نافجة صباح البوعفرة الكواري- *Nafja Sabbah Al-Kuwari
ملخص
تهدف هذه الدراسة إلى تحليل دور الدبلوماسية الذكية أداةً إستراتيجيةً لتعزيز الأمن الوطني لدولة قطر، في سياق إقليمي ودولي يتسم بعدم الاستقرار وتعدد التهديدات غير التقليدية. وتستند الدراسة إلى نظرية الواقعية الجديدة بوصفها إطارًا مفسرًا لسلوك الدول الصغيرة؛ حيث توضح كيف استطاعت قطر توظيف أدوات الدبلوماسية الذكية لبناء نفوذ سياسي وأمني يتجاوز وزنها الجغرافي والديمغرافي. واعتمدت الدراسة منهجًا وصفيًّا تحليليًّا، مستندة إلى أدوات دراسة الحالة. واستعرضت أثر هذه الأدوات في دعم الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمن الوطني، كما بيَّنت كيف أسهمت الدبلوماسية الذكية في تحييد التهديدات الخارجية من خلال بناء شراكات دولية متوازنة، وتعزيز الشرعية الدولية، وتفعيل الردع الرمزي غير العسكري. وتخلص الدراسة إلى أن النموذج القطري يمثل إطارًا تطبيقيًّا يمكن أن يُحتذى لفهم الكيفية التي يمكن من خلالها للدول الصغيرة تطوير إستراتيجيات أمن وطني مرنة، تستند إلى أدوات دبلوماسية ذكية تتجاوز منطق القوة الصلبة.
الكلمات المفتاحية: قطر، الدبلوماسية الذكية، الأمن الوطني، القوة الناعمة، الدول الصغرى.
Abstract
This study aims to analyse the role of smart diplomacy as a strategic tool for enhancing the national security of the State of Qatar, within a regional and international context characterised by instability and the proliferation of non-traditional threats. It is grounded in neorealist theory as an explanatory framework for the behaviour of small states, demonstrating how Qatar has successfully employed smart diplomacy tools to build political and security influence that exceeds its geographic and demographic weight. It adopts a descriptive-analytical methodology, supported by case study tools.
The study examines the impact of these tools on the political, economic and social dimensions of national security, and highlights how smart diplomacy has contributed to neutralising external threats through the development of balanced international partnerships, the enhancement of global legitimacy and the activation of symbolic, non-military deterrence.
The study concludes that the Qatari model presents a replicable framework for understanding how small states can develop flexible national security strategies based on smart diplomacy that transcends the logic of hard power.
Keywords: Qatar, smart diplomacy, national security, soft power, small states.
مقدمة
تشهد البيئة الإقليمية والدولية تزايدًا في التحديات الأمنية، التي لم تعد مقتصرة على الصراعات العسكرية التقليدية، بل اتسعت لتشمل أبعادًا مختلفة؛ ما أضعف من جدوى الأدوات الكلاسيكية للسياسة الخارجية في تحقيق الأمن الوطني، خاصة للدول الصغيرة والمتوسطة. وفي هذا السياق، برز مفهوم الدبلوماسية الذكية إطارًا إستراتيجيًّا يعكس قدرة الدول على التفاعل مع المتغيرات المتسارعة للنظام الدولي، وتستند الدبلوماسية الذكية إلى تنويع الأدوات الدبلوماسية، سواء الرسمية منها أو غير الرسمية؛ حيث أسهمت في إعادة تعريف أدوار الفاعلين، وتوسيع نطاق التأثير من خلال قنوات غير تقليدية، مثل الدبلوماسية الرقمية، والثقافية، والعامة؛ ما مكَّن الدول من تحقيق مصالحها عبر مسارات متعددة، خاصة في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد.
وهنا، تتقاطع الدبلوماسية الذكية بشكل مباشر مع مفهوم الأمن الوطني، الذي لم يعد محصورًا في حماية الدولة من التهديدات العسكرية فقط، بل اتسع ليشمل أبعادًا سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وتكنولوجية. ومع تزايد الطابع المركب للتهديدات، برزت الدبلوماسية الذكية أداةً وقائية واستباقية تُسهم في تعزيز مناعة الدولة داخليًّا، وتمكينها من إعادة تموضعها إقليميًّا ودوليًّا، وتحقيق توازن إستراتيجي يحدُّ من مخاطر العزلة أو الاختراق الخارجي.
ولقد أتاح هذا التداخل بين الدبلوماسية الذكية والأمن الوطني بناء علاقة وظيفية تقوم على تحييد التهديدات من خلال فتح قنوات الحوار، وتقديم الوساطات، وتوظيف النفوذ لبناء بيئة إقليمية ودولية أكثر استقرارًا، فهذا الامتزاج أدى إلى بروز نموذج دبلوماسي يعزز الشرعية الدولية للدولة، ويوسِّع دائرة حلفائها وشركائها، بما يعزز قدرتها على المناورة والردع دون الاعتماد على الوسائل العسكرية.
وفي السياق القطري، شكَّلت الدبلوماسية الذكية أداة محورية في تعامل الدولة مع الأزمات والتحديات الإقليمية والدولية؛ حيث برزت وسيلةً فعَّالة لتعزيز أمن قطر الوطني وإعادة تشكيل صورتها الخارجية، على الرغم من محدودية حجمها الجغرافي والديمغرافي؛ حيث استطاعت الدوحة عبر أدواتها المتنوعة، أن تبني نفوذًا سياسيًّا يتجاوز حجمها النسبي.
لذلك، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الكيفية التي طوَّرت بها قطر سياسة خارجية مرنة ومؤثرة، من خلال توظيف أدوات الدبلوماسية الذكية في تعزيز أمنها الوطني بمختلف أبعاده. وتعتمد الدراسة في ذلك على مقاربة تجمع بين التحليل النظري والتقييم التطبيقي، بهدف فهم مدى فاعلية الدبلوماسية الذكية في دعم أمن دولة قطر، في ظل بيئة إقليمية ودولية تتسم بدرجة عالية من التعقيد والتغير.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في أدبيات العلاقات الدولية والدراسات الأمنية، لا تزال هناك فجوة نظرية ومفاهيمية بشأن دور الدبلوماسية الذكية في تعزيز الأمن الوطني، لاسيما في سياق الدول الصغيرة التي تفتقر إلى أدوات الردع التقليدية، ومن هنا، تبرز أهمية هذه الدراسة في سعيها إلى الإحاطة بالتهديدات غير التقليدية الصاعدة، وإعادة تقييم الآليات غير العسكرية التي تعتمد عليها هذه الدول، للحفاظ على استقرارها.
وعليه، تنطلق الدراسة من فرضية مركزية مفادها أن توظيف الدبلوماسية الذكية، بما تحمله من تعددية في القنوات والأدوات، تُعد وسيلة فعَّالة لتحييد التهديدات الخارجية، وتوسيع هامش الاستقلال السياسي، وبالتالي تعزيز الأمن الوطني للدول الصغرى. وانطلاقًا من هذه الفرضية، تطرح الدراسة السؤال الآتي: “ما مدى فاعلية الدبلوماسية الذكية في تعزيز الأمن الوطني لدولة قطر في ظل التحولات الإقليمية والدولية الراهنة؟”.
وتعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي مع التركيز على دراسة الحالة، بهدف تحليل أدوات وآليات الدبلوماسية الذكية في السياق القطري من منظور تكاملي؛ مما يسمح بفهم معمق للظاهرة من خلال ربط الأطر النظرية بالتطبيقات العملية، وتحليل السياقات السياسية والأمنية المرتبطة بها. كما تستند الدراسة إلى نظرية الواقعية الجديدة، بوصفها إطارًا نظريًّا يفسر سلوك الدول، لاسيما الصغيرة منها، التي تجد نفسها مدفوعة إلى تعزيز أمنها الوطني في ظل بيئة دولية تتسم بعدم اليقين وغياب سلطة مركزية. ويُبرَّر اختيار هذا الإطار بقدرته على تفكيك التفاعلات المعقدة التي يصعب مقاربتها بالمناهج الكمية، وتفسير كيفية توظيف الدول لأدوات غير تقليدية لضمان بقائها واستقرارها ضمن بنية دولية مضطربة، ويُعد اعتماد ذلك ملائمًا لطبيعة الموضوع، نظرًا لتداخل الأبعاد النظرية والتطبيقية في دراسة الحالة القطرية، بوصفها نموذجًا لدولة صغيرة ذات فاعلية دبلوماسية.
