ارتبطت حالة العراق بعد الغزو الأميركي، عام 2003، بالانقسام الطائفي، لكن وجود الطوائف ذاته ليس من صناعة الاحتلال ولا من نتائجه، وإن كان استخدمها أو أسهم على الأقل في تغولها وطغيانها على العمل السياسي.
تحولت الطائفية بعد الاحتلال الأميركي إلى ظاهرة سياسية اكتسبت بُعدًا رسميًّا من خلال توزيع المناصب فيما سُمي بالمحاصصة منذ مجلس الحكم في يوليو/تموز 2003، لكن أثر ذلك ظل محصورًا بالنخب السياسية ولم تشهد امتدادًا اجتماعيًّا مباشرًا.
غير أن هذا الوضع تغير لاحقًا، وبشكل خاص مع نشوب الحرب الطائفية في العامين 2006-2007، حيث اخترقت الطائفية الكيان الاجتماعي، وسيطرت على المناخ العام، ونجحت لفترات في تقسيم المجتمع، وإنهاكه، وجرى على أساسها استخدام العنف في إعادة التشكيل الديمغرافي بشكل واسع النطاق، ورسم خطوط فصل جغرافية في المناطق المختلطة، لاسيما في بغداد وديالى.
وبرغم بروزها بعد استخدامها السياسي الواسع، فالطائفية في العراق، ليست حالة محلية، بل هي جزء من سياق أوسع، يشمل عموم المنطقة، بدأت بواعثه المعاصرة القوية والواضحة مع الثورة الإسلامية في إيران 1979 التي فرضت مفاهيم التشيع السياسي في المنطقة لاسيما من خلال أذرع وامتدادات فكرية وعسكرية بدأت مع حزب الله في لبنان وتواصلت مع العشرات من الميليشيات في العراق واليمن وسوريا، ثم تعززت الظاهرة الطائفية بظهور تنظيم القاعدة الذي قدم تصورًا جهاديًّا سنيًّا منذ ثمانينات القرن الماضي وتمكن من تحقيق حضور عقائدي، حتى في الدول العربية التي لا تعرف تنوعًا طائفيًّا سنيًّا شيعيًّا.
وجاء الاحتلال الأميركي للعراق ليحول الظاهرة الطائفية المتصاعدة في المنطقة إلى حالة مؤسسية، سرعان ما فرضت أنماطها، وانتشرت تداعياتها الدموية في دول الإقليم، وظهرت بوضوح مع أول فرصة لضعف الدولة في سوريا، وخلقت توترًا متواصلًا في البحرين والسعودية، وحربًا مدمرة في اليمن.
وسواء كان تصاعد ظاهرة الانقسام الطائفي في العراق سببًا في نشرها ضمن سياق إقليمي أم إنها كانت نتيجة لهذا السياق، فإن الظاهرة بحد ذاتها صارت سببًا مباشرًا للانقسام العمودي في عدة مجتمعات عربية، وتسببت في تغيير عميق للأولويات الوطنية والقومية وفي النظرة للذات وللآخر.
لقد تسبب السياسات التي رافقت الاحتلال الأميركي وتلته، في تكريس عملية توزيع السلطة والنفوذ والثروة على أساس طائفي وعرقي وتحويلها من تقليد سياسي فرضته سلطة الاحتلال، إلى نمط اجتماعي، اتخذ طابعًا عنيفًا ودمويًّا، ولم يهدأ نسبيًّا إلا بعد إنجاز عمليات التغيير الديمغرافي واسعة النطاق.
وفيما كانت الخلافات حول قضايا وحوادث تاريخية ومرجعيات عقائدية هي السبب المزمن في الانقسام بين الشيعة والسُنَّة، فإن التنافس على السلطة والموارد والمكانة كانت دوافع إضافية وراء مظاهرها وتجلياتها الحديثة، وقد أدت مأسسة الهويات الطائفية إلى نشوب صراعات حول مكانة وحدود وقوة كل طائفة، وقد كان لهذه الصراعات أثر مزعزع للاستقرار، خاصة عندما كانت تضفي مشروعية على أعمال الجماعات التي تمارس العنف وتدعي تمثيل طوائفها(1).
وبرغم تصريحات المسؤولين والسياسيين العراقيين المتكررة عن ضرورة إلغاء نظام (المحاصصة) الطائفية والعرقية في تشكيل الحكومات وفي بناء الهيكل الإداري للدولة، إلا أن أيًّا من هذه الدعوات لم يتحقق، وظل الجميع متفقين على العرف السياسي الذي بدأ تطبيقه عام 2005
باختيار رئيس جمهورية كردي ورئيس وزراء شيعي ورئيس مجلس نواب سني، كما جرى اختيار نواب لكل من هؤلاء الرؤساء بموجب نفس المعيار.
وقد كان يفترض بهذه الآلية أن تكون مؤقتة، لاسيما أنها ليست جزءًا من الدستور، لكنها تحولت إلى عُرف سياسي دائم على الطراز اللبناني، وتكرر بنفس السياق خلال ثلاثة انتخابات عامة لاحقة، وكانت في واقع الأمر جزءًا من سياق الانقسام العام في الدولة الذي كان ينقل باستمرار أنماطه إلى المجتمع، حتى أصبحت جزءًا مقبولًا من الهيكل الاجتماعي السائد، رغم أنها تسببت بمشكلات لا حصر لها منها مثلًا ظهور كيانات طائفية مسلحة تمارس العنف والعنف المقابل، وتكريس الفساد في مؤسسات الدولة، وتهميش خيار المواطنة لصالح الانتماءات الطائفية والعِرقية، وكذلك انقسام المواقف الداخلية إزاء الأحداث الإقليمية على أساس علاقتها بالانتماءات الطائفية.
لقد انتقلت عدوى الانقسام من الطبقة السياسية إلى المجتمع، ورغم أن هذا الانتقال تأخر نسبيًّا بسبب الرفض الاجتماعي له، لاسيما في العام الأول بعد الغزو الأميركي، لكن إصرار مؤسسات الحكم وتنظيماتها المسلحة وسلطة الاحتلال على تكريسها، وكذلك ظهور تنظيمات مسلحة متطرفة حاربت الاحتلال بدعاوى طائفية (سُنية) عابرة للوطنية، تجسدت بتنظيم القاعدة، تسبب بانتشار الظاهرة الطائفية في المجتمع لاسيما بعد انفجار سامراء، في فبراير/شباط 2006، وما تلاه من نزاع طائفي وعمليات تهجير قسري للسكان على أساس طائفي، من قبل الطرفين.
ورغم أن الانقسام الطائفي يهدأ في بعض الأحيان، حتى لا تكاد تجد له أثرًا يُذكر، إلا أن استثارته في كل مرة ليست بالمعقدة، فقد جرى تكريس هذه الحالة وتحويلها إلى ظاهرة اجتماعية، وباتت هذه تؤثر بدورها على العملية السياسية، فقد أصبح للطوائف والأعراق ممثلون سياسيون، وأذرع مسلحة تتباين بشدة في أحجامها وقوتها، لكنها أصبحت بحد ذاتها، مؤشرًا على عمق الانقسام وجديته العالية.
والحقيقة أن هذا التطور في الانقسام الطائفي الذي حصل في المجتمع العراقي خلال سنوات معدودة بعد الاحتلال الأميركي بات يطرح تساؤلات عن مرجعية هذا الانقسام وجذوره، والأسباب التي مكَّنته من اختراق الكيان الاجتماعي، برغم وجود ميراث طويل ومهم من التعايش وقيام كل طائفة بـ(تهذيب) معتقداتها لتبقى ضمن حدود هذا التعايش والقبول من الطرف الآخر. وهل بات من المقدَّر للحالة الطائفية أن تكون نمطًا اجتماعيًّا مسيطرًا في المستقبل؟
المجتمع العراقي في سياقه التاريخي
لا يمكن اعتبار المجتمع العراقي استثنائيًّا في تعدد طبقاته وأقسامه وفي تنوعه الإثني والطائفي والديني ولا في تحولاته عبر الزمن، فهو في ذلك يشبه الكثير من مجتمعات العالم، لكن تميزه يبدو واضحًا قياسًا بمعظم بلدان المشرق العربي، والسبب يعود إلى التاريخ والجغرافيا اللتين رسمتا ملامح قاسية للعراق دولة ومجتمعًا، فالعراق هو نتاج تحولات تاريخية كبرى وبالغة التعقيد، وقد جعله موقعه الجغرافي في التخوم الشمالية الشرقية للحوض العربي ساحة استقبال دائمة للهجرات من المحيط الآسيوي(2).
وفيما ذابت كل هذه الهجرات في الوسط الاجتماعي الشامل، فقد حافظ المجتمع العراقي على طابعه التقليدي، وعلى سلطتي التأثير الأساسيتين فيه، وهما كل من السلطة الدينية والسلطة القبلية، وبطبيعة الحال، فقد تفاوت تأثير كل من هاتين السلطتين وعلاقتهما ببعضهما تبعًا للتطورات والأحداث والمتغيرات الإنسانية.
وإذا ما تخطينا ملامح المراحل التاريخية المختلفة، فإنه مع حلول القرن العشرين بدا المجتمع العراقي، الذي تعرض لضربات عنيفة مستمرة دامت نحو ألف عام، مقسَّمًا بطريقة حادة إلى عدد كبير من الجماعات القائمة على أساس القومية أو الدين أو الطائفة أو القبيلة، وكانت هناك هوة واسعة تفصل المدن عن المناطق العشائرية، وكان العرب الحضريون وعرب العشائر ينتمون إلى عالمين يكادان يكونان منفصلين باستثناء سكان المدن الواقعة في عمق المناطق العشائرية أو رجال العشائر الذين يقطنون قرب المدن(3).
وبرغم أن العراق، سواء بسبب موقعه الجغرافي أو جاذبيته الدينية أو الحضارية أو موقعه كمركز اقتصادي أو عاصمة للعالم الإسلامي لأكثر من خمسة قرون، سكنه أقوام عديدون وذابوا في كيانه الاجتماعي والسكاني، ومنهم: الأفغان والهنود والفرس والبلوش والشيشان والأتراك وسواهم، لكن وجود هؤلاء الأقوام إضافة للأقوام الأصليين القاطنين في العراق قبل الفتح الإسلامي مثل الأشوريين والأرمن والكلدانيين ناهيك عن الأكراد والعرب، برغم وجود كل هؤلاء الأقوام فإن الطابع العربي للعراق بات هو السياق المعروف والغالب.
وبعد فتحه عام 15 هجريًّا، أصبح العراق مركزًا لأحداث مفصلية في العالم الإسلامي جرت عقب الفتنة الكبرى، بدءًا من اختيار إحدى مدنه (الكوفة) في عهد الخليفة الرابع، الإمام علي، رضي الله عنه، لتكون عاصمة جديدة للخلافة بعد المدينة المنورة، مرورًا باختيار أرضه لتكون ساحة لأول حرب تجري بين المسلمين ( الجمل وصفين) وصولًا إلى ما حدث فيه من مجزرة بحق الحسين بن علي، رضي الله عنهما، وآل بيته في كربلاء، وليس أخيرًا أهمية مدنه التي كانت حواضر الإسلام والمسلمين لقرون مثل البصرة والكوفة والحلة وبغداد.
