ملخص:

تنشغل الدراسة بقضية الحاجة إلى منع اهتمام العسكريين بالسياسة عن طريق آلية تحكُّم مدنية تُجْبِر الجيش على أن يكون تابعًا للقيادة السياسية. وتكشف عن شكل السيطرة المدنية على الجيش في ظل خصوصية النظام الملكي للمغرب، وحدود استقلالية وحيادية الجيش في التاريخ السياسي للبلاد، ثم كيفية تفاعل الجيش مع المحيط السياسي والمجتمعي، وكذا طبيعة العلاقات بين المدنيين والعسكريين، وأخيرًا مدى استجابة الجيش لديناميات الإصلاح الديمقراطي.

كلمات مفتاحية: المغرب، السلطة المدنية، الجيش، السيطرة الديمقراطية.

Abstract:

This study is concerned with the need to deter the military’s interest in politics by means of a civilian control mechanism that compels the army to be subordinate to political leadership. It reveals the form of civilian control of the army in light of the privacy of the Moroccan monarchy, the limits of the military’s neutrality in the country’s political history, how the military interacts with its political environment, the nature of relations between civilians and servicemen, and the extent of the military’s response to the dynamics of democratic reform.

Keywords: Morocco, Civil Authority, Army, Democratic Control.

مقدمة

تتحدَّد قوة الجيش وتأثيره الاجتماعي أو السياسي تبعًا لظروف خاصة؛ إذ يمكن أن تلعب القوات المسلحة أدوارًا متعددة غير دورها التقليدي. فالدور السياسي للمؤسسة العسكرية قد لا يرتبط بحالة الأزمات في شكل تدخل مباشر، بل قد يكون لها دور عام في الحياة السياسية بصفة دائمة لاسيما في ظل تحوُّل التهديدات. فعلى الرغم من أن درجة ومدى النفوذ العسكري والمشاركة في السياسة تختلف من مجتمع إلى آخر، فإن الجيش يشارك بشكل أو بآخر في السياسة الوطنية، بغضِّ النظر عمَّا إذا كان الجيش يعمل في العالم المتقدم أو النامي؛ نظرًا لأن السياسة تدور حول التوزيع الموثوق للقيم في المجتمع، فلن يرغب أي جيش في الانسحاب من المشاركة في العملية السياسية بطريقة أو بأخرى في أي وقت(1).

وعليه، فالعَسْكَرَة على المستوى الداخلي لم تعد مرادفة للحكم العسكري أو الاستبدادي كبناء مسلح للسلطة من خلال الانقلابات العسكرية أو هيمنة أجهزة الدولة القوية والقمعية، بل يمكن أن تكون موجودة أيضًا في الأنظمة المدنية؛ حيث إن انسحاب الجيش من السياسة لا يُلغي ممارسات العَسْكَرَة التي صارت تشير إلى انتشار الرموز والقيم والخطابات التي تثبت القوة العسكرية في المجتمع. لهذا، يجب أن يتجاوز مفهومُ تفكيكِ النزعة العسكرية فكرةَ الانسحاب الرسمي للجيش من الساحة السياسية، وأن يشمل تفكيكَ الهياكل الأيديولوجية والمُؤَسَّسِية للعَسْكَرَة والأخلاقيات السلطوية، وإعادة تأكيد السيطرة المدنية والثقافة الديمقراطية على أجهزة الدولة.

وعلى مرِّ السنين، ما انفك الباحثون المهتمون بالشؤون العسكرية يؤكدون مقولة الرئيس الأميركي الأسبق، الجنرال دوايت أيزنهاور، التي تساءل فيها عن “ماذا يمكن أن يحدث لو ازداد النفوذ السياسي للجيش في غياب الرقابة والقيود؟”(2)، منبِّهين إلى ضرورة انصراف العسكريين عن الانشغال بالسياسة وخضوع العسكر للقيادة السياسية المنتخبة حتى ولو تعلق الأمر بالترتيبات الاستراتيجية التي هي محض خبرة عسكرية.

وقد كانت هناك محاولات عبر التاريخ لضمان الحياد السياسي للقوات المسلحة، فقد رأى المنظِّرون الفرنسيون للعلاقات المدنية-العسكرية أن الجمهورية الثانية نموذج لهذا الحياد؛ إذ كانت القوات المسلحة خلال تلك المرحلة صامتة مطيعة تهتم بالمسائل المهنية والتكتيك العسكري فقط تاركة للمدنيين القضايا الخاصة بشؤون البلاد، لأن الطاعة لديها كانت غاية في حدِّ ذاتها(3).