وبناء على ما سبق، تنقسم هذه الدراسة إلى ثلاثة محاور رئيسية، تُشكّل معًا تصورًا متكاملًا لموضوع الدبلوماسية الذكية في السياق القطري. يُخصَّص المحور الأول للإطار النظري والمفاهيمي؛ حيث تُعرض المفاهيم الأساسية المرتبطة بالدبلوماسية الذكية، وأبرز نظرياتها، وتطورها في الأدبيات الأكاديمية، بهدف بناء قاعدة معرفية تُمهِّد للفهم التحليلي للدراسة. أما المحور الثاني، فيتناول المحددات البنيوية للدبلوماسية الذكية القطرية، من خلال تحليل العوامل السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والمؤسسية التي تشكِّل بنيتها وتؤثر في صياغة توجهاتها. ويركز المحور الثالث على الأثر الإستراتيجي للدبلوماسية الذكية في دعم الأمن الوطني القطري، من خلال تحليل كيفية توظيف أدواتها على المستويين، الإقليمي والدولي، مع تقييم فاعلية هذه السياسات في التعامل مع التحديات الأمنية المعاصرة.
المحور الأول: الإطار النظري والمفاهيمي
شهد مفهوما الدبلوماسية الذكية والأمن الوطني تباينات تفسيرية في أدبيات العلاقات الدولية، بفعل تعدد المقاربات النظرية. وفي هذا الصدد، تستند الدراسة إلى نظرية الواقعية الجديدة، باعتبارها الإطار الأنسب لفهم العلاقة بين سلوك الدولة ومتطلبات البقاء في بيئة دولية فوضوية، لذا، يهدف هذا المحور إلى تقديم تأصيل نظري ومفاهيمي للعلاقة بين الدبلوماسية الذكية والأمن الوطني، ضمن إطار تكاملي يأخذ في الاعتبار تعقيد التفاعلات الدولية، ويُمهِّد لتحليل الحالة القطرية بوصفها نموذجًا تطبيقيًّا لهذا التداخل.
- مفهوم الدبلوماسية الذكية
تطوَّر مفهوم الدبلوماسية الذكية بوصفه استجابة معرفية وتطبيقية للتحولات الكبرى التي شهدها النظام الدولي منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، ولاسيما بعد عجز المقاربات الكلاسيكية عن تفسير سلوك الدول الصغيرة والمتوسطة في ظل تصاعد التهديدات غير المتماثلة(1). ويُمثِّل هذا المفهوم امتدادًا مباشرًا لفكرة القوة الذكية التي طوَّرها جوزيف ناي، بوصفها مزيجًا إستراتيجيًّا من أدوات القوة الصلبة والناعمة ضمن رؤية تكاملية(2)، غير أن الدبلوماسية الذكية تجاوزت مجرد المزج بين مصادر القوة لتتحول إلى إطار منهجي جديد لممارسة السياسة الخارجية، يعتمد على التفاعل الشبكي، وتعدد القنوات، وتكييف أدوات التأثير بحسب اختلاف السياقات(3). ومع ازدياد تعقيد العلاقات الدولية وتراجع احتكار الدولة لموقع الفاعل المركزي، غدا هذا المفهوم مدخلاً تحليليًّا رئيسًا لفهم كيف تعيد الدول وخاصةً الصغيرة منها تعريف أدوارها ومصالحها في بيئة إستراتيجية مضطربة. وقد فرض هذا الواقع الجديد لشكل النظام الدولي، مراجعةً لأدوات السياسة الخارجية التقليدية وآليات إدارة المصالح الوطنية، لتبرز الدبلوماسية الذكية بوصفها مقاربةً قادرةً على مواكبة هذه المتغيرات، ورفع فاعلية العمل الخارجي للدولة، وتعزيز قدرتها على تحقيق الأمن والاستقرار بأقل كلفة ممكنة.
وبينما كانت الدبلوماسية التقليدية تركز على التمثيل الرسمي والتفاوض الثنائي بين الدول، شهدت العقود الأخيرة ظهور أنماط جديدة كالدبلوماسية العامة، والثقافية، والرقمية(4)؛ ما استدعى تطوير نموذج أكثر تكاملًا ومرونة. وقد جسَّدت الدبلوماسية الذكية هذا التحول من خلال تبني إستراتيجية شاملة تقوم على تكييف أدوات التأثير وفقًا للسياقات السياسية والفرص المتاحة، واستثمار الإمكانات المختلفة للدولة لتحقيق أهدافها الخارجية. وتعد الدبلوماسية الذكية مقاربة مرنة واستباقية في إدارة العلاقات الدولية؛ حيث تقوم على المواءمة بين السياق والدقة الإستراتيجية، وتقترب في بنيتها من نموذج الشبكات متعددة المستويات(5)، بهدف تحقيق نتائج ملموسة وقابلة للقياس.
كما تعكس الدبلوماسية الذكية تحولًا مؤسسيًّا عميقًا في طبيعة الفاعلين الدبلوماسيين؛ حيث لم تَعُد مقتصرة على الأجهزة الرسمية للدولة، بل امتدت لتشمل طيفًا واسعًا من الفاعلين غير الحكوميين، مثل منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، والقطاع الخاص، وقد أدى ذلك إلى نشوء نموذج “الشبكة الدبلوماسية”، الذي تتكامل فيه الأدوات الرسمية وغير الرسمية، بما يمنح الدولة مرونة وعمقًا في أدائها الخارجي(6). وقد مكَّن هذا التوسع الدول الصغيرة خصوصًا، من الانخراط الفاعل في قضايا تنموية وإنسانية وبيئية عزز مكانتها الدولية.
وتكتسب الدبلوماسية الذكية أهمية خاصة في سياق الدول الصغيرة، لما تتيحه من فرصة لتحويل مواطن الضعف إلى أدوات نفوذ. فمن خلال استثمار الموارد الرمزية، كالسمعة الجيدة، والثقافة، والقيم، والوساطة، يمكن لهذه الدول تعزيز حضورها في الساحتين، الإقليمية والدولية، والمساهمة في صياغة الأجندات العالمية، وتُعدُّ بذلك إطارًا إستراتيجيًّا وتكتيكيًّا لإعادة تعريف النفوذ الدولي بعيدًا عن أدوات الهيمنة الصلبة، ضمن مقاربة تقوم على الابتكار، وحسن التوقيت، وبناء التحالفات المرنة.
وفي هذا السياق، تتعدد التوجهات في الأدبيات المعاصرة بشأن موقع الدبلوماسية الذكية وأدواتها ضمن منظومة مفاهيم التأثير في العلاقات الدولية، خاصةً فيما يتصل بعلاقتها بالقوة الناعمة والقوة الذكية؛ إذ يذهب اتجاه أول إلى أن الدبلوماسية الذكية تنحصر في توظيف أدوات وأشكال الدبلوماسية، الرسمية وغير الرسمية، لكن بطرق أكثر مرونة وابتكارًا(7). في المقابل، يرى اتجاه آخر أن الدبلوماسية الذكية تُفهم ضمن إطار أكثر شمولًا، بوصفها جزءًا من القوة الذكية التي تقوم على مزيج متوازن من أدوات القوة الصلبة، كالعقوبات الاقتصادية والقوة العسكرية، وأدوات القوة الناعمة، مثل التعليم والثقافة والإعلام(8). وبالتالي، تهدف إلى تحقيق النفوذ والتأثير من خلال هذا المزج الإستراتيجي، بينما تركز الدبلوماسية الذكية على الاستخدام الذكي والفعَّال في إطار سلمي، يُسهم في تحقيق أهداف السياسة الخارجية بكفاءة. وبهذا المعنى، تُعد الدبلوماسية الذكية امتدادًا تطبيقيًّا لأدوات الدبلوماسية، في حين تُدرِج القوة الذكية هذه الدبلوماسية ضمن مجموعة أوسع من أدوات التأثير، دون أن تجعلها محورها الأساس.
