ملخص:

يحاول البحث فهم الحراك اللبناني والبيئة التي يشتغل فيها، مع تسليط الضوء على سياقه العربي، ويركز على التحديات التي تواجهه في بلد يتداخل فيه السياسي بالطائفي والمحلي بالإقليمي. كما يراجع لهذه الغاية مدى تأثير الحراك في الشارع وفي المنظومة السياسية المتداخلة بقواها الحزبية والطائفية، آخذًا بالاعتبار اتفاق الطائف كنقطة ارتكاز أساسية في التحليل لمعرفة مآل الحراك والطائف الجديد الذي قد يختاره.

كلمات مفتاحية: الحراك اللبناني، اتفاق الطائف، الطائفية، الصيغة اللبنانية، القوى المضادة للحراك.

Abstract:

This study explores the Lebanese movement and the environment in which it operates while shedding light on its Arab context. It also focuses on the challenges Lebanon faces as a country whose political, sectarian, local and regional all intertwine. In addition, the study reviews the extent of the movement’s impact on the public and the political system overlapping with its partisan and sectarian forces, taking into account the Taif Accords as a fundamental focal point in analysis to understand the course of the movement and the new Taif Accords that it may adopt.

Keywords: Lebanese Movement, Taif Accords, Sectarianism, Lebanese Formula, Anti-Movement Forces.

مقدمة

عمَّت التظاهرات بيروت، في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، بمشاركة واسعة من قِبَل عموم اللبنانيين، ومن ثم سادت جميع المناطق اللبنانية، من الشمال إلى الجنوب، وذلك في أعقاب تصريحات حكومية عن فرض ضرائب جديدة مباشرة في موازنة 2020، منها زيادة الضريبة على القيمة المضافة، وفرض رسم على استخدام تطبيق “الواتساب”. وكانت هذه الضرائب ستطول الشريحة الأكثر فقرًا في لبنان، والتي عانت من ارتفاع الأسعار خلال أسابيع سابقة على الحراك، مع شُحٍّ مطرد للدولار في السوق وارتفاع سعر صرفه الذي تجاوز السعر الرسمي المحدد 1507.5 ليرة(1).

ولكن هذه الأسباب لم تكن إلا الأسباب المباشرة للحراك؛ حيث كان شعاره الأساسي المطالبة بالجملة -وباللهجة اللبنانية- تغيير كل الطبقة الحاكمة: “كلن (كلهم) يعني كلن”، وهو ما عكسته أهدافه الأساسية التي كانت تقود الحراك، أولها: سقوط الحكومة، وهو ما تحقَّق حينها باستقالة رئيس الوزراء، سعد الحريري (في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019)، وثانيها: حكومة مؤقتة لستة أشهر مكوَّنة من تكنوقراط وبصلاحيات استثنائية، ولا يبدو أنها تحققت بحكومة حسان دياب (21 يناير/كانون الثاني 2020) التي جاءت خلفًا لحكومة الحريري. وثالثها: إجراء انتخابات نيابية جديدة، ورابعها: استعادة الأموال المنهوبة(2)، إضافة إلى استقلال القضاء، وجميعها بالطبع لم تتحقق. وكان من الواضح أن الغاية من هذه الأهداف تغيير الطبقة السياسية الحاكمة، وإنتاج طبقة جديدة على أمل تكريس رؤية جديدة للحكم، تُخْرِج لبنان من أزماته الاقتصادية والانتقال به إلى وضعية أخرى تسمح للبلد بالنهوض وليس التعافي فحسب(3).

مع مرور الوقت تراجعت نشاطات الحراك نسبيًّا، رغم استمراره بالتصعيد من حين إلى آخر، وذلك بالتوازي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وتكرر المواجهات بين المحتجين، لاسيما الشباب منهم، والأجهزة الأمنية والعسكرية للدولة اللبنانية، فضلًا عن مواجهات أخرى مع قوى حزبية معارضة لهذه التحركات. وبانتشار وباء كورونا، كان من المحتَّم أن تتوقف الاحتجاجات تقنيًّا، بسبب الحجر الذي فُرِض في لبنان كما سواه من دول العالم لتجاوز هذا التحدي الصحي. ومن المتوقع أن الاحتجاجات ستعود للشارع اللبناني، خاصة أن الأسباب التي أدت إلى الحراك أو الاحتجاجات التي سبقته لا تزال قائمة، بل تضاعفت بتدهور الوضع المالي وإعلان لبنان تخلفه عن سداد ديون من “اليوروبوند”، والتي استحقت عليه في الأسبوع الأول من مارس/آذار 2020(4)، مع العلم أن مجمل الدين اللبناني بلغ حتى نهاية عام 2019 حوالي 92 مليار دولار أميركي، أي أكثر من 150% من الناتج المحلي الإجمالي(5). كما يعاني لبنان من شُحِّ الدولار في أسواقه ويعجز اللبنانيون عن الوصول الحر لودائعهم خاصة تلك المودعة بالدولار، وتتفشى البطالة والأزمات الاجتماعية نتيجة هذا الانهيار(6). وحتى اللحظة يبدو أن هناك انكفاء عربيًّا ودوليًّا عن مساعدة لبنان، بسبب الاعتقاد الأميركي وقوى أخرى عربية ومحلية بهيمنة حزب الله على كثير من المؤسسات اللبنانية بما فيها الحكومة، كما أن هذه الأخيرة التي يرأسها حسان دياب، عجزت عن نيل ثقة الشارع حتى اللحظة.

ولكن عودة الاحتجاجات لا تعني بالضرورة عودة الحراك أو عودته مع نفس أهدافه تلك، وهنا يجب أن نأخذ بالاعتبار أن المراحل السياسية التي عرفها اللبنانيون، وما رافقها من سياسات اقتصادية، والدور الذي لعبته الطوائف والأحزاب الأساسية التي حكمت منذ الطائف، وكذلك الظروف الإقليمية والدولية، كلها كانت جزءًا من أسباب الانفجار. ومن ثم فإن الإجابة على سؤال مآل الحراك يتعلق في كثير منه، بمراجعة حجم وعمق تأثير الحراك في الشارع اللبناني، وفي المنظومة السياسية اللبنانية المتداخلة بقواها الحزبية والطائفية، فضلًا عن معرفة التحديات التي قد تواجه الحراك لتحول دون أن يكون محطة مؤثرة في تاريخ لبنان، وما يمكن أن يتركه من تأثيرات في مجمل الواقع العربي. وأي تناول للحراك في لبنان لا يمكن إغفال سياقه العربي الذي لم تنته مفاعيل ثوراته منذ عام 2011 حتى اللحظة، حيث لا يزال تصنيف القوى الأساسية فيه، ما بين قوى مؤيدة للثورات وقوى أخرى مضادة لها، وكثير من دول الثورات هذه له حضور ما، في الواقع الإقليمي أو في المسار السياسي اللبناني وأزماته، أضف إلى ذلك أن الواقع المحلي اللبناني تجتمع فيه كثير من العناصر المضادة للحراك كما لعموم الثورات العربية.

هذه القضايا التي سيعالجها البحث تُمثِّل مدخلًا لفهم “الحراك اللبناني” والتحديات التي تواجهه، وأين هو من بقية الثورات العربية، مع التنويه إلى أن اسم الحراك ليس بالضرورة أنه هو المعتمد من قِبَل اللبنانيين؛ فكثير من مؤيديه قد يصفونه بـ”الانتفاضة” وهو الأقرب إلى الاسم الرسمي، لأن الاحتجاجات عمَّت كل المناطق اللبنانية وشملت طوائفها كافة، ولكنها أيضًا أقل من ثورة؛ لأن الحياة اليومية بقيت منتظمة، ولم يحصل تغيير جذري أثناءها ولا في أعقابها(7)، وربما أيضًا لتجنب مصطلح الثورة للتأكيد على أنهم يستهدفون الطبقة الحاكمة وليس الدولة. وبالنسبة لوصف الحراك فهو لم يأت من فراغ، فهو يصنع وشائج مع ما يجرى بالتوازي في دول عربية أخرى كالسودان والجزائر، ولا يمنع أن هناك أيضًا من يردد من المحتجين في شعاراته مصطلح “الثورة”؛ لأنه يرى في الحراك أملًا بتغيير جذري وأنه ذو مسار طويل.

وسيعتمد البحث وصف “الحراك” على الأغلب عند الحديث عن السياق اللبناني أخذًا بالاعتبار جريان هذا المصطلح في السياق العربي الثوري الموازي الذي انطلق عام 2019 (مثل الحراك في السودان والجزائر والعراق)، وسيعتمد وصف “الثورة” ربطًا بسياق عموم الثورات العربية التي اندلعت في العام 2011.

واستند الباحث في مقاربته لسياق الحراك اللبناني والتحديات التي تواجهه إلى منهج دراسة الحالة الذي يُعّدُّ شكلًا من أشكال التحليل الوصفي الذي يستخدم الدراسات المسحية، ويكثر استخدامها في وصف وضع معين(8)، ويهتم هذا المنهج بجمع الكثير من المعلومات والبيانات والمعطيات العلمية المتعلقة بموضوع البحث أو بأية وحدة أو حالة دراسية سواء كانت فردًا أو نظامًا اجتماعيًّا أو مجتمعًا محليًّا أو مجتمعًا عامًّا، ويقوم على أساس التعمق في دراسة مرحلة معينة من تاريخ تلك الحالة أو الوحدة وتشكُّلها والعوامل المؤثرة فيها (دراسة العلاقات الارتباطية والسببية بين متغيراتها) أو مراحل تطورها خلال فترة زمنية معينة أو دراسة جميع المراحل التي مرت بها وذلك بهدف الوصول إلى تعميمات علمية متعلقة بالوحدة المدروسة وبغيرها من الوحدات المتشابهة.

