ملخص:

تبحث الدراسة الجذور الهيكلية لحالة التضخم في الاقتصاد الإيراني، والتي تجعله حساسًا للتأثيرات الخارجية؛ بشكل تدفع معه العوامل العَارضة باتجاه ارتفاع معدلات التضخم بوتيرة متسارعة، وتفترض أن العوامل النقدية، خلافًا للأكاديمية التقليدية التي عادةً ما تقدمها باعتبارها صلبَ وأساسَ ظاهرة التضخم، لا تعدو أن تكون عوامل ثانوية لا تلعب سوى دور هامشي يجسد ويفاقم آثار السمات والديناميات الهيكلية الكامنة الموجودة في الاقتصاد بالفعل؛ ما يعكس أهمية التعامل مع التضخم -في الاقتصادات المتخلفة خصوصًا- بمنهجية وسياسات مختلفة، انطلاقًا من تحليل هيكلي لتطور التشكيل الاقتصادي الاجتماعي ونمط نموه، وتظهر الدراسة تعدد روافد وطبقات التضخم في الاقتصاد الإيراني؛ بشكل يستلزم سياسات اقتصادية متعددة المستويات، تبدأ من المشكلات الهيكلية الأعمق التي تتطلب تغييرات اقتصادية جذرية، وصولًا إلى مشكلات السطح الاقتصادي والمظهر النقدي المألوفة التي تعالج عادةً بسياسات التوازن الاقتصادي الكلي التقليدية.

الكلمات المفتاحية: تضخم، ركود، النقوديون، الهيكليون، تبعية، ريع، المرض الهولندي، إيران.

 

Abstract:

The study examines the structural roots of inflation in the Iranian economy, which make it sensitive to external influences, allowing incidental factors to raise inflation rates at an accelerated pace. Contrary to the traditional academy orientation, which usually presents monetary factors as the core and basis of the inflation phenomenon, the study supposes that they are just secondary factors that play a marginal role that embodies and exacerbates the effects of underlying structural features and dynamics that already exist in the economy. That reflects the importance of dealing with inflation, especially in underdeveloped economies, with a different methodology and policies based on a structural analysis of the development of the socio-economic formation and its growth pattern. The study shows the multiplicity of tributaries and layers of inflation in the Iranian economy that requires multi-level economic policies, starting from the deeper structural problems that require radical economic changes down to the familiar ones of the economic surface and monetary appearance, which are usually addressed by traditional macroeconomic balance policies.

Keywords: Inflation, Recession, Monetarists, Structuralists, Rent, Dependency, Dutch disease, Iran

مقـدمة

بسقوط “منحنى فيليبس” أواسط السبعينات، انتهت يوتوبيا الاقتصاديين الكينزيين عن اقتصادات مستقرة تمتلك الحكومات ناصيتها بالاختيار ببساطة ما بين توليفات مختلفة من التضخم والبطالة، وسقطت معه هيمنة الكينزية على الفكر الاقتصادي والسياسات المالية والنقدية؛ ليعاني العالم حالة مزدوجة من تزامن التضخم والبطالة؛ وليصبح الاثنان أهم وأبرز موضوعات النظرية الاقتصادية الكلية بكاملها، أدبًا وسياسة.

وهكذا لم تعد المسألة ببساطة اختيارًا تبادليًّا بين تضخم وبطالة أو رواج وركود، بل أصبح حتميًّا التعامل معها باعتبارها مشكلات مستقلة جزئيًّا، وإن تزامنت وتشابكت محركاتها وخلفياتها. ومن هذا المنطلق اكتسبت قضية التضخم مكانتها المركزية في الفكر الاقتصادي منذ ذلك الحين، بل لا نبالغ إن قلنا: إنها أصبحت القضية الاقتصادية الأولى بنظر أغلب خبراء وحكومات العالم؛ نظرًا لخطورتها الخاصة على أي أداء اقتصادي من أي نوع، فضلًا عن مخاطرها السياسية والاجتماعية، باعتبارها فسخًا لتعاقد نوعي كامل بين كل حكومة وشعبها، هو تعاقد العملة الوطنية.

لكن ضمن ذلك الاتجاه العالمي للتضخم، وتقلبه بين معدلات منخفضة ومعتدلة في أغلب الفترات وعبر معظم الدول، اختصت بعض الدول بمعدلات تضخم مرتفعة ومستمرة، وتأتي في مقدمتها إيران ذات الخبرة التضخمية الطويلة التي قاربت نصف قرن، بمعدلات تضخم مرتفعة نسبيًّا كمتوسط عام للفترة، مع تقلب شديد بين معدلات معتدلة أحيانًا إلى شديدة الارتفاع أحيانًا أخرى، بشكل يجعلها إحدى حالات الدراسة المهمة والدالَّة في فهم قضية التضخم في العالم الثالث، خصوصًا مع كونها بلدًا متوسطًا نموذجيًّا، يصح -بل ويجب- إخضاعه للمعايير الهيكلية والاستحقاقات التنموية التقليدية (بعيدًا عن البلدان الصغيرة ذات التقييمات المختلفة)، مع انطباق السمات والأوضاع النوعية الخاصة بالدول العالمثالثية، المختلفة جوهريًّا عن نظيرتها في الدول الصناعية المتقدمة، ذات المشاكل المختلفة تمامًا، مهما تشابهت في المظاهر والأعراض.

والفرضية الأساسية العامة، الأولى، التي تنطلق منها هذه الورقة، هي أن التضخم في البلدان المتخلفة له جذور أكثر هيكلية من نظيره في البلدان المتقدمة، بل هي هيكلية بالأساس، وما العوامل النقدية في أغلبها سوى مجرد مظاهر وامتدادات لتلك الجذور الهيكلية نفسها، ما يقودنا إلى الفرضية الفرعية، الثانية ترتيبًا، وهى أن ثنائية التبعية والريعية المهيمنة على أغلب تلك الاقتصادات المتخلفة هي الجذر التاريخي والإطار الهيكلي لحالة التضخم المزمنة التي تعانيها، وما العوامل المؤسسية ذاتها سوى نتاج فرعي بالأساس لهذه الثنائية.

وتتخذ الورقة من إيران عبر نصف القرن الماضي نموذجًا تطبيقيًّا للفرضيتين، فما تعانيه من تضخم مزمن، ومفرط أحيانًا، طوال فترة بهذا الطول، هو شيء لا يمكن اختزاله، وفقًا للفرضية الأولى، في مجرد عدم كفاءة السياسات النقدية؛ فلا يمكن أن تستمر بالمستوى نفسه من ضعف الكفاءة خمسة عقود إلا بوجود أسباب أعمق من أخرى هيكلية ومؤسسية، خصوصًا أنها على كل أهميتها تظل مجرد سياسة نوعية واحدة ضمن سياسات كلية أخرى؛ فلا تمثل وحدها وبحد ذاتها متغيرًا مستقلًّا تمامًا يكفي لتفسير قائم بذاته لظاهرة مزمنة وبهذا الحجم، بل إنه لَيستلزم هو نفسه تفسيرًا أسبق وأعمق؛ الأمر الذي لا يمكن فهمه سوى في إطار الطابع النوعي والتطور التاريخي للاقتصاد الإيراني بمجمله؛ ما يقودنا للفرضية الثانية المتعلقة بطباع التبعية والريعية وانعكاساتها المؤسسية.

استوجب هذا مراجعة بنيوتاريخية للاقتصاد الإيراني، لاستكشاف الديناميات الهيكلية والمؤسسية الدافعة لحالة التضخم على المستويين المناظرين، أي مستوى التنظيم الاجتماعي للإنتاج بطريقة تكونه التاريخية ضمن موقع طرفي تابع لم ينجز مهمة التصنيع المستقل لامتلاك ناصية تجديده الاجتماعي الذاتي، ثم تعمق تشوه ذلك التنظيم الإنتاجي بما أصابه من انحراف ريعي نتاج المرض الهولندي الذي أصاب الاقتصاد نتاجًا للطفرة النفطية أواسط السبعينات، والتي تحولت لمسار لعنة الموارد على المستوى الآخر، مستوى الإطار المؤسسي، بتعزيزها الانحرافات المؤسسية لدولة الريع (محدودة التمويل الضريبي) والتخصيصات (التي توزع العوائد لشراء الولاء وتعزيز المشروعية)؛ بما رتبه من آثار سلبية على السياسات من تفكك لترابطها الدينامي الضروي، فضلًا عن انحرافها عن أكفأ الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية من منظور المصلحة العامة طويلة الأجل.

وهكذا تبدأ الدراسة -أولًا- بخلفية نظرية موجزة عن الاتجاهات الفكرية الأساسية في تفسير التضخم، مع عرض سريع للاتجاهات العامة والنتائج الأساسية لبعض الدراسات السابقة عن التضخم في الحالة الإيرانية، تلحقها -في ثانيًا- بخلفية تاريخية موجزة عن المسار العام للتضخم في إيران خلال نصف القرن الأخير، ثم تعرِّج سريعًا -في ثالثًا- على الرافد النقدي للتضخم في إيران، لتدخل بعدها -في رابعًا- في التحليل البنيوي التاريخي للتضخم في إيران عبر ثلاث طبقات متراكبة، فتناقش التبعية الطَرَفية باعتبارها خلفية سوسيواقتصادية للتضخم التاريخي في الاقتصاد الإيراني، ثم تحلِّل تعمّق الطابع الريعي لذلك الاقتصاد باعتباره أساسًا للتضخم الهيكلي به؛ مع إصابته بالمرض الهولندي واتخاذه مسار لعنة الموارد، الناتج عن هيمنة النفط على الصادرات والاقتصاد الإيراني بعمومه، وتتم تلك الطبقات الهيكلية بتعريج سريع على السمات المؤسسية المفاقمة للتضخم، الناتجة بدورها عن البعدين التبعي والريعي المذكورين، لتنهي الورقة بخاتمة عن ضرورة تجاوز الحلول النقدية والمؤسسية الميكروية التقليدية، فضلًا عن النظرة الجزئية عمومًا، كحلول حصرية لمشكلة التضخم في البلدان المتخلفة، والاتجاه إلى الحلول الهيكلية الإستراتيجية الشاملة التي تعالج مشكلة التضخم ضمن إطارها الأوسع، وهى مشكلة تخلف الاقتصاد الإيراني نفسها، بمحوريها الأساسيين، التبعية والريعية.

أولًا: خلفية نظرية ودراسات سابقة

  • التضخم من النقوديين إلى الهيكليين(1)

تتوزع الخطوط النظرية الأساسية في تفسير التضخم على، كما تنطلق من، مكوناته نفسها، فإذا كانت مكوناته، التي تمثل أنواعه كذلك، هي: التضخم النقدي، والتضخم المدفوع بالطلب، والضخم المدفوع بالعرض أو التكلفة، والتضخم الهيكلي، فضلًا عن أن التضخم نفسه والتوقعات باستمراره يخلق المزيد من التضخم؛ فإن هذه الخطوط هي: الصدمات النقدية، وصدمات الطلب الكلي، وصدمات العرض الكلي، والعوامل السياسية/المؤسسية، والعوامل الهيكلية.

