ملخص

    تبحث الدراسة في بيان إشكالية العلاقة بين التحديات التي يفرضها تصاعد موجات استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، وتوضيح مخاطر التشغيل الآلي “الأتمتة” على مستقبل الوظائف، على سبيل المثال مهن السكرتارية وإدخال البيانات والكتبة ومهن المحاسبة والصيرفة، والمبيعات، وبيان حجم الإزاحة التي ستتعرض لها هذه المهن في سوق عمل دائمة التطور، من جانب، والدور الذي يُمكن أن يلعبه الذكاء الاصطناعي في نمو القدرات البشرية، وأثره في الارتقاء بمعدلات الإنتاجية وحجم الناتج المحلي الإجمالي وزيادة الطلب على الوظائف، لاسيما تلك الوظائف التي تخلقها أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي من جانب آخر.

كلمات مفتاحية: الذكاء الاصطناعي، سوق العمل، الأتمتة، الثورة الصناعية الرابعة، مستقبل الوظائف

Abstract:

The study explores the relationship between the challenges posed by the increasing use of artificial intelligence in various fields and clarifies the risks of automation on the future of jobs such as secretarial work, data entry, transcription, accounting, banking and sales. While the study indicates the extent of displacement these professions will experience in an ever-evolving job market, it also examines the role that artificial intelligence can play in enhancing human capabilities, impacting productivity rates, increasing the Gross Domestic Product, and boosting the demand for jobs, especially those generated by generative artificial intelligence systems.

Keywords: artificial intelligence, labour market, automation, the fourth industrial revolution, future of jobs

مقدمة

    تشهد البشرية اليوم منعطفًا جديدًا في تاريخها نتيجة التطورات الهائلة التي أحدثتها الثورة الصناعية الرابعة التي تختلف عن الثورات الصناعية الثلاث السابقة بسرعتها الجامحة، ومجالها الواسع، وتأثيرها الكبير في كل المجالات لاسيما المجال الاقتصادي الذي يمثل المُحرك الأساسي لتقدم المجتمعات. ونتيجة لذلك ظهرت على مسرح الاقتصاد العالمي محركات رئيسية ستقود العالم خلال العشرين سنة القادمة في مقدمتها قطاع الذكاء الاصطناعي الذي سيُغير بصورة كبيرة مُعظم المهام الوظيفية، مما سيؤثر بشكل كبير في أسواق العمل.

   إن الدور المحوري للذكاء الاصطناعي تقنيةً تحويليةً أخذ يُبرز في مُختلف القطاعات؛ مما أثَّر بشكل قوي على الاقتصاد العالمي خلال العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الذي يرى فيه كثيرون أن المزايا المُحتملة للذكاء الاصطناعي واسعة ومتنوعة، فإن تداعيات انتشاره أثارت جدلًا ونقاشًا واسعين، ورغم المخاوف من احتمال فقدان العديد من الوظائف والاضطرابات في مختلف المجالات، فإنه يُمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي دور مؤثر في نمو القدرات البشرية، مما يقود إلى زيادة الإنتاجية وتحسين جودة الوظائف وزيادة الطلب على الموارد البشرية، وبالنتيجة زيادة الناتج المحلي الإجمالي نتيجة لاستخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي المُولدة.

    لقد انتشرت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في معظم المجالات، منها على سبيل المثال لا الحصر: الاستشارات المالية والقانونية والترفيه والنقل والتعليم والميديا والرعاية الصحية والبيئة والألعاب الإلكترونية. ولتطبيقات الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بالتوظيف في أسواق العمل أهمية قصوى، لأنها ستخلق فرص عمل جديدة.

يُمثل الذكاء الاصطناعي أحد مرتكزات الاقتصاد الرقمي الذي يوفر فرص عمل جديدة تحتاج للمهارة العالية في التقنيات الحديثة وسيساعد على زيادة الإنتاجية، وفي ذات الوقت ستقود تطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاعات الاقتصاد المختلفة إلى اختفاء مهن كثيرة والتقليل في الطلب على المهن العادية.

    رغم إيجابيات الذكاء الاصطناعي في المجال الاقتصادي، مثل رفع الإنتاج وزيادة القيمة المضافة والإسهام في الناتج المحلي الإجمالي وخلق فرص عمل جديدة، فإنه سيزيح عشرات الملايين من قوة العمل لاسيما أصحاب المهن التي دخلت فيها عملية الأتمتة بشكل كبير وكذلك العمالة غير الماهرة وشبه الماهرة غير القادة على التأهيل لاكتساب المهارات التي يتطلبها الذكاء الاصطناعي.

أولًا- مفهوم الذكاء الاصطناعي وأهميته

1- مفهوم الذكاء الاصطناعي

  ظهرت عبارة “الذكاء الاصطناعي” أولًا في بحث كُتب عام 1956، اقترح فيه كاتبه أن تقدُّمًا كبيرًا يُمكن تحقيقه، لو أمكن للآلات “أن تحل المسائل التي لا يحلها الآن سوى البشر”، ورأى أن هذا ممكن فيما “لو خَصَّصت مجموعة مختارة بعناية من العلماء، فصل صيف للعمل معًا”. وتبين فيما بعد أن هذا القول متفائل أكثر من اللزوم، فعلى الرغم من طفرات تقدُّم موضعية من وقت لآخر، انتهى الأمر بالقول: إن الذكاء الاصطناعي يُعد أكثر بكثير مما يمكنه أن يحقق، وخلص معظم العلماء إلى تجنب عبارة “الذكاء الاصطناعي”، وفضَّلوا الحديث عن “النظم الخبيرة” أو “الشبكات العصبية”. ولم يُرَدَّ الاعتبار لعبارة “الذكاء الاصطناعي”، ولم يستعِد العلماء الحماسة له، إلا في عام 2012، مع ظهور ما يسمى “تحدي شبكة الصور”(1).

   ويُعرف الذكاء الاصطناعي بأنه فرع من فروع علم الحاسب الآلي المتخصصة بتطوير نظم قادرة على التعلم، واتخاذ القرارات، والتنبؤ في مجالات محددة(2). ويأخذ الذكاء الاصطناعي في أبسط أشكاله البيانات، ويطبق بعض القواعد الحسابية (أو الخوارزميات) على البيانات، ثم يتخذ القرارات، أو يتنبأ بالنتائج. فعلى سبيل المثال، يُمكن أن تكون البيانات صورًا لكلمات مكتوبة بخط اليد أو حروفًا أو أرقامًا، وتكون الخوارزمية عبارة عن برنامج كمبيوتر كتبه إنسان، ويحتوي قواعد مثل الأشكال الشائعة لكل حرف والتباعد بين الكلمات، وهذا من شأنه أن يسمح بعد ذلك للكومبيوتر بتحليل الصور الممسوحة ضوئيًّا للنص المكتوب بخط اليد، وتطبيق القواعد والتنبؤ بالحروف والأرقام والكلمات التي يحتويها؛ مما يوفر للآلات التعرف على خط اليد. وهذا النوع من الذكاء الاصطناعي استخدمته، على سبيل الإبانة، خدمات البريد الأميركية لقراءة العناوين تلقائيًّا عن الرسائل منذ العام 1997(3).

    كما تعُد قوة الحوسبة أمرًا حيويًّا في دعم عمليات الذكاء الاصطناعي (AI) والبيانات الضخمة والحوسبة السحابية التي تدعم كل شيء بدءًا من خدمات نقل الركاب إلى العمليات التجارية اليومية وروبوتات الدردشة كأنظمة الذكاء الاصطناعي “المولدة ChatGPT والتي يُمكنها إنشاء محتوى لا يمكن تمييزه عن الإنتاج البشري. ويُعد الذكاء الاصطناعي أحد أهم المحركات الرئيسة للثورة الصناعية الرابعة التي نعيش في ظلها اليوم إلى جانب التحول الرقمي وإنترنت الأشياء.

شكل (1) محركات الثورات الصناعية عبر التاريخ

المصدر: نوزاد الهيتي، محاضرات في مقرر قضايا دولية معاصرة، معهد الدوحة للدراسات العليا، 2023، ص29

2- تطبيقات الذكاء الاصطناعي

  للذكاء الاصطناعي تطبيقات متعدِّدة في مجالات مختلفة، ومن أبرزها: الأنظمة الخبيرة، وتمييز الكلام، وتمييز الحروف، ومعالجة اللغات الطبيعية، وصناعة الكلام، والألعاب، والإنسان الآلي (الروبوت)، وتمييز النماذج والأشكال، والرؤية (النظر)، ونظم دعم القرار، والتعلم والتعليم. بانتظار ذلك، فالذكاء الاصطناعي كما هو اليوم مفيد، وستزداد فائدته بسرعة(4).

