ملخص:

في كتابه “القيادة”، يقدم هنري كيسنجر تاريخًا طويلا لفن الحكم على المستوى الدولي. ويرسم شخصية ستة قادة عرفهم عن قرب بحكم وظيفته الدولية وقربه من مركز القرار السياسي الأمريكي. وببراغماتيته المعهودة، يظلّ كيسنجر محكومًا بدفاعه عن المصالح الأمريكية وحلفائها، ومن خلالها يقرأ التاريخ ويعطي دروسًا في القيادة الجيدة. كما يصور العديد من التفاصيل التاريخية لخدمة مشروعه الأساسي في الكتاب وهو التسويق الإيجابي لقادة عالميين، كانوا قريبين من المصالح الأمريكية، متحالفين أو متواطئين.

كلمات مفتاحية: هنري كيسنجر – السياسة الخارجية – القيادة -البرغماتية – الأيديولوجية

Abstract:

In his most recent book, Leadership: Six Studies in World Strategy, Henry Kissinger provides a long history of statecraft on an international level. It depicts the personality of six leaders he knew closely by virtue of his international position and his proximity to the centre of American political decision-making. With his usual pragmatism, Kissinger remains governed by his defense of American interests and the interests of the United States’ allies, through which he reads history and gives lessons in good leadership. He also reveals many historical details to serve the main objective of the book, which is the positive marketing of global leaders who were close to, allied with or complicit in American interests.

Keywords: Henry Kissinger, foreign policy, leadership, pragmatism, ideology

مقدمة

عن سؤال حول قراره تأليف كتاب عن القيادة(1) الآن (في 2022)، أجاب هنري كيسنجر: “قررت أن أكتب كتابًا عن القيادة لأنني قضيت حياتي جنبًا إلى جنب أفراد كانوا يحاولون تشكيل الأحداث. لقد فعلت ذلك في ظل ظروف شديدة الاضطراب. يجب تفسير الأحداث وإعطاء التوجيه والمعنى الفني والإستراتيجي من قبل قيادة المجتمع. ولذا، اعتقدت أنه يمكن القيام بذلك بشكل أفضل من خلال النظر إلى إدارات قادة معينين. اخترت هؤلاء الستة لأنني أتيحت لي الفرصة لمراقبة كل منهم أثناء العمل والمشاركة في بعض أعمالهم -أحيانًا على مستوى السياسة ودائمًا على مستوى المناقشة-. بدا لي أنه إذا أراد المرء أن يفهم ما هو مطلوب لتشكيل الأحداث التي يواجهها المجتمع بطريقة بنَّاءة أو مفيدة، فإن كتابة توضيحية عن القادة هي طريقة جيدة لفهم ذلك”(2). هكذا يعطي كيسنجر للقيادة أهمية قصوى في الأوقات السياسية المضطربة، كما يلاحظ في مقدمة الكتاب أن “القيادة هي الأكثر أهمية خلال فترات الانتقال، عندما تفقد القيم والمؤسسات أهميتها، وتكون الخطوط العريضة لمستقبل ذي قيمة موضع خلاف”(3).

بالفعل، في كتابه التحليلي هذا لستة زعماء وطنيين(4)، يقدم عرَّاب السياسة الخارجية الأميركية(5) تاريخًا طويلًا لفن الحكم على المستوى الدولي. ويرسم شخصية كل قائد من هؤلاء الذين عرفهم عن قرب بحكم وظيفته الدولية وقربه من مركز القرار السياسي في البيت الأبيض فيما يخص السياسة الخارجية الأميركية؛ فيقدم سيرة ذاتية مختصرة مركِّزًا على أهم المحطات لكل قائد من القادة الستة المختارين، مبرزًا التحديات الكبيرة التي واجهها. ثم يحلل نهجه القيادي واصفًا إياه وصفًا يميزه عن الآخرين. وتبقى التساؤلات المشروعة التي توجه هذه القراءة، هي: إلى أي حدٍّ يمكن القول: إن كيسنجر نجح في إعطاء قرَّائه خصوصًا من القيادات العالمية وصفة لقيادة شعوبها والعالم الحديث؟ وهل اختياره للقيادات الست في كتابه كان يغلب عليه الطابع الأيديولوجي الذي يتبرأ منه كيسنجر دائمًا أم أنَّ هذا الأخير لا يزال وفيًّا لمنهجه البراغماتي الصارم خدمة لمصالح الولايات المتحدة فقط؟

  • ستة قادة وست إستراتيجيات

قبل أن يخوض في تفصيل كل شخصية قيادية من القادة الستة، يشير كيسنجر في مستهل مقدمة كتابه إلى أن “القادة يفكرون ويعملون عند تقاطع محورين: الأول بين الماضي والمستقبل، والثاني بين القيم الثابتة وطموحات من يقودونهم”(6). وهكذا يولي كيسنجر أهمية كبرى لدور القيادة السياسي جسرًا للتخلص من سلبيات الماضي، للعبور إلى المستقبل بأقل الخسائر. كما يولي أهمية كبرى للقيم الراسخة التي على القائد التشبث بها بحثًا عن تحقيق طموحات شعبه الذي يجب عليه أن يتعامل معه كمُعلِّم.

بعد ذلك يعدِّد الكتاب بعض السمات المشتركة بين هؤلاء الزعماء، الذين ورثوا أوطانًا تحاول الصمود والبقاء في عالم كان لا يزال يرزح تحت وطأة الحربين العالميتين وآثارهما المدمرة. فتحلَّت هذه القيادات بعدة صفات كقول الحقيقة رغم صعوبتها، والرؤية القوية، والشعور بالواقع، والجرأة، والعمل الحاسم، وعلاقتهم القوية بالدين باستثناء لي كوان يو؛ الكاثوليكية بالنسبة لأديناور وديغول، وجمعية الأصدقاء الدينية (الكويكرز)(7) بالنسبة لنيكسون، والإسلام السني بالنسبة للسادات(8)، والمنهاجية (الميثودية)(9) بالنسبة لتاتشر. وكل هذه السمات كانت نتيجة لتكوينهم في الظروف التي فرضتها الحرب العالمية الأولى والثانية. كما يؤكد كيسنجر على “المركزية المطلقة للشخصية”، مستعينًا بكتاب(10) لعالم السياسة الأميركي, جيمس ويلسن James Q. Wilson (1931-2012)؛ حيث يقول في هذا السياق: إن “الشخصية الجيدة لا تضمن النجاح العالمي أو الانتصار في فن الحكم، لكنها توفر أساسًا راسخًا للنصر ومواساة الفشل”(11). وبالتالي، بالنسبة لهؤلاء القادة الستة الذين تمتَّعوا بشجاعة غير عادية حسب كيسنجر، هناك صفات أصبحت مرتبطة بشخصياتهم وهي التي حددت تأثيرهم في الأحداث السياسية الداخلية وأيضًا وخصوصًا على المستوى الدولي. وهكذا ارتبطت صفات النزاهة والمثابرة بأديناور والعزم والرؤية التاريخية بديغول، وفهم الوضع الدولي المتشابك والقوة في اتخاذ القرار بنيكسون، والسمو الروحي الذي أتاح لصاحبه صياغة السلام بالسادات، وقوة الخيال في التأسيس لمجتمع جديد متعدد الأعراق بيو، والمبادئ القيادية والمثابرة بتاتشر.