فأما أولها الخاص بـالصدمات النقدية فهو أقدمها، والذي يتجذر تاريخيًّا في “النظرية الكمية في النقود” التي تعود إلى ديفيد هيوم وديفيد ريكاردو وإرفينج فيشر وألفريد مارشال، وعاود الظهور بصورته الحديثة عبر “المدرسة النقدية”، المعروفة بمدرسة شيكاغو، بقيادة ميلتون فريدمان، والفكرة العامة لهذا الخط هي ارتباط تغيرات المستوى العام للأسعار بتغيرات كمية النقود، والتي أعاد فريدمان صياغتها بقوله الشهير: إن “التضخم دومًا وفي كل مكان هو ظاهرة نقدية”، تنتج عن التوسع في إصدار النقود بأكثر من نمو الناتج الحقيقي، ويكفي دلالة على قِدم وتجذر هذا الخط في مسألة التضخم، فضلًا عن مضمونه النقدي، أن نعرف أن أول استخدام للمصطلح في ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر، كان يتعلق أساسًا بالتوسع في العملة، وليس الارتفاع في الأسعار الذي ربما ينشأ عن ذلك التوسع النقدي، فالعملة هي التي كانت تتضخم، وليس الأسعار.

وتنتهي كافة صياغات النظرية الكمية في النقود لذات الخلاصة المذكورة، مهما اختلفت صياغاتها، لطردية العلاقة بين كمية النقود والمستوى العام للأسعار، سواء في معادلة التبادل لفيشر التي تفترض ثبات حجم الناتج الحقيقي وسرعة تداول النقود، أو في معادلة الأرصدة النقدية، المعروفة بمعادلة كامبريدج، التي سعت لإدخال فكرة الطلب على النقود؛ فأعادت صياغته كمقلوب لسرعة تداولها، واستنتجت تحدد المستوى العام للأسعار، التي اعتبرته تمثيلًا لقيمة النقود، عند تحقق التوازن بين الطلب على النقود والعرض منها.

ولا يختلف مضمون المدرسة النقدية الحديثة كثيرًا، وإن بقدر من التعميق والتفصيل لمكونات التحليل، فالطلب على النقود، كما ينعكس في نسبة الرصيد النقدي إلى الدخل، يتحدد بتكلفة الاحتفاظ بالنقود بالمقارنة بعوائد الأصول البديلة، وفي ضوء المستوى الحقيقي لدخل وثروة الفرد، ولم يعد إجمالي كمية النقود هو المتغير الأساسي موضع النظر لفهم تحركات الأسعار ببساطة، بل متوسط كمية النقود بالنسبة لوحدة الإنتاج، ولتأخذ العلاقة الاتجاه الجدلي التبادلي بين الاثنين، مع التأكيد على حيادية أثر النقود على مستويات الناتج والأسعار في الأجل الطويل، خلافًا لأثرها في الأجل القصير.

وتؤيد مدرسة التوقعات العقلانية، بقيادة روبرت لوكاس، الموقف النقدي الفريدماني جزئيًّا، بتأكيدها على عدم فاعلية أو تأثير أية سياسة نقدية على الناتج الحقيقي، وانعكاس التوقعات في الأسعار، مع بناء الفاعلين الاقتصاديين توقعات صحيحة غالبًا -على أساس خبرات الماضي والمعلومات المتوافرة في الحاضر- تلغي الآثار المستهدفة لتلك السياسة، كما تتفق مع المدرسة النقدية على أن نمو عرض النقود ينتج عن عجز القطاع المالي الممول من البنك المركزي، وضمن هذا “الإطار النقدي السيء”، يرى توماس سيرجنت ونيل والاس أن قيود الموازنة العامة تعطينا فكرة عن المسار المستقبلي للتضخم، الذي يصبح حتميًّا مع سيطرة السياسة المالية على السياسة النقدية.

وبالطبع يرتبط الخط الثاني، المتعلق بـصدمات الطلب، بالمدرسة الكينزية بالأساس؛ حيث يتجاوز كمية النقود تفسيرًا وحيدًا للتضخم، إلى الاختلالات بين العرض والطلب الحقيقيين، عندما يتجاوز الطلب الكلي العرض الكلي عند مستوى التشغيل الكامل؛ ومن ثم ظهور الفجوة التضخمية، بل وحتى قبل الوصول إلى ذلك المستوى، حيث تبدأ بوادر التضخم، التي وصفه كينز بالتضخم الجزئي أو شبه التضخم، بالظهور مع تراجع مرونة الجهاز الإنتاجي بالاقتراب من مستوى تشغيله الكامل، وظهور الاختناقات مع ارتفاع تكاليف عناصر الإنتاج بزيادة الطلب عليها مقابل المعروض منها.

ولا ينكر التحليل الكينزي الرافد النقدي للتضخم، بل يستوعبه كمرحلة ضمن تحليله الأشمل؛ حيث يظهر الأثر التضخمي لكمية النقود بعد وصول الاقتصاد القومي إلى مرحلة التشغيل الكامل؛ ليظهر ما يُعرف بالتضخم الكامل أو المفتوح، عندما يتناسب ويتزامن التغير في كمية النقود مع التغير في حجم الطلب الفعال؛ ففائض الطلب الكلي في هذه المرحلة، بعد استنفاد كامل إمكانات الطاقة الإنتاجية القائمة، يموَّل غالبًا، وفي معظمه، بفائض سيولة خلقته السلطة النقدية وحقنته الحكومة في الأسواق.

أما الخط الثالث، خط صدمات العرض، فقد ظهر في السبعينات مع ما عُرف وقتها بالتضخم الجديد، الناتج في جوهره عن عوامل عرض ترفع التكلفة، خصوصًا من جهة مدخلات الإنتاج، كتجاوز أجور العمال النقدية لإنتاجيتهم الحقيقية تحت ضغط نقاباتهم، و/أو رفع الشركات ورجال الأعمال لأسعارهم، خصوصًا ذوي الأوضاع الاحتكارية منهم؛ لينتج عن الاثنين تحديدًا ما يعرف بـ”حلزون الأجور والأسعار”، وينضم لهم أي ارتفاع في تكاليف المواد الخام والمواد الغذائية، سواء لأسباب حقيقية أو تجارية، واختناقات الإنتاج والنزاعات الصناعية، والرفع الضريبي غير الكفء.

ويؤكد هذا الخط على الطابع الاستطراقي للتضخم، من خلال انتقالات الآثار التضخمية لارتفاع تكاليف الإنتاج بين القطاعات من خلال العلاقات التشابكية فيما بينها؛ حيث ترفع كافة حلقات الإنتاج من أسعارها، ليس لنقل عبء ارتفاع تكاليف الإنتاج عنها فحسب، والحفاظ على فوائضها في مستوياتها السابقة، بل للحفاظ على مستويات دخولها الحقيقية من أجور وأرباح بما يتماشى مع الأسعار الجديدة، وهو الأمر الذي تزداد إمكانيته في حالات سيادة الاحتكارات وقوة النقابات في الاقتصاد.

ويحاول “التوليف النيوكلاسيكي الجديد”، الناتج عن جمع تحليلي بين الكينزية والنيوكلاسيكية، تعميق التحليل، الكينزي بالأساس حد تسميته بالاقتصاد الكينزي الجديد، بالجمع بين خطي الطلب والعرض السابقين، بالتأكيد على أهمية صدمات العرض المحتملة في تفسير مستوى النشاط الاقتصادي الحقيقي، مع استمرار الدور المفتاحي للطلب، وضمنه العوامل النقدية، في حركة دورات الأعمال، بمكوِّنيْها من تضخم وركود، مع استيعاب افتراضات تحليلية كجمود الأسعار والأسواق غير التنافسية وأهمية التوقعات.

وضمن نموذجه IS-LM-PC، يجعل التحليل المذكور من مستوى الأسعار متغيرًا داخليًّا، فيما تعتمد العلاقات السلوكية الأساسية له على القرارات الأساسية لقطاعي الشركات والأسر التي تتضمن توقعات عن المستقبل بطبيعة الحال، فيربط منحنى الـ IS نمو الناتج المتوقع بسعر الفائدة الحقيقي (كتعبير عن الطلب الكلي)، ويربط منحنى العرض الكلي ومنحنى فيليبس تضخم اليوم بالتضخم المتوقع وفجوة الناتج (كتعبير عن العرض الكلي بالطبع)، دامجًا الاحتكار في التحليل، ومؤكدًا على أهميته في خلق الاختلالات السعرية والاختناقات العينية.

ويضم الخط الرابع، الخاص بـالعوامل السياسية والمؤسسية، بعضًا من العوامل غير الاقتصادية لتفسير التضخم؛ انطلاقًا من هيمنة القوى السياسية والمصالح المتضاربة على القرارات الاقتصادية والاجتماعية، وليس بتصور أي مخطط تقني متجرد، فيربط “الاقتصاد السياسي الجديد” التضخم باعتبارات سياسية من نوع توقيت الانتخابات وأداء السياسيين وأولوياتهم وعدم الاستقرار السياسي، واعتبارات مؤسسية كقضية استقلالية البنك المركزي الشهيرة، فضلًا عن عجز الموازنة المزمن نفسه كنتاج لتأثيرات اللوبيات والقوى السياسية المهيمنة، بما لديها من أولويات ومصالح، فيما اتجه فرعه النابع من “مدرسة الاختيار العام”، وبخلفية نيوكلاسيكية غالبًا، إلى اعتبار الدولة “جهازَ تحصيل ريع أنانيًّا”، يستخدم التضخم أداة لحل الصراعات التوزيعية ضمن نطاق نفوذه، والسياسة النقدية وسيلة لخلق الثروة بما يساعدها على الحفاظ على السلطة.

وتتلون بعض تحليلات “البوست كينزيان” (أو ما بعد الكينزية) للتضخم كذلك بطابع الاقتصاد السياسي، بمعناه الضيق المذكور؛ حيث ترى أن النقود ليست سوى متغير تابع يزداد عرضه في الاقتصاد تبعًا لنمو المعاملات وحاجات الفاعلين الاقتصاديين، فيما ينتج التضخم أساسًا عن الصراعات بين العمل ورأس المال، وعن تجاوز المطالبات الدخلية للشركات والعمال، من خلال الأسعار والأجور، لمستوى الناتج الحقيقي، فضلًا عن توقعاتهم الدافعة لمواقفهم وممارساتهم في الاقتصاد بالطبع، وضمن هذا التحليل، لا تتسم توقعات الناس بالعقلانية بالمعنى النيوكلاسيكي، كما يدرك الناس اتساع مساحة عدم التأكد وصعوبة توقع المستقبل بدقة.