هذا المكان تلازم مع هذه المكانة لبناء نمط إنساني واجتماعي خاص… لم تكن الطوائف والمذاهب معروفة بعد لكن انفتاح بغداد على الثقافات والأفكار والأقوام جعلها تشهد ولادة بواكير المذاهب الإسلامية المختلفة التي اندثر بعضها، غير أن ما يعنينا منها اليوم، وهما مذهبا أهل السُنَّة والجماعة والمذهب الشيعي الاثني عشري (الجعفري)، لم يُعرفا بهذين الاسمين إلا في بداية القرن الثالث الهجري وفي نهايته على التوالي.
والحقيقة أن السياقات الاجتماعية والدينية التي أدت إلى ظهور المذهبين، كانت طبيعية بل وضرورية لمواجهة الفرق الغالية التي ظهرت آنذاك(4)، لكن سيطرة أقوام أجانب ذوي رؤية طائفية على سلطة الخلافة العباسية التي بدأت بالوهن، تلاعبت بديناميات التطور الطبيعية، ففي القرنين الرابع والخامس الهجريين سيطر البويهيون، وكانوا من الشيعة الذين قدموا من بلاد فارس، على سلطة القرار وعلى الخليفة في بغداد، وهيَّأ حكمهم الفرصة لانتعاش المذهب الجعفري وظهور أشكال الغلو فيه مثل ظاهرة سبِّ الصحابة وإقامة طقوس العزاء في عاشوراء التي أثارت مشاحنات عديدة مع أهل السُنَّة في بغداد حينذاك.
انهار حكم البويهيين في منتصف القرن الخامس الميلادي بدخول السلاجقة السُنَّة إلى بغداد، لتتكرر دورة الأحداث بالاتجاه المعاكس، وبرغم أن الفترة السلجوقية لم تشهد الكثير من الأعمال الانتقامية من الشيعة إلا أن ما نشره البويهيون وبعدهم السلاجقة في العراق من مفاهيم وأنماط سلوك، وضع بذور التوتر الطائفي التي كبرت بعد ذلك مع استمرار ضعف الدولة وخضوعها للمزيد من القوى الأجنبية.
وبعد غزو المغول لبغداد في عام 656 هجريًّا/1258 ميلاديًّا، جرت استعادة الموضوع الطائفي من جديد، ونقله من الخلاف السياسي والفقهي إلى الوطني والأخلاقي باتهام ابن العلقمي، الوزير الشيعي للخليفة العباسي المستنصر، بالتآمر مع هولاكو وفتحه أبواب بغداد أمام جيوش المغول.
هيَّأ هذا الاتهام موضوعًا جرى استخدامه بانتظام في حالات التوتر الطائفي لمهاجمة الشيعة واتهامهم بالتواطؤ مع الأجنبي، وذلك برغم أن المغول لم يوفروا من عامة أهل بغداد سُنِّيًّا أو شيعيًّا سواء بالقتل أو السبي، لكن تكريس تلك الواقعة كسبب مباشر لدخول بغداد كان بحد ذاته نوعًا من التنميط الطائفي التاريخي، جرى استخدامه من قبل مؤرِّخين ومتطرفين سنة وشيعة في التحشيد والتحشيد المضاد، بغرض الإساءة للطرف الآخر.
كانت القرون التالية لسقوط بغداد فترة انهيارات شاملة استبيح خلالها العراق لقوى أجنبية شتى، فارسية أو تركية، لكن أشدها علاقة بالبُعد الطائفي كان -دون شك- الصفويين والعثمانيين اللذين تصارعا على أرض العراق وتهيَّأ لكل منها أن يحكمه لعقود أو قرون.
لقد أرسى استخدام الطائفية والعنف الطائفي في الصراع الصفوي العثماني على أرض العراق نمطًا أكثر خطورة في دائرة التوتر الطائفي، وقد كرس الصفويون أنماطًا من الغلو في التشيع إلى جانب ما شهدته بغداد خلال القرون الثلاثة التي تلت الغزو المغولي من تراجع فكري واجتماعي، تسبب بانتشار الغلو، وفتح الباب أمام التطرف بكل أشكاله، شيعيًّا كان أم سُنيًّا.
ولكن، وبرغم كل هذا الاضطراب الذي حصل في العلاقة بين سُنة العراق وشيعته إلا أن صراعًا طائفيًّا واسعًا لم يحدث أبدًا، كانت بعض القوى الأجنبية تمارس العنف الطائفي بقسوة وهو ما فعله بشكل خاص الصفويون الذين قتلوا الآلاف من السُنَّة عند اجتياحهم الثاني لبغداد عام 1623 ميلاديًّا، وردَّ الأتراك بعد خمسة عشر عامًا بقتل نحو 30 ألفًا من الشيعة غالبيتهم فرس من جنود الحامية الصفوية، وقد يكون بعض العراقيين شارك في هذا المجزرة أو تلك، لكن حربًا أهلية بالمعنى الحديث للمصطلح لم تجر لسبب طائفي في العراق، وظلت أسباب الكوارث التي حلَّت ببغداد خلال القرون الأربعة الأخيرة تعود إما إلى ما ذكرناه من مجازر يتولاها أو يديرها جيش أجنبي، أو إلى أسباب تتعلق بكوارث تمثلت خصوصًا بالمجاعات والأوبئة والفيضانات التي كانت تقضي في كثير من الحالات على معظم سكان المدينة(5).
بين الوطنية والطائفية
لا تلغي محدودية مظاهر الصراع الطائفي وجود الطائفية ذاتها بل والتعصب الطائفي في بعض الأحيان، لكن لا يمكن تصور استمرار الوجود الشيعي بل وتوسعه في إطار المحيط السني الكبير لاسيما خلال القرون الأربعة الأخيرة إلا بقبول وتفاعل سُنِّي… إن التاريخ لم يتحدث أبدًا عن اضطهاد منظم ومنهجي للشيعة في العراق على أساس انتمائهم الطائفي، بل إن الدولة العثمانية (السُنيَّة) تغاضت عن عمليات التشييع واسعة النطاق التي جرت في العراق خلال القرن التاسع عشر وشملت الكثير من القبائل العربية السُنية القاطنة في مناطق الفرات الأوسط جنوب البلاد المختلفة، بل إنها ربما تكون سمحت بذلك، لخلق كتلة شيعية تكون بمثابة حاجز سكاني يمنع امتداد الفكر الوهابي من الجزيرة العربية إلى سائر أنحاء الدولة، لاسيما بعد غزو آل سعود لمدينة كربلاء وتدمير قبة مرقد الحسين ونهبه عام 1802(6).
إن المتغير الطائفي لم يكن في معظم الأوقات سببًا جوهريًّا لتحريك الأحداث الكبرى في العراق حتى لو كان يتأثر بها في بعض الأحيان، وقد تضاءل دور المتغير الطائفي بشكل أكبر خلال ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني التي اندلعت في صيف عام 1920 واعتمدت بشكل جوهري على القوة القتالية للقبائل العراقية الشيعية والسُنيَّة.
خلال ذلك الحدث نشأت تحالفات قبلية عابرة للطائفية ضد عدو مشترك هو الاحتلال البريطاني، بل إن من بين القبائل السُنيَّة التي شاركت في الثورة، قبائل من الفلوجة والمحمودية قرب بغداد شاركت بشكل خاص استجابة لفتوى الجهاد التي صدرت من المرجعية الشيعية في النجف آنذاك(7).
كانت ثورة العشرين في واقع الأمر مناسبة لإعادة رسم العلاقات السُنيَّة-الشيعية، وتكريس الحالة الوطنية على حساب التعصب الطائفي، وقد تعزز ذلك في عام 1922 حينما قامت مجموعات ممن تُعرف بـ(الإخوان ) الوهابية التابعة لابن سعود بالإغارة على القبائل العراقية الشيعية جنوب الناصرية فقتلت المئات ونهبت الماشية والممتلكات… حينها عُقد مؤتمر في كربلاء برئاسة المرجع الشيعي، الشيخ مهدي الخالصي، وقد كانت مشاركة شخصيات سياسة ودينية سُنيَّة من بغداد والموصل وتكريت وسواها سببًا في ضمور أي تفسيرات طائفية كان يمكن أن يولِّدها مثل ذلك الاعتداء، بل إن أبرز علماء الدين السُنَّة في بغداد أصدروا فتوى شرعية عشية المؤتمر تجيز القتال ضد الوهابيين نصرة للمسلمين الشيعة(8).
كانت ثورة العشرين مناسبة مهمة لترسيخ فكرة الوطنية العراقية حتى قبل تأسيس الدولة المعاصرة، لكن منحها هذه الأهمية كان يعود بالأساس إلى عدم وجود سوابق مماثلة؛ فقد كانت الثورة “أول حدث في تاريخ العراق يشترك فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم”(9)، وقد شاركت فيها جميع الفئات والمكونات الطائفية والعرقية بما فيه الكردية والتركمانية، وكذلك المستويات الطبقية، وسكان المدن والأرياف، كل ذلك كان جديدًا وغير مسبوق في مواجهة عدو مشترك هو الاحتلال البريطاني، كما أن هذا النمط من التوافق الشعبي العابر للطائفية لم يتكرر بعد ذلك بنفس النمط البعيد عن تدخل الدولة الوطنية التي لم تكن موجودة أصلًا، وقد يكون ذلك التفرد هو ما يعطي لثورة العشرين أهميتها الخاصة في تاريخ العراق.
لكن تفرد الوحدة العابرة للطائفية خلال ثورة العشرين قبل نحو مئة عام، لا يلغي حقيقة أن هذه الوحدة لم تكن مقصودة بذاتها، بل إنها كانت سببًا مهمًّا في نجاح الثورة، وهذا يعني أن السياق العام الذي جرت فيه تلك الأحداث كان يخلو من صراعات أو خلافات أو سوء فهم طائفي عميق كان حريًّا به أن يمنع مشاركة الجميع في الثورة، بل إنه كان سيوفر للبريطانيين فرصة النفاذ من تلك الخلافات لو كانت موجودة لإجهاض فرص أية ثورة ممكنة.
لكن غياب الخلافات الجدية لا يعني بطبيعة الحال تلاشي الفوارق الطائفية، فوجود الطائفتين الكبيرتين في العراق جزء من سماته العامة منذ قرون، والعراق هو موطن التشيع العربي، وقد عُرفت مدنه مثل بغداد والحلة وسامراء وكربلاء والنجف كمراكز لشيوخ الطائفة أو المراجع -بالتعبير اللاحق- لعموم شيعة العالم، وهذا القدم في تمركز الزعامة الدينية والمحافظة على تقاليد الطائفة وسط العالم الاسلامي ذي الغالبية السُنيَّة، كان قد حوَّل الطائفة الشيعية بشكل خاص إلى هوية، وكانت هذه الهوية تتعمق وتشتد أهميتها مع ضعف الدولة، أو مع حالات الاستهداف الطائفي.