وهكذا بالنسبة لكونراد أديناور، فقد تبنى ما أسماه كيسنجر “إستراتيجية التواضع” Strategy of humility التي أتاحت للمستشار الألماني أن يعبر بألمانيا لتجاوز أصعب أزمة في تاريخها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، من خلال التخلي عن البحث عن الهيمنة على أوروبا التي لازمتها لعقود طويلة خصوصًا في العهد النازي قبيل وخلال الحرب العالمية الثانية. وكذلك عبر ترسيخ دورها في الحلف الأطلسي، وإعادة بنائها على أساس أخلاقي يعكس قيم أديناور المسيحية وقناعاته الديمقراطية. وفي سبيل ذلك كان على أديناور أن يواجه الاستياء العالمي من ألمانيا، والارتباك الداخلي الحاصل بعد سلسلة طويلة من الأزمات السياسية الداخلية والحربين العالميتين، والهزيمة والتقسيم والانهيار الاقتصادي وفقدان النزاهة الأخلاقية عند الألمان(12). وعلى الرغم من إعجاب كيسنجر بقيادة أديناور، فهو يؤكد على أنه ظل قلقًا خلال فترة الخمسينات والستينات، أي في ذروة الحرب الباردة، بشأن تأثير الثقافة السياسية المضطربة في ألمانيا على القرارات التي فرضتها عليها هذه الحرب. ولكنه يؤكد على أن إستراتيجية أديناور اعتمدت على سياسة الاحتواء (Containment) التي وضعها جورج كينان ونفذها وزيرا الخارجية الأميركيان، دين أتشسون وجون فوستر دالاس John Foster Dulles (1888-1959)، والتي كانت ترمي كسياسة خارجية أميركية للحد من انتشار الشيوعية وتمدد الاتحاد السوفيتي في إطار الحرب الباردة. ويبدو أن إعجاب كيسنجر بسياسة أديناور بقي مؤطَّرًا بالخيار السياسي الذي اتبعه المستشار الألماني للالتحاق بالمعسكر الغربي وسياسات الولايات المتحدة في القارة الأوروبية للحد من توسع المعسكر الشرقي، الذي يقف على حدود جدار برلين الألمانية.

أمَّا القائد الثاني فهو شارل ديغول، الذي قاد المقاومة ضد الاحتلال الألماني لفرنسا (1940-1944) من منفاه اللندني، وسعى جاهدًا لعودة بلاده قوة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، عبر ما أسماه كيسنجر “إستراتيجية الإرادة” Strategy of will. وقد مكَّنت هذه الإستراتيجية ديغول من نقل فرنسا من إمبراطورية مهزومة ومنقسمة إلى دولة قومية مزدهرة ومستقرة، كما مكَّنتها من لعب دورٍ مهمٍّ في العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. ويبقى كيسنجر معجبًا بأسلوب ديغول في الحكم، مؤكدًا أن السياسة الخارجية الفرنسية لا تزال تتشكل من خلال الميول الديغولية حتى يومنا هذا، وحياته بالنسبة له تشكِّل حالة دراسية حول تمكن القادة العظماء من صياغة التاريخ. يعبِّر كيسنجر عن إعجابه بنداء الرئيس الفرنسي التاريخي من لندن، في 18 يونيو/حزيران 1940، وإعلانه عن تشكيل المقاومة ضد الاحتلال الألماني وحركة معارضة لحكومة فيشي(13). ويستمر إعجاب كيسنجر بديغول في حرصه على التعاطي مع الولايات المتحدة وبريطانيا، كرئيس دولة قوية. ويتمثَّل ذلك في عدم الرضوخ إلى مطالب الحلف الأطلسي وانسحاب فرنسا منه في عام 1966. وكذلك في الملف النووي؛ حيث أمر ديغول بإزالة الأسلحة النووية الأميركية من الأراضي الفرنسية(14). فالردع النووي، كما يقول السياسي الفرنسي جاك غودفران، كان “ركيزة الجنرال ديغول لسياسة للاستقلال، والذي يربط بين الدفاع والسياسة الخارجية”(15). لقد ظلت العلاقات الأميركية-الفرنسية جد صعبة ويطبعها انعدام الثقة لمدة عقد من الزمن ولم ينفرج التوتر إلا في 1969 بعد زيارة نيكسون للعاصمة الفرنسية، في 28 فبراير/شباط، مرفقًا بكيسنجر الذي كان قد تولى للتو منصبه مستشارًا للأمن القومي، والذي كان يرى أن “الوقت قد حان لتقوية العلاقات مع فرنسا هذا الحليف الصعب ولكن الأساسي”(16)، حسب تعبير الدبلوماسي الفرنسي السابق، جيريمي غالون.

أما القائد الثالث الذي تطرق إليه الكتاب عبر ما سماه كيسنجر “إستراتيجية التوازن” Strategy of equilibrium، فهو ريتشارد نيكسون، القائد المقرب من كيسنجر، والذي قام بإخراج الولايات المتحدة من الصراع في فيتنام في فترة حكمه بين عامي 1969 و1974، قبل أن يضطر إلى الاستقالة بعد فضيحة ووترغيت Watergate(17). مكَّنت هذه الإستراتيجية الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة من فتح العلاقات مع الصين؛ الشيء الذي فرض دينامية ثلاثية الأضلاع (الولايات المتحدة الأميركية-الاتحاد السوفيتي-الصين) على النظام الدولي ثنائي القطب. مما وضع الاتحاد السوفيتي في وضع غير مريح أمام صعود غريمه الصيني قوةً منافسة من نفس المعسكر الشرقي. خصوصًا وأن جمهورية الصين الشعبية منذ أواسط الستينات القرن الماضي، أصبحت من الدول الكبرى المالكة للأسلحة المدمرة، وأصبحت تبتعد شيئًا فشيئًا عن النظام العالمي(18)، مما قد يشكِّل خطرًا على الدول التي كانت تتنافس على قيادته، خصوصًا الولايات المتحدة. لهذا يعتبر كيسنجر فتْح قنوات الاتصال مع الصين، إنجازًا كبيرًا لإرجاعها إلى المنظومة الدولية وربط اقتصادها بها. من جهة ثانية، خاض كيسنجر معركة أخرى وهي الحد من التسلح مع الاتحاد السوفيتي. أما في الشرق الأوسط، فعملية السلام بين مصر وإسرائيل، التي بدأها كيسنجر، كان من شأنها تغيير الشرق الأوسط، الذي أصبحت فيه الولايات المتحدة القوة الخارجية المهيمنة، والتأكيد على مفهوم النظام العالمي القائم على التوازن.

