changing Wealth of Nations: Measuring Sustainable Development in the New Millennium,” The International Bank for Reconstruction and Development, Washington, 2011.
(33) Bruce Bueno de Mesquita et al., The Logic of Political Survival (Massachusetts Institute of Technology, 2003).
(34) Amy C. Alexander et al., “Measuring Effective Democracy: A Defense,” World Values Research 4 (1), (2011): 1-40.
(35) Douglass et al, Violence and Social Orders, op. cit.
(36) Jack A. Goldstone, Revolution and Rebellion in the Early Modern World. Berkeley: (New York: University of California Press, 25th Anniversary Ed. Revised. New York: Routledge, 1991/2016).
(37) Nate Haken, et al., “Failed states index 2006-2018,” The Fund for Peace, (2018), “accessed March 25, 2019”. shorturl.at/BVWY0.
(38) Haroon A. Khan, The Idea of Good Governance and the Politics of the Global South: An Analysis of its Effects, (Routledge Studies in Governance and Public Policy, Routledge, 2015), 54.
(39) Jan Teorell et al., “The Quality of Government Standard Dataset,” January 2019, University of Gothenburg: The Quality of Government Institute, “accessed March 25, 2019”. shorturl.at/dfpVY.
(40) Ronald Inglehart, “Modernization, Existential Security, and Cultural Change: Reshaping Human Motivations and Society,” In Michele Gelfand et al., eds., Handbook of Advances in Culture and Psychology, (Oxford University Press, 2018).
(41) جان جاك روسو، كتابات سياسية، ترجمة عبد السلام الشدادي، (الرباط، منشورات مركز الأزمنة الحديثة، 2013)، ج 1، ص 207-208.
(42) سلافوي جيجيك، العنف: تأملات في وجوهه الستة، ترجمة فاضل جنكر، ط 1 (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، ص 159.
(43) Daniel Field, Rebels in the name of the Tsar (Boston: Unwin Hyman, 1989), 208-214.
(44) Honoré de Balzac, Les Paysans (Paris: Alexandre Houssiaux, 1855), 413.
(45) Pierre Bourdieu, Jean-Claude Passeron, La Reproduction. Éléments pour une Théorie du Système d’enseignement, (Paris: Minuit, 1971).
(46) جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم، ترجمة إبراهيم العريس ومخايل خوري، (بيروت، دار الساقي، 1995)، ص 95-102.
(47) Sigmund Freud, Psychologie Collective et Analyse du Moi, (Paris: Payot et Rivages, 2012), 95.
(48) سكوت، المقاومة بالحيلة، مرجع سابق، ص 68-94.
(49) راجع تقرير منظمة العفو الدولية:
“Saudi Arabia’s ‘year of shame’: Crackdown on critics and rights’ activists continues,” Amnesty, May 14, 2019, “accessed April 25, 2019”. shorturl.at/npYZ4.
(50) راجع على سبيل المثال، تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش”:
“Egypt of Events 2018”, hrw, 2019, “accessed April 25, 2019”. shorturl.at/mMR24.
(51) جيمس سكوت، المقاومة بالحيلة، مرجع سابق، ص 241.
(52) David Cumin, “Freud et la guerre,” Philosophiques 35(2), (2008): 393-418.
(53) كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2009)، ص 595-621.
(54) Markus Kemmelmeier et al., “Individualism, collectivism, and authoritarianism in seven societies,” Journal of Cross-Cultural Psychology 34, (2003): 304-322.
(55) فريدريك نيتشه، إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب العقول الحرة، ترجمة محمد الناجي، ط 2 (الدار البيضاء، إفريقيا الشرق، 2010)، ج 1، ص 161.
(56) فيليب هانسن، حنَّة أرندت، السياسة والتاريخ والمواطنة، ترجمة خالد عايد أبو هديب، ط 1 (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 92-94.
(57) مصطفى صفوان، الكلام أو الموت: اللغة بما هي نظام اجتماعي: دراسة تحليلية نفسية، ترجمة مصطفى حجازي، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008)، ص 87-115.
(58) Ronald Inglehart, Wayne E. Baker, “Modernization, Cultural Change, and the Persistence of Traditional Values,” (American Sociological Review, 65 (1), (2000): 19-51.
(59) مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 2005)، ص 127-161.
(60) مصطفى صفوان، لماذا العرب ليسوا أحرارًا؟، ترجمة مصطفى حجازي، ط 1 (بيروت، دار الساقي، 2012)، ص 34.
(61) المرجع السابق، ص 35.
(62) Michael Ross, Paasha Mahdavi, “Oil and gas data, 1932-2014,” (Harvard Dataverse, 2015), “accessed April 25, 2019”. http://dx.doi.org/10.7910/DVN/ZTPW0Y.
(63) Michael Ross, “What Have We Learned about the Resource Curse?,” Annual Review of Political Science 18 (1), (2015): 239–59.
(64) Ibid.
(65) Richard M. Auty, Sustaining Development in the Mineral Economies: The Resource Curse Thesis (London: Routledge, 1993).
(66) Maurice Godelier, The Mental and the Material, Thought Economy and Society, Trans. Martin Thom (London: Verso, 1986), 27-70.
(67) Bruce Bueno de Mesquita, A lastair Smith “Leader Survival, Revolutions, and the Nature of Government Finance,” American Journal of Political Science 54 (4), (2010): 936–50.
(68) Christian Davenport, “State repression and political order”, Annual Review of Political Science 10, (2007): 1–23.
(69) Terry Lynn Karl, The Paradox of Plenty: Oil Booms and Petro-States (Berkeley, CA: University of California Press, 1997), 4.
(70) Jacqueline H.R DeMeritt, Joseph K. Young, “A political Economy of Human Rights: Oil, Natural Gaz, and State Incentives to Repress,” Conflict Management and Peace Science 30(2), (2013): 99-102.
(71) Georgy Egorov et al., “Why resource-poor dictators allow freer media,” American Political Science Review 103(4), (2009): 645–668.
(72) Samuel P. Huntington, The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century (University of Oklahoma Press, 1991), 65.
(73) Wilson Prichard, et al., Taxation, non-tax revenue and democracy: new evidence using new cross country data. Int. Cent. Tax Dev. Work. Pap. no. 23, (2014).