وتُبرز هذه التباينات أن فهم الدبلوماسية الذكية لا يمكن فصله عن التحولات الأوسع التي تشهدها العلاقات الدولية، حيث لم تعد أدوات التأثير مقتصرة على الوسائل التقليدية أو على الدول وحدها، بل باتت تتطلب مقاربات أكثر مرونة وتكاملًا. ومن ثم، فإن رسم حدود واضحة بين الدبلوماسية الذكية والقوة الذكية أو الناعمة ليس بالأمر الهيِّن، بل يعكس تداخلًا مفاهيميًّا يعكس واقعًا دوليًّا يتسم بالتعقيد وتعدد الفاعلين وتنوع أدوات التأثير. وفي ظل هذا التداخل المفاهيمي وتعدد السياقات، لا تُقاس الدبلوماسية الذكية بنوع الأداة المستخدمة، بل بقدرة الدولة على توظيف أدوات متنوعة ضمن إستراتيجية تكيفية تحقق أهداف السياسة الخارجية بكفاءة، خاصة في البيئات المعقدة، كما هي الحال في السياق الإقليمي لدولة قطر.
لذا، لم تَعُد الدبلوماسية الذكية مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية خارجية، بل أصبحت جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن الوطني، وامتدادًا وظيفيًّا لها، بما يُمكِّن الدولة من إدارة التهديدات والتحديات بمرونة وفاعلية، دون الانخراط في مواجهات مباشرة قد تكون مكلفة أو غير متكافئة. ويُبرز هذا التحول الحاجة إلى تحليل معمق للعلاقة التفاعلية بين الدبلوماسية الذكية والأمن الوطني، لاسيما في سياق الدول الصغيرة، كما تجسده التجربة القطرية.
ولمزيد من التأصيل النظري لمفهوم الدبلوماسية الذكية، يمكن استدعاء مجموعة من النظريات والمفاهيم المعاصرة في العلاقات الدولية التي تساعد على فهم خلفياتها وسياقاتها:
نظرية الاعتماد المتبادل المركب: تؤكد هذه النظرية أن العلاقات بين الدول لم تعد قائمة فقط على القوة العسكرية، بل على تعدد قنوات الاتصال (الاقتصاد، التكنولوجيا، المنظمات غير الحكومية)، وهذا التعدد يتيح للدبلوماسية الذكية فرصًا أكبر للحركة والمناورة وتعظيم النفوذ من دون تكلفة صدامية مباشرة(9).
نظرية الحوكمة العالمية: تفترض هذه النظرية أن إدارة الشؤون الدولية أصبحت شبكة متعددة الفاعلين، تشمل الدول والمنظمات الدولية والشركات والمجتمع المدني، وفي هذا السياق تصبح الدبلوماسية الذكية استجابة طبيعية لهذا التعدد، لأنها تتعامل مع بيئة معقدة يتقاسم فيها صنع القرار فاعلون رسميون وغير رسميين(10).
نظرية الشبكات: تركز هذه النظرية على أن العلاقات في النظام الدولي لم تعد هرمية فقط، بل تتخذ شكل شبكات مرنة؛ ما يعزز أهمية “الربط الذكي” بين القوى والفاعلين، وهذا ينسجم مع طبيعة الدبلوماسية الذكية التي تقوم على استثمار الروابط المتعددة، وتكييف إستراتيجيات التأثير وفقًا لتوزع العلاقات(11).
مفهوم الدبلوماسية العامة: يرى هذا المفهوم أن مخاطبة الشعوب مباشرة عبر الإعلام والثقافة والتعليم جزء أساسي من الممارسة الدبلوماسية الحديثة، وهو ما يجعلها ركيزة مركزية للذكاء الدبلوماسي، إذ لم تعد الدبلوماسية محصورة في القنوات الرسمية، بل أصبحت تتضمن تواصلًا مباشرًا مع الرأي العام لتعزيز الصورة والشرعية الدولية للدولة(12).
وبذلك، فإن الدبلوماسية الذكية هي مزج بين أدوات القوة كاستجابة نظرية وعملية لتحولات بنيوية في النظام الدولي، حيث تتفاعل الدول ضمن بيئة متعددة المستويات والفاعلين، بما يتطلب مقاربات أكثر مرونة وابتكارًا.
- مفهوم الأمن الوطني
يُعد الأمن الوطني من المفاهيم المحورية في حقل العلوم السياسية، نظرًا لارتباطه الوثيق ببقاء الدولة واستدامتها، وهو مفهوم متغير في بنيته؛ يتطور تبعًا لتحولات البيئة الدولية وطبيعة التهديدات. ففي سياقه الكلاسيكي، كان يُنظر إلى الأمن الوطني بوصفه قدرة الدولة على حماية سيادتها ووحدة أراضيها من التهديدات الخارجية(13)، خصوصًا الغزو العسكري والتدخل الأجنبي.
ورغم شيوع استخدام مصطلح “الأمن الوطني”، فإن مضمونه المفاهيمي ظل موضع جدل في الأدبيات السياسية، بسبب تداخله مع مفاهيم قريبة، مثل الأمن القومي، والأمن الإنساني، والأمن الشامل(14). ويرى باحثون أن مقاربة الأمن يجب أن تتجاوز البُعد العسكري، لتشمل قطاعات متعددة كـالاقتصاد، والمجتمع، والبيئة، معتبرين أن التهديدات لم تعد تستهدف الدولة ككيان مادي فقط، بل تمس أيضًا الهويات، والأنماط المعيشية، والبنى الاجتماعية(15). وبهذا المعنى، يتحول الأمن الوطني من كونه “أداة دفاعية” إلى “بنية حماية مركبة”، تتفاعل فيها الدولة مع مواطنيها داخليًّا، ومع محيطها خارجيًّا.
وكان للمقاربات النقدية في حقل الدراسات الأمنية إسهام بارز في تطوير مفهوم الأمن الوطني، وخصوصًا عند علماء مدرسة كوبنهاغن، الذين ركزوا على فكرة “الأمننة” (Securitization)، ويقصدون بها أن القضايا لا تُعدُّ أمنية بطبيعتها وإنما بعد تحولها وصياغتها وتقديمها خطابيًّا على أنها تهديد وجودي يُبرَّر اتخاذ إجراءات استثنائية لمواجهتها. وبهذا، فالأمن -وفق رموز هذه المدرسة- هو حالة موضوعية وبناء اجتماعي–خطابي، يتشكل عبر الخطاب السياسي، يُفهم بوصفه “عملية تحول إلى تهديد”، وليس حالةً موضوعية ثابتة(16)، وهذا التحول يكتسب أهمية خاصة في سياق الدول الصغيرة؛ حيث يغدو الأمن الوطني مسألة إدراكية واستباقية قبل أن يكون استجابة تقنية للتهديدات.
وقد شهد مفهوم الأمن الوطني توسعًا ملحوظًا منذ نهاية الحرب الباردة، نتيجة تصاعد التهديدات غير التقليدية، مثل الإرهاب العابر للحدود، والهجمات السيبرانية، والأزمات البيئية(17). هذا التغير أدى إلى تجاوز المقاربة العسكرية الضيقة، ليصبح الأمن الوطني متعدد الأبعاد، ويشمل بذلك الجوانب الاقتصادية، والاجتماعية، والتقنية، والبيئية. ووفق هذا التحول، أصبح الأمن يُفهم بوصفه حالة دفاعية وباعتباره منظومة قيمية تسعى الدولة إلى صيانتها، وتشمل: البقاء، والسيادة، والاستقلال، والاستقرار الاقتصادي، والتماسك المجتمعي(18). لذا، ينسجم هذا التوسع مع الطرح البنائي الذي يُعالج الأمن كاستجابة لتهديد مادي وكنتاج لتصورات تتشكل لدى الدولة ونخبها ومجتمعها حول المخاطر في الآن معًا. وبذلك، يصبح الأمن الوطني بناءً اجتماعيًّا متغيرًا، يتأثر بسياقات الإدراك والتأويل.
وعليه، يُعاد تعريف الأمن الوطني بوصفه عملية مركبة، متعددة المستويات، تستدعي مواءمة بين أدوات الحماية الصلبة ومتطلبات التنمية الداخلية. كما تفرض طبيعة التهديدات المعاصرة بناء سياسات أمنية شاملة، تراعي التداخل بين المستويات المحلية، والإقليمية، والدولية في إنتاج الخطر، وتحديد أنماط الاستجابة. وقد فرضت التهديدات العابرة للحدود في القرن الحادي والعشرين واقعًا أمنيًّا جديدًا، لم يعد ملائمًا للنموذج التقليدي القائم على ردِّ الفعل، ونتيجة لذلك، تبنَّى العديد من الدول مقاربات استباقية لإدارة المخاطر، تستند إلى التقييم المستمر للتهديدات، وتحديد الأولويات الإستراتيجية، وتعزيز القدرة المؤسسية على التكيف والصمود(19). ووفق هذا المنظور، يُعاد النظر في مفهوم الأمن الوطني كنظام مؤسسي متكامل، يتطلب شراكة متعددة المستويات بين مؤسسات الدولة والفاعلين غير الحكوميين، ضمن ما يُعرف بــ”الحوكمة الأمنية التشاركية”(20).