من جهة أخرى، يصف كيسنجر محاولات محمد أنور السادات لإحلال السلام في الشرق الأوسط واستعادة صحراء سيناء بأنها تدخل في إطار “إستراتيجية السمو” Strategy of transcendence.  وبالنسبة لكيسنجر، فإن التحديات المستمرة في المنطقة إلى الآن تؤكد على مدى أهمية ما أقدم عليه بتبنِّيه لهذه الإستراتيجية. معتبرًا أن السياسة التي مارسها السادات تجاه إسرائيل، بعرضه السلام عليها أرست تحولًا شجاعًا في السياسة قد يخفف مع العداوات المريرة لهذه المنطقة المضطربة. بل إن السلام مع إسرائيل الذي يصفه بالإنجاز العظيم، شكَّل، بالنسبة له، أساس اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية والسلام بين إسرائيل والأردن والتطبيع الدبلوماسي بين إسرائيل من جهة والإمارات العربية والبحرين والسودان والمغرب، من جهة أخرى(19). وخلافًا لزعامات أخرى في الشرق الأوسط، كالرئيس المصري جمال عبد الناصر (1918-1970)، والعقيد الليبي معمر القذافي (1942-2011)، والرئيس السوري حافظ الأسد (1930-2000)، فقد تبنَّى السادات أساليب الدبلوماسية الغربية بشكل كبير. وحسب كيسنجر فقد مكَّنته إستراتيجية السمو التي اتبعها من إعطاء الأولوية للسيادة الوطنية والانحياز إلى الولايات المتحدة بدل التوجه القومي العربي أو حركة عدم الانحياز(20). وهذا التوجه صاحبه الابتعاد عن الاتحاد السوفيتي إلى حدِّ القطيعة معه في أواسط سنة 1972(21). لكنَّ الصُّلح مع إسرائيل، يبقى أهم إنجاز قام به السادات، من وجهة نظر كيسنجر، ولم تنفعه إستراتيجية السمو من سهام معارضيه في المنطقة العربية، ولا داخل مصر؛ “فقد تحول سعيه لتحقيق حلم المصالحة إلى خيار الاستشهاد”(22). وبالفعل، سيُغتال السادات في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1981، بعد أن بادر بسلام مع إسرائيل، يقول عنه كيسنجر: إنه “حركة تاريخية لا رجعة فيها”(23).

أما لي كوان يو Lee Kuan Yew، فبفضل “إستراتيجية التميز” Strategy of excellence حوَّل دولة ساحلية فقيرة ومتعددة الأعراق (صينيين، وملايويين وهنود وعرب وأرمن ويهود…إلخ)، تفتقر إلى أبسط الموارد الطبيعية بما في ذلك مياه الشرب الكافية، إلى دولة مستقرة ومزدهرة اقتصاديًّا، وذات هوية مشتركة توفر الوحدة الوطنية بتنوعها العرقي والثقافي. ويركز كيسنجر كثيرًا على محاضرة قدَّمها لي كوان يو أمام أعضاء هيئة التدريس في جامعة هارفارد، في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1968(24)؛ حيث أوضح رئيس الوزراء السنغافوري رؤية عالمية خالية من العداء لأميركا، التي كانت تعاني منه خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية وإلقاء القنبلة الذرية الأميركية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، في أغسطس/آب 1945.

أما التحديات التي واجهها يو كسياسي فيمكن تلخيصها مع كيسنجر في إيجاد السكن اللائق للمواطنين السنغافوريين، ومحاربة الفساد الذي كان مستشريًا، وقبل هذا وذاك، إيجاد أرضية للتعايش بين العرقيات المختلفة. بالنسبة للتحدي الأول، تمَّ استحداث مجلس جديد للإسكان والتعمير، تكفل ببناء مشاريع سكنية شاهقة على مساحة ضخمة، بهدف منح جميع السنغافوريين إمكانية الحصول على مساكن لائقة وفي حدود المعقول بالنسبة لدخلهم(25). وفيما يخص محاربة الفساد، فإن حكومة يو أصدرت قانون منع الفساد، الذي فرض عقوبات صارمة على كل مستويات الحكومة. وسرعان ما أضحى الفساد في سنغافورة يعتبر تجاوزًا ضد العرف الأخلاقي للمجتمع، الذي أصبح مع يو يؤكد على التميز والجدارة والنزاهة والسلوك المشرف(26). ثم تلا بعد ذلك تحديث المجال العسكري والمجال الاقتصادي، إلى أن أصبح اقتصاد سنغافورة من أهم الاقتصادات العالمية رغم قلَّة مواردها الطبيعية. أما في السياسة الخارجية، فكسينجر يثمِّن موقف يو المدافع عن الولايات المتحدة كدولة لها دور رئيسي في الحفاظ على التوازن العالمي في مواجهة التهديد الروسي خلال الحرب الباردة، ولها أهمية حاسمة في الحفاظ على حالة توازن في آسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي(27). وهذا التوازن الذي طالب به يو الولايات المتحدة منذ تسعينات القرن الماضي، يأخذ بعين الاعتبار دور الصين المتعاظم والذي كان يو قد تنبأ به منذ 1973(28).