وأخيرًا، يأتي الخط الخامس، الخط الهيكلي، الذي تبلور أساسًا ضمن دراسات أوضاع الدول المتخلفة، كذا جزئيًّا ضمن تفسيرات جانب العرض التي نشأت مع سقوط منحنى فيليبس في الدول المتقدمة في أواسط السبعينات، وهو خط يؤكد على اختلاف أوضاع الدول المتخلفة عن الدول المتقدمة، من جهة ضعف وتخلف جهاز الإنتاج؛ ومن ثم ضعف مرونته جوهريًّا؛ بشكل يجعل سياسات مكافحة التضخم التقليدية كالتقليص النقدي وسياسة الموازنة سياسات تكبح النمو، بدلًا من أن تدفعه، كما يشير إلى أن التضخم في تلك البلدان يدخل جزئيًّا في باب التكلفة الطبيعية للنمو السريع الذي تحتاجه تلك البلدان، خصوصًا مع حاجاتها الأعلى للاستثمار في البنى التحتية والقدرات الإنتاجية طويلة الأجل.

وينطبق التحليل كذلك على الدول المتقدمة، بل إن أول إشارة له كانت في تحليل تشارلس شولتز لاتجاهات التضخم في الولايات المتحدة، في ورقته المعنونة “Recent Inflation in the United States” الصادرة عام 1959، عندما أشار إلى وجود خلل هيكلي ناشئ أساسًا عن تغير بنيان الطلب، مع عدم قدرة بنيان العرض على مجاراة ذلك التغير، فتغيرات الطلب الناتجة عن تغيرات الأذواق وخلافه، مع عدم وجود طاقات عاطلة كافية لمجاراة الزيادة في الطلب، أو على العكس عدم إمكانية خفض الأجور لمجابهة الانخفاض فيه؛ ينتج عنه كله تغيرات سعرية تنتقل عبر العلاقات التشابكية، ضمن التأثير الاستطراقي المذكور سابقًا؛ بما ينتج موجة تضخمة في كافة جنبات الاقتصاد.

وبالطبع لا يقتصر الاختلال الهيكلي المتعلق بالدول المتخلفة على تلك الحدود الأقرب للكينزية، فهى تتسع لتشمل السمات الغالبة على الاقتصادات الطرفية التابعة؛ بإشكالات اعتمادية تجديدها الاجتماعي على الخارج، كذا كافة حالات الريعية؛ لذلك يتناول التحليل أيضًا الحالات الخاصة من الركود التضخمي، الذي ينتج فيه التضخم ضمن حالة من الركود، وتتراوح تفسيراته ما بين صدمات العرض في التحليلات النيوكلاسيكية وأزمات التراكم الرأسمالي في التحليلات الماركسية، فضلًا عن الركود الريعي بكافة أشكاله وتنظيراته من نمط فخ الموارد والمرض الهولندي ولعنة موارد وما شابه، التي ينتظمها جميعًا تحليل عام عن اختلالات هياكل الأسعار والدخول والإنتاج الناتجة عن هيكل علاقات مختل كميًّا وكيفيًّا بالخارج؛ بسبب هيمنة الموارد الطبيعية على الصادرات.

كما يضيف التحليل النمو السريع لقطاع الخدمات في تلك الدول؛ بسبب النمو السكاني والهجرة الداخلية؛ بشكل يجعله قطاعًا تضخميًّا، وكذلك الصراعات الاجتماعية كتعبير عن، ونتيجة لـ، التضخم، المرتبطة بمحاولات تغيير الحصص النسبية في الدخل القومي وردود الفعل عليها، والتي تزداد بشكل خاص خلال فترات النمو الاقتصادي السريع واشتداد وتيرة الحِراك الاجتماعي؛ حيث يصبح التضخم نفسه أحيانًا وسيلة لإعادة توزيع الدخل وتعزيز السلطة السياسية.

وكما نرى، تتداخل العوامل والخطوط عمليًّا في التحليل والممارسة، فالهيكلي يقود إلى السياسي، الذي بدوره يؤثر فيه ويعززه، والطلب والعرض يتفاعلان فيمهدان الأرض لفجوة تضخمية أو ركودية، أو يدفعان لصدمة سيولة نقدية تفاقم مستوى الأسعار بالمعنى الكمي الكلاسيكي، ولعل هذه إحدى أكبر صعوبات دراسة التضخم، وهى التداخل بين العوامل، حد استحالة فرز تأثيراتها المستقلة بدقة؛ لهذا سنعتبر تحليلات التضخم المذكورة نوعًا من الدرجات اللونية على منحنى طيفي واحد، تتراوح ما بين قطبين، أحدهما القطب النقدي البحت، والآخر القطب الهيكلي الصِّرف، وما بينهما توليفات ودرجات وسيطة، خصوصًا أنه لا أحد تقريبًا، باستثناء الأكثر شططًا من الفريقين، ينكر التداخل والتشابك فيما بينها جميعًا.

  • التضخم في إيران بين النقوديين والهيكليين

وعلى أساس هذا التقسيم القطبي، ما بين نقدي وهيكلي، نصنِّف العينة التي سنتناولها من الدراسات السابقة حول التضخم في إيران، مع التأكيد على غلبة التداخل في التفسيرات والتحليلات؛ فمن النادر التأكيد الاستقطابي المطلق على النقدية أو الهيكلية؛ انطلاقًا من تعقد ظاهرة التضخم نفسها في الواقع.

وبالبدء بالدراسات التي مالت لأولوية العوامل الاسمية والنقدية في تفسير التضخم في إيران، نجد كما المتوقع، دراسة لصندوق النقد الدولي أنجزها أولين ليو وأولومويوا إيديديجي (2000)(2)، عن الفترة 1989-2000، تخلص إلى أن التضخم ظاهرة نقدية في إيران، فيشترك فائض عرض النقود مع النمو النقدي الجديد ليعملا كمحددين رئيسيين للتضخم، كما أن التضخم المرتفع يدفع لتحويل محفظة الأصول من العملة المحلية إلى العملات الأجنبية؛ ومن ثم إضعاف الطلب الحقيقي على النقود والدفع لمزيد من انخفاض سعر الصرف في سوق الصرف الموازي، ويشير التحليل الإمبريقي للدراسة إلى أن تخفيف الرقابة على سعر الصرف، عند مستوى معين من القيود التجارية والموقف النقدي، يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم مؤقتًا.

وتأكيدًا على الرافد النقدي للتضخم في إيران، حلَّلت دراسة كريم إسلام لويان وعلي دارفيشي (2007)(3)، للفترة 1959-2002، العلاقة طويلة الأجل بين التضخم ومحدداته الأساسية من ائتمان بنكي وسعر صرف السوق السوداء وناتج قومي إجمالي حقيقي وأسعار واردات، ووجدت أنه بينما يؤثر الناتج الحقيقي سلبيًّا على المستوى العام للأسعار في الأجلين القصير والطويل، فإنه ليس للائتمان البنكي وسعر صرف السوق السوداء أثر عليه في الأجل القصير، فيما يؤثران عليه مع أسعار الواردات إيجابيًّا في الأجل الطويل، فيرتب ارتفاع بمقدار 1% في الائتمان البنكي ارتفاعًا في التضخم بحوالي 0.5% في ذلك الأجل؛ ما يدحض ادعاء الحكومة الإيرانية بعدم تأثير الائتمان البنكي إيجابيًّا على معدل التضخم.

وانطلاقًا من خلفية نيوكلاسيكية، انتهت دراسة مصيب بهلوني ومحمد رحيم (2009)(4)، التي غطت الفترة 1971-2006، إلى أن التضخم المتوقع هو أهم مؤثر على التضخم الحالي، والذي يتأثر بالتحديات الهيكلية وتكاليف الصفقات والقيود على الأسواق ووجود أسواق موازية، خصوصًا لسوق الصرف، ويليه على الترتيب عوامل مثل التضخم المستورد وسعر الصرف والسيولة، واقترحت الدراسة تبني بعض توصيات النظرية الهيكلية، مثل تغيير جهاز الإنتاج وتوزيع الدخل، لخفض التضخم، فضلًا عن توصياتها بضبط السيولة من خلال استقلالية البنك المركزي، وضرورة استقرار سعر الصرف لآثاره المدمرة على الاقتصاد.

وفي ذات الإطار، ركزت دراسة أمير كيا ومحبوبة الجعفري (2020) (5)للفترة 1984-2016، على أثر سعر النفط والتوقعات الرشيدة، وتوصلت إلى غلبة التوجه المستقبلي للفاعلين الاقتصاديين وعقلانية توقعاتهم واهتمامهم بالتجاوب مع السياسات الحكومة، بحيث يغيرون ممارساتهم بالتفاعل مع تغيرات الإنفاق الحكومي ومعدل التضخم المتوقع، وأن السياسة النقدية في إيران كبلد منتج للنفط هي مصدر التضخم في الأجل الطويل، بما في ذلك ارتفاع المعروض النقدي وسعر الفائدة، فيما مصادره في الأجل القصير سعر الفوائد الأجنبية وتوحيد سعري الصرف الرسمي والسوقي.

ووصلت دراسة حميد رضا غورباني (2020)(6)، التي غطت الفترة 1970-2011، إلى أن التحكم في عرض النقود هو العامل الرئيسي في السيطرة على التضخم في إيران، وأن السياسة النقدية مع محاولاتها المعقولة، عجزت عن خفض التضخم إلى رقم واحد بدلًا من رقمين، كما أكدت على وجود علاقة بين عجز الموازنة والتضخم، ومصادر الدخل الحكومي كعائدات النفط وضرائب الدخل.

أما الدراسات التي مالت للتفسيرات الأكثر عينية من صدمات طلب وعرض وصولًا إلى التفسيرات السياسية/المؤسسية والهيكلية، انطلاقًا من القناعة بأن التضخم في إيران ليس مجرد ظاهرة نقدية، فنجد منها دراسة محسن بهماني (1995) (7)للتضخم خلال الفترة 1959-1990، التي انتهت إلى أن التضخم في إيران هو أساسًا نتاج انخفاض سعر صرف الريال الإيراني في السوق السوداء والتضخم المستورد.

كما استهدفت دراسة يزدان نغدي وآخرين (2011)(8)، التي غطت الفترة 1979-2008، اختبار مدى انطباق وفاعلية نموذج P* على التضخم الإيراني، بما يعنيه من كونه نقديًّا بالأساس، وانتهت إلى عدم انطباقه ومعه النظرية الكمية في النقود على الاقتصاد الإيراني، وعدم قدرتهم على تفسير التضخم به، وعدم قدرة النموذج على توقع المسار المستقبلي للتضخم؛ بما يعني أن التضخم في إيران ليس ظاهرة نقدية.

وقدمت دراسة محمد ميرباقري (2014) (9)مسحًا لديناميات التضخم في إيران منذ عام 1990، باختبار العلاقة التفاعلية بين نمو النقود والنمو الاقتصادي ومعدل التضخم في الأجلين القصير والطويل، وانتهت إلى أن التضخم في إيران ليس ظاهرة نقدية، بل مدفوعًا بالتكلفة بالأساس في الأجل الطويل، ومنها الضرائب غير المباشرة المرتفعة وأسعار المواد الخام المستوردة وتكاليف العمل المتزايدتان، كما أكدت الدراسة ما تؤكده النظرية الاقتصادية والخبرة التاريخية من أن النمو الاقتصادي يلعب دورًا إيجابيًّا في خفض التضخم.