لذا، يرتبط الأمن الوطني ارتباطًا مباشرًا بتركيبة النظام السياسي، ومدى قدرته على تحقيق التوازن بين الشرعية والاستقرار الداخلي، والاستجابة الفعَّالة للتحديات الخارجية. فالدول التي تفتقر إلى الحكم الرشيد وتعاني من هشاشة مؤسساتها تكون أكثر عرضة للاضطرابات والاختراقات الخارجية، ومن ثم، لا يُقاس الأمن فقط بالقوة العسكرية، بل من خلال مؤشرات أدق، مثل كفاءة المؤسسات، والتماسك المجتمعي، والثقة العامة، وسيادة القانون. ويتضح من ذلك أن الأمن الوطني لم يَعُد فقط هدفًا قطاعيًّا معزولًا وإنما إطارًا حاكمًا يتقاطع مع السياسات العامة، ويستدعي رؤية إستراتيجية بعيدة المدى، خاصة في الدول الصغيرة التي تعتمد على أدوات بديلة كالتحالفات والدبلوماسية الذكية لضمان الاستقرار.
- ربط المفهومين وفقًا لنظرية الواقعية الجديدة
في ضوء ما سبق، تتيح نظرية الواقعية الجديدة، كما صاغها كينيث والتز، إطارًا تحليليًّا صلبًا لفهم سلوك الدول في بيئة دولية تتسم بالفوضى وغياب سلطة مركزية(21). وضمن هذا السياق، يصبح الأمن الوطني أولوية بنيوية تُفرض على الدول بفعل طبيعة النظام الدولي؛ ما يدفعها -وخاصة الدول الصغيرة والمتوسطة- إلى تبنِّي مبدأ الاعتماد على الذات كآلية للبقاء، ويترتب على ذلك انتهاج سياسات عقلانية تهدف إلى تقليص المخاطر وتعظيم القدرات الذاتية، لمواجهة التهديدات التقليدية وغير التقليدية على السواء.
وبناءً عليه، يُعاد النظر في مقاربة الأمن الوطني ضمن المنظور الواقعي الجديد، كمفهوم مركَّب يتجاوز البعد الدفاعي، ليشمل تعزيز الاستقرار الداخلي، وتقوية البنية المؤسسية، وتقليل مكامن الهشاشة الإستراتيجية(22). وفي هذا الإطار، تبرز الدبلوماسية الذكية أداةً وظيفية تساعد الدولة على التكيُّف مع القيود البنيوية المفروضة من الخارج، عبر توظيف أدوات غير تقليدية دون مغادرة منطق القوة. وبهذا، لا تمثِّل الدبلوماسية الذكية خرقًا للطرح الواقعي، بل تكييفًا ذكيًّا له، يُراعي تحولات البيئة الدولية ويستجيب لمتطلبات البقاء ضمنها.
وبذلك، تمكِّن الدبلوماسية الذكية، ولاسيما في الدول الصغيرة، من بناء شرعية دولية واحتواء التهديدات المتعددة دون الانخراط في مواجهات مباشرة، ويتوافق هذا مع أحد المبادئ الجوهرية في الواقعية الجديدة(23)، التي ترى أن البنية الدولية تُشكِّل سلوك الدولة وتدفعها إلى التفاعل المرن والفعَّال لضمان البقاء. ومن خلال دبلوماسية متعددة المسارات، تستطيع الدول الصغيرة تعزيز نفوذها النسبي وتحييد المخاطر دون تحدٍّ مباشر للقوى الكبرى، ويُجسِّد ذلك تكيفًا داخل البنية الدولية، يوظِّف أدوات بديلة لتحقيق مكاسب إستراتيجية. ومع أن الواقعية الجديدة تركز على تفسير السلوك من خلال توزيع القدرات المادية(24)، إلا أن توظيفها لتحليل أدوات غير تقليدية، كالدبلوماسية الذكية، يتطلب إعادة النظر في حدودها التقليدية.
ووفق هذا التصور، تصبح الدبلوماسية الذكية وسيلة لإعادة تعريف مصادر القوة والمناورة في سياق غير متكافئ، وهذه الإستراتيجية لا تمثل خروجًا عن الواقعية، وإنما امتدادًا لمرونتها النظرية في البيئات المعقدة(25)، فحين تدرك الدولة حدود قدراتها المادية، تتحول فاعليتها إلى مسألة تتعلق بقدرتها على الابتكار في توظيف الأدوات؛ ما يجعل من الدبلوماسية الذكية تجسيدًا عمليًّا لمنطق الواقعية الجديدة. ويتجلى هذا الطرح بوضوح في السياق الخليجي، ولاسيما في الحالة القطرية، التي تُظهر كيف تمكنت دولة صغيرة من توظيف أدوات ناعمة وذكية لبناء نفوذ سياسي وأمني يتجاوز وزنها الجغرافي والديمغرافي. وبهذا المعنى، يُمثِّل الجمع بين الواقعية الجديدة والدبلوماسية الذكية سلوكًا عمليًّا لدى عدد من الدول الصغيرة والمتوسطة، وبناءً عليه، يُعد هذا الإطار النظري أساسًا مناسبًا لتحليل كيفية توظيف قطر للدبلوماسية الذكية في تعزيز أمنها الوطني في ظل قيود القوة التقليدية.
ورغم أن الدبلوماسية الذكية تمثل خيارًا إستراتيجيًّا مناسبًا للدول الصغيرة التي تفتقر إلى أدوات الردع التقليدية، إلا أن استخدامها لا يقتصر عليها وحدها، فقد تبنَّتها أيضًا قوى كبرى مثل الصين، التي جعلت الاقتصاد أداة دبلوماسية عبر مبادرة “الحزام والطريق”؛ حيث استخدمت التجارة والبنى التحتية لبناء نفوذ سياسي عالمي من غير اعتماد مباشر على القوة الصلبة، كما لجأ الاتحاد الأوروبي إلى أدوات مشابهة في دبلوماسية الطاقة والمناخ لتوسيع نفوذه بطريقة غير صدامية، وهذا يعكس أن الدبلوماسية الذكية يمكن أن تتبناها مختلف الدول بحسب سياقاتها.
المحور الثاني: المحددات البنيوية للدبلوماسية الذكية القطرية
تتحدد فاعلية الدبلوماسية الذكية بمجموعة من المحددات البنيوية التي تؤطر قدرة الدولة على تحقيق أهدافها الخارجية وتعزيز أمنها الوطني، وفي هذا السياق، تؤدي البنية المؤسسية دورًا حاسمًا؛ إذ تفترض الدبلوماسية الذكية وجود حوكمة مرنة وآليات تنسيق فعَّالة بين الفاعلين الرسميين وغير الرسميين، كما تسهم التحولات التكنولوجية، خصوصًا الرقمنة، في إعادة تشكيل هذه المحددات من خلال توسيع قنوات التأثير وتجاوز القيود التي تفرضها الأطر التقليدية. وبهذا، تصبح الدبلوماسية الذكية انعكاسًا لتفاعلات داخلية وخارجية تعيد تعريف موقع الدولة وأدواتها في النظام الدولي.
- البيئة الإقليمية والدولية وتوازنات التهديد
تُعدُّ البيئة الجيوسياسية لدولة قطر أحد المحددات البنيوية الأساسية التي تُفسر تبنِّيها نهج الدبلوماسية الذكية، بوصفه أداة إستراتيجية لتعزيز الأمن الوطني في ظل محدودية أدوات الردع التقليدية. فموقعها الجغرافي في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا، ووقوعها بين قوى إقليمية تسعى إلى توسيع نفوذها، إلى جانب امتلاكها ثالث أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي عالميًّا(26)، كلها عوامل ضاغطة، شكَّلت على مدار العقدين الماضيين، دافعًا لإعادة تعريف أدوات التأثير القطري على الصعيد الخارجي.