كما اعتمد الباحث المقابلة أداة رئيسة لفهم الحراك والفاعلين في مساراته وواقعه ودينامياته، لذلك جمع بين المقابلة المقنَّنة والحرة؛ حيث تُوَجَّه الأسئلة في النوع الأول إلى المبحوثين بطريقة مقنَّنة يكون فيها ترتيب الأسئلة وفقًا لكل مبحوث ومتوائمًا مع أهداف وغايات المقابلة، أما النوع الثاني الذي يتحرر من قيود التحديد المسبق لمحاور المقابلة فيغلب عليه الطابع الاستكشافي والاستطلاعي لآراء المبحوثين ومواقفهم ويتميز هذا النوع بغزارة المعلومات التي يوفرها(9). وقد سمح هذا المزج بين النوعين من المقابلة للباحث بالوقوف على تفاصيل اللحظة التي جرى فيها الحراك ومساراته واتجاهاته واستطلاع آراء المبحوثين بشأن مستقبله. كما استعان الباحث بنوع آخر من المقابلة وهو المجموعات المركزة من الناشطين، لاسيما أن الباحث جال بساحات التظاهر الرئيسة في لبنان في العشر الأواخر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وقد ساعد هذا النوع في توفير معطيات مهمة عن الحراك وصيرورته؛ لأنه يسمح للمبحوثين بالتفاعل والتجاوب مع النقاش ويشجعهم على إبداء آرائهم ومشاعرهم والتعبير عن اتجاهاتهم وتوليد أفكار ومفاهيم تتجاوز المعلومات الفردية. وتركزت الأسئلة عمومًا على فهم سياق الحراك، وحاولت أن تجيب على سبب تجاوز اللبنانيين، خلال لحظة الحراك، للحدود الطبقية والجهوية والطائفية، وخاصة الأخيرة لتجذرها في التاريخ والواقع اللبناني، ومن ثم تقديمها في نهاية المطاف من منظور الحراك، ووفق ما أدركه الباحث.

وتنقسم الدراسة لتحقيق أهدافها إلى عدة محاور، تتناول سياق الحراك عربيًّا ولبنانيًّا، فضلًا عن المسار الذي أدى إلى اندلاعه، مع تحليل مقطعي إذا جاز التعبير لطريقة تعامله وتفاعله مع النظام اللبناني بكل مكوناته المناطقية والطائفية، والوقوف على طبيعة الإنجازات التي حققها، إضافة إلى التحديات التي ستواجهه، مع تمييز تفاعلاته المحتملة مع القوى المضادة للثورة.

  1. لبنان والثورات العربية

من الواضح أن الحراك في لبنان لم يأت في سياق محلي فحسب، ومن السهل ربطه بجذور التطورات التي شهدها العقد الماضي، خاصة العربية منها، وكذلك يمكن ربطه بسياق دولي آخر في الفترة عينها، تصدَّره نشاط مجموعات شبابية ليس لديها انتماءات أيديولوجية واضحة، ولكن لها انحيازاتها المطلبية والحقوقية بكل وضوح.

قامت الثورات العربية، عام 2011، ضد استبداد الأنظمة الحاكمة، وكان العنوان الأبرز فيها على الأغلب، وأحد أهم شعاراتها: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبدت كأنها موجَّهة لمجمل العالم العربي وبالعربية الفصحى، بغضِّ النظر عن التعبيرات المحلية الأخرى لمطالب الشعوب في كل دولة من تلك الدول. وكانت الحرية والكرامة والخبز تتقدَّم احتجاجاتها، فهي مطالب تجمع كل الطبقات الوسطى والفقيرة بالدرجة الأولى، وتلك الشريحة التي تريد الحرية في مقابل الاستبداد بغضِّ النظر عن طبقتها وهويتها ولم تكن مستفيدة من النظام القائم، فكانت ثورات تونس ومصر وليبيا وسوريا، ووصل صداها إلى عدة دول أخرى في المشرق العربي دون أن تتمكَّن منها مثل الأردن، وإلى حد ما لبنان، كما لم تبلغ المغرب بنفس القوة؛ حيث استطاعت المؤسسة الملكية استيعاب الثورات، في حين أن الجزائر المجاورة لمهد الثورة تونس، لم تصلها العدوى. وكان الإسلاميون إحدى العلامات المميزة لهذا الحراك حتى اتُّهموا بأنهم وراء الثورة أو أنهم خطفوها، لاسيما أن دول الثورات تحمل عمقًا دينيًّا اجتماعيًّا واحدًا، الإسلام، فلم تحل الطائفية دون تقدمها، ولكن كان هناك أيضًا الاستثناء السوري حيث طرح السؤال الطائفي نفسه بقوة في بلد متعدد دينيًّا، ليكون الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وقد تجددت الاحتجاجات العربية عام 2019، واصطلح بعضهم على تسميتها بـ”الموجة الثانية” كامتداد لثورات عام 2011 بوصفها الموجة الأولى. وظهرت في الموجة الثانية تعبيرات محلية عن تطلعات الشعوب، واشتركت جميعها في بعض شعاراتها، وكان من أبرزها المطالبة برحيل جميع الطبقة السياسية الحاكمة دون التركيز على “إسقاط النظام”، فكان في الجزائر “يتنحاو قاع”، وفي العراق “شلع قلع”، وفي لبنان “كلن يعني كلن”، في حين تميز حراك السودان بالمطالبة بإسقاط النظام، لكنه جنح نحو التسوية مع المؤسسة العسكرية في نهاية المطاف، واكتفى بإسقاط طبقة حاكمة محددة، “طبقة حكم الرئيس، عمر البشير”.

إن تتبع الفروق بين الموجتين بدقة قد لا يكون محله هذا البحث، ولكن بعض هذه الفروق يُفَسِّر كثيرًا بعض الشروط التي اكتملت في الواقع اللبناني وكانت جزءًا من الأسباب التي أطلقت الحراك اللبناني. من ذلك أن دول الموجة الثانية بخلاف الأولى، شهدت احترابًا داخليًّا وتجارب دموية، فالجزائر شهدت ما سُمِّي بـ”العشرية السوداء” (1992-2002)، والسودان انتهى بانفصال جنوبه عن شماله (عام 2011) فضلًا عن أزمة دارفور (منذ العام 2003)، أما لبنان فشهد حربًا أهلية (1975-1990) كانت ولا تزال الطائفية شاخصة في نظامه. فمن الواضح أن هذه الدول لم تجد مسارها في “إسقاط النظام” بما هو دولة وبيروقراطية قائمة ونظام تقني لصالح فريق سياسي آخر كما هو في الموجة الأولى. فالموجة الثانية ركزت على تغيير الطبقة الحاكمة كلها، باعتبارها المسؤولة عما آلت إليه الأوضاع في تلك الدول، في محاولة لتجنب مصير الموجة الأولى ووضع مسافة معها، ولتجنب أسباب النزاع الأهلي مرة أخرى، وربما هذا أحد أسباب محاولة تجنب مصطلح الثورة في الموجة الثانية عربيًّا، حتى شاع وصف الحراك عليها.

ورغم ذلك لا يمكن نفي المشتركات بين الموجتين لا بل كونهما امتدادًا واحدًا للمطالبة بـ”الإصلاح”، لذا يصح وصف الثورات في الموجتين بالإصلاحية، إلا أن هذا لم يمنع الثورات من ممارسة الانتقائية في كتابة تاريخها أو تطلعاتها بما يضمن لها البقاء أو تجنب مواجهات ليس لها علاقة مباشرة بمطالبها، فيمكن بسهولة أن تجد مثلًا من هو مؤيد للحراك أو ناشط فيه في لبنان وكان معارضًا للثورة في سوريا، سواء من المستوى الشعبي أو من بعض الناشطين، فضلًا عن شخصيات سياسية وعامة.

أما أهم المشتركات بين لبنان ودول الموجة الثانية فهو التشارك في اللحظة السياسية ذاتها طبعًا، كما تماهى الحراك في لبنان، خاصة في البدايات وما سبق البدايات، مع اليسار الذي تصدر حراك السودان(10). أما أحد أهم المشتركات الأخرى، الاعتمادية المتبادلة في التأثير والتنظير بين ناشطي العراق ولبنان(11)، وهو من أحد أهم الأسباب التي سمحت للشيعية اللبنانية بالانتفاض والاستمرار ولو بتواضع أحيانًا، رغم هيمنة الثنائي الشيعي، حزب الله وحركة أمل، لاسيما أن هيمنتهم على الطائفة في لبنان تكاد تكون مطلقة، على كل الأصعدة، وفي وقت اكتمل تواصل الفضاء الإيراني، من طهران إلى بيروت، مدفوعًا بشعارات ومصالح طائفية ليس من السهل على الشيعي تجاوزها.

وفي السياق الدولي، يمكن تمييز التأثير الذي تركته لبنانيًّا تحركات “السترات الصفر” في فرنسا، والتي اندلعت في مايو/أيار 2018 احتجاجًا على غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الوقود، لاسيما أن مسيحيي لبنان كان يسهل عليهم استلهام مثل هذه الصورة؛ إذ إن علاقة اللبنانيين عمومًا وتحديدًا مسيحييه بفرنسا، تاريخية وتتجاوز السياسي إلى التأثر الثقافي وبطريقة العيش إلى حد ما(12). ومن السمات الجامعة بين الحراكين “الإصرار على استقلالية التحركات والتحرر من أي قيود حزبية”(13). هذا الاتجاه العالمي ليس جديدًا وكانت له جذوره وبعض صوره أيضًا في عموم الثورات في العالم العربي؛ لأنها شعبية في الأصل بطبيعة الحال، وأصبح أكثر وضوحًا واحترافًا في الموجة الثانية، خاصة في لبنان، وتحديدًا في العمل السياسي من خلال مجموعات صغيرة من خارج المؤسسات الحزبية. ففضلًا عن السترات الصفراء في فرنسا السابقة الذكر، كانت هناك المظاهرات العارمة التي شهدتها هونغ كونغ، في 15 مارس/آذار 2019، ضد مشروع قانون يقر بتسليم مطلوبين إلى الصين(14)، ويمكن العودة أيضًا إلى مجموعة “احتلوا وول ستريت” في أميركا نفسها(15)، التي قامت ضد “الشركات” وعلاقتها المشبوهة مع السلطة، وقد تطول القائمة لتشمل احتجاجات أميركا اللاتينية أو بعضها(16). ربما الشيوع النسبي لهذا التوجه من العمل السياسي عالميًّا، هو ما حَمَل قيس سعيد، عند ترشحه إلى الانتخابات التونسية الرئاسية، على التبشير بأن العمل الحزبي السياسي انتهى وأن القادم حقبة جديدة من العمل السياسي؛ حيث قال: “الأحزاب، ماذا تعني؟ جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية بلغت أوجها في القرن التاسع عشر ثم في القرن العشرين، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزابًا على هامش الدنيا في حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها”(17).

وبغضِّ النظر عن مدى صحة هذه المقولة، فقد قام الحراك اللبناني في جله على مجموعات صغيرة لا يربطها أي عامل تنظيمي، وتقوم أولوية عملها على إعلاء شأن القضايا المطلبية وخفض أو تأجيل القضايا السياسية(18)، وقد حلَّت هذه المجموعات في العمل السياسي خاصة في الأيام الأولى للحراك، مكان العمل السياسي الحزبي إلى حد ما، واستمر تأثيرها ولو بنسبة قليلة إلى حين تفشى وباء كورونا.