أما مارجريت تاتشر، فقد كان لإرادتها الحديدية دور مهم وحاسم في حرب الفوكلاند بين بريطانيا والأرجنتين، في 1982. ويصف كيسنجر نهج رئيسة الوزراء البريطانية السابقة بـ”إستراتيجية الاقتناع” Strategy of conviction. وقد عززت تاتشر من خلال هذه الإستراتيجية مكانة المملكة المتحدة التي كانت قد فقدت نفوذها العالمي وتراجعت مكانتها الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها منهكة ومفلسة، رغم انتصار الحلفاء. فأصبحت بريطانيا في عهدها “دولة واثقة من نفسها وشريكًا مهمًّا لأميركا أواخر الحرب الباردة”(29). وتتجلى إستراتيجية الاقتناع لدى تاتشر في أنها ظلت طوال مسيرتها السياسية مدافعة شرسة عن حرية السوق. وهناك حكاية شهيرة مفادها أنه خلال اجتماع سياسي لحزب المحافظين، أخرجت تاتشر نسختها من كتاب “دستور الحرية” لـفريدريك هايك Friedrich Hayek (1899-1992)(30) من حقيبة يدها، ووضعتها على الطاولة وأعلنت: “هذا ما نؤمن به”(31). لقد عاشت تاتشر إذن وفقًا للمبادئ التي أقرت بها للدفاع عن الأسواق الحرة، لكنها كانت أيضًا فخورة بتحسين حكومتها لجودة الخدمات الاجتماعية، خاصة في ميدان الصحة(32). وقد كان تشبثها بمبادئها بعناد شديد سببًا في نجاح الإصلاحات الاقتصادية. الشيء الذي منح تاتشر فرصة لتحقيق أهدافها في السياسة الخارجية وزيادة الإنفاق الدفاعي(33)؛ حيث اعتبرت “المرأة الحديدية” أن من واجبها الدفاع عن المصالح البريطانية في العالم، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، وحماية قدرة بريطانيا على الحفاظ على الحلف الأطلسي. وهذا ما تم لها في أبريل/نيسان 1982، حيث ستتصرف وفق معتقداتها، عندما دخلت الأرجنتين إلى جزر فوكلاند(34) البريطانية ويبرِّر كيسنجر لتاتشر ما قامت به بمسألة السيادة، ويقول: “من أجل الاحتفاظ بمعنى السيادة -أي السلطة النهائية داخل منطقة محددة-، كان يجب أن تتصرف. وكما كتبت لاحقًا، تسبب الهجوم الأرجنتيني في “أزمة شرف بريطانية””(35).

  • في الحاجة إلى قيادات بتعليم إنساني واسع لترتيب السياسة الدولية المضطربة

من جهة أخرى، وبينما لكل من القادة الستة فصل منفصل، فإن الفصل الختامي من الكتاب يدور حول تطور القيادة من الأرستقراطية إلى الجدارة. فكل هؤلاء القادة لم يولدوا لأسر غنية أو بامتيازات خاصة، لكنهم في قلم كيسنجر، تمكنوا من أن يصلوا إلى مراكز القيادة بكل استحقاق، بل وأثروا في السياسة العالمية أيضًا.

ويضيف كيسنجر(36) أن الجدارة مع الديمقراطية، كقوتين اجتماعيتين متصلتين، كانتا السبب في صعود قادة من الطبقة الوسطى، وفقًا لأحد شعارات الثورة الفرنسية “وظائف مفتوحة للمواهب”. حيث سيتم ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، اعتماد مبادئ الجدارة والمؤسسات في الغرب، كامتحانات القبول في التعليم العالي، الشيء الذي فتح الباب على مصراعيه لوصول الأفراد الموهوبين من الطبقة الوسطى إلى المراكز العليا ودوائر اتخاذ القرار.

لكن يبدو من الواضح أن الدور المتعاظم الذي يمنحه كيسنجر للقادة الناجحين، يُغيِّب دور هذه المؤسسات التي بناها الفكر السياسي منذ الأنوار (أو على الأقل يجعل دورها باهتًا أمام شخصية القائد المطلوب)، والتي تسود بغض النظر عمن يحكم. وكأنه يعود بنا إلى دور “الملك-الفيلسوف” في جمهورية أفلاطون Plato (428/427 – 348/347 ق.م)، والذي يتم اختياره نظرًا لمؤهلاته الطبيعية فقط، ويتم بعدها إعداده للقيادة، سواء كان ذكرًا أو أنثى وبغض النظر عن انتمائه الطبقي الأصلي. كما يعود بنا كيسنجر إلى دور “أمير” مكيافيلي Machiavelli (1469-1527)، الذي يحتاج إلى مجموعة الخبرات (المبادرة الفردية) virtu للتعامل مع نوازل القدر Fortuna. وإلى مكيافيلي يشير كيسنجر بوضوح لإعادة الاعتبار لدور القيادة في المجتمع؛ حيث ينسِب المفكر الفلورنسي في كتابه “نقاشات حول ليفي”، التراخي في القيادة إلى التراخي الاجتماعي الناجم عن فترة طويلة من الهدوء. حينها قد يتبع الناس قادة مخادعون أو من يرجح مصالحه الخاصة على العامة. لكن لاحقًا، في الأوقات الصعبة، يكشف هذا الخداع ويلجأ الناس إلى أولئك الذين تم نسيانهم في أوقات الهدوء(37). هكذا يمكن تفهم اختيار هؤلاء القادة من طرف كيسنجر؛ فهُم، بالنسبة له، الأشخاص المناسبون في الأوقات المناسبة.

كما يبحث كيسنجر في الآثار المترتبة على القيادة في السياق الحالي عندما طغت الثقافة البصرية، وفقدت سعة الاطلاع والتفكير الجاد والمستقل في عصر تهيمن عليه الصورة. لهذا نادى بالعودة إلى تعليم إنساني أوسع قائم على الفلسفة واللغات الحديثة والتاريخ والفكر الاقتصادي والأدب والعصور الكلاسيكية القديمة، لتصبح الجدارة أكثر فاعلية. ورغم أن المدارس والجامعات الأميركية برعت في إنتاج نشطاء وفنيين، لكنها، حسب كيسنجر “ابتعدت عن مهمتها المتمثلة في تكوين مواطنين، من بينهم رجال دولة محتملون” (38).

ويلخص فصله الختامي “تطور القيادة”، بما يجب على القادة اليوم التفكير فيه أثناء محاولتهم لإيصال دولهم إلى بر الأمان.

خاتمًا كتابه بمقولة للفيلسوف الرواقي، إبيكتيتوس Epictetus (50 – 135 ق م): “لا نستطيع اختيار ظروفنا الخارجية، ولكن يمكننا دائمًا اختيار كيفية الرد عليها”(39). وبالنسبة لكيسنجر، فالقادة الستة الذين اختارهم قدوات يحتذى بهم من طرف القادة الآخرين، عرفوا كيف يتعاملون مع ظروف بلادهم الخارجية. لكن، ورغم الدروس المستفادة من الكتاب، فإن اختيار كيسنجر نفسه يبدو أنه كان محكومًا باعتبارات أخرى غير النجاح الذي حققه كل قائد من موقعه.