وتُعد البيئة الإقليمية إطارًا خارجًا عن إرادة الدولة، وفي الوقت نفسه محددًا بنيويًّا حاسمًا يُشكِّل طبيعة استجاباتها الإستراتيجية، فوفقًا لما يُعرف بـ”نظرية الاعتماد البنيوي”، تُرغَم الدول الصغيرة، خصوصًا تلك المحاطة بمراكز قوة إقليمية، على تطوير أدوات دبلوماسية غير تقليدية تسعى من خلالها إلى تقليل درجة تعرضها للمخاطر(27). وفي السياق الخليجي، تُجسِّد الحالة القطرية توجهًا نحو إعادة ترتيب أولويات سياستها الخارجية، عبر الانتقال من منطق ردِّ الفعل إلى نهج المبادرة الاستباقية، فالتهديد هنا لا يُنتج فقط حالة دفاعية، وإنما يمكن أن يكون محفِّزًا لبناء إستراتيجية دبلوماسية هجينة تدمج بين أدوات النفوذ التقليدي والرمزي، وتُعيد توجيه الجغرافيا من كونها عبئًا إلى كونها أصلًا إستراتيجيًّا.
ورغم ما تفرضه البيئة الإقليمية من قيود بنيوية، استطاعت قطر تحويل ما تمتلك من عناصر إلى مصادر قوة ذكية، عبر تبنِّي سياسة خارجية مرنة ومتعددة المسارات، مكَّنتها من إعادة التموضع فاعلًا إقليميًّا مؤثرًا، فالغاز الطبيعي المسال مثلًا، لم يُستخدم بوصفه موردًا اقتصاديًّا فقط، بل أداة دبلوماسية فعَّالة لتوسيع شبكات الاعتماد المتبادل مع قوى دولية كالصين وفرنسا وألمانيا واليابان؛ مما أضفى على أمنها الطاقوي بُعدًا جيوسياسيًّا يرتبط بالاستقرار العالمي للطاقة.
كما عزَّزت قطر من مكانتها السياسية من خلال لعب أدوار وساطة في أزمات معقدة، مثل السودان وأفغانستان ولبنان(28)؛ مما أتاح لها بناء عمق دبلوماسي وسياسي فاعل، لاسيما في مواجهة محاولات العزل التي بلغت ذروتها خلال الأزمة الخليجية 2017(29). ويمثل هذا النمط من السلوك مثالًا تطبيقيًّا على كيفية توظيف الدول الصغيرة لأدوات غير تقليدية كالدبلوماسية العامة، والتعليمية، والإعلامية لصناعة نفوذ ناعم، يعوِّض محدودية القدرات التقليدية، ويعزز من موقع الدولة ضمن معادلات التوازن الإقليمي والدولي.
لذلك، تتبنى السياسة القطرية ما يمكن وصفه بـ”إستراتيجية الموازنة”، التي تهدف إلى تحقيق قدر من الاستقلال الجيوسياسي من خلال إقامة علاقات متوازنة مع قوى إقليمية متنافسة (30)، ويتجلى ذلك في قدرتها على الحفاظ على قنوات اتصال دون التورط في صراعات مباشرة، وعبر تقديم نفسها وسيطًا محتملًا للحوار، بما يعكس نهجًا استباقيًّا يراكم النفوذ بهدوء ويُعيد صياغة التوازنات الإقليمية.
وبهذا المعنى، لم تعد الجغرافيا في الحالة القطرية مجرد معطى ثابت، بل تحولت إلى أداة إستراتيجية تُوظَّف ضمن مقاربة هجينة تجمع بين الموارد المختلفة. ويجسِّد هذا التوجه سلوكًا عقلانيًّا يتسق مع الواقعية الجديدة؛ حيث لا تُقاس فاعلية الدولة بقدراتها الصلبة فقط، بل بمدى قدرتها على التكيف، وبناء الشرعية، وتوظيف أدوات مبتكرة لصياغة نفوذ نسبي يتجاوز القيود البنيوية المفروضة عليها.
- دوافع التحول نحو الأدوات الناعمة والذكية
فرضت محددات الواقع الجيوسياسي، بما يشمله من محدودية عسكرية وديمغرافية، على صانع القرار القطري، تبنِّي أدوات بديلة لتعزيز الأمن الوطني، وفي هذا الإطار، برزت القوة الناعمة والدبلوماسية الذكية مسارًا إستراتيجيًّا لتعويض هذا القصور، من خلال بناء شبكات سياسية وأمنية تقلِّل من الانكشاف الإستراتيجي، وتمنح الدولة هامش مناورة أوسع في بيئة إقليمية متقلبة.
وقد استثمرت قطر في أدوات غير تقليدية كالإعلام، والتعليم، والثقافة، والرياضة، بوصفها وسائل فاعلة لبناء “سمعة إستراتيجية” تعزز من موقعها داخل شبكات التحالف الدولي، وتُصعِّب من إمكانية عزلها أو تهديد استقرارها، وتستند هذه المقاربة إلى ما يُعرف في علم العلاقات الدولية بـ”بنى النفوذ البديل”(31)، التي تعتمد على الرموز، والشبكات، والمعايير بدلًا من القوة العسكرية الصلبة.
وترتبط هذه البنى بمفهوم “رأس المال الرمزي”، كما طوَّره بيير بورديو، والذي يشير إلى القدرة على التأثير من خلال الشرعية والصورة والقبول الدولي(32). وضمن هذا الإطار، تتحول أدوات مثل الإعلام والرياضة والدبلوماسية الإنسانية إلى مكونات مركزية في هندسة النفوذ السياسي وبناء التحالفات. وتُظهر التجربة القطرية كيف يمكن تحويل رأس المال الرمزي إلى مورد جيوسياسي فاعل، يُستخدم لتحييد الضغوط، وتعزيز الاعتماد المتبادل، والمشاركة في قضايا عالمية من دون الانخراط في صراعات مباشرة؛ مما يجعل القوة الناعمة جزءًا عضويًّا في بنية الدبلوماسية الذكية.
ويُجسَّد هذا التوظيف إدراكًا براغماتيًّا لطبيعة النظام الدولي كما تصفها الواقعية الجديدة(33)؛ حيث تسعى الدول الصغيرة إلى بناء “شبكات ردع غير مباشرة” تستند إلى القبول الدولي، وتعدد الشراكات، وتنويع الاعتماد المتبادل. وبالفعل، تبنَّت قطر سياسة التحوط الإستراتيجي(34)، التي ترتكز على تنويع التحالفات وتجنُّب الانخراط في محاور صلبة أو استقطابات إقليمية حادة.
فمع تركيا مثلًا، تطورت العلاقة إلى شراكة شاملة امتدت إلى مجالات متعددة، كالأمن والدفاع والاستثمار والتعليم والطاقة، وتُوِّجت باتفاقات وُقِّعت خلال اجتماعات اللجنة الإستراتيجية العليا التي تُعقد بشكل سنوي(35). أما مع الاتحاد الأوروبي، فقد رسَّخت قطر موقعها شريكًا موثوقًا في أمن الطاقة بعد أزمة أوكرانيا، وعززت علاقاتها مع قوى أوروبية كألمانيا وفرنسا(36)؛ ما يعكس تحولًا نوعيًّا في دورها ضمن منظومة الأمن الجماعي الإقليمي.
في المقابل، شكَّلت روسيا محورًا إضافيًّا في إستراتيجية التحوط القطرية؛ حيث برزت الدوحة وسيطًا مقبولًا في الأزمة الروسية-الأوكرانية، لاسيما في الملفات الإنسانية مثل إعادة الأطفال الأوكرانيين(37). وإلى جانب شراكة فاعلة ضمن منتدى الدول المصدِّرة للغاز، يُعدُّ الصندوق الاستثماري المشترك بين الدوحة وموسكو نموذجًا لبناء مصالح متعدِّدة المستويات(38)؛ مما يُسهم في تحصين الأمن الاقتصادي لقطر ويعزز قدرتها التفاوضية داخل المجتمع الدولي.
ويعكس هذا النهج القطري وعيًا إستراتيجيًّا بطبيعة التحول في مفهومي القوة والنفوذ، فبدلًا من الانخراط في مواجهات مباشرة أو الارتهان لمحاور إقليمية كبرى، اختارت الدوحة استثمار أدوات مرنة تُمكِّنها من بناء شبكة مصالح متوازنة وقابلة للتكيف، وبهذا المعنى، أصبحت القوة الناعمة والدبلوماسية الذكية مكوِّنًا أساسيًّا في البنية الأمنية للدولة، يتيح تحقيق أهداف إستراتيجية بتكلفة منخفضة وفاعلية مرتفعة، بما ينسجم مع فرضيات الواقعية الجديدة حول البقاء والتكيف في بيئة دولية فوضوية.
