أحمد عبد الواحد الزنداني- * Ahmed Abdulwahid Al-Zandani
ملخص
تتناول هذه الدراسة العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، مركزة على دور الشرعية باعتبارها العامل الرابط بين ثقافة المجتمع وبنية النظام السياسي، وأثر ذلك في تحقيق الاستقرار السياسي. تنطلق الدراسة من فرضية رئيسة مفادها أن بناء النظام السياسي على أسس ثقافية نابعة من المجتمع يسهم في ترسيخ شرعيته ويعزز استقراره وفعاليته. تعتمد الدراسة منهجًا مركبًا يستفيد من مناهج الثقافة السياسية، والنظم، وصناعة القرار، والمؤسسية، بهدف تقديم تحليل شامل للعلاقة بين ثقافة المجتمع وبنية السلطة السياسية. ومن خلال مراجعة الأدبيات ودراسة المفاهيم المكونة للمجتمع ونظامه السياسي، تخلص الدراسة إلى أن غياب الارتباط بين النظام السياسي والثقافة السياسية للمجتمع يؤدي إلى أزمات شرعية واضطرابات مزمنة، كما أن تعزيز الشرعية السياسية المتولدة من التوافق الثقافي يمثل الضامن الأساسي لاستقرار النظام السياسي واستدامته. توصي الدراسة بضرورة تأسيس الأنظمة السياسية على المرتكزات الثقافية للمجتمعات، وتعزيز المشاركة الشعبية، وبناء مؤسسات منبثقة عن الواقع الثقافي والاجتماعي لضمان فعالية الحكم واستقراره.
Abstract
This study explores the relationship between political culture and the political system, focusing on the role of legitimacy as the connecting factor between a society’s culture and the structure of its political system, and its impact on achieving political stability. The study is based on a central hypothesis that constructing a political system on cultural foundations derived from society contributes to reinforcing its legitimacy and enhancing its stability and effectiveness. It adopts a composite methodology that draws from the approaches of political culture, systems theory, decision-making and institutionalism, aiming to provide a comprehensive analysis of the relationship between societal culture and the structure of political authority. Through a review of literature and an examination of the concepts shaping society and its political system, the study concludes that the absence of a link between the political system and the political culture of society leads to legitimacy crises and chronic instability. Conversely, strengthening political legitimacy derived from cultural consensus represents the fundamental guarantor of the political system’s stability and sustainability. The study argues for the necessity of establishing political systems on the cultural foundations of societies, promoting popular participation and building institutions rooted in cultural and social realities to ensure effective and stable governance.
الكلمات المفتاحية: الثقافة السياسية، النظام السياسي، الشرعية السياسية، الاستقرار السياسي، النخب والمجتمع، بناء الدولة.
Keywords: political culture, political system, political legitimacy, political stability, elites and society, state-building.
أولا: الإطار النظري للدراسة
- مقدمة
تتناول هذه الدراسة أهمية العلاقة بين النظام السياسي وثقافة المجتمع بوصفها عاملًا حاسمًا في تحقيق الاستقرار. ففهم هذه العلاقة يُعدُّ ركيزة أساسية في بناء أنظمة سياسية فعَّالة وقادرة على الصمود. وفي ظل ما يشهده العديد من الدول العربية من اضطرابات مزمنة منذ انطلاق الثورات العربية خلال العقد الماضي، وما صاحبها من انهيار لبعض الأنظمة وتزايد حالات التوتر وعدم الاستقرار، تبرز الحاجة الماسَّة إلى دراسات تُسلِّط الضوء على أسس بناء النظام السياسي، انطلاقًا من واقع المجتمعات العربية وخصوصياتها الثقافية. وتأتي هذه الدراسة في هذا السياق، ساعية إلى إبراز الدور المحوري للثقافة السياسية في تأسيس أنظمة حكم قابلة للاستمرار.
تنطلق الدراسة من مسلَّمة مفادها أن غالبية الأنظمة السياسية في العالم العربي، ولاسيما تلك التي انهارت أو تواجه أزمات حادة، قد نشأت متأثرة بأيديولوجيات ورؤى فكرية وافدة من الشرق أو الغرب، عقب انتهاء الحقبة الاستعمارية المباشرة، وهي مرحلة تميزت بتقسيم المنطقة بموجب اتفاقية سايكس-بيكو، عام 1916، التي شكَّلت، في أحد أبعادها، محاولة لإضفاء طابع قانوني على واقع الاحتلال وتقنينه. وعلى الرغم من تأسيس هذه الأنظمة على جملة من الهياكل والمرتكزات، إلا أنها ظلت في كثير من الأحيان منبتَّة عن الثقافة السياسية المحلية؛ ما أسهم في هشاشتها المزمنة وفقدانها للقدرة على احتواء الأزمات والتعامل مع التحولات والصدمات السياسية التي شهدتها المنطقة خلال العقدين الأخيرين. ومن هنا تنبع أهمية هذه الدراسة، كونها تسعى إلى تحليل العلاقة الجوهرية بين النظام السياسي وثقافة المجتمع، بوصفها مدخلًا رئيسًا لفهم أسباب استقرار النظام أو انهياره.
إن السعي نحو بناء نظام سياسي مستقر ينبغي أن يُدرج في مقدمة أولويات المرحلة الانتقالية في الدول الخارجة من الأزمات؛ إذ إن إقامة أنظمة سياسية لا تستند إلى أسس متجذرة في ثقافة المجتمع المحلي تُنذر بإعادة إنتاج الصراع وظهور دورات جديدة من العنف. فالعديد من الدول التي تجاهلت البُعد الثقافي في تأسيس أنظمتها السياسية شهدت رفضًا شعبيًّا لتلك النظم؛ ما دفع السلطات إلى اللجوء إلى أدوات القمع تحت ذريعة إنفاذ القانون، وهو ما فتح الباب واسعًا أمام عودة الاستبداد، ثم الثورة، فالعنف؛ ما أدى إلى خسائر بشرية فادحة ودمار في البنية التحتية، وإلى ترسيخ التخلف والفقر والارتهان للخارج.
- مشكلة الدراسة
يُعدُّ إدراك الترابط بين النظام السياسي وثقافة المجتمع، والسعي للكشف عن العامل الرئيس الذي يُمكِّن من تأسيس النظام السياسي على مرتكزات الثقافة المجتمعية، جوهر الإشكالية البحثية التي تتناولها هذه الدراسة. ولتفسير هذه المسألة على نحو أكثر عمقًا، تقتضي الضرورة البحث في مفهوم الثقافة عمومًا، والثقافة السياسية على وجه الخصوص، إضافة إلى مفهوم النظام السياسي وصلته ببنية المجتمع الثقافية.
وانطلاقًا من هذا الأساس، يتبلور السؤال الجوهري الذي تسعى الدراسة إلى معالجته في الصيغة الآتية:
ما موقع ثقافة المجتمع ضمن هيكل النظام السياسي؟ وما الدور الذي تنهض به في نشأته وتشكله؟ وما أثرها في أدائه ووظائفه؟ وهل تسهم هذه الثقافة في تعزيز استقراره وفعاليته واستدامته؟ وأخيرًا، ما العامل الرابط الذي يُفسِّر العلاقة بين ثقافة المجتمع والنظام السياسي؟
- فرضيات الدراسة
لا تهدف هذه الدراسة إلى اختبار فرضيات قابلة للقياس الكمي تُخضَع للتحليل الإحصائي بهدف التحقق من صحتها أو دحضها، كما هي الحال في البحوث الكمية، بل تعتمد على فرضيتين إرشاديتين تُوجِّهان مسار التحليل وتُسهمان في بناء إطار منهجي يتلاءم مع طبيعة الدراسات الكيفية، كما هي الحال في هذه الدراسة. وتتمثل هاتان الفرضيتان في الآتي:
إن بناء النظام السياسي على الأسس الثقافية للمجتمع يُسهم بصورة فعَّالة في تحقيق فاعلية النظام واستقراره.
ثمة علاقة طردية بين شرعية السلطة السياسية وقيام نظام سياسي مستقر وفعال.