ويبدو أن هذا النمط من العمل كان له الحظ الأكبر لدى الحراك اللبناني -وله جذور عربية فضلًا عن الدولية- لأنه كان الأسلوب الأنجع، بحسب ناشطي الحراك، لمواجهة الطبقة السياسية الحاكمة التي جاءت وفق تقاسم طائفي ومحاصصة حزبية للسلطة والثروة، ودون الوقوع في فخ الانحياز لبعض هذه الطبقة دون بعضها الآخر، لاسيما أن الطائفية في لبنان، وإِنْ كانت أداة سياسية بيد الفاعلين اللبنانيين أو مظلة لهم وفق الظروف، فهي أيضًا جزء من تاريخ الجماعات اللبنانية التي أَسَّست أو تأسَّست مع هذا الكيان.

  1. الحراك والنظام السياسي الطائفي

إن وجه المفارقة في “الحراك اللبناني” هو قدرة اللبنانيين في تلك اللحظة على تجاوز الطائفية السياسة التي تهيمن على حياتهم اليومية، فإذا بالمظاهرات التي شهدها الحراك تجمع اللبنانيين من كل الطوائف ويتصدَّرها خطاب الاعتراض على الطبقة السياسية الحاكمة كلها بكافة توجهاتها واتجاهاتها، ولم تكتف بالمطالبة بتغيير سياسات الحكومة، بل طالبت بتغيير طبقة الأحزاب الحاكمة، على الرغم من أن هذا المسار كان يعني بالضرورة، ليس إقالة رئيس الحكومة سعد الحريري فحسب، بل أيضًا إقالة رئيس الجمهورية، ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ولا سبيل قانونيًّا سهلًا إلى ذلك.

والمقصود بالطبقة الحاكمة، الأحزاب الأساسية والفاعلة التي تمتد جذورها إما إلى مرحلة الحرب الأهلية أو إلى الصيغة التي أنتجها اتفاق الطائف (عام 1989). ويمكن التمييز بين هذه الأحزاب تبعًا لمرحلتين زمنيتين، الأولى: وفيها تلك الأحزاب التي استقت شرعية وجودها أو استمرارها من دورها في إنهاء الحرب، واشتركت في تأسيس جمهورية جديدة بوصف قادتها ممثلين لطوائفهم، وبرعاية سورية وُصفت “بحكم الوصاية السورية”؛ لأنها كانت تتدخل بالتفاصيل للفصل بينهم. على هذا الأساس، أخذ قادة الأحزاب هؤلاء يتقاسمون قيادة الدولة ووظائفها، منذ عام 1992 إلى عام 2005، أي إلى حين مقتل رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان. وكان من أبرز قوى هذه المرحلة والتي استمرت إلى اليوم: تيار المستقبل، وحركة أمل، وحزب المردة، والكتائب اللبنانية، وحزب الله (ولكن حينها بأولويات غير محلية)، إضافة إلى غيرها. أما المرحلة الثانية: فهي من 2005 إلى لحظة انطلاق “الحراك”؛ حيث انضمت قوى أخرى إلى صيغة الطائف هذه، من أهمها: التيار الوطني الحر، ومن ثم حزب الله وقد أصبح قوة محلية كسواه بعد أن انضم للسلطة وحكوماتها بدون أي تحفظ على صيغة الطائف(19). وفي هذه الفترة عادت القوات اللبنانية -التي كانت شريكة أصلًا في صناعة الطائف- وانتعشت سياسيًّا بخروج سمير جعجع من السجن(20)، وبهذا، بلغت صيغة الطائف ذروتها من حيث حكم طبقة الأحزاب الطائفية.

هذه الصيغة التي جمعت بين نسخة طُبِّقت -برعاية سورية- من اتفاق الطائف، وبين الطائفية وأحزاب ممثلة لها، “أنتجت اقتصادًا وحياة سياسية مشوهة” وصلت الذروة بعد النزاع الذي استحكم بين ما عُرفت بـ”قوى الثامن من آذار” المؤيدة لسوريا، و”قوى الرابع عشر من آذار” المناهضة لسوريا(21)، وجعلت اتفاق الطائف عاجزًا عن الاستمرار في استيعاب تطورات الحياة السياسية اللبنانية لأسباب عدة، يمكن التركيز على سببين رئيسين لهما علاقة بمسار الحراك: تجذر الصيغة اللبنانية الطائفية تاريخيًّا، وعدم قدرة قوى اتفاق الطائف على التوافق.

أولًا: التاريخ والصيغة اللبنانية 

إن تاريخ لبنان حديث من حيث نشأته، فبحسب السردية الوطنية، اتفق اللبنانيون بمختلف طوائفهم مع انتهاء الاستعمار الفرنسي، عام 1943، على ما يطلق عليه “الميثاق الوطني” الذي نظَّم أُسُس الحكم في لبنان، ويقول أول رئيس جمهورية بعد الاستقلال، بشارة الخوري، عن مضمون الاتفاق: “وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرين اللذين يتألَّف منهما الوطن اللبناني (أي المسيحيين والمسلمين) على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة: استقلال لبنان التام الناجز من دون الالتجاء إلى حماية من الغرب، ولا إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق”. وبموجب ذلك التوازن في العلاقة بين الشرق والغرب، توافق اللبنانيون بشكل عرفي غير مكتوب على توزيع السلطة بحيث ينال المسيحيون الموارنة رئاسة الجمهورية، ويحصل المسلمون الشيعة على رئاسة البرلمان، والمسلمون السنَّة على رئاسة الوزراء، وينتخب النواب رئيس الجمهورية(22)، إضافة إلى تفاصيل أخرى توزع السلطة على باقي الطوائف، مع الإشارة إلى أن الطوائف المعترف بها في الدستور راهنًا، عددها ثماني عشرة طائفة، وتوصف بأقليات كبرى وصغرى(23).

فالهاجس من طغيان الأكثرية اللبنانية المسلمة وُلِد مع الكيان اللبناني، وكانت إحدى أهم غايات الميثاق بلغة مهذبة، الحفاظ على التوازن بين المسلمين والمسيحيين في الحكم، وبلغة الواقع، إعطاء المسيحيين امتيازات وخاصة الموارنة دون بقية المكونات؛ الأمر الذي كان أحد أسباب الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت حوالي خمسة عشر عامًا (1975-1990)، لتنتهي باتفاق الطائف وإقرار التوازن بين المكونين بالجملة. وعند إطلاق وصف المسيحيين في لغة الطائف فإنه يشمل كل المسيحيين، أما وصف المسلمين فيشمل السنة والشيعة والدروز والعلويين، والمكون الأخير قليل ومحدود في لبنان.

فاتفاق الطائف الوطني ومن قبله الميثاق الوطني، كلاهما قام على استيعاب التطورات الاجتماعية والسياسية التي كانت تشهدها المنطقة، لاسيما تلك التي جاءت مع انحسار قوة وسلطة الدولة العثمانية عن المشرق تدريجيًّا وما تلاها من الاستعمار الفرنسي وجلائه، ولكنهما، أي الاتفاق والميثاق، حافظا نوعًا ما على بعض الموروثات السياسية والطبقية لاستمرارها في المجتمع اللبناني، وإن لم يكن بذاتها حيث تعذر، فببعض من رمزيتها وروحها ومقتضياتها.

وبالعودة للتاريخ، فإن الأراضي التي تقع اليوم ضمن الجمهورية اللبنانية، كانت تحت السيادة العثمانية منذ 1516 حتى عام 1920، وقد أبقت الدولة العثمانية في معظم أجزائها على علاقات الإنتاج الزراعية والمراتب الاجتماعية والسلطات المحلية والمؤسسات الدينية كما كانت عند نهاية القرون الوسطى. واكتفت بتبديل الرؤوس وبإقرار شرعية البنى الاجتماعية السياسية القائمة(24).

لذا، يصح القول: إن البصمة الأساسية في دولة لبنان الكبير لم تخل من الإرث العثماني؛ حيث كانت الأسر المسيطرة على مقاطعات، أي مساحة من الأرض، “المقاطعجيون”، يلعبون دور الوسيط لصالح السلطان العثماني(25). والمقاطعجية كانوا فئة مميزة سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا، يمارسون القضاء والوظائف العليا في بلاط الأمير محفوظة لهم، ومن هذه العائلات المعروفة حتى اليوم: أرسلان، وجنبلاط، والشهابيون، وآخرون.

أما التقسيم الطائفي فيسهل تتبع جذوره في نظام المتصرفية (1861 -1918)(26)؛ حيث يُعَدُّ أوضح صوره، وهناك علامات فارقة ظهرت مع هذا النظام وأثَّرت “تأثيرًا بارزًا في مستقبل الأوضاع:

أ- أصبح التوزيع الطائفي أساس التوازن السياسي والإداري في لبنان مع تفوق الموارنة.

ب- دخول الفئات والقوى الاجتماعية القديمة من أعيان ومقاطعجية في التركيبة الإدارية الجديدة ومواقع نفوذها.

ج – تميز الموارنة ببروز فئات جديدة تقدَّمت على أسر الأعيان والمقاطعجية فيها. وهذه الفئات الجديدة لدى الموارنة نتجت من العلاقة الاقتصادية والثقافية بأوروبا وفرنسا تحديدًا، وسط نمو هائل لدور الكنيسة في قيادة الطائفة، وقد أخذ في الصعود منذ ظاهرة طانيوس شاهين (قاد ثورة الفلاحين في منطقة كسروان اللبنانية بين 1858-1860) على حساب الأعيان التاريخي بين الأسر القديمة. وبالتالي، فإن الطائفة المارونية شهدت إنتاج وترقي فئات قيادية جديدة في صفوفها”(27).