ورغم نجاح قطر في توظيف هذه الأدوات لتعزيز أمنها الوطني، يظل السؤال قائمًا حول استدامة هذا النموذج في ظل التحولات المستمرة في بنية النظام الدولي، وتصاعد الضغوط الجيوسياسية. فبينما تُعدُّ السياسات المرنة والتموضع الذكي خيارات فعَّالة للدول الصغيرة، إلا أن فاعليتها مشروطة بقدرة الدولة على المحافظة على توازن دقيق بين تحالفات متعددة، وتحييد الصراعات دون التورط فيها. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تحصين مؤسسي موازٍ على المستوى الداخلي، يضمن ترسيخ الدبلوماسية الذكية خيارًا إستراتيجيًّا مستدامًا، لا كاستجابة ظرفية، ويتطلب ذلك مأسسة أدوات التأثير، وتعزيز الابتكار، وضمان قدرة الدولة على التكيف البنيوي مع تحولات البيئة الإقليمية والدولية.
المحور الثالث: الأثر الإستراتيجي للدبلوماسية الذكية على الأمن الوطني القطري
تُبرز التجربة القطرية اعتمادًا ممنهجًا لإستراتيجية دبلوماسية متعددة الأبعاد، مكَّنت الدولة من بناء شبكة واسعة من التحالفات والعلاقات الإستراتيجية، وتوظيف حزمة متكاملة من الأدوات الناعمة والذكية لخدمة مصالحها الحيوية. وقد تحقق ذلك عبر القدرة على استباق الأزمات، والتحرك في فضاءات سياسية مرنة، والموازنة بين القوى الإقليمية والدولية، بما يعكس نهجًا متقدمًا في إدارة التفاعلات الخارجية. وينطلق هذا المحور لتحليل الأبعاد الثلاثة للأمن الوطني القطري، السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، من خلال استكشاف الدور الذي أدَّته الدبلوماسية الذكية في تعزيز هذه الأبعاد ضمن رؤية إستراتيجية متكاملة.
- الأبعاد المختلفة للأمن الوطني
يتجاوز مفهوم الأمن الوطني في السياق المعاصر التصورات التقليدية التي تقصره على الجوانب العسكرية الصلبة، ليتحوَّل إلى إطار شامل يُعنى بالحفاظ على السيادة والاستقرار، في مواجهة طيف متنوع من التهديدات المختلفة، سواء من الداخل أو الخارج، ويستلزم هذا التصور توظيف إستراتيجيات مرنة تتكامل فيها أدوات الدبلوماسية الذكية، لتعزيز قدرة الدولة على الصمود والتكيف في بيئة إقليمية ودولية شديدة التقلب.
وفي هذا الإطار، لعبت الدبلوماسية الذكية دورًا محوريًّا في تعزيز الأمن السياسي القطري، من خلال توسيع دائرة الاستقلال الإستراتيجي، وتحقيق توازن دقيق في علاقاتها الإقليمية والدولية، والحدِّ من فرص التعرض للعزلة أو الضغوط الجيوسياسية، كما لم يعد الأمن السياسي مقتصرًا على الأجهزة الرسمية، بل بات نتاجًا لتفاعل شبكي يشمل المؤسسات الرسمية، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، بما يُعزِّز مناعة الدولة وشرعيتها داخليًّا وخارجيًّا.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد نجحت قطر في توظيف مواردها الإستراتيجية، وعلى رأسها الغاز الطبيعي المسال، كرافعة مزدوجة للدبلوماسية والنمو الاقتصادي. ومن خلال بناء شبكة شراكات متداخلة مع قوى اقتصادية فاعلة، استطاعت الدولة تحصين اقتصادها الوطني، وتنويع مصادر دخلها، والحد من آثار الاعتماد الأحادي على الأسواق التقليدية. ويعكس هذا التوجه إدراكًا إستراتيجيًّا لأهمية “الأمن الطاقوي” كأحد المكونات المحورية للأمن الوطني، خصوصًا في ظل الأزمات المتكررة التي هزت سلاسل الإمداد والطاقة.
وفي البُعد الاجتماعي، تبنَّت قطر سياسة تنموية شاملة ترتكز على الاستثمار في قطاعات التعليم، والصحة، والإسكان(39)، بهدف تحسين جودة الحياة، وتأسيس أمن اجتماعي مستدام يُسهم في ترسيخ الاستقرار الداخلي والتماسك المجتمعي. وقد أسهم هذا التوجه في تعزيز الثقة العامة، ودعم الشرعية السياسية، وبناء صورة دولية إيجابية تنسجم مع رؤية الدولة فاعلًا إنسانيًّا وتنمويًّا في محيطها الإقليمي. كما امتد هذا النهج إلى المجال الخارجي عبر تبني دبلوماسية تنموية فاعلة، تمثَّلت في دعم مشاريع التعليم والصحة في عدد من الدول العربية والإسلامية(40)؛ ما أسهم في ربط أمن الداخل باستقرار الإقليم، وعزَّز من مكانة قطر دولةً مسؤولة تسهم في تعزيز الأمن الجماعي من خلال أدوات غير صدامية.
وفي التجربة القطرية، يُعزِّز توسُّع مفهوم الأمن الوطني من أهمية تبني مقاربة “الأمن المجتمعي”، فبدلًا من اختزال الأمن في التهديدات العسكرية أو البنى المادية، يركز هذا المفهوم على قدرة المجتمع على الحفاظ على هويته وتماسكه وأنماط تفاعله الأساسية في مواجهة الضغوط الخارجية أو التحولات المفروضة. وبالتالي، يكتسب الأمن المجتمعي بُعدًا خاصًّا في ظل التركيبة السكانية المتعددة. وبناءً على ذلك، تُوظَّف الدبلوماسية الذكية أداةً لتعزيز هذا البُعد، من خلال إدارة التفاعل المتوازن بين الداخل والخارج، وبناء سرديات وطنية داعمة للاستقرار والانفتاح في آن واحد. ويغدو الأمن الوطني، في هذا السياق، مفهومًا يتجاوز الدفاع عن الحدود ليشمل صيانة النسيج الاجتماعي من التآكل، والهوية الوطنية من التمييع، في ظل بيئة دولية تتسم بتدفقات رمزية وثقافية عابرة للسيادة.
- إسهام الدبلوماسية الذكية في تحييد التهديدات الخارجية
أظهرت الحالة القطرية أن الدبلوماسية الذكية لا تقتصر على إدارة الأزمات، وإنما أيضًا تؤدي دورًا وقائيًّا واستباقيًّا في تعزيز الأمن الوطني وتحجيم التهديدات المحتملة، فمن خلال تنويع التحالفات وتوازن العلاقات مع قوى متنافسة، تمكنت قطر من تفادي العزلة، واحتواء التحديات الجيوسياسية دون الانخراط في مواجهات مباشرة، لتتحول بذلك الدبلوماسية إلى أداة ردع فعَّالة تسبق وقوع التهديد.
ولم تبدأ التجربة القطرية مع الدبلوماسية الذكية فجأة، بل سبقتها عملية بناء ممنهج لأدوات القوة الناعمة التي مهدت الطريق؛ فقد شكَّل تأسيس قناة الجزيرة، عام 1996، والخطوط الجوية القطرية، عام 1994، نموذجين بارزين لصناعة صورة إستراتيجية للدولة قبل اعتماد الوساطة خيارًا سياسيًّا بعد دستور 2003. ومع مرور الوقت، أضافت قطر الرياضة أداة ناعمة فاعلة، باستضافة كأس العالم 2022؛ ما عزز من قدرتها على ترسيخ صورة دولية مرنة وحديثة.
ومع ذلك، فإن الدبلوماسية الذكية ليست عصا سحرية؛ إذ واجهت قطر اختبارات صعبة كشفت حدودها، ومن أبرز هذه الاختبارات القصف الإيراني لقاعدة العديد، في يوليو/تموز 2025، حيث تم إسقاط الصواريخ عبر أدوات القوة الصلبة، بينما عملت الدبلوماسية القطرية على احتواء التبعات السياسية والإستراتيجية للحادث، وهذا يوضح أن الدبلوماسية الذكية، رغم فاعليتها، لا يمكن أن تحلَّ محل القدرات العسكرية، بل تكملها، فهي تسهم في تقليل آثار التهديد واحتوائه، لكنها لا تلغيه بالكامل.