وفي دراسة لأثر الحكومة وعدم الاستقرار السياسي على التضخم عبر الفترة 1959-2010، لسيد مرتضى وآخرين (2014)(10)، تبين عدم كفاية النموذج النقدي البحت لتفسير التضخم، مقابل النموذج غير النقدي/السياسي، بما يعني اعتماد أثر المتغيرات النقدية على السياق السياسي، كما أكد على أهمية المتغيرات الحكومية والسياسية كنظام الحكم والتغييرات الوزارية والأزمات الحكومية، فضلًا عن إيجابية العلاقة بين عدم الاستقرار السياسي والتضخم، ومن ذلك أن كثرة التغييرات الوزارية تؤدي لارتفاع التضخم باستمرار، خصوصًا مع تغيير سياسات الاقتصاد الكلي بشكل متكرر.

وبخصوص أثر أسعار النفط على التضخم، خلصت دراسة توفيق نزاريان وأشكان أميري (2014)(11)، عن الفترة 2003-2013، إلى الأثر طويل الأجل، بدرجة أكبر منه قصير الأجل، لأسعار صادرات النفط على التضخم، خصوصًا مع الاعتماد المتزايد للاقتصاد الإيراني على الواردات؛ بشكل يؤثر معه تغير أسعار النفط على سعر الصرف ومن ثم على مؤشر أسعار الواردات، وتلعب السياسة النقدية بالطبع دورًا في نقل تلك الآثار، وإن كان ذلك لا يعني جدوى الاعتماد على السياسة النقدية وحدها بمعزل عن التغيرات في سوق النفط.

وبدراسة ذات العلاقة، وجدت دراسة حميد دفاري وعلي رضا كماليان (2018)(12)، التي غطت الفترة 2003-2015، أن لأسعار النفط أثرًا غير خطي على التضخم، وبينما وجدت العلاقة معنوية بين انخفاض أسعار النفط ونمو التضخم، فإن العلاقة غير معنوية بين ارتفاع الأولى ونمو الأخير.

وفي دراسة شاملة لأثر العديد من المتغيرات الاقتصادية الكلية على التضخم، شملت حجم السيولة وسعر الصرف غير الرسمي وعجز الموازنة والبطالة والنمو الاقتصادي وسعر الفائدة وعدم التأكد بخصوص التضخم، لماجد بابائي وآخرين (2018م)(13)، بالتطبيق على الفترة 1951-1974، خلص الباحثون إلى الأثر الإيجابي لكافة المتغيرات، باستثناء الأثر السلبي للنمو الاقتصادي، خصوصًا خلال الفترة 1968-1974؛ بما يثبت وجود حالة من التضخم الركودي، كما أكدوا دور الصدمات في أسعار النفط في حركة التضخم في الاقتصاد.

ثانيًا: نظرة في مسار التضخم في إيران عبر نصف قرن

يكشف المسار التاريخي للتضخم في إيران عن مشكلة عميقة متأصلة في الاقتصاد، بشكل جعله مشكلة شبه مزمنة منذ أكثر من نصف قرن، فبدءًا من أواسط الخمسينيات تقريبًا مال التضخم للتصاعد كاتجاه تاريخي عام، مع تقلبات شديدة في معدلاته تعكس حالة عدم الاستقرار العامة للبلد والاقتصاد، وكما نرى في الشكل (1) بتاليه، تجاوز المعدل العام للتضخم في إيران متوسطه لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ولمجموعة الدول “المتوسطة/منخفضة الدخل” طوال معظم الفترة منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي، كما يظهر بالخطين باللون الرمادي.

الشكل (1): معدلات التضخم في إيران 1960-2021(14)

وقد بلغ المتوسط السنوي للتضخم لكامل الفترة بالرسم حوالي 15.9%(15)، فيما يرتفع إلى حوالي 21% إذا اقتصرنا على آخر ثلاثين عامًا وحدها، مقابل متوسط 8% لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وقد وصل لقممه التاريخية عند معدلات بلغت حوالي 28%، عامي 1977 و1988، و36.6 و39.9%، عامي 2013 و2019 على التوالي، فيما بلغ أعلى قممه بحوالي 49.7%، عام 1995، ومنذ بدأ اتجاهه التصاعدي أوائل السبعينات، لم ينخفض عن 4.4%، عام 1985، و7% تقريبًا، عامي 1990 و2016 (16).

وفي رصد تحقيبي مقارن لمساري التضخم والنمو خلال الفترة 1972-2012، يوجز حسين الصالحي (2015) الاتجاهات العامة للمتغيرين، مع تفسيرات تاريخية بأحداث وأوضاع كل حقبة، في الجدول (1) بتاليه.

جدول (1): اتجاهات تطور التضخم والنمو في إيران 1972-2012 (17)
الحقبة الزمنية متوسط معدل التضخم متوسط معدل النمو الأحداث
1972-1978 13.45% 4.29% زيادة عوائد النفط مع طفرته، وزيادة إيرادات الحكومة، وتغير الأنماط الاستهلاكية للمجتمع، وزيادة الصادرات.
1979-1989 18.92% – 9% الثورة الإيرانية، الحرب مع العراق، غياب الاستثمار الخاص، هبوط عوائد النفط والناتج الإجمالي وظهور عجز مالي ضخم
1990-1994 22.41% 6.44% انتهاء الحرب، وزيادة الاقتراض الخارجي والإنفاق المدني، وتضاعف عرض النقود، وتبني سياسات مالية ونقدية توسعية.
1995-1999 49.38% 3.26% انخفاض النمو مع انخفاض أسعار النفط وعوائده، وأزمة في سداد الديون الأجنبية، وارتفاع عجز الموازنة.
2000-2004 14.12% 5.49% ميل توسعي مستمر، وارتفاع لعوائد النفط، وانخفاض لعجز الموازنة.
2005-2007 14.16% 6.85% زيادة مستمرة في عوائد النفط.
2008-2012

22.73%

2.32% هبوط عوائد النفط، وخفض الريال الإيراني.

وبنظرة خاطفة على الجدول، نجد أن معدلات التضخم تجاوزت دومًا معدلات النمو، مع ضرورة الإشارة إلى كون المتوسطات تخفي التقلبات الشديدة جدًّا في معدلات النمو السنوية، التي تراوحت ما بين معدلات نمو بحوالي 23% أحيانًا، ومعدلات نمو بالسالب وبقيم مقاربة أحايين أخرى، كما يظهر بشكل منطقي في المتوسط العام للنمو لفترة الحرب مع العراق، فيما الملاحظة الثانية هي التكرار في تقلب أسعار النفط ووضع الموازنة العامة؛ بشكل يؤكد دورهما المعتبر في التأثير على التضخم طوال الفترة.

ومن الجدير بالإشارة هنا، أن سلة سلع مؤشر أسعار المستهلك، التي يُحسب على أساسها معدل التضخم المذكور، تتكون أساسًا من(18): 29% إسكان ومياه وكهرباء وغاز وما شابه، و28.5% أغذية ومشروبات، وحوالي 12% نقل، و6% مفروشات ومعدات منزلية وما شابه، و6% ملابس وأحذية، و5.5% رعاية صحية. والملاحظة الأساسية على هذا التركيب للمؤشر، هى الانخفاض النسبي لمجموعة سلع الأغذية والمشروبات عما يفترض أن تكون عليه في بلد أقرب لانخفاض الدخل؛ ومن ثم أرجحية ارتفاع الحصة الفعلية لهذه النوعية من السلع في إنفاق العائلات؛ ما يجعل المؤشر أقل تعبيرًا عما تعانيه الغالبية العظمى من الشعب من تضخم فعلي، بشكل يجعله أميل للانحياز لأسفل، أي لإعطاء أرقام تضخم أقل من الواقع، كما أن الدعم الحكومي لكثير من تلك السلع بسلة المؤشر، رغم إيجابيته النسبية من جهة التخفيف عن كاهل المواطنين، إلا أنه يشوش صورة التضخم من جهة حجمه ونطاقه الحقيقيين؛ ومن ثم دقة سياسات معالجته وسبل علاجه، وإن كان ذلك يفقد بعضًا من أهميته النسبية، مع هذه المستويات شديدة الخطورة من التضخم.

ثالثًا: الرافد النقدي في التضخم الإيراني

لا يعني التأكيد على أهمية التفسير الهيكلي للتضخم عمومًا، وفي سياق البلدان المتخلفة خصوصًا، وأن التضخم في إيران أكثر من مجرد ظاهرة نقدية، إنكار دور العامل النقدي بالكلية، فبالقطع أفرطت الحكومة الإيرانية في الإصدار النقدي، فقد نمى المعروض النقدي بمعدلات عالية ومتقلبة جدًّا، كثيرًا ما تجاوزت 30 وحتى 40% في بعض السنوات، وكان أقل نمو سنوي فيه منذ أوائل ستينات القرن الماضي هو 11.9%، سنة 2008، كما يظهر بالشكل (2)؛ وهو ما انعكس في نمو نسبة ذلك المعروض إلى الناتج المحلي الإجمالي طوال معظم الفترة، باستثناء فترة ما بعد الحرب مع العراق وتبني برنامج الإصلاح الاقتصادي في التسعينات، ليعاود النمو المتسارع مرةً أخرى بدءًا من عام 2004، كما يظهر بالشكل (3) لاحقًا.

شكل (2): معدل النمو السنوي للمعروض النقدي بمعناه الواسع في إيران 1960-2016 (19)

شكل (3) تطور نسبة المعروض النقدي بمعناه الواسع إلى الناتج المحلي الإجمالي في إيران 1960-2016 (20)

وبالطبع تدعم التقديرات القياسية التأثير الإيجابي لنمو السيولة على التضخم خلال معظم الفترة، خصوصًا ما يميل منها للتفسير النقدي البحت، التي اعتبرت التضخم في إيران نقديًّا بالأساس، ومن أبرزها وأوسعها نطاقًا، دراسة كريم لويان وعلي دارفيشي (2007) سالفة الذكر(21)، التي غطت كامل الفترة 1959-2002، وحتى الدراسات التي لا تميل لهذا التفسير، تعترف بدور نمو السيولة في ارتفاع التضخم، بل وقدم بعضها تقديرات قياسية كمية لحجم مساهمتها في التضخم(22).

مع ذلك، لا يمكن ولا يوجد أي أساس بالطبع لافتراض كون ذلك النمو في المعروض النقدي هو السبب الوحيد للتضخم، ناهيك عن كونه السبب الأعمق له، خصوصًا مع ما سلف سرده من دراسات أكدت عدم حصرية العامل النقدي، كذا، وهو الأهم، يظل السؤال الغائب عن أذهان المؤكدين على الطبيعة النقدية الحصرية للتضخم، في البلدان المتخلفة خصوصًا، هو ما الذي يدفع الحكومات ابتداءً للإفراط في الإصدار النقدي؛ فالاكتفاء بالتفسيرات الأقرب للشخصانية، من سوء السياسات وفساد الحكومات إلى آخره مما يدخل في باب التفسيرات السياسية والأخلاقية تقريبًا، يحتجز التفكير عمليًّا عن محاولة فهم الخلفيات الهيكلية الأكثر عمقًا والسمات النوعية لاقتصادات تلك الدول، التي تدفع حكوماتها لهذا الإفراط النقدي، فضلًا عن انحيازه الأيديولوجي الكامن، بميله الثابت للتأكيد على ضرورة تنحي الحكومات عن أي دور في إدارة الاقتصادات، وترك الملاعب بالكامل للقطاع الخاص، إلى آخره مما نعرف من مبادئ هي أقرب لأصولية -ليبرالية- منها لموقف علمي.