  أصبحت تطبيقات الذكاء الاصطناعي لا حصر لها، فالتكنولوجيا يُمكن تطبيقها في الكثير من المجالات المختلفة وكذلك الصناعات. فقد تم اختبار الذكاء الاصطناعي واستخدامه في الصناعات الطبية فيما يتعلق بجرعات الأدوية وتحديد نوع العلاج وتقديم المساعدة في العمليات الجراحية. والأمثلة الأخرى على ذلك تشمل الحاسبات التي تلعب الشطرنج والسيارات ذاتية القيادة. وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه الآلات لابد أن تحسب نتائج أي فعل تقوم به؛ لأن أي فعل سيؤثر على النتائج النهائية، ففي لعبة الشطرنج على سبيل المثال تنطوي النتيجة النهائية على وجوب تحقيق الفوز في اللعبة، أما بخصوص السيارات ذاتية التحكم، فإن الحاسب الآلي لابد أن يتعامل مع سائر المعلومات الخارجية ومن ثم يحسبها بحيث يتفادى أي تصادم.

    وللذكاء الاصطناعي أيضًا تطبيقات في مجال الصناعة المالية؛ حيث يستخدم في المجال المالي والمصرفي من خلال تدقيق الاستخدام غير الصحيح لبطاقات الائتمان والودائع الكبيرة، وهي عمليات تعود بالفائدة على قسم الكشف عن عمليات الاحتيال في المصرف. كما يستخدم الذكاء الاصطناعي في جعل العمل التجاري أكثر انسيابيةً ويسرًا، وهذا يتم من خلال تسهيل احتساب العرض والطلب وتسعير الأوراق المالية(5).

  ويستخدم الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع في شكل مجموعة من التطبيقات وبمستويات تعقيد مختلفة، فهناك الخوارزميات التي تقترح الأشياء التي تفضلها لاحقًا، وهناك روبوتات المحادثة على المواقع الإلكترونية أو بصيغة متحدثين أذكياء مثل أليكسا وسيري. ويستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا في مجال التنبؤات الجوية وتسهيل عمليات الإنتاج، وكذلك في تقليل الجهد المعرفي مثل محاسبة الضرائب أو تحرير النصوص، كما يستخدم في التعامل مع اللغة وغير ذلك. وقد أطلق برنامج OpenAL “المكتبة الصوتية” آلته الموسومة أنظمة الذكاء الاصطناعي “المولدة ChatGPT في أواخر عام 2022 التي انتشرت بسرعة كبيرة حيث ازداد عدد مستخدميها بالملايين في كل شهر من عام 2023(6).

3- أهمية الذكاء الاصطناعي

  بات الذكاء الاصطناعي يحتل أهمية بارزة مع تطور الاقتصاد وأسواق الوظائف في ظل الثورة الصناعية الرابعة، ويتجلى ذلك في(7):

  • تمكين الإنسان من استخدام اللغة الإنسانية في التعامل مع الآلات بدلًا من لغات البرمجة الحاسوبية، وهو ما يجعل الآلات في متناول الجميع بمن فيهم ذوو الإعاقة، بعدما كان التعامل مع الآلات المتقدمة مقتصرًا على المتخصصين.
  • له دور مهم في كثير من الميادين الحساسة، مثل المساعدة في تشخيص الأمراض، ووصف الأدوية، وإجراء المهام الجراحية، والتجارب الخطرة، والاستشارات القانونية والمهنية، والتعليم التفاعلي، مثل التدريب على الطيران أو القيادة، والمجالات الأمنية والدفاعية، وغيرها من الميادين.
  • تظهر أهميته في المجالات التي يصنع فيها القرار، لتمتعه بالاستقلالية، والدقة، والموضوعية، ومن ثم تكون قراراته بعيدة عن الخطأ، أو الانحياز، أو العنصرية، أو الأحكام المسبقة، أو حتى التدخلات الخارجية أو الشخصية.

  وللذكاء الاصطناعي إسهامات إيجابية، فقد أدخل تحسنًا في العديد من القطاعات والمجالات، بالإسهام في زيادة الإنتاج سواء أكان في قطاعات الإنتاج المادي أم الخدمي، وكذلك في منع الجرائم لاسيما الجرائم الإلكترونية، وتطوير التعليم وخدمات الرعاية الصحية لاسيما في فترة الجوائح، وهو ما تحقق أثناء جائحة كورونا، علاوة على إسهامه في بناء وتطوير المدن الذكية والحكومات الرقمية. ويعطي الجدول الآتي أمثلة على التحسن الذي ستشهده قطاعات عدة.

جدول (1) إيجابيات الذكاء الاصطناعي

مثال التحسن القطاع
محرك للإنتاجية والنمو الاقتصادي الاقتصاد 1
الحماية من التهديدات والثغرات ومراقبة مراكز البيانات والشبكات الأمن السيبراني 2
منع الجرائم الأمن الفيزيائي 3
القيام بالمهام الإدارية بطرية أسرع وأفضل وبتكلفة أقل الإدارة 4
“صوفيا”، والتنمية المستدامة الروبوتات اللينة 5
أتمتة عمليات التعليم، زيادة التفاعل مع الأطفال، كشف الشذوذ التربوي، مساعدة المدارس والمعلمين في صنع القرار الموضوعي التعليم 6
إضافة (85) مليون وظيفة بحلول عام 2022 التوظيف 7
معالجة فعالة للجوائح، التنبؤ بالاكتئاب، تطوير جلد اصطناعي يتفاعل مع الألم، يحقق التباعد في التجمعات الكبرى الرعاية الصحية 8
استباقية ومرونة وتمحور حول الإنسان حكومات المستقبل 9

المصدر: نوزاد الهيتي، الثورة الصناعية الرابعة والاقتصاد الرقمي، بحث مقدم للمؤتمر الدولي الأول لجامعة سومر، 2021

  وتستخدم وكالات الأمم المتحدة الذكاء الاصطناعي، مثل مشروع خارطة الجوع التابع لبرنامج الأغذية العالمي، والذي يجمع البيانات لتحديد المناطق التي تنزلق نحو الجوع. كما تعمل على تطوير شاحنات تعمل بالتحكم عن بعد لتوصيل المساعدات الطارئة في مناطق الخطر(8). ومن المتوقع أن ينمو سوق التعليم إلى أربعة مليارات دولار أميركي بحلول عام 2023، بمعدل نمو سنوي مركب يقدر بنحو 74% وذلك بسبب حجم سوق الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم(9).

   يتمتع الذكاء الاصطناعي والروبوتات وغيرها من أشكال الأتمتة الذكية بالقدرة على تحقيق فوائد اقتصادية كبيرة، حيث سيسهم بما يصل إلى 15 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول 2030، وفقًا لتحليل شركة برايس ووترهاوس كوبرز(PricewaterhouseCoopers) . وستؤدي هذه الثروة الإضافية أيضًا إلى توليد الطلب على العديد من الوظائف، ولكن هناك أيضًا مخاوف من أنها قد تحل محل العديد من الوظائف الحالية(10).

   ومن المرجح أن يكون التأثير المرتفع لاستيعاب الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية في الصين، هو المحرك الأكبر مما يعكس انخفاض قاعدة إنتاجية العمل الأولية في المنطقة مقارنة بالبلدان الأخرى ودول العالم نتيجة لتنفيذ كل من تقنيات الذكاء الاصطناعي البديلة والمُعززة على نطاق واسع. كما أن المشهد الأقل تنافسية بشكل هامشي في الصين يُعزز أيضًا جانب الاستهلاك الذي يؤثر بشكل أكبر من المناطق الأخرى؛ حيث تقوم الشركات الجديدة بتزويد السوق بالذكاء الاصطناعي المُعزز لمنتجات لها تأثير هبوطي أكبر على الأسعار. ونتيجة لذلك، سيُعزز الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد الناتج المحلي الإجمالي في جميع قطاعات الاقتصاد في كل من الصين بنسبة 26.1% وأميركا الشمالية بنسبة 14.5% في 2030، أي ما يعادل 10.7 تريليون دولار ويمثل حوالي 70% من التأثير العالمي، ومن المتوقع أن تشهد الصناعة زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% على الأقل بحلول 2030(11).

  وتُظهر دراسة للشركة المذكورة أن المساهم الرئيس في المكاسب الاقتصادية للمملكة المتحدة بين عامي 2017 و2030 سيأتي من تحسينات المنتجات الاستهلاكية التي تُحفز الطلب الاستهلاكي نسبة 8.4%. وذلك، لأن الذكاء الاصطناعي سيوفر خيارات أكبر للمنتجات، مع زيادة التخصيص وجعل تلك المنتجات في المتناول بمرور الوقت؛ وسوف يؤدي تحسين إنتاجية العمل كذلك إلى تعزيز مكاسب الناتج المحلي الإجمالي إذ تسعى الشركات إلى زيادة إنتاجية قوتها العاملة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وأتمتة بعض المهام والأدوار. وستتحقق مكاسب كبيرة في جميع مناطق المملكة المتحدة، في 2030، بفضل إسهام أكبر للذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 10.6% في إنكلترا و8.4% في أسكتلندا و9.8% في ويلز و5.4% في أيرلندا الشمالية.