  • اختيارات كيسنجر بين البراغماتية والانحياز الأيديولوجي

تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء القادة الستة الذين تطرق إليهم كيسنجر في هذا الكتاب هم كلهم قريبون من التوجهات الأميركية أو يدورون في فلك مصالحها على الصعيد العالمي. فهم إما حلفاء أو أصدقاء للولايات الأميركية في القرن العشرين. بالإضافة إلى ذلك، يلاحظ كيسنجر أن الزعماء الستة يمثلون أنماطًا مختلفة من القيادة، بعيدة عن الأيديولوجيات. فجميعهم، حسب كيسنجر، كانوا محافظين براغماتيين يفهمون السلطة وحدودها، على شاكلته هو نفسه. فعرَّاب السياسة الخارجية الأميركية كان يتبع دائما نهجًا براغماتيًّا وسياسيًّا للعلاقات الدولية، منذ أطروحته في جامعة هارفارد حول سبيغلر Spengler  وتوينبي Toynbee  وكانط Kant، في 1950، ثم تبعها كتابان يدوران حول استعادة ميزان القوة الأوروبي بعد الحروب النابليونية (عالم مستعاد)، ودمج الأسلحة النووية في السياسة الخارجية الأميركية (الأسلحة النووية والسياسة الخارجية) في 1957. وبصفته مستشارًا للأمن القومي الأميركي ووزيرًا للخارجية في عهد الرئيسين، ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، تجنب كيسنجر الانجرار إلى الأيديولوجية، وأسَّس السياسة على المصالح الأميركية، آخذًا بعين الاعتبار القيود التي يفرضها الواقع الجيوسياسي، لكل فترة. وهذا ما يبينه في كتابه الأشهر “الدبلوماسية والنظام العالمي”. وأيضًا في مذكراته المكونة من ثلاث مجلدات: (سنوات البيت الأبيض.. سنوات الاضطرابات وسنوات التجديد)، التي يوضح فيها كيسنجر كيف يعمل رجالات الدولة من زعماء دبلوماسيين في العالم الحقيقي بعيدًا عن التنظير الذي يعرفه حقل العلاقات الدولية. وقد دفعت به هذه البراغماتية إلى نهج أسلوب الترهيب في المفاوضات بعيدًا عن الدبلوماسية. وكما قال عنه الصحفي الأسترالي الشهير، ويلفريد بورتشيت Wilfred Burchett (1911-1983): “يبدو أن الفلسفة الدبلوماسية للدكتور كيسنجر تركز على فكرة أن المفاوضات يجب أن تكون مصحوبة بتهديدات باستخدام القوة وأن القوة يجب أن تُستخدم بحكمة بما يكفي لجعل تلك التهديدات ذات مصداقية”(40).

وحري بالقول هنا: إنه رغم براغماتيته الأسطورية، فإن اختيارات كيسنجر للقيادات المدروسة في كتابه تبقى محكومة إلى حد بعيد بأيديولوجية الولاء للخيار السياسي الأميركي. فقد تحاشى الحديث عن زعماء كثيرين طبعوا القرن العشرين وأثَّروا في السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هو نفسه قريبًا منهم أو من محيطهم عبر المفاوضات أو في إطار المفاوضات الصعبة التي كان يخوضها البيت الأبيض مع زعماء المعسكر الشرقي في إطار الحرب الباردة، من أمثال رجل الدولة السوفيتي، ليونيد بريجنيف Leonid Brezhnev (1906-1982)، أو مؤسس جمهورية الصين الشعبية، ماو تسي تونغ  Mao Zedong  (1893-1976)، واللذان كان قريبًا منهما في العديد من الملفات ومهتمًّا بآرائهما، مع زعماء آخرين(41). وهذا التجاهل لمثل هذه الزعامات يمكن فهمه من خلال انحياز أيديولوجي واضح من طرف كيسنجر للمعسكر الغربي، والذي لا يزال يدافع عنه إلى الآن(42).

من جهة أخرى، بالإمكان ملاحظة تشابه واضح بين كتاب كيسنجر الأخير وكتاب (قادة)(43) الذي ألَّفه نيكسون في بداية الثمانينات من القرن الماضي. فهذا الكتاب أيضًا تضمن تقييمات لستة قادة من بينهم ديغول وأديناور، بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني، ونستون تشرشل Winston Churchill (1874-1965)، والجنرال الأميركي، دوغلاس ماك آرثر Douglas MacArthur (1880 – 1964)، والسياسي والدبلوماسي الياباني، شيجيرو يوشيدا Shigeru Yoshida (1878-1967)، ورجل الدولة السوفيتي، نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev (1894-1971)، ورئيس الوزراء الصيني، تشوان لاي Zhou Enlai (1898-1976). والكتابان اتبعا منهجًا واحدًا هو دراسة القيادة من خلال تقريب القارئ من رد فعل بعض القادة على التحديات التي واجهتهم وهم في مراكز القرار. لكن يبقى اختيار نيكسون لقادة من المعسكر الشرقي كخروتشوف وتشوان، أكثر ابتعادًا عن البعد الأيديولوجي، خصوصًا أن نيكسون يذكر محاسن هذين القائدين وبإعجاب في العديد من الأحيان(44).

خاتمة أو ما لم يذكره كيسنجر

عن سؤال مجلة تايم: هل يعتبر نفسه قائدًا؟ أجاب كيسنجر: “نعم، ولكن في المجال الفكري والمفاهيمي أكثر من مجال القيادة السياسية الفعلية. حاولت أن أمتلك بعض التأثير على التفكير السياسي أيضًا، لكن ليس من خلال الانخراط النشيط في السياسة”(45). في الواقع يبقى هذا الجواب صحيحًا إلى حدود بعيدة، فكتابات كيسنجر تعليمية في مجال العلاقات الدولية ومرجعية أكيدة لكل من غاص في هذا الحقل باحثًا أو ممارسًا، رغم أنها تصب في اتجاه واحد ومؤكد وهو المصالح الأميركية الصرفة بغض النظر عمن يحكم في البيت الأبيض. وهذا يستوجب منه في بعض الأحيان مداراة الحقيقة. وربما هذا ما دفع بالصحفي والناقد البريطاني-الأميركي، كريستوفر هيتشنز، إلى وصف هنري كيسنجر في كتاب حوله، بأنه “كذاب مذهل بذاكرة رائعة”(46). نفس الفكرة نجدها عند الناقد ستيف دونوغيو الذي قال عن كيسنجر في قراءته لكتاب “القيادة”: إنه “لا يزال قادرًا على الكذب حتى قبل أن ينهي كتابة الفهرس”(47). وبغض النظر عن الجانب السلبي في هذا الوصف الذي نجده عند محللين آخرين، فـإن كيسنجر يؤكد في عامه التاسع والتسعين أن ذاكرته لا تزال في كامل قوتها. ويؤكد مرة أخرى أنه لا يزال واقعيًّا كلاسيكيًّا يعطي للمناورات الإستراتيجية الأولوية على حساب الاعتبارات الأخلاقية، مؤمنًا بتوازن القوى ومدافعًا عن العلاقات الأميركية-الأوروبية، كما جاء في تصريحاته حول الحرب بين روسيا وأوكرانيا. وفي كتابه “القيادة”، يُذكِّر كيسنجر بقوة بأن العظماء يمكن أن يصنعوا التاريخ بدلًا من أن يظلوا مراقبين سلبيين لا حول لهم ولا قوة بسبب الأحداث المعاصرة. لكن في هذا التحليل للقادة الست، رغم كثرة المعلومات عنهم وعن مراحل قياداتهم، فهو يتجاهل الحديث عن العديد من المآسي التي نتجت عن إدارة هؤلاء القادة(48) لشؤون دولهم. وهذا طبعًا نابع من نظرته الراسخة للسياسة الخارجية بحسابات براغماتية إلى أبعد الحدود.