وتبقى المؤسسة العسكرية في دول العالم الثالث بشكل عام، وفي الدول العربية والإفريقية بشكل خاص، المؤسسة الوحيدة، المنسجمة والهرمية، القادرة على المحافظة على الأنظمة وكذلك تغييرها من الداخل(4). فالتدخل العسكري في السياسة عمومًا كان له تأثير مؤلم لربط الجيش بالقمع السياسي وانتهاكات حقوق الانسان التي عانى منها العديد من هذه البلدان منذ الاستقلال، حيث إن تورُّط الجيش في السياسة يغطي سلسلة متصلة كاملة، من الحد الأدنى إلى التأثير الأقصى، اعتمادًا على قدرة القيادة السياسية المدنية على التمسك بالسلطة، وحالة التهديدات الداخلية والخارجية، وصورة الجيش عن دوره ومكانته في المجتمع.

إذن، وعلى خلاف الديمقراطيات الغربية التي حسمت العلاقة بين المجتمع والعسكريين من خلال نموذج الحياد السياسي للقوات المسلحة، تفترض هذه الدراسة أن الدول النامية، ومنها المغرب، ما زالت تؤمن بأن الدور السياسي للجيش لا يكون متعلقًا بالتدخل بشكل مباشر في الأزمات فحسب، بل يمكن أن يكون عن طريق التدخل بشكل مؤسساتي داخل الحياة السياسية.

  1. الإطار النظري للدراسة

بمعنى أوسع، تدور العلاقات المدنية-العسكرية حول العلاقة بين القطاع العسكري وشرائح المجتمع المختلفة التي توجد فيها قوات الجيش وتعمل فيها. وتركز العلاقات بشكل خاص على العمليات والمؤسسات والآليات التي يتم بموجبها إخضاع قطاع الدفاع للسلطة المدنية الدستورية. ويشمل ذلك كيفية تفاعل قوات الجيش مع مؤسسات الدولة الأخرى، والمجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والطبقات الاجتماعية، وكذلك الجماعات العرقية والدينية(5).

ولعل أحد أهم الشواغل الأساسية والمستمرة في الأدبيات المتعلقة بالعلاقات المدنية-العسكرية هو تأمين وحفظ التفوق المدني على الجيش، أو ما يُعبَّر عنه كذلك بالسيطرة المدنية التي هي سيطرة ديمقراطية في نهاية المطاف؛ إذ في ظل الديمقراطية، ينبغي أن تكون الطريقة التي تدير بها الحكومة القطاع العسكري، من حيث المبدأ هي نفسها التي تدير بها أي جزء آخر من الدولة. أي أن يخضع القطاع العسكري لنفس نمط الضوابط والتوازنات، الذي تخضع له كافة الأجهزة الحكومية على نطاق واسع. فالجيش، في سياق ديمقراطي، لا يخدم الجمهور فحسب وإنما يسترشد بممثليهم المنتخبين.

وفي هذا الإطار، فالعلاقات المدنية-العسكرية، كعلاقات بين المدنيين والعسكريين، تُحدِّد جميع التفاعلات بين قيادة القوات المسلحة من ناحية، والنخب غير العسكرية التي لديها القدرة على اتخاذ القرارات السياسية من ناحية أخرى، بحيث نميز بين خمسة مجالات لصنع القرار في العلاقات المدنية-العسكرية: تجنيد النخبة، والسياسة العامة، والأمن الداخلي، والدفاع الوطني، والتنظيم العسكري(6)، وهي مجالات يتقاطع فيها مفهوم السيطرة المدنية مع “مفهوم الرقابة الدستورية الذي يستلزم ممارسة المهام الرئيسية للإشراف والتنظيم من قِبَل الهيئة التشريعية أو ممثلي الشعب المنتخبين”(7).

وتتمثَّل السيطرة المدنية عندما يتم اتخاذ القرارات الرئيسية، حول تدبير القطاع العسكري، من قِبَل المدنيين، وذلك من حيث القدرة على التحكُّم في ميزانية وإدارة الجيش وبالتالي توجيه عمل أجهزته. ويفيد ذلك من الناحية الإجرائية “حق السلطات السياسية في المبادرة بالسياسات وتحديد الأهداف الاستراتيجية (الأدوار والبعثات)، وتحديد نشر القوات المسلحة، ومستويات الميزانية والموارد، وإجراء رصد (التدقيق) وتقييم ومراجعة سياسة الدفاع، والهياكل، والأداء”(8).

ومن خلال تحديد مدى إنشاء مؤسسات مدنية فعالة، وتقليص الامتيازات العسكرية وأنماط المنافسة التي تحدُّ من سلطة اتخاذ القرارات المدنية، يمكن التمييز بين ثلاثة مستويات لقياس درجة السيطرة المدنية: عالية ومتوسطة ومنخفضة.

وتكون السيطرة المدنية عالية إذا كان الجيش لا يتمتع بصلاحيات رسمية ولا يُعارض السلطة المدنية. بينما تكون متوسطة إذا كانت القوات المسلحة، بسبب اللوائح الرسمية أو التحديات غير الرسمية للقيادة المدنية، تتمتع بامتيازات سياسية ولكنها غير قادرة على احتكارها، أو إذا كانت سلطة اتخاذ القرارات المدنية غير مؤسسية ولكنها تعتمد على العلاقات الشخصية للمدنيين مع الجيش. وتكون السيطرة المدنية منخفضة إذا كان الجيش يهيمن على صنع القرار أو تنفيذه(9).