لذلك، فإن ما رسمه الميثاق الوطني من استثناءات وامتيازات، ومن ثم ظهرت في اتفاق الطائف في نصوصه أو ما بين سطوره فضلًا عن طريقة تطبيقه، وأصبحت قاعدة في توزيع السلطة والثروة وإدارة الدولة من قبل زعماء أحزاب وممثلين للطوائف، ليست مجرد حالة تعكس موازين القوة الطارئة، بل هي قوى بهويات طائفية تاريخية متجذرة، تعكس ما يُعبَّر عنه بـ”الصيغة اللبنانية”(28). فالدولة في هذا النموذج “هي الضامن السياسي لإنتاج الطوائف سياسيًّا وضبط نزاعاتها لمصلحة القوى المسيطرة”(29)، في حين أن موازين القوة قد تتعرض لتحولات لتنقل، في أفضل الأحيان، الامتياز من طائفة إلى أخرى في ظروف استثنائية ووفق ما تحدده الصراعات، من مارونية سياسية (قبل الطائف) إلى سنية سياسية (بعد الطائف وقبل 2005) إلى شيعية سياسية مؤخرًا (بعد 2005 حتى اليوم)، ولكن فكرة الحؤول ضد “طغيان الأكثرية” والخوف منها تبقى على الأغلب العامل الثابت في المعادلة اللبنانية.

والجدير بالذكر أن الحالة اللبنانية اعتُبرت أحد نماذج ما يسمى “الديمقراطية التوافقية”(30)، وقد أثبتت التجربة اللبنانية أن هذه “الديمقراطية” من الناحية الإجرائية وفي السياق اللبناني، تختزن احترابًا بين الطوائف أكثر مما تصنع توافقًا، بغض النظر عن الجدل العلمي أو السياسي حول حاجة لبنان لهذا النوع من الديمقراطية لتمثيل الطوائف اللبنانية وخصوصياتها وصنع مشتركات بينها.

ومن جهة أخرى، لما تمكنت الديمقراطية التوافقية من السلطة التنفيذية -بغض النظر عن كونها ديمقراطية توافقية حقًّا أم لا- تسببت في تعطلها فعجزت عن اتخاذ قرارات في القضايا التي تهمُّ اللبنانيين ومصيرهم سواء تعلقت بالمال والاقتصاد أو السياسة والاجتماع، فَحُرِم البلد من الاستقرار وانتهى على شفير الإفلاس “وأفسحت المجال أمام مكونات السلطة كي لا تتحمل مسؤولية ما اقترفته، وأن يرمي كل منها المسؤولية على سواها”(31)، حتى إن كلًّا منهم رأى أن ما يسعى له الحراك هو ما كان يسعى له، متذرعًا بأن الأطراف الأخرى حالت دون ذلك؛ لأن القرارات دون التوافق لا ترى النور، أو لأسباب وأعذار أخرى(32).

ثانيًا: عجز قوى الطائف عن التوافق

قام الطائف على توافق سعودي-سوري، بتمويل رئيس ودعم اقتصادي من السعودية، وبرعاية سياسية وأمنية سورية مباشرة. وكانت الغاية منه الخروج من الحرب الأهلية واصطفافاتها الطائفية، والنهوض بلبنان ليستعيد دوره العربي. ولكن من الناحية الواقعية، يمكن التمييز بين ثلاثة نماذج للطائف، أولها: ذلك النص الذي وقعته الأطراف اللبنانية عام 1989 وكان من المفترض أن يفضي إلى إلغاء الطائفية السياسية وفق إجراءات متدرجة، منها انتخاب مجلس نواب على أساس وطني وتأسيس مجلس شيوخ يمثِّل الطوائف اللبنانية وتنحصر صلاحياته بالقرارات المصيرية التي تمس وجود طوائف لبنان ومستقبلها(33). والنسخة الثانية: وهي الصورة الواقعية التي طُبِّق فيها الاتفاق بما يُعَزِّز هيمنة سوريا على الحياة السياسية اللبنانية منذ عام 1990، ويصفه لبنانيون بزمن “الوصاية السورية”، وانتهى الطائف فيه إلى هيمنة حلفاء سوريا على سواهم من الأطراف الأخرى، ولم يحقق النهوض.

وانتهى هذا النموذج بانسحاب الجيش السوري، عام 2005، من لبنان بعد مقتل رئيس الوزراء، رفيق الحريري، وتوجيه الاتهام بالاغتيال إلى سوريا وحلفائها في لبنان لاسيما حزب الله، وأخذت صيغة الطائف هذه -رغم عيوبها- تتصدَّع، وانقسم المجتمع اللبناني عموديًّا بين مؤيد لسوريا ومعارض لها، أي بين قوى 8 و14 آذار. وأصبح لبنان أمام نموذج جديد وثالث من الطائف، فيه مساران: الأول: يستعيد الطائفية إلى الشارع اللبناني ويعززها في المجتمع والدولة، والثاني انعكاس للأول، نهج سياسي تتعطَّل معه المؤسسات السياسية والدستورية عن القيام بعملها، لتستنزف مقدرات اللبنانيين الاقتصادية؛ ذلك أن انسحاب سوريا من لبنان عسكريًّا جاء بمنزلة انسحاب من رعاية اتفاق الطائف والتزاماته. وبالمقابل، اتسعت مساحة نفوذ حزب الله في لبنان جغرافيًّا وسياسيًّا، وتصفه بعض قوى 14 آذار بأنه “وريث الوصاية السورية” على لبنان، ليكون الفاعل الأبرز في هذا النموذج. فبعد أن كان حزب الله يمتلك حق “الفيتو” في الدولة اللبنانية مستمدًّا ذلك من حق سلاحه بعدم الخضوع لها -وهو ما جعل خصومه يصفون الحزب بأنه “دولة داخل الدولة”- فإذا به يصبح شريكًا “ونافذًا” في الدولة، بعد أن تعزَّز دوره فيها بوصول حليفه، الرئيس ميشال عون، إلى الرئاسة (31 أكتوبر/تشرين الأول 2016)، ليدعم بذلك دوره الإقليمي المتزايد في المنطقة، خاصة أنه انخرط في الحرب السورية ضد “الثورة” بوقوفه إلى جانب النظام السوري، فضلًا عن دوره في اليمن والعراق، كما أنه من جهة أخرى صعَّد من موقفه ضد المملكة العربية السعودية، في صدى لتصاعد النزاع الإقليمي بين الأخيرة وإيران.

إن تصدُّر حزب الله النزاع المحلي والإقليمي نقل الطائف الذي جاء لضبط النزاع الطائفي بين المسلمين والمسيحيين إلى تأجيج المذهبية بين السنة والشيعة، وحصل تبدُّل في المفاهيم وفي تعريفات الأكثرية (المسلمة) والأقلية (المسيحية)، ليصبح حزب الله جزءًا من أقليات “تخشى” الأكثرية السنية (المفترضة) في الإقليم، وهو العلامة الأبرز سياسيًّا بعد التفاهم الذي نسجه مع التيار الوطني الحر(34)، في حين أن تيار المستقبل -يصبح وفق هذا التوصيف- إلى حد ما جزءًا من “الأكثرية” في المحيط العربي، أي فاعلًا سنيًّا وليس عابرًا للطوائف كما وُلد.

بعد ما انتهت إليه القوى السياسية من خلافات اختلط فيها المحلي بالإقليمي والطائفي بالوطني، كان من الطبيعي أن تعجز الطبقة الحاكمة عن إدارة خلافاتها بما يخدم الناس أو على الأقل بما لا ينعكس سلبًا على إدارة شؤون الناس والحكم، ويمكن اعتماد معدلات الفراغ والتعثر التي شهدتها المؤسسات الدستورية كمؤشر على ذلك، لتجنب الخوض في تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية. ففي هذه المرحلة بالذات من عمر الطائف (أي بعد 2005)، أصبح التوافق بين الأحزاب الممثِّلة للطوائف هو المحدِّد لوجهة عمل المؤسسات الدستورية، وهو أمر صعب بغياب الراعي السوري؛ حيث مدَّد البرلمان اللبناني لنفسه مرتين من عام 2013 إلى العام 2017، بسبب الأزمات السياسية، في حين كانت آخر انتخابات جرت قبل ذلك عام 2009، أي إن المسافة الزمنية التي فصلت بين موعدي الانتخابات للشعب اللبناني حوالي 9 سنوات (يونيو/حزيران 2009 – مايو/أيار 2018)(35)، وكأن الممثل الطبيعي للبنانيين هي الطبقة الحاكمة من أحزاب السلطة ممثلي الطوائف، وكثرت فترات الفراغ السياسي على الصعيد الحكومي لتكتفي بتصريف الأعمال، ومن أبرزها (36):

– حكومة فؤاد السنيورة: دخلت في تصريف الأعمال منذ أواخر 2006 وحتى منتصف 2008، بعد استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة.

– حكومة نجيب ميقاتي (مارس/آذار 2013- فبراير/شباط 2014): ظلت هذه الحكومة تدير شؤون لبنان على نطاق ضيق بعد استقالتها بسبب الانقسام السياسي الحاد حول الانتخابات والتعيينات في الوظائف العليا”.

– حكومة تمام سلام: باتت هذه الحكومة تصريف أعمال إثر الفراغ الرئاسي في 2014، ولم تنجح في مواجهة تحديات مثل أزمة النفايات وظل هذا الوضع حتى أواخر عام 2016.

– حكومة سعد الحريري الثانية (مايو/أيار 2018- يناير/كانون الثاني 2019): أصبحت هذه الحكومة تصريفًا للأعمال بسبب الاستشارات الشاقة بين القوى السياسية في البرلمان.

وعلى الصعيد الرئاسي، شهد لبنان فراغًا رئاسيًّا بين نوفمبر/تشرين الثاني 2007 ومايو/أيار 2008 بعدما انتهت ولاية الرئيس، إميل لحود، والسبب كان عدم التوافق على خليفة للرئيس المنتهية ولايته. أما الفراغ الرئاسي الثاني والأطول منذ الطائف، فكان بسبب إصرار حزب الله والتيار الوطني الحر على اختيار عون رئيسًا ورفضه من قِبَل آخرين، استمر عامين ونصفًا -بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان- من مايو/أيار 2014 إلى أكتوبر/تشرين الأول 2016؛ حيث انتخب البرلمان اللبناني ميشال عون رئيسًا للجمهورية، بعد تسوية سياسية للتيار الوطني الحر الذي يتزعمه عون نفسه، أولًا مع حزب القوات اللبنانية ومن ثم مع تيار المستقبل، ما فتح الطريق أمام سعد الحريري ليترأَّس الحكومة الأخيرة، والتي تألَّفت بعد تعثر أيضًا دامَ قرابة 9 أشهر تلت الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار 2018، وذلك قبل أن تستقيل بعد 13 يوم على الحراك، تحت وقع التظاهرات أو “استجابة” لها.