- أهمية الدراسة
تنبع أهمية هذه الدراسة من سعيها إلى تقديم رؤية واضحة حول ضرورة استقاء قواعد النظام السياسي من ثقافة المجتمع؛ إذ إن فهم الثقافة المجتمعية وإدراك دورها الجوهري يُعد شرطًا أساسيًّا لكل من يطمح إلى بناء أنظمة سياسية فعَّالة ومستقرة. كما تتعزز أهمية هذه الدراسة في ظل الحاجة المتزايدة إلى هذا النوع من الأبحاث، لاسيما تلك المعنية بإعادة بناء الأنظمة المنهارة، في مرحلة تاريخية دقيقة تمر بها المنطقة العربية؛ حيث يشهد عدد غير قليل من الدول حالة ممتدة من عدم الاستقرار منذ اندلاع الثورات العربية قبل نحو عقدين من الزمن.
ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى دراسات تُسلِّط الضوء على القواعد الأساسية التي ينبغي أن يُبنى عليها النظام السياسي، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى معالجته من خلال تركيزها على دور الثقافة في بناء النظام السياسي. ونرى أن وجود مثل هذه الدراسة يُعد أمرًا بالغ الأهمية ضمن المكتبة العربية، نظرًا إلى ما تمثله من استجابة معرفية ملحَّة لحاجات المرحلة الراهنة.
- منهج الدراسة
يوجد العديد من المناهج العلمية التي تناولت دراسة العلوم السياسية بوجه عام، ودراسة النظم السياسية بوجه خاص(1). أما بالنسبة للمنهجية المعتمدة في هذه الدراسة، فهي لا تقتصر على منهج واحد بعينه، بل تستفيد من عدد من المناهج العلمية في بناء منهج مركب يخدم أهداف هذه الدراسة، التي تبحث في العلاقة بين الثقافة السياسية وبناء نظام سياسي فعال ومستقر. وتُعالج هذه المناهج هذا البعد من زوايا مختلفة، نرى أنها تخدم غرض الدراسة إذا ما أُبرزت بشكل علمي ضمن إطار منهجي مركب يتيح إجراء البحث بمنهجية رصينة.
تلعب الثقافة دورًا أساسيًّا في تحديد القواعد التي تنظم سلوك المجتمع في مختلف تفاعلاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما تؤثر القيم الثقافية بصورة مباشرة في طبيعة النظام السياسي. ويُبرز منهج الثقافة السياسية هذا الارتباط الوثيق بين طبيعة النظام السياسي والثقافة السائدة في المجتمع؛ إذ يشير إلى أن النظر إلى النظام السياسي لا يكتمل من دون فهم بيئته الثقافية. فالقيم والاتجاهات السياسية للأفراد تؤثر في سلوكهم داخل المؤسسات، كما تتأثر المطالب التي يوجهها المجتمع للنظام السياسي، وكذلك أساليب التعبير عنها، بالثقافة السياسية السائدة؛ الأمر الذي يجعل العلاقة بين التغيير السياسي والثقافة السياسية علاقة متداخلة وعضوية(2).
وانطلاقًا من كون الدولة هي وحدة التحليل الأساسية، يبرز إسهام المنهج المؤسسي في نسخته التقليدية؛ إذ ينظر إلى الدولة باعتبارها مجموعة من المؤسسات الدستورية والسياسية تُمارس السلطة من خلالها، استنادًا إلى قواعد دستورية، سواء أكانت مكتوبة أم عرفية(3). أما المنهج المؤسسي في صورته الحديثة، فيضيف إلى التحليل بُعدًا مهمًّا يتمثل في تركيزه على تفاعل المؤسسات مع بيئاتها المختلفة. ووفقًا لرواد هذا المنهج، لا يمكن دراسة المؤسسات بمعزل عن السياقات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية التي تعمل ضمنها، ومن ثم فإن بناء المؤسسات السياسية والدستورية على أسس سليمة يُعد جوهرًا للتنمية السياسية، بل وللتنمية الشاملة. كما يركِّز هذا المنهج على غايات المؤسسات؛ حيث تتكون المؤسسات لأداء أهداف محددة، فالمؤسسة التشريعية مثلًا تهدف إلى تجسيد إرادة المواطنين وتلبية مطالبهم، ولا شك أن من بين هذه المطالب ما يرتبط بتنظيم الحياة وفقًا لقيم المجتمع وثقافته وهويته. ويولي المنهج المؤسسي أهمية كذلك لمفهوم “التغيير المؤسسي”، ويُبيِّن أن المؤسسات عرضة للتطور المستمر، إما استجابة لمتغيرات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية(4).
غير أن هذا التفاعل المؤسسي لا يتم في فراغ، بل يجري ضمن إطار منظَّم وواضح، وهو ما يُبرزه منهج النظم. فوفقًا لهذا المنهج، تُعد الدولة -وهي وحدة التحليل المعتمدة في هذه الدراسة- نظامًا سياسيًّا (System). وهذا النظام، كما وصفه ديفيد أستن (David Easton)، هو مجموعة من العناصر المتداخلة والمترابطة والمتفاعلة بنيويًّا ووظيفيًّا بشكل منظم، بحيث يؤدي أي تغيير في أحد عناصره إلى تأثير مباشر في بقية عناصره، ويستهدف النظام ككل. وقد عرَّف أستن النظام السياسي بأنه “مجموعة من التداخلات أو التفاعلات السياسية المستمرة في إطار جماعة سياسية معينة”، معتبرًا أن النظام يشكِّل جزءًا من بنية اجتماعية أشمل، ويتفاعل مع هذه البنية في علاقات معقدة.
وفقًا لأستن، يتكون النظام السياسي من مجموعة مدخلات، وهي الضغوط والتأثيرات التي يتعرض لها النظام وتدفعه إلى الحركة، وتشمل هذه المدخلات القيم الثقافية والاجتماعية، والمطالب التي يوجهها المجتمع إليه، سواء كانت عامة أم خاصة. ويؤدي تراكم هذه المطالب إلى دفع النظام نحو الاستجابة، وهو ما يتطلب توافر عنصر “المساندة”، أي تأييد الجماهير وولاءهم واستعدادهم لدعم النظام وتوظيف طاقاتهم، ويُعد هذا العنصر جزءًا لا يتجزأ من المدخلات.
تأتي بعد ذلك “عملية التحويل”، وهي استجابة النظام السياسي لتلك المدخلات، عبر استيعابها داخل أبنيته، التشريعية والتنفيذية، ثم معالجتها وتحويل بعضها إلى قوانين وقرارات وسياسات. ثم تأتي “المخرجات”، وهي ما يصدر عن النظام السياسي استجابةً للمطالب، سواء كانت استجابة فعلية، أو رمزية، أو حتى سلبية؛ فقد يُلبي النظام بعض المطالب بالفعل، أو يستخدم وسائل قمعية لردعها، أو يقدم وعودًا خطابية، أو يثير مشاعر الخوف من أخطار داخلية أو خارجية. وأخيرًا، هناك “التغذية الراجعة”، وهي عملية تدفق المعلومات من المجتمع إلى النظام بشأن آثار السياسات والقوانين الصادرة؛ مما يُسهم في تعديل أداء النظام وإعادة توجيه قراراته. والملاحظ أن جميع هذه العمليات -المدخلات، والتحويل، والمخرجات، والتغذية الراجعة- تجري في سياق ثقافي معين تتفاعل فيه القيم السائدة للمجتمع مع ديناميات النظام السياسي(5).
وفي هذا الإطار، يُسهم منهج “صناعة القرار” في بناء هذا المنهج المركب للدراسة، من خلال تركيزه على الفاعلين في العملية السياسية، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات. فصانع القرار السياسي لا يتحرك في فراغ، بل يتأثر بمجموعة من العوامل، من بينها خلفيته الاجتماعية، ومستواه التعليمي، وخبراته، وعمره، ومعتقداته، وانتماءاته، بل وحتى دوافعه النفسية. وهذه العناصر جميعها ترتبط بالثقافة السياسية للمجتمع، وتؤثر في طبيعة القرارات المتخذة. ومن ثم، فإن فهم سلوك صانع القرار ضمن سياقه الثقافي يُعد ضروريًّا لتفسير العلاقة بين الثقافة السياسية ومخرجات النظام السياسي(6). وهنا، تتجلى الحاجة إلى نظام سياسي يستوعب هذه المؤثرات، ويأخذها بعين الاعتبار، ليتمكن من الاستمرار والعمل بفاعلية وسلاسة.
وخلاصة القول، إن المنهج المركب الذي تعتمده هذه الدراسة يقوم على تتبُّع مسار عمل النظام السياسي ضمن بيئته الحاضنة، انطلاقًا من أن النظام ليس كيانًا معزولًا، بل جزء من كُلٍّ اجتماعي واقتصادي وثقافي متداخل. ولا يمكن الإحاطة بحقيقة هذا الجزء من دون دراسة السياقات المحيطة به، لاسيما منظومة القيم والثقافة السائدة التي تؤثر وتتأثر بتفاعلاته. كما يتفاعل النظام السياسي مع بيئته الخارجية، إقليميًّا ودوليًّا، وتتأسس على هذا التفاعل قدرته على التكيف مع محيطه والاستجابة لمتطلباته، وهو ما يُشكِّل شرطًا أساسيًّا لفاعلية النظام واستقراره واستدامته.
- طريقة تنفيذ الدراسة
اعتمدت هذه الدراسة على البحث المكتبي في تناول موضوعها، سواء من خلال الرجوع إلى المكتبات العامة أو عبر استخدام قواعد البيانات والمكتبات الرقمية، وذلك بهدف الوصول إلى المصادر العلمية ذات الصلة، والاطلاع على كتابات رواد حقلَي الثقافة السياسية والنظم السياسية، من كتب وأبحاث ومقالات أساسية. كما شملت منهجية الدراسة قراءة موسعة في الدراسات الرصينة التي تناولت هذه الموضوعات بالتحليل والمقارنة والنقد، وذلك بهدف الإحاطة بأبرز الاتجاهات الفكرية والمعرفية في هذا المجال.
ومع أن الدراسة استفادت من هذا الكمِّ الغني من الأدبيات، إلا أنها لم تقتصر على مجرد عرض ما ورد فيها أو مقارنته وتحليله، بل سعت إلى إجراء بحث معمَّق يستهدف الوصول إلى العامل الرابط بين مفردات الدراسة ومتغيراتها، كما وردت في فرضيتيها الإرشاديتين، وذلك للإجابة عن السؤال المركزي الذي تنهض عليه هذه الدراسة.
- الدراسات السابقة
أثارت مسألة العلاقة بين الثقافة السياسية والنظم السياسية نقاشًا علميًّا واسعًا في عدد كبير من الدراسات والأبحاث، حيث انطلقت معظمها من تحليل التطور التاريخي للنظم السياسية، ومدى تأثير ثقافات الشعوب وتصوراتهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم في طبيعة الأنظمة السياسية التي تحكمهم. وقد انقسم الباحثون في هذا المجال إلى فرق ومدارس متعددة، ركَّز كل منها على جوانب محددة، وسعى إلى إثراء المعرفة من الزاوية التي رأى أنها الأنسب لسبر أغوار الموضوع بحسب اقترابه من الإشكالية والمعطيات التي اعتمدها، فضلًا عن الملاحظات التي جذبت اهتمام كل فريق. ونظرًا لكثافة هذا الإنتاج البحثي، تركز هذه الدراسة على استعراض أبرز الأعمال المتصلة اتصالًا مباشرًا بموضوعها.
ومن بين أبرز الدراسات التي تناولت أثر الثقافة السياسية على طبيعة النظم السياسية، دراسة Muhammed Toussef وآخرين، التي تبحث في العلاقة المعقدة بين القوى الثقافية والمواقف والسلوكيات السياسية. وتسلط الدراسة الضوء على الكيفية التي تُشكِّل بها القيم والمعتقدات والأعراف الثقافية الأساس للأيديولوجيات السياسية للأفراد، وتفضيلاتهم، وانتماءاتهم الحزبية، ومشاركتهم المدنية، وأنماط تصويتهم. وتشير النتائج إلى أن التمسك بالقيم الثقافية التقليدية، مثل التدين والنزعة القومية، يُفضي إلى تبني توجهات سياسية محافظة. كما تُبيِّن الدراسة أن المواقف الثقافية السائدة، لاسيما تلك المتعلقة بالواجبات والفعالية المدنية، تؤثر بشكل مباشر في سلوك الناخبين وفي نتائج الانتخابات. وتخلص إلى أن فهم الجذور الثقافية للسلوكيات السياسية أمر ضروري لضمان حُكم عادل وفعَّال في المجتمعات التعددية(7).
أما دراسة Mabel Berezin وآخرين، فتتناول أهمية إدراج الثقافة في التحليل السياسي، مع التركيز على الكيفية التي تؤثر بها الحدود والتفاعلات الثقافية في المؤسسات والممارسات السياسية، وتسهم في استقرار الأنظمة وفعاليتها. وتؤكد الدراسة على الدور الحاسم للثقافة في التحليل السياسي، كما تتناول التحديات المنهجية المرتبطة بهذا التوجه، وتقترح إطارًا لفهم الحدود التي تنظم العلاقة بين الثقافة والسياسة(8).
وتُبرز دراسة D. Virginie تعقيد مفهوم الثقافة السياسية، مؤكدة أنه يعكس التفضيلات السياسية داخل المجتمعات، ويكشف أحيانًا عن التباس بين القيم الفردية والثقافة الجمعية، وكذلك بين التوجهات السياسية والممارسات السياسية. وتخلص الدراسة إلى أن تبنِّي المنظور الثقافي لفهم الثقافة السياسية يمكن أن يُسهم في تفسير استقرار المؤسسات السياسية وطبيعتها، وأن التفاعلات والتحالفات بين توجهات ثقافية مختلفة قد تُنتج نتائج سياسية وترتيبات مؤسسية متباينة(9).
أما دراسة Jan-Erik Lane وSvante Ersson، فتركِّز على التفاعل بين الثقافة والسياسة، من خلال تحليل أثر العرق والدين والقيم الثقافية في استقرار الأنظمة السياسية وفاعليتها. وتعتمد الدراسة على بحث تجريبي مقارن، وتخلص إلى أن الثقافة السياسية لا تؤثر فقط في السلوك الفردي، بل تمتد لتشكِّل الاتجاهات العامة والأنظمة السياسية على المستويين الكلي والجزئي(10).
وتناقش دراسة Graham Day المجتمعات التي تشكَّلت على أساس الأهداف والقيم المشتركة، مشيرة إلى أن التفاعلات الثقافية، سواء داخل مجتمعات الشتات أو في المجتمعات المختارة أو المتخيَّلة، تسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية والهوية الجمعية، وهو ما ينعكس بدوره على استقرار الأنظمة السياسية وفاعليتها(11).
وتؤكد دراسة Swechaa Siingh أن التفاعل الثقافي يعزز الاستقرار السياسي من خلال دعم المؤسسات الشاملة ونشر الوعي السياسي، وترى أن فهم الجذور الثقافية للسلوك السياسي يمثل شرطًا أساسيًّا للحُكم العادل في المجتمعات المتعددة الثقافات، ولتحقيق السعي العادل نحو الأهداف المشتركة(12).
أما دراسة بن حسين سليمة، فقد ركزت على تحديد مفهوم الثقافة السياسية، كما قدَّمه غابريال ألموند وسيدني فيربا، واستعرضت الجذور الفكرية والتاريخية لهذا المفهوم، وتطوره وأهميته في العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع. وخلصت الدراسة إلى أن تحليل الثقافة السياسية وفقًا لهذين الباحثين يُسهم في كشف العوائق التي تعترض تطور النظم السياسية، نظرًا إلى أن نوع الثقافة السياسية السائدة يعكس واقع المجتمع، ويُسهم في تحديد شكل النظام السياسي القائم(13).
وتُعد دراسة محسن جابر من الدراسات التي تمحورت بوضوح حول تأثير الثقافة السياسية في توجهات الأفراد نحو السلطة السياسية، وانعكاسات ذلك على طبيعة النظام السياسي. وقد خلصت الدراسة إلى أن الثقافة السياسية تعد المحدد الأساسي للسلوك السياسي؛ إذ تحدد موقع الفرد ودوره في الحياة السياسية، وتؤثر في سياسات النظام عبر العناصر المكوِّنة للثقافة السياسية. كما أشارت إلى وجود تباين بين الثقافات السياسية من مجتمع إلى آخر، بحسب درجة المشاركة والاهتمام بالشأن العام، وانتهت إلى أن الثقافة السياسية تؤثر في مجمل التفاعلات والعلاقات داخل النظام السياسي، وهي مكوِّن أساس فيه، وركيزة في عملية التنمية السياسية، بما تتضمنه من مفاهيم الشرعية والهوية والمشاركة السياسية. وخلصت الدراسة إلى أن وجود ثقافة سياسية قائمة على المشاركة الفاعلة يمثل شرطًا جوهريًّا لقيام نظام سياسي ديمقراطي(14).
أما دراسة عزمي بشارة فتتميز بطرح مغاير لما انتهت إليه معظم الدراسات السابقة؛ إذ بدأ الباحث دراسته بتعريف الثقافة السياسية وظروف نشأتها، بهدف التأسيس لمجموعة من القضايا الإشكالية في هذا الحقل، أبرزها أربع مسائل: أولًا: أنه لا توجد علاقة حتمية بين نوع نظام الحكم والثقافة السياسية في مجتمع ما. ثانيًا: لا يمكن اشتقاق الثقافة السياسية من الثقافة العامة للمجتمع. ثالثًا: ثمة شك في إمكانية استنتاج الممارسة السياسية من الثقافة السياسية بشكل مباشر. رابعًا: أن الثقافة السياسية للنخب تمارس دورًا لا يُستهان به في مراحل الانتقال نحو الديمقراطية. كما توقفت الدراسة عند مفهوم “الثقافة المدنية”، مشددة على أنها تنشأ وتتطور في ظل الديمقراطية، وأن دورها، من منظور بنائي-وظيفي، يتمثل في المحافظة على استقرار النظام الديمقراطي(15).
ومن خلال ما سبق، يتضح أن الدراسات السابقة تناولت بإسهاب العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، وأسهمت في تسليط الضوء على جوانب متعددة من هذا الترابط. ومع أهمية ما طُرح في هذه الدراسات، إلا أنها لم تُعالِج بوضوح مسألة العامل الرابط بين الثقافة السياسية والنظام السياسي من حيث أثره في تحقيق الاستقرار. وهنا تبرز مساهمة هذه الدراسة، التي تسعى إلى سدِّ هذه الثغرة المعرفية، من خلال بحث هذا العامل الرابط وتحديده، بوصفه مدخلًا لفهم شروط بناء نظام سياسي مستقر وفعَّال.
ثانيًا: الثقافة والثقافة السياسية والنظام السياسي
- الثقافة
تشير المعاجم العربية إلى أن كلمة “ثقافة” تعني، في أكثر الاستعمالات اللغوية، “الحذق والفطنة، وسرعة أخذ العلم وفهمه، وتقويم المُعوَجِّ من الأشياء”. غير أن هذا المعنى، بمدلوله العام الشائع، يُعد مستحدَثًا ولا يتصل بالدلالة اللغوية الأصلية التي وردت في المعاجم إلا تأويلاً ومجازًا. ولذلك، فإن استخدام الكلمة في السياقات الحديثة لا يستقيم دائمًا مع مدلولها الأصلي، وهو ما أشار إليه عدد من الباحثين العرب باعتباره إشكالية دلالية ينبغي التوقف عندها(16).
وغالبًا ما تُشكِّل هذه الملاحظة مدخلًا للباحثين العرب عند تناولهم لمفهوم “الثقافة”، كما هي الحال عند مالك بن نبي في مؤلَّفه “مشكلة الثقافة”؛ إذ يبيِّن أن مصطلح “الثقافة” بالمعنى المتداول اليوم لم يكن مستخدمًا لا في العصر الجاهلي، ولا في العصور الإسلامية اللاحقة، بما في ذلك العصران الأموي والعباسي، رغم ما بلغته الثقافة العربية آنذاك من ازدهار معرفي وفكري(17).
ويؤكد مالك بن نبي أن كلمة “الثقافة” لم تكن حاضرة في فكر ابن خلدون، الذي يُعد المؤسس الأول لعلم الاجتماع في الحضارة الإسلامية، مشيرًا إلى أن استعمال المصطلح في العصر الحديث جاء نتيجة ترجمة مباشرة لكلمة Culture من اللغات الأوروبية. ويرى أن هذا المفهوم، بصيغته العربية، لم يكتسب بعدُ الدرجة الكافية من التحديد والدقة المفهومية التي تؤهله ليكون عَلَمًا على مدلول واضح، وهو ما دفع العديد من الكتَّاب العرب إلى إقرانه بكلمة Culture بالحروف اللاتينية، كما لو كانت تلك الإضافة بمنزلة “دعامة تشد من أزرها في عالم المفاهيم”، بحسب تعبيره. ومن هنا، يصل مالك بن نبي إلى خلاصة مفادها أن فكرة “الثقافة” بوصفها مفهومًا مركزيًّا إنما هي فكرة حديثة، نُقلت إلى العالم العربي من السياق الأوروبي. وهو يرى أن هذا المفهوم يُعدُّ من ثمار عصر النهضة، الذي شهد في أوروبا، خلال القرن السادس عشر، انبثاق حركة أدبية وفنية وفكرية واسعة النطاق شكَّلت الخلفية الأولى لنشوء المفهوم(18).
وبالاستناد إلى هذه الخلاصة، يرى بن نبي أن غالبية التعريفات الحديثة لمصطلح “الثقافة” تعود في أصولها إلى الفكر الغربي، وتتقاطع بوجه خاص مع التعريف الذي وضعه إدوارد تايلور (Edward Tylor) في كتابه المرجعي “الثقافة البدائية” (Primitive Culture)، الصادر عام 1871؛ حيث عرَّف الثقافة بأنها: “ذلك الكل المركَّب الذي يشمل المعرفة، والمعتقدات، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع”(19). ويُعبِّر هذا التعريف عن الرؤية التي تبنَّاها الفكر الغربي للثقافة، والتي انتقلت لاحقًا إلى سائر أنحاء العالم، وأثَّرت في طريقة تلقي المفهوم في الفكرين العربي والإسلامي.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذا الحديث يقتصر على مدلول كلمة “ثقافة” كمصطلح مفاهيمي، ولا يعني بأي حال من الأحوال أن الظاهرة الثقافية ذاتها نشأت في أوروبا. فمالك بن نبي يميز بين حضور الثقافة واقعًا مجتمعيًّا، وبلورة مفهومها مصطلحًا نظريًّا؛ إذ يرى أن ظاهرة “التثقيف التلقائي” تُعدُّ ثمرة طبيعية تنشأ في كل مجتمع، في أي مرحلة حضارية. ويضرب لذلك أمثلة بثقافة روما التي كانت “ثقافة إمبراطورية”، وثقافة أثينا التي تمثَّلت في “ثقافة حاضرة”، مؤكدًا أن هذه التجارب التاريخية لم تتجاوز كونها أشكالًا من “الحضور الثقافي”، من دون أن تبلور مفهومًا نظريًّا يحدد خصائص الثقافة أو يضع لها تعريفًا منهجيًّا. وينسحب ذلك، في رأيه، على الحواضر الإسلامية الكبرى، مثل دمشق وبغداد، التي شهدت مظاهر ثقافية غنية، دون أن ينتج عنها مصطلح ثقافي محدَّد المعالم(20).
وعلى هذا الأساس، مضى ابن نبي في دراسة مفهوم الثقافة بأبعاده المختلفة، إلى أن توصل إلى تعريف للثقافة في التاريخ ينسجم مع جدليته العامة؛ حيث عرَّفها بأنها: “تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة، وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة، وعواطف متشابهة. وبعبارة أخرى: هي كل ما يُعطي الحضارة سمتها الخاص، ويُحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي، أو عقلية ديكارت (Descartes)، وروحانية جان دارك (Jeanne d’Arc)”(21).
وانطلاقًا من هذا التصور، سعى عدد من المفكرين إلى تقديم تعريفات خاصة بهم لمفهوم الثقافة. فمثلًا، يرى هنري لاوست (Henry Laoust) أن الثقافة هي: “مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها، وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها”(22). ويؤكد الاتجاه نفسه آرنست باركر (Ernest Barker)؛ إذ يعرِّف الثقافة بأنها: “ذخيرة مشتركة لأمة من الأمم، تجمَّعت لها وانتقلت من جيل إلى جيل خلال تاريخ طويل، وتَغْلِب عليها، بوجه عام، عقيدة دينية تُعد جزءًا من تلك الذخيرة، فضلًا عن الأفكار والمشاعر واللغة”(23). كما يذهب عدد من الباحثين إلى أن “الثقافة هي مجموعة المعارف والجوانب الروحية الأصيلة من حياة الأمة، ممثلة في تعاليمها الدينية، وتقاليدها، وأدبها، وفنِّها، وفلسفتها، وأنماط تفكيرها في الحياة والسلوك”(24).
- الثقافة السياسية
تُعد الثقافة السياسية جزءًا فرعيًّا من ثقافة المجتمع، فهي ثقافة فرعية (Subculture) تتأثر تأثرًا مباشرًا بالثقافة الكلية السائدة. وبوصفها مكوِّنًا من مكوِّنات الثقافة العامة، تسهم في تشكيل منظومة القيم والآراء والمعتقدات والمشاعر والسلوكيات لدى الأفراد، وتوجِّه مواقفهم وتصوراتهم تجاه نظامهم السياسي، سواء تجاه مؤسساته الرسمية أو غير الرسمية(25).
ويُعد عالم السياسة الأميركي، غابرييل ألموند (Gabriel Almond)، من أوائل من أدخلوا مفهوم “الثقافة السياسية” إلى حقل العلوم السياسية بشكل منهجي. ففي مقالة كتبها عام 1956، قدَّم تعريفًا للثقافة السياسية بوصفها “مجموعة التوجهات السياسية والاتجاهات والأنماط السلوكية التي يحملها الفرد تجاه النظام السياسي ومكوناته المختلفة، وتجاه دوره بوصفه فردًا في هذا النظام السياسي”(26).
وانطلاقًا من هذا الأساس، يمكن القول: إن معظم علماء السياسة يُجمعون على أن الثقافة السياسية تمثِّل ذلك الجزء من ثقافة المجتمع الذي يتضمن القيم والمعتقدات والمواقف المرتبطة بما ينبغي أن تقوم به الحكومة، وكيف تقوم به، وطبيعة العلاقة التي تربط المواطن بالسلطة السياسية. وتنتقل هذه الثقافة من جيل إلى آخر من خلال عمليتَي التنشئة الاجتماعية والسياسية، اللتين يتعرف الأفراد من خلالهما على القواعد السياسية ويتفاعلون مع الآخرين ومع القادة السياسيين. وبهذا التفاعل، تصبح الثقافة السياسية جزءًا من البناء النفسي للفرد، يُعبِّر عنه من خلال سلوكياته اليومية.
وعليه، تتمحور الثقافة السياسية حول أنماط التوجه والتكيف التي يعتمدها الأفراد في تعاطيهم مع النشاط والعمل السياسي داخل المجتمع، وهي التي تشكل في مجموعها الإطار الذي تتحدد من خلاله شرعية النظام السياسي واستقراره وفاعليته(27).
- النظام السياسي
لكل مجتمع سياسي نظام يُنظِّم شؤونه، وقد تعددت على مرِّ التاريخ التقاليد والأعراف والقوانين التي شكَّلت الأطر الناظمة لأحوال الشعوب والأمم والحضارات. ولا تزال تلك التقاليد تتجدد وتتحول، مُفرزة صورًا متباينة من الأنظمة السياسية التي ميزت الدول عن بعضها البعض. وعليه، يُطرح السؤال الجوهري: ما النظام السياسي؟
يرى الدارسون في حقل النظم السياسية أن النظام السياسي هو “نظام اجتماعي وظيفته إدارة موارد المجتمع استنادًا إلى سلطة مخوَّلة له لتحقيق الصالح العام عن طريق سنِّ وتفعيل السياسات”(28). ومن الناحية السلوكية، يُعرَّف النظام السياسي بوصفه مجموعة مترابطة من السلوكيات المنظمة التي تضبط عمل القوى والوحدات والمؤسسات الفرعية التي يتألف منها. أما من الناحية الهيكلية، فهو يتجسد في هيئة مجموعة من المؤسسات والهيئات التي تتوزع بينها عملية صناعة القرار السياسي في الدولة(29).
وفي هذا السياق، يُعرِّف ثروت بدوي النظام السياسي بأنه “مجموعة من القواعد والأجهزة المتناسقة المترابطة فيما بينها، تبيِّن نظام الحكم، ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها وطبيعتها، ومركز الفرد منها وضماناته قبلها، كما تُحدد عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على الجماعة، وكيفية تفاعلها مع بعضها، والدور الذي تقوم به كل منها”(30).
أما في الأدبيات الغربية، فقد كان مصطلح “النظام السياسي” يُستخْدَم تقليديًّا للإشارة إلى الدولة أو الحكومة، مع تركيز على المؤسسات الرسمية للحكم، كالمجالس التشريعية، والمحاكم، والوزارات(31). غير أن هذا التصور بدأ بالتوسع في النصف الثاني من القرن العشرين؛ حيث أشارت دراسات رائدة إلى أن أداء هذه المؤسسات الرسمية لا ينفصل عن تأثير المؤسسات غير الرسمية، مثل العشائر، والطبقات الاجتماعية، والجماعات الضاغطة، والأحزاب السياسية، والنقابات، والمنظمات المهنية والفكرية وغيرها(32).
وفي هذا الإطار، يقدم المفكر الأميركي، صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington)، في كتابه “النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” (Political Order in Changing Societies)، رؤية عميقة حول ماهية النظام السياسي الفعَّال، معتبرًا أن جوهره يكمن في الاستقرار السياسي. ويرى أن الدول التي تتمتع بأنظمة سياسية فعالة تتجسد فيها معايير الإجماع، والشرعية، والتنظيم، والفعالية، والاستقرار. ويؤكد أن الفعالية لا ترتبط بنمط الحكم بقدر ما ترتبط بقدرة الحكومة على الحكم الفعلي، مشيرًا إلى أن الدولة تمثل وحدة سياسية يتوافر فيها قدر واسع من الإجماع الشعبي حول شرعية النظام السياسي(33).
ويُبرز هنتنغتون أن النظام السياسي الفعال يتأسس على مشاركة المواطنين وقادتهم في رؤية مشتركة للمصلحة العامة، وعلى وجود تقاليد ومبادئ تشكل مرجعية موحدة لبناء الكيان السياسي. كما يؤكد ضرورة وجود مؤسسات سياسية قوية، متماسكة ومتكيفة، تحتوي على بيروقراطيات فاعلة، وأحزاب سياسية منظمة، ومشاركة شعبية عالية في الشأن العام، إلى جانب أنظمة رقابة مدنية على القوات المسلحة، ونشاط حكومي واسع في المجال الاقتصادي، وإجراءات فعالة لتنظيم انتقال السلطة وضبط الصراعات السياسية.
ويخلص هنتنغتون إلى أن النظام السياسي الذي تتوافر فيه هذه الشروط يكون قادرًا على رعاية ولاء المواطنين، وبالتالي يصبح مؤهَّلًا لتحصيل الضرائب، وتجنيد القوى البشرية، ووضع السياسات وتنفيذها. ويضيف أن اتخاذ القرار لا يكون كافيًا بحد ذاته، بل إن قدرة النظام على تنفيذ القرار من خلال آليات الحكم هي ما يُحدد مدى فاعليته(34).
وبناءً على ما سبق، يتضح أن النظام السياسي يؤدي وظيفة مركزية تتمثل في تسيير شؤون الدولة وإدارة الحكم، عبر تنظيم العلاقة بين قوى المجتمع المختلفة من خلال سلطة شرعية قادرة على فرض القانون وتطبيقه، بما يحقق المصلحة العامة ويحفظ الاستقرار.
رابعًا: العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي
لفهم العلاقة بين الثقافة السياسية والنظام السياسي، وانطلاقًا من الفرضية الأولى لهذه الدراسة، لابد من التوقف عند الأثر الذي تتركه الثقافة السياسية على بنية النظام السياسي وطبيعته. وكما بيَّنا في تناولنا السابق لمفهوم الثقافة، فإن الثقافة لا تنشأ فجأة، وليست قرارًا سياسيًّا يُتخذ أو إجراءً عابرًا يُنفَّذ، بل هي نتاج تراكمات سلوكية تمتد لعقود، بل لقرون، تتجذر في وجدان الشعوب وتشكل أخلاقهم وتصوراتهم واختياراتهم وطريقة حياتهم. ومن هذا المنطلق، فإن الثقافة تمثِّل البيئة الحاضنة التي يظهر فيها النظام السياسي، ويتشكل ويتطور من خلالها، وذلك عبر الأدوار والسلوكيات التي يمارسها الفاعلون ضمن هذه البيئة.
وانطلاقًا من هذا الفهم، نلاحظ أن رواد حقل النظم السياسية ركزوا في تعريفاتهم للنظام السياسي على مفهوم “الدور”. فمثلًا، يشير ثروت بدوي في تعريفه للنظام السياسي إلى أن “الدور هو ما تقوم به عناصر القوى المختلفة التي تسيطر على الجماعة، وكيفية تفاعلها مع بعضها”(35). ويذهب غابرييل ألموند (Gabriel A. Almond) إلى أن ميزة مفهوم الدور مقارنةً بمصطلحات مثل المؤسسات أو التنظيمات أو الجماعات تكمن في كونه أكثر شمولًا وانفتاحًا؛ إذ يمكنه أن يشمل المناصب الرسمية وغير الرسمية، والعائلات، والهيئات الانتخابية، والحشود، والتجمعات المؤقتة والمستمرة، وما شابهها، طالما أنها تدخل في النظام السياسي وتؤثر عليه(36).
وبناءً على هذا التوسع المفاهيمي، بنى ألموند تعريفه للنظام السياسي انطلاقًا من مفهوم “الدور”، معتبرًا أن الدور يتضمن “مجموعة من التوقعات المتبادلة المتعلقة بأفعال صاحب الدور، وأفعال من يتعامل معهم”. ومن ثم، يمكن تعريف النظام السياسي على أنه “بنية من الأدوار المتفاعلة، التي تُنتج نمطًا معينًا من التفاعلات داخل النظام”(37). ومن هنا، اعتبر ألموند أن الدور هو الوحدة الأساسية في النظام السياسي. وينسجم هذا التصور مع ما طرحه بارسونز وشيلز (Parsons and Shils)؛ حيث عرَّفا “الدور” بأنه: “ذلك القطاع المنظَّم الذي يخص توجهات الفاعل، وهو الذي يُحدد مشاركته في العملية التفاعلية”(38). وإذا ما استقرَّت هذه العملية التفاعلية، فإنها تُنتج نظامًا سياسيًّا.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول: إن هذا “الدور” أو “القطاع المنظَّم” لا يُنتَج بمعزل عن السياق الثقافي، بل يتشكَّل داخل الإطار الذي تحدده الثقافة السياسية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الثقافة العامة للمجتمع. ويؤكد هذا الطرح ما ذهب إليه لوسيان باي (Lucian Pye)، حين أشار إلى أن “الثقافة السياسية هي نتاج للتاريخ المشترك للنظام السياسي، وتاريخ الحياة للأفراد الذين يقررون عمل النظام السياسي، وهي تُغذَّى بالأحداث العامة والخبرات الفردية”(39). ومن ثم، تتضح أهمية الثقافة السياسية في تشكيل الأدوار التي تقوم بها قوى المجتمع، ما ينعكس بدوره على بنية النظام السياسي.
فالثقافة السياسية تعبِّر، في جوهرها، عن الطريقة التي تنظر بها الجماعة إلى الحكم والسلطة، وعن طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع. وهي تتجسد في مجموعة من الرؤى والمعايير والاتجاهات المشتركة التي يحملها الأفراد تجاه نظامهم السياسي. وهي لا تقتصر على مواقف ظرفية تجاه شخص بعينه، كرئيس الدولة أو رئيس الحكومة، بل تتجاوز ذلك لتعبِّر عن نظرة شاملة إلى شرعية النظام السياسي ومؤسساته واستحقاقاته. وكما أوضح لوسيان باي (Lucian Pye)، فإن الثقافة السياسية هي “مجموعة من القيم والمشاعر والمعرفة الأساسية التي تكمن وراء العملية السياسية”. وبالتالي، فإن اللبنات الأساسية للثقافة السياسية تتمثل في معتقدات المواطنين، وآرائهم، ومشاعرهم تجاه شكل الحكومة التي يعيشون في ظلها(40).
انطلاقًا من كل ما سبق، يظهر بوضوح مدى الارتباط الوثيق بين الثقافة السياسية وبناء النظام السياسي. غير أن السؤال الجوهري الذي تطرحه الفرضية الأولى لهذه الدراسة لا يقف عند حدود هذا الارتباط، بل يتجاوزه إلى استكشاف أثر هذه العلاقة في تحقيق الاستقرار السياسي. ومن هنا، تقتضي الضرورة التطرق إلى مفهوم “الاستقرار السياسي” بوصفه المدخل التحليلي التالي لتقييم نتائج هذا التفاعل.
خامسًا: الشرعية السياسية جسرًا بين الثقافة المجتمعية والنظام السياسي
يُعدُّ الاستقرار السياسي، كغيره من مفاهيم العلوم الاجتماعية، من المفاهيم الإشكالية التي يصعب حصرها في تعريف جامع مانع. ومع ذلك، يمكن مقاربته من خلال بعض أبرز التعريفات التي تناولته في الأدبيات السياسية.
فمثلًا، تُعرِّف الموسوعة البريطانية (Britannica) النظام السياسي المستقر بأنه “ذلك النظام الذي يتمكن من البقاء خلال الأزمات من دون الدخول في حروب أهلية”(41). بينما يرى آلان بال (Alan Ball) أن الاستقرار السياسي هو “حالة من الاتفاق العام في الرأي بين النخب والجماهير حول القواعد التي يعمل بها النظام السياسي، وارتباط ذلك بمفهوم الشرعية”(42).
أما المفكر الأميركي، صموئيل هنتنغتون (Samuel Huntington)، فقد خصَّص مبحثًا كاملًا لمفهوم الاستقرار السياسي في كتابه النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، وخلص فيه إلى أن “استقرار أي نظام سياسي يستند إلى العلاقة بين مستوى المشاركة السياسية ومستوى المؤسساتية السياسية”(43).
من جانبه، قدَّم كلود أكي (Claude Ake) في مقاله المعنون “تعريف الاستقرار السياسي”، والمنشور عام 1975، مقاربة ترى أن الاستقرار السياسي هو “حالة تتميز بالحفاظ على حكومة أو نظام سياسي يعمل بسلاسة، مع تجنب الاضطرابات الكبرى أو التغيرات الجذرية لفترة زمنية طويلة”. ويضيف أن الاستقرار السياسي يتجلَّى في وجود مؤسسات وسياسات ثابتة، وفي احترام قواعد النظام العام، وتطبيق سيادة القانون بوصفها ضمانة للاستمرارية والتنظيم داخل المجال السياسي(44).
وبالنظر إلى هذه التعريفات مجتمعة، يمكن استخلاص عنصر مشترك بينها يتمثل في الدور المحوري الذي يقوم به المجتمع في تحقيق استقرار النظام السياسي. فبحسب هذه الرؤى، لا يتحقق الاستقرار إلا عبر التفاعل المنظم بين النخب والجماهير من جهة، وبين المواطنين والسلطة السياسية من جهة أخرى، وهو تفاعل لا يمكن أن يتم من دون حدٍّ أدنى من القبول المجتمعي للنظام السياسي ورضا الأفراد عنه.
وفي هذا السياق، يرى عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر (Max Weber)، أن “النظام الحاكم يُعد شرعيًّا إلى الحدِّ الذي يشعر فيه المواطنون بأن هذا النظام صالح، ويستحق التأييد والطاعة”(45). ويُظهر هذا التعريف أن الشرعية تمثل التعبير السياسي عن الرضا الجماهيري، وأن هذا الرضا هو الشرط اللازم لتحقيق التفاعل المستقر والمستمر بين السلطة والمجتمع.
ومن هنا، يتضح أن الشرعية هي الرابط الجوهري بين ثقافة المجتمع والنظام السياسي، فهي الجسر الذي تمر من خلاله المواقف والمشاعر والتصورات الجمعية إلى النظام السياسي على شكل دعم أو اعتراض. وكلما زادت الشرعية التي يمنحها الأفراد للنظام السياسي، زادت فرص تحقيق الاستقرار السياسي، وهو ما يُعزِّز الفرضية الثانية التي تنطلق منها هذه الدراسة.
سادسًا: الشرعية السياسية: الرابط الحيوي بين الثقافة المجتمعية والنظام السياسي
يحظى مفهوم الشرعية باهتمام بالغ في الفكر السياسي، لما له من أثر حاسم على استقرار النظام السياسي. وكان جون لوك (John Locke) من أوائل المفكرين الذين تناولوا هذا المفهوم بشكل منهجي؛ إذ رأى أن الشرعية السياسية تتأسس على علاقة رضا واتفاق بين الحاكم والمحكوم، وأن هذه العلاقة هي المحور الأساسي الذي تستمد منه الإرادة الحاكمة مشروعيتها. وقد اعتبر أن إرادة الأغلبية تُعبِّر عن هذه الشرعية، باعتبارها نابعة من مثاليات تنطلق من المنطق الفردي والأخلاقيات الجماعية السابقة على أي قانون، والمتطابقة مع مفاهيم العدالة الطبيعية(46).
وعلى الرغم من أهمية طرح جون لوك، فإن ماكس فيبر (Max Weber) كان الأعمق تأثيرًا في هذا النقاش؛ إذ ناقش مفهوم الشرعية في عدد من مقالاته التي جمعها ووسَّعها لاحقًا في كتابه “نظرية التنظيم الاقتصادي والاجتماعي”، الصادر عام 1947. وقد ربط فيبر بين مفهومي الطاعة وشرعية النظام السياسي، مشيرًا إلى أن الجماهير تمنح الشرعية للنظام من خلال رضاها عنه، بل وتمنح القادة السياسيين مكانة مرموقة، وهو ما اعتبره الأساس لأي نظام سياسي، بل وأساسًا لطاعته. ويقول فيبر: “أساس كل نظام سلطة، وبالتالي كل نوع من الاستعداد للطاعة، هو الاعتقاد الذي يمنح الأشخاص الذين يمارسون السلطة مكانة مرموقة”(47).
وقد سبق ذلك تأكيده على أن شرعية النظام تستند إلى ثلاثة أسس رئيسية: عقلانية، وتقليدية، وكاريزمية (شخصية قيادية)، وجميعها تقوم على قاعدة رضا الجماهير، وتُترجم عمليًّا في شكل طاعة للنظام الحاكم(48). وقد أثَّر هذا الطرح في تصور الدارسين لحقل النظم السياسية، حتى صار مرجعًا أساسًا لفهم مفهوم الشرعية. ويتضح من تعريف فيبر أن الطاعة لا تُبنى على القوة أو القسر فحسب، بل على إيمان المحكومين بشرعية النظام، وهو ما يتشكل بدوره من خلال القيم الاجتماعية والثقافية التي تجعل النظام مقبولًا في نظر المواطنين.
ومن هنا، يمكن القول: إن إضفاء صفة الشرعية على النظام السياسي لا يتم إلا عبر عملية توافق بين الثقافة السياسية التي يتبناها النظام أو يروِّج لها، والقناعات السائدة لدى أفراد المجتمع الذين يخضعون له. فشرعية النظام تتوقف على مدى تأييد المجتمع وقناعته بفاعلية النظام، وبقدر ما يزداد هذا التأييد، تزداد قوة الشرعية، ويترسخ معها الاستقرار السياسي(49).
وعليه، نستنتج أن الشرعية هي الأساس الذي يُبنى عليه استقرار النظام السياسي(50). فهي تُعد من أكثر المفاهيم اقترانًا بظاهرة الاستقرار السياسي؛ إذ تُشكِّل أحد المقومات الجوهرية التي يعتمد عليها النظام السياسي في الحفاظ على تماسكه واستمراريته. وفي الوقت ذاته، يعد الاستقرار السياسي ذاته مصدرًا من مصادر شرعية النظام ودليلًا على استمرار السلطة السياسية(51).
ومن هنا ندرك أن استقرار المجتمع، في أي صورة كان، يُمثِّل شرطًا بنيويًّا لوجود بيئة ثقافية تُمكِّن من تكوين النظام السياسي وتطويره. ويُستنتج من ذلك أن الاستقرار السياسي يتحقق حين يوجد توازن بين النظام السياسي وبيئته الاجتماعية، وعلى رأس مكوناتها الثقافة السياسية، شريطة أن يعكس النظام القيم الثقافية والاجتماعية الأساسية للمجتمع(52).
وبذلك، تُصبح الثقافة السياسية هي مجموعة الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تُضفي على العملية السياسية معنىً ومشروعية، وتوفِّر القواعد المستقرة التي تحكم سلوك الأفراد داخل النظام السياسي. وهي، بذلك، تُحدد الإطار العام الذي تحدث فيه التصرفات السياسية، وتُعبِّر عن المُثل والمعايير السياسية التي يلتزم بها أعضاء المجتمع، حكَّامًا ومحكومين(53). وتعد هذه القيم والمعتقدات، في جوهرها، مستمدة من ثقافة المجتمع نفسه. أما الشرعية، فهي الجسر الذي يربط بين هذه القيم والسلطة السياسية، التي تنشئ النظام السياسي وتديره على أساس تلك الثقافة، إدراكًا منها أن هذا هو السبيل لتحقيق الاستقرار(54).
خاتمة
توصلت هذه الدراسة إلى أن الثقافة السياسية تعد عنصرًا حاسمًا في بناء النظام السياسي واستقراره؛ إذ كشفت أن الشرعية تُشكِّل عامل الربط الأساسي بين ثقافة المجتمع والنظام السياسي. فالشرعية، التي تنبع من رضا المجتمع وقبوله بالنظام السياسي، تُسهم في تعزيز الاستقرار من خلال دعم الطاعة الطوعية، وتنظيم التفاعل بين الحاكم والمحكوم ضمن إطار ثقافي مشترك.
وقد بينت الدراسة أن الأنظمة السياسية التي تجاهلت الخصوصيات الثقافية لمجتمعاتها، كما هي الحال في العديد من الدول العربية التي نشأت بعد مرحلة الاستعمار، غالبًا ما واجهت أزمات متكررة وفشلت في تحقيق الاستقرار، نتيجة افتقارها للشرعية المجتمعية. فالشرعية، بوصفها تعبيرًا عن رضا الشعب عن النظام السياسي وطاعته له، لا يمكن فصلها عن السياق الثقافي الذي تنشأ فيه. وهي، في المحصلة، نتاج لبيئة سياسية مستقرة تنبع من ثقافة المجتمع، التي تولِّد بدورها ثقافة سياسية تعكس القيم والمعتقدات الجمعية، وتؤثر في سلوك الأفراد والمؤسسات، وتنعكس على فاعلية النظام وقدرته على التكيف مع التحديات.
وفي ضوء ما توصلت إليه هذه الدراسة، تبرز الحاجة إلى عدد من الإجراءات التي من شأنها تعزيز التوافق بين الثقافة السياسية والنظام السياسي وتحقيق الاستقرار المنشود، منها: تأسيس الأنظمة السياسية في المنطقة العربية على أسس ثقافية محلية، تأخذ في الاعتبار القيم والتقاليد المجتمعية، بما يعزز الشرعية ويُكسب النظام قبولًا شعبيًّا واسعًا. وكذلك تعزيز المشاركة السياسية الفاعلة من قِبل المواطنين، بوصفها عاملًا جوهريًّا في دعم الشرعية، وتحقيق توازن صحي بين النظام السياسي وبيئته الاجتماعية؛ فضلًا عن التركيز على بناء مؤسسات سياسية متجذرة في السياقين، الثقافي والتاريخي، للمجتمع، مع ضرورة أن تتميز هذه المؤسسات بمرونة تسمح لها بالتكيف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية.
كما تقتضي هذه الإجراءات تشجيع الحوار الثقافي والسياسي بين النخب والجماهير، من أجل بناء توافق واسع حول قواعد النظام السياسي، بما يقلِّل من احتمالات الاضطراب السياسي ويُعزِّز التماسك الوطني، إلى جانب الدعوة إلى المزيد من الدراسات التطبيقية التي تتناول ديناميكيات الثقافة السياسية في الدول العربية، خصوصًا في سياق إعادة بناء الأنظمة السياسية بعد الثورات، بهدف رسم سياسات تستجيب للواقع الثقافي والاجتماعي.
وبذلك، تُبرز هذه الدراسة أهمية التوافق بين الثقافة السياسية والنظام السياسي بوصفه مدخلًا أساسيًّا لتحقيق الاستقرار، والفاعلية، والاستدامة في النظم السياسية، وتُؤكد أن تجاهل هذا التوافق يُفضي إلى هشاشة النظام السياسي، وتكرار الأزمات، وضعف القدرة على التماسك في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
المراجع
(1) المنهج القانوني-المؤسسي (Legal-institutional approach)، المنهج النظمي (System Approach)، المنهج البنيوي-الوظيفي (The functional-structural approach)، منهج صنع القرار (Decision making approach)، منهج المجتمع (Community Approach)، منهج الثقافة السياسية (Political Culture Approach)، منهج الديمقراطية التوافقية (Consensual democracy Approach).
(2) فيصل براء متين المرعشي، حمزة ملَّا عثمان، “اقتراب الثقافة السياسية – Political Culture Approach”، الموسوعة السياسية، 5 يونيو/حزيران 2018، https://political-encyclopedia.org/dictionary/اقتراب الثقافة السياسية (تاريخ الدخول: 4 أبريل/نيسان 2025).
(3) محمد شلبي، المنهجية في التحليل السياسي: المفاهيم، المناهج، الاقترابات، والأدوات (الجزائر: جامعة الجزائر، كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية، 1997)، 119-120.
(4) طه الهنبكي ونرجس العقابي، أصول البحث العلمي في العلوم السياسية (بيروت: مكتبة مؤمن قريش، 2015)، 63.
(5) فيصل براء متين المرعشي، ياسمين يوسف المعايعة، “اقتراب تحليل النظم – الاقتراب النسقي – System Analysis Approach”، الموسوعة السياسية، 2 أبريل/نيسان 2018، https://political-encyclopedia.org/dictionary/اقتراب تحليل النظم – الاقتراب النسقي (تاريخ الدخول: 21 ديسمبر/كانون الأول 2024).
(6) أميرة مصطفى، “اقتراب صنع القرار في السياسة الخارجية”، المعهد الوطني الديمقراطي، 29 يونيو/حزيران 2019، https://democraticac.de/?p=61480.
(7) Muhammad, Touseef, Binish Khan, S. S. Ali, Hasnain Nazar Abbas, and Syed Ahsan Raza. “The Influence of Cultural Values and Norms on Political Attitudes and Behavior: A Sociological Study.” Advanced Qualitative Research 1, no. 2 (2023): 40–50. doi: 10.31098/aqr.v1i2.1744.
(8) Mabel Berezin, Emily Sandusky, and Thomas Davidson. “Culture in Politics and Politics in Culture: Institutions, Practices, and Boundaries.” (2020): 102–131. doi: 10.1017/9781108147828.005.
(9) Mamadouh, V. D. “Political Culture: A Typology Grounded on Cultural Theory.” GeoJournal 43, no. 1 (1997): 17–25. http://www.jstor.org/stable/41147116.
(10) Jan-Erik Lane and Svante Ersson. Culture and Politics: A Comparative Approach. 2018.
(11) Graham Day. Community. 2018, 40–42. doi: 10.1002/9781394260331.ch12.
(12) Swechaa Siingh. “Impact of Cultural Values and Norms on Political Attitudes and Behaviour: An Analysis from a Sociological Perspective.” Journal of Advances and Scholarly Research in Allied Education. 2023. doi: 10.29070/hsenxj86.
(13) بن حسين سليمة، “مفهوم اقتراب الثقافة السياسية عند غابريال آلموند وسيدني فيربا”، مجلة المفكر، المجلد 16، العدد 2 (2021): 77–103.
(14) محسن جابر، “الثقافة السياسية وأثرها على النظام السياسي”، مجلة العلوم الاقتصادية والسياسية، كلية الاقتصاد والتجارة، زليتن، الجامعة الأسمرية الإسلامية، العدد السابع، يونيو/حزيران 2016.
(15) عزمي بشارة، “الثقافة السياسية: ملاحظات عامة”، تبين، العدد 45، المجلد 12.
(16) لمحات في الثقافة الإسلامية – الثقافة في نطاق اللغة، المكتبة الشاملة، ص 23، https://shamela.ws/book/11364/19#p2.
(17) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 4 (دمشق: دار الفكر، 1984)، 20.
(18) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: مشكلة الثقافة، 1984، 24–26.
(19) Edward B. Tylor. Primitive Culture. Vol. 1. 1920, p.1. https://archive.org/details/in.ernet.dli.2015.42334/page/n15/mode/2up.
(20) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: مشكلة الثقافة، 1984، 24.
(21) مالك بن نبي، مشكلات الحضارة: مشكلة الثقافة، 1984، 77.
(22) مجموعة من المؤلفين، مجلة جامعة أم القرى، ص 236. https://shamela.ws/book/1190/2736.
(23) نفس المرجع.
(24) نفس المرجع.
(25) سليمة، 2021، ص 81.
(26) Almond, G. A. “The Study of Political Culture.” In Culture and Politics, edited by Lawrence Crothers and Charles Lockhart. New York: Palgrave Macmillan, 2000. https://doi.org/10.1007/978-1-349-62397-6_1.
(27) جابر، 2016، ص 309.
(28) جمال سلامة علي، النظام السياسي والحكومات الديمقراطية (بيروت: دار النهضة العربية، 2007)، 97.
(29) كريم فرمان، كيفية عمل النظام السياسي: مبادئ نظرية مع دراسة تطبيقية على النظم السياسية في سلطنة عُمان، الجزائر، فرنسا، إيطاليا (بيروت: الدار العربية للموسوعات، 2009)، 7.
(30) ثروت بدوي، النظم السياسية (القاهرة: دار النهضة العربية، 1975)، 11.
(31) Almond, G. A., and G. B. Powell. “The Political System.” In Comparative Government, edited by Jean Blondel. London: Palgrave, 1969, 10. https://doi.org/10.1007/978-1-349-15318-3_2.
(32) Ibid., 11.
(33) Samuel P. Huntington. Political Order in Changing Societies. 7th printing. New Haven: Yale University Press, 1973, 1–2.
Ibid., 1. (34)
(35) ثروت بدوي، مرجع سابق، ص 11.
(36) Almond, Gabriel A. “Comparative Political Systems.” The Journal of Politics 18, no. 3 (August 1956): 394.
(37) Ibid., 394.
(38) Almond, 1956, 393.
(39) Lucian W. Pye. “Introduction: Political Culture and Political Development.” In Political Culture and Political Development, edited by Lucian W. Pye and Sidney Verba. Princeton: Princeton University Press, 1965, 8.
(40) Winkler, Jürgen R. “Political Culture.” Encyclopedia Britannica, June 19, 2023. https://www.britannica.com/topic/political-culture (accessed September 11, 2023).
(41) Heslop, Alan. “Political Stability. https://www.britannica.com/topic/political-system/Stable-political-systems.
(42) حيدر عبد جساس، “العوامل المؤثرة في الاستقرار السياسي ودورها في التنمية المستدامة”، المجلة السياسية الدولية، العدد 54، ص 268.
(43) صموئيل هنتنغتون، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، ترجمة سمية فلوّ عبود (بيروت: دار الساقي، 1993)، 102.
)44( Claude Ake. “A Definition of Political Stability.” Comparative Politics 7, no. 2 (1975): 271–283.
(45) جابر، 2016، ص 328.
(46) ميساء عواد ومحمد القطاطشة، “أزمة الشرعية السياسية في الأنظمة العربية”، مجلة اتحاد الجامعات العربية للبحوث في التعليم العالي، العدد 3، المجلد 43، المقال 10، 2023، ص 198. https://digitalcommons.aaru.edu.jo/cgi/viewcontent.cgi?article=1265&context=jaaru_rhe.
( 47) Max Weber. The Theory of Social and Economic Organization. Oxford: Oxford University Press, 1947, 124–126.
(48) Ibid., 382.
(49) Ibid., 130.
(50) جابر، 2016، ص 328.
(51) محمد الصالح بوعافية، “الاستقرار السياسي: قراءة في المفهوم والغايات”، دفاتر السياسة والقانون، العدد 15، يونيو/حزيران 2016، ص 323.
(52) بوعافية، ص 320.
(53) مروة محمد عبد المنعم، “الثقافة السياسية والاستقرار السياسي: دراسة حالة الإمارات العربية المتحدة (2004–2020)”، مجلة كلية السياسة والاقتصاد، جامعة أسيوط، العدد 11، يوليو/تموز 2021، ص 8.
(54) نفس المرجع، ص 10.
* د. أحمد عبد الواحد الزنداني، أستاذ مشارك بقسم العلاقات الدولية، كلية أحمد بن محمد العسكرية، قطر.
Dr. Ahmed Abdulwahid Al-Zandani, Associate Professor at Ahmed Bin Mohammed Military College, Qatar.