وتُعدُّ العلاقات المدنية-العسكرية ودور الجيش في السياسة موضوعًا تمَّ بحثه على نطاق واسع في أدبيات مختلفة ليس فقط في علم السياسة وعلم الاجتماع، بل حتى في مجال الدراسات الأمنية كفرع من تخصص العلاقات الدولية، وذلك كما يبرز في الأدبيات الأميركية؛ حيث اهتمت الأبحاث في البداية بطريقة إدماج المؤسسات العسكرية في المجتمع الأميركي، وكيفية تفاعل الكونغرس والسلطة التنفيذية والعسكرية في صنع سياسات الأمن القومي، ثم كيفية تأثير السياسة العسكرية أو ممارسات السيطرة المدنية على سياسات الدفاع. وانصب التركيز في أبحاث أخرى، على قضايا العقيدة العسكرية والثقافة الاستراتيجية، وتأثير الديناميات المدنية والعسكرية على سياسة الأمن القومي، بالإضافة إلى بعض الأبحاث التي ركزت على ما إذا كانت العلاقات بين المدنيين والعسكريين يمكن أن تؤثر في الصراع الدولي والفعالية العسكرية في الحروب بين الدول. وعلى خلاف ذلك، انتقلت الأدبيات المقارنة نحو اتجاهات مختلفة؛ إذ كان شاغلها الأول هو مسألة كيفية ضمان السيطرة السياسية على القوات المسلحة مع السماح بسياسات دفاعية فعالة في الديمقراطيات الغربية.

وفي الستينات، انتقلت الأبحاث العلمية إلى تحليل أصول الانقلابات العسكرية والأنظمة العسكرية في البلدان النامية، وبحلول منتصف الثمانينات، تراكمت مجموعة كبيرة من الأدبيات حول أسباب التدخل العسكري في السياسة، وكذا العلاقات العسكرية الحزبية في الأنظمة الشيوعية، والتي تعمل في ظل ظروف اجتماعية ومؤسسية مختلفة تمامًا عن تلك الموجودة في الديمقراطيات الليبرالية والعالم النامي غير الاشتراكي.

وعلى العموم، فعندما بدأت الموجة الثالثة من الديمقراطية، عام 1974، أَلْهَمَت جيلًا جديدًا من الدراسات المدنية والعسكرية، والتي تحولت إلى مسائل إضفاء الطابع المؤسسي للسيطرة المدنية على القوات المسلحة وإصلاح قطاع الدفاع في الديمقراطيات الناشئة(10). وقد أصبح هذا الاهتمام بالسيادة المدنية أكثر وضوحًا في العقد الماضي بانتصار الديمقراطية على نطاق عالمي، وحلِّ العديد من النزاعات المرتبطة بالحرب الباردة، والانشغال بنزع السلاح العسكري وبناء السلام والتنمية المستدامة(11).

هكذا إذن، تعتمد السيطرة المدنية على مجموعة من الأفكار والمؤسسات والسلوكيات، التي تحدُّ من إمكانية التدخل العسكري في الشؤون السياسية وتوفر نظامًا يمنح المسؤولين المدنيين السلطة والآليات لممارسة التفوق في الشؤون العسكرية.

ولهذا، فوفقًا لبيتر فيفر (Peter Feaver)، “تتمثَّل المهمة الرئيسية لدراسة العلاقات المدنية العسكرية في تحديد ما إذا كان من الممكن التوفيق بين جيش قوي بما يكفي لفعل أي شيء يطلبه المدنيون، وتبعية عسكرية بما يكفي للقيام فقط بما يأذن به المدنيون”(12)، غير أن البروفيسور إبوي هوتشفل(Eboe Hutchful)  يعتبر أن “السيطرة )المدنية) مفهوم زلق خاصةً إذا تم تفسيرها وفقًا للمفهوم الأنجلوساكسوني الضيق والتخاصمي الذي يعتمد على اتجاه السلطة. في الواقع، تشير السيطرة بمعنى أوسع إلى مفاهيم أخرى كمفهوم التفتيش ومفهوم الرقابة”(13).

مغربيًّا، تبدو دراسة العلاقات المدنية-العسكرية غير مثيرة بالنسبة للأكاديميين؛ حيث تندر عمومًا الكتابات والأبحاث حول الجيش، ولعل أبرز الباحثين الذين اقتحموا دراسة هذا الموضوع هناك محمد شقير وإِنْ كان قد اقتصر على اقتراب النخبة لدراسة العلاقات بين المدنيين والعسكريين، معتبرًا النخبة العسكرية جزءًا من الطبقة السياسية الرئيسية، بل ومتداخلة معها من خلال علاقات التقارب والمصاهرة، مع خضوعها لتحكُّم المؤسسة الملكية من خلال الإشراف على تكوينها وتنظيمها وتسييرها(14).