شكل (2) القيمة المضافة المتولدة من قطاع الذكاء الاصطناعي ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2030/ مليار جنيه إسترليني

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

How will automation impact jobs: PwC UK

ويعكس التأثير الإجمالي الأكبر على الناتج المحلي الإجمالي في بعض مناطق المملكة المتحدة أنماط التجارة المختلفة في كل دولة. وتتمتع إنكلترا، وإلى حد ما أسكتلندا وويلز، بروابط تجارية أقوى مع أوروبا وبقية العالم. ومن المرجح أن تؤدي المكاسب من خلال التجارة المرتبطة بالذكاء الاصطناعي إلى فرض ضغوط تصاعدية أعلى على الناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان بحلول عام 2030.

وفي الصين سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي على الإنتاجية حاسمًا للنمو المستقبلي في الاقتصاد الصيني. ووفقًا لتقرير معهد ماكينزي العالمي، فإن الأتمتة التي يقودها الذكاء الاصطناعي يُمكن أن تمنح الصينيين فرصًا أفضل للاقتصاد – زيادة الإنتاجية من شأنها أن يضيف 0.8 إلى 1.4 نقطة مئوية إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا، وذلك وفقًا لسرعة التبني لنظم الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد-(12). لكن التقدم لا يحدث على الحدود النظرية لهذا المجال فحسب؛ فالأدوات التي تستخدم التعلم الآلي هي خلايا أنظمة الغد فائقة الذكاء، والعديد منها موجود بالفعل في السوق، وأخذ استخدامها ينمو بسرعة في قطاعات مثل التمويل والرعاية الصحية والتصنيع.

لقد نما تمويل رأس المال الاستثماري العالمي من 589 مليون دولار أميركي في عام 2012 إلى أكثر من 5 مليارات دولار في 2016، وتقدر شركة ماكينزي McKinsey) ) أن إجمالي السوق  لتطبيقات الذكاء الاصطناعي ستصل إلى (127) مليار دولار بحلول عام 2025(13). وتشير دراسة لمركز الاتصالات العالمية التابع لمعهد بحوث العلوم الاجتماعية التابع للجامعة العالمية في اليابان إلى أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يُمكن أن يطلق العنان لزيادة في القدرة الإنتاجية في اليابان بنحو 148.7 تريليون ين ياباني، أي ما يعادل ربع الناتج المحلي الإجمالي الياباني لعام 2022(14).

جدول (2) الإنتاج في اليابان من خلال الذكاء الاصطناعي التوليدي (تريليون ين)

القطاع القيمة النسبة من الإجمالي
1 الصناعات التحويلية 54.8 37%
2 العقارات والإيجار والأنشطة التجارية 18.2 12%
3 تجارة الجملة والمفرد 17.8 12%
4 التعليم والصحة، والعمل الاجتماعي 15.9 11%
5 البناء 11.6 8%
6 قطاعات أخرى 30.4 20%
الإجمالي 148.7 100%

المصدر:

The Center for Global Communications (GLOCOM), The Economic Impact of Generative AI: The Future of Work in Japan, Social science research institute of the International University of Japan, June2023, p.16

 وتجدر الإشارة إلى وجود إمكانية كبيرة كذلك للاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التوليدية في العديد من أنشطة القوى العاملة التي يقوم بها العاملون في مجالات التعليم والصحة والعمل الاجتماعي والتصنيع وتجارة الجملة. وتشكل صناعات تجارة التجزئة الحصة الأكبر من أنشطة العمل التي يحتمل أن تتحول إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي. وأشارت دراسة بحثية عن أثر الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد إلى إمكانية تعزيز الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% على العشرية الثالثة من القرن الحالي، وزيادة الإنتاجية بفعل الذكاء الاصطناعي(15).

في الوقت الحالي تطبق أكثر من 50% من كبرى الشركات المُصنعة الأوروبية الذكاء الاصطناعي في مصانعها. وتتصدر ألمانيا بنحو 69% من الشركات المصنعة. أما في آسيا، وفي اليابان تحديدًا، تبلغ النسبة نحو 30% تليها الصين بنسبة 11%، وفي الولايات المتحدة الأميركية تبلغ النسبة نحو 28%(16).

وكشفت نتائج استطلاع أجراه معهد إيفو (ifo Institute)  لأبحاث الاقتصاد في برلين أن أكثر من 13% من الشركات العاملة في الاقتصاد الألماني تستخدم الذكاء الاصطناعي وأن نسبة أخرى من الشركات تقدر بــ 9% أعلنت اعتزامها استخدام هذه التقنية. ورصدت النتائج انتشارًا ملحوظًا لهذه التقنية في القطاع الصناعي؛ إذ أبرزت النتائج أن شركة من كل ثلاث شركات في هذا القطاع تستخدم الذكاء الاصطناعي أو تعتزم استخدامه. ووفقًا للنتائج، وصلت هذه النسبة إلى ما يناهز 20% في شركات التزويد بالخدمات وشركات التجارة وإلى 15% في شركات البناء. في المقابل، كشفت النتائج أن نحو 40% من الشركات في ألمانيا غير مهتمة بتقنية الذكاء الاصطناعي في الوقت الحالي، ووصلت هذه النسبة إلى (60%) بين شركات قطاع البناء(17).

كما أثبتت دراسة حديثة في ألمانيا أن تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يُمكنها زيادة منجزات الاقتصاد الألماني بصورة هائلة، فأشارت إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي بالشركات في جميع أنحاء ألمانيا سيقود إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الألماني. وأن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يُمكن أن ينتج عنه ما يصل نحو 488 مليار يورو، يتحقق (70%) منها، أي 330 مليار يورو، من خلال توفير تكلفة الإنتاج، بينما تتحقق الــــ 30% الأخرى، أي 150 مليار يورو، أرباحًا. وأكدت الدراسة، التي شملت 150 أنموذجًا لاستخدام الذكاء الاصطناعي، أن أكثر القطاعات المستفيدة منه كانت التجارة والطاقة والبيئة والكيمياء؛ إذ أسهم في تحقيق كل قطاع منها أرباحًا وصلت إلى 100 مليار يورو(18).

ويسمح الذكاء الاصطناعي بأتمتة العمليات وتطوير منتجات وخدمات جديدة، وتحسين الجودة والكفاءة. كما لدى الذكاء الاصطناعي الإمكانيات للتأثير تقريبًا على كل قطاعات الاقتصاد وعلى جميع جوانب التجارة لاسيما تجارة الخدمات. وسيكون للذكاء الاصطناعي التأثير الأكبر على الأمور الأكثر روتينية في الوظائف القائمة على المعلومات وفي وظائف الأعمال المتعلقة بتقديم القروض أو معالجة الحسابات أو تحليل الاختبارات الطبية، من بين أمور أخرى. وفي الوقت نفسه، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم التجارة على نطاق أوسع من خلال تحسين تيسير التجارة وترقيتها. وكلا التطبيقين يساعدان المزيد من الشركات للانخراط في التجارة، لاسيما الشركات المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، حيث ينخفض الوقت والتكلفة وتوفير فرص التصدير. وسيكون الذكاء الاصطناعي في قلب تسهيل التجارة الرقمية؛ حيث يُتيح استخدام تكنولوجيا الاتصالات الحديثة في تبسيط حركة السلع عبر الحدود، وتقدر منظمة التجارة العالمية أن الإجراءات الجمركية غير الفعالة تمثل نحو 6% من إجمالي التباين في تكاليف التجارة(19).

ثانيًا: المؤشرات الاقتصادية للذكاء الاصطناعي

1) الإنفاق على الذكاء الاصطناعي

شهد الإنفاق على الذكاء الصناعي ارتفاعًا ملحوظًا على الصعيد العالمي خلال العقدين المنصرمين؛ إذ ارتفع من 7.4 دولار في عام 2000، إلى نحو 42.9 مليار في 2020، أي تضاعف بقرابة ست مرات محققًا ارتفاعًا بنسبة 479.7% ما بين عامي 2000 و2020، ومن المتوقع ارتفاع الإنفاق على الذكاء الاصطناعي إلى 66.9 مليار دولار أميركي في 2025.