رابعًا: الطبقات غير النقدية للتضخم في الاقتصاد الإيراني

  • الطبقة الأولى: التبعية الطَّرفية كقاعدة سوسيواقتصادية للتضخم التاريخي

لم يكن الالتحاق المتأخر لإيران، كغيرها من الدول العالمثالثية اليوم، بالرأسمالية الحديثة طبيعيًّا على أساس تطور تلقائي للبنى والديناميات المحلية؛ ما جعله انتقالًا مشوهًا، فاستدخال العلاقات الرأسمالية عنوة في البلاد الطرفية التي تأخرت عن ركب الرأسمالية الأول (إنجلترا وغرب أوروبا)  والثاني (ثلاثي الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا واليابان)، قد عكس دينامية التطور الاجتماعي الطبيعية، التي تسبق ضمنها قوى الإنتاج علاقات الإنتاج، بل وتجذبها خلفها وتوفر الحوافز الاجتماعية والدوافع السياسية لتغييرها بالقوى المحلية، لينتج عن ذلك الانعكاس في الآلية، من استباق علاقات الإنتاج لقوى الإنتاج، أن تحول “التأخر الكمي” البحت إلى “تخلف هيكلي” جيوتاريخي، أي تموضع ضمن نظام عالمي بموقع طَرفي وحالة تابعة، وليس مجرد تأخر بمنطق النسبة والتناسب.

هذا التخلف الهيكلي، يحدث عندما تنعكس آلية التطور الاقتصادي الاجتماعي المفترضة، بحيث يتحقق الانتقال من تشكيل اقتصادي اجتماعي إلى آخر بطريقة مخالفة للمفترض، تسبق ضمنها علاقات الإنتاج (المفروضة من الخارج) قوى الإنتاج (المحلية الموروثة)؛ لتختل مع، وبسبب، ذلك الانعكاس في الآلية الأساسية، كافة ديناميات عمل التشكيل الاقتصادي الاجتماعي وتتشوه اتجاهات تطوره؛ فتسبق السمات “النوعية” للهيكل الإنتاجي إمكاناته “الفنية”، وتتجاوز أنماط الاستهلاك (بمكوناتها المستوردة والمستحدثة) أنماط الإنتاج (المحلية التي إن اكتسبت الشكل الحديث جدلًا، فإنها لم تمتلك بعد إمكانات تجديدها ذاتيًّا) كمًّا وكيفًا؛ ما ينتج عنه اختراق الفضاء السوقي المحلي من الخارج، ولا يملك رأس المال المحلي، الضعيف الوليد، السيطرة على سوقه المحلية، ويفقد مع كل ما سبق السيطرة على شروط تجديده الاجتماعي الذاتي المستقل.

كانت إحدى أبرز نتائج هذا الانفصال، بالإدماج القسري بالنظام الرأسمالي من خلال إدخال علاقات إنتاج لا تتوافر قوى الإنتاج الضرورية لها، أن انفصل نمط الاستهلاك عن نمط الإنتاج القائم، خصوصًا مع الانفتاح على الأسواق الخارجية، حيث دخلت أنواع جديدة من السلع، خصوصًا من خلال طلب الطبقات العليا ذات القدرة الشرائية الأكبر، والتي تحاول بقية الطبقات اللحاق بها بأثر التقليد في حدود إمكاناتها؛ ما كانت نتيجته ارتفاع “المتوسط النوعي للاستهلاك”، بالمقارنة بـ “المتوسط النوعي للإنتاج” المحلي؛ نتج عن هذا فجوة تجارة مزمنة، سواءً بالاستيراد المباشر للسلع الاستهلاكية النهائية، أو بالاستيراد غير المباشر لها من خلال استيراد السلع الإنتاجية والوسيطة الضرورية لعمل الجهاز الإنتاجي المحلي لإنتاج ذات السلع، وسد الفجوة بين نمط الاستهلاك ونمط الإنتاج المحليين.

كذا يتجلى ذات الانفصال المذكور بين نمطي الاستهلاك والإنتاج -على مستوى المالية العامة- في عبء مالي مزمن لتمويل تطوير البنية التحتية الضرورية لتلبية المتطلبات الأكبر لعلاقات الإنتاج الجديدة الأكثر تطورًا؛ بما تشمله من دوائر تبادل أوسع ومستويات تحضر أعلى، دونما أساس إنتاجي محلي كاف لتمويلها ضريبيًّا؛ بما يتضمنه ذلك من آثار تضخمية، سواءً من جهة حجم الإنفاق العام، أو من جهة طريقة تمويله بالإيراد العام (المرجح ميله للطرائق التضخمية).

وبالتوازي مع، وكذلك بسبب، هذا الاختلال في مستوى التطور بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج؛ يحدث اختلال مماثل بين “نطاق الإنتاج” المحلي المتخلف و”نطاق التبادل” الأكثر تطورًا بارتباطه بالخارج؛ تنشأ عنه “فجوة تشغيل” هيكلية في سوق السلع، تعبِّر عنها من جهة “فجوة بطالة” في سوق العمل نتاج ضعف الطلب على قوة العمل، ومقابلها من جهة ثانية “فجوة تجارة” في نطاق التعاملات الخارجية؛ تتكون من الفارقين الكمي والكيفي بين العرض والطلب المحليين؛ ليغلب على أولهما، “الكمي”، السلع الاستهلاكية الضرورية لسد قصور العرض، وعلى ثانيهما، “الكيفي”، السلع الإنتاجية الضرورية لتجديد وعمل الجهاز الإنتاجي.

وبالطبع، يتسق وجود هذه الفجوة التجارية الهيكلية مع تثبيت وإدامة الموقع الطرفي التابع ضمن تقسيم العمل الدولي، لدولة تخصصت في السلع الأولية والتقليدية محدودة التصنيع حتى الحرب العالمية الثانية؛ ولتصبح دولة عجز تجاري منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا؛ حدَّ اضطرارها للاقتراض وخفض العملة الوطنية، وهو اتجاه العجز الذي استمر لعقود، وإن بوتيرة منخفضة؛ لانخفاض حجم التجارة الخارجية نفسه نسبيًّا، ومعه درجة اندماج إيران في الاقتصاد العالمي، وإن انعكس الوضع على العملة الوطنية، الكَرَان Karan وقتها، بانخفاض مستمر طوال القرن التاسع عشر، بما وصل حسب بعض التقديرات إلى ما يوازي 75% تقريبًا انخفاضًا للقيمة الخارجية للعملة (أو 410% بالحساب العكسي كما ورد بالمصدر(23)، كما تظهر عيِّنة منه بالشكل (4)، والذي يعكس بذاته تدهور الموقع الدولي وشروط التبادل التجاري وحصة الإنتاجية من الاقتصاد العالمي، وضمنه حتى التضخم المحلي.

شكل (4) تطور قيمة الكَرَان الإيراني مقابل الجنيه الإسترليني 1860-1890 (24)

وكما وصفه شارل عيساوي(25)، الأب المؤسس لدراسات اقتصادات الشرق الأوسط، لم يختلف النمط المسيطر على تجارة إيران عن السائد على مستوى بلدان الشرق الأوسط، اللهم إلا مع فوارق بسيطة، بسبب الموقع الجغرافي والصراع البريطاني-الروسي مع التركيب السياسي والاجتماعي، هي ما أدت لأن يصبح اندماجها في الأسواق التجارية والمالية الدولية أقل بكثير من دول كمصر وسوريا وتركيا؛ ما جعلها لا تمتلك سككًا حديدية مثلًا حتى الحرب العالمية الأولى، وعمليًّا حتى الكساد العالمي الكبير؛ ولعل هذا ما يفسر عدم تفعيل النمط الطرفي التابع لميول التدهور الكامنة به بشكل كبير متسارع في ذلك الحين، أي تباطؤ نمو وبروز خسائره الكمية وقصوراته الكيفية.

ومع الفشل المتوقع في هذا السياق عن تطوير صناعة وطنية، بل وركود براعمها تحت ضغط المنافسة الصناعية الأوروبية منذ أواسط القرن التاسع عشر(26)، تستمر فجوتا التشغيل والتجارة المذكورتان، ومعهما -أولًا- استمرار استباق الطلب الكلي للعرض الكلي (كما يتمظهر في الأهمية النسبية للسلع الصناعية في هيكل الواردات(27)؛ بسبب عدم المرونة الهيكلية لجهاز الإنتاج المحلي، وثانيًا: ظهور بوادر التضخم المستورد عبر قناة الواردات السلعية والعجز التجاري المزمن؛ لتعمل جميعها كمصادر للمديونية التاريخية للاقتصاد الطرفي التابع، تلك المديونية التي تخصم زمنيًّا بالتدريج من قيمة العملة الوطنية والدخول الحقيقية، ما يتجلى ميكرويًّا في تفارق الكفافين الاجتماعيين، الفعلي والمفترض، كما يظهر في فجوة الأسعار والأجور؛ ومن ثم اتجاهات الفقر(28)، ويتجسد في أرضية تاريخية لاتجاه عام لارتفاع المستوى العام للأسعار في المدى الطويل، وهو ما نسميه بـ “التضخم التاريخي” المرتبط بالتبعية، والذي يمثل الحاضنة الأعمق لـ”التضخم الهيكلي”، المرتبط بالريعية، والتي ننتقل إليها حالًا.

  • الطبقة الثانية: ريعية الموارد كمحفز للتضخم الهيكلي

تتعدد الأدبيات حول انطباق حالة المرض الهولندي على إيران، كإحدى أبرز الدول المصدِّرة للنفط منذ أوائل القرن العشرين، وهى الحالة المعروفة بتأثير الفوائض المالية للقطاعات التصديرية الاستخراجية، المتمحورة حول موارد طبيعية كالنفط والغاز غالبًا، على مسار التغير الهيكلي للاقتصادات، بالدفع للاقتراب من سمات نمط النمو المعروف بـ”فخ الموارد”(29)؛ حيث يرتفع سعر الصرف ويزداد الإنفاق الحكومي ويتضخم قطاع الخدمات وتزداد ممارسات السعي للريع وتنتفخ جيوب الفساد؛ بفضل التدفقات الإيجابية من الخارج(30)، أما الأثر الأهم على الإطلاق، وضمن سياق مناقشتنا الحالية بالأخص، فهو انخفاض جاذبية القطاعات السلعية الإتْجارية من صناعة وزراعة، لصالح القطاعات الاستخراجية الريعية والقطاعات غير الاتِّجارية كالعقارات والخدمات؛ ما ينتج عنه تقلص القطاعات السلعية وتراجع التصنيع الإنتاجي؛ أي بالمجمل، فيما يتصل بالأثر على التضخم، حالة يمتلك فيها الاقتصاد فوائض كبيرة تتدفق من الخارج، مقابل جهاز إنتاجي محلي يتقلص وتتراجع مرونته الإنتاجية المحلية وقدرته التنافسية التصديرية.