ومن الأحداث التي تختصر ما بلغه العمل الحكومي نفسه من هشاشة أن اختلافًا درزيًّا بين طلال أرسلان، رئيس الحزب الديمقراطي (قوى 8 آذار)، ووليد جنبلاط، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، إثر حادثة أمنية سقط فيها قتلى وجرحى في 30 يونيو/حزيران 2019، عطَّل الحكومة 40 يومًا ولم تخرج من الأزمة إلا بعد تدخل أميركي(37).

ومن المفارقات أنه حتى بعد الحراك، فإن حكومة رئيس الوزراء، حسان دياب -على الرغم من أنه سُمِّي من فريق واحد خلفًا للحريري، في 19 ديسمبر/كانون الأول 2019، وحكومته شُكِّلت كذلك من نفس الفريق، قوى 8 آذار- لم تر النور إلا في 21 يناير/كانون الثاني 2020، أي بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من استقالة سعد الحريري (استقال في 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019).

في الخلاصة، إن النظام السياسي اللبناني بما يحمله من موروثات وأعراف حملتها الصيغة اللبنانية وما انتهى إليه من صيغ الطائف كما طُبقت حتى اليوم، كرَّست الطائفية ومن ثم المذهبية، وشاعت المحسوبية والزبائنية في مفاصل النظام السياسي اللبناني وحتى على صعيد الطائفة الواحدة(38). ولم يعد من الممكن للبناني أن يصل إلى حقوقه بالمواطنة، وإنما بالانتماء إلى طائفة زعماء الطبقة الحاكمة -وتحديدًا لأحزابهم- وهؤلاء يقتسمون موارد الدولة ويوزعونها(39). فهذا النظام الموسوم بالتوافقي، يقوم في جوهره على “مصادرة الأفراد وإلحاقهم من دون سؤال بهذه أو تلك الطوائف المعترف بها، وجعل مزاولتهم حقوقهم على اختلافها رهنًا بهذا الإلحاق”(40)، فهو نظام “يرفض الاعتراف بالحقوق السياسية والقانونية المتساوية للمواطنين، وهو بذلك لا يعترف لهم إلا بحقوق طائفية غير متساوية”(41). مع هذه التناقضات لم يعد للطائف القدرة على الاستمرار دون كلفة كبيرة على الشعب اللبناني، فكان الحراك.

  1. الحراك وطبقة الأحزاب الحاكمة

جاء الحراك في الأساس تتويجًا لمسار من التحركات الشعبية لمجابهة سلسلة من التحديات التي واجهت المواطن اللبناني. ويمكن العودة بها إلى أحداث الربيع العربي عام 2011؛ حيث تظاهر ناشطون لبنانيون في بيروت مطالبين بإسقاط النظام الطائفي، ومنذ ذاك الحين توالت احتجاجات مختلفة بعضها حقوقي، مثل: مطالب النساء بالجنسية أو برفع سنِّ حضانة المرأة لأطفالها ومحاربة العنف ضد المرأة وما إلى ذلك مما أعطى المرأة حضورًا متكررًا في الشارع اللبناني. وكانت أيضًا الاحتجاجات الواسعة ضد أزمة النفايات (عام 2015) التي تراكمت في عدة مناطق لبنانية وتحولت إلى أزمة طائفية وجهوية في بعض وجوهها، ووصلت الأرياف والقرى كما المدن. فضلًا عن احتجاجات فئوية متعددة لنقابات العمال والمعلمين والأساتذة الجامعيين وسواها، خاصة عام 2017 الذي أقرت فيه الحكومة زيادة على الرواتب رغم العجز المالي، وتوالت إلى ما قبيل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، حتى وصلت لمتقاعدي الجيش اللبناني -بعد إجراءات تقشف طالت مخصصاتهم المالية- الذين نزلوا الشوارع في ظاهرة جديدة لم يعرفها لبنان من قبل. ومن ثم كانت الحرائق التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول (2019) وعلى صعيد واسع، ولم تستطع أجهزة الدولة إطفاءها لولا نشاط الشباب المتطوعين ومن ثم هطول الأمطار، وهذه الأخيرة كانت الدلالة الأقوى على عجز مؤسسات الدولة وغيابها(42). وكان من اللافت أن الطبقة الحاكمة أيضًا لم تملك ردًّا على الأزمات إلا تصعيدًا للخطاب الطائفي بعضها ضد بعض، أو أن تتبادل التهم بالعرقلة والتقصير، وكان الأسوأ للناس أن بوادر الأزمة المالية وشُحَّ الدولار في المصارف أخذت تتعاظم والحكومة عاجزة عن أي إجراء، فكانت الذروة احتجاجات 17 أكتوبر/تشرين الثاني 2019، حراكًا ضد كل الطبقة وضد كل شيء ينتمي إليها(43).

1.3. مكونات الحراك

إن المسار الذي أدى إلى اندلاع الحراك، انعكس بالضرورة في مكوناته، وفي طبيعة علاقته مع الطوائف وطبقة الأحزاب الحاكمة، وهذان المعطيان بدورهما، أي مكونات الحراك وطريقة تفاعله مع الأحزاب الحاكمة، سيُحدِّدان وجهته في المستقبل. ويمكن تمييز عدد من الشرائح الأساسية المشاركة في الحراك وفق هذا التوصيف:

أولًا: الجمهور اللبناني غير المؤطَّر بأي تنظيم سياسي أو نقابي أو أي من منظمات المجتمع المدني، وهو جمهور الحراك الأعظم، وغالبه من عموم الطبقة الوسطى والفقيرة في لبنان، وبعض من طبقة ما فوق الوسطى، حتى إن بعضها -وهم شريحة كبيرة نسبيًّا- لم تشارك من قبل في أي عمل سياسي. وتعطي مشاركة هذه الشريحة للحراك معناه، وهي تشارك رجالًا ونساء وأطفالًا وكهولًا، وتحديدًا في ذروة الاعتراض المطلبي والسياسي الشامل.

ثانيًا: الجمعيات النسوية، ومشاركة المرأة عمومًا، كانت لافتة في الحراك ودورها كان فعَّالًا فيه ورياديًّا، ومن كل الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية والاجتماعية. وهو انعكاس لتغير دور المرأة في المجتمع اللبناني، وعزَّز من شرعية الحراك أمام المجتمع الدولي.

ثالثًا: النقابات والفئات العمالية وأصحاب المطالب الفئوية، مثل الأساتذة والمعلمين وسواهم، فضلًا عن التحاق متقاعدي الجيش اللبناني بالحراك وكان لهم دور حيوي فيه، كما انتشرت دعوات للتحرر من بعض هذه النقابات (ليس كلها) وإيجاد بدائل دائمة أو مؤقتة لها، أو إعادة ترتيب شؤونها باعتبار أنها مخترقة من الدولة أو أنها خاضعة لشروط الطوائف وأحزابها الحاكمة في لبنان.

رابعًا: مجموعات مطلبية لناشطين من المجتمع المدني، ويقصد بهم غير المنتمين لأحزاب السلطة ولا للأحزاب الأيديولوجية المعروفة في لبنان، بعضها برز مع الأزمة الأخيرة وبعضها وُلِد قبلها ولكن في نفس سياق الاعتراض على نهج السلطة الاقتصادي واحتجاجًا على “الفساد”، وتحولت إلى العمل السياسي ولكن من مدخل محلي وطني، ويمكن ذكر بعضها من باب التمثيل: “بيروت مدينتي” في بيروت، مجموعة “لحقي” وتضم ناشطين من جبل لبنان وبيروت، و”حراس المدينة” في طرابلس، وهكذا دواليك. وقد يكبر نشاط بعضها لتصبح أقرب إلى الحزب، مثل: “مواطنون ومواطنات في دولة”، أو تعلن نفسها حزبًا مثل “حزب سبعة”، وغالبها يلتزم مجال العمل الوطني وينشط فيه. وهذه المجموعات هي التي تعطي الحراك قدرته على الديمومة والاستمرار.

خامسًا: اليسار اللبناني، وهذا لا يعني أنه لا توجد اتجاهات بأيديولوجيات أخرى، لكن حضور اليسار كاتجاه معنيٍّ بالوضع الاقتصادي، فضلًا عن الحقوقي، كان مُلاحَظًا أكثر من سواه، ويمكن الجزم بأنه الأكثر حضورًا بين الناشطين في الجنوب اللبناني، وأن له لمسات ملحوظة في عموم خطاب “الحراك”، وهو في نمو بالتوازي مع استمرار الحراك. لعب دورًا كبيرًا في التأجيج ضد المصارف وضد الخطاب الطائفي، وله تأثيره في زيادة حدة الخطاب الاحتجاجي.

سادسًا: الإسلاميون الجدد، ولا يقصد بهذا المصطلح أي اتجاه من الاتجاهات الإسلامية السياسية السائدة بعينه، بل تلك الطبقة المحافظة وبعضها مؤدلج إسلاميًّا، تصدت للشأن السياسي من المنظور المطلبي والمعيشي والوطني، قد ينتمي بعضها لأحزاب من خارج السلطة (كالجماعة الإسلامية) أو لجمعيات إسلامية سنية أو شيعية، ومن الأخيرة أتباع الراحل، السيد محمد حسين فضل الله، شيعيًّا، لكنها في الساحة السنية أكثر وضوحًا وتمايزًا. ومن الأخيرة لعب هذا التيار دورا رئيسيًّا سهَّل على الحراك أن يتغلغل داخل البيئة السنية لاسيما أن تيار المستقبل لم يتبنَّ الحراك أو يذعن له.

2.3. الحراك متفاعل مناطقيًّا

أحد أهم التطورات التي حملها الحراك، هي إدخال الأطراف اللبنانية الشعبية إلى قلب المعادلة السياسية وفتح المجال أمام نخب سياسية وفكرية واتجاهات اجتماعية جديدة، لتعيد صياغة الوطنية اللبنانية، ودخل في مواجهة؛ أولوياتها الاحتجاج في المناطق وليس مواجهة أحزاب الطبقة الحاكمة مباشرة وجهًا لوجه -ولو حرصت تلك الأخيرة على ذلك- ولكن دون تبرئتها بالتزام خطاب الإدانة لجميع الطبقة دون تخصيص، لاسيما أن قوة الحراك كانت تتمثَّل في أن كل منطقة تثور ضد زعاماتها السياسية والطائفية، وهي المعادلة التي سمحت للحراك بالاستمرار والتمدد، و”عدم وقوعه في فخ الطائفية”(44).