ويبدو اقتراب الباحث، إبراهيم اسعيدي، في دراسة العلاقات المدنية-العسكرية بالمغرب أكثر وضوحًا وأوسع أفقًا بالنظر للأثر البحثي الذي خلَّفه بشكل دقيق في هذا المجال، حيث في ضوء كتاباته -التي وإِنْ جاءت بغير اللغة العربية- برز اهتمامه بدور العوامل الخارجية في دَمَقْرَطَة العلاقات المدنية-العسكرية بالمغرب، معتبرًا أنه في الوقت الذي تُعَدُّ المشاركة في أعمال المؤسسات الدولية، مثل عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام والشراكة مع منظمة حلف شمال الأطلسي من العوامل الأساسية لإرساء الديمقراطية في العلاقات المدنية-العسكرية، فإن الحالة المغربية تبيِّن أن وجود بنية ديمقراطية على المستوى الداخلي يبقى حاسمًا لضمان سيطرة مدنية حقيقية(15). كما انكبَّ نفس الباحث على دراسة العلاقة المعقدة بين الجيش والملكية في المغرب، وذهب إلى أن النهج الذي يساعد على استقرار العلاقات بين الدولة والمجتمع ويجنِّب بالتالي الصراع على السلطة بين المدنيين والعسكريين يقوم على عاملين: استراتيجية مقاومة الانقلاب التي ينفذها الملك وتجعل الجيش غير مُسَيَّس، ثم إضفاء الطابع المؤسسي من خلال مجموعة واضحة من القواعد والمبادئ والإجراءات الدستورية والقانونية التي تحكم الجيش بنظام قائم على الجدارة وتمكِّن من تعزيز وحفظ السيطرة المدنية على الجيش(16).

كذلك في دراسته حول البنية الدستورية للعلاقات المدنية بالمغرب، اعتبر اسعيدي أن مقتضيات دستور 2011 المتعلقة بالعلاقات بين المدنيين والعسكريين تستجيب للمعايير الديمقراطية، وأن الإشكال يكمن في تطبيق النص الدستوري وفي سلوكات الفاعلين السياسيين، حيث في الممارسة لا يختبر الطرفان العمل المشترك، والعلاقات بين المجال المدني والمجال العسكري غير حاضرة في الأجندة السياسية بل هناك قطيعة بين الدائرتين. ولهذا، لا يمكن تحقيق الانتقال الديمقراطي دون أن يشمل موقع الجيش في هذه العملية، حيث التحدي في هذا الإطار هو المصالحة بين الدائرتين المدنية والعسكرية وبناء الثقة المتبادلة وتشبيك وجهات النظر حول قضايا الأمن الوطني وإعطاء الأهمية للآثار الممكنة للتفاعلات بين المدنيين والعسكريين في صنع وتطبيق سياسات الدفاع(17).

إذن، وبناءً على ما تقدَّم من اختلاف في تصور العلاقات المدنية-العسكرية، وفي ضوء الموضوع الذي يثير اهتمام الباحثين فيها بالحاجة إلى منع انشغال العسكريين بالسياسة عن طريق آلية تحكُّم مدنية تجبر الجيش على أن يكون تابعًا للقيادة السياسية، فإن هذه الدراسة تنظر إلى السيطرة المدنية على أنها توزيع سلطة اتخاذ القرار بين المدنيين والجيش. وفي ظل التعدد الاصطلاحي للظاهرة المدروسة؛ حيث تستخدم الأوساط الأكاديمية مصطلح “المؤسسة العسكرية”، بينما تستعمل الأدبيات العسكرية تعبير “القوات المسلحة”، في حين يستعمل الشارع السياسي لفظ “الجيش”، فإن الدراسة ستستخدمها مجتمعة وتحاول مقاربتها من الناحية القانونية والسياسية والسوسيولوجية في السياق المغربي في محاولة لفكِّ خيوط علاقة التنظيم العسكري بالدائرة المدنية وفق المنهج النسقي الذي سيقودنا إلى الكشف عن شكل السيطرة المدنية على الجيش في ظل خصوصية النظام الملكي للمغرب، وحدود استقلالية وحيادية الجيش في التاريخ السياسي للبلاد، ثم كيفية تفاعل الجيش مع المحيط السياسي والمجتمعي، ودرجة الرقابة المدنية على الجيش، وكذا طبيعة العلاقات بين النخبتين، المدنية والعسكرية، من حيث كونها تنافسية أم تضامنية، وأخيرًا مدى استجابة الجيش لديناميات الإصلاح الديمقراطي.