وفي هذا السياق، تشير الدراسات المتخصصة في حقل العلاقات الدولية إلى تطوُّر مفهوم “الردع” ليشمل أدوات غير عسكرية تُعرف بـ”الردع الاستباقي غير العسكري”، والذي يقوم على خلق بيئة إستراتيجية تُقلِّل من دوافع التهديد من خلال تعظيم كلفته السياسية والاقتصادية والإعلامية(41). وتُعدُّ الدبلوماسية الذكية من أبرز أدوات هذا النمط؛ إذ تسهم في نزع شرعية العدوان المحتمل عبر تدويل المواقف، وتعزيز الارتباطات الدولية، وخلق شبكات اعتماد متبادل تجعل من أي تهديد مغامرة محفوفة بالخسائر.
وبموازاة ذلك، اعتمدت قطر على إستراتيجية تكاملية شملت التحديث الأمني بالتعاون مع قوى إقليمية ودولية، كتركيا والولايات المتحدة(42)، دون الانجرار إلى سباقات تسلح مكلفة. كما استخدمت أدوات الإعلام الخارجي لتشكيل صورة دولية إيجابية تعزز موقعها في الرأي العام العالمي، في حين مثَّلت عضويتها النشطة في المنظمات الدولية رصيدًا إضافيًّا لترسيخ شرعيتها كدولة محايدة ووسيط دبلوماسي موثوق.
وقد امتد توظيف الدبلوماسية الذكية في الحالة القطرية إلى مشاريع المدن الذكية والمراكز الحضرية، مثل مشيرب ولوسيل، والتي تحولت إلى منصات تكنولوجية واستثمارية تُسهم في ترسيخ صورة قطر كدولة وآمنة ومستقرة. ومن خلال استضافتها لفعاليات دولية كبرى، تحولت هذه المدن إلى أدوات دبلوماسية غير تقليدية تُجسد ما يُعرف بـ “الردع الرمزي”؛ إذ ترسل الدولة من خلالها إشارات غير مباشرة تعبِّر عن الاستقرار والحداثة والتخطيط الإستراتيجي طويل المدى(43)، وهي رسائل ذات قيمة إستراتيجية في بيئة دولية يُعاد فيها تعريف الأمن خارج الأطر العسكرية التقليدية.
وعلاوة على ذلك، ترتبط هذه المشاريع بأبعاد غير تقليدية للأمن، مثل الأمن السيبراني، وأمن الطاقة، وإدارة الأزمات؛ ما يجعل المدن الذكية جزءًا لا يتجزأ من منظومة الردع غير العسكري. وبهذا، تتجاوز الدبلوماسية الذكية المجال الخارجي، لتتحول إلى مشروع وطني متكامل تشارك فيه المؤسسات، والمجتمع، والحوكمة الرقمية، ضمن رؤية إستراتيجية تهدف إلى تحصين الدولة من الداخل وتعزيز مكانتها خارجيًّا. كما أن استضافة فعاليات مثل كأس العالم 2022، ومؤتمرات المناخ والاقتصاد والسياسة، عزَّزت من الصورة الخارجية ودعمت سردية الدولة عن قدرتها على التكيف وقيادة التغيير؛ ما يوسِّع من هامش الردع غير الصدامي.
وبناءً على ما سبق، تكشف التجربة القطرية عن نمط متطور في إعادة هندسة العلاقة بين السياسة الخارجية والأمن الوطني؛ حيث لم تعد الدبلوماسية تقتصر على الوساطة أو الاتصال وإنما توسعت لتصبح جزءًا بنيويًّا من المنظومة الأمنية للدولة. ويعكس هذا التحول كيف يمكن للدول الصغيرة، رغم محدودية مواردها الصلبة، أن تُعيد ترتيب أولوياتها الأمنية من خلال توظيف أدوات ذكية ذات طابع رمزي، واتصالي، وتنموي، تُعيد الاعتبار إلى الدبلوماسية بوصفها أداة إستراتيجية لبناء المناعة السيادية، فضلًا عن وظيفتها الخارجية الأساسية.
خاتمة
تُبرز هذه الدراسة أهمية الدبلوماسية الذكية خيارًا إستراتيجيًّا للدول الصغيرة في بيئة دولية تتسم بعدم اليقين وتعدد مصادر التهديد. ومن خلال تحليل الحالة القطرية، يتضح أن قطر تبنَّت نموذجًا دبلوماسيًّا مرنًا وتفاعليًّا يدمج بين أدوات القوة الناعمة ومحددات القوة الصلبة ضمن رؤية شاملة تهدف إلى تعزيز الأمن الوطني وبناء النفوذ. ولقد أثبتت التجربة القطرية أن الدبلوماسية الذكية لا تقتصر على تحسين الصورة الذهنية للدولة فقط، بل تمثل أداة عملية لتحصين السيادة، وتوسيع شبكات الشراكة، وتحقيق اختراقات إستراتيجية في بيئات إقليمية ودولية معقدة. وجاء هذا التوظيف متناغمًا مع منطلقات الواقعية الجديدة، التي تركز على بقاء الدولة من خلال التكيف الذكي، وبناء توازنات متغيرة تتجاوز منطق التحالفات الصلبة والانتماءات الأيديولوجية.
كما أظهرت الدراسة أن قطر نجحت في تحويل أدوات غير تقليدية كالإعلام، والتعليم، والدبلوماسية الإنسانية، ومشاريع المدن الذكية إلى وسائل فعَّالة لتعزيز الحضور الإقليمي والدولي. وقد مكَّن هذا النهج الدولة من التحرك بفاعلية في نظام دولي شديد التنافس، مع تقليل التعرض للضغوط أو العزلة، وتوسيع هامش القرار السيادي.
وفي المحصلة، تُمثل التجربة القطرية نموذجًا متقدمًا للدول الصغيرة التي استطاعت، عبر توظيف الدبلوماسية الذكية، الانتقال من موقع ردِّ الفعل إلى الفعل الاستباقي، مستفيدة من أدوات العولمة والتكنولوجيا والتحالفات المرنة. وهو ما يجعل من الدبلوماسية الذكية ركيزة إستراتيجية في هندسة الأمن الوطني، ومؤشرًا على تطور أدوات الدولة في التعامل مع التحولات الجيوسياسية المعاصرة.
وما توصلت إليه الدراسة من وصفها لتجربة قطر يفتح المجال لإعادة التفكير في طبيعة الأمن الوطني للدول الصغيرة عمومًا. ففي ظل تفكك البنى التقليدية للنظام الدولي، وتصاعد التهديدات غير المتناظرة، تُظهر التجربة القطرية أن الدبلوماسية الذكية قد تتحول من خيار ظرفي إلى ضرورة بنيوية لبقاء الدول وتعزيز سيادتها. وهو ما يستدعي من الباحثين إعادة بناء مفاهيم الأمن من منظور تكاملي يأخذ في الحسبان الدور المتصاعد لأدوات القوة غير الصلبة والشبكات الدبلوماسية غير الرسمية والتأثير الرمزي في صياغة البيئة الإستراتيجية. وبهذا، تمثل الدراسة مساهمة في تحليل حالة قطر من جهة ودعوة إلى تطوير نموذج نظري أوسع لفهم أمن الدول الصغيرة في نظام عالمي يتجه نحو مزيد من عدم الاستقرار من جهة أخرى.
المراجع
(1) Corneliu Bjola and Markus Kornprobst, Understanding International Diplomacy: Theory, Practice and Ethics, 2nd ed (London: Routledge, 2018), p 7 – 23
(2) Joseph S. Nye and Jack Landman Goldsmith, “The Future of Power”, Bulletin of the American Academy of Arts and Sciences 64, no. 3 (2011), p 45 – 52 https://tinyurl.com/2atfr625
(3) سعيد العزازي، “الفهم الصحيح للدبلوماسية ما بين القوة الصلبة والناعمة والذكية: رؤية تطبيقية”، المركز الديمقراطي العربي، (2016)، https://tinyurl.com/4yzjhxv6
(4) هنادي محمد إبراهيم العبيدان، “تطور الدبلوماسية وتعدد أدوارها”، مجلة العلوم الإنسانية والطبيعية، العدد 6 (2025)، ص 78-131، https://tinyurl.com/nhbtr2nr
(5) فطيمة قبيبي بن دينا، “دور العلاقات العامة الرقمية في تعزيز العمل الدبلوماسي: دراسة ميدانية بمنظمة التعاون الإسلامي بمدينة جدة”، المجلة العربية لبحوث الاعلام والاتصال، (2022)، ص 130-166، https://tinyurl.com/fptjtwc3
(6) لباب للدراسات الإستراتيجية، “الدبلوماسية الرقمية وتأثيراتها في العلاقات الدولية”، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 10 (2021)، https://tinyurl.com/25z28w6k
(7) Olga G Leonova, “Soft power as a state’s foreign policy resource.” Ed. Globalists and Globalization Studies: Aspects & Dimensions of Global Views, Moscow: Uchitel Publishing Volgograd, )2014(, pp 99 – 103. https://tinyurl.com/58k3ymr4
(8) Michael Sheehan, The Balance of Power: History and Theory, London: Routledge, 1996, pp 135 – 157.