كذا ومن خلال تأثيره على التغير الهيكلي للاقتصاد، يؤثر المرض الهولندي بشكل دائم على كل من(31): (1) متوسط إنتاجية العمل؛ بتقليل حوافز الاستثمار في رأس المال البشري وفي الأنشطة متصاعدة الإنتاجية؛ ومن ثم يضعف من مرونه العرض المحلي، و(2) السياسة المالية؛ بتحويل الضرائب من القطاعات غير المرتبطة بالموارد إلى قطاعات الموارد الطبيعية؛ ما يعزز الطابع الريعي للدولة نفسها، و(3) تفاوت التوزيع؛ بتحويل الثروة من القطاعات الأخرى إلى قطاعات الموارد؛ فيضعف الحوافز الاستثمارية في تلك القطاعات، و(4) الديمغرافيا؛ بتشجيع التحضر؛ ومن ثم زيادة الضغط على البنى التحتية الحضرية والخدمات العامة والاضطرابات بالحضر..، وكما نرى، فكلها عوامل تؤثر على جانبي العرض والطلب الكليين، على الأول بالسلب وعلى الثاني بالإيجاب، أغلب الوقت؛ بشكل يشدد مفاعيل التضخم هيكليًّا في الاقتصاد.

وقد تراوحت حصة عوائد النفط من الدخل القومي الإيراني حول متوسط 22% طوال الفترة 1960-2010، وبقمة بلغت 52% منه عام 1974، فترة الطفرة النفطية أواسط السبعينات، التي تصل بعض التقديرات فيها لاقتراب قطاعي النفط والخدمات من نسبة 75% من الناتج المحلي الإجمالي، فظلت صادرات النفط تمثل حوالي 80% من إجمالي الصادرات منذ ذلك الحين؛ ليصبح الاقتصاد الإيراني منذ أواخر السبعينات اقتصادًا مفرط الاعتمادية الاستيرادية، ضمن بيئة محمية بالتمويل بعوائد النفط(32)، والذي تفاوتت درجته منذ ذلك الحين، لكن ظل الاتجاه الغالب مهيمنًا، كما يظهر في تقديرات اتجاه مؤشر المرض الهولندي بإيران خلال الفترة 1978-2008، الموضح بشكل (5)، والذي أظهر تحليله تأثر ذلك الاتجاه بالقطاع المالي وسياسات الموازنة تجاه العوائد النفطية؛ ما يؤكد دعم الإطار المؤسسي والسياق السياسي لمسار لعنة الموارد والدولة الريعية، وإن بتحسن عن فترة ما قبل الثورة.

شكل (5): اتجاه مؤشر المرض الهولندي في إيران 1978-2008 (33)

وقد تفاوتت التقديرات من جهة آثار المرض الهولندي على القطاعات السلعية في إيران، فبينما تميل الأدبيات السائدة لغلبة التأثير الأكبر على التصنيع، أكد بعضها الآخر للتأكيد أثره المعتبر على الزراعة، ربما تجاوز أثره على الصناعة التحويلية(34)؛ حد لعبه دورًا في نشوء فجوة غذائية بمقدار الثلث تقريبًا، كافحت الحكومة الإيرانية للتغلب عليها، وهو القطاع ذو الأثر الجوهري على كامل عملية التنمية، وعلى رأسها الصناعة التحويلية وتنافسية الاقتصاد، فضلًا عن التضخم بشكل مباشر بالطبع، عبر قناة “سلة السلع الأجرية”، المكونة في معظمها من الغذاء والأساسيات، سواء بأسعارها المحلية، أو بتعويض قصور العرض منها بالاستيراد من الخارج.

وكنموذج من بداية الطفرة النفطية، أي قبل أن تمارس مزيدًا من التأثيرات الأعمق على بنيتي الاقتصاد والمجتمع الإيرانيين، تشير تقديرات للنمو القطاعي غير النفطي، قبل وبعد الطفرة النفطية خلال الفترتين 1962-1972 و1973/1978 (35)، إلى تراجع نمو الزراعة والصناعة التحويلية بعد الطفرة، مقابل ارتفاع معدلات نمو قطاعي البناء والخدمات عما قبلها، وضمن رصد مقارن للتغيرات التراكمية في أسعار القطاعات الرئيسية بين نفس الفترتين، سجل قطاع البناء والتشييد أسرع نمو نسبي في الأسعار في الفترتين، وتحولت أسعار السلع الصناعية من الانخفاض مقابل السلع الزراعية، والارتفاع مقابل الخدمات قبل الطفرة، إلى الانخفاض مقابل جميع القطاعات الأخرى بعدها، وبالمثل تباطؤ ارتفاع أسعار السلع الزراعية بعد الطفرة، بما يؤكد التراجع النسبي للقطاعين السلعيين الأساسيين، فيما كانت الخدمات تصعد ببطء قبل الطفرة (لطبيعة النمط التابع غير المواتية لنمو الصناعة المشار إليها في القسم السابق)، لتتسارع بشكل كبير بعدها (هنا بسبب الدفع المالي والتخصيصي الريعي المٌكتسب بالمرض الهولندي).

وعبر كامل الفترة 1975-2015، حقق قطاع الخدمات (VS) أكبر نمو في القيمة المضافة بين قطاعات الاقتصاد، تلاه قطاع الصناعة بدون النفط (VI)، ثم قطاع النفط (VO)، وأخيرًا قطاع الزراعة (VA)، كما يظهر بالشكل (6) بتاليه، الذي يُظهر ضعف القيمة المضافة لقطاعي الزراعة والنفط، ومعاناة الاقتصاد من تضخم غير منتج لقطاع الخدمات؛ تفسره بالطبع الفوائض المالية التي حقنتها الموارد النفطية في الاقتصاد، عبر طريقة التوظيف الريعية التي انتهجتها الحكومة، وعلى نطاق زمني أوسع، يؤكد الشكل (7) ذات النمط الاتجاهي، من زاوية الحصص النسبية في القيمة المضافة، حيث احتلت الخدمات المرتبة الأولى بصعود حصتها النسبية منذ أواسط الثلاثينات حتى أوائل الألفية، فيما استمرت الزراعة بهبوطها التقليدي في المرحلة الأولى، ثم الهبوط الناتج عن الأثر السلبي للمرض الهولندي منذ أواسط الثمانينات، وركدت الصناعة التحويلية منذ أواسط السبعينات مع بداية الطفرة النفطية.

شكل (6): القيمة المضافة للقطاعات الرئيسية في إيران 1975-2015(36)

 

الشكل (7): تطور الحصص النسبية للقطاعات غير النفطية في إيران 1935-2005(37)

وبنظرة سريعة في هيكل الاقتصاد حاليًّا، كتجسيد لنهاية هذه الاتجاهات، نجده يؤكد الهيكل العام المعتاد لاقتصادات ريعية الموارد، فعلى مستوى التكوين القطاعي لم تتجاوز الصناعة التحويلية يومًا نسبة 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ولم تعرف أي اتجاه حقيقي للصعود المستقر منذ ستين عامًا(38)، بل مجرد تقلبات دورية تتضمن قليلًا من التحسن الذي يعود جزئيًّا للتراجع النسبي لصادرات النفط تحت ضغط العقوبات، أي لأسباب حسابية غالبًا، أما الزراعة فمستقرة عند متوسط عام 12% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي منذ ما يقرب من عقدين، بعد مرحلتين من الهبوط -الطبيعي وفقًا لمنطق التغير الهيكلي- حتى أواسط السبعينات، ثم الصعود بالتزامن مع، وربما بسبب، تراجع الاستثمارات في القطاعات الأخرى إبان الثورة والحرب مع العراق(39)، فيما تستحوذ الخدمات على أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي منذ أواخر السبعينات، بعد صعودها الانفجاري مع الطفرة النفطية من أقل من 32% إلى 58% من الناتج خلال أقل من عقد من الزمن(40).

وبهذا انتهى النمط بإيران إلى اقتصاد “شبه صناعي”، يحتل على “مؤشر التعقيد الاقتصادي”، الذي يقدر درجة تنويع الاقتصاد قطاعيًّا وسلعيًّا كمؤشر على درجة تطوره، المرتبة 118 من إجمالي 128 دولة غطاها المؤشر على مستوى العالم، والمرتبة قبل الأخيرة على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا(41)؛ الأمر الذي يدعمه استمرار الترابط الكبير بين نمو القطاعين النفطي وغير النفطي حتى الوقت الحالي؛ أي تبعية مجمل نمو وأداء الاقتصاد الإيراني لنمو وأداء القطاع النفطي، كما يظهر بالشكل (8) الآتي.

شكل (8): نمو الناتج المحلي الإجمالي النفطي وغير النفطي في إيران 2000-2015(42)

جعل كل هذا من إيران ما وصفه الاقتصاديون بـ”تجسيد نموذجي للعنة الموارد”، التي تحدث عندما تؤدي وفرة الموارد لسوء الأداء الاقتصادي، خصوصًا مع وجود سياق سياسي شعبوي يميل لاستخدام عوائدها بشكل ريعي، لا إنتاجي، يعزز تأثيرها المَرَضي على الاقتصاد، كما تجلى في طفراتها خصوصًا، في السبعينات وأوسط الثمانينات وحتى أوائل الألفية وصولًا إلى عام 2012 (43)، لتعزز هذه الريعية السمات الهيكلية للتبعية الموروثة التي ناقشناها سابقًا؛ وتفاقم ذات الديناميات المجذرة للتضخم الهيكلي في قلب الاقتصاد الإيراني.

فانخفاض معدل التراكم الرأسمالي في القطاعات المنتجة، وغلبة القطاعات الخدمية والريعية منخفضة التكوين الرأسمالي على الاقتصاد؛ مع تعزز ميل المستثمرين الإيرانيين للمجالات الخفيفة إنتاجيًّا، سريعة الربحية سهلة التسييل، لا يضعف بمجموعه فقط إمكانات نمو القدرات الإنتاجية الإجمالية، ومعها درجة مرونة العرض المحلي، بل إنه ليزيد صافي الفجوة الهيكلية بين الطلب الكلي والعرض الكلي، بزيادته الفجوة بين رأس المال العامل (الذي يمول الأجور فالطلب) ورأس المال الثابت (الذي يحدد نمو الإنتاجية فالعرض).

وتؤدي هذه الفجوة بين الطلب الكلي والعرض الكلي إلى تعزيز فجوة التجارة، أي زيادة الاستيراد؛ بما يستتبعه من تضخم مستورد وتدهور للعملة المحلية، وتؤدي تلك الفجوة التجارية بذاتها إلى انشقاق ما بين الأجور (ذات الأساس المحلي) والأسعار (ذات المكون العالمي)؛ فيزداد الفقر وتقل -أولًا- المدخرات التي يمكن توجيها لزيادة القدرات الإنتاجية، ومعها -ثانيًا- القدرات الضريبية التي يمكن أن تمتصها الحكومة؛ فيزداد العبء المالي عليها؛ ومن ثم اضطرارها للتمويل التضخمي كلما تراجعت الإيرادات النفطية لأي سبب، سوقي أو سياسي؛ ما ينتج الرافد النقدي للتضخم، الذي هو في أصله هيكليًّا، حتى وإن لم تسمح المساحة ولا نطاق الورقة بمناقشة الفجوة المالية نفسها كفجوة هيكلية متجذرة هي الأخرى في التشكيل الاقتصادي الاجتماعي، ولا تفعل الموارد النفطية سوى التغطية العَرَضية المؤقتة عليها.