شكل (3) الإنفاق على الذكاء الاصطناعي 2000-2005/ مليار دولار أميركي

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على: https://shorturl.at/emt79

2) الاستثمار في الذكاء الاصطناعي

   شهد الاستثمار الخاص في مختلف مجالات الذكاء الاصطناعي في 2022 تزايدًا ملحوظًا في أغلب دول العالم التي ينشط فيها هذا الاستثمار، وكان نصيب الولايات المتحدة الجزء الأكبر من هذا الاستثمار الذي قدر بنحو 47.4 مليار دولار وهو ما يُعادل نحو ثلاث مرات ونصف المبلغ المستثمر في ثاني أعلى دولة من حيث السكان وحجم الاقتصاد على الصعيد العالمي، وهي الصين، والبالغ 13.4مليار دولار. وهو أيضًا يتجاوز قيمة الاستثمار الخاص بالذكاء الاصطناعي في أربع عشرة دولة مجتمعة، وهي فنلندا واليابان وسويسرا وسنغافورة وأستراليا والأرجنتين وفرنسا وكندا وألمانيا وكوريا الجنوبية والهند وإسرائيل والمملكة المتحدة والصين، حيث بلغت قيمة الاستثمار في هذه الدول نحو 39.7 مليار دولار أميركي والشكل الآتي يوضح ذلك(20).

شكل (4) الاستثمار الخاص في الذكاء الصناعي حسب الرقعة الجغرافية لعام 2022/ مليار دولار

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

p.189 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

ويشير المشهد الإحصائي لخارطة توزيع استثمارات الذكاء الاصطناعي الخاصة على الصعيد العالمي، وفقًا لبيانات مؤشر الذكاء الاصطناعي خلال الفترة 2013-2022، إلى تبوؤ الاقتصاد الأميركي أيضًا المرتبة الأولى باستثمار يُقدر بنحو 248.9 مليار دولار، يليه الاقتصاد الصيني بنحو 95.1 مليار دولار والاقتصاد البريطاني بنحو 18.2 مليار دولار، والشكل الآتي بيان لذلك.

شكل (5) إجمالي استثمار القطاع الخاص في الذكاء الاصطناعي 2013-2022/ مليار دولار

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

  1. 190, Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023.

يُستنتج من الشكل أعلاه أن الولايات المتحدة استحوذت على الجزء الأكبر من الاستثمار الخاص العالمي في الذكاء الاصطناعي وتجاوزت قيمة هذا الاستثمار في الاقتصاد الأميركي خلال السنوات العشر المنصرمة 2013-2022 والبالغ 248.9 مليار دولار قيمة الاستثمار في أربع عشرة دولة، هي: الصين والمملكة المتحدة وإسرائيل وكندا والهند وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية وسنغافورة واليابان وهونغ كونغ وسويسرا وأستراليا، والذي بلغ فيها مجتمعة قيمة الاستثمار 175.15 مليار دولار.

   ومع ذلك، وعكس الاتجاه الأوسع في الاستثمار الخاص للذكاء الاصطناعي، شهدت معظم مجالات تركيز الذكاء الاصطناعي استثمارات أقل في عام 2022 مما كانت عليه في عام 2021. وفي العام الماضي، كانت أكبر ثلاثة أحداث للاستثمار الخاص في الذكاء الاصطناعي، هي (21):

  • تمويل بقيمة 2.5 مليار دولار لــ GAC Aion New، وهي شركة صينية لتصنيع السيارات الكهربائية؛
  • جولة تمويل بقيمة 1.5 مليار دولار لشركة Anduril Industrie، وهي شركة منتجات دفاعية أميركية تبني التكنولوجيا للوكالات العسكرية ومراقبة الحدود.
  • استثمار بقيمة 1.2 مليار دولار لشركة Celonis، وهي شركة استشارات لبيانات الأعمال في ألمانيا.

3) عدد الشركات العاملة في مجالات الذكاء الاصطناعي  

   تواصل الولايات المتحدة ريادتها كذلك في مجال أنشطة قطاع الذكاء الاصطناعي من حيث العدد الإجمالي لشركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثًا؛ حيث بلغ عددها (542) شركة سجلت، متخطية جمهورية الصين الشعبية بنحو 3.4 مرات ودول الاتحاد الأوروبي بنحو 1.9 مرة. وتصدرت الولايات المتحدة جميع المناطق مع أكبر عدد من شركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثًا عند 542، تليها الصين 160 شركة والمملكة المتحدة (99) شركة.

شكل (6) عدد شركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثًا حسب المنطقة الجغرافية للعام 2022

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

  1. 193, Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

كما يتجلى اتجاه مماثل في البيانات الإجمالية للمشهد الإحصائي لعدد شركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثًا خلال الفترة 2013-2022، فقد تبوأت الولايات المتحدة المرتبة الأولى على الصعيد العالمي بــــ 4643 شركة، تشكل نحو 3.5 أضعاف نظيرتها في جمهورية الصين الشعبية البالغة 1337 شركة، و7.4 أضعاف نظيرتها في المملكة المتحدة البالغة 630 شركة.

شكل (7) عدد شركات الذكاء الاصطناعي الممولة حديثًا حسب المنطقة الجغرافية

خلال الفترة 2013-2022

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

p.194 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

ويُستنتج من الجدول أعلاه أن شركات الذكاء الاصطناعي الممولة في الولايات المتحدة خلال الفترة (2013-2022) والبالغ عددها 4643 تتجاوز نظيرتها مجتمعة في كل من: (الصين والمملكة المتحدة وإسرائيل وكندا وفرنسا والهند واليابان وألمانيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية وأستراليا وسويسرا والسويد وهولندا، والبالغة 4588 شركة، وهذا يعكُس مدى سبق الاقتصاد الأميركي في الولوج إلى عالم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التي ستُحدد مسار الريادة والزعامة للاقتصاد العالمي خلال العقود القادمة لاسيما في ظل تنامي زيادة مساهمة الذكاء الاصطناعي في خلق فرص العمل وزيادة القيمة المضافة للاقتصادات الصناعية.

4- عدد المصانع الذكية

   يُطلق على منشأة الإنتاج الرقمية والمترابطة بشكل كبير والتي تعتمد على التصنيع الذكي اسم “المصنع الذكي”، وفكرة “المصنع الذكي” هي نتيجة للثورة الصناعية الرابعة، ويتم اعتماد معظم المصانع الذكية من قبل الصناعة التحويلية، التي تستخدم أحدث التقنيات كالروبوتات، وتحليلات البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء. ويمكن لهذه المصانع أن تُصحح نفسها وتعمل بشكل مستقل على نطاق واسع.

  سوق المصنع الذكي يشمل حسب المنتج: أنظمة الرؤية الآلية، والروبوتات الصناعية، وأجهزة التحكم، وأجهزة الاستشعار، وتقنيات الاتصالات، والمنتجات الأخرى؛ ويشمل بحسب التكنولوجيا: إدارة دورة حياة المنتوج، وواجهة الآلة البشرية، وموارد المؤسسة والتخطيط، ونظام التحكم الموزع، ونظام تنفيذ التصنيع القابل للبرمجة، ووحدة التحكم المنطقية، ووحدة التحكم الإشرافية والحصول على البيانات، من خلال صناعة المستخدم النهائي(22).

وتجدر الإشارة إلى أنه قد تم تقييم حجم سوق المصانع الذكية العالمية بمبلغ (129.74) مليار دولار أميركي في عام 2022، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 321.98 مليار دولار أميركي بحلول عام 2032، بمعدل نمو سنوي مركب قدره (9.52%) خلال الفترة (2022-2032).

شكل (8) حجم سوق المصانع الذكية العالمية 2022-2032/ مليار دولار

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على: https://shorturl.at/iwDGT

ثالثًا- أثر الذكاء الاصطناعي على أسواق العمل

   أدت الزيادات في القدرات التقنية لأنظمة الذكاء الاصطناعي إلى زيادة معدلات انتشاره في الشركات والحكومات والمنظمات الأخرى. ويأتي الاندماج المتزايد بين الذكاء الاصطناعي والاقتصاد مصحوبًا بالقلق والتساؤل: هل ستزيد الأجور أم ستؤدي إلى الاستبدال بالعمال على نطاق واسع؟ إلى أي درجة تتبنى الشركات تقنيات الذكاء الاصطناعي الجديدة وترغب في توظيف عمال ماهرين في الذكاء الاصطناعي؟ وهل ستعمل الحكومات على تبني سياسات تُشجع على استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات؟

  تشير التقديرات العالمية الحديثة إلى أن 30% من أنشطة العمل يُمكن أن تكون آلية بحلول 2030، ويُمكن أن يتأثر بذلك ما يناهز 375 مليون عامل في أنحاء العالم كافة سواء أكان من العمال من ذوي الياقات الزرقاء، أم من الموظفين من ذوي الياقات البيضاء، وليس بالضرورة أن يتحمل الأول العبء الأكبر: الوظائف التي يمكن للذكاء الاصطناعي تكرارها واستبدالها بسهولة هي تلك التي تتطلب مهارات تطورت مؤخرًا  مثل المنطق والجبر، وهي تميل أن تكون وظائف متوسطة الدخل. وعلى العكس من ذلك، فإن الوظائف التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي تكرارها هي تلك التي تعتمد على المهارات المتطورة بعمق مثل التنقل والإدراك، وهي تميل أن تكون وظائف ذات دخل منخفض، وبالتالي، فإن الذكاء الاصطناعي يُفرغ الوظائف متوسطة الدخل ويحافظ على الكثير من الوظائف ذات الدخل المنخفض(23).

1- كيف ستؤثر الأتمتة على الوظائف؟

طبقًا لدراسة قامت بها شركة ماكنزي للمهام التي تنطوي عليها أكثر من 20 ألف وظيفة حالية في 29 دولة لتقييم إمكانات الأتمتة في نقاط مختلفة على مدار العشرين عامًا القادمة. يُمكن تحديد ثلاث موجات من الأتمتة تتمثل بالآتي:

  • الموجة الأولى حتى أوائل 2020: خوارزمية.
  • الموجة الثانية حتى أواخر 2020: التعزيز.
  • الموجة الثالثة (حتى منتصف ثلاثينيات القرن الحالي): التحكم الذاتي.

    من المتوقع خلال الموجة الأولى، إزاحة منخفضة نسبيًّا للوظائف الحالية، ربما حوالي 3% فقط بحلول أوائل عشرينات القرن الحالي. لكن إزاحة الوظائف قد تزداد في موجات لاحقة مع نضوج هذه التكنولوجيات ونشرها في مختلف أنحاء الاقتصاد في شكل مستقل على نحو متزايد. وبحلول منتصف ثلاثينات القرن الحادي والعشرين، قد يصبح ما يصل إلى 30% من الوظائف قابلًا للأتمتة، مع تأثر عدد أكبر قليلًا من الرجال على المدى الطويل، عندما تحل المركبات ذاتية القيادة وغيرها من الآلات محل العديد من المهام اليدوية؛ حيث تكون حصتهم من العمالة أعلى. ومع ذلك، خلال الموجتين الأولى والثانية، يمكن أن تكون النساء أكثر عرضة لخطر الأتمتة بسبب تمثيلهن الأعلى في الوظائف الكتابية وغيرها من الوظائف الإدارية. إن هذه التقديرات هي قيم متوسطة في 29 دولة، مع كون المملكة المتحدة قريبة جدًّا من المتوسط. يمكن أن تكون الأتمتة الطويلة المدى أقل بحوالي 20-25% فقط في دول آسيا وبلدان الشمال الأوروبي، ولكنها قد تكون أعلى بما يزيد عن 40% في بعض دول أوروبا الشرقية(24).

  وتجدر الإشارة إلى أن توجهات الأتمتة ستؤثر على أوضاع القوى العاملة بسرعة أكبر مما كان متوقعًا؛ إذ سيتم إحلال 85 مليون وظيفة خلال الفترة 2020-2025. وأن الأتمتة بالتوازي مع الركود الاقتصادي، ستخلق سيناريو الاضطراب المزدوج للعاملين، وسيقود اعتماد الشركات على التكنولوجيا إلى إحداث تحول في المهام والوظائف والمهارات مع حلول عام 2025. وتؤكد 43% من مؤسسات الأعمال التي شملتها المسوح أنها تتجه لتخفيض قوتها العاملة بسبب دمج التكنولوجيا، بينما يُخطط 41% منها للتوسع في استخدام متعاقدين للقيام بالأعمال القائمة على مهام متخصصة، وينوي 34% منها زيادة القوى العاملة نتيجة لدمج التكنولوجيا، وبعد خمس سنوات من الآن، سيقسم أصحاب الأعمال العمل بين العمالة البشرية والآلات بنسبة متساوية(25).

2- الطلب على العمل والوظائف الشاغرة

    يشير المشهد الإحصائي للتوزيع النسبي للوظائف التي تتطلب نوعًا من مهارة الذكاء الاصطناعي من إجمالي الوظائف في سوق العمل، إلى أنه في 2022، كانت الدول الخمس الأولى وفقًا لهذا المقياس هي: الولايات المتحدة 2.1%، وكندا 1.5%، وإسبانيا 1.3%، وأستراليا 1.23%، والسويد 1.20%. وكان عدد الوظائف الشاغرة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي أعلى في 2022 مقارنة بعام 2014 لكل دولة مدرجة في العينة والشكل الآتي يُبين ذلك.

شكل (9) إعلانات وظائف الذكاء الاصطناعي (% من إجمالي إعلانات الوظائف) حسب المنطقة الجغرافية، 2014-2022

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

P.176 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023

لقد زاد عدد الوظائف الشاغرة المنشورة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي في المتوسط ​​من 1.7% في 2021 إلى 1.9% في 2022 في جميع القطاعات في الاقتصاد الأميركي التي توجد بيانات عنها، باستثناء الزراعة والغابات ومصايد الأسماك والصيد. وكانت أعلى نسبة زيادة في الوظائف الشاغرة المُعلن عنها في 2022 مقارنة بـ 2021 في قطاع المعلومات بنسبة 5.30%، تليه الخدمات العلمية والتقنية الاحترافية بنسبة 3.86%، ثم قطاع التمويل والــتأمين بنسبة 2.94% فالتصنيع بنسبة 2.85%، وفي الجدول الآتي بيان لذلك.

جدول (3) عدد الوظائف الشاغرة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ونسبتها من إجمالي المهن المتوافرة

في الولايات المتحدة بحسب القطاع 2021-2022

  القطاع 2022 2021
1 المعلومات 5.30% 4.85%
2 الخدمات العلمية والتقنية الاحترافية 4.04% 3.86%
3 التمويل والتأمين 3.33% 2.94%
4 التصنيع 3.26% 2.85%
5 الزراعة والغابات ومصائد الأسماك والصيد 1.64% 1.66%
6 الخدمات التعليمية 1.53% 1.41%
7 إدارة الشركات والمشاريع 1.37% 1.06%
8 الإدارة العامة 1.32% 0.98%
9 تجارة التجزئة 1.28% 0.82%
10 الخدمات 1.27% 1.30%
11 التعدين والمحاجر واستخراج النفط والغاز 1.19% 1.00%
12 تجارة الجملة 0.98% 0.82%
13 العقارات والإيجار والتأجير 0.89% 0.65%
14 النقل والتخزين 0.67% 0.59%
15 إدارة النفايات وخدمات الدعم الإداري 0.58% 0.56%
  متوسط الزيادة في جميع القطاعات 1.90% 1.70%

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

p.176 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

يستنتج من الجدول أن أصحاب العمل في الولايات المتحدة ما زالوا يبحثون بشكل متزايد عن عمال يتمتعون بمهارات متعلقة بالذكاء الاصطناعي المُستخدم في أغلب القطاعات والأنشطة.

  ويعرض الشكل رقم (10) أعلاه أهم عشر مهارات متخصصة مطلوبة في إعلانات وظائف الذكاء الاصطناعي في عام 2022 مقارنة بـــ 2010-2012. على المستوى المطلق، أصبح الطلب على كل المهارات المتخصصة تقريبًا الآن أكثر مما كان عليه قبل عقد من الزمن. وكان النمو ملحوظًا بشكل خاص في الطلب على المتخصصين بلغة بايثون، وهو دليل على تزايد شعبيتها لغة ترميز للذكاء الاصطناعي.

شكل (10) أفضل عشر مهارات متخصصة في إعلانات وظائف الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة خلال الفترة 2010-2012 مقابل 2022

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

P.176 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

وتشير تقديرات شركة برايس كوبر هاوس إلى أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة به، كالروبوتات والطائرات بدون طيار والمركبات ذاتية القيادة، يمكن أن تحل محل حوالي 26% من الوظائف الحالية في الصين على مدى العقدين المقبلين، وهي نسبة أعلى من تقديرات الشركة الخاصة بالمملكة المتحدة والبالغة 20%، ولكنها قد تخلق المزيد من الوظائف الإضافية بشكل ملحوظ في الاقتصاد الصيني من خلال تعزيز الإنتاجية والدخل الحقيقي ومستويات الإنفاق. وتشير التقديرات المركزية إلى أن التأثير الصافي قد يتمثل في تعزيز تشغيل العمالة في الصين بنحو (12%)، أي ما يعادل نحو (90) مليون وظيفة إضافية على مدى العقدين المقبلين(26).