هذه الصيغة سمحت لمدينة طرابلس المهمشة مع أطرافها والتي تضم معظم فقراء لبنان، أن تستفيد من إهمال قوى السلطة لها والانشغال عنها (وقد كانت خلافاتهم سببًا في إذكاء الاشتباكات -حوالي 20 جولة قتال بين 2008 و2014- بين منطقتي التبانة وجبل محسن في المدينة)، لتتحول في غفلة منهم إلى رافعة للحراك؛ إذ كانت ساحتها قادرة على الامتلاء والاستمرار -كان الحراك في سواها يتعثر أحيانًا مثل بيروت أو الجنوب- لأنه ليس لمؤيدي الأحزاب الحاكمة قوة كافية لإيقاف الحراك الشمالي، وليس لحلفاء حزب الله أو حركة أمل في المدينة -التي تعتبر خزانًا سنِّيًّا بالاعتبار الطائفي- قوة شعبية أو جذور عميقة، وبهذا لم يتبقَّ إلا الأمن وأجهزته لتكون في صدارة المواجهة؛ الأمر الذي عزز مخاوف نخب الحراك، من أن توصم المدينة بالإرهاب والتطرف الديني أو أن يُدفع بها نحو الخطاب المذهبي والطائفي(45). ولتتجنب قوى الحراك في المدينة الانفراد بها أو أن تنتهي إلى هذا المصير، تجاوزت مطالبها الجهوية التنموية، وآثرت الالتزام بأهداف الحراك الأساسية الجامعة. ولأول مرة على الأقل منذ عام 2005، يشعر “الجمهور السني” في طرابلس ومن ثم في عموم المناطق اللبنانية، وتحديدًا الذي انخرط في الحراك، أنه ضرورة وطنية للتحرر من طبقة الأحزاب الحاكمة، وأن بقية اللبنانيين معنيون بنهوضه هذا؛ لأن القيود المحيطة به أقل نسبيًّا ولأنه جزء من الأكثرية في الإقليم، والتزامه بثوابت وطنية سيكون مطمئنًا ودافعًا لتغيير حقيقي محليًّا، وأي تفاعل خارجي معه وفق هذه الشروط سيأتي بسياسات خارجية عربية تخدم الإجماع الوطني، وليس الانقسامات الطائفية وما تفرضه من صراع أقليات أو خشية من هيمنة الأكثرية(46).

وكذلك، ظهرت شريحة جديدة في قوى الحراك جنوبًا وفي بعلبك حيث البيئة الشيعية وهيمنة الثنائي (أمل وحزب الله) المطلقة. أخذت تُصَعِّد من انتقادها للدولة العميقة والمصارف، وكذلك لأحزاب الطبقة الحاكمة ولكن بلغة أكثر تجريدًا تجاه الأخيرة كي لا تصطدم مع الثنائي الشيعي، مستفيدة في التعبئة من بعض الجذور اليسارية الثقافية التي عرفتها هذه المناطق تاريخيًّا، ولكن هذه المرة تستعيدها في سياق حقوقي ووطني، مدفوعة بالأثمان الباهظة التي ما زالت تدفعها “الشيعية السياسية” محليًّا وإقليميًّا، دون أن تستقر حتى اللحظة أو أن تجني ثمن “كفاحها” أو مشاركتها في المعارك والحروب المتعددة محليًّا وإقليميًّا. وواجه نشطاء الحراك الجنوبيون عمليًّا خطابًا تحريضيًّا يصمهم في بعضه بـ”الخيانة”؛ لأن ما يدعو إليه الحراك، بالنسبة لمؤيدي الثنائي الشيعي، “يعني التخلي عن مكاسب الشيعة” من النظام اللبناني، و”ترك” الجنوب دون حماية بالتنازل عن سلاح حزب الله. فالمطالبة بالدولة للجميع دون أخذ ما عاناه الشيعة في التاريخ اللبناني بالاعتبار، ودون وضع شروط لحماية مستقبل الشيعة، لا معنى له إلا هذا: “التفريط بالحد الأدنى أو الخيانة”(47).

وقام حراك الجنوب في العمق، أو بحسب بعض نخبه، على رفض “الأحزاب الطائفية”، و”الصمود” على مطالب الحراك الأساسية المتفق عليها في عموم لبنان من منظور وطني، والالتزام بعدم التعرض “لسلاح المقاومة” بالنقد، مع تأكيدهم على أن الحراك في وقت ما لابد أن يناقش هذه القضية، ويعتبرون أن موضوع “المقاومة” كاستراتيجية هو حدٌّ لا يمكن للجنوب التخلي عنه، بغضِّ النظر عن حزب الله أو أي فاعل سياسي، حتى لا يعود الجنوب منطقة مباحة لإسرائيل، كما كان قبل التحرير عام 2000(48).

في حين تبدو بيروت الكبرى وضواحيها منهكة من التصعيد المذهبي والطائفي الذي أصبحت ساحة له في العقد الأخير، فالعاصمة وأهلها يعانون من جرَّاء هذا التصعيد المتكرر لمصالح ضيقة، والشرائح المتضررة في المدينة منه تتسع، وهو أحد أسباب إصرار المقيمين فيها على التظاهر والبقاء في ساحاتها إبان الحراك رغم المخاطر التي قد يتعرضون لها، نتيجة المواجهات مع الأمن أو الاعتداءات من بعض قوى الأحزاب الحاكمة. ومن الضروري التنويه إلى أن الجمهور المؤيد للثنائي الشيعي من قوى الأحزاب الحاكمة، رغم أنه عمل مرارًا على كسر الإجماع الوطني حول الحراك ومحاصرته، إلا أنه كان على الأقل في اليومين الأولين جزءًا منه، حتى أطلق عليهم بعض المتظاهرين، وصف “متظاهرو أول يومين”. وهناك اعتقاد من بعض ناشطي الحراك، أنه إذا ما تراجعت الضغوط الاجتماعية والسياسية التي تمارس عليهم من جمهور الثنائي، أو إذا ما تفاقمت الأزمة الاقتصادية، فإن هؤلاء -متظاهري اليومين الأولين- سيكونون الإضافة الأهم للحراك وفي كل المناطق(49).

أما المناطق ذات الغالبية المسيحية، التي حُرمت في الطائف من تمثيلها الطائفي بما يوازي بقية المناطق من حيث القوة والنوعية(50)، فقد أعادت تشكيل نفسها في موقفها من السلطة على وجهين:

– الوجه الأول، وفيه فريقان: فريق هو جزء من صراعات الطبقة الحاكمة، مدفوع بمحاولة تعويض ما خسره في المرحلة الأولى من الطائف، ما بين 1990 و2005، وكان حينها سمير جعجع في السجن وميشال عون في المنفى، وحزب الكتائب كان بين يدي قوى قريبة من النظام السوري وهكذا دواليك، وكانت المناطق ذات الغالبية المسيحية عمليًّا تعاني من فراغ حزبي وعدم وجود ممثلين لها يماثلون أقرانهم المسلمين تمثيلًا وقوة في طبقة الأحزاب الحاكمة. وفريق آخر، في المرحلة الثانية من الطائف (بعد 2005) يطرح نفسه على أنه الممثل الحقيقي للمسيحيين وجاء تحت عنوان “استعادة حقوق المسيحيين التي أخذها الطائف”، وهو التيار الوطني الحر (بزعامة ميشال عون وجبران باسيل)، ولكن هذه القوة لم تنعكس تمكينًا لمسيحيي لبنان، ولا ازدهارًا واستقرارًا للبنان في ظل رئاسة عون(51).

– الوجه الثاني: فيه فريق من أولئك الذين انخرطوا في قوى المجتمع المدني ليملؤوا الفراغ الذي تركه غياب القوى المسيحية التقليدية، وكذلك أولئك الذين لم يقتنعوا بالأحزاب المسيحية من الطبقة الحاكمة بعد خروج سوريا من لبنان، أي في المرحلة الثانية من الطائف، أو أن لهم تجارب معها وانفضوا عنها جميعًا(52).

فالانكفاء عن العمل مع الأحزاب القائمة، عامل مشترك بين كثير من ناشطي الحراك في كل الطوائف، وله أسباب مختلفة تتعلق بظروف كل طائفة أو منطقة إلا أن العامل الاقتصادي هو الأهم، وهناك أسباب ثقافية لها علاقة بتطورات العصر واختلاف الأجيال وتفاوت نظرتها للمستقبل الذي تريد، وتجنب تكرار أسباب الحرب الأهلية خشية أن تتكرر الحرب نفسها.

  1. إنجازات وتحديات

كشف الحراك عن مجموعة من المعطيات والحقائق لم تكن محلَّ اهتمام أحزاب الطبقة الحاكمة ولا مركز تفكير الجمهور المأخوذ بالصيغة اللبنانية وبحصصه الطائفية منها، وبنفس الوقت حرك مجموعة من التحديات في مواجهته، لا تقل عنه من حيث القوة والتأثير، ولها تأثير حاسم على مستقبل الحراك أو ما يمكن أن يحققه للبنانيين أو ما يمكن أن يضيفه إلى ثورات الربيع العربي. ويمكن في هذا السياق التمييز بين ثلاثة إنجازات حققها الحراك مع تحد كبير ينتظره: أولها كانت ملاحظات على جوهر النظام، والثانية شكلت تحديًا للأحزاب الحاكمة، والثالثة إنجازات لم تكتمل أو أوضحت قصورًا في الحراك نفسه وشكَّلت تحديًا له. أما التحدي الأكبر فهو قوى الثورة المضادة وسيخصه الباحث لاحقًا بعنوان لوحده.

أولًا: الفصل بين الطائفية والأحزاب الحاكمة

يمكن رصد بعض الخطوط العريضة التي تضمنها خطاب الحراك للفصل بين الطائفية كصيغة تاريخية حاكمة، وكأداة بيد طبقة الأحزاب الحاكمة، (وإِنْ لم يطورها إلى مبادئ بعد)، وبالتالي إعادة صياغة الواقع اللبناني من منظورها:

– المحافظة على الطائف نصًّا وروحًا فيما يتعلق بانتخاب البرلمان على أساس وطني لا طائفي، وأن ينتخب بالمقابل مجلس الشيوخ على أساس طائفي وتنحصر صلاحياته فيما يخص القضايا المصيرية فحسب.

– توزيع المناصب الوزارية ووظائف الفئة الأولى طائفيًّا، لا يعني أنهم يعينون من الأحزاب الطائفية أو من الطوائف نفسها، بل من الشعب اللبناني وهذا ما نصَّ عليه الطائف.

– التمثيل الطائفي لا يعني أن تُبنى الأحزاب على أساس طائفي لتختار ممثليها، بل يجب أن تكون وطنية، وهي من نفس المنطلق تحافظ على التعدد الطائفي في خياراتها واختياراتها(53).

هذه الخطوط جعلت الالتفاف حول الحراك شعبيًّا ووطنيًّا أمرًا ممكنًا، ويمكن رصد أخرى بالطبع، وتكمن أهميتها في جرأتها؛ لأنها تمس جوهر النظام اللبناني وصيغته دون أن تصطدم معهما، وإضافة إلى ذلك، تدل على أن الحراك استطاع أن يضم نخبًا تعرف النظام وكيفية التعامل معه على المستوى القانوني والإجرائي.

ثانيًا: عدم وجود رقابة على السلطة

حقَّق الحراك بلا شك إنجازات كانت كافية لأن تُحْدِث صدمة في الشارع اللبناني، حتى لبعض أحزاب السلطة نفسها عن نفسها وأوحت بأنها بصدد مراجعة نهجها، ولا يبدو أن تفاعلاتها ستنتهي قريبًا، ويمكن ذكر بعضها مما أسهم في تأكيد أن طبقة الأحزاب الحاكمة، حتى ولو كان بعضها خارج الحكم، كلها قوى سلطة واحدة في نهاية المطاف؛ لأنها ممثلة لطوائف وفق صيغة الطائف المعتمدة، وليست رقابية، وعلى سبيل المثال لا الحصر:

  1. الحراك كشف عمق الأزمة الاقتصادية لعموم اللبنانيين، بينما تطمينات السياسيين في هذا الشأن وأرقام المصرفيين لاسيما مصرف لبنان، لم تكن واقعية، كما أن الطبقة السياسية جميعها لم تعط الأولوية للرقابة، والدليل الأزمة الاقتصادية نفسها. فقد بدأت هذه الطبقة حكمها في المرحلة الأولى من الطائف لإيقاف الحرب بالتغاضي عن محاربة الفساد، وكان عنوانها مع بعض التحفظ حيث يجب، ما عبَّر عنه رفيق الحريري في انتخابات عام 2000، عندما برَّر النتائج السلبية لمرحلة إعادة الإعمار بقوله: “اضطررنا لشراء السلم الأهلي بالمال”(54). أما المرحلة الثانية من الطائف (بعد 2005)، ففيها عزَّز حزب الله من نفوذه في الدولة وفق معادلة ليست بعيدة عن المقولة السابقة، تقوم على: “مقايضة السلاح مقابل الفساد”(55). أي تغض الأحزاب الحاكمة النظر عن سلاح حزب الله وتوفير متطلباته من السياسة، مقابل غضه هو النظر عن مطالبها من الدولة بالفساد. وقد أصبح مع الحراك من الصعب السكوت عن هذا النهج، وتحديدًا في الجانب المتعلق بالفساد، ولم يكن أمام أول حكومة بعد الحراك، حكومة حسان دياب، إلا أن تصارح اللبنانيين بعدم قدرتها على سداد الديون، وأن النظام الاقتصادي الريعي والمال السياسي الذي أُنفق من كل الأطراف منذ الطائف، كان في نهاية المطاف على حساب مدخرات أو مستقبل اللبنانيين الاقتصادي، وأن على اللبنانيين أن يبدؤوا بالبحث عن اقتصاد منتج(56).
  2. كشف الحراك عن أن الأزمات السياسية في لبنان، باعتبارها جزءًا كبيرًا من الأزمة الاقتصادية، تعود في كثير منها للتقاسم الطائفي للسلطة وللمحاصصة الطائفية التي كرسها النظام اللبناني والصيغة اللبنانية من جهة، وتعود من جهة أخرى إلى الفساد والرشى والمحسوبية التي تجاوزت المعقول(57) مع هذا النظام بسبب سياسات وسلوك الطبقة الحاكمة منذ الطائف وأنها يجب أن تتغير. ودفع الحراك بقوة نحو مراجعة النهج السياسي والاقتصادي اللبناني، حتى أشعر الدول الصديقة، لاسيما مثل دول المؤتمر الاقتصادي “سيدر”، أنها بتمويل هذه الطبقة في ظل هذا النهج، تشير إلى أنها -الدول الخارجية هذه- استسلمت لهذه التركيبة، أو أن لها مصلحة باستمرارها، ما دفع بعض هذه الدول على الأقل للتريث، أو زيادة رقابتها على ما تقدمه من مساعدات أو قروض(58).
  3. إن الحديث عن تعاون بعض من أصحاب المال مع الطبقة السياسية أو الإذعان لها قديم في لبنان، ولكن الحراك كشف أن في لبنان طبقة اقتصادية قائمة بذاتها، سواء في نظام الدولة الرسمي مثل مصرف لبنان، أو في القطاع الخاص مثل جمعية المصارف، وبالتالي وضعها تحت منظار النقد والمراقبة من عموم اللبنانيين وهو ما لم يكن من قبل كما هو الآن. وأصبحت الأحزاب الحاكمة متهمة إما بالتواطؤ أو التقصير، لأن هذه الطبقة المالية إما كانت تتصرف والسلطة السياسية لا تعرف عنها شيئًا أو بالتواطؤ معها، ربما هذا دفع بعضًا ممن شكَّل الحكومة (التيار الوطني الحر)(59)، إلى الدعوة للتظاهر ضد حاكم مصرف لبنان، رغم أن الأخير مجرد موظف فئة أولى لدى السلطة السياسية.
  4. كشف الحراك أن التداخل بين قوى الداخل والخارج، وسياسة المحاور خاصة العربية والإسلامية منها، ونزاعات طبقة الأحزاب الحاكمة فيما بينها، ضربت الأولوية اللبنانية سياسة ومصلحة ووطنًا، وأن جزءًا من أزمة لبنان، يكمن في هذا السلوك الذي استفحل مؤخرًا من قبل طبقة الأحزاب الحاكمة. فرغم الأزمة الاقتصادية لا تزال الصراعات العربية والإسلامية البينية (الصراع السعودي-الإيراني على سبيل المثال) سببًا للنزاع المحلي اللبناني، رغم أن لبنان على شفير الانهيار الاقتصادي.
  5. استطاع الحراك، بقدرته على قيادة الشارع خاصة مع تصاعد مؤشر الأزمات المعيشية والاقتصادية، أن يكون لاعبًا سياسيًّا من حين إلى آخر، حتى اضطرت السلطة مرارًا للتنازل أمامه، سواء إبان حكومة سعد الحريري أو حتى مع حكومة حسان دياب، وهذا مؤشر أيضًا على أن الحراك يستطيع أن يكون مظلة أو أرضًا خصبة لولادة قوة أو قوى جديدة، وفي هذا جميعًا تهديد لقوى السلطة.

وبهذا، فإن الحراك كشف أن النظام اللبناني بجوهره هو مجموعة تحالفات وتفاهمات داخلية برعاية خارجية، ليس للشعب رقابة بمعايير وطنية دستورية حقيقية عليها، وهي لا تراقب أو تحاسب بعضها فعليًّا، لا وطنيًّا ولا دستوريًّا، وأحياًنا خاصة عند الاختلاف حتى الحكومة الواحدة تبدو فيها كل وزارة حكومة قائمة بنفسها، وحتى البرلمان والقضاء يتصرف كل منهما أحيانًا كأنه حكومة أو إدارة لحكومة موازية، ولا يعدو الأمر أن تبتز القوى بعضها بعضًا فينتهي باتفاق أو بصراع في انتظار اتفاق جديد. وقام الحراك بدور الرقيب في لحظات ذروته وقدم نموذجًا على المحاسبة الشعبية الحقيقية التي لا تخضع لمساومات طائفية أو سياسية، خارجية أو محلية.

ثالثًا: إنجازات وإشارات متناقضة

بعيدًا عن الإنجازات التي تقلق السلطة أو الأحزاب الحاكمة، هناك مؤشرات من الحراك نفسه مقلقة لمؤيدي الحراك، وتعطي إشارات متناقضة. من ذلك أن هذه الشرائح التي استطاعت أن تجتمع في الشارع تحت مظلة الحراك، لم تستطع أن تجتمع في إطار سياسي مستقر ومستقل، ولم تحظ بقيادة واحدة، جماعية أو فردية، واكتفت بقيادة المطالب الأساسية لها، وهو ما لم يساعد الحراك على الانتقال من الاعتراض المطلبي إلى الفعل السياسي. ويبدو أن الحراك سيستمر في التزام هذا النهج وهذا السلوك؛ لأن الرأي الغالب فيه عمليًّا أنه لا يريد أن يُستغل من قوى السلطة التي تلتقي مصالحها معه، ولا يريد بتحوله لتيار سياسي أن ينتهي به الأمر لاعبًا طائفيًّا جديدًا، لأن “قوى السلطة في لبنان جعلت من أحزاب قومية عربية ويسارية في خدمة أهداف طائفية أو جهات خارجية وتوزعت بين قوى 8 و14 آذار”. وهذه المخاوف تستبطن اعتقادًا أن اللعبة السياسية اللبنانية طائفية بطبيعتها ولم تنجح أي قوة وفق النظام الحالي بتجاوزها(60).

ومن تلك التناقضات أيضًا، أن الحراك قد ينجح في تقديم قيادات جديدة للعمل السياسي الوطني، وهناك بعض الأسماء التي تتقدمه وتنشط في هذا المجال حتى اللحظة، وأظهرت قدرة فائقة في التعبير عن مطالب اللبنانيين المعيشية والحياتية والاقتصادية والحقوقية ومن منظور وطني، وكشفت الكثير من مكامن الفساد والمحسوبية التي تحتمي بالنظام الطائفي ورعاته من الأحزاب الحاكمة، إلا أنها أيضًا لا تزال غير قادرة على تمثيل طموحات الجمهور الأكبر من اللبنانيين ومخاوفهم السياسية. فالوظائف في الدولة توزع بـ”الدستور” ووفق “الصيغة” على أساس طائفي، والعلاقات الخارجية تضطر القوى المحلية للموازنة بينها وفق نفس المنظور، ما بين الشرق والغرب، والسعودية وإيران، وهكذا دواليك، وهو ما تمتلك فيه الأحزاب الحاكمة خبرة كبيرة؛ لأنها إما صنعت الطائف أو كانت شاهدة على صنعه وتعرف النوايا السابقة عليه واللاحقة له. ولا يوجد لدى هذه القيادات المستجدة، التي صعدت مع الحراك، خبرة كافية في العمل السياسي، ولا في الوضع اللبناني السياسي بسماته المعقدة لإدارته على الأقل للتعامل مع وضع كهذا، فكيف إذا كان الأمر المطلوب هو تغييره؟! وهذا لا يمنع من التنويه بقدرات وخبرات هذه القيادات، القانونية والحقوقية والأكاديمية ونواياها الحسنة.

وفي نفس السياق، حتى أهم إنجازات الحراك، الذي تمثَّل بسقوط حكومة سعد الحريري الأخيرة، لم يتحوَّل إلى قراءة وطنية واحدة موحدة كما كان يريدها الحراك، أي سقوطًا لحكومة طبقة الأحزاب الحاكمة. فالحكومة التي خَلَفتها، (حكومة حسان دياب) تمثِّل فريقًا واحدًا من هذه الطبقة؛ حيث بقي تمثيل الطوائف الأخرى من هذا الفريق المهيمن (قوى 8 آذار) في النظام اللبناني دون أن يُمَس؛ إذ سقط الحريري في حين بقي رئيس مجلس النواب، نبيه بري، ورئيس الجمهورية، ميشال عون، في الحكم، ما يضع أسئلة حول قدرة الحراك على مواجهة التحديات التي تعترضه في سبيل تحقيق أهدافه الأساسية؛ إذ لا تزال الحكومة الجديدة مثل السابقة، فهي من طبقة الأحزاب الحاكمة وبالتالي المطالبة بإسقاطها ما زال واردًا نظريًّا. ولم تتحقق الأهداف الأخرى: حكومة مؤقتة لستة أشهر مكونة من تكنوقراط وبصلاحيات استثنائية، وانتخابات نيابية جديدة، واستعادة الأموال المنهوبة، إضافة إلى قضاء مستقل، أي عودة الحراك من حيث بدأ على صعيد المطالبة بأهدافه.

 

  1. القوى المضادة للحراك

من الممكن الحديث عن كثير من المطالب الاقتصادية التي يسعى الحراك لتحقيقها على أنها جزء من التحديات التي تواجهه، وهي أحد أهم الأسباب المباشرة لاندلاعه، وقد تكون نفسها أيضًا تلك التي ستواجه أية حكومة لبنانية مقبلة، مهما كان ولاؤها وانتماؤها إلى لبنان أو لحسابات خارجية، فهي في نهاية المطاف نفس التحديات التي ستواجهها أية حكومة متعثرة اقتصاديًّا أو ماليًّا. وهذه التحديات الأقرب للمطلبي ستتراجع مع تراجع الأزمة المالية سواء بحلها جذريًّا أو بالقدرة على إدارتها بما يسمح بتهدئة الجمهور، إلا في حالة استمرار الحراك الذي استطاع أن يربط بين أزمة النظام وأزمة طبقته السياسية.

لا شك أن التحديات الأساس ترتبط بجوهر النظام اللبناني، والتي شكَّلت إلى حد بعيد تلك الوشائج مع النظام العربي واستقرت به كما استقر بها ليأخذ كل منهما هويته، وهي ترتبط بموقف الأحزاب الحاكمة في لبنان من الحراك، ورؤيتها لمستقبلها في هذا البلد وأين يقع الحراك منه. فهذه الأحزاب بإمكانها أن تكون جزءًا مما يسعى له الحراك، وبالتالي فإن ما بدأه الحراك أو بعضًا منه سينتهي بها (أي الأحزاب) أن تنجزه، أو أنها ستقف ضد الحراك وبالتالي ستراكم عناصر القوة المضادة له، سواء من قوى الداخل أو الخارج المعادية له. لذا، يصح القول: إن أبرز تحد يواجهه الحراك، يمكن اختصاره في عنوان واحد، ألا وهو القوى المضادة للحراك، وعلى الأغلب لن تكون إلا من طبقة الأحزاب الحاكمة أو من بعضها.

ومن حيث الواقع فإن كل الأحزاب اللبنانية رغم ترحيبها المبدئي بالحراك ومطالبه تدرك أن اتجاه مجموعاته الأساسية تتناقض مع مصالحها، سواء على المدى القصير أو الأبعد منه، وأن أية تسوية بين الطرفين تعني ضرورة إعادة صياغة طبقة الأحزاب الحاكمة لبنيتها وتركيبتها لتكون شيئًا مختلفًا عمَّا هي عليه راهنًا. ويمكن قراءة مواقف هذه القوى كل منها، وبما يحقق مراد البحث، وفق معايير ثلاث: وفق قوتها راهنًا في النظام، أو تبعًا لموقفها بالمبدأ من اتفاق الطائف، أو وفقًا لتوجهاتها السياسية الذاتية أو الأيديولوجية التي تحدد رؤيتها لمستقبل الكيان اللبناني والصورة التي تريده عليه.

بالنسبة للمعيار الأول، أي قوتها في النظام: وقفت ضد الحراك القوى الأساسية في قوى الثامن من آذار، أي الثنائي الشيعي (حركة أمل وحزب الله) والتيار الوطني الحر، لحماية مكاسبهم في النظام اللبناني، فهي تهيمن -نتيجة انتخابات عام 2018- على الأغلبية المطلقة في البرلمان اللبناني(61)، في مقابل ضعف الحريري لأسباب عدة منها تراجع الدعم السعودي له، وتفرق قوى 14 آذار. والجدير بالذكر أن سهام الشارع اللبناني في بداية الحراك، استهدفت وبشكل حاد “جبران باسيل”، وزير الخارجية حينها، ووريث ميشال عون بحسب المتوقع في قيادة التيار الوطني الحر، بسبب الدور الرئيسي الذي لعبه في الحكومة والحكم حينها، واعتبره الحراك القائدَ الفعلي لتلك المرحلة التي تدهورت فيها الأوضاع في لبنان. أما حركة أمل وحزب الله فلعبا دورًا مباشرًا في مواجهة شباب الحراك؛ حيث قام موالون لهما أو لأحدهما في مناسبات عدة ومناطق مختلقة بمهاجمة المحتجين، فركز حزب الله على “الدور الإقليمي” للحراك، واتهمه أنه مطية لدول أجنبية تستهدف لبنان و”المقاومة”، وطلب من المحتجين عدم التعرض “للمقاومة” أو لرموزها خاصة أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، ودعاه للتمييز بين القضايا المطلبية والقضايا السياسية. ويبدو أن الحراك استجاب إلى حد ما لهذه المطالب؛ لأنه لم يكن يبحث عن مواجهة قد تأخذ طابعًا أيديولوجيًّا، واعتبر نفسه ليس معنيًّا بأولئك الذين يهاجمون نصر الله، لكن استجابته للضغوط التي تدعوه للتمييز بين السياسي والمطلبي، جعلت تركيزه مؤخرًا على المصارف ومحاربة الفساد كحالة جنائية وهي سياسية بكل أبعادها البسيطة والعميقة. وتراجعت نوعًا ما في الحراك نتيجة ذلك، وقبيل تفشي كورونا، تلك الروح الناقدة للنظام وضرورة إيجاد بدائل له وإن كانت جذوتها لم تزل حاضرة.

أما قوى 14 آذار فلم يكن موقفها موحدًا من الحراك؛ لأنها بطبيعة الحال لم تعد موحدة، ولكن ما جمعها هو عدم الوقوف ضد الحراك؛ لأنها ليست مستفيدة من الحكومة وتركيبتها الحالية. فتيار المستقبل حرص على تجنب المواجهة المباشرة مع الحراك وساعده على ذلك استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة إلى حد بعيد. أما الحزب التقدمي الاشتراكي فتحفَّظ على بعض فعاليات الحراك لكنه اجتهد ليبقى قريبًا منه، في حين كانت القوات اللبنانية أكثر وضوحًا في تأييدها للحراك والمشاركة فيه في مناسبات عدة، إلا أن الحراك لم يبادلها هذا الموقف؛ لأنه يعتبرها جزءًا من الطبقة الحاكمة.

في الخلاصة، إن ما يدفع هذه القوى لتأييد، أو رفض، أو التحفظ على الحراك، هو مدى مسؤوليتها واستفادتها من التركيبة الحالية، ومن نسخة الطائف الراهنة. وراهنًا، فإن قوى 8 آذار المؤيدة لسوريا وإيران، تقف على رأس القوى المضادة للحراك، وهي المعنية بإجهاضه، سواء بالمواجهة المباشرة، وقد حصل مرارًا في الفترة الماضية وقد يحصل مرة أخرى، أو بمحاولة توجيه الحراك لصالحها لاحتلال مواقع حيوية في السلطة، وذلك بحصر مطالب الحراك بالقضايا المطلبية، لاسيما أنه لا يمكن لأحد أن ينفي، على سبيل المثال، أن قوى 8 آذار تستفيد من تأجيج الاحتجاجات ضد مصرف لبنان لتعزيز قبضتها على السلطة المالية أو لتطويعها، وأنها قد تذهب وفق نفس الآلية في اتجاهات أخرى ونحو ضبط أو السيطرة على مؤسسات أخرى(62).

أما وفق المعيار الثاني، وهو اتفاق الطائف: فإن الأحزاب الحاكمة نفسها، إذا ما أُعِيد البحث في اتفاق الطائف مجددًا لتطويره أو تعديله أو استبداله، فإنها لن تبقى هي على حالها، وبالتالي فإن تعاملها مع الحراك وناشطيه سيختلف، بل ربما الحراك نفسه قد يختلف. ولكن منذ انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية يبدو واضحًا أن قوى 8 و14 آذار تصدَّعت، وأن هناك من الأحزاب الحاكمة من ليس حريصًا على الطائف إلا بقدر ما يسمح له بالتموضع فيه، وهذا ينطبق إلى حد كبير على التيار الوطني الحر وحزب الله راهنًا، لأنهما دخلا سلطة الطائف فعليًّا متأخرين (بعد 2005) وكان لهما تحفظات على الاتفاق نفسه. ولكن بالمقابل هذه هي الروح نفسها التي سادت في التسعينات وأغرت القوى اللبنانية بالدخول كافة في الاتفاق؛ لأن الاتفاق على الطائف كان هو القدر الذي يعكس مصالح الأحزاب النافذة في السلطة بعد تغيير ما كانت تعترض أو تتحفظ عليه.

وفق هذه الصورة، فإن كل أحزاب الطبقة الحاكمة معنية بإجهاض الحراك وإن اختلفت في التوقيت، فقوى 14 آذار رغم مطالبتها بحكم الدولة وحصر السلا