  • الطبقة الثالثة: التعزيز المؤسسي للتضخم الهيكلي-الريعي

ومما له دلالة في هذا الصدد، التأثيرات السياسية لنمط النمو الريعي المذكور، كما تثبتها الخبرة التاريخية لعديد من التجارب الأخرى، فالفوائض المالية التي تتوفر للحكومة تدفعها لزيادة الإنفاق العام، خصوصًا على القطاعات غير الاتجارية كالبنية التحتية والإسكان والنقل، كما فعلت الحكومة الإيرانية(44) منذ ذلك الحين؛ بما حفز بالضرورة زيادة لاحقة في الإنفاق الخاص؛ ما كانت نتيجته بمجموعه ارتفاعًا في إجمالي الإنفاق القومي (بما يرتب تفاقمًا للتضخم بسبب ارتفاع الطلب الكلي بمنطق شبه كينزي تقليدي)، ترتفع ضمنه الأسعار النسبية للسلع غير الاتجارية؛ بما يعزز التشوه الهيكلي نفسه في الحوافز الاستثمارية عبر القطاعات (ومن ثم يفاقم الدينامية الهيكلية لارتفاع التضخم الريعي التقليدي للمرض الهولندي).

ولعل المفارقة الأساسية على المستوى السياسي/المؤسسي في إيران، هو استمرار جوهر سياسات ما قبل الثورة، على المستوى السوسيواقتصادي، فلم تحاول السلطة الجديدة جديًّا تغيير الهيكل الاقتصادي، الريعي التابع سالف الوصف، والاتجاه إلى عملية تصنيع جادة، كما يظهر في هيكل الاقتصاد سالف الذكر، بل استمرت في الاعتماد على عوائد النفط مصدرًا للإيرادات العامة والنقد الأجنبي من جهة، وعلى استيراد جزء معتبر من الغذاء والأساسيات من جهة أخرى(45)؛ ما كانت له نتيجتان مهمتان، أولاهما: استمرار، بل وتفاقم، تشوهات الهيكل الاقتصادي ونمط نموه المذكورين، وثانيتهما: إعادة إنتاج الإطار المؤسسي على صورة لا تختلف جوهريًّا، من زاوية سوسيوسياسية، عما كان قبل الثورة، أي إطارًا سياسيًّا ريعيًّا رعويًّا، متشبعًا بطبائع وميول النمط الريعي غير الإنتاجية بالأساس.

والسياق السياسي عامل مهم في تعزيز أو تثبيط آثار المرض الهولندي، فضلًا عن تحديد اتجاهه ما بين زيادة الرفاهية الوطنية أو الوقوع في لعنة الموارد، وتمثل الأنظمة الشعبوية التي تعتمد التوزيع السياسي للعوائد أبرز الأطر المؤسسية للعنة الموارد، فلتلك الفوائض إغراؤها المزدوج لأغلب الحكومات، خصوصًا في الدول المتخلفة محدودة التصنيع، فتميل الحكومات لأن تصبح أقل اعتمادًا على الضرائب، والتحول لسياسات “رعوية”، توزع من خلالها عوائدها على الناس، باسم الرفاهية العامة أو العدالة الاجتماعية وما شابه؛ بشكل يدعم موقفها السياسي بصيغ تعزز الاستبداد وتقلل المساءلة والشفافية؛ فتعمق الفساد بأنواعه الهيكلية والمؤسسية(46)؛ فتكون نتيجته حالة فقدان ثقة عامة في كفاءة الحكومة؛ ما يعزز الميل للتهرب الضريبي، في سياق من جمود وضعف النظم الضريبية للدول المتخلفة عمومًا؛ والذي يضطر الحكومة بدوره لمزيد من الاعتماد على التمويل التضخمي في فترات قصور الموارد والإيرادات العامة، وتشير تقديرات مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي إلى عدم تجاوز المطالبات الضريبية المتاحة للحكومة الإيرانية نسبة 7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وأن حوالي نصف الاقتصاد المحلي القادر على أداء الضرائب معفى منها(47).

من جهة أخرى، تزيد الموارد النفطية، فترات وفرتها، من مشاركة الحكومة في كافة القطاعات، لكن بثمن كيفي معتبر، هو فقدانها قدرتها على صنع السياسات والإدارة الفعالة لممارسات الفاعلين الاقتصاديين؛ ومن ثم المتغيرات الاقتصادية الكلية، بما فيها التضخم بالطبع.

وهكذا، دعم السياق السياسي غير التنموي التوجه بطفرة الموارد النفطية في إيران مسار “الثلاثي الريعي” DRR، أي ثلاثي “المرض الهولندي والدولة الريعية ولعنة الموارد”(48)؛ ما كرَّس إطارًا مؤسسيًّا معززًا للركود والتضخم، من خلال ثلاثة روافد أساسية، أولها: “التوجه السياساتي العام” المعزز للتوجه الريعي لا الإنتاجي/السلعي/الصناعي في الاقتصاد، وثانيها: ثنائية “العجز المالي/الإفراط النقدي” لتعويض القصورات المالية للتشكيل الاقتصادي-الاجتماعي ولتعزيز استقرار النظام السياسي، فيما ثالثها: “العجز السياساتي التقني” عن إدارة المتغيرات الاقتصادية الكلية؛ كأثر جانبي للطابع المؤسسي نفسه الذي غالبًا ما يصيب الدولة الريعية بالرخاوة، فضلًا عن آثاره الاقتصادية التثبيطية نفسها.

خاتمة: تشخيص وتوصيات

بجمع أجزاء الصورة معًا؛ يمكن تشخيص الصورة الكلية للتضخم في إيران، باعتباره في كتلته الصلبة وقلبه الأساس، عبارة عن -أولًا- “تضخم كامن في رِكاب ركود تاريخي“، أي فجوة تشغيل سلعية سلبية بسبب استباق أنماط الاستهلاك لأنماط الإنتاج، وانفصال نمو رأس المال العامل عن نمو رأس المال الثابت؛ ومن ثم، بالمجمل، تجاوز الطلب الكلي للعرض الكلي محدود المرونة؛ ما هو بمجموعه نتاج لحالة التبعية الطرفية والعجز عن إنجاز التحول الصناعي والوصول لحالة التجديد الاجتماعي المستقل والنمو الاقتصادي الذاتي.

هذا التضخم الكامن، عززه -ثانيًا- المرض الهولندي بـ“تضخم هيكلي ريعي”، نتج عن فوائض مالية ريعية رفعت من الطلب الكلي، فيما زادت من ضعف مرونة العرض الكلي؛ لتزيد من الفجوة المنتجة لانفلات الأسعار، وتعزرها بمفاقمة التضخم المستورد.

وأدامت الاثنين، تضخم التبعية وتضخم الريعية، -ثالثًا- “بنية مؤسسية ريعية” ذات شبكات مصالح وأطر سياسات تهمل التصنيع المستقل، كما تنتج بذاتها مزيدًا من التضخم “نقدي الطابع” عبر روافده المالية والنقدية التقليدية؛ لتعيد بدورها الكرة التضخمية، وتخلق مزيدًا من الحوافز المدِيمة لاستمرار التضخم عبر التوقعات المستقبلية والاستطراق القطاعي.

يعني ما سبق، من تحليل تجريدي عام لظاهرة التضخم في سياقها الكلي الهيكلي في إيران، ضرورة تجاوز النظرة النقودية الضيقة للتضخم كمجرد نتاج لسوء السياسة النقدية وعدم الاستقلال المؤسسي للبنك المركزي، بما تعنيه من حلول تقنية ومؤسسية جزئية، إلى التعامل مع التضخم كمجرد عَرض لظاهرة أعمق، هي ظاهرة العجز الإنتاجي والركود الصناعي ضمن حالة التخلف الاقتصادي في كليتها، بما تعنيه من ضرورة الانتقال إلى إستراتيجيات أكثر عمقًا واتساعًا ذات طابع تنموي شامل، تستهدف إنجاز الاستحقاق التاريخي المهمل: التحول الصناعي.

ما يعني تطبيقيًّا، أولًا: التعامل مع ظاهرة التضخم ضمن سياقها الأشمل من البنى الاقتصادية والاختلالات الكلية ذات الصلة، بسياسات هيكلية تستهدف الاقتصاد العيني أساسًا قبل النقدي؛ وثانيًا: بناء حِزمة سياسات متعددة المستويات، للتعامل مع كل نوع (طبقة أو مستوى) من التضخم في سياق السياسات الهيكلية المذكورة، فـ (1) طبقة/مستوى التضخم التاريخي الناتج عن حالة التبعية ستعالج ضمن سياسات تصفية حالة التبعية عمومًا، والتي ستستهدف بطبيعة الحال تعميق التصنيع المستقل وتعزيز القدرة الإنتاجية وتقليص الفجوة التجارية وتحرير السوق المحلية وضبط أنماط الاستهلاك المحلية، فيما ستعالج (2) طبقة التضخم الريعي ضمن سياسات مواجهة حالة الانحراف الريعي عمومًا، والتي ستتمحور بالأساس حول الإدارة الإنتاجية للفوائض النفطية (بالصناديق السيادية وما شابه) وبالتأثير التفضيلي بالسياسات المالية والنقدية في هياكل الأسعار والتكاليف والأرباح لصالح القطاعات الإنتاجية والاتجارية على حساب القطاعات الريعية والخدمية، وتبقى السياسات النقدية والمؤسسية التقليدية لمعالجة (3) طبقة التضخم النقودي التقليدية، باستهدافها تقليص تبعية السياسة النقدية للسياسة المالية واستقلالية البنك المركزي؛ لتقليل الميول للتمويل التضخمي والإفراط النقدي.

والخلاصة المنهجية العامة، والتوصية الأساسية، التي تنتهي إليها الورقة، هي ضرورة توسيع أفق البحث والسياسة الاقتصاديين في الدول المتخلفة، بالتعامل مع “المشكلات النوعية” ضمن سياقاتها العامة وبناها الكلية؛ فلا جدوى من التركيز على عَرض ظاهري كحرارة مرتفعة أو التهاب جلدي، دونما وعي أشمل بالمرض الذي يسببه، وهكذا هو الأمر يخضوض المشكلات الاقتصادية في البلدان المتخلفة بالأخص، التي لم تنجز اقتصاداتها التغير الهيكلي التاريخي، ولم تصل بها بعد لمرحلة الاقتصادات الحديثة القادرة على النمو المستقل والتجديد الذاتي، فهذه الاقتصادات تعاني مشكلة جوهرية أساسية هي التخلف، متجسدًا في فشل التحول الصناعي قبل أي شيء آخر، وما كافة المشكلات الأخرى سوى أعراض له.