(9) Robert O. Keohane and Joseph S. Nye, Power and Interdependence: World Politics in Transition, Boston: Little, Brown, 1977.
(10) Michael Zürn, A Theory of Global Governance: Authority, Legitimacy, and Contestation, Oxford: Oxford University Press, 2018.
(11) Emilie M. Hafner-Burton, Miles Kahler, and Alexander H. Montgomery, “Network Analysis for International Relations,” International Organization, Vol. 63, No. 3 (2009): 559-592. https://tinyurl.com/2s3num7f
(12) Cull, Nicholas J. “Public Diplomacy: Taxonomies and Histories.” The ANNALS of the American Academy of Political and Social Science 616, no. 1 (2008): 31–54. https://tinyurl.com/mr3wvn3d.
(13) مجموعة مؤلفين، “الأمن القومي العربي وتحديات الأمن الإقليمي”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، (2023)، ص 14–36.
(14) طيايبة ساعد، “الدبلوماسية العامة الرقمية: قوة ناعمة جديدة”، مجلة الأستاذ الباحث للدراسات القانونية والسياسية، العدد 8 (2017)، https://tinyurl.com/2kxe7zc4
(15) أحمد فلاح العموش وخالد علي محمد الأميري،” الأمن الوطني: المفهوم، الأبعاد والنظريات”، الآداب، العدد 133 (2020). https://tinyurl.com/a5e8m4tw
(16) Rens Van Munster, “Logics of security: The Copenhagen School, risk management and the war on terror”, Political Science Publications, )2005(, pp 1 – 12 https://tinyurl.com/wncvrdub
(17) هاني أحمد بدر، “تحولات النظام الدولي بعد الحرب الباردة وتداعياتها على إستراتيجيات الأمن القومي للقوى الدولية الكبرى”، مجلة الدراسات الافريقية، العدد1 (2025)، ص 230-259، https://tinyurl.com/k2tbc9yd
(18) Vladimir Menshikov, Olga Volkova, Nataliia Stukalo and Anastasiia Simakhova, “Social economy as a tool to ensure national security”, Journal of Security and Sustainability Issues, (2017), pp. 211 – 231 https://tinyurl.com/ys8knrxr
(19) سعد عبيد علوان السعيدي، “رياض فاضل محمد الفيلي، الأمن الوطني: دراسة نظرية في الأبعاد والأهداف والمرتكزات”، مجلة المعهد، العدد15 (2023)، ص 111-126، https://tinyurl.com/3yc53rsa
(20) Danzi Liao, “Security governance: An alternative paradigm?”, International Journal of Social Science and Humanity, (2012), pp. 17-23. https://tinyurl.com/yb9nanxy
(21) Kenneth Waltz, Man the State, and War: A Theoretical Analysis. New York: Columbia University Press, (1959).
(22) Kenneth Waltz, “International Structure, National Force, and the Balance of World Power”, Journal of International Affairs, )1967(, pp. 215-231 https://tinyurl.com/rybtyjey
(23) Vesko Garčević, “Small states: From intuitive to smart diplomacy.” Ed The Palgrave Handbook of Diplomatic Reform and Innovation, Cham: Springer International Publishing, (2023), pp. 559-580 https://tinyurl.com/44djnjhp
(24) منعم خميس مخلف، “الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية الافتراضات والتصنيفات والأسس – رؤية تحليلية، مجلة دراسات دولية، العدد 59 (2014)، ص 213 – 236، (تاريخ الدخول: 3 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/5hadjcvc
(25) Robert A. Dahl, The concept of power, (Behavioral science: 1957) p. 201 – 215.
(26) Khalid Abaalzamat, “The Effect of Geographical Factors on the Foreign Policy of Qatar during 2014-2016”. Dirasat: Human and Social Sciences, no.6, 2024, p. 35 – 48, Access 5 July 2025 https://tinyurl.com/bdzetmkn
(27) W. E. Loges, “Canaries in the Coal Mire: Perception of Threat and Media System Dependency Relations”, Communication Research 21, no. 1, 1994, p.6, Access 1 July 2025 https://tinyurl.com/4chvnhu8.
(28) الجزيرة نت، “ملفات نجحت الوساطة القطرية في حلها باتفاقات”، الجزيرة نت، 2025، (تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2025)، . https://tinyurl.com/yc5dveuf
(29) محمد بن نويمي، السياسة الخارجية القطرية، ط 6، (الدوحة: وزارة الثقافة، 2025)، ص 72-92.
(30) المرجع نفسه.
(31) أحمد مشعان نجم، “مكانة الدولة وعلاقتها بمفهوم القوة في العلاقات الدولية”، مجلة العلوم السياسية، العدد 53،2019 ، ص 215–235، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/58ny9v7c
(32) Pierre Bourdieu, “The Social Space and the Genesis of the Group.” Theory and Society. no. 6 (1985). 263- 275. Access 11 July 2025 https://tinyurl.com/ye2nxb8b
(33) محمد الطاهر عديلة، “أسس النظرية العلمية الواقعية للعلاقات الدولية: من الطبيعة البشرية إلى الفوضى الدولية”، الدراسات والبحوث القانونية، العدد 2، 2021، ص 171–185، (تاريخ الدخول: 12 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/53wxvv6k
(34) Peter R. Baehr, “Small States: A Tool for Analysis? World Politics”، (Cambridge University,1975), p. 456 – 466.
(35) وكالة الأنباء القطرية، “اجتماع اللجنة الإستراتيجية العليا القطرية التركية”، وكالة الأنباء القطرية، 2024، (تاريخ الدخول: 3 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/mnnkevf9
(36) وكالة الأنباء القطرية، “العلاقات القطرية-الأوروبية تقوم على الثقة والاحترام المتبادلين”، وكالة الأنباء القطرية، 2024، (تاريخ الدخول: 11 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/5x6mpaby
(37) الجزيرة نت، “الوساطة القطرية تعيد دفعة جديدة من الأطفال الروس والأوكرانيين لعائلاتهم”، الجزيرة نت، 2025، (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/tybntkxm
(38) وزارة الخارجية القطرية، “قطر وروسيا تؤكدان رغبتهما المشتركة في تعزيز علاقات التعاون وتوافقهما بشأن قضايا المنطقة”، وزارة الخارجية القطرية، (تاريخ الدخول: 1 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/52y7jc7b
(39) المجلس الوطني للتخطيط، إستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة لدولة قطر 2024–2030، المجلس الوطني للتخطيط، 2025، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2025)،https://tinyurl.com/4crnu8jn
(40) صحيفة الراية، قطر مركزًا إقليميًّا في الدبلوماسية الإنسانية، صحيفة الراية، 2025، (تاريخ الدخول: 5 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/2t7xmp5m
(41) عبد الجليل زيد المرهون، ” اتجاهات الردع في الخليج”، سياسات عربية، العدد 22، 2016، ص 31-40، (تاريخ الدخول: 13 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/ybpya8fj
(42) وكالة الأنباء القطرية، “قطر والولايات المتحدة-شراكة إستراتيجية شاملة ومتنامية عمادها الثقة وتعدد المصالح”، وكالة الأنباء القطرية، 2025، (تاريخ الدخول: 6 يوليو/تموز 2025)، https://tinyurl.com/2rd8zd86
(43) Richard Ned Lebow, “Thucydides and deterrence.” Security Studies, no. 2 (2007), p. 163-188. Access 2 July 2025 https://tinyurl.com/h5r35dmk
* د. نافجة صباح البوعفرة الكواري، أستاذ العلوم السياسية المساعد، جامعة قطر.
*Dr. Nafja Sabbah Al-Kuwari, Assistant Professor of Political Science at Qatar University.