  1. اختراق المؤسسة العسكرية للمجال السياسي بالمغرب

تعتبر القوات المسلحة المظهر الرئيسي للحفاظ على الأمن في الدولة، والأنشطة المدرجة في هذا المجال تتعلق بالمهمة الفعلية للعسكريين(18)، لكن دون أن تصل إلى درجة التدخل في السياسة الداخلية في بعدها الأمني، حيث تتكفل المؤسسات الأمنية بذلك. وإذا كان بالإمكان “اعتبار الشؤون السياسية مجموعة من الشؤون الداخلية، وكلها تندرج ضمن نطاق اختصاص المدنيين، فإن مجال الشؤون الخارجية والدفاع هو المجال التقليدي، حيث هناك إمكانية لكل من العسكريين والمدنيين للتدخل”(19).

وحين تكون السلطة المدنية ضعيفة يمكن أن يمارس الجيش سلطة سياسية. وقد ربط صامويل هنتنغتون (Samuel Huntington) في كتابه “الجندي والدولة”، انزلاق المؤسسة العسكرية إلى التورط في السياسة بمظهر قيام العسكريين بدور ناشط في العمليات السياسية.

ولا ينبغي أن ينحدر الجيش بوصفه مؤسسة من مؤسسات الدولة إلى أداة بيد السلطة، وأن يكون جيش السلطة، بل يجب أن يُتْرَك خارج الصراع السياسي، أي خارج تأثير المؤسسات السياسية؛ إذ إن التزام الجيش بهذا الموقع الحيادي يعني التزامه بوظيفته الدستورية حارسًا للكيان والوطن والدولة، ويؤكد على حقيقتين سياسيتين ينطوي عليهما النظام الديمقراطي الحديث، أولاهما: أن مجال السياسة والمنافسة مستقل عن مجال السيادة، وثانيتهما: أن العنف ليس من وسائل التغيير وأدواته في هذا النظام(20). غير أن فكرة الجيش المحايد أو غير المُسَيَّس هي مجرد مفهوم دستوري أكثر منها “حقيقة سياسية واقعية”(21). ففي حالة المغرب، حين يكون الملك هو الضامن لحياد المؤسسة العسكرية وفي نفس الوقت رئيسها، لا يكون الجيش محايدًا فعليًّا فهو فاعل سياسي أدنى، أما المؤسسة الملكية كفاعل سياسي أسمى، فالجيش غير منفصل عنها بل تابع لها.

وقد خلَّف ربط السلطة العسكرية بالمؤسسة الملكية العديد من المشاكل في التاريخ السياسي المغربي؛ إذ في الوقت الذي اعتلى الملك الحسن الثاني هرم المؤسسة العسكرية وأخضعها له بقوة الدستور والقانون تحصينًا له ضد معاودة الجيش الانقلاب عليه، فإنه حينما تعلق الأمر موازاة مع ذلك بالملك/الفاعل السياسي، لم يلتزم الجيش الحياد وانحاز لرئيسه في الصراع المدني مع قوى المعارضة السياسية.

1.2. تبعية المؤسسة العسكرية للملك

إن تبعية الجيش المغربي للملك سابقة على دخول المغرب في العهد الدستوري، سنة 1962، وهي تظل منسجمة مع طبيعة النظام السياسي المغربي الممهور بملكية تنفيذية حاكمة، لاسيما أن المجال العسكري هو مجال سيادي، والملك هو الممثل الوحيد للسيادة العليا للبلاد.

أ- سلطة الملك على الجيش  

إذا كان إعلان الملك عن تأسيس أول جيش بالمغرب المستقل قد شكَّل قرارًا سياديًّا على الصعيد الخارجي، فإنه عبَّر على الصعيد الداخلي عن الانفراد الشخصي للملك برمزية هذا التأسيس وتحديد تبعية الجيش للملكية وربطه بها منذ البداية(22)، خاصة أن المؤسسة البرلمانية لم تكن قد تشكَّلت بعد بحيث يُفتَرض فيها معيارًّيا تولي وظيفة التشريع لتأسيس المؤسسة العسكرية والرقابة عليها.

وهكذا حمل الجيش منذ اللحظة التي تأسس فيها سنة 1956 اسم “القوات المسلحة الملكية المغربية” في إشارة إلى أن جيش المغرب هو جيش الملك قبل كل شيء، حيث جاءت هذه التسمية بما تكتنزه من حمولة الترتيب المتقدم للمؤسسة الملكية، منقلبة على الترتيب المعلن في شعار المملكة (الله- الوطن- الملك) الذي هو كذلك شعار الجيش المغربي.

وقد اضطلع الملك الراحل، محمد الخامس، وولي عهده آنذاك، مولاي الحسن، بمهمة تأسيس الجيش معتمدًا في ذلك على الدعم الفرنسي والإسباني. وحَرَصا في ذلك على انتقاء شخصيات مخلصة للعرش العلوي من بين العناصر العسكرية المغربية التي سبق أن اشتغلت ضمن القوات الاستعمارية وعناصر جيش التحرير ودمجها ضمن القوات المسلحة الملكية.