فكرة المظلومية
كرست ثورة العشرين هوية وطنية بروح جديدة في لحظة تاريخية شديدة الأهمية، لكن المشاركة الجماعية في الثورة لم تكن كافية في واقع الحال لجعل الوحدة الجامعة سياقًا متصلًا وثابتًا في العراق الحديث؛ إذ سرعان ما بدأت المصالح ومنها المصالح والهواجس الطائفية بالافتراق، وظهرت خلافات لا تعود إلى المواقف التقليدية المتعلقة بالفقه والتاريخ، بل كانت خلافات سياسية بدأت من عدم الاتفاق على ما تلا الثورة من مواقف إزاء الاحتلال وخطوات تأسيس الدولة، وامتدت إلى النفوذ والمكانة والسلطة. ولم يكن لدى الذين شاركوا في الثورة من الشيعة والسُنَّة، تصور لطبيعة توزيع النفوذ في الدولة المتخيلة، ولم يكن هناك أصلًا برنامج سياسي متفق عليه، سوى رحيل الاحتلال، لذلك كان لابد من أن يتأسس الاختلاف مع تأسيس الدولة، أو مع بدء الاحتلال البريطاني في العمل باتجاه ذلك، وعند هذه النقطة بدأ تشكُّل فكرة (المظلومية الشيعية) بصيغتها المعاصرة.
كانت النخب الشيعية هي الأكثر حماسة للثورة ضد البريطانيين، قبل ثورة العشرين وبعدها، وشجَّع على ذلك المرجع الشيعي الجديد، الميرزا محمد تقي الشيرازي، الذي تولى المرجعية بعد وفاة سلفه، محمد كاظم اليزدي، في عام 1919. كان الشيرازي خصمًا قويًّا للاحتلال، وله دور جوهري في تشجيع الثورة والدعوة لها، وقبيل تأسيس الدولة العراقية بتنصيب الملك فيصل بن الحسين، في أغسطس/آب 1921، بقليل، كان البريطانيون قد استفزوا الشيعة بتشكيل حكومة انتقالية تغلب عليها الشخصيات عليها السُنيَّة، فعاد الشيعة إلى “ممارسة نشاطهم السياسي لأنهم أدركوا أن الإنكليز على استعداد للتضحية بنفوذهم”(10). وعند اختيار الأمير فيصل بن الحسين ليكون ملكًا على العراق، لم يرفضه الشيعة، بل إن الشيرازي كان قد أرسل لوالده، الشريف حسين، مبعوثًا خاصًّا قبل ذلك بسنوات مؤيدًا ومباركًا، وكان التحفظ الأبرز على فيصل أنه كان مرشحًا من قبل البريطانيين. وفي المجمل، كان شيعة العراق يشعرون بأنهم يخسرون بسبب الجهود البريطانية التي تعمل ضدهم(11).
أسهمت الترتيبات البريطانية الخاصة بتأسيس العراق الحديث، في خلق شعور لدى الشيعة بالتهميش لحساب السُنَّة، وكان ذلك تكريسًا لميراثٍ تواصَلَ بعد ذلك. لكن البريطانيين لم يكونوا السبب الوحيد في خلق وتنمية (عقدة الدولة) عند الشيعة، فقد كان هذا الواقع من النتائج العَرَضية غير المقصودة لمواقف المجتهدين الشيعة حينما فرضوا حظرًا على قبول المناصب الحكومية في اطار معارضتهم للوجود البريطاني في العراق والحكومة العراقية بالطريقة التي شُكِّلت بها في أوائل العشرينات(12)، ومن بين أبرز ما صدر من فتاوى بهذا الخصوص، فتوى المرجع الأعلى، الشيرازي، في مارس/آذار 1920، وفتوى الشيخ، مهدي الخالصي، في عام 1921، بتحريم قبول مناصب حكومية معتبِرًا ذلك عملًا من أعمال التعاون مع الكفار. وقد واصل الخالصي معارضته الشديدة لكل الإجراءات الحكومية طالما بقي الاحتلال البريطاني ممثَّلًا بالمندوب السامي، وأفتى بتحريم المشاركة في الاستفتاء على الدستور؛ مما تسبب بنفيه عام 1923 إلى إيران من قبل رئيس الوزراء، عبد المحسن السعدون، وقد رفض الخالصي بعد سنوات عرضًا بالسماح له بالعودة مقابل عدم تدخله بالسياسة، حتى توفي هناك.
البقاء خارج الدولة
كانت هذه المواقف الشيعية الصارمة من الاحتلال البريطاني والفتاوى الخاصة بتحريم العمل والتعاطي مع الحكومة الجديدة بأي شكل، من الأسباب المهمة لابتعاد جمهورهم عن الدولة وما تمثله من مؤسسات؛ حيث كان الشيعة يحتقرون أي رجل منهم يقبل الاشتراك في الوزارة، فإذا تجرأ أحد منهم ودخل الوزارة نبذوه اجتماعيًّا وربما أهانوه ويشمل ذلك بشكل خاص رجال الدين(13).
وقد واجه الملك فيصل الأول مشكلة أخرى في سعيه لإشراك الشيعة في الجهاز الإداري للدولة، يتمثل في ندرة حَمَلَة المؤهلات العلمية من الشيعة في ذلك الوقت وبالتالي قلة عدد من يملكون معايير التعيين في الوظائف العامة. وقد عالج الملك ذلك بأن طلب إيجاد فرص دراسية استثنائية باستحداث الدراسات المسائية التي كان هدفها استيعاب الشيعة كبار السن الذين تجاوزوا العمر القانوني للدراسة، كما أمر الملك بإقامة دورات سريعة مكثفة لتدريب الشباب الواعدين من الشيعة في الوظائف الحكومية ومنحهم فرصة الارتقاء السريع إلى مواقع المسؤولية(14).
وتؤشر إحصائية، عن الخلفية المهنية للزعماء السياسيين العراقيين خلال العهد الملكي (1921- 1958) عن أن الشيعة مثَّلوا نحو نصف عدد نظرائهم من السُنَّة وضِعف الأكراد، ولم تكن هناك أية شخصية شيعية من بين 25 عسكريًّا تولوا مناصب قيادية في العراق خلال هذه الفترة، فيما تركزت خلفياتهم في المشيخات القبلية والقيادات التجارية والزراعية والحرفية والخدمة المدنية(15)، وفي الجيش شكَّل (العرب السُنَّة) غالبية هيئة ضباطه خلال العهد الملكي، فيما احتفظ الشيعة بالمراتب الأدنى لاسيما بعد إقرار الخدمة الإلزامية، عام 1934؛ حيث باتوا يمثلون غالبية أعداد الجنود وضباط الصف(16).
وقد كانت هذه الأرقام تمثل نتيجة متوقعة للوضع الذي كان سائدًا قبل تلك الفترة، فقبل الحرب العالمية الأولى كان عدد الضباط العراقيين العاملين في الجيش العثماني بحدود 1000 ضابط موزعين في مختلف بقاع الإمبراطورية العثمانية، وكان عدد من التحق من الضباط العراقيين بثورة الشريف حسين في الحجاز يقدر بنحو 300 ضابط معظمهم من السُنَّة العرب إلى جانب سُنَّة آخرين من الكرد والتركمان، وقاتل هؤلاء إلى جانب الأمير فيصل قبل أن يأتوا معه إلى العراق حينما جرى تنصيبه ملكًا، وقد أسهم عدد من هؤلاء (الضباط الشريفيين) في تأسيس الدولة والجيش وتدخلوا بشكل مباشر في رسم مسارات مستقبل العراق مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وسواهما. وقد شكَّل هؤلاء الضباط نحو 20 بالمئة من مجمل عدد صنَّاع القرار وكبار الساسة في العراق خلال العهد الملكي (1921-1958)(17).
وفضلًا عن الضباط السُنَّة ودورهم الجوهري في تأسيس الدولة ومؤسساتها، فقد كان العدد الأكبر من الأشخاص المتعلمين الذين يمكن أن يتولوا الوظائف الحكومية، هم من السُنَّة أيضًا، والأمر الثالث أن العراقيين السُنَّة لم يقاطعوا الدولة الجديدة كما فعل الشيعة، ولم تصدر لهم فتاوى بتكفير العمل في الأجهزة الحكومية، كما حصل في فتاوى المرجعية الشيعية، بل إن الشخصية السُنيَّة الأهم آنذاك، وهي عبد الرحمن النقيب، تولت رئاسة الحكومة المؤقتة عام 1920، في أعقاب ثورة العشرين، وكان مقربًا بقوة من البريطانيين.
ولقد تسببت هذه العوامل وسواها في استمرار إدماج السُنَّة بالدولة، مثلما تعودوا دائمًا، ولم يجدوا حاجة أو رغبة أو دافعًا لاستثارة أية مشاعر طائفية، اجتماعية كانت أم سياسية، كما لم يجدوا أيضًا أهمية في إيجاد صيغة لمرجعية دينية سُنيَّة توحدهم في حالات الاستقطاب الطائفي، فبالنسبة إليهم كانت الدولة هي مرجعيتهم، ولم يكن ذلك معقدًا أو جديدًا عليهم بطبيعة الحال، بل كان مجرد استمرار لواقع حال متواصل منذ عدة قرون باستثناءات محدودة.
العودة إلى الدولة
برغم أن محدودية النفوذ الشيعي في مؤسسات الدولة ومراكز الحكم كانت في جانب منها خيارًا شيعيًّا، إلا أنها تسببت لاحقًا في خلق شعور بالتمييز لدى الشيعة، وفي عام 1927، قرر مجتهدون شيعة اجتمعوا في النجف رفع الحظر عن توظف الشيعة في المناصب الحكومية، وطالبوا في الوقت نفسه بنصف المناصب الوزارية في كل حكومة، لكن إصدار تلك القرارات وحدها لم يكن كافيًا لتنفيذها من قبل الحكومة، فقد كانت عجلة الدولة قد مضت، وصار من الصعب تحديد نقطة التوازن الطائفي في إدارة المؤسسات وتوزيع النفوذ، وكان من المحتم أن يتسبب ذلك بسوء فهم تاريخي، تطور بعد ذلك ليصل في عام 1933 إلى حركة احتجاجية للشيعة بشعارات واضحة تعلن الرغبة في “النهوض وانتزاع حقوقهم من السُنَّة”، وتصف الحكومة التي تهيمن عليها شخصيات سُنيَّة بأنها “حكومة احتلال”(18).
وكان قانون التجنيد الإجباري واحدًا من مناسبات الاختلاف الطائفي المرير الذي بدأ بالظهور آنذاك بتشجيع من البريطانيين، وقد سعى هؤلاء لاستخدام الطائفية لإرباك الملك فيصل ومنعه من الاستمرار في السعي لانتزاع سلطة القرار في البلاد وكذلك لمنعه من توسيع حجم الجيش وشعبيته وسط الناس. وفي العام 1927، وبينما كان الملك يطالب بالاستقلال وإقرار الخدمة العسكرية، سخَّر البريطانيون حزبًا ذا منحى شيعي، هو حزب النهضة، لنشر مقالات في جريدته تتحدث عن المشكلات بين الشيعة والسُنَّة وتستعيد نزاعات الماضي وتنتقد السيطرة السُنيَّة على الحكومة. وقد أشار تقرير للاستخبارات البريطانية إلى أن المندوب السامي البريطاني كان يدعم هذا التحرك(19)، وكانت الحجج الشيعية تنصرف إلى أن قانون التجنيد المقترح سيُفضي إلى تشكيل جيش ضباطه من السُنَّة وجنوده من الشيعة، واعتبروا أن ذلك تمييز يكفي لرفض القانون، وتسبب هذا الجدل والخلاف في تأجيل قانون التجنيد الإجباري حتى العام 1934.
تسبب هذا الوضع برمته في إشعار الشيعة في البداية بأنهم ضحايا تمييز سياسي، وكان ذلك مؤثرًا في مستقبل العراق بسبب ما فرضه من مشاعر أو قناعات تحولت إلى أنماط تاريخية ثابتة كان يجري العودة إليها متى ما تصاعدت الحالة الطائفية أو وجد البعض رغبة في استثارتها، وبطبيعة الحال فقد “خلق ذلك الكثير من التوترات والاحتدامات والصراعات داخل البنية الاجتماعية العامة ولذات الفرد والمجموعة، أنتجت مجتمعًا ذا اندماج اجتماعي ضعيف”(20).
لكن مشاعر التمييز هذه والضغوط التي تفرضها، خفَّت تدريجيًّا مع تزايد أعداد المتعلمين من الشيعة، واستقطابهم في الوظائف الحكومية والأمنية، وشغلهم لمناصب مهمة، وهي تطورات ترافقت مع تعاظم قوة الدولة المركزية، وهيمنتها، وتغير المزاج الشعبي والسياسي العام مع توسع هيمنة وأهمية المدن على حساب الريف، وبالتالي تهميش قوة الدفع التي كانت تقدمها سيطرة النخب التقليدية المحافظة ومنها النخب الدينية والقبلية على حركة الشارع ورؤاه السياسية والفكرية وعلى قوة الهوية الطائفية التي تراجعت لصالح الهوية الوطنية.
وترافقت هذه التطورات مع سيطرة كل من التيارين، اليساري والقومي، على الساحة السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وصراعهما الفكري والميداني، وكذلك الصراع بين القوى الوطنية عمومًا وبين حكومات العهد الملكي، أو في مرحلة لاحقة بين القوى الإسلامية الشيعية والسُنيَّة ضد الشيوعيين والقوميين على حدٍّ سواء. وقد كان هذا النمط من الصراعات السياسية تطورًا في الوعي الشعبي، وتقدمًا في نمط الدولة الجديدة، أوقف تطور النوازع الطائفية، لاسيما أن مراكز الثقل الفكرية الشيوعية بشكل خاص وكذلك البعثية ظهرت في مناطق الجنوب الشيعية قبل أن تتسع لتمتد إلى أنحاء العراق.
وهكذا، أصبحت هذه القوى علمانية التوجه مسيطرة بشكل فعلي على مجمل الحركة الوطنية العراقية، وتحولت من المعارضة إلى الحكم أو قريبًا منه، بعد إطاحة الجيش بالملكية وتأسيس الجمهورية في يوليو/تموز 1958، حيث انشغلت البلاد بالصراعات العنيفة والدموية بين الشيوعيين والبعثيين، أو بالانقلابات العسكرية، ولم يعد للطائفية مكان ملموس ومؤثر في السجال السياسي أو البناء الحكومي أو المعارض، وقبع الانقسام الطائفي في قعر الكيان الاجتماعي كمجرد تعبير عن وجود طوائف، دون بروز واضح وطاغ للهويات الطائفية.
وزاد في ضمور الحالة الطائفية، أن قوى الإسلام السياسي بفرعيها: السُّني متمثلا بجماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، أو الشيعي من خلال حزب الدعوة، الذي تأسس في نهاية الخمسينات، هذا التياران لم ينخرطا في أي صراع فكري أو عقيدي أو ميداني كما يفترض بين قوتين سياسيتين تمثلان المكونين الطائفيين بشكل واضح وعقيدي، بل على العكس تمامًا؛ فقد تعاون الطرفان بطريقة لافتة بعد انبثاق الحزب الإسلامي عن جماعة الإخوان المسلمين عام 1960، وأكثر من ذلك، أن شبابًا من الشيعة انضموا لجماعة الإخوان المسلمين (السُنيَّة) عند تأسيسها، ثم استفادوا من التجربة التنظيمية للجماعة في بناء حزب الدعوة بعد ذلك بسنوات(21).
تكوين الطائفية السياسية
عادت الطائفية السياسية للتشكل في العراق ضمن مناخ سياسي تهيمن عليه القوى اليسارية والقومية، ولذلك فقد ظلت القوى الإسلامية محدودة الأثر والتأثير، لكن ذلك وفر لها تجنب انتباه السلطات الحاكمة ومنحها فرصة البقاء وتعزيز القدرات التنظيمية. وقد يمكن اعتبار حزب الدعوة أول التنظيمات السياسية الشيعية الواضحة والمباشرة في التعبير عن المرجعية العقائدية الشيعية، بشكل تجاوز فيه التنظيمات التي كانت تأسست في العراق منذ بدايات القرن العشرين، وكانت على شكل جمعيات إسلامية قصيرة العمر اهتمت على الأغلب بـ”مقارعة الاحتلال” و”إعلاء راية الإسلام”، من غير تأصيل عقيدي شيعي واضح ومباشر، وربما كانت جمعية “الشباب المسلم” و”المسلمون العقائديون” المتفرعة عنها، أكثر هذه التنظيمات طموحًا وربما اقتربت من الإطار الحزبي، ومع ذلك فأهميتها لا تنبع “من طبيعة فكرها الحركي، بقدر ما تنبع من سبقها التفكيري في ضرورة العمل الحركي”(22).
تأسس حزب الدعوة عام 1957 قبل نحو عام من نهاية العهد الملكي دون أن يكون هناك تحد واضح من السلطات الحاكمة للتيارات الشيعية أو المرجعية الدينية التي كان يتزعمها آية الله محسن الحكيم، لكن التحدي الحقيقي كان يتمثل بانتشار وهيمنة كل من الحزب الشيوعي وحزب البعث، وصراعهما المعروف على الساحة السياسية العراقية، غير أن الأول كان في ذلك الوقت هو الأقوى والأكثر انتشارًا لا سيما في المناطق الشيعية بجنوب العراق، وهو أمر كان يمثِّل تهديدًا مباشرًا للزعامات الدينية التقليدية ولقدرة المؤسسة الدينية الشيعية على استقطاب السكان الشيعة أو طبيعة الطقوس الشيعية المعروفة التي تستغرق كل شهور السنة، وتتطلب لنجاحها مشاركة جماعية، سيضعها التيار الشيوعي محل شك أو أنه سيستغلها للقيام بمظاهراته وأنشطته بعيدًا عن رقابة الأجهزة الأمنية(23).
لم تكن الطائفية في العراق هاجسًا جماعيًّا ضاغطًا في تلك الفترة قبل نهاية الخمسينات؛ حيث كان العراقيون منشغلين بوقائع واهتمامات سياسية واجتماعية بعيدة عن الإسلام السياسي، وما يعنيه من طائفية سياسية، لكن السجال الديني ضد الشيوعيين، وفي مرحلة لاحقة ضد البعثيين والقوميين، ظل واحدًا من المهام الحيوية للتيارات الدينية السُنيَّة والشيعية وكان ذلك من بين أبرز أسباب نشوئها، وكان تصدي رجال الدين للمد الماركسي منذ نهاية الأربعينات قد وفَّر أساسًا مقبولًا لتأسيس تيارات سياسية دينية (سُنيَّة أو شيعية) تتولى بنفسها مواجهة الفكر السياسي للخصوم.
وتُقدم فكرة (استدعاء الدين) من قبل السلطة لمواجهة خصوم سياسيين، تصورًا للكيفية التي يمكن من خلالها إعاقة الديناميات الاجتماعية عن التطور، وهو ما حصل في تلك الفترة؛ حيث كان المجتمع قد تخطى المثيرات الطائفية التي فرضتها وقائع تأسيس الدولة، والتنافس السياسي على النفوذ فيها، لكن التأثير البريطاني دفع السلطة في العراق لتحيي سطوة رجال الدين لمواجهة هيمنة الحزب الشيوعي، وبطبيعة الحال فقد كان الجهد الأكبر مطلوبًا من رجال الدين الشيعة بسبب تمركز قوة الشيوعيين في المناطق الشيعية الفقيرة بجنوب العراق. ويكتب حنا بطاطو حول ذلك قائلًا: إن الطبقات الموجودة في السلطة حاولت منذ نهاية الأربعينات “الاستفادة من الدين للإبقاء على الناس في قبضتها ولصد تقدم الشيوعية. ومن الأمور ذات المغزى في هذا المجال أن المبادرة بهذا الخصوص جاءت من ممثلي القوة الإنكليزية وليس من غيرهم”(24).
وبطبيعة الحال، فمثل هذا الاستخدام للدين من قبل السلطة يناسب تمامًا القوى الدينية التقليدية، فهو يعيد إليها الاعتبار ويمنحها الفرص والقوة ويقربها من السلطة ويوفر لها الموارد، ويجعلها أكثر جاذبية للقوى الاجتماعية المؤثرة والقادرة على الدعم. وربما يكون ذلك من بين الأسباب التي جعلت المؤسسة الدينية الشيعية تتخذ موقفًا غير ودي تجاه نظام حكم عبد الكريم قاسم بعد قراراته ذات الطابع الاشتراكي لاسيما في مجال الإصلاح الزراعي وإلغاء الاقطاع، فهو كان قد ضرب مصالح فئات اجتماعية واقتصادية مهيمنة وقريبة من المؤسسة الدينية، كما أن قاسم صار فوق ذلك أكثر شعبية من رجال الدين أنفسهم في المناطق الشيعية الفقيرة، بسبب إجراءاته في دعم الفقراء، وحياته المتقشفة، ورفضه للتدخلات الأجنبية. وقد كان تقريبه للشيوعيين وتمكينهم من بعض المواقع الأساسية في الدولة، أحد أسباب مشكلاته مع المؤسسة الدينية، ولذلك بدت فتوى الحكيم، في عام 1960، بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي وتكفير أعضائه في أحد وجوهها محاولة للنيل من سلطة قاسم، وتجريده من أبرز حلفائه المحليين.
لقد أخرجت المواقف السياسية لرجال الدين، الطائفية الكامنة من مخبئها في قعر الكيان الاجتماعي، لكن استخدامها السياسي لم يكن جاهزًا مع غياب التنظيمات السياسية الإسلامية التي لا يمكن إلا أن تكون طائفية في مجتمع متعدد الطوائف مثل العراق، فهي إما أن تكون شيعية أو سُنيَّة، بحكم انتمائها العقيدي وجمهورها ذي النوع الطائفي الواحد. لكن حتى بعد تأسيس حزب الدعوة، فإنه لم يستخدم لإثارة سجالات طائفية، فهو من ناحية كان تنظيمًا سريًّا كشرط لحصوله على إجازة من المرجعية، وهو من ناحية ثانية اعتمد المرحلية في عمله السياسي، وابتدأ بما كان يصفه “المرحلة التغييرية عبر التثقيف” وهي تسبق مرحلة الاستيلاء على السلطة(25). وقد هيأت تلك (المرحلة التثقيفية) التي لا تطالب بالسلطة لحزب الدعوة أن يقترب في إحدى المراحل من حزب البعث ويتعاون معه بعد انقلاب عام 1963 في إطار تلاقي المصالح لمواجهة الحزب الشيوعي الذي كان خصمًا للطرفين(26).
ولم تكن هناك أحداث دراماتيكية في العلاقة بين الإسلام السياسي الشيعي والسلطة خلال عهدي الأخوين عارف (1963-1968) بسبب ثبات علاقة السلطة مع مرجعية الحكيم القوية، كما أن علاقة النجف استمرت مع السلطة البعثية بعد عام 1968، لكن بدء مشكلات العراق مع إيران الشاه أثار خلافات بين نظام الرئيس، أحمد حسن البكر، ومرجعية الحكيم، فالأخير الذي كان على علاقة وطيدة بشاه إيران رفض طلب البكر إدانة مواقف طهران العدائية ودعمها للتمرد الكردي، وتسبب هذا الموقف بتوتر بين الطرفين لم تظهر آثاره بشكل واضح في حينه حتى وفاة الحكيم وتولي أبوالقاسم الخوئي مهام المرجعية في عام 1970.
خارج سلطة المرجعية
تمكن نظام البعث في العراق خلال عقد السبعينات من تثبيت هيمنة الدولة بشكل قوي، كان من بين أبرز معالمه التراجع الواضح والجدي لقوة المكونات الاجتماعية التقليدية لما قبل الدولة، وأهمها المؤسستان، الدينية والقبلية.
نتج عن هذا التطور أن تكرست الطائفية كتهمة اجتماعية، يتعرض من ينادي بها إلى الرفض الاجتماعي، ولم تعد الدعوة لها ممكنة أو مقبولة، لاسيما أن الدولة، لم تكن قوية فقط، لكنها كانت غنية أيضًا؛ إذ وفر تأميم النفط عام 1972 واردات ضخمة للعراق، منحت نظامه فرصة تنفيذ خطط تنمية ضخمة، ونهضة تعليمية وصحية وصناعية وزراعية كانت مؤثرة بشكل أساسي في إحداث تطور اجتماعي واسع ومؤثر، سواء في المدن أو الأرياف، أسهم في تعزيز الهوية الوطنية للأفراد على حساب الهويات الفرعية الطائفية أو العرقية أو القبلية.
وساعد في تكريس هذا الواقع حقيقة أن المرجع الأعلى، أبو القاسم الخوئي، كان ينتمي إلى مدرسة فقهية تتبنى “سياسة الانعزال والتقوقع وترك الشأن الاجتماعي-السياسي”(27). وخلال مرجعية الخوئي، وقعت أحداث كبيرة منها الثورة الإسلامية الإيرانية، والحرب العراقية-الإيرانية، وغزو الكويت 1990، وحرب الخليج الثانية، والتمرد الشعبي الذي سقطت فيه 14 محافظة عراقية في مارس/آذار 1991. وخلال كل هذه الأحداث، ظلت المرجعية في النجف ملتزمة بحدود واجباتها الدينية دون أن تقدم رأيًا في هذه الأحداث أو تتدخل في الشأن السياسي.
وشكَّل هذا الموقف لمرجعية النجف من جانب، وقوة الدولة وهيمنتها الفكرية والسياسية والأمنية من جانب آخر، مناخًا مثاليًّا لتراجع الطائفية الاجتماعية بشكلها العلني على الأقل. ومن جانبها، اعتبرت حركة التشيع السياسي أن مرجعية الخوئي أسهمت “في تعطيل أي دور ثوري-احتجاجي محتمل لشرائح مهمة من الشعب العراقي …….؛ إذ إن الشكل الأكبر والمهيمن للوعي الشعبي آنذاك كان نابعًا من الارتباط الجدلي التقليدي في بناه الثقافية مع سياقات حركة المرجع الأعلى”(28).
وإذا كانت قوى التشيع السياسي تنظر بهذا الشكل السلبي إلى دور مرجعية الخوئي، فإنها لم تكن لتوجه له نقدًا علنيًّا مباشرًا، خلال تلك الفترة، إدراكًا منها لهيمنة المرجعية والخوئي بشكل خاص بسبب مكانته العلمية المرموقة، وبالتالي فمعارضته كانت ستُدخلها في حرب خاسرة، تفقد خلالها شرعيتها وجمهورها الشيعي المفترض. لكن هذا الحذر في التعاطي مع مرجعية الخوئي، توازى مع استمرار إرهاصات التشيع السياسي من خلال حزب الدعوة أو من خلال شخصيات دينية ترى أن لها أدوارًا قيادية على المستوى الشيعي، وواجهت على الأغلب قمعًا شديدًا من السلطة لاسيما أنها جرت في سياق خلافات متصاعدة مع إيران الشاه ومن ثم إيران (الثورة الإسلامية)، وكلتاهما لم تكونا لتتخليا عن استخدام الورقة الطائفية لإثارة الاضطرابات الداخلية في العراق.
ويمكن اعتبار حادثة (خان النص)، في عام 1977(29)، نهاية لفترة الهدوء الطائفي النسبي، ومقدمة لصراع طويل ودموي بين النظام وقوى التشيع السياسي التي استقوت خصوصًا بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وأصبحت حركة علنية، دون أن تقيم وزنًا لموقف المرجعية في النجف، ولكن مع استمرار الحذر في انتقادها.
المواجهة مع إيران
كانت إجراءات السلطات العراقية شديدة في مواجهة مشروع (تصدير الثورة) الإيراني؛ حيث جرى تهجير مئات الألوف من العراقيين من (ذوي التبعية الإيرانية) إلى إيران، ومورس تضييق واسع النطاق على قوى التشيع السياسي، كان من بين أبرز مظاهرها: إعدام آية الله، محمد باقر الصدر، الذي يعتبره حزب الدعوة أبًا رُوحيًّا، رغم أن الصدر انسحب من الحزب عام 1960. كان الصدر من بين أكثر رجال الدين الشيعة الكبار والمؤثرين في العراق تأييدًا للتشيع السياسي، وكانت له صلات قوية مع آية الله الخميني استمرت بعد الثورة في إيران، وقد سعى الصدر علنًا إلى تحقيق (ثورة إسلامية) مماثلة في العراق، فدخل في صراع مرير مع السلطة وأصدر فتوى بتكفير حزب البعث وتحريم الانتماء له، وظل قيد الإقامة الجبرية عدة أشهر، حتى جرى اعتقاله وإعدامه في أبريل/نيسان 1980، قبل بضعة أشهر من اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية.
برغم أهميته الدينية والفكرية والحركية، لم يتسبب إعدام الصدر بردود فعل حادة وسط الشارع الشيعي، وربما يكون لصمت مرجعية الخوئي من جانب والسطوة الأمنية للدولة دور حاسم في منع أية تداعيات لما حصل، لكن الفترة اللاحقة شهدت تصعيدًا واسعًا مع إيران سمح للدولة بأن تعزز من قبضتها الأمنية تجاه مؤيدي إيران أو ثورتها، واعتبارهم (عملاء)، وصدرت في حينها قوانين تفرض عقوبات قاسية تصل إلى الإعدام بحق كل من يتواصل مع إيران أو يردد شعاراتها المطالبة بقيام (ثورة إسلامية في العراق). لقد وجدت الدولة فرصة كبيرة في علنية العداء الإيراني لنظام الحكم في العراق لتوجه ضربات قوية للقوى السياسية الشيعية تحت غطاء القوانين التي صدرت آنذاك، وكان مبررها حماية الأمن الوطني العراقي.
وإلى جانب ذلك، استفادت السلطات من الحرب التي اندلعت في سبتمبر/أيلول 1980 مع إيران، لتكريس (الوحدة الوطنية)، والتركيز على أن العراقيين الشيعة يقاتلون إيران كما يفعل السُنَّة، وجرى التركيز طويلًا على هذه الحقيقة باعتبارها دليلًا على أن شيعة العراق ليسوا طائفيين ولا منحازين لإيران، وهي فكرة كانت مهمة لتدعيم المعنويات خلال الحرب، كما أنها عززت من قدرة السلطة على مواجهة كل سلوك شيعي سياسي مختلف يؤيد إيران أو يرفض الحرب على الأقل، بوصفه صوتًا نشازًا ومعاديًا للمجتمع ولمجهود الحرب يتوجب على الدولة قمعه بكل السبل. وقد ساعد على تأكيد هذا الاتجاه الدعائي صمت مرجعية الخوئي، تجاه الحرب أو إعدام الصدر. وقد انتقد مفكرون شيعة عدم رفض الخوئي للحرب، واعتبروا أن ذلك سمح للدولة “بتحقيق استثمار هائل في العراق وخارجه”(30).
لقد هيَّأت الحرب للسلطات في العراق، أن تتصدى بفاعلية للدعاية الإيرانية لتكريس الهوية الشيعية الاجتماعية في العراق، بل وحتى في المنطقة، وأن تقوم في الوقت نفسه بمواجهة حازمة لتيارات التشيع السياسي الذي سعى لاستثمار نجاح الثورة الإيرانية واعتباره مدخلًا لنجاح مماثل في العراق، وقد كانت سنوات الحرب صعبة بالنسبة للناشطين السياسيين الشيعة بكافة تياراتهم؛ الأمر الذي أرغمهم على الهرب خارج العراق والاستقرار في إيران وسوريا بشكل خاص، ومن هناك واصلوا حملاتهم ضد السلطة في العراق، وشارك بعضهم في الحرب إلى جانب القوات الإيرانية.
والحقيقة أن إجراءات السلطات العراقية شملت أيضًا الأحزاب الدينية السُنيَّة والحركات السلفية التي ووجهت بشدة، ولذلك لا يمكن اعتبار الأمر من هذه الزاوية على الأقل دليلًا على طائفية الحكم أو الدولة بل كان ببساطة جزءًا من صراع الحكم مع معارضيه السياسيين وهو ما حدث من قبل مع الشيوعيين ومع القوميين وكذلك مع البعثيين المنشقين.
لقد تراجع التشيع الاجتماعي بشكل واضح حتى مطلع التسعينات، مقابل تصاعد قوة تيارات التشيع السياسي بدعم إيراني مباشر، وكانت هذه القوى ترتكز بشكل أساسي إلى اتهام النظام بالطائفية والتمييز ضد الشيعة، كأساس لمحاربته، وأيضًا لكسب المزيد من الأنصار، وتكريس الهوية الشيعية، لخلق فرص انتفاضة شعبية.
بدايات الانقسام
خلقت تداعيات الدمار الذي لحق بالعراق وجيشه في حرب تحرير الكويت مناخًا جديدًا كان من أول وأسرع مظاهره التمرد الشعبي الذي حصل في مطلع مارس/آذار 1991، وشمل 14 محافظة عراقية من أصل 18 تشمل جميع المحافظات ذات الغالبية الشيعية، وقد شمل التمرد خروج هذه المحافظات عن سيطرة الحكومة المركزية، وتدمير وإحراق مقرات قوى الأمن وحزب البعث ومقتل عدد كبير من عناصر الأمن موظفي الدول وأعضاء الحزب. استمرت تلك الأحداث عدة أيام، واستفادت منها إيران والأحزاب العراقية الشيعية، فقامت بدعم التمرد، وأرسلت -حسب الاتهامات الحكومية العراقية- عناصر من الحرس الثوري ومن المعارضين العراقيين ليقوموا بمقاتلة القوات الحكومية. وقد وصف معارضو النظام ما حدث بـ”الانتفاضة الشعبية” أو “الانتفاضة الشعبانية” نسبة لوقوعها في شهر شعبان، فيما وصفتها السلطة بالعمل “الخياني” و”الغوغائي”(31).
تمكنت السلطات الأمنية من قمع التمرد بقوة، واستعادت السيطرة على المحافظات الجنوبية، لكن تداعيات ما حدث لم تتوقف عند حدود استعادة السيطرة الحكومية، فقد تسبب كل ذلك بصدمة وطنية كبيرة، كشفت لأول مرة عن ضعف الدولة، وعن تغلغل الطائفية السياسية والاجتماعية التي كانت كامنة وظهرت فور تعرض السلطة للهزيمة أو للضعف. وقد يكون للتدخل الإيراني ولعناصر المعارضة دور مباشر في ما حصل حسب الرواية العراقية، لكن ذلك لم يمنع من طرح تساؤلات جدية عن الفئات الشعبية العادية التي شاركت في التمرد، وشاركت في تخريب المؤسسات الحكومية وحرق مكاتب الحزب الذي تفاخر طويلًا بانتشاره وثقة الناس به، وقد كان أثر كل ذلك مضاعفًا، وموغلًا في التأثير كونه كان جزءًا من الخسارة الفادحة التي تعرض لها العراق بعد غزوه الكويت.
ولم يكن ذلك كل شيء، فرد فعل السلطات بعد قمع التمرد خلق بدوره تداعيات إضافية؛ إذ كان انتقام المؤسسات الأمنية عنيفًا وسريعًا، وجرت معاقبة أعداد ضخمة من سكان هذه المحافظات، وجرى إعدام الكثير منهم بعد محاكمات سريعة، وفي الحصيلة استعادت الدولة السيطرة، ونشرت الخوف وسط سكان المحافظات المتمردة، لكن ذلك كان مناخًا مواتيًا تمامًا لتعزيز قوة الهوية الطائفية من جديد.
كل ذلك ترافق مع العقوبات الدولية التي فُرضت بعد غزو الكويت، ودفعت النظام لتشديد قبضته الأمنية لمواجهة آثار الانهيار الاقتصادي. لم يتمكن النظام من استعادة آلية السيطرة الفكرية أو الوطنية التي دأب عليها خلال الفترات الماضية. وتأسست في الوقت ذاته أسباب إضافية للطائفية الاجتماعية، وقد ساعد على ذلك بطبيعة الحال، الدعاية الغربية التي بدأت منذ غزو الكويت حملة دعاية مكثفة ضد النظام في العراق، وكان اتهامه باضطهاد الشيعة والأكراد أحد أهم مرتكزات هذه الدعاية.
وكان من بين أبرز محاور الدعاية الغربية تكريس مفهوم “المظلومية” الشيعية بشكل واسع النطاق، وترافق ذلك مع جهد ميداني وسياسي فاعل ومؤثر لقوى التشيع السياسي التي كانت تنشط في إيران ودول الغرب إلى جانب القوى الكردية، ومعها قوى الإسلام السياسي السني ممثلًا بالحزب الإسلامي العراقي الذي كان جزءًا من (المعارضة العراقية) لكنه لم يكن بنفس التأثير ولا جزءًا مهمًّا من آلية الدعاية، التي اعتبرت النظام العراقي وحزب البعث سُنيًّا “يضطهد الأغلبية الشيعية والأقلية الكردية”.
وبقدر ما كان لهذه الدعاية من تأثير في تنمية الشعور بالهوية الطائفية، فقد أسهمت العقوبات من جانبها في إضعاف الدولة وقدراتها في السيطرة الاجتماعية، وكان من التداعيات المباشرة لذلك، تقوية قوى المجتمع البدائية وأبرزها المؤسستان، القبلية والدينية (وهي في حالة العراق طائفية بطبيعتها)، على حساب الدولة ورمزيتها المعنوية. لقد فرض طغيان قوة المؤسسة الدينية (الطائفية)، العودة للطائفة ومفاهيمها واشتراطات الحصول على الحماية في إطارها، وكان ذلك بحد ذاته سببًا قويًّا لعودة الطائفية الاجتماعية، بوصفها هوية دينية داخل الهوية الوطنية، تقل عنها أحيانًا وتتفوق عليها في أخرى، لكن وجود الهويات الفرعية كان سببًا مباشرًا في خلل جسيم أصاب الواقع الاجتماعي العراقي، وسمح بنشر مفاهيم طائفية شيعية، قابلها تشجيع للطائفية السُنيَّة، لكن هذه الأخيرة التي خضعت لسياقات تاريخية مختلفة عن نظيرتها الشيعية، ظلت تلوذ بالدولة، وتسير معها حتى لو عارضت النظام السياسي، ولم يكن لديها مرجعية دينية أو ميكانيزمات اجتماعية تسمح للطائفية بالنمو أو بالتعبير عن نفسها بشكل ظاهر، كما أن قوى الإسلام السياسي السُنِّي لم يعد لها وجود أصلًا في العراق، بعد قمع جماعة الإخوان المسلمين قبل ذلك بزمن طويل.
وبقدر ما كانت الهوية الشيعية تنمو في خضم هذه الظروف، فان الهوية السُنيَّة كانت على الدوام هي الدولة، لاسيما مع حملة عداء غربي حصر (المظلومية) بالشيعة والأكراد، ووسط عداء إقليمي عربي (سُنِّي) للنظام في العراق، وقد كان كل ذلك يؤدي إلى بدايات انقسام اجتماعي عمودي لم تظهر معالمه بشكل واضح، ليس بسبب الهيمنة الأمنية للنظام فقط، ولكن لأن السلطات اعتمدت على جملة آليات للسيطرة الاجتماعية تمثلت خصوصًا باستقطاب ولاءات كل من زعماء العشائر ورجال الدين الشيعة والسُنَّة على حد سواء، وكان تبادل المصالح بين الطرفين، سببًا في منح الدولة قدرة السيطرة النسبية على الأطراف، إلى جانب أن حزب البعث عاد للعمل بشكل أوسع وتولى أدوارًا أمنية وتعبوية، وكان فعالًا ولو بشكل نسبي في تقديم انطباع عن قوة النظام، وذلك رغم أن هذا العدد الكبير من أعضاء الحزب كان يخفي وراءه قدرًا لا يُستهان به من الترهل، وشكوك حول ولاء الكثيرين تحول إلى عداء بمجرد غزو العراق.
لقد أسهم ذلك إلى جانب موقف مرجعية الخوئي وبعده آية الله علي السيستاني في رفض التعامل مع التشيع السياسي الذي استقر ثقله الأعظم خارج البلاد، في الحد من فرص الإعلان عن مشاعر الطائفية الاجتماعية، حتى إنه يمكننا القول: إن مشاعر الانتماء الطائفي قويت خلال هذه الفترة، لكن الإعلان عنها فرديًّا أو جماعيًّا ظل محدودًا، كما أن مشاعر العداء التي يمكن أن يستثيرها كانت متوجهة نحو السلطة ورموزها الأمنية والسياسية أكثر من الشريك السُنِّي الذي كان يعاني من آثار الحصار والعقوبات بنفس المستوى من الشدة والقسوة.
ثالثًا: الاحتلال الأميركي وفشل الدولة
اعتمدت سلطة الاحتلال الاميركي منذ بدايتها بعد غزو العراق على مرجعيات سبقت ذلك التاريخ وتمثلت خصوصًا بالتفاهم مع قوى المعارضة السابقة، والتي كانت متجسدة في كل من قوى الإسلام السياسي الشيعي والقوى الكردية.
ظهرت سطوة هذين المحورين على ما عداهما من قوى المعارضة الليبرالية واليسارية خلال مؤتمر لندن الذي عُقد برعاية أميركية، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2002، أي قبل الحرب ببضعة أشهر؛، حيث “استحوذ ممثلو المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق والحزبان الكرديان على معظم المقاعد في لجنة المتابعة؛ مما أثار اعتراضات من جانب العرب السُنَّة الذين اشتكوا من عدم منحهم تمثيلًا يعكس ثقل طائفتهم في العراق”(32).
كانت أطراف مؤتمر لندن الشيعية والكردية هي القوى المحلية الأساسية التي اعتمد عليها الاحتلال، ومن بين المشاركين في ذلك المؤتمر تأسس ما عُرف بـ”مجلس القيادة العراقي” الذي استعان به رئيس سلطة الائتلاف الحاكم، الأميركي بول بريمر، في مناقشة بعض القرارات حينما تولى مهامه في مايو/أيار 2003، وقد كشف بريمر حماسة هؤلاء لإصدار قراري اجتثاث البعث وحل الجيش، كما أنهما استحوذا لاحقًا على غالبية المقاعد في مجلس الحكم الذي أسسه بريمر في يوليو/تموز من ذلك العام(31).
كان مجلس الحكم الذي اعتبرته واشنطن مقدمة لنقل السلطة إلى العراقيين، أول مظهر رسمي لمأسسة الطائفية السياسية في العراق، وقد شكَّله بريمر من 25 عضوًا، 13 منهم من الشيعة وخمسة لكل من السُنَّة والأكراد ومقعد واحد لممثل عن المسيحيين والتركمان.
ولم يكن لمجلس الحكم أهمية تشريعية أو تنفيذية، لكنه أسس لظاهرة (المحاصصة) التي تحولت إلى سياق سياسي وإداري، كما أنه فتح الباب، ثانيًا، أمام سجال النسب السكانية للطوائف والأعراق؛ حيث تمسك سياسيو الشيعة بتقديرات سلطة الاحتلال لأغلبيتهم العددية، فيما اعترض السُنَّة على هذه التقديرات واعتبروها امتدادًا لما بدا وكأنه عداء أميركي ضدهم. ولم تكن التقديرات الأميركية للنسب الطائفية تستند إلى أية إحصاءات للسكان جرت في العراق.
وقد أسهمت سلسلة الأحداث اللاحقة لذلك في تعميق الطائفية السياسية وتحويلها من حل مؤقت لمشكلة التمثيل السياسي إلى سياق ثابت ودائم، استخدمته قوى عديدة لتكريس سطوتها في الشارع أو خلال العمليات الانتخابية، وكانت إثارة النعرات الطائفية تمثل منصة سهلة ومفيدة للغاية في تحقيق مثل هذه الأهداف، مثلما كانت كذلك بالنسبة للتنظيمات المسلحة المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية بعد ذلك.
تركز التحشيد الطائفي من كلا الطرفين على عنصر الخوف من الآخر، وقد تسببت كل من الممارسات العنيفة للقوى الأمنية والميليشيات بتوفير الذريعة للقوى المتطرفة (السُنيَّة) لنشر الخوف وسط السُنَّة من النقيض العراقي النوعي (الشيعي)، كما وفرت الممارسات المماثلة من قبل القاعدة وتنظيم الدولة ضد السكان بشكل عام وتكفير الشيعة واعتبارهم هدفًا ثابتًا، فرصة للقوى الشيعية بنشر الخوف وسط الشيعة، وبطبيعة الحال فالكراهية كانت دومًا مصاحبة لهذا النمط من الخوف.
تسبب هذا التخريب لجوهر العلاقات الاجتماعية داخل العراق في بناء حواجز مؤثرة بين السكان العراقيين من كلتا الطائفتين، وأدى أحيانًا إلى عمليات انتقام جماعي ذات بُعد طائفي، يصيب بشكل خاص الأبرياء من المدنيين من كلا الجانبين، غير أن التدهور الخطير في العلاقة الاجتماعية لم يظهر بوضوح وعنف إلا بعد تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، في فبراير/شباط 2006، حيث انتقل الاستخدام السياسي أو (الإرهابي) للطائفية من دائرة الأحزاب والميليشيات والقوى المسلحة المتطرفة إلى الشارع السني والشيعي بشكل واسع النطاق.
تلا تفجير المرقد عمليات عنف واسعة النطاق قامت بها مجموعات مسلحة من جيش المهدي التابع للتيار الصدري، استهدفت المئات من مساجد السُنَّة، وأعدادًا كبيرة من السكان السُنَّة لاسيما في الأحياء المختلطة طائفيًّا في بغداد ومحافظات أخرى.
وجرت خلال العامين 2006 و2007 عمليات تطهير طائفي واسعة النطاق -من الجانبين- تسببت في تراجع مساحات الأحياء المختلطة التي كانت تمثل قبل ذلك الحادث معظم مساحة بغداد، ولم تتبق سوى مناطق هامشية، وأدى كل ذلك إلى “خلق واقع اجتماعي جديد في العراق، أساسه التعصب للهوية الطائفية لا الوطنية، وجرت معظم عمليات القتل خلال هذين العامين على هذا الأساس، من دون أن يكون هناك أي سبب آخر سياسي أو عقائدي أو حتى شخصي، وهو ما فتح جروحًا عميقة في الشخصية العراقية، وفي قدرتها على التعايش الذي عرفته فترات طويلة”(34).
لقد تطور التأثير الطائفي في العراق بعد الغزو الأميركي من قيام الاحتلال بتقرير الأغلبيات السكانية ومن ثم تمكينه “الأغلبية” الشيعية من السلطة، إلى قيام قوى التشيع السياسي بتطبيق برنامج واسع النطاق لرفع ما يعتبرونه “مظالم تاريخية” ضد الشيعة، ثم استحال ذلك إلى صراع عنيف للسيطرة على القرار والثروة والنفوذ، قبل أن يصل أخيرًا إلى بناء الهويات الطائفية بوصفها المرجعية الجديدة للمجموعات السكانية العراقية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
و”على الرغم من أن الدستور لم ينصَّ صراحة على توزيع السلطة وفقًا للمكونات الطائفية، فقد ثبَّتت الممارسات التي سادت في العراق الهوية الطائفية باعتبارها فئة سياسية. ركَّزت تلك المقاربة على إيجاد ممثِّلين طائفيين أكثر من تركيزها على التغلب على الانقسامات الطائفية”(35)، وفما استمرت (المحاصصة) كعرف سياسي غير دستوري، فقد تكرست بالتوازي الهويات الطائفية الفرعية، حتى مع دعوات السياسيين من شتى الطوائف إلى نبذ الطائفية والمحاصصة.
غير أن متغيرًا مهمًّا ظهر في انتخابات مايو/أيار 2018، وضع الطائفية السياسية في موضع تساؤل؛ إذ تشظَّت القوائم الانتخابية الشيعية والسُنيَّة والكردية ومن ثم القوى الفائزة منها في قوائم مختلفة، وتوزعت لاحقًا بين تيارات تنازعت (الاستحقاقات) السياسية والمناصب، أو اتبعت قوى خارجية تجسدت في إيران من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، حتى إن الخلافات داخل الطائفة الواحدة بدت وكأنها تسير على وقع الخلاف الأميركي-الإيراني الذي تسبب، للمرة الأولى منذ عام 2003، بفشل الدولتين في الاتفاق على شكل الحكومة العراقية وهويات أعضائها.
وتوازت هذه الظاهرة مع الاحتجاجات التي شهدتها مدن الجنوب العراقي الشيعية ضد الحكومة بسبب نقص الخدمات وفشل الدولة في إدارة شؤون البلاد، وكان ذلك أيضًا تطورًا مهمًّا ولافتًا في آليات الاحتجاجات وفي خرق الحالة الطائفية التي استندت إليها قوى التشيع السياسي كأساس لشرعية سلطتها، وقد كانت مهاجمة المحتجين، وهم السكان الشيعة، لمقرات الأحزاب الشيعية والميليشيات المرتبطة بإيران، بل ومهاجمة وحرق القنصلية الإيرانية ذاتها، كان كل ذلك مؤشرًا مهمًّا على أن حالة التحشيد الطائفي لم تكن فعالة في السيطرة على الانقسام الطائفي وبالتالي بقاء الجماهير الشيعية في حالة اختباء خلف الأحزاب الشيعية وميليشياتها التي قدمت نفسها كحامية للشيعة في “مواجهة البعث والتطرف والإرهاب”، و(الآخر السُّنِّي).
كانت هذه الاحتجاجات جرس إنذار مهم لهذه الأحزاب بفشل التعويل على آليات التخويف من الطائفي المقابل، لكسب الولاء؛ حيث كان فشل الدولة وغرق الأحزاب ورجال الدين ومن يمكن وصفهم بـ(أمراء الحرب الطائفية) في الفساد، قد تسبب بهزة عنيفة وجوهرية للهوية الطائفية وجوهرها المتعلق بأسطورة (المظلومية)، وهو ما وضع كل هذه المفاهيم أمام تساؤلات عميقة وجدية.
وفي المقابل، فإن الحرب الأهلية التي جرت بعد تفجير سامراء، قد أسست للطائفية الاجتماعية السُنيَّة، من دون أن تخلق (تسنُّنًا سياسيًّا) بسبب عدم وجود ميراث للإسلام السياسي (السُنِّي) قبل الغزو الأميركي باستثناء الحزب الإسلامي (الإخوان المسلمون)، وقد سعى الأميركيون لتقديم هذا الحزب كممثل للسُنَّة، قبل أن يتبين لاحقًا ضعفه وعدم شعبيته وسط السكان السُنَّة.
وقد ظهرت بعد الاحتلال هيئات إسلامية سُنيَّة حاولت أن تتولى التمثيل السياسي، ومن بين أهمها: (هيئة علماء المسلمين) التي تأسست بعد الاحتلال، لكنها رفضت أن تقدم نفسها ككيان سُنِّي، فضلًا عن أنها ترفض بالأساس العملية السياسية، وتعتبرها غير شرعية ومن نتائج الاحتلال، وهناك أيضًا (مجلس علماء العراق) و(دار الإفتاء)، إلى جانب (الوقف السُنِّي) وشخصيات فقهية سُنيَّة مهمة، لكنها جميعًا تختلف مع بعضها في الرؤية والأهداف والنظرة إلى العملية السياسية ومشروعية التعامل معها، وكان كل منها يقدم فتوى تعارض فتاوى الأطراف الأخرى فيما يتعلق ببعض القضايا السياسية مثل المشاركة بالانتخابات(36).
الطائفية في بيئة سياسية جديدة
أوحت آليات توزيع المناصب على أساس (المحاصصة)، بعد 2003 بظهور بيئة سياسية جديدة لا توفر أسبابًا لاستثارة الطائفية الاجتماعية، لكن وقائع الأحداث اللاحقة، مضت على عكس ذلك تمامًا؛ حيث شهد العراق صراعًا عنيفًا للاستيلاء على مصادر القوة والنفوذ، وتجسد ذلك في ظهور قوتين أساسيتين: الأولى: هي قوة الحكم الجديد مدعومًا بقوات الاحتلال الأميركية، والثانية: هي المقاومة العراقية التي وُلدت بشكل أساسي في المناطق السنية، والتي حاربت الاحتلال، والقوى السياسية العراقية التي عملت معه أو شاركت في العملية السياسية التي بدأت بعد الغزو.
اتخذ هذا الصراع مديات عنيفة ودموية، وكانت رمزيته الواضحة تتجسد في هيمنة شيعية تحكم تحت حماية الأميركيين، ومقاومة مسلحة تهيمن عليها فصائل سُنيَّة ترى في نفسها الشرعية من دون أن يكون لها برنامج سياسي واضح. وخلال هذا الصراع، تعززت الطائفية الاجتماعية بقوة بعد أن استخدمت السلطة (الشيعية) قوة الدولة القمعية برؤية الطائفة، مقابل استخدام قوى التطرف السُنِّي متجسدًا بتنظيم القاعدة (ولاحقًا تنظيم الدولة) آليات العنف لمحاربة السلطة بنفس الرؤية، وفي الحالتين كان الغالب الأعم من الضحايا هم من المدنيين في كلا الجانبين.
وفي ظل هذه الدائرة المتصلة من العنف طائفي الشكل والمضمون، تشكَّل عراق ما بعد 2003، ضمن إطار طائفي بدأ سياسيًّا، لكنه انتقل لاحقًا إلى الكيان الاجتماعي، بإصرار وتصميم من كلا الطرفين، فقد كانت المنصة الطائفية هي الرافعة الأكثر قوة وفاعلية في توفير الحشد والدعم والبيئات الحاضنة.
كانت ظروف تأسيس سلطة ما بعد الغزو الأميركي، تستعيد تاريخ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921، مع تبادل الأدوار وإن بشكل نسبي بين الشيعة والسُنَّة، حيث تماهى الشيعة مع الاحتلال هذه المرة، فيما عارضه السُنَّة، وقاوموه، وكان من النتائج المباشرة لذلك، أن وجد الاحتلال في قوى التشيع السياسي داعمًا وحليفًا، ومنحوهم الفرص للحصول على أكبر قدر من النفوذ والهيمنة في الدولة (الجديدة)، وبالمقابل، فقد وجد السُنَّة أنفسهم خارج معادلة الدولة، فلجؤوا للمؤسسة القبلية بشكل أساسي، ولم تكن هذه أيضًا قادرة على حمايتهم، لأنها بدورها تعرضت إما إلى قمع السلطة أو إرهاب المنظمات المتطرفة.
كانت المعادلة الجديدة استثنائية وغير مسبوقة، فالتشيع السياسي الذي لا يمتلك غير ميراث المعارضة، صار عليه أن يؤدي واجبات الحكم، فيما اضطر السُنَّة إلى العمل في دائرة المعارضة برغم ولائهم الطويل للدولة الذي يعود لقرون طويلة مضت. وهكذا، كان تبادل الأدوار قد خلق معادلة عبثية استُخدم فيها العنف الأقصى من أجل القضاء على الآخر وليس لمشاركته أو على الأقل لخلق فرص تفاوضية مناسبة معه، كما هي حال كل الصراعات.
ولقد عززت ولايتا رئيس الوزراء، نوري المالكي (2006- 2014)، من الشكل الطائفي الصارخ للسلطة، برغم انتهاء تنظيم القاعدة وضمور المقاومة منذ العامين 2007- 2008، وكان واضحًا سعيه خلال هذه الفترة إلى إخضاع المجتمع السُنِّي بالقوة والإرغام، في مواجهة أصوات سُنيَّة كانت لا تزال غير مقتنعة بـ(حقها) في الدولة. وخلال هذه الفترة لم يتوانَ المالكي عن استخدام شعارات طائفية علنية، وبل ومنح نفسه لقب (مختار العصر) في محاكاة طائفية تاريخية كنت تستثير الطائفية الاجتماعية في الجانب الآخر، حتى جاء تنظيم الدولة في هذا السياق ليحتل معظم المناطق السُنيَّة قبل القضاء عليه، في موجة عنف كلَّفت العراق مئات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين النازحين وتدمير أهم حواضر العراق.
تراجعت مظاهر الطائفية الاجتماعية السُنيَّة، برغم توافر أسباب تصاعدها، والسبب يعود إلى انهيار الكيانات السكانية وتعرضها لضرر بالغ الضراوة، أفقدها أية قدرات على المطاولة أو حتى على إشهار ما بات يسمى (المظلومية السُنيَّة)، كما أن القوى السياسية التي قدمت نفسها كمعبِّر عن هذه الكتلة السكانية ظلت تفتقر للمصداقية والتمثيل الحقيقي.
وفي الجانب الآخر، لم تعد هناك (مثيرات) للطائفية الاجتماعية الشيعية، بعد انهيار تنظيم الدولة، وهكذا توجهت هذه الكتلة السكانية نحو (الحكم الشيعي) ذاته لتحتج على سوء الخدمات والفساد وسوء الإدارة، كما حدث في البصرة ومدن الجنوب، وكان ذلك بدوره تطورًا مهمًّا، قد يكون مؤشرًا ذا دلالة على طبيعة مستقبل الطائفية في العراق.
المراجع
- حارث حسن، الأزمة الطائفية في العراق..إرث من الإقصاء، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، أبريل/نيسان 2014، (تاريخ الدخول: 30 سبتمبر/أيلول 2018):
http://carnegie-mec.org/2014/04/23/ar-pub-55405
- بشير موسى نافع، العراق : سياقات الوحدة والانقسام، دار الشروق، القاهرة، 2006، ص172.
- راجع للتفصيل: حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية، ثلاثة أجزاء، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، بيروت، 1995، الكتاب الأول، ص31.
- راجع: بشير نافع، مصدر سابق، ص62-64.
- للتفصيل بشأن الكوارث التي حلت ببغداد خلال القرون 17-19، راجع : حنا بطاطو، مصدر سابق، ص34.
- شملت هذه الحملة العديد من العشائر التي لها فروع أخرى في غرب العراق وشماله والتي ظلت سُنية، ومثال ذلك عشيرة شمر طوقة التي سكنت على دجلة جنوب بغداد وكانت الفرع الشقيق لعشيرة شمر جربه التي سكنت قرب الموصل، وكذلك عشيرة آل فتلة وهم فرع من عشائر الدليم السنية سكن أبناؤها في مناطق الفرات الأوسط، وشمل التشييع أيضًا عشائر أخرى مثل فرع من الجبور وسواها. للتفصيل، راجع: بشير نافع، مصدر سابق، ص61-62.
- من بين هذه القبائل الجنابيين في المحمودية وزوبع القاطنة بين الفلوجة وبغداد والأخيرة كان يرأسها الشيخ ضاري المحمود الذي أصبح من أشهر رجال ثورة العشرين بعد أن قتل أقوى قادة الإنكليز في العراق آنذاك، العقيد لجمن، وقد نُقل عنه في أكثر من مناسبة دفاعه عن المرجعية والشيعة عمومًا ورفضه محاولات الإنكليز اللعب على الورقة الطائفية، وقد كان الشيخ ضاري أول من استجاب من خارج القبائل الشيعية لفتاوى المراجع في النجف بالجهاد ضد البريطانيين، وحينما هرب من مطاردة البريطانيين بعد إخماد الثورة لجأ إلى قبائل شيعية في الفرات الأوسط حيث ظل هناك بضع سنوات قبل أن يلتحق بعشيرته التي لجأت إلى نصيبين. راجع للتفصيل: علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ستة أجزاء، مطبعة الأديب، بغداد، 1978، الجزء الخامس2، ص66.
- للتفصيل بشأن مؤتمر كربلاء والشخصيات التي حضرته وكذلك موقف الإنكليز الرافض له، راجع: علي الوردي، المصدر السابق، الجزء السادس1، ص132-146.
- علي الوردي، المصدر السابق، الجزء الخامس 1، ص15.
- عبد الله النفيسي، دور الشيعة في تطور العراق السياسي الحديث، مكتبة آفاق، الطبعة الثانية، الكويت 2013، ص220.
- المصدر السابق، ص 230.
- إسحق نقاش، شيعة العراق، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الثانية، بغداد، 2003، ص207.
- علي الوردي، مصدر سابق، الجزء السادس1، ص30.
- حنا بطاطو، الكتاب الأول، مصدر سابق، ص44.
- بلقيس محمد جواد، قراءة في تأسيس الدولة العراقية 1921: الأهداف والنتائج، مجلة العلوم السياسية، كلية العلوم السياسية، جامعة بغداد، العدد 41، 2010، ص129.
- ليام أندرسن، غاريث ستانسفيلد، عراق المستقبل، ترجمة رمزي بدر، مراجعة وتقديم ماجد شبر، دار الوراق للنشر، لندن، 2005، ص53.
- انظر بلقيس محمد جواد، مصدر سابق، ص 118-120.
- للتفصيل، انظر: إسحق نقاش، مصدر سابق، ص217-220.
- حنا بطاطو، مصدر سابق، ص364.
- بلقيس محمد جواد، مصدر سابق ص126.
- لقاء مكي، سنوات عاصفة، قراءة جديدة في احتلال العراق، منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة، 2018، ص75.
- رشيد خيون، شيعة العراق.. جماعات وأحزاب، في كتاب: شيعة العراق..المرجعية والأحزاب، مركز المسبار للدراسات والبحوث، ط3، دبي، 2011، 24.
- حنا بطاطو، مصدر سابق، الكتاب الثاني، ص363.
- حنا بطاطو، المصدر السابق، ص361، ويذكر بطاطو أن السفير الإنكليزي في بغداد ذهب إلى النجف في أكتوبر/تشرين الأول 1953، وزار هناك المجتهد الشيعي الأكبر، محمد حسين كاشف الغطاء، وحاول إقناعه بمشاركة رجال الدين الشيعة في محاربة الشيوعية.
- رشيد خيون، مصدر سابق، ص39.
- ليام أندرسن، غاريث ستانسفيلد، عراق المستقبل، ترجمة رمزي بدر، مراجعة وتقديم ماجد شبر، دار الوراق للنشر، لندن، 2005، ص226.
- عادل رؤوف، عراق بلا قيادة، قراءة في أزمة القيادة الإسلامية الشيعية في العراق الحديث، المركز العراقي للإعلام والدراسات، دمشق، الطبعة التاسعة، 2005، ص112.
- المصدر السابق، ص 414.
- تقع منطقة (خان النص) وسط الطريق بين النجف وكربلاء، وتمر خلالها المواكب الشيعية التي تخرج راجلة من النجف باتجاه كربلاء خلال الطقوس الدينية الشيعية أو ما يسمى بالمواكب الحسينية. وفي فبراير/شباط عام 1977، شارك في الموكب الحسيني خلال طقس العزاء السنوي بأربعينية الحسين، رضي الله عنه، نحو 30 ألف شخص قادمين من النجف. وحسب المصادر الشيعية، فإن هذا الموكب كان مخطَّطًا له منذ البداية، وجرى تنظيمه ليحمل شعارات سياسية مناوئة للسلطة ولحزب البعث الحاكم، وقد التحق بالموكب، محمد باقر الحكيم الذي سيغادر لاحقًا إلى إيران ويصبح زعيمًا للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي تأسس هناك مطلع الثمانينات. وقد رفض منظمو الموكب طلب السلطات بعدم القيام به ذلك العام، وحاولت قوات الأمن تعطيله ومنعه من الاستمرار طوال الطريق، وفي منطقة خان النص، جرت أعنف المواجهات التي سقط فيها العديد من الضحايا، كما جرى اعتقال العديد من المشاركين بالمواجهات مع قوات الأمن وقادة (الموكب)، وتشكيل محكمة خاصة قضت بإعدام ثمانية منهم، وفرض أحكام ثقيلة على آخرين، ومنذ ذلك الحين دخلت العلاقة بين السلطات في بغداد والتشيع السياسي في اختبار عنف متصاعد، وصولًا إلى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي بدأت عهدها برفع شعار (تصدير الثورة)، وساندت بشكل علني التنظيمات السياسية الشيعية التي تعمل لإسقاط النظام وإقامة دولة إسلامية في العراق على النمط الإيراني. يمكن مراجعة الرواية الشيعية للحادثة: محمد الطالقاني، دراسة حول انتفاضة صفر المجيدة عام 1977 ميلاديًّا، وكالة أنباء براثا، 8 مارس/آذار 2007، (تاريخ الدخول: 9 أكتوبر/تشرين الأول 2018): http://burathanews.com/arabic/studies/16712
- عادل رؤوف، المصدر السابق، ص414.
- أحداث جنوب العراق 1991 روايتان لمشهد واحد، الجزيرة نت، 21 أغسطس/آب 2007، (تاريخ الدخول: 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018): https://goo.gl/cqyhtF
- مؤتمر المعارضة العراقية يتفق على خطة عمل للمستقبل، بي بي سي عربي، 17 ديسمبر/كانون الأول 2002، (تاريخ الدخول: 29 سبتمبر/أيلول 2018): http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/middle_east_news/newsid_2583000/2583409.stm
- انظر: بول بريمر، عام قضيته في العراق، دار الكتاب العربي، بيروت، 2006، ص60-68.
- لقاء مكي، مصدر سابق، ص85.
- حارث حسن، مصدر سابق.
- طه أحمد الزيدي، الفتوى السياسية وسنة العراق، مجلة البيان، 18 يونيو/حزيران 2014، (تاريخ الدخول: 13 أكتوبر/تشرين الأول 2018): http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=3727