فهو مثلًا يصف نيكسون بأوصاف من قبيل المهذب واللبق وغير الواثق من سلطته والمبتلى بالشك الداخلي المزعج(49). بمعنى آخر، يضفي كيسنجر على نيكسون صفات المواطن العادي، ولا يأتي على ذكر مساوئه في ممارسة السلطة، وأولها الكذب على الشعب الأميركي في فضيحة ووترغيت، ثم محاولته لإطالة الحرب في فيتنام، حتى يتسنَّى له الفوز في الانتخابات الرئاسية لسنة 1968 عندما كان مرشحًا ضد الرئيس ليندون جونسون Lyndon B. Johnson (1908-1973)، والذي كان قد اقترح وقف إطلاق النار والانسحاب المتبادل بين القوات الأميركية والقوات الفيتنامية الشمالية من جنوب فيتنام(50). لهذا، يبدو حديث كيسنجر عن نيكسون كأحد القيادات التي يجب الاقتداء بها، وفي نفس الوقت مطالبته بالعودة إلى تعليم إنساني أوسع للقيادات، في غاية التناقض. فنيكسون كان مستعدًّا للكذب وإطالة الحروب، فقط للظفر بالمقعد الرئاسي، بل حتى المصالح الأميركية لم تكن في ذهنه أثناء الحملة الانتخابية. إذا اعتبرنا أن الحرب الأميركية في فيتنام لم تعد في ذلك الوقت تخدم مصالح الولايات المتحدة، حتى إن أبا النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، هانز مورغنثاو  Hans Morgenthau (1904-1980)، انتقد بشدة الولايات المتحدة في هذه الحرب وطالب بخروجها(51).

من جهة أخرى، يضفي كيسنجر على تاتشر كل صفات القيادة العظيمة والناجحة. ولكن ولنفس الأسباب التي تحدثنا عنها، لا يأتي على ذكر تأييد رئيسة الوزراء السابقة لنظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، ووصْفها المؤتمر الوطني الإفريقي(52) بالمنظمة الإرهابية، ولم تؤيد وضع حدٍّ لهذا النظام إلا مكرهة(53). كما لا يأتي كيسنجر على ذكر صداقتها مع الجنرال التشيلي، أوغوستو بينوشيه Augusto Pinochet (1915-2006)، الذي قام بقتل وتعذيب آلاف المواطنين في بلاده، والذي لعب دورًا مهمًّا لصالح بريطانيا في حرب الفوكلاند ضد الأرجنتين(54).

أما الجنرال ديغول، الذي يمجِّد كيسنجر نضاله ضد الاحتلال الألماني، هو نفسه كان محتلًّا للجزائر. بل وهو يتحدث عن الوجود الفرنسي في هذا البلد، لا يأتي على ذكر كمية المجازر التي قام بها الفرنسيون ضد الجزائريين، ومنها ما حدث في عهد ديغول نفسه وبعلمه. فمثلًا، لا يذكر مذبحة باريس، 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، التي راح ضحيتها عشرات الجزائريين(55). وبحسب الأرشيفات التي رُفعت عنها السرية والتي نُشرت في يونيو/حزيران 2022 من قبل ميديابارت Mediapart(56)، فإن رئيس الدولة في ذلك الوقت، شارل ديغول، عندما علم بالمجزرة عبَّر عن سخطه ورغبته في إلقاء الضوء، لكنَّ شيئًا لم يتم فالمسؤول المباشر، موريس بابون، بالإضافة إلى الوزراء المسؤولين بصفة غير مباشرة، ظلوا في مناصبهم ولم يُحاسَب أحد، رغم أن التقارير التي وصلت إلى مكتب ديغول، أشارت إلى أن العشرات قُتلوا غرقًا وخنقًا بالأيادي ورميًا بالرصاص(57).

هذه الأمثلة وغيرها تؤكد مستخلصًا واحدًا، وهو أن كيسنجر في كتابه الأخير ظلَّ محكومًا بدفاعه عن مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ومن خلالها يقرأ التاريخ ويعطي دروسًا في القيادة الجيدة. ورغم سلاسة أسلوب الكتاب، وقوة استعراضه للتفاصيل التاريخية الدقيقة وربطها بأخرى غارقة في القدم، إلا أن العديد منها كما رأينا، يصوِّره كيسنجر لخدمة مشروعه الأساسي في الكتاب وهو التسويق الإيجابي لقادة عالميين، كانوا قريبين من المصالح الأميركية وحلفائها، أو على الأقل، لم يضايقوها في توسعها الذي بدأته مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية.

المراجع

(1) Henry Kissinger, Leadership. Six Studies in World Strategy (New York: Penguin Press, 2022), 528 pages.

(2) Henry Kissinger and Andrew Roberts, ‘There are three possible outcomes to this war’: Henry Kissinger interview, The Spectator Magazine, 2 July 2022, URL : https://bit.ly/3dpG61b,

(تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2022).

(3) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 14.

(4)   وهم: مستشار ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، كونراد أديناور Konrad Adenauer (1876-1967)، والرئيس الفرنسي السابق، شارل ديغول Charles de Gaulle (1890 – 1970)، والرئيس الأميركي السابق، ريتشارد نيكسون Richard Nixon (1913-1994)، ورئيس وزراء سنغافورة (1959 – 1990)، لي كوان يو Lee Kuan Yew (1923-2015)، والرئيس المصري السابق، محمد أنور السادات (1918-1981)، وأخيرًا رئيسة الوزراء البريطانية السابقة، مارجريت تاتشر Margaret Thatcher (1925-2013).

(5)  شغل هنري كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي الأميركي (1969-1975) ووزير خارجية الولايات المتحدة (1973-1977)، في ظل حكومة الرئيسين، ريتشارد نيكسون Richard Nixon (1913-1994)، وجيرالد فورد Gerald Ford (1913-2006). وفي سنه التاسعة والتسعين، يمثل كيسنجر آخر الأعضاء المؤسسين للسياسة الخارجية الأميركية مثل وزير الخارجية، دين أتشيسون Dean Acheson (1893-1971) في عهد الرئيس الأميركي هاري ترومان Harry Truman (1984-1972)، والسياسي والمؤرخ جورج كينان George Kennan‏ (1904-2005)، والمستشار السياسي كلارك كليفورد Clark Clifford‏ (1906- 1998) وآخرين، والذين لعبوا دورًا رئيسيًّا في تشكيل السياسة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية حسب الشروط الأميركية.

(6) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 13.

(7)  وهي حركة دينية تأسست في إنجلترا في القرن السابع عشر من قبل منشقين عن الكنيسة الأنغليكانية.

(8) هذا الرأي نجده أيضًا عند الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته؛ حيث يقول: “كان الرئيس أنور السادات حريصًا على أداء الشعائر، فلهذا قالوا عنه: الرئيس المؤمن”. انظر: يوسف القرضاوي، “وقفة لتقويم عبد الناصر وعهده“، على الرابط التالي: https://bit.ly/3EJDtT0، (تاريخ الدخول: 10 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(9) وهو تيار بروتستانتي انشق عن الكنيسة الأنغليكانية في القرن الثامن عشر.

(10) James Q. Wilson, On Character (Washington, DC: The AEI Press, 1995)

(11) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 521.

(12) Ibid., p. 32.

(13) هي الحكومة الفرنسية التي كانت تابعة للاحتلال الألماني خلال الفترة ما بين 10 يوليو/تموز 1940 و9 أغسطس/آب 1944.

(14) كان هذا طلبًا مباشرًا من ديغول الذي كتب، في 25 مايو/أيار 1959، إلى الرئيس الأميركي آنذاك، دوايت أيزنهاور  Dwight Eisenhower (1890-1969)، أن فرنسا ترفض تخزين الأسلحة النووية الأميركية على أراضيها في القواعد الأميركية. انظر نص الرسالة على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأميركية:

Letter From President de Gaulle to President Eisenhower, Paris, May 25, 1959, URL: https://bit.ly/3FaeZTi

(تاريخ الدخول: 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(15) Céline Jurgensen, Dominique Mongin, Résistance et Dissuasion. Des origines du programme nucléaire français à nos jours (Paris: Odile Jacob, 406), p. 208.

(16) Jérémie Gallon, Henry Kissinger. L’Européen (Paris: Gallimard, 2021), p. 24.

(17) هي قضية تجسس مساعدي الرئيس نيكسون على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت لصالح الحزب الجمهوري، سنة 1972؛ مما أجبر الرئيس نيكسون على الاستقالة سنة 1974.

(18) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 178.

بحلول ربيع عام 1967، سحبت الصين سفراءها من كل بلد في العالم تقريبًا وسط اضطرابات الثورة الثقافية التي بدأها ماو سنة 1966، لتطهير الحزب الشيوعي الصيني مما أسماه البرجوازية الرجعية التي اخترقته، معتمدًا في ذلك على الشباب الثوري وتعاليم الكتاب الأحمر الذي كان قد صدر في نفس السنة. انظر في هذا الصدد:

Jean Daubier, A History of the Chinese Cultural Revolution (New York: Vintage Book, 1974), p. 31-63.

(19) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 274.

(20) Ibid., p. 275.

(21)  Ibid., p. 311.

(22) Ibid., p. 354.

(23)  Ibid., p. 361.

(24) Ibid., p. 363-365.

(25)  Ibid., p. 376

(26) Ibid., p. 377.

(27)  Ibid., p. 394.

(28)  Ibid., p. 395.

(29)  Ibid., p. 414.

(30) ينتمي المفكر النمساوي، فريدريك هايك، إلى المدرسة النمساوية للاقتصاد وكان يؤمن برأسمالية السوق الحرة. كما أعرب عن اعتقاده بأن الأسواق الحرة تسمح بالإبداع والابتكار وريادة الأعمال، وهي أمور ضرورية لازدهار المواطنين والمجتمعات. وهذا ما طبقته تاتشر على طول عهدها رئيسةَ وزراء بريطانيا (1979-1990)، واقتناعها بالحد من دور الدولة في الاقتصاد.

(31) Sotheby’s, “The Man Whose Powerful Critique of Socialism Influenced Margaret Thatcher”, Mar 12, 2019, URL: https://bit.ly/3TCLEoA

(تاريخ الدخول: 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(32) Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 437.

(33) Ibid., p. 438.

(34) الجدير بالذكر أن كيسنجر يستعمل كلمة “غزت invaded” ويظهر انحيازه للموقف البريطاني، مبررًا ذلك بأن ما فعلته الأرجنتين هو خرق للقانون الدولي الذي أقر ببريطانية الجزر التي احتلتها بريطانيا في 1833. ويستعمل كيسنجر كلمة “احتلت occupied “، وهو فعل أقل وقعًا من invaded. انظر: Ibid., p. 441.

(35) Ibid., p. 440.

(36) Ibid., p. 509.

(37)  Ibid., p. 529-530.

(38) Ibid., p. 516.

(39) Ibid., p. 531.

(40) Wilfred Burchett, Les erreurs du Dr Kissinger, Le Monde diplomatique, Aout 1973, URL: https://bit.ly/3TJBWAI

(تاريخ الدخول: 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

كان بورتشيت يشير إلى الجولة الأولى من المفاوضات التي جرت بين لي دوك ثو Lê Đức Thọ (1911-1990) السياسي والقائد العسكري الفيتنامي وكيسنجر في محادثات باريس للسلام بين 1968 و1973 بخصوص حرب فيتنام. وبالفعل انتهت المفاوضات إلى وقف إطلاق النار وسحب القوات الأميركية. كانت لغة كيسنجر ترهيبية، ولكن سيغير من لهجته ابتداء من الجولة الثانية أمام موقف ثو الذي ظل متصلِّبًا إلى نهاية الجولات. أما كيسنجر فيقدم لنا في كتابه صورة أخرى عن هذه المفاوضات، حيث تتحكم الصين والاتحاد السوفيتي في الطرف الفيتنامي، وأن ما قبل به ثو هو ما كان طالب به نيكسون نفسه من قبل.

Henry Kissinger, Leadership, op cit., p. 414-422.

ولم يتحدث كيسنجر عن شخصية ثو بشكل مطول، وذلك مفهوم، نظرًا للعلاقة المتوترة بينهما في محادثات باريس، بالإضافة إلى أن ثو سيرفض لاحقًا تسلم جائزة نوبل للسلام لسنة 1973 مناصفة مع كيسنجر، باعثًا برسالة إلى لجنة نوبل يتجاهل فيها تمامًا كيسنجر. انظر:

Le Monde, M. Le Duc Tho refuse le prix Nobel de la paix, 25 octobre 1973, URL: https://bit.ly/3MWlACy

(تاريخ الدخول: 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(41) انظر على سبيل المثال بالنسبة لعلاقة كيسنجر مع بريجنيف:

Walter Isaacson, Kissinger. A Biography (New York: Simon & Schuster, 2005), p. 279, p. 363, p. 495-497, p. 538, p. 656, p. 761-762.

وبالنسبة لعلاقة ماو بالرئيس نيكسون الذي كان كيسنجر مقربًا منه، انظر:

Ibid., p. 338, p. 340, p. 346, p. 400-403, p. 425, p. 610-611.

(42) نذكر على سبيل المثال ما قاله في قمة دافوس التي عُقدت بين 22 و26 مايو/أيار 2022، بخصوص الحرب الدائرة في أوكرانيا.  فقد اقترح كيسنجر منح روسيا بعضًا من الأراضي في شرق أوكرانيا للحصول على وقف القتال، وبعدها يتم إعادة تسليح أوكرانيا وربطها بشكل وثيق بحلف الناتو، إن لم تكن جزءًا منه. ووصول حلف الناتو إلى الحدود الروسية يصب في صميم مصلحة الولايات المتحدة الإستراتيجية والحلف الغربي عمومًا. ويظهر هنا حرص كيسنجر على المصالح الغربية التي يدافع عنها بواقعتيه المعهودة بغضِّ النظر عن المصالح الأوكرانية نفسها. انظر تصريحات كيسنجر في:

Henry Kissinger and Andrew Roberts, ‘There are three possible outcomes to this war’: Henry Kissinger interview, op. cit.

(43) Richard Nixon, Leaders: Profiles and Reminiscences of Men Who Have Shaped the Modern World (New York: Simon & Schuster, 1982), 525 pages.

(44) يقول نيكسون مثلًا عن خروتشوف رغم اختلافاتهما الكبيرة والعميقة: “من بين جميع القادة الذين قابلتهم، لم يكن لدى أي منهم شعور كبير بالفكاهة، والذكاء الرشيق، والإحساس الراسخ بالهدف، والإرادة الصارمة للقوة مثل نيكيتا خروتشوف”. وعن تشوان لاي: “كان تشوان ثوريًّا شيوعيًّا ورجلًا كونفوشيوسيًّا نبيلًا، وأيديولوجيًّا مخلصًا وواقعيًّا في الحسابات، ومقاتلًا سياسيًّا عظيمًا وساعيًا كبيرًا للتوفيق. (…) كان تشوان أيضًا هادئًا وبسيطًا، وأحد أكثر الأشخاص الموهوبين الذين عرفتهم على الإطلاق”.

Ibid., p. 170, p. 218.

(45) Belinda Luscombe, “Henry Kissinger: The Internet Does Not Make Great Leaders”, Time Magazine, July 3, 2022, URL: https://bit.ly/3g6KAut,

(تاريخ الدخول: 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(46)  Christopher Hitchens, The Trial Of Henry Kissinger (New York: Verso Books, 2001), p. 89.

الكتاب عبارة عن محاكمة لهنري كيسنجر عن جرائم يُزعم أن هذا الأخير قد ارتكبها في حق العديد من الدول والمناطق كشبه الجزيرة الهندية الصينية، وتشيلي وقبرص وتيمور الشرقية عندما كان مستشارًا للأمن القومي ووزيرًا للخارجية. وفي عام 2002، تم إنتاج فيلم وثائقي بنفس العنوان من إخراج يوجين جاريكي  Eugene Jarecki يروي أحداثه الممثل الاسكتلندي بريان كوكس Brian Cox.

(47)  Steve Donoghue, “Leadership by Henry Kissinger”, Open Letters Review, June 17, 2022, URL: https://bit.ly/3Tp9P9Q,

(تاريخ الدخول: 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(48) سنحصر الحديث في ثلاثة قادة فقط على سبيل المثال.

(49) Ibid.

(50) John A. Farrell, When a Candidate Conspired With a Foreign Power to Win An Election, Politico Magazine, August 06, 2017, URL: https://politi.co/3eUg7Qm

(تاريخ الدخول: 23 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(51) Lorenzo Zambernardi, The impotence of power: Morgenthau’s critique of American intervention in Vietnam, Review of International Studies, Vol. 37, No. 3 (July 2011), p. 1335-1356.

(52) الحزب الذي كان يقاوم نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا إلى غاية 1991، عندما ألغي هذا النظام.

(53) Richard Dowden, How Margaret Thatcher helped end apartheid – despite herself, The Guardian, Apr 10, 2013, URL: https://bit.ly/3TNGoP4

(تاريخ الدخول: 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(54) Jon Lee Anderson, Neruda, Pinochet, and the Iron Lady, The New Yorker, April 9, 2013, URL: https://bit.ly/3MY0Avp

(تاريخ الدخول: 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022).

(55) قام الآلاف من الجزائريين والفرنسيين المتعاطفين مع الثورة الجزائرية، بمسيرة تندد بالاحتلال الفرنسي، فردَّت شرطة باريس بأمر من رئيسها، موريس بابون Maurice Papon (1910-2007)، بعنف أدى إلى قتل العشرات من الجزائريين.

(56) وهي صحيفة إلكترونية استقصائية فرنسية مستقلة على الإنترنت أنشأها، في عام 2008، إدوي بلينيل Edwy Plenel، الصحفي السابق بجريدة لوموند Le Monde  الفرنسية.

(57) Stéphanie Trouillard, Massacre du 17 octobre 1961 : les preuves que le général de Gaulle savait, France24, 07/06/2022, URL: https://bit.ly/3TxzuNZ

(تاريخ الدخول: 24 أكتوبر/تشرين الأول 2022).