 

جدول (4) تقديرات إزاحة الوظائف وخلقها من الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة في الصين حسب القطاع 2017-2037

القطاع الإزاحة من الوظائف خلق الوظائف التأثير الصافي
العدد بالمليون النسبة % العدد بالمليون النسبة % العدد بالمليون النسبة %
الخدمات -72 -21% 169 50% 97 29%
التشييد -15 -25% 29 48% 14 23%
الصناعة -59 -36% 63 39% 4 3%
الزراعة -57 -27% 35 16% -22 -10%

 المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

PwC analysis (% figures are shown as a share of estimated employment in 2017. https://shorturl.at/cpz09

ستسنح فرص كبيرة للشركات من خلال الاستثمار في الصين في الذكاء الاصطناعي والتقنيات ذات الصلة، والتي تغطي جميع جوانب العمليات بدءًا بالتسويق وتخصيص المنتجات إلى البحث والتطوير والكفاءة الإنتاجية وعمليات الموارد البشرية والأمن السيبراني. ولكن سيحدث اضطراب كبير في نماذج الأعمال القائمة في جميع أجزاء الاقتصاد، كما حصل بالفعل في قطاعات مثل الإعلام والترفيه والتمويل وتجارة التجزئة.

3- خطر اختفاء الوظائف

   يُخيم قلق في أرجاء المعمورة من اختفاء الوظائف لصالح الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي. فهل من أساس لهذا الخوف؟ وما نسبة هذه الوظائف التي يمكن أن تقوم بها الآلة؟ يجدر هنا الانتباه إلى حقيقة صعبة مفادها أن نسبة الوظائف التي اختفت من القطاعين الصناعي والزراعي، خلال الثورة الصناعية الثالثة، استوعبها قطاع الخدمات. فهل سيظهر قطاعٌ لا نعرفه اليوم يستطيع أن يستوعب مئـات الملاييـن من العاطليــن عن العمل كما هو متوقَّع؟ في جميع الأحوال تُمكِّننا جولة على بعض الدراسات من ملاحظة الآتي:

  • يوجد تفاوت ملحوظ في الإحصاءات بين دراسة وأخرى عن نسبة الوظائف القابلة للاختفاء؛ فقد

    استخلصت دراسة أُجريت في جامعة أكسفورد في 2013، وشملـت 702 وظيفة مختلفة في الولايات المتحدة، أن الآلات ستستطيع القيام بنحو 47% من هذه الوظائف في العقد أو العقدين المقبلين، والشكل الآتي يوضح ذلك(27).

شكل (11) مخاطر التشغيل الآلي ” الأتمتة” حسب نوع الوظيفة %

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على: https://shorturl.at/guINZ

  • في دراسة أخرى أجرتها منظمة التنمية والتعاون في الميدان الاقتصادي في 2015، شملت 34 دولة معظمها من الدول المتقدمة، اتضح أن 14% من الوظائف في بلدان المنظمة معرضة لخطر كبير، و(%32) معرضة لخطر أقل. وخلصت الدراسة إلى أن 210 ملايين وظيفة في 32 دولة معرضة للخطر(28).
  • تشير مقارنة اختفاء الوظائف بين الدول المتقدِّمة والدول النامية، إلى أن الوظائف في الدول النامية معرضة لخطر أكبر من تلك في الدول المتقدِّمة. فجمهورية سلوفاكيا قد تخسر ضعف الوظائف التي ستخسرها النرويج. وكوريا الجنوبية ستخسر وظائف أقل من كندا؛ لأن إدارة الإنتاج مختلفةٌ بين البلدين، فالأولى متقدِّمة منذ الآن في مسألة الأتمتة عن كثير من الدول(29).

   وأشار تقرير مستقبل الوظائف الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، في مايو/أيار 2023، إلى أن أصحاب العمل يتوقعون خلق 69 مليون وظيفة جديدة بحلول 2027 وإلغاء 83 مليون وظيفة، وهذا سيقود إلى خسارة صافية قدرها 14 مليون وظيفة، أي ما يعادل 2% من إجمالي العمالة الحالية. وستهز الاضطرابات الهائلة سوق العمل العالمية على مدى السنوات الخمس المقبلة مع ضعف الاقتصاد وزيادة تبني الشركات تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي(30).

   وسوف يغذي العديد من العوامل اضطراب سوق العمل خلال الفترة 2023-2027. وسيكون التحول إلى أنظمة الطاقة المتجددة لتحقيق الحياد الكربوني محركًا قويًّا لتوليد الوظائف، بينما سيؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم إلى خسائر فادحة في سوق العمل. وفي الوقت نفسه، فإن الاندفاع لنشر الذكاء الاصطناعي سيكون بمنزلة قوة إيجابية وسلبية. ستحتاج الشركات إلى عمال جُدد لمساعدتهم على تنفيذ وإدارة أدوات الذكاء الاصطناعي. ومن المتوقع أن ينمو توظيف محللي البيانات والعلماء واختصاصيي التعلم الآلي وخبراء الأمن السيبراني بنسبة 30% في المتوسط بحلول 2027. وفي الوقت نفسه، فإن انتشار الذكاء الاصطناعي سيُعرض العديد من الوظائف للخطر؛ إذ تحل الروبوتات محل البشر في بعض الحالات. وتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي أن تقل وظائف حفظ السجلات والوظائف الإدارية بمقدار 26 مليونًا بحلول 2027. ومن المتوقع أن يُمنى موظفو إدخال البيانات والسكرتارية التنفيذية والإدارية والمحاسبة وكتَّاب الرواتب بأكبر الخسائر في سوق العمل العالمية(31).

جدول (5) أسرع 10 وظائف نموًّا وأسرع 10 وظائف تراجعًا في العالم 2023-2027

الأسرع نموًّا الأسرع تراجعًا
1 مشغلو المعدات الزراعية 1 إدخال البيانات
2 سائقو الشاحنات والحافلات الثقيلة 2 السكرتارية الإدارية والتنفيذية
3 معلمو التعليم المهني 3 المحاسبة وكتاب الرواتب
4 مصلحو الميكانيكا والآلات 4 حراس الأمن
5 المتخصصون في تطوير الأعمال 5 مسؤولو المباني ومدبرات المنازل
6 هيكل البناء والمهن المرتبطة به 6 صرافون وموظفو التذاكر
7 أساتذة الجامعات والتعليم العالي 7 أعمال تسجيل المواد وحفظ المخزون
8 مهندسو التكنولوجيا الكهربائية 8 عمال التجميع والتصنيع
9 عمال الصفائح والمعادن الإنشائية والقوالب واللحام 9 موظفو الخدمة البريدية
10 معلمو التربية الخاصة 10 صرافو البنوك والموظفون المرتبطون بهم

المصدر: من إعداد الباحثين بالاعتماد على:

World Economic Fourm,Future of Jobs Insight Report 2023,Geneva,May 2023,P.30-31

أسهم التوسع في قاعدة الخدمات المصرفية عبر الإنترنت في إغلاق عديد من فروع المصارف الفعلية؛ مما جعل وظائف صراف البنك والوظائف ذات الصلة تنخفض بنحو 40% قبل نهاية العقد الحالي، وهو أسرع معدل. وبالمثل، فإن التأثير المتزايد للأتمتة وتقنيات الاستشعار والخدمات عبر الإنترنت يقلِّل من الحاجة إلى كَتَبة الخدمات البريدية وأمين الصندوق وموظفي مكتب التذاكر وموظفي إدخال البيانات؛ إذ من المتوقع أن تنخفض هذه المهن بأكثر من الثلث في السنوات الخمس المقبلة. فيما يتعلق بأعلى خسارة مطلقة للوظائف، فإن موظفي البيانات هم الأسوأ، فمن المتوقع فقدان 8 ملايين وظيفة في غضون خمس سنوات، يليهم السكرتارية الإدارية والتنفيذية، والمحاسبة، وكتَّاب الرواتب، وكتبة الدوريات. ويشير تقرير مستقبل الوظائف 2023 إلى أن هذه المهن الثلاث مجتمعة تمثل أكثر من نصف إجمالي الخسائر المتوقع للوظائف(32).

    وإذا نظرنا إلى التاريخ، سنجد أن الاضطرابات أو التغييرات الناتجة عن عملية الأتمتة تسبب كثيرًا من الفوضى على المدى القصير، بيد أنها تخلق المزيد من الوظائف في الأجل الطويل. هذا ما يُظهره بحث نشر في 2021 أكد أن 60% من الوظائف التي نعرفُها اليوم لم تكن موجودة قبل 80 سنة؛ وأن صناعات جديدة كاملة ظهرت بسبب الحاسوب والإنترنت وغيرها من التقنيات الحديثة أدت إلى ظهور صناعات جديدة بالكامل من السيارات إلى أجهزة الكمبيوتر، وزيادة وظائف جديدة من السائقين إلى الويب(33).

     توقَّع الاقتصاديون وعلماء المستقبليات بشكل جيد الوظائف المُهدَّدة بخطر الاختفاء. لكنهم لم يكونوا كذلك بشأن الوظائف التي ستظهر بفعل تحول العالم نحو تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بسبب تعلق ذلك بواقع التعليم ومستقبله، الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن النظام التعليمي الحالي قائم على الاقتصاد الصناعي الذي هو حاليًّا آخذٌ بالأتمتة، وعليه أن يلحق بالتطورات الحاصلة والمرتقبة في ظل تسارع وتيرة الثورة الصناعية التي يشكل الذكاء الاصطناعي أحد أعمدتها الرئيسة.

  وتجدر الإشارة إلى أنه من الممكن أتمتة العمل وأنسنة الوظائف، لكن ستبقى هناك ثلاثة مجالات رئيسة سيبقى البشر يتغلبون فيها على الآلة في المدى المنظور، وتتمثل هذه المجالات بالآتي(34):

  • الشؤون الخلاقة، مثل الاكتشاف العلمي والكتابة الإبداعية وريادة الأعمال.
  • العلاقات الاجتماعية التفاعلية؛ لأنه لن يكون للروبوتات في المدى المنظور نوع الذكاء العاطفي الذي يتمتع به البشر.
  • البراعة البدنية والحركة الرياضية، فالإنسان مفطور منذ القدم على تسلق الجبال والمشي الطويل والسباحة والرقص.

   في السياق ذاته، يشير مؤلفو كتاب “اقتصاديات الذكاء الاصطناعي” إلى أن الأتمتة والذكاء الاصطناعي والروبوتات سوف تزيد من الطلب على العمالة في المستقبل، على عكس ما نتخيل دائمًا، ويعزون ذلك للأسباب الآتية(35):

 أ- عندما ترخص تلك التقنيات وتتاح للجميع، فسوف تستبدل بعض مهام البشر الذهنية، وسيؤثر هذا بدوره على إنتاجية الإنسان. مع انخفاض تكلفة إنتاج المهام الآلية، سيتوسع الاقتصاد أكثر ويزيد الطلب على العمالة في المهام البشرية الحقيقية، التي تتطلب تفكيرًا وحكمًا بشريًّا، تخيل مثلًا شركة استبدلت روبوت محادثة بالبشر في مهمة الرد على خدمة العملاء، بالطبع ستقل الحاجة هنا إلى البشر للتعامل مع الاستفسارات البسيطة للعملاء، لكنها ستوفر وقتهم للتركيز على الأسئلة والمطالب الأكثر تعقيدًا وخصوصية. وبالمحصلة، فإن الشركة قد تشهد زيادة في رضا العملاء، مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على منتجاتها أو خدماتها، هذا بدوره سيؤدي إلى حاجة الشركة إلى موظفين إضافيين في مجالات أوسع، مثل المبيعات أو التسويق أو تطوير المنتجات.

ب- من المرجح أن ارتفاع نسب الأتمتة سوف يؤدي إلى تراكم رأس المال، المتمثل في النقود والمعدات والموارد المختلفة، وعندما تدخل عملية الأتمتة في مجالات أكثر، فستزيد معها الحاجة إلى رأس المال للاستثمار في الآلات والتكنولوجيا وغيرها. هذا بدوره يؤدي إلى زيادة الطلب على العمالة، لأننا ببساطة نحتاج إلى عمال تشغيل وإدارة لتلك الآلات. نضرب مثالًا بشركة تعمل في مجال التصنيع، وتستثمر في أذرع آلية للتعامل مع المهام المتكررة والمرهقة جسديًّا على خط التجميع. مع تحسن كفاءة عملية الإنتاج، قد يرتفع الطلب أيضًا على منتجات الشركة، ولتلبية هذا الارتفاع في الطلب، قد تحتاج الشركة إلى توسيع مرافقها أو الاستثمار في آلات جديدة أحدث، تلك الجهود التوسعية ستتطلب توظيف عمالة إضافية لإنشاء وتركيب المعدات والصيانة وغيرها.

ج- تعمل عملية الأتمتة أيضًا على تحسين إنتاجية المهام التي كانت مؤتمتة فعلًا، هذا يعني أن الآلات تصبح أكثر كفاءة في المهام التي كانت تقوم بها سابقًا، مما يعزز الإنتاجية كلها، ويزيد الطلب أيضًا على العمالة. لنفترض مثلًا أن متجرًا للبيع بالتجزئة يُطبق أنظمة دفع آلية، تتيح للعملاء دفع ثمن مشترياتهم دون الحاجة إلى صراف بشري. تتميز تلك العملية بالسرعة والفعالية، مما يقلل من أوقات انتظار العملاء ويُحسن من تجربتهم عمومًا. هنا سيواجه المتجر زيادة في العملاء وحركة البيع، وبالتالي قد يحتاج إلى توظيف المزيد من الموظفين لأداء مهام أخرى متعلقة مثلًا بالمنتجات أو مساعدة العملاء في الإجابة عن استفساراتهم، وبالطبع لصيانة وتطوير أنظمة الدفع الآلية أكثر. ما حدث إذن هو أن عملية الأتمتة خلقت مهام جديدة تُناسب البشر أكثر من الآلات في مختلف الصناعات كأعمال المصانع والهندسة والإدارة والحسابات وغيرها. وبالمثل فإن الذكاء الاصطناعي قد يخلق مهام جديدة في العديد من القطاعات الخدمية في المستقبل القريب. التقنيات الجديدة للذكاء الاصطناعي التوليدي تحديدًا ستُغير من سوق العمل؛ لأنها ببساطة ستُغير من شكل وطبيعة الوظائف والمهام نفسها.

رابعًا- سبل مواجهة التغيرات البنيوية نتيجة تنامي تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أسواق العمل

    إن مواجهة التغييرات الهيكلية في الاقتصاد المتأتية من تنامي استخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي في قطاعات الاقتصاد المختلفة والتي ستؤدي إلى إزاحة الكثير من المهن وتقلص فرص التشغيل لاسيما العمالة غير الماهرة وشبة الماهرة، تتطلب وضع سياسات واستراتيجيات تشارك فيها جميع الأطراف المعنية بالارتقاء بأسواق العمل تتضمن الآتي:

  • الاستثمار في رأس المال البشري من خلال توجيه نظم التعليم الحالية نحو التركيز على تكوين أجيال جديدة متخصصة ونابغة في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات التي تستند إليها تقنيات الذكاء الاصطناعي بداية من مرحلة رياض الأطفال وحتى مرحلة التعليم الجامعي وما بعد الجامعي.
  • توفير حوافز لمؤسسات مجتمع الاعمال لتبني تطبيقات الذكاء الاصطناعي على عدد من الأصعدة بما يشمل تشجيع حاضنات الأعمال في هذا المجال، وتوفير التمويل اللازم، ودعم عملية بناء القدرات والتدريب على المستوى الوطني لرفع كفاءة رأس المال البشري من خلال الشراكات ما بين كافة الجهات المعنية في هذا الإطار على المستويين الوطني والدولي .
  • تبني حوافز لاستقطاب الكفاءات الوطنية والأجنبية العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي لرفد أسواق العمل الوطنية برأس المال البشري المطلوب لتطوير مثل هذه التقنيات.
  • التركيز على دور أكبر للدولة على صعيد توفير الحماية الاجتماعية للعمالة منخفضة المهارات من خلال تعميق دور شبكات الأمان الاجتماعي لتقليل الهوة الكبيرة المتوقعة الناتجة عن تزايد استخدام هذه التقنيات على مستويات توزيع الدخل، ولضمان عدالة توزيع الفرص للنابغين من أبناء الطبقات التي ستفقد وظائفها للحيلولة دون المزيد من تعمق التوزيع غير العادل للفرص الاقتصادية(36).
  • تبني تدخلات نشطة من خلال سياسات أسواق العمل لدعم إعادة تأهيل العمالة بما يتلاءم مع متطلبات سوق العمل في إطار تنامي الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. تلبية الطلب المحتمل لإعادة تأهيل وتدريب العمال النازحين من وظائفهم غير الملائمة من خلال تطوير برامج تدريب وتأهيل جديد لمهارات تتوافق مع تکنولوجيات الذکاء الاصطناعي.

خاتمة

    يشهد العالم المتقدم سعيًا كبيرًا للولوج إلى كافة مفاصل الثورة الصناعية الرابعة وفي مقدمتها الذراع التنفيذية لمخرجات هذه الثورة المتمثلة بالذكاء الصناعي؛ حيث ارتفع حجم الاستثمار فيه بشكل كبير، فتخطت قيمة الاستثمار الخاص في الذكاء الاصطناعي 450 مليار دولار خلال السنوات العشر المنصرمة، أكثر من 60% منه في الاقتصاد الأميركي، كما ارتفع عدد الشركات الممولة حديثًا والتي تستخدم الذكاء الاصطناعي إلى أكثر من 9200 شركة، تشكل الشركات الأميركية نحو 50% منها.

   كما يمكن أن تسهم سوق الذكاء الاصطناعي بنحو 15.7 تريليون دولار أميركي في الاقتصاد العالمي بحلول 2030، وبدأ تأثيرها واضحًا في النمو الاقتصادي؛ إذ من المتوقع أن تسهم بأكثر من 26% من الناتج المحلي الإجمالي للصين وبنسبة 14.5% في أميركا الشمالية في 2030، أي ما يعادل 10.7 تريليون دولار ويمثل نحو 70% من التأثير العالمي، ومن المتوقع أيضًا أن يسهم بنحو 10.6% من الناتج المحلي الإجمالي لإنكلترا في 2023 وأن تشهد الصناعة زيادة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10% على الأقل بحلول 2030.

    لقد أسهمت تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات في الـتأثير على أسواق التوظيف وتدفقات العمل الناجمة عن الموجة الجديدة من أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي؛ إذ سيتعرض ما يعادل 300 مليون وظيفة للأتمتة، بينما سيولد الذكاء الاصطناعي نحو 169 مليون وظيفة جديدة، وتختلف تأثيرات الذكاء الاصطناعي على سوق الوظائف والمهن بحسب درجة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ولكون الولايات المتحدة المستثمر الأكبر في هذا المجال، فمن المتوقع تعرض نحو ثلثي المهن الأميركية لدرجة معينة من الأتمتة بواسطة الذكاء الاصطناعي.

   وتُعد الوظائف الكتابية والمحاسبية ومدخلو البيانات والسكرتارية التنفيذية والإدارية وحراس الأمن وموظفو قطع التذاكر والصرافون في البنوك من أكثر الوظائف تضررًا خلال السنوات الخمس القادمة نتيجة لاتساع موجه استخدام الذكاء الاصطناعي في تنفيذ المهام والأعمال، بينما ستشهد مهن مثل مشغلي المعدات الزراعية وسائقي الشاحنات والباصات ومصلحي الميكانيكا والآلات ومعلمي التربية الخاصة ارتفاعًا في فرص العمل خلال الفترة 2023-2027.

      وفي الختام، يمكن القول: إن دخول تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى مختلف المهن والأعمال سوف يُغير من المهارات الأساسية المطلوبة للوظائف، وستحل محلها مهارات جديدة؛ ما يعني أن وظائف كثيرة سيُعاد تصميمها بسبب أدوات الذكاء الاصطناعي، وخاصة أدوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي. وبالنتيجة فإن الذكاء الاصطناعي يمثل تحديًا وفرصة في الوقت نفسه لأغلب المهن والوظائف إذ يتعين على الأشخاص أن يكونوا على دراية بالتكنولوجيا الجديدة وأن يتكيفوا معها للاستفادة من فوائدها وتعزيز دورهم في المؤسسات التي يعملون فيها.

 

المراجع

 (1) فهد الحازمي وفكتور سحاب، الذكاء الاصطناعي: تقنياته، تطوره ووعودها، مجلة القافلة، العدد (1)، المجلد (66)، يناير/كانون الثاني- فبراير/شباط، 2017، ص37.

(2) سميث، ماثيو، الذكاء الاصطناعي وتنمية الإنسان: نحو جدول أبحاث، 2018.

(3) برنارد وارد، تطبيقات الذكاء الاصطناعي: كيف استخدمت 50 شركة ناجحة الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لحل المشكلات، ترجمة عائشة يكن، العبيكان للنشر والتوزيع، الرياض، 2022، ص23.

(4) جيك فرانكليفيلد، الذكاء الاصطناعي: الماهية والتطبيقات، ترجمة هاشم كاطع لازم، كلية شط العرب الجامعة، البصرة، 2023، ص2.

(5) مرام عبد الرحمن مكاوي، الذكاء الاصطناعي على أبواب التعليم، مجلة القافلة، العدد نوفمبر/تشرين الثاني- ديسمبر/كانون الأول، 2018، ص 39.

(6) للاستزادة، انظر: https://shorturl.at/twDX2

(تاريخ الدخول: 25 أغسطس/آب 2023)

(7) ابتسام ناصر هويمل وخولة عبد الله المفيز، الذكاء الاصطناعي: مستقبل إدارة الموارد البشرية، العبيكان للنشر والتوزيع، الرياض، 2022، ص 58-59.

(8) للاستزادة، انظر: https://shorturl.at/clCPV

(تاريخ الدخول: 7 يوليو/تموز 2023)

(9) محمد العزب وغادة النشار، الذكاء الاصطناعي وانعكاساته في التعليم، المجلة الدولية للذكاء الاصطناعي في التعليم والتدريب، المجلد 2، العدد 2، يونيو/حزيران 2022، ص 16.

(10) Price WaterhouseCoopers (PWC),The macroeconomic impact of artificial intelligence,UK,London, February 2018, p. 3.

(11) The macroeconomic impact of artificial intelligence,op.cit., p. 3

(12) Mckinsey Global Institute, Artificial Intelligence:Implications for China, April 2017, p. 1.

(13) Mckinsey Global Insitiute, op.cit., p. 1.

(14) The Center for Global Communications (GLOCOM), The Economic Impact of Generative AI: The Future of Work in Japan, Social science research institute of the International University of Japan June 2023, p.16.

(15) صوفي وينغايت، العالم بعيدًا عن إنشاء تحالف بشأن الذكاء الاصطناعي، صحيفة إندبندنت، عدد الأربعاء، 5 يوليو/تموز 2023، (تاريخ الدخول: 26 أغسطس/آب 2023)

https://shorturl.at/agorU

(16) للاستزادة من استخدام الشركات الألمانية للذكاء الاصطناعي، انظر:

13% من شركات ألمانيا تستخدم الذكاء الاصطناعي، جريدة العرب، السنة (46)، العدد (12850)، (تاريخ   الدخول: 3 أغسطس/آب 2023)

https://alarab.news/sites/default/files/2023-08/15_0.pdf

(17) فدوى سعد،  التصنيع والذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة القصوى، جريدة مال، العدد 17، أغسطس/آب 2023:

https://rb.gy/7oux2 (تاريخ الدخول 2 أكتوبر 2023)

(18) للاستزادة من أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد الألماني، انظر:

(تاريخ الدخول: 26 أغسطس/ أب 2023) https://rb.gy/wz9jg

(19) World Economic Forum، Mapping TradeTech: Trade in the Fourth Industrial Revolution, Insight Report، December, 2020, p.18.

)20 (Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,189.

 (21) للاستزادة من الاستثمار الخاص في الذكاء الصناعي، انظر:

184-185 Stanford University, Artificial Intelligence Index Report 2023,

 (22) للاستزادة من المصانع الذكية، انظر: https://rb.gy/uwjk6

 (23) منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، الذكاء الاصطناعي في التعليم: إرشادات لواضعي السياسات، باريس، 2021، ص 16.

(24) للاستزادة من أثر الأتمتة على الوظائف في المملكة المتحدة، انظر: https://rb.gy/61ifk

(25) للاستزادة من أثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في خلق فرص عمل في الصين، انظر:

https://rb.gy/nvv2y

(26) سعدية زاهيدي، وظائف الغد: بعض الوظائف ستختفي وغيرها سيظهر في سياق الاضطراب المزدوج الذي يواجه العالم، مجلة التمويل والتنمية ، عدد ديسمبر/كانون الأول 2020، ص26.

(27) مازن مجوز، التكنولوجيا تعود بالعالم إلى التعليم المهني، 6 فبراير/شباط 2020

https://tinyurl.com/ymy4w27y

(28) https://tinyurl.com/yc6wukth

(29) https://tinyurl.com/49u333mn

(تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2023)

(30) https://tinyurl.com/yc87nzz8

(تاريخ الدخول: 1 سبتمبر/أيلول 2023)

(31) World Economic Fourm,Future of Jobs Insight Report, 2023,Geneva,May 2023,p .30-31.

(32) World Economic Fourm,Future of Jobs Insight Report 2023,op.cit.,p. 32.

(33) https://tinyurl.com/bdfu7pwa

(34)  محمد حسون، خطر اختفاء الوظائف، صدى البلد، 26 فبراير/شباط 2020  (تاريخ الدخول: 2 أكتوبر 2023) https://tinyurl.com/3mshs4uh

 (35) Ajay Agrawal, Joshua Gans, and Avi Goldfarb, The Economics of Artificial Intelligence: An Agenda, The National Bureau of Economic Research, The University of Chicago Press, 2019, p.197-236.

(36) هبة عبد المنعم ومحمد إسماعيل، الانعكاسات الاقتصادية للثورة الصناعية: الذكاء الاصطناعي، صندوق النقد العربي، 2021، ص49.