المراجع

(1) تم الاعتماد في هذا القسم على المراجع التالية بالأساس:

  • رمزي زكي، مشكلة التضخم في مصر.. أسبابها ونتائجها مع برنامج مقترح لمكافحة الغلاء، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1980م)، ص 35-101.
  • Jalil Totonchi, “Macroeconomic theories of inflation”, International conference on economics and finance research, (Vol. 4. No. 1, 2011), pp. 459-462.‏
  • Alexander Barta et al., “Inflation in economic theory”, Exploring Economics, 2021 (Viewed in 20/8/2022): https://cutt.us/kVpFd.

(2) Olin Liu; Olumuyiwa S Adedeji, “Determinants of Inflation in the Islamic Republic of Iran: A Macroeconomic Analysis”, IMF Working Papers 2000/127,(International Monetary Fund, 2000).

(3) Karim Eslamloueyan; Ali Darvishi, “Credit Expansion and Inflation in Iran: An Unrestricted Error Correction Model”, Iranian Economic Review, (Vol.12, No.19, Spring 2007), pp. 105-126.

(4) Mosayeb Pahlavani; Mohammad Rahimi, “Sources of Inflation in Iran: An application of the ARDL Approach”, International Journal of Applied Econometrics and Quantitative Studies, (Euro-American Association of Economic Development, vol. 9(1), 2009).

(5) Amir Kia; Mahboubeh Jafari, “Forward-looking agents and inflation in an oil-producing country: Evidence from Iran”, Journal of Asian Economics, (Elsevier, vol. 69(C), 2000).

(6) Hamidreza Ghorbani Dastgerdi, “Inflation Theories and Inflation Persistence in Iran”, Zagreb International Review of Economics and Business, (vol.23, no.2, 2020), pp.1-20.

(7) Mohsen Bahmani-Oskooee, “Source of Inflation in Post-Revolutionary Iran”, International Economic Journal, (Volume 9, Number 2, Summer 1995), pp. 61-72.

(8) Yazdan Naghdi et al., “Money and Inflation in Iran: Evidence from P* Model,” Journal of Economics and Behavioral Studies, (AMH International, vol. 3(5), 2011), pp. 311-316.

(9) Mohammad Mirbagherijam, “Survey the Dynamic of Inflation in Iran Since 1990”, International Journal of Academic Research in Business and Social Sciences, (Human Resource Management Academic Research Society, International Journal of Academic Research in Business and Social Sciences, vol. 4(6), June 2014), pp. 210-224.

(10) Seyed Morteza Khani Hoolari et al., “The Effect of Governance and Political Instability Determinants on Inflation in Iran,” MPRA Paper 55827, (University Library of Munich, Germany, revised Mar 2014).

(11) Rafik Nazarian; Ashkan Amiri, “Asymmetry of the Oil Price Pass –Through to Inflation in Iran”, International Journal of Energy Economics and Policy, (Vol. 4, No. 3, 2014), pp.457-464.

(12) Hamid Davari & Alireza Kamalian, “Oil Price and Inflation in Iran: Non-Linear ARDL Approach,” International Journal of Energy Economics and Policy, (Econjournals, vol. 8(3), 2018), pp. 295-300.

(13) Majid Babaei et al., “How Fluctuations in Macroeconomic Indicators Affect Inflation in Iran”, Journal of Money and Economy, (Vol. 13, No. 3, Summer 2018), pp. 267-289.

(14) Inflation, consumer prices (annual %) – Iran, Islamic Rep., World Bank: https://data.worldbank.org/indicator/FP.CPI.TOTL.ZG?contextual=aggregate&locations=IR

(15) Development of inflation rates in Iran, WorldData: https://www.worlddata.info/asia/iran/inflation-rates.php.

(16) Inflation, consumer prices (annual %) – Iran, Islamic Rep., World Bank: https://data.worldbank.org/indicator/FP.CPI.TOTL.ZG?contextual=aggregate&locations=IR

(17) Hossein Salehi, The history of stagflation: A review of Iranian stagflation, (Master Thesis, Texas Tech University, August, 2015), p. 35.

(18) Iran Inflation Rate, Trading Economics: https://tradingeconomics.com/iran/inflation-cpi.

(19) Broad money growth (annual %) – Iran, Islamic Rep., World Bank: https://data.worldbank.org/indicator/FM.LBL.BMNY.ZG?locations=IR.

(20) Broad money (% of GDP) – Iran, Islamic Rep., World Bank: https://data.worldbank.org/indicator/FM.LBL.BMNY.GD.ZS?locations=IR.

(21) Karim Eslamloueyan; Ali Darvishi, “Credit Expansion and Inflation in Iran: An Unrestricted Error Correction Model”, Iranian Economic Review, (Vol.12, No.19, Spring 2007), pp. 105-126.

(22) Armesh, Hamed et al., “Causes of Inflation in the Iranian Economy.”,  International Review of Business Research Papers, (Vol. 6. No.3. August 2010) pp. 33-33.

(23) M.H. Malek, “Capitalism in nineteenth‐century Iran”, Middle Eastern Studies, (Vol. 27:1, 1991), p 72.

(24) Ibid, p 72.

(25) Charles Issawi, “Iranian Trade, 1800-1914”, Iranian Studies, (Vol. 16, No. 3/4, Studies on the Economic and Social History of Iran in the Nineteenth Century (Summer – Autumn, 1983)), pp. 239.

(26) M.H. Malek, “Capitalism in nineteenth‐century Iran”, p 75.

(27) Ibid, p. 74.

 (28) مجدي عبد الهادي، “مقاربات نظرية في الاقتصاد السياسي للفقر في مصر”، مجلة بحوث اقتصادية عربية، )الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، مصر، السنة (27)، العدد (82)، نوفمبر/تشرين الثاني 2020م(، ص 226-227.

(29)  كنقيض لنمط نمو التصنيع التنافسي، “يعود نمط نمو فخ الموارد إلى طول الاعتماد على صادرات السلع الأولية، بما يؤدي إلى تأخير مرحلة التصنيع كثيف العمالة (محرك التحولات الأساسي في النمط النقيض)؛ وهو ما يؤدي إلى اتجاهات مناقضة لاتجاهات نمط التصنيع المذكور، أهمها: اتجاه التنويع الإنتاجي لسلع أو مصادر دخل أولية أخرى، وبطء أو تراجع التصنيع والتحضر (ومعهما تأخر التحول السكاني وبطء انخفاض معدل الإعالة بنتائجهما)، وتأخر نقطة انقلاب سوق العمل (أي تزايد فائض العمل الريفي مع تزايد السكان دون استيعاب المدن له وتزايد تفاوت الدخل والتوترات الاجتماعية)، وعادةً ما يرتبط بهذا النمط دولة أوليغارشية، تعمل على نشر السعي للريع، وتعزيز المصالح الفئوية على حساب السياسات المتماسكة، وفرض سياسة حماية تحمي الاحتكارات الصناعية دون أن تنميها لغياب المنافسة؛ فتكون النتائج النهائية لهذا النمط: انتقال الموارد إلى القطاعات المحلية غير الاتجارية محدودة الكفاءة، وتزايد اعتماد الاقتصاد على السلع ذات التنافسية والعوائد المتناقصة، وتزايد هشاشته واعتماده على الخارج، كذا تزايد التفاوت وبطء تراكم رأس المال المادي والاجتماعي والبشري، فضلًا عن تزايد البطالة وتشوه توزيع الدخل والأصول الاجتماعية لصالح الأقليات المسيطرة سياسيًّا؛ ومن ثم تزايد الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالتالي تفاقم الانقسامات الاجتماعية والتوترات السياسية”، انظر:

– مجدي عبد الهادي، “النزاعات في الوطن العربي..بين الجذور الهيكلية والعجز المؤسسي”، المستقبل العربي، )مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 471، مايو/أيار 2018)، ص 21 و22.

)30( Somayeh Mardaneh, “Inflation Dynamics in a Dutch Disease Economy”, Iran. Econ. Rev., (Vol.19, No.3, 2015), p. 303.

)31( Edouard Mien; Michaël Goujon, “40 Years of Dutch Disease Literature: Lessons for Developing Countries”, Comparative Economic Studies, (Association for Comparative Economic Studies (ACES), Nov 2021), https://doi.org/10.1057/s41294-021-00177-w).

)32( Somayeh Mardaneh, “Inflation Dynamics in a Dutch Disease Economy”, p. 299-300.

)33( Yadollah Dadgar & Zeinab Orooji, “Dutch Disease, Rentier State, and Resource Curse: A Characteristic Triangle and Ultra Challenge in the Iranian Economy,” Iranian Economic Review (IER), (Faculty of Economics,University of Tehran.Tehran,Iran, Vol. 24(1), Winter 2020), p. 139.

)34( Somayeh Mardaneh, “Inflation Dynamics in a Dutch Disease Economy”, p. 319.

)35( Ahmad Jazayeri, “Prices and Output in Two Oil-Based Economies: The Dutch Disease in Iran and Nigeria”, IDS Bulletin, (Instuite of Development Studies, Sussex , Vol. 17 no4, 1986) , p. 17.

)36( Dadgar; Orooji, “Dutch Disease, Rentier State, and Resource Curse”, p. 145.

)37( Hadi Salehi Esfahani; M. Hashem Pesaran, “The Iranian Economy in the Twentieth Century: A Global Perspective”, Iranian Studies, (Vol. 42:2, 2009), p. 191.

)38( Iran Manufacturing Output 1960-2022, Macrotrends: https://www.macrotrends.net/countries/IRN/iran/manufacturing-output.

)39( Iran: GDP share of agriculture, TheGlobalEconomy: https://www.theglobaleconomy.com/Iran/Share_of_agriculture.

)40( Iran: Share of services,  TheGlobalEconomy: https://www.theglobaleconomy.com/Iran/Share_of_services.

)41( Ricardo Hausmann et al., The Atlas of Economic Complexity: Mapping Paths to Prosperity, the Massachusetts Institute of Technology Press, (Cambridge, Cambridge MA, 2014), p. 66.

)42( World Bank Group, Iran Economic Monitor, Fall 2016: Towards Reintegration, 2016, p 2.

)43 (Eghtesad Online, “Legacy of Dutch Disease in Iran’s Economy”, 15 Jan 2020: https://cutt.us/QHzQn.

)44( Ahmad Jazayeri, “Prices and Output in Two Oil-Based Economies”, p. 20.

)45( M. H. Pesaran, “The System of Dependent Capitalism in Pre- and Post-Revolutionary Iran”, International Journal of Middle East Studies, (Vol. 14, No. 4, Nov., 1982), p. 518.

(46) مجدي عبد الهادي، “الاقتصاد السياسي للفساد في إيران”، مجلة الدراسات الإيرانية، )المعهد الدولي للدراسات الإيرانية RASANAH، المملكة العربية السعودية، السنة (3)، العدد (9)، أبريل/نيسان 2019(.

)47( Hossein Salehi, “The history of stagflation: A review of Iranian stagflation”, p. 42.

)48( Dadgar; Orooji, “Dutch Disease, Rentier State, and Resource Curse”, p. 138-147.