إن ولاء الجيش للملك ليس فقط نتيجة للخلفية العسكرية لقائده -الملك- المقررة دستوريًّا، ولكن أيضًا لتوقيعه على وثيقة بيعة الملك، حيث تماهى بدوره مع آليات الحكم التقليدية الممهورة بالشَّخْصَنَة، ولعل ذلك يسبق ويفوق ولاءه للدولة؛ إذ يقرن كبار ضباط الجيش تحية الملك عسكريًّا بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية بطقس تقبيل يده بصفته أميرًا للمؤمنين.

ب- رئاسة الملك للسلطة العسكرية

يتمتع الملك بنفوذ كبير في النظام السياسي المغربي، وبذلك فهو يُعَدُّ محور الحياة المؤسساتية من خلال رئاسته لمجموعة من مؤسسات الدولة. وضمن هذا الإطار يرأس الملك السلطة العسكرية، وذلك بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية، واختصاصه بناء على ذلك بالتعيين في الوظائف العسكرية (الفصل 53 من الدستور)، ورئاسة المجلس الأعلى للأمن الذي أُحْدِث لأول مرة بموجب الفصل 54 من دستور 2011(23).

ويعتبر المجلس الوزاري الذي يرأسه الملك آلية إضافية لممارسة اختصاصات السلطة العسكرية؛ إذ من القضايا الحيوية التي يُقرِّر فيها هذا المجلس -حسب الفصل 49 من الدستور- هناك مشاريع النصوص المتعلقة بالمجال العسكري، والتوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة، وذلك من منطلق حضور البعد الاستراتيجي في إدارة المجال العسكري في النظرية السياسية. كما يحق للملك، في إطار نفس الفصل وفي نطاق نفس المجلس، اتخاذ قرارات تُرتِّب تعبئة الجيش بدافع حفظ الأمن الداخلي أو الدفاع عن الأمن الخارجي، من خلال إعلان حالة الحصار أو إشهار الحرب (الفصل 49 من الدستور). هذا إلى جانب إعلان حالة الاستثناء في نفس السياق، لكن في إطار الفصل 59 من الدستور. ولعل ما يكثف كل تلك الصلاحيات في نهاية المطاف هو كون الملك ضامنًا لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة (الفصل 42 من الدستور).

ورغم أن سياسة الدفاع يُقرِّها مجلس الوزراء إلا أنها تُحدَّد مسبقًا من طرف الملك الذي لا يقوم في حقيقة الأمر سوى بإعلام الحكومة بالسياسة المحددة ولا يعمل على إشراكها فيها…(24)، وقد كان من الأسباب الرئيسية في إقالة حكومة الراحل، عبد الله إبراهيم، تجرُّؤها على المطالبة بوضع القوات المسلحة تحت تصرف الحكومة(25).

2.2. تدخل الجيش في الحياة السياسية

مثلما عَمَد كثير من الزعماء الأفارقة بعد الاستقلال إلى التوظيف السياسي للجيوش الوطنية، بمعنى استخدامها لتحقيق غايات سياسية، مثل قمع المعارضة وحشد التأييد السياسي للنظام الحاكم(26)، فإن استعانة المؤسسة الملكية المغربية بالجيش في احتواء الأزمات الأمنية أو السياسية الداخلية، زادت من تدخل القوات المسلحة في الحياة السياسية للمغرب المستقل؛ حيث ظهرت كحليف أساسي للقصر في مواجهة الانتفاضات الشعبية التي عرفتها منطقة الريف سنة 1959 والدار البيضاء سنة 1965. وظل حضور الجيش من أجل ضبط النسق أمنيًّا وقمعيًّا مستمرًّا في مختلف لحظات المغرب العصيبة، ففي سنوات 1981 و1984 بالبيضاء و1990 بفاس وحتى الآن يُقدِّم الجيش الدليل تلو الآخر على قدرته على التدخل في الوقت المناسب لإنهاء الصراع…(27) لصالح سلطة الحكم.

لقد تحوَّل الجيش في الحقيقة إلى عنصر حاسم في ضمان استمرار الحكم، وأضحت مهمته الرئيسة أمنية داخلية كرديف قوي للأجهزة الأمنية الداخلية الأخرى، وتزايدت الحالات التي يتم فيها الاعتماد على الجيش في مهمات الأمن الداخلي، لدرجة أن طبيعة تدريبه واختيار ثكناته وتمركز تشكيلاته مرهونة بالهواجس الأمنية الداخلية، وليس بهواجس المخاطر الخارجية…(28).

وهكذا، ظل الجيش المغربي على الدوام أداة الملك الطيِّعة في إقرار الأمن الداخلي، وحليفه المتعاون والوفي في عمليات قمع التمردات ذات الخلفيات السياسية؛ حيث “أصبح يُشكِّل العماد الذي يتكئ عليه النظام في سنوات الستينيات… لقد مكَّن الجيش الملك أن يصير ابتداء من 1965 المنفرد بالسلطة”(29)، فمنذئذ وإلى غاية سنة 1970 “كان الجيش المغربي أداة رئيسية للإكراه، وجعلته الملكية الركن المركزي للعرش العلوي. ومع ذلك، تميزت العلاقات المدنية العسكرية بتأثير الجيش بدلًا من هيمنته على النظام السياسي. على الرغم من أن القوات المسلحة كانت في صميم النظام السياسي خلال هذه الفترة، فإنه لا يمكن وصف النظام المغربي بأنه “نظام عسكري”(30). ولكن هذا الوضع أدى إلى تَسْيِيس الجيش ومحاولة تمرده على نظام حكم الحسن الثاني في مناسبتين مما دفع الملك الراحل إلى إعادة هيكلته.

أ- تَسْيِيس الجيش

تُعَدُّ مرحلة الجنرال محمد أوفقير، الذي شغل منصب وزير الداخلية في عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، بين أغسطس/آب 1964 وأغسطس/آب 1974، من أكثر الفترات التي كان قد تمتَّع فيها الجيش بتأثير مهم في الحياة السياسية المغربية؛ حيث كان الجنرال محمد أوفقير يد الملك اليمنى وكانت له كلمة الحسم في تشكيل الحكومات وتعيين الوزراء. كما كان لوزارة الداخلية (أم الوزارات) دور كبير في التدخل في شؤون باقي الوزارات، بل تجاوز تأثيرها تأثير الوزارة الأولى(31)؛ حيث ارتبط ذلك بالشخصية العسكرية التي قادت وزارة الداخلية (الجنرال أوفقير). واستمرت هذه الوصاية الأبوية لوزارة الداخلية في الحكومات اللاحقة حتى مع الشخصيات المدنية التي ترأست هذه الوزارة.

وهكذا، أدى دخول الجنرال أوفقير إلى الحكومة، سنة 1964، إلى تمكين المؤسسة العسكرية من ممارسة نفوذ إداري وسياسي قادها إلى اقتحام مغامرة الصراع على السلطة. فقد عانى الحسن الثاني في مطلع السبعينات من طموح المؤسسة العسكرية التي تحوَّلت إلى فاعل سياسي يرغب في الحلول محلَّ الملكية(32)؛ حيث قاد الجيش محاولتين انقلابيتين متتاليتين في ظرف سنة واحدة، في إشارة إلى تغيير موقعه نحو البديل المحتمل لسلطة الملك بعد تعثر هذا الأخير في معالجة تناقضات نظام حكمه.

فبعد أن أدرك الجيش انتفاء تهديدات عسكرية حقيقية للمغرب، تبلور لديه وعي سياسي قاده إلى الاعتقاد بأنه يتحمل مسؤولية إصلاح النظام السياسي بعدما أهمل الملك واجباته في ذلك. وقد بلغ تَحَوُّلُه نحو العمل السياسي إلى درجة التنسيق مع المكوِّن الراديكالي من القوى المناهضة لنظام حكم الحسن الثاني، في حين أنه كان قد وُظِّف من قبل لتحجيم معارضتها الميدانية وردع اندفاع مناضليها نحو أي صراع مفتوح مع الملك. وقد تحوَّل الجيش من معاداة الطبقة السياسية في مسعى لعزلها وكسب وُدِّ الملك إلى التقارب معها والتآمر على الحكم، وهو ما انكشف بعد نشر أسبوعية “لوجورنال”، سنة 2000، رسالة منسوبة للمعارض السياسي، الفقيه البصري، أشارت إلى تورُّط قادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في محاولة الانقلاب الثانية، حيث ورد فيها إقرار محررها باضطلاعه بمهمة التنسيق و”الارتباط ببعض التنظيمات داخل الجيش” باسم الحزب اليساري الأقوى وقتئذ، وأن الجيش في شخص الجنرال أوفقير عرض على قادة الحزب المساهمة في “تشكيل سلطة جديدة بعد الإطاحة بالحكم”، وبأن الاتصالات كانت تجري مع صغار الضباط من الجيش قصد مساعدة الحزب في تسليح تنظيماته، وذلك بموازاة التفاهمات مع زعيم الانقلاب (أوفقير)، والتي على ضوئها “أصبح الاستيلاء على الحكم مؤكدًا”(33). فكل تلك الترتيبات أغرت الجيش في النهاية بالتدخل لانتزاع سلطة الحكم بالقوة، وهذا ما تم بالفعل.

ب- إعادة هيكلة الجيش

أكدت حادثتا التصادم بين الملك والجيش “ريبة القصر وتُشكُّكَه، وحرصه على الاحتياط من الأجهزة التي كان يفترض فيها أن تحتاط له”(34)، ففي سياق خضوع هياكل نظام حكم الحسن الثاني إلى الإصلاح بما في ذلك هيكل الجيش، عملت الملكية على إعادة ترتيب المشهد العسكري بإعادة صياغة دوره ضمن نمط الحارس لا الممارِس. ولهذا، اقتضى الأمر أولًا تجديد أركانه، حيث تمَّ على خلفية تحييد النفوذ السياسي للعسكريين إلغاء منصب وزير الدفاع الوطني، سنة 1972، وتولى الملك كقائد أعلى ممارسة اختصاصاته، مع إحداث إدارة للدفاع الوطني يقودها كاتب عام تحت إدارة الملك، لتُعَوَّض سنة 1997 بوزارة منتدبة لدى الوزير الأول (رئيس الحكومة حاليًّا) مكلفة بإدارة الدفاع الوطني، وهي وزارة من وزارات السيادة التي يختص الملك باختيار شخصيات غير حزبية ليعينها على رأسها، على اعتبار أنها “تمثِّل مجرد تفويض من الملك لرئيس الحكومة أن يمارس تحت سلطته مهام واختصاصات وزير الدفاع الوطني”(35). وجاء إسناد الملك حقيبة إدارة الدفاع الوطني إلى شخصية مدنية بهدف جعل القرار الحربي سياسيًّا وليس عسكريًّا، دون أن يعني ذلك أن للوزير المعني منصبًا سياسيًّا، حيث يمارس هذا الأخير اختصاصاته بناء على تفويض من الملك الذي يجمع بين المركز العسكري والمركز السياسي، وهو فقط الذي يمنح الشرعية السياسية لقرار الحرب.

وهكذا، فتعزيز موقع الملك في إدارة الدفاع اعتُبر مدخلًا لاستراتيجية عامة لمقاومة الانقلاب، والتي قامت أيضًا على إعادة بناء وتعزيز أجهزة الأمن الموازية (…)؛ إذ كان النظام الملكي حريصًا على إبقاء الجيش منفصلًا عن قوات الدرك الملكي عن طريق تكليفها بمهام “الشرطة الإدارية” ومراقبة التفاعل بين العسكريين.(…)، كما تضمنت إعادة التنظيم وزارة الداخلية التي كانت -ولا تزال- المؤسسة الأقوى في الدولة بسبب قوتها السياسية وميزانيتها المرتفعة ووظائفها الواسعة على كامل تراب البلاد، والتي تم تحقيقها بمساعدة ثلاثة أجهزة أمنية داخلية رئيسة مرتبطة بها، هي: وكالة الاستخبارات الداخلية المعروفة بالمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني (يُشار إليها على نطاق واسع بالديستي DST)، والأمن الوطني (جهاز الشرطة بالمغرب)، والقوات المساعدة، وهي قوة شبه عسكرية ولكن مع مهام منفصلة وذلك من أجل عدم تركيز استخدام القوة في أيدي مجموعة واحدة(36).

3.2. الجيش أداة لتنفيذ قرارات السياسة الخارجية

خلافًا للحظر المفروض على الجيش في مجال السياسة الداخلية، تسهم القوات المسلحة بشكل ملحوظ في السياسة الخارجية؛ فـ”مشاركة قيادات المؤسسة العسكرية في اتخاذ القرارات الاستراتيجية ذات العلاقة بالأمن القومي هي أمر واجب؛ حيث القرارات الاستراتيجية المصيرية، مثل قرار الحرب الذي يصدر من رئيس الدولة أو الملك بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، يتم صياغتها بواسطة القيادة العسكرية، قبل أن تُرفَع للرئيس لمناقشتها، ثم التصديق عليها في صورتها النهائية، لتعود للقوات المسلحة، كمهمة قتالية واجبة التنفيذ”(37).

ففي إطار وظيفته التقليدية، انخرط الجيش المغربي في الخلاف مع الجزائر في مظهره المسلح حول بعض مناطق الحدود الواقعة بين البلدين، حيث خاض ضدها حرب الرمال في أكتوبر/تشرين الأول 1963 التي دامت ثلاثة أيام ولم تَحْسِم المشكلة العالقة، فتجدَّد الصدام العسكري سنة 1967.

وبُعيد تنظيم المسيرة الخضراء، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1975، وتوقيع اتفاق مدريد بين إسبانيا والمغرب في 14 من نفس الشهر الذي أفضى إلى انسحاب إسبانيا من الصحراء وتقسيمها بين المغرب وموريتانيا؛ حيث “دخلت القوات المسلحة الملكية الجزء الشمالي من الصحراء من أجل ضمه إلى المملكة المغربية”(38)، نزعت جبهة البوليساريو، التي دخلت على خط المطالبة بالصحراء، إلى عَسْكَرَة القضية، وجرَّت الجيش المغربي إلى الدخول في نزاع مسلح استمر حتى سنة 1991، بعدما تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بين الجانبين تحت رعاية الأمم المتحدة. ومع ذلك، ما زال الجيش منتشرًا بشكل واسع في الصحراء في ظل استمرار المشكلة بين المغرب من جهة، والجزائر والبوليساريو من جهة ثانية.

وإذا كانت القضايا الترