ملخص: تحاول الدراسة تشريح محددات الحراك الشعبي الجزائري كفعل احتجاجي مجتمعي؛ وُلِد في سياق من التأزيم جرَّاء سلسلة من التجارب الدامية التي تتخبَّط فيها عدة مجتمعات عربية، للوقوف حول إمكانية أن يتحوَّل هذا الحراك إلى نسخة منقَّحة لثورات الربيع العربي باستثمار الدروس القاسية التي تمخَّضت عن مسارها. ومن هذا المنطلق، تبحث الدراسة طبيعة الحراك وأدواته والأسباب التي أسهمت في إنشائه وطبيعة تعامل السلطة مع مطالبه وتمثُّلاته.

     كلمات مفتاحية: الحراك الشعبي، السلطة، الحراك الاحتجاجي، الثورة، الربيع العربي، التغيير.

Abstract: This study attempts to dissect the factors defining the Algerian popular movement as a societal protest action that emerged from a deadlock due to a series of bloody experiences in which several Arab societies are mired. While considering the possibility of the transformation of this movement into a revised version of the Arab revolutions and drawing the harsh lessons that have resulted from this process, the study explores the nature of the movement, its tools and the reasons that contributed to its rise as well as the nature of the regime’s reception of its demands and representations.

Keywords: Popular Movement, Authority, Protest Movement, Revolution, Arab Spring, Change.

 

مقدمة

عند محاولة دراسة الحراك الشعبي الجزائري يجد الباحث المراقب نفسه أمام معضلة تكييف هذا الحراك، فهل نحن أمام فعل ثوري؟ أم حركة اجتماعية في طور التشكُّل؟ أم مجرد هبَّة عفوية سرعان ما تنطفئ؟ أم نحن أمام تشكُّل ظاهرة احتجاجية بخصوصية تُميِّزها عن القوالب التي صاغتها مختلف النظريات والإسهامات السوسيولوجية التي اهتمت بدراسة الحراك المجتمعي؟

هذا ما يضطر الباحث منهجيًّا إلى محاولة تقعيد الموضوع وافتكاكه من الأفكار المسبقة والقراءات الجاهزة، وذلك عن طريق مراعاة التطورات والتغييرات الحاصلة في المجتمع، والتي تستطيع توسيع الحقل السوسيولوجي ليصبح قادرًا على استيعاب تجارب المجتمعات وتحقيق القطيعة مع الدراسات التي تُسقط نتائج أبحاث حول مجتمعات لها خصوصياتها، مثل المجتمعات الغربية، على مجتمعات أخرى، تختلف عنها على مستوى عناصر تكوين الفعل الاحتجاجي. فلا يمكن بالضرورة إسقاط نتائج حراك المجتمعات الغربية، مثل الثورات الفرنسية والأميركية والبلشفية، على الحراك الاحتجاجي الذي تعيشه بعض المجتمعات في سياقات مختلفة.

من هنا، تفترض الدراسة أننا أمام مشهد مغاير، قائم على استجماع واستقراء مختلف التجارب المتشابهة، وعلى رأسها ثورات الربيع العربي، ولكنه غير قادر على التخلُّص من العوائق التي تمنع نجاح التجربة باتجاه إنتاج نموذج مُنَقَّح لتلك الثورات، إلا أنه يطرح أداء مختلفًا نسبيًّا، قد يُنتج واقعًا أفضل دون الارتقاء إلى مستوى إنتاج نموذج جذَّاب لسائر المجتمعات المقهورة أو ينحدر لمستوى إنتاج نموذج رادع آخر.

وبناء على ذلك، تحاول الدراسة مناقشة التساؤلات الآتية:

– ما أهم العوامل التي أدت إلى اندلاع الحراك الشعبي؟

– ولماذا انخرطت شرائح واسعة من كافة مناطق القُطر الجزائري بسرعة قياسية في موجة الاحتجاج، مُتَجَاوِزَة كل التقسيمات التحتية الجهوية والعرقية والفئوية؟

– هل نحن أمام مشهد إعادة استنساخ تجارب ثورات الربيع العربي أم تجربة منقَّحة تحاول تأطير انفجار آخر للواقع العربي بشكل مختلف؟

– ما مستقبل هذا الحراك؟ وهل يستطيع تجاوز استراتيجيات السلطة للاحتواء في ظل تعقيدات جائحة كورونا؟

وفي سياق هذا الحقل الاستفهامي المُؤَسِّس للمشكلة البحثية وأبعادها تنطلق الدراسة من الفرضيات الآتية:

– فشل سياسات السلطة التنموية أكسب الحراك الشعبي شرعية الاعتراض والمطالبة بالتغيير الجذري.

– النماذج الرادعة لثورات الربيع العربي أسهمت في عَقْلَنَة الحراك الشعبي الجزائري لتجنُّب الصدام الأمني مع السلطة.

– استحواذ السلطة على أدوات التغيير المؤسساتية، جعل الحراك الشعبي عاجزًا عن التطور من كتلة اعتراض عفوية تعتمد خطابًا ثوريًّا إلى حركة اجتماعية تعتمد خطابًا إصلاحيًّا.

 

  1. اعتبارات منهجية ونظرية

تستند الدراسة في فهم وتفسير وتحليل الحالة الاحتجاجية في الجزائر إلى نسق مفاهيمي ونظري يستعين بقراءات الموروث النظري السوسيولوجي للحراك الاحتجاجي مع مراعاة السيرورة التاريخية للحركات الاجتماعية والفعل الاحتجاجي التي ارتبطت بتطور المجتمعات، لاسيما في الواقع العربي.

أ- التعريفات الإجرائية

– الحراك الشعبي: يستند توظيف الباحث لهذا المصطلح إلى طبيعة الحراك في حد ذاته، فهو لا يرتقي في اعتراضه وأشكال تعبيره إلى مستوى ثورة، كما أنه غير مُنَظَّم بشكل يسمح بأن نعتبره حركة اجتماعية منظمة واضحة المطالب والأهداف. ومن هنا، تمظهر الحراك في شكل هبَّة شعبية ممتدة جغرافيًّا ومجتمعيًّا تطالب بالتغيير في سياق قابل لكل التحولات؛ مفتوح على كل الاحتمالات، وهو كتلة من التعبير عن التذمر والاعتراض أقرب للسلوك الجماعي التنفيسي منه للعمل الجمعي المؤسساتي.

– النسخة المنقحة: اصطلاح النسخة المنقَّحة ارتبط بالمقارنة بتجارب ما سُمِّي بثورات الربيع العربي، وتم اعتماد مصطلح النسخة المنقَّحة للتدليل على ارتباط سيرورة الحراك بشكل مستمر بتجارب محاولات تحرر المجتمعات العربية من حيث الأهداف والوسائل والمسارات، طالما أن الهدف الذي ارتسم للحراك الشعبي منذ الوهلة الأولى هو محاولة الاجتهاد في تفادي الوصول إلى النتائج الرادعة التي أفضت إليها غالبية تلك الثورات. ومن هنا، كان لزامًا التنبيه للعلاقة القائمة بين مختلف التجارب والسعي الحثيث من قبل الحراك الشعبي لإنتاج واقع أفضل ونتائج أحسن بتكلفة أقل وذلك بتفعيل المقارنة الدائمة ولو على مستوى نخب الحراك.

ب– الاستثمار في الموروث السوسيولوجي القائم لتحديد طبيعة الحراك

لقد ارتبط تطور الحركات الاجتماعية بتطور نمط تنظيم المجتمعات وفقًا لما اسْتُحْدِث من آليات لإدارة الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية بمستويات متفاوتة، بحسب درجة تطور كل مجتمع، إلا أن هذا التحديث ترك بصماته على الحراك الاجتماعي الاحتجاجي، وأدى إلى زيادة حجم الحركات الاجتماعية، كما أسَّس للحراك الاحتجاجي الفئوي تماشيًا مع زيادة تقسيم العمل وتوجُّه المجتمعات نحو مزيد من التخصُّص في كافة نشاطات الحياة.

لذلك، لا يمكن توصيف الحراك الاحتجاجي والمطلبي دون مراعاة السيرورة التاريخية للحركات الاجتماعية والفعل الاحتجاجي التي ارتبطت بتطور المجتمعات، فكلما كان المجتمع أكثر حداثة اتضحت معالم الحركات الاجتماعية بصورة أوضح؛ فبعد أن تمثَّلت في مجموعة من الأشكال الاحتجاجية بما فيها الثورات، أصبحت في العقود الأخيرة تتشكَّل في صورة جديدة وأشكال معترف بها ومتعارف عليها، رغم التطور الهائل الذي تشهده باستمرار وخاصة جرَّاء التطور التكنولوجي الكبير.

لكن غالبية التراث السوسيولوجي حول الحركات الاحتجاجية ينطلق من استقراء واقع المجتمعات الغربية، سواء ما تعلَّق بالدراسات التي اعتمدت على الماكروسوسيولوجيا أو الميكروسوسيولوجيا، لهذا عندما نحاول الاستعانة بهذا التراث النظري نصطدم بحقيقة أن مجتمعاتنا العربية ليست منظمة بالشكل الذي يسمح بإسقاط تلك النظريات عليها بدون أن نأخذ بعين الاعتبار خصوصياتها؛ لأنها لم تخضع لنفس السيرورة والتطور. فإذا كانت الدراسات السوسيولوجية لم تعد تهتم بالثورات الشعبية والانتفاضات العارمة، فهذا راجع إلى أن مجتمعاتها قد وصلت درجةً من الديمقراطية لم يعد هناك معنى لحدوثها، وباتت تهتم فقط بالحركات الاجتماعية في مجتمعات منظَّمة تعمل على تصحيح الاختلالات وتنبيه الأنظمة بالضغط الناعم للتكيُّف مع التحولات الفئوية والمجتمعية الطارئة على المجتمع. أما مجتمعاتنا فلا تزال تعاني من الاستبداد والتعطيل وغياب التَّمْثِيل، مما يجعلها في حاجة لاحتجاج بمواصفات لا ترقى لمستوى الحركات الاجتماعية ولا تنحدر لمستوى الثورات التقليدية، لذلك فإن حجم التطور الحاصل في مجتمعاتنا يتطلب إنتاج حراك بمواصفات خاصة.

ورغم ذلك، نحتاج إلى الاستعانة بقراءات الموروث النظري السوسيولوجي للحراك الاحتجاجي لتفسير الحراك الشعبي الجزائري؛ لأنه يتقاطع في جزء من سيرورته وآلياته المعتمدة مع تجارب سابقة، ومن ثم نحتاج إلى العودة لإسهامات لورينز فون شتاين (Lorenz Von Stein)، وآراء رواد نظرية السلوك الجماعي وعلم النفس الاجتماعي، ابتداء من غبريال تارد (Gabriel Tarde) مرورًا بأشهر من روَّج لهذا التيار، غوستاف لوبون  (Gustave Le Bon)  وروبرت إزرا بارك (Robert E. Park)، ومدرسة شيكاغو التي أسهمت في نقد أفكار غوستاف لوبون بسبب مبالغته في تسفيه العقل الجمعي ونفي قدرته على التحوُّل إلى فعل استراتيجي عقلاني، وقد برزت في هذا الشأن إسهامات هربرت بلومر (Herbert Blumer).

يساعدنا هذا الرصيد في فهم جزء مهم من الحراك الشعبي، الذي تشكَّل كَوَثْبَة نفسية عاطفية انتفضت على مرارة الوضع القائم، هذا من زاوية، ومن زاوية أخرى استثمار الحراك الشعبي في كل الوسائل المتاحة بفضل التطور التكنولوجي والتنظيمي والاقتصادي يجعلنا في حاجة للاستعانة بتفسيرات نظرية تعبئة الموارد التي تعزو تطور الحركات لما تمتلكه من موارد جديدة قادرة على تحقيق التعبئة التي تنقلها إلى مستويات أعقد وأحدث من التدافع والاعتراض، ولعل استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وأحدث التقنيات التكنولوجية وسهولة التواصل مع الجالية الجزائرية في كل بقاع العالم، يصبغ الطابع النوعي للحراك الشعبي مقارنة بالتجارب السابقة. ومن هنا، نجد في تيار تعبئة الموارد الجزء الآخر من التفسيرات التي نستعين بها، لاسيما الموروث السوسيولوجي لكل من جون مكارثي (John McCarthy) وماير زالد (Mayer Zald) وأنطوني أوبرشال (Anthony Obershall)، وبالأخص شارل تيلي (Charles Tilly) الذي يتوافق الكثير من تحليلاته مع ما يحدث في الجزائر(1).

ويمكن الاستعانة أيضًا بنظرية الحركات الاجتماعية الجديدة؛ لأنها تؤسِّس لتجاوز الحدود الجغرافية للدولة القُطرية، وترفع الانشغالات إلى مستوى من الشراكة العالمية تتجاوز الحدود العرقية والجغرافية والطبقية، وقد برزت ظاهرة الدفاع عن الحقوق المدنية في قلب الحراك، فلم يعد التضييق على الرأي مسألة داخلية بل باتت محلَّ تنديد وانتقاد من قبل العديد من التنظيمات العابرة للقارات، كما نستطيع الاستعانة بإسهامات علماء اجتماع اهتموا بدراسة السلوك الجماعي والحركات الاجتماعية عمومًا مثل آلان تورين (Alain Tourain) وبيير بورديو (Pierre Bourdieu).

وقد نجد أنفسنا في الأخير باتجاه اعتماد مقاربة جديدة تجمع بين خصائص من غالبية مختلف النظريات المفسِّرة لهذا النوع من الظواهر، ونخص بالذكر نظرية “براديغم الفعل والهوية”؛ لأنها تلتقي مع النظريات السابقة في إشكالية ارتباط الحركات الاجتماعية بالتغيُّر كظاهرة طبيعية تستلزم تطورها الدائم والمتواصل بوتيرة متباينة حسب خصوصيات المجتمعات. و”تَعْتَبِرُ هذه النظريةُ الحركاتِ الاجتماعيةَ ديناميات اجتماعية، حائلة دون الركود أو الثبات الاجتماعي، فهي أفعال احتجاجية تروم التغيير ومقاومة جميع إمكانيات التكريس وإعادة إنتاج القائم من الأوضاع، وهو ما يجعل منها ممارسة ضد الهيمنة، فأنصار هذه النظرية يؤكدون أن المجتمعات البشرية سائرة على درب الانتقال من الشكل القديم للرأسمالية الصناعية إلى مجتمع مرحلة ما بعد التصنيع القائم على البرمجة؛ حيث يسيطر التكنوقراط وتتضامن عناصر الهيمنة والتوجيه، وعليه يلحُّ أنصار هذه النظرية على أن المجتمع المبرمج والموجه من جانب التكنوقراط يُبَخِّس دور الطبقة العاملة ويحدُّ من فعاليتها في صناعة التغيير، لهذا ينبغي وفقًا لهذا البراديغم النظري فهم الحركة الاجتماعية كفعل ضد الهيمنة من أجل تحصين الهوية”(2).

أما الباحث، فلن يأخذ من النظرية إلا فكرة التحوُّل الدائم وعدم ثبات الحركات سعيًا للتغيير وفقًا للتحولات القائمة، وهذا يعني الحاجة الملحَّة إلى نموذج تحليلي يتجاوز البناء النظري الثابت الذي لا يراعي التحولات، لذلك يشير مصطلح براديغم “إلى النموذج أو المخطط البصري، ولكن روبرت كينغ ميرتون (Robert K. Merton) استخدمه على نحو أرقى من ذلك، ليشير إلى محاولة عرض تصنيف بالغ الدقة لمجال من مجالات التحليل السوسيولوجية وينظر إلى الصيغة التحليلية كإطار يشتمل على المفاهيم والدعاوى والإجراءات والقضايا الكبرى والمشكلات المتصلة بمجال رئيسي للمدخل النظري في التحليل السوسيولوجي”(3).

  1. هل يمكن اعتبار الحراك الشعبي نموذجًا ثوريًّا؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تفرض نفسها قبل أي استرسال، وبالرجوع إلى التراكم المعرفي حول الثورات “تتلاقى التعريفات الشارحة لمفهوم الثورة في المدارس العلمية المختلفة على كلمة أساسية: (التغيير الجذري والشامل)، فالثورة بهذا المعنى هي التغيير الجذري والشامل للأوضاع السائدة، والاتجاه نحو إحلال أوضاع جديدة بدلًا منها تتجاوز الواقع إلى المأمول، وهو ما يطمح إليه الشعب، كما أنها تعني التحرك الشعبي أو الجماهيري لإسقاط النظام القائم، وتغييره بنظام آخر يتفق وأهدافه وطموحه في حالة جديدة تُحقِّق نقلة كبيرة في حياته الشاملة، بعبارة أخرى الثورة هي: حالة شعبية جماهيرية، وهي حالة لوضع جديد يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بمعنى آخر هي حالة شاملة وليست أحادية الجانب أو جزئية”(4).

وانطلاقًا من هذا التعريف المبسَّط للثورة لا نجد في مخرجات الحراك الشعبي ما يدعو لاعتباره حالة ثورية، ولسنا أيضًا أمام نموذج لثورة سلمية ترفض التعاطي مع النظام القائم، فقد تصل حركات احتجاجية درجة التمرد واستخدام اللاعنف والذي هو عبارة عن “القيام بانتفاضة شعبية سياسية ضد نظام حكم قمعي، باستخدام حملات واسعة من عدم التعاون والتحدي”(5)، وتُعَدُّ أساليب عدم التعاون من أهم آليات الحركات الاحتجاجية في المجتمعات المعاصرة، نظرًا لقدرتها على التعطيل وتحطيم سياسات الأنظمة السياسية محل الاحتجاج. وهذا ما لم يحدث في الحالة الجزائرية؛ لأن الحراك تشكَّل في مسيرات تُنَظَّم خلال عطلة نهاية الأسبوع كل يوم جمعة بالإضافة لمسيرات الطلبة يوم الثلاثاء، وما عدا ذلك استمر تعاطي المحتجين مع السلطة طوال أيام الأسبوع دون أي شكل من أشكال الاعتراض بالإضراب أو الاعتصام أو تعطيل النشاط الاقتصادي والمجتمعي، وكان الإضراب الوحيد الذي تم تنظيمه لدعم الحراك هو إضراب الطلبة في بعض الجامعات وانتهى بعد مدة بفشل وانكسار كبير لديناميكية الحراك بالجامعات، وحتى محاولات تنظيم إضراب عام وعصيان مدني فشلت في يومها الأول.

هذه السيرورة تضعنا أمام نموذج خاص يرفض رفع سقف الاعتراض، ولا يقبل بحلول السلطة، ويخوِّن التعاطي مع فكرة الإصلاح، وهذا ما يقودنا إلى تتبُّع مسار الحركات الاجتماعية لكي نستطيع تكييف طبيعة هذا النوع من الحراك، “والواقع أن بارك يرى أن إحدى المهمات الرئيسية لعلم الاجتماع تكمن في توضيح السيرورات التي بها (يتكوَّن المجتمع ويتكوَّن مجددًا)، بمعنى أنماط قائمة على التعاون. والحال أن هذه السيرورات تمر في رأي بارك بضرب من تعاقب الأدوار: إنها تبدأ بطور من الهياج الاجتماعي، وتتواصل بحركات للجموع البشرية “وتفضي إلى ضرب من التكيُّف أو إلى تحوُّل للمؤسسات”(6).

والحراك الشعبي في الجزائر يقترب مما ذهب إليه شارل تيلي الذي ركَّز نسبيًّا على الشق السياسي في مسار الحركات الاجتماعية؛ إذ يرى أن “حركة اجتماعية هي مجموعة لا تنقطع من التفاعلات بين حائزي السلطة وبين أشخاص يزعمون بنجاح أنهم يتكلمون لمصلحة مجموعة من الناس ينقصهم تمثيل رسمي”(7)، وهذا ما شكَّل أكبر معضلة في الحراك الشعبي، وهو إشكالية التمثيل السياسي للحراك في ظل عدم الاعتراف بشرعية السلطات ومصداقية الأطر السياسية والمجتمعية القائمة والمعتمدة، وفي نفس الوقت رفض التمثيل خشية المناورة والاختراق والاعتقال، وقد وجد الباحث في تشريح أنتوني غيدنز (Anthony Giddens) للحركات الاجتماعية ما هو أقرب لتفسير الحراك الشعبي؛ فهو يرى أن “الحركات الاجتماعية تنحو لتكون لها “دورة حياة” تشمل مراحل عدة، أولًا: هناك اختمار اجتماعي عندما يهيج الناس حول موضوع ما، لكن النشاط نحوه يظل مختلًّا وغير مركَّز، يتطور هذا إلى مرحلة إثارة شعبية تُعْرَف وتُفْهَم فيها مصادر عدم الرضا بوضوح أكثر. تنشأ، في المرحلة الثالثة، منظمات رسمية تُنَسِّق الحركة الصاعدة؛ الأمر الذي يجعل القيام بحملات أكثر فاعلية أمرًا ممكنًا. في الختام، تقع مَأْسَسَة الحركة وتُقْبَل كجزء من الحياة السياسية للمجتمع. بالطبع، تنجح بعض الحركات ولكن جزئيًّا فحسب، بينما تفشل أخرى بالكامل، يبقى بعضها لفترات طويلة جدًّا، لكن ينتهي تمامًا، بالنسبة إلى أخرى، تمويلُها أو الحماسة لها؛ الأمر الذي ينهي دورة حياتها”(8).

وهكذا، نحن أمام حراك يتحفظ الباحث على تصنيفه بحكم أنه لم يُفْضِ بعدُ إلى مآلاته، بل لا يزال يدفع باتجاه التأثير في الأحداث بكل المساحات والموارد المتاحة، وهو قابل للتحوُّل مستقبلًا إلى حركات اجتماعية تتأسَّس في أطر معتمدة لتتحوَّل إلى جزء من حركية التغيير والإصلاح أو الاندثار في صدام مع السلطة إذا ما أخذ شكلًا راديكاليًّا ومسارًا عنيفًا بعد ارتفاع منسوب الإحباط، كما أنه قد يتحوَّل إلى نموذج جديد أقرب للاستجابة لمحددات الواقع الجزائري بعد الأخذ بالحسبان مآلات ثورات الربيع العربي من السلطة القائمة أو تيار الاعتراض.

  1. البيئة المنتجة للحراك الشعبي

أولًا: السياق السياسي

إذا كان لابد أن نختار عنوانًا للأزمة التي عصفت بالشارع الجزائري، فلا مناص من أن تكون بعنوان سياسي؛ لأنها أزمة سياسية بامتياز، تسببت في تعطيل الشعور بالاندماج والمواطنة لدى غالبية الجزائريين، عندما عجز النظام عن بناء أطر وفضاءات وآليات جادة لممارسة الفعل السياسي لبناء دولة قوية، تستوعب كل التناقضات وتوزِّع الأدوار في المجتمع بالاستحقاق. فهذا دور المجتمع السياسي في الأنظمة الديمقراطية والذي يدعمه المجتمع المدني بالمشاركة والمراقبة، وتتوزع الأدوار بكون “المجتمع السياسي يتمثَّل في الأحزاب السياسية ونحوها من المؤسسات التي تنشط مباشرة في العمل السياسي، بينما يتوسَّع المجتمع المدني في أوجه نشاط لا تكون مسيَّسة خلافًا لما ينبغي، مثل متابعة أمور حقوق الإنسان والسهر على حقوق الضعفاء ورعايتهم والدفاع عن الحريات(9).

من هذا المنطلق، فإن أول تساؤل يتبادر إلى أذهان من لا يتابع الشأن الجزائري، هو: لماذا خرج ملايين الجزائريين إلى الشارع؟ ألم يكن من المفترض أن يعبِّروا عن هذا الرفض والتذمر من خلال الأطر السياسية والجمعوية والنقابية الممثِّلة لمختلف التيارات السياسية والفئات الاجتماعية والنخب؟

شكليًّا هناك أزيد من 70 حزبًا سياسيًّا(10) معتمدًا، وعشرات القنوات التليفزيونية المستقلة نسبيًّا، وبرلمان تعددي، ومجالس منتخبة تعددية محلية، وحوالي 100 ألف جمعية معتمدة(11). بمعنى آخر، ظاهريًّا، جميع الأطر متوفرة للتعبير عن انشغالات المواطن الجزائري، ولكن وظيفيًّا، هذه الأطر غير مفعَّلة وتفتقد للمصداقية لدى المواطن، مما دفعه إلى الخروج للشارع في لحظة استياء عامة.

فالنظام السياسي في الجزائر، أو لِنَقُل: السلطة، اختارت بعد تجربة الانفتاح الديمقراطي في التسعينات السير في اتجاه تعطيل الأطر وتمييع الفضاء السياسي، بعد ما استيقنت أن إعطاء فرصة الاختيار للناخب بكل حرية تعني إقصاء النخب الحاكمة بتصويت عقابي أو عقلاني نتيجة فشل السلطة على مرِّ السنين في بناء مؤسسات وبعث مشروع مجتمع وخلق تنمية، إلا أنها عوض تعطيل المسار الانتخابي والظهور بمظهر السلطة الديكتاتورية، فضَّلت التفنُّن في إنتاج المشهد السياسي التعدُّدي الشكلي، مع الاجتهاد في تعطيله وظيفيًّا بكل الطرق المتاحة، وعلى رأسها التزوير الناعم المسبق للمواعيد الانتخابية، بالاختيار المسبق للمرشحين قبل السماح لهم بالمشاركة، باستعمال القضاء وتوريط الإدارة في تعطيل اعتماد الملفات المطلوبة وتسخير المال الفاسد (الشكارة) لشراء الذمم، وإغراق الفضاء السياسي بجيش من الانتهازيين لثني المواطن عن المشاركة السياسية.

كل ذلك أدى إلى تفريغ كم هائل من الشك والتردد والتخوين والإلهاء السياسي…إلخ، وتحوَّل الفضاء السياسي رغم كل ما يزخر به من أطر إلى فضاء مميَّع شكلي صوري، يدفع البعض إلى الابتعاد عنه ومقاطعة المواعيد السياسية خاصة الانتخابية منها، ولأن الإدارة، ذراع السلطة الفاعلة سياسيًّا واجتماعيًّا، تضمن خروج النتائج على النحو الذي تريده، وقد تأكَّد ذلك عن طريق اعتراف مسؤولين فيما بعد باعتماد نظام الكوتة (الحصص)، الذي كانت تُشرف عليه السلطة فتصنع النتائج وتحدِّدها قبل إجراء الموعد الانتخابي، وتوزِّع المقاعد حسب الخدمات المقدَّمة من طرف الأحزاب السياسية المشاركة في ديمقراطية الواجهة، وبالتالي، تعطَّلت مبدئيًّا أهم أداة تمنع إمكانية لجوء المواطن الجزائري للشارع للتعبير عن انشغالاته السياسية كخيار وحيد.

وهذا التمييع للفضاء السياسي جاء تحت عناوين متعددة، منها:

– تراجع مصداقية وأداء المجالس المنتخبة لصالح سطوة الإدارة المركزية، بعدما باتت المجالس المنتخبة غير قادرة على التأثير في الواقع واقتصر دورها على تزكية مشاريع السلطة، فتحوَّلت إلى موضع سخرية واستهزاء.

– انتشار الخطاب السياسي الاستفزازي والتهريجي على مستوى النخب السياسية الحاكمة ورؤساء أحزاب التحالف الحاكم، ليزيدوا من تعميق الاغتراب السياسي للأفراد، ومن استقالتهم السياسية والاجتماعية مع انتشار السخرية السياسية وجلد الذات الفردية والجماعية، كمؤشر عن عجز المواطن.

– غياب الرئيس منذ سنة 2012 وعدم مخاطبته لشعبه وتعطيل مجلس الوزراء والنشاط الدبلوماسي.

– سطوة المال السياسي الفاسد في المواعيد الانتخابية، واكتساح رجال المال الفاسد بالدرجة الأولى المجالس المنتخبة وجزء من مراكز القرار، ومنها فرض الولاة المعينين لتوسيع نهبهم للمال العام.

– سوداوية صورة الفضاء السياسي الجزائري بالخارج؛ حيث صارت الجزائر مُهانة دوليًّا ومجتمعيًّا، بلد المليون ونصف المليون شهيد الذي تحوَّل إلى البلد الذي يحكمه الرئيس المريض، والذي حطَّم كل الأرقام القياسية بالتوجُّه نحو الترشح لعهدة خامسة وهو غير قادر على قضاء حاجياته الخاصة.

ثانيًا: السياق الاقتصادي

كان الجميع يعلم، سُلطة وشعبًا، أن الجزائر لا تملك منظومة اقتصادية حقيقية، وإنما هي عملية توزيع انتقائية للريع الناتج عن تصدير المحروقات، وقد خَبِر الجزائريون خطورة التبعية للمحروقات في الثمانينات من القرن الماضي، عندما انخفضت أسعار المحروقات بشكل كبير، فدفع الجزائريون ثمن ذلك باهظًا؛ حيث انتهت الأمور بحرب أهلية راح ضحيتها أزيد من 200 ألف قتيل. فقد دفعت الأزمة الاقتصادية الجزائريين إلى انتفاضة 5 أكتوبر/تشرين الأول 1988؛ الأمر الذي حمل النظام -كتعويض عن الفشل الاقتصادي- على إقرار التعددية التي لم يحترم مخرجاتها لتعيش الجزائر حربًا أهلية بعد توقيف المسار الانتخابي.

ولا يخفى اليوم أن اقتصاد الجزائر هش ويعتمد بنسبة 98% على مداخيل المحروقات، ومن ثم فأي انخفاض لهذه المداخيل يعني انهيار القدرة الشرائية للمواطن الجزائري، وهذا ما حدث ابتداء من سنة 2014، فبعد مرور سنة فقط، بدأت السلطة تتحدث عن خطورة الأزمة، وأن الجزائريين -بعد أشهر، وفي أقصى تقدير سنوات- لن يجدوا ما ينفقونه، بل وصل الأمر بالوزير الأول، أحمد أويحيى، الذي صرَّح بلغة الشارع بأن “الموس (أي السكين) وصل للعظم”، وأنه في الأشهر المقبلة لن تجد الخزينة العمومية ما تدفع به مستحقات الأجور. وهو ما خلق شعورًا بالخوف من المستقبل لدى المواطن الجزائري بعد سماع هذه التصريحات التي تذكِّره على أقل تقدير بأزمة التسعينات وتُقْنِعه ببؤس النظام القائم وفشله، وبالتالي فإن الحاضر والمستقبل مهدَّدان، والمواطن المأزوم المستقيل مطالَب بأن يجد حلًّا وأن يبادر بتصحيح الأمور، غير أن نفسيته وسلوكياته الجديدة التي تعوَّد عليها في العقود الأخيرة حوَّلته إلى نوع من المواطن السيء، الأناني والبراغماتي، الذي يرفض التضحية ويشتغل فقط على تحقيق مصلحته الخاصة ولو على حساب الوطن.

وبعد تراجع مداخيل المحروقات، تكرَّست ثقافة الأزمة عند الجزائريين وطغى الشعور بالشك والريبة من المجهول مستقبلًا، خاصة أن السلطة في السنوات الأخيرة، ومنذ ارتفاع أسعار المحروقات في نهاية التسعينات، عملت على رفع سقف المستوى المعيشي للجزائريين، بتوزيع الريع البترولي دون التركيز على منطق الاستحقاق بالجهد أو التأسيس لبذل الجهد وتكريس قيمة العمل والأداء، فلم تكن الجزائر إلا مساحة جغرافية يتم فيها توزيع مداخيل المحروقات بنوع من عدم العدالة الاجتماعية، ساعدت على استبعاد فكرة إنشاء منظومة اقتصادية قوية، وكرَّست منظومة اقتصادية ريعية ورَّطت البلد والمواطنين، ليجد الجميع نفسه اليوم في قلب الأزمة.

وعمومًا، ساعد على تأزيم الوضع الاقتصادي:

– تضييق فرص الحلول الفردية التي تعوَّد المواطنون عليها، بتعطيل المصلحة العامة واستغلال الوظائف لتحويلها إلى سجلات للاسترزاق بتكريس البيروقراطية والمحسوبية والموالاة.

– انهيار القدرة الشرائية بشكل متزايد، مما أدى إلى تدحرج المستويات المعيشية لمختلف الفئات.

– انفجار فضائح ملفات الفساد بسبب استعمالها من قبل أجنحة النظام في معركة التسابق على خلافة الرئيس المريض، والتموقع داخل مراكز السلطة والقرار في ظل انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة وتآكلها نتيجة استشراء الفساد، خاصة مع بروز مظاهر الثراء الفاحش على فئات محددة من المواطنين، على رأسهم أبناء المسؤولين والجنرالات.

ثالثًا: السياق الاجتماعي

الواقع الاجتماعي الجزائري لم يكن سوى انعكاس لنموذج الدولة الريعية الفاشلة، التي تفتقر لنماذج اقتصادية ريادية تؤثِّر بشكل مباشر وإيجابي على سلوكيات المواطن وميولاته؛ حيث “يتجاوز مفهوم الدولة الريعية البُعد الاقتصادي، ليشمل أبعادًا أخرى من وظائف الدولة ومجالاتها، ومن العلاقات المجتمعية. ويُستخدَم تعبير الدولة الريعية أيضًا للإشارة إلى نمط العلاقات النفعية-المادية، الذي يسود بين الحاكم والرعايا: الدولة تجبي الريع لزيادة ثروة الحكام، وتوزِّع حصة منه على الرعايا بحسب درجة القرابة والصلة والولاء مع مركز القرار أو الحاكم، أو بما يخدم تأمين استقرار الحكم وتجديد السلطة من خلال ضمان ولاء المنتفعين من التوزيع”(12)، وهو ما يخلق نموذج المواطن الانتهازي السيء بامتياز.

واليوم “لسنا بحاجة إلى ثورة ثقافية قبل أن تتحقَّق التنمية الاقتصادية. فكثير من السمات السلوكية الصالحة للتنمية الاقتصادية سوف تتبع التنمية الاقتصادية، بدلًا من أن تكون شرطًا مسبقًا لها”(13)، كما أن “الإقناع الأيديولوجي مهم ولكنه وحده غير كاف لتغيير الثقافة. فلابد أن تصاحبه تغيرات في السياسات والمؤسسات القادرة على أن تديم أنماط السلوك المرغوبة لفترات زمنية طويلة، بحيث تتحوَّل إلى “سمات” ثقافية”(14).

لذلك “حتى لو كان اتِّسام الناس بسمات سلوكية معينة أنفع للتنمية الاقتصادية، فما من بلد يحتاج إلى “ثورة ثقافية” قبل أن يتطور. فبرغم أن الثقافة والتنمية تتبادلان التأثير إحداهما في الأخرى، إلا أن تأثير التنمية على الثقافة أكبر؛ إذ إن التنمية الاقتصادية تخلق -إلى حد كبير- الثقافة التي تحتاج إليها، وتغيير البنية الاقتصادية يُغيِّر حياة الناس وتفاعلهم مع بعضهم البعض، فيُغَيِّر بالتالي طريقة فهمهم للعالم وسلوكهم فيه”(15).

يبقى أن السياق الاقتصادي لما قبل العهدة الرابعة للرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، المريض، لم يكن مستفزًّا وضاغطًا لدرجة إنتاج حراك احتجاجي بحجم حراك 22 فبراير/شباط 2019، إلا أن درجة التذمر والاعتراض تراكمت تدريجيًّا لتخلق بيئة منتجة لفعل اعتراضي احتجاجي، يُفَسَّر بالتراكم أكثر مما يفسَّر بالوضع الاقتصادي الراهن.

وقد توافرت بعض مؤشرات قياس واضحة لدرجة الاحتقان والتذمر، منها:

– تصاعد حدَّة الاغتراب الاجتماعي للمواطن الجزائري بشكل لافت؛ حيث باتت مؤشراته واضحة وملموسة في حياة الجزائريين، بل تحوَّلت إلى مواضيع رئيسة في النقاشات السياسية والمجتمعية على مستوى النخبة والعامة، ولعل أهم ظاهرة عبَّرت عن حالة الاغتراب الحادة هي الهجرة غير الشرعية (الحرقة)؛ إذ تزاحمت قوارب الموت لنقل مختلف الفئات العمرية إلى البلدان الغربية هربًا من تراجع فرص النجاح والترقية، وبعدما كانت ظاهرة “الحرقة” تقتصر على الشباب، امتدت إلى عائلات بكاملها، وصارت تستقطب كل الفئات الاجتماعية ومختلف المستويات العلمية.

– تزايد منسوب التذمر من خلال انتشار العنف بقوة في كل المجالات، وتزايد الاحتقان والصدام اللفظي الذي عادة ما يتحوَّل إلى عراك جسدي، وسارت الأمور تدريجيًّا إلى إنتاج المواطن المتمرد في مختلف سلوكياته ابتداء من طريقة القيادة إلى رفض الالتزام بالمنظومة القانونية والخضوع للكثير من الضوابط المجتمعية والمواطناتية كآلية للتعبير عن عدم الرضا والشعور بالإقصاء والدونية.

– زاد من تعقيد الوضعية تراجع التكافل الاجتماعي بتفكُّك العلاقات الأسرية التي لم تعد قادرة على التكيُّف مع التحولات السريعة لضمان الترقية لأفرادها، التي تعودت تحقيقها في أدوارها التقليدية.

– كان للانفجار الديمغرافي دور مهم في تأزيم الوضعية؛ إذ تجاوزت الولادات المليون نسمة سنويًّا، مع الارتفاع المعتبر لحالات الزواج سنويًّا لما يقارب 400 ألف حالة، وكل ما يقتضيه ذلك من التزامات جديدة على عاتق مؤسسات الدولة وآليات التضامن المجتمعية والتقليدية.

– التضخيم الإعلامي للآفات الاجتماعية بسبب التضييق على مناقشة الرهانات السياسية.

– عودة الاصطفاف الجهوي وتراجع الاحتماء بالوطنية بعدما تعطلت الترقية على مستوى مؤسسات الدولة في صورتها الطبيعية، وصارت تحتاج إلى تزكية جهوية أو محسوبية مشروطة بالولاء والتبعية.

  1. القدرة على التعبئة الفئوية والجماهيرية للحراك الشعبي

الوضع الجزائري لم يكن شبيهًا بأوضاع دول الربيع العربي، ولم تكن سياقات 2019 تدفع بالضرورة للانفجار؛ لأن السلطة في الجزائر أبرمت صفقة استبدادية غير مكتوبة مع أغلب فئات المجتمع، تقضي بتوزيع الريع بشكل أكبر كلما استطاعت فئة من الفئات الضغط على السلطة، بتهديد النظام العام عن طريق الاحتجاجات الفئوية. ومن هنا، كانت عملية تحقيق المطالب السوسيواقتصادية قائمة، ولم تتوقَّف بل ازدادت وتيرتها بشكل كبير جدًّا عندما استغل الجزائريون أحداث الربيع العربي ليرفعوا من سقف الاحتجاج الفئوي، حتى إنه امتد للسلك الأمني لأول مرة في تاريخ الجزائر، وبالتالي لم يكن الجزائريون في حاجة لاحتجاج شبيه بما حدث في ثورات الربيع العربي؛ لأنهم كانوا يحققون مطالبهم بامتياز، ويكفي أن النظام راجع أزيد من 53 قانونًا أساسيًّا لمختلف قطاعات الوظيفة العمومية في ظرف أقل من سنتين ابتداء من سنة 2011، مما يؤكد سريان الصفقة الاستبدادية القائمة على التوزيع الانتقائي للريع بالرغم من تراجع مداخيل المحروقات.

فلم يكن جزء كبير من الجزائريين في حاجة للمشاركة السياسية لتحقيق الترقية، بل اعتمد الحراك الاحتجاجي الفئوي من قبل السلطة كبديل للمسار السياسي؛ حيث أصبح مسارَ تدافعٍ مع السلطة لتحقيق كل أنواع المطالب ما عدا السياسية منها. وهكذا، تمَّ إفراغ المشاركة السياسية من رهان القدرة على تغيير النظام أو على الأقل تحقيق إصلاحات عميقة، وتحوَّلت إلى وسيلة للترقية الاجتماعية الشخصية، وبقي توزيع الريع مستمرًّا ضمن استراتيجية شراء السلم الاجتماعي وتوسيع دائرة الفساد وتعطيل إرادة التغيير بمساومة الناس في أرزاقهم ومصالحهم الضرورية والحيوية، وحتى مع بداية تراجع مداخيل المحروقات سنة 2014، لم يُحْدِث ذلك أزمة اقتصادية حادة مُعطِّلة لأدوات ترويض إرادة التغيير، بل وجدت السلطة احتياطيًّا للصرف كانت ادخرته للأوقات الصعبة كي تستطيع تفادي الصدمة الاقتصادية ريثما تعتمد آليات أخرى لإبقاء السيطرة على الأوضاع وإعادة إنتاج النظام بسلاسة. لذلك لم يتبنَّ الجزائريون الاحتجاجات العارمة، بل بالعكس انتقلت السلطة إلى تحجيم الحراك الاحتجاجي الفئوي من خلال قمع حراك الأطباء المقيمين وتكسير إضراب الأساتذة وإضراب بعض المدارس العليا للطلبة بكل الطرق، كرسائل واضحة على حتمية مراجعة الصفقة الاستبدادية وتعديل سقفها.

وبناء على ذلك، لم تكن هبَّة 22 فبراير/شباط 2019 محطة نضج مشروع تغيير مؤسساتي ومجتمعي، وإنما كانت لحظة رد فعل عاطفي تغذَّت بالفساد المستشري، وهشاشة مؤسسات الدولة، وصراعات أجنحة النظام المتنازعة حول كرسي الرئاسة، وارتفاع سقف جلد الذات الفردية والجماعية إلى أعلى مستوياتها، لتتخندق فئات المجتمع بكل تنوعاتها تحت مطلب واحد وهو توقيف مهزلة ترشيح الرئيس المريض لعهدة خامسة، فقد تحوَّل هذا المطلب إلى الشجرة التي تغطي الغابة، وسمح للجميع مهما كانت مشاربهم الفكرية والأيديولوجية وتراتبياتهم الفئوية بالانخراط في مسار الحراك الاعتراضي على العهدة الخامسة، على الأقل للتعبير عن تأنيب الضمير بعد تعايش الجزائريين لزمن طويل مع هذا المستوى من الفساد، وهذا ما خلق أجواء من الفرحة والابتهاج في المسيرات الأولى؛ لأن الجزائريين بدأوا يتخلَّصون من عبء الشعور بالعجز أمام منظومة الحكم الفاسدة، بعدما تحوَّلوا إلى مادة للسخرية.

فقد كان مشهد المسيرات جذابًا ومعبرًا عن تطلعات شعب بكامله للحرية، مما جلب أعدادًا متزايدة للمشاركة خاصة في مسيرة الجمعة الثالثة التي تزامنت مع مناسبة عيد المرأة في 8 مارس/آذار؛ الشيء الذي حوَّلها إلى مسيرات عائلية ضخمة كرَّست فكرة السلمية ووضعت النظام أمام حتمية الاعتراف بالحركة الاحتجاجية. كما ساعد رد الفعل المسالم من قبل السلطة على تشجيع الخروج للمسيرات، فقد وقع نوع من التوافق على الالتزام الكلي بالسلمية من طرف النظام والجموع المحتجة، بعد أن تعوَّد الجزائريون على قمع النظام لكل محاولة اعتراض سياسية.

وهكذا، تشكَّل حراك احتجاجي واسع، فاجأ النظام وحتى الناشطين السياسيين المعارضين الذين استيأسوا من تلك اللحظة السياسية، فبقدر ما كان المشهد فارقًا، كان الغموض يكتنفه بسبب غياب فضاء سياسي يستطيع تأطير هذه الوثبة النفسية، فوجد المجتمع السياسي على مستوى النظام والمعارضة نفسه عاجزًا عن توجيه الحراك في بداياته أو الاستثمار فيه بشكل أو بآخر، نظرًا لتشكُّله في شكل كتلة غضب واعتراض جارفة دون قابلية للتأطير أو رؤية جماعية واستراتيجية، ما عدا التعبير عن مطالب محدودة موحَّدة سرعان ما تفكَّكت لمطالب متنوعة وأحيانًا متعارضة بمجرد تحقُّق المطلب الموحَّد وهو إسقاط العهدة الخامسة.

فالتلاقي الجماعي كان حتميًّا قبل أن يكون اختياريًّا؛ لأن الكل كان يريد التعبير عن رفض مآلات الأوضاع المزرية على كل الأصعدة، لكن في ظل تمييع الفضاء السياسي وافتقاد غالبية الأحزاب والجمعيات للمصداقية نشط الحراك في جو من الاندفاع المصحوب بالشك والحذر، مما أعاق إمكانية تطوره منذ الولادة، ومع هذا وُلِد حراكًا عاقلًا يبحث عن تغيير سلس يمتلك قدرًا كبيرًا من الوعي ولكنه يفتقد القدرة على تملُّك أدوات فعلية لذلك التغيير، والتي استأثر بها النظام بعد عشرات السنين من التضييق والتلاعب.

لنشهد بعد ذلك بداية ظهور الفئوية في الحراك الشعبي، والتي لم تأخذ طابعًا انقساميًّا بل بالعكس كان لها دور تعبوي في الهبَّة الشعبية التي انطلق بها الحراك، وبما أن الهبات الشعبية العفوية تُتَّهم بغياب الرؤية وضبابية الاستراتيجية والقابلية للتوجيه والاحتواء، شعر المحتجون بالحاجة للإعلان عن هوياتهم المهنية لإعطاء نَفَسٍ جديدٍ للحراك، إلا أن مسيرات الجمعة لم تكن  تعترف بالخصوصيات وترفض التَّخَنْدُق فئويًّا بكل الأشكال، أيديولوجيًّا أو جهويًّا أو مهنيًّا، فكان أن لجأت الفئات المهنية للتعبير عن مساندتها للحراك في سائر أيام الأسبوع ما عدا الجمعة يوم المسيرات الكبرى، فخرج القضاة والمحامون يوم السبت والطلبة يوم الثلاثاء والصحافيون يوم الخميس، ليرتفع تدريجيًّا زخم الفئات المهنية المساندة للحراك ولو بالبيانات، وبفضل هذا الخروج تأكَّد للجميع أن هذا الحراك تعبير عن لحظة التقاء بين كل الفئات المهنية بكوادرها ونخبها، وما على السلطات إلا الإنصات له بحكمة، فهو حراك عاقل اختار أن يكون تعبيريًّا ومحذرًا عوض أن يكون تدميريًّا تخريبيًّا.

وبعد خروج الفئات المهنية لم يعد ممكنًا الحديث عن مغرَّر بهم وشباب طائش ومنحرف “بطَّال يائس”، وشرذمة من المواطنين؛ لأن التعبير بالهوية المهنية يصبح مهمًّا أمام نظام يمارس الأبوية على المحتجين، فعندما يظهر جليًّا أن القضاة والمحامين والأطباء والأساتذة والأئمة والطلبة والمثقفين والفنانين والمهندسين موجودون في الحراك، فإن النظام يصبح مطالبًا بتفسير لماذا خرجت كل تلك الجموع على تنوُّع فئاتها المهنية للمطالبة برحيله. هنا، يصبح للحراك شرعية نخبوية تضاف للشرعية الشعبية، فحتى وإن لم يستطع إخراج ممثلين له، فإن انخراط كل تلك الفئات المهنية دون شروط مسبقة ودون المطالبة بحق الوصاية على المحتجين، إقرار بعقلانية المطالب وشرعيتها واجتماع على تشخيص عدم قدرة السلطة على تسيير شؤون البلاد والعباد.

  1. الحراك الشعبي في مواجهة رهان تجاوز صدمة مخرجات ثورات الربيع العربي

لا شك في أن الحراك الشعبي في الجزائر هو نسخة منقَّحة لثورات الربيع العربي، فالتجارب تتقاطع في الكثير من سيرورتها، وهي في الغالب تحمل نفس المطالب في جوهرها وتتمايز في التعبير عنها، وهذا راجع بالضرورة للظروف التي تميزها عن سواها. فإذا أردنا أن نضع عناوين لثورات الربيع العربي، فلابد من الحديث عن مطلب الحرية مقابل الاستبداد والعدالة مقابل الظلم والتنمية مقابل الفساد، ثم تأتي المطالب التي تتفرَّع عن الرهانات الكبرى، ومن هنا لا يمكن الفصل الوظيفي والتفاعلي بين كل هاته التجارب والمحاولات.

ولعل أكبر دليل على ارتباط سيرورة الحراك الشعبي بثورات الربيع العربي هو ظهور إشكاليات تلك الثورات في النقاشات المختلفة بمجرد اندلاع الحراك، فقد ارتفعت الأصوات من داخل وخارج الحراك لتعيد التذكير بما حدث في الجزائر في التسعينات، وذلك للتحذير من الغرور والاعتقاد بأن النظام سقط ولم يعد يشكِّل تهديدًا، ولم يقتصر الأمر على التجربة الجزائرية السابقة الدامية، بل انتقل النقاش إلى استحضار تجارب ثورات الربيع العربي والدمار الذي خلَّفته عودة الدولة العميقة عن طريق الثورات المضادة؛ فانصب جزء من النقاش -على منصات التواصل وفي أستوديوهات القنوات- على مختلف نماذج ثورات الشعوب، آخرها ثورات الربيع العربي التي تحوَّلت غالبيتها إلى نماذج رادعة، ورغم أن الشعوب كانت صادقة في مسعاها، لكنها خسرت المعركة مرحليًّا عندما عادت الأنظمة بالثورات المضادة، فحتى النموذج التونسي لم يخل من الانتقاد بحكم أن رموز الحزب الحاكم عادت للحكم عبر الصناديق، وبالتالي، فإن إدخال هذه النماذج الرادعة في النقاش زرع شيئًا من الارتباك والخوف عند الكثيرين، لكنهم رفضوا الإصغاء لهذه المخاوف؛ لأنهم لا يريدون لهذا الحلم أن ينطفئ بهذه السرعة، وكأنهم كانوا يريدون العيش ضمن شعور العزة والانتصار لأكبر فترة ممكنة.

إلا أن هذا النقاش ساعد على كبح نسبي للعواطف المندفعة، وبدأت الإشكاليات التي طُرحت بقوة في تجارب الربيع العربي تأخذ مكانتها في النقاش، ولعل أهم تلك الإشكاليات دور الجيش في صناعة القرار، خاصة أن الجزائريين خَبِروا المؤسسة العسكرية جيدًا، وهم يتذكرون انقلاب قيادة الجيش على المسار الانتخابي وكيف زُجَّت مؤسسة الجيش في حرب أهلية راح ضحيتها أزيد من 200 ألف قتيل بقراراتها الخاطئة.

وتمحور النقاش حول دور المؤسسة العسكرية بالدرجة الأولى، بعد انهيار الواجهة السياسية والمدنية للسلطة وإقالة الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، واعتقال عدد كبير من النخب السياسية والعسكرية الحاكمة، ودخول الجزائر في مرحلة انتقالية غير معلنة، فطُرحت أسئلة من قبيل: كيف يمكن الثقة في مؤسسة الجيش؟ وكيف يمكن تفادي العودة إلى “دولة العسكر” في الوقت الذي تفتقد الجزائر لأية مؤسسة ضامنة؟ وكيف يطلب الشارع من مؤسسة الجيش عدم التدخل في الشأن السياسي ثم يطالبها بفرض إقالات سياسية؟ وظهر الارتباك جليًّا كلما مرَّت الأسابيع على الحراك دون الشعور بالتقدم نحو التغيير، فبعدما كان شعار “الجيش الشعب خاوة خاوة” تأكيدًا على حاجة الجماهير لمرافقة المؤسسة العسكرية في التغيير وضرورة تفادي المواجهة معها مهما حدث، ظهرت شعارات تتَّهم قيادة الجيش صراحة بمحاولة الالتفاف على مطالب المحتجين، وتجسَّد ذلك في شعارات مثل: “الجيش ديالنا والقايد خاننا”، وشعار “دولة مدنية، ماشي عسكرية” وغيرها من الشعارات المستحدثة بعد أن بدأت مشاعر الشك والريبة تتزايد تجاه قيادة المؤسسة العسكرية.

  1. حتمية الاستثمار في تجارب الربيع العربي

عندما تسأل أي مواطن جزائري في الحراك عن التجربة السورية أو مآلات التجربة المصرية والليبية واليمنية، سيكون أول رد أن الجزائر ليست سوريا وليست مصر ولا ليبيا ولا اليمن، ويحاول أن يستبعد حصول هذه السيناريوهات للتجارب الرادعة في الحراك، لكن الجزائري -في قرارة نفسه- متخوِّف من إعادة إنتاج ما حدث في التسعينات من حرب أهلية دامية، وما حدث في تجارب دول الربيع العربي، ويُخفي ذلك  الخوف كي لا يؤثر في معنويات الحراك؛ لأنه يعلم أن هذا الأخير وثبة نفسية قبل أي شيء آخر، وبالتالي الدافعية النفسية مرتبطة بالشعور بالقدرة على التغيير، وقد تكرَّس لدى الجزائريين شعور بالعجز على مرِّ عشرات السنين، تحوَّل إلى جلد الذات -فردية وجماعية- تعمَّم في فئات المجتمع “ونجد هذا النوع من الأشخاص يجتمعون بصورة فئوية عفوية، بهدف تبادل طاقات وعواطف سلبية تزيد من درجة يأسهم وإحباطهم وتسويدهم للشعور بعدم الرضا عن ذواتهم وعن مجتمعهم. وهذا ما يفسِّر سلوك بعض الجزائريين الذين يبادرون إلى انتقاد أنفسهم أو الآخرين داخل وخارج الجزائر، كذات واحدة أو ما يمكن تسميته بالذات الجماعية التي يشكِّلها العقل الجمعي”(16)، لذلك يفضِّل التركيز على الحلم عوض اليأس.

إلا أن الخوف سكن نفوس الجزائريين، لذلك منذ الخطوات الأولى لمسيرة 22 فبراير/شباط، حرص الجميع على السلمية وردَّدوها بشكل دائم وألحُّوا عليها عند حدوث أية مناوشات مهما كان حجمها، تفاديًا لسيناريو الانزلاق نحو المواجهة، وحتى المؤسسات الأمنية كانت متوجِّسة من هذا السيناريو الأسود، فحاولت تفادي المناوشات، ما عدا اللجوء لبعض الممارسات للتضييق على الحراك من أجل الإنقاص من وتيرته مثل تضييق مداخل العاصمة ليلة مسيرة الجمعة وصبيحتها دون الغلق الكلي للطرق. كما أن شعارات الحراك في جزء منها تعبير عن الاتعاظ بتجارب الربيع العربي، مثل: “الجزائر ليست سوريا”، وهو الشعار الذي وُجِّه للوزير الأول السابق، أحمد أويحيى، بعد أن حذَّر الجزائريين من السيناريو السوري، وكذلك المشهد المصري كان حاضرًا بقوة من خلال التأكيد على عدم إنتاج نموذج “السيسي” مع القيادة العسكرية، واجتهاد الحراك في عدم تعطيل الحياة طوال أيام الأسبوع كي لا يعيش الخناق السوسيواقتصادي الذي تعاني منه لغاية اليوم التجربة التونسية.

وبالتالي، فإن دروس الربيع العربي، وعشرية الدم التي عاشتها الجزائر، زرعا قدرًا كبيرًا من الخوف في نفوس المحتجين، انعكس إيجابًا عندما لم يتراجعوا عن الحراك، خاصة في الأسابيع الأولى؛ لأن الخوف عندما لا يُعَطِّل يتحوَّل إلى مرشد وموجِّه، بحكم أنه يدفع للحذر والاحتياط بشكل دائم لتفادي الانزلاق والاحتواء، وقد تبيَّن ذلك بشكل واضح عندما أحجمت الجماهير عن الخروج بكثافة للاحتفال بسقوط الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة، بعد تقديم استقالته؛ لأنها تعلمت من التجربة المصرية أن سقوط الرئيس، حسني مبارك، ليس سقوطًا للنظام، لذلك استمرت الشعارات تطالب بـ”ذهاب العصابة” رغم ذهاب الرئيس، وهكذا تعلم الجزائريون نسبيًّا الدرس العربي الرادع واستحضروا الدرس الجزائري المؤلم في محاولتهم إنتاج وإنجاح تجربة تحررية جديدة.

  1. السلطة في مواجهة الحراك

يمكن رسم مسار تفاعل السلطة مع الحراك من خلال المراحل التالية:

– بالرغم من توقُّع النظام حدوث مظاهر اعتراض على تمرير العهدة الخامسة، إلا أن صدمته كانت وليدة ضخامة أعداد المشاركين في الحراك، والتي تجاوزت كل التوقعات بانتشارها الجغرافي في غالبية الولايات؛ حيث امتد عند أول مسيرة إلى 35 ولاية من مجموع 48، التحقت غالبيتها ابتداء من المسيرة الثانية.

– أمام هذه الصدمة، حاولت السلطة تجاهل الحراك والتعاطي معه كعارض أو حدث لا يرقى لمستوى رد فعل يمس باستقرار النظام.

– دخلت السلطة بعدها مرحلة الصمت السياسي بالانسحاب المؤقت كمحاولة لامتصاص جزء من الغضب، والعمل على تقليص وتيرة الحراك بعدم الاستفزاز.

– شدَّدت السلطة قبضتها دون صخب أو صراخ على مقاليد الحكم عن طريق تثبيت سلطتها على الأدوات الفاعلة للحفاظ على مراكز السلطة بإحكام.

– بعد التأكد من أن الحراك ليس حدثًا عابرًا، ولن يتوقف بالتجاهل وعدم الاهتمام، انتقلت السلطة إلى مرحلة الاعتراف بشرعيته ومن ثم التبني التكتيكي لمطالبه داخل علبة النظام؛ حيث رمت بكل ثقلها لركوبه من خلال ممارسة وصاية على العناوين الكبرى لمطالبه. وبهذه الطريقة تُحْدِث اختراقًا بتسويق فكرة مفادها أن هناك أطرافًا من داخله تبحث عن تعفين الأوضاع ولا تكترث لما تقدِّمه السلطة من تنازلات.

– الانتقال لمرحلة المبادرة بإطلاق حزمة من الوعود بالتغيير والإصلاح تحت إدارة السلطة القائمة كطرف ضامن لمرحلة الانتقال.

– بعد عدم التجاوب مع وعود السلطة، جاءت مرحلة تفتيت السلطة إلى أجزاء وبداية صراع الأجنحة داخل النظام مما يفرض بالضرورة التضحية بجزء من رموزها.

– مع تزايد منسوب الرفض، ازداد الإرباك داخل صفوف السلطة، وبات صراع الأجنحة أكثر وضوحًا، وبدأت تغييرات محسوسة تتلاحق بإقالة عبد العزيز بوتفليقة، ثم إقالة حكومة أويحيى، وتأسيس حكومة جديدة لإدارة مرحلة التغيير المقترحة من السلطة، فرفع المحتجون سقف الاحتجاج باعتماد مطاردة الوزراء والمسؤولين في كل الولايات، للتضييق على استراتيجيات السلطة في الاحتواء برفع منسوب التعطيل والاعتراض.

– ردًّا على استمرار وتوسُّع دائرة الحراك، بدأت السلطة باعتماد المزاوجة بين مغازلته وممارسة التضييق على فضاءات ومساحات الاحتجاج؛ لأنها كانت تعلم أن السكوت على الحراك قد شجَّع الكثيرين ممن يخشون دفع تكلفة الاعتراض على المشاركة في الاحتجاج، وبالتالي بمجرد إرسال مؤشرات عن إمكانية قمع الحراك، سيتراجع جزء من المشاركين فيه.

– دخلت السلطة مرحلة الخروج من صدمة الحراك، وبدأت بتنفيذ أجندتها لاحتواء واستنزاف الاحتجاجات بطرق متنوعة، تجمع ما بين العمل على إقناع أكبر قدر ممكن من المواطنين بحسن نية السلطة، وتوظيف أدوات القمع الناعمة لتحجيم وتيرة الحراك.

– منذ بداية الحراك، وبعد تكسير الواجهة السياسية والمدنية للسلطة بحكم افتقادها لكل مصداقية تسمح بتخفيف حجم الاحتقان، لم يجد الجزائريون المحتجون مؤسسات ضامنة يشتكون لها فساد السلطة وانحلالها مثل القضاء أو السلطة التشريعية، مما فتح الباب واسعًا أمام المؤسسة العسكرية للتدخل في إدارة الأزمة السياسية، التي كان الجميع يخشى أن تتدحرج إلى أزمة أمنية، فسيطرت على مقاليد الحكم رغم تمسُّكها من خلال خطابها الرسمي بالاحتكام لدستور البلاد، واعتماد الحل الدستوري الذي يقتضي الذهاب إلى انتخابات رئاسية دون اعتماد أية مرحلة انتقالية أو فراغ دستوري قد يعصف باستقرار الأوضاع.

– تطبيق أجندة زمنية لتمرير الانتخابات الرئاسية، كان بمنزلة اختبار لمدى قوة السلطة وقدرتها على فرض أجندتها السياسية، فكان أن شعر الكثير من الجزائريين بقوة النظام بالرغم من هشاشة مؤسساته، ليقتنع الجميع أن الحامل الفعلي للسلطة السياسية في الجزائر هو المؤسسة العسكرية ومن ورائها المؤسسات الأمنية وليست لا الشرعية السياسية ولا مؤسسات الدولة المدنية.

  1. تحديات ترهن مستقبل الحراك

استطاع الحراك الشعبي توظيف كل الأدوات المتاحة والمنتجة لتفعيل دوره، سواء بالاستثمار في التطور التكنولوجي بكل أشكاله للتسويق إعلاميًّا على نطاق واسع على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، من أجل تعبئة وتجنيد فاعلين جدد والحفاظ على حضور أكبر قدر من المشاركين الملتزمين منذ بداياته، أو الضغط باتجاه إخراج المترددين من حيادهم وسحبهم للفعل الاحتجاجي، بالإضافة للضغط على الأطر الموجودة والشخصيات البارزة في المجتمع كي تكون شاهدًا على سلميته وشرعية مطالبه، وتوظيف كل المساحات الممكنة لخنق السلطة وإضعاف حجيتها عند أية محاولة احتواء. وبالتالي، قام بفضل حد أدنى من السقف التنظيمي وبناء المعنى، باكتساح معركة شرعية الشعارات والتخندق كفاعل محوري في التأزيم الذي فرضه، في 22 فبراير/شباط، ليعلن عن نفسه كطرف أساسي في أي معادلة من معادلات الانفراج.

ومن هنا، يمكن القول: إن الحراك الشعبي كسلوك جماعي اعتراضي، قد نجح بشكل باهر في إخراج التأزيم إلى السطح ونقل مستوى الأزمة من إرباك داخلي للسلطة إلى مستوى ثنائية التدافع بين المجتمع والسلطة في أبرز تجلياتها السلمية، باعتراف السلطة ذاتها، التي اعترفت بشرعية مطالبه وامتداده العددي والجغرافي.

ورغم ذلك، لم يرتق الحراك إلى مستوى القدرة على إحداث التغيير الجذري، ولا نحتاج للاجتهاد في إثبات ذلك، لأن كل الأصوات التي تحاول التعبير عنه تُجمع على عدم حدوث أي تغيير، وأن النظام يعيد إنتاج نفسه ولم يتغيِّر أصلًا، كما أن الفعل الثوري عادة ما يسرِّع عملية الضغط على النظام في بضعة أيام ليمنعه من استيعاب الضغط، والسقوط في حالة من الفوضى تسرِّع انهياره كمنظومة حكم، حتى وإن بقيت رموز النظام تحاول المقاومة والصمود، وهذا ما لم نشاهده في الحراك الجزائري؛ حيث تشكَّل في مسيرات أسبوعية يومي الجمعة والثلاثاء لفترة زمنية محدودة جدًّا، مما وفَّر للسلطة  الوقت الكافي لاستيعاب الصدمة ومن ثم الانتقال لاحتوائه. وبالتالي بعيدًا عن التعبير عن المطالب الثورية، لم تكن أدوات الفعل الاحتجاجي للحراك الشعبي أدوات مُعَطِّلَة لدرجة إسقاط النظام، ولم تستطع إحداث تغيير يرتقي إلى حد أدنى من الإنجاز الثوري؛ لذلك لسنا أمام فعل ثوري، وطبيعة المسار لأزيد من سنة سمحت للسلطة بتجاوز خطر السقوط والانهيار كليةً، ولسنا أمام احتمال تطوره لحراك ثوري؛ لأن السلطة في مركز يسمح لها بتقليم أظافره والاشتغال على احتوائه بكل الأشكال، ووضعه في مركز دفاعي يبحث فقط عن الاستمرار.

كما أن النظام المُنَظَّم لا يمكن التفوق عليه بحراك غير مُنَظَّم، وبالتالي لا يمكن لحراك غير مؤطَّر ومُهَيْكَل أن يكتسب قوة تغيير قادرة على خلق واقع جديد، بالاعتراض وفرض عدم الاستقرار وتعطيل منظومة الحكم وخلق الفوضى والاضطراب، فالحراك الشعبي الجزائري -بحكم آليات اعتراضه المحدودة زمنيًّا والتي تقلَّصت بشكل واضح جغرافيًّا- لم يعد قادرًا على تحقيق التعطيل المطلوب من جهة، ولم يعد يمتلك القدرة على إنتاج بديل من جهة ثانية؛ لأن المجتمع كان مأزومًا ولم يكن إلا منتوجًا للنظام الذي صاغه بشكل يسمح بإعادة إنتاج نفسه باستمرار، ومن هنا كانت هناك رغبة في التغيير، ولكن كانت في الغالب تتعارض مع السلوك اليومي للمواطن المعترض الذي كان يعيد إنتاج النظام، وقد نبَّهت في كتابي حول الحراك الشعبي إلى خطورة ذلك؛ فقد شهد “منذ الأسابيع الأولى إنتاجًا لسلوكيات قام من أجل محاربتها، فالأكيد أن المحتجين خرجوا للشوارع لرفض الوصاية والمطالبة بالحق في تقرير المصير، ورفض كل أبوية أو حجر على إرادة الأفراد، إلا أن هؤلاء المحتجين وُلدوا ونشؤوا في بيئة استبدادية حتى وإن كانت تتسم بنوع من الاستبدادية الناعمة، فلا يمكن تصور أن يتحوَّلوا إلى مواطنين ديمقراطيين يمارسون الحرية ويعترفون بحدود حرية الآخرين ويقفون عند حدودها، لذلك نشعر أسبوعًا بعد أسبوع بأننا بصدد الانتقال من ديكتاتورية النظام إلى ديكتاتورية الشارع، وتجلى ذلك بشكل واضح في رفض الرأي الآخر ومحاولة إقصائه أو حتى الحديث عن ضرورة استئصاله؛ لأنه العدو، وهكذا صار العدو”(17)، “جزءًا من متخيَّل جمعي خاص بكل جماعة، إنه (أنا) أخرى يجب أن نجعله (غريبًا) ونلوِّنه بالأسود ونجعله مهدِّدًا كي يبدو استخدام العنف شرعيًّا”(18).

ومن هنا، لم يكن متاحًا التهيكل بسهولة بسبب قوة المناورة وخلط الأوراق لدى النظام وضعف التأطير القبْلي للمجتمع، الذي كان غارقًا في فوضى معطِّلة من إنتاج النظام، وكل محاولات التهيكل قوبلت بالاعتراض والتشكيك والتخوين من قبل عناصر الحراك.

لهذا، يمكن القول: إن الحراك الشعبي هو أقرب للحركة الإصلاحية منه للحراك الثوري، من جميع الجوانب ما عدا المطالب التي تعتبر مطالب ثورية بامتياز، وبين الممارسة والشعارات تُحسم الأمور على أرض الميدان، فجزء مهم مما حدث لم يكن ليحدث بطريقة مغايرة؛ لأنها تعبير عمَّا يختزنه كل من الحراك والنظام، فالمجتمع لم يكن قادرًا على التهيكل بحجة تجنُّب الاحتواء والاختراق، وأيضًا في ظل تنوع التيارات والأيديولوجيات داخل مكونات الحراك وحجم الشك الهائل الذي زرعته الصراعات والأحداث المؤلمة السابقة، التي عايشتها الأجيال المشاركة فيه، وكأنه وُلِد مبكرًا قبل الأوان.

 ويمكن القول: إن الحراك هو إبداع مجتمعي لحالة من الركوض والانسداد بعد تَعَطُّل الفضاءات والأدوات الطبيعية للاعتراض، مثل الحزب السياسي والعمل النقابي وأطر المجتمع المدني، وبالتالي، جاء كفعل إبداعي طرح الإشكاليات الصحيحة التي كانت السلطة تتجنبها، وخلق واقعًا جديدًا ضاغطًا يساعد على مراجعة نسخة النظام، وهذا هو الحاصل اليوم، ولكنه أنتج نوعًا من الوثبة النفسية للتغيير انتشرت بشكل هائل في المجتمع مع بداياته وقد حُكِم عليها بالتراجع مع مرور الوقت لتقتصر على ذوي النفس الطويل والهِمَم العالية والفاعلين المؤهلين القادرين على خوض تجارب التغيير، وهكذا تم الانتقال من الممارسة المجتمعية للسياسة كحدث إلى ممارسة المجتمع السياسي للفعل السياسي؛ مما يرشح فئات اجتماعية واسعة من المجتمع في المستقبل القريب للانسحاب من الفعل الاحتجاجي السياسي وترك المجال لفئة ضيقة من ممتهنيه.

وقد يعود جزء مهم من الجزائريين للفعل الاحتجاجي السوسيواقتصادي مستقبلًا، عند الشعور بتغلُّب النظام واسترجاعه للمبادرة؛ لأن التدافع سيبقى قائمًا غير أن أدواته ستتغيَّر باستمرار وتبقى فاعليتها ترتبط بالهدف من الفعل الاحتجاجي، فشتان بين استهداف تغيير النظام واستهداف إصلاح جزئي أو تغيير قطاعي داخل النظام.

ومن هنا، تبقى رهانات الشعوب التي لا تتمتع بالحرية في الاختيار ولا تعيش ممارسات حقيقية للتداول الفعلي على السلطة مستعصية على التحقيق في ظل تطور الاستبداد وتشكُّله في صور ناعمة تخلق حالة من التشتيت في صفوف مجتمع الاعتراض، تجعل التوافق على رفع سقف الاحتجاج جدلية، غالبًا ما تضعف جبهة الاحتجاج، نظرًا لأسباب كثيرة وعلى رأسها انزلاق الاختلاف إلى حالة من التخوين والإقصاء، ومع ذلك يبقى هذا الوضع الصحي حاضرًا ويتطور باستمرار إلى غاية تحرير وتفعيل فضاءات المراقبة والاعتراض.

ويمكن باختصار حصر أهم التحديات المطروحة أمام الحراك فيما يلي:

– القدرة على الاحتفاظ بالهوامش المكتسبة، على قلَّتها، وإنتاج أطر من جسم الحراك، واستغلال فرصة تقديم نخب بديلة.

– إدارة الزمن السياسي المتاح لمنطقة الشك والتردد قبل دخول السلطة مرحلة حسم التدافع والنزاع.

– تزايد ضغط الأزمة الاقتصادية التي قد تقلِّص مساحة الفعل السياسي لصالح الأولوية الاقتصادية عندما يضيق الخناق على معاش الأفراد.

– تجذُّر سلوك التبعية والخضوع لدى العديد من المواطنين لعشرات السنين، مما يخلق قاعدة وظيفية للسلطة من أجل إعادة إنتاج نفس الممارسات.

– إشكالية ولاء مؤسسات الدولة للنظام عوض الولاء للدولة، مما يعيق تحرير المؤسسات كقواعد خلفية لبناء الفعل السياسي بعدما تكرَّس الالتباس بين مفهوم الدولة والنظام، وسار سقوط النظام بمنزلة تهديد لسقوط الدولة.

– تعوُّد شريحة واسعة من المواطنين على الفساد وعدم الالتزام بالمنظومة القانونية، في وقت يحتاج التغيير لحتمية التضحية والابتعاد عن السلوكيات الانتهازية.

– صعوبة تقبُّل فكرة تبني التدافع الناعم عند شريحة معتبرة من الحراك لتوسيع الهوامش باستغلال الوثبة النفسية، من أجل رفع منسوب المكتسبات الديمقراطية بالتراكم، بعدما بات جليًّا أن جزءًا من الحراك يمارس ديكتاتورية الشارع ضد كل من يخرج عن نص الحراك العدمي لصالح أي اقتراب أو تسوية مع السلطة.

– تجاوز الاصطفاف الهوياتي الذي ما فتئ يعلن عن نفسه عند أي استحقاق أو مبادرة.

– الفيتو الدولي لميلاد أية تجربة انفتاح ناجحة قد تتحوَّل إلى تجربة جذابة وملهمة.

  1. الحراك وتداعيات جائحة كورونا

عادة ما دأبت الأنظمة على مقايضة حريات شعوبها مقابل الأمن الاجتماعي والاقتصادي، ومن النادر أن تتوافر فرصة المقايضة للأنظمة بهذه البساطة التي أنتجتها جائحة كورونا، فلا شك أن هذا الوباء خلط الكثير من المعادلات التنظيمية في المجتمع؛ حيث إن هشاشة الأوضاع الاقتصادية تدفع للتخوف من العواقب الأمنية المحتملة للانفلات المجتمعي في حالة طول أمد الأزمة؛ الأمر دفع الكثيرين إلى مطالبة السلطة بتشديد قبضتها الأمنية.

وهكذا؛ تحوَّلت حالة الهلع التي تولَّدت عن جائحة كورونا إلى فرصة ثمينة للسلطة، تسمح لها بفرض تغييرات مكلفة لا يمكن تحملها في الأوضاع العادية، ومن هنا وجدت السلطة نفسها أمام فرصة تصحيح الأخطاء المتراكمة منذ عقود من الزمن أو اختيار الهروب إلى الأمام باستغلال حالة الهلع والفوضى. فقد استغلت الوضع لإحكام القبضة الأمنية عن طريق فرض الحجر الصحي الذي بات مطلب فئات واسعة من المواطنين بعدما وقفوا على اعتماده في كل دول العالم الكبرى، مما شكَّل فرصة ذهبية للسلطة لتكسير ديناميكية التغيير التي وُلِدت بعد حراك 22 فبراير/شباط؛ لأن ذلك الحراك لم يكن مهيكلًا مؤسساتيًّا ولا يستجيب لتوصيات أطر وتنظيمات مرجعية، بل انتقل مع مرور الوقت من هبَّة نفسية جارفة إلى سلوك جماعي أوتوماتيكي يتغذَّى من تكراره المستمر في أوقات محددة، وبالتالي عند توقفه لفترات طويلة سيحتاج للعودة إلى إعادة تعبئة تعوِّض ديناميكية العادة التي اكتسبها، فعودة الحراك أكيدة ولكن السياق الذي سيرافق تلك العودة يحمل عوامل مؤثِّرة في تحديد زخم وطبيعة القوى المشاركة.

فقد تم التضييق على الفضاءات الاقتصادية والجمعوية الموازية، التي تغذي الاعتراض على السلطة بسبب الأزمة الاقتصادية المعقدة جرَّاء الحجر الصحي، والتي قلَّصت مداخيل الكثير من الأسر لدرجة الشعور بالفاقة، ونقلت البعض من نفسية الاندفاع لبناء تنمية ونهضة إلى التفكير في كسب القوت اليومي مع الاعتقاد المتزايد بأن البلد سيعاني لفترة طويلة من تداعيات الجائحة. كما أن السلطة اجتهدت في شنِّ اعتقالات انتقائية وجَّهت بها رسائل لمختلف الفئات المحتجة في غالبية الولايات، استعدادًا لمرحلة ما بعد كورونا لإظهار قوة السلطة الردعية ومدى استعدادها لتبني المعالجة الأمنية جزئيًّا في حالة التمادي في رفع سقف الاعتراض، من الاحتجاج الرمزي غير المعطل لسير مؤسسات الدولة إلى تهديد النظام العام وإرباك توازن السلطة التي لم تستطع بعد إعادة بناء لحمتها المتفكِّكة جرَّاء الأزمات المتلاحقة.

وفي الجهة المقابلة، دخل نشطاء الحراك في جملة من النقاشات والمراجعات المحدودة حول مستقبله، بعناوين عاطفية في الغالب، تحاول التعبئة عن طريق تسويق فكرة انهيار منظومة الحكم وإشرافها على السقوط والدخول في أزمات لا منتهية، إلا أن هذا النوع من الخطاب يخفي شعور الكثيرين من داخل الحراك بالعجز والضعف أمام التغوُّل المتزايد للسلطة، خاصة بعدما باتت تفرض واقعًا سياسيًّا جديدًا يبعدها عن مخلفات أزمة الانتخابات الرئاسية السابقة المأزومة، التي تسببت في إحداث انقسام مجتمعي كاد يُدخل البلد في فوضى أمنية تهدد الاستقرار والأمن في ظل التهاب الشريط الحدودي بأزمات أمنية متزايدة. فقد لجأت السلطة لبرمجة تعديلات دستورية وعرضتها للنقاش على مختلف الأحزاب والجمعيات والنقابات والشخصيات العمومية للإثراء والتعديل؛ مما خلق ديناميكية نقاش انخرط فيها الجميع بالاعتراض والانتقاد والتأييد، لتنقل السياق من الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسية السابقة والتشكيك في مخرجاتها ورفض البعض الاعتراف بالرئيس، عبد المجيد تبون، إلى القبول بالأمر الواقع ومناقشة مشروع السلطة الفعلية كما لو جرى الانتقال من واقع سياسي إلى آخر بتدبير مراوغ من السلطة القائمة.

وانطلاقًا مما سبق، فإن المشهد باتجاه إعادة إنتاج النظام القائم مع تعديلات ستُرضي فئات واسعة، ستتحول مع الوقت إلى قاعدة مجتمعية للسلطة، وتبقي فئات في حالة الاعتراض تحاول الاستثمار في أخطاء السلطة وعدم التزامها بالوعود التي قطعتها لتوظيفها في التعبئة من جديد للإبقاء على التدافع معها.

خاتمة

لا تؤشر سيرورة الأحداث إلى تغيير النظام ولا حتى مشهد الإصلاحات العميقة، إلا أن الجزائر دخلت مرحلة تدافع كفيلة بتعديل نسخة النظام ورفع مستوى المشاركة لدى المواطنين، وقد تفادت مرحلة الصدمة والمحتجون يحاولون إنتاج نسخة منقَّحة لثورات الربيع العربي بالشراكة غير المعلنة مع السلطة. فطرفا النزاع رفضا منذ الوهلة الأولى استعمال العنف واللجوء إلى القوة والاستعانة بالأطراف الأجنبية وأبقوا دائمًا على مسافة التراجع عند الشعور بتدحرج الأزمة إلى المعادلة الأمنية. لقد أنتج الحراك الشعبي هوامش تغيير مهمة على مستوى المجتمع والسلطة تحتاج أحيانًا إلى نضج إضافي من الطرفين لاستغلاله كبيئة مساعدة على تفعيل الممارسات الديمقراطية. كما يمكن استغلال الأحداث لإعادة بناء الثقة بين المواطنين ومؤسسات الدولة باتخاذ إجراءات لا تستطيع القيام بها إلا الأنظمة التي تتمتع بشرعية قوية، فكورونا توفر اليوم فرصة إمكانية الذهاب لمعالجات مؤلمة ومكلفة تسهِّل عملية هضمها حالة الإرباك والهلع التي تحاصر المجتمع. ومن هنا، فالسلطة أمام فرصة تاريخية للتغوُّل الأمني أو الانفتاح الإيجابي على المجتمع لإعادة بناء جسور الثقة.

 

المراجع

(1) للتوسع في قراءات الموروث النظري السوسيولوجي للحراك الاحتجاجي، يمكن الرجوع إلى:

تلي تشارلز، الحركات الاجتماعية (1768-2004)، ترجمة وهبة ربيع، (مصر، المجلس الأعلى للثقافة، 2005)، وغوستاف لوبون، روح الاجتماع، (مصر، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، 2015)، وأنتوني غيدنز، علم الاجتماع، ترجمة الصياغ فايز، (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 2005)، وريمون بودون وفرانسوا بوريكو، المعجم النقدي في علم الاجتماع، ترجمة أسعد وجيه، (سوريا، منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة،2007)، وفيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، (لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 1998).

– Fronçois Chazel : Action Collective et Mouvements Sociaux (Paris: PUF, 1993).

– Erik Neveu, Sociologie des Mouvements Sociaux (France: la découverte, 2005).

(2) عبد الرحيم العطري، “سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية”، إضافات (الجمعية العربية لعلم الاجتماع، لبنان، العدد 13، 2011)، ص 24.

(3) محمد عبد الرحمن وآخرون، المعجم الشامل لترجمة مصطلحات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي، (مصر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2020)، ص 289.

(4) حنَّة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، (لبنان، المنظمة العربية للترجمة، 2008)، ص 57-58.

(5) جين شارب، المقاومة اللاعنفية، دراسات في النضال بوسائل اللاعنف، (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 2011)، ص 160.

(6) المرجع السابق، ص 359.

(7) ريمون بودون وآخرون، المطول في علم الاجتماع، ترجمة أسعد وجيه، (سوريا، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2007)، ج 1، ص 344.

(8) أنتوني غيدنز، فيليب صاتن، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ترجمة محمود الذاودي، ط 1 (لبنان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 348.

(9) كمال عبد اللطيف وآخرون، أطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية، (لبنان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 176-177.

(10) “وزارة الداخلية: ترخيص لـ10 أحزاب لعقد مؤتمراتها التأسيسية واعتماد 22 جمعية”، الإذاعة الجزائرية، 10 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/mxOT2.

(11) “الحياة الجمعوية والسياسية”، موقع وزارة الداخلية الجزائرية، بدون تاريخ، (تاريخ الدخول: 15 يونيو/حزيران 2020): shorturl.at/EKOR5.

(12) نعمة أديب، الدولة الغنائمية والربيع العربي، ط 1 (لبنان، دار الفارابي، 2014)، ص 94.

(13) ها-جوون تشانج، السامريون الأشرار: الدول الغنية والسياسات الفقيرة وتهديد العالم النامي، ترجمة أحمد شافعي، ط 2 (مصر، دار الكتب خان للنشر والتوزيع،2017)، ص 411.

(14) المرجع السابق، ص 415.

(15) المرجع السابق، ص 416.

(16) نور الدين بكيس، نوال رزقي، قراءة في سوسيولوجية المجتمع الجزائري (1): صناعة الغضب والعدوانية في الجزائر، (الجزائر، النشر الجامعي الجديد، 2020)، ص 34.

(17) نور الدين بكيس، الحراك الشعبي الجزائري، (الجزائر، النشر الجامعي الجديد، 2020)، ص 161.

(18) بيار كونيسا، صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح، ترجمة نبيل عجان، ط 2 (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لبنان، 2018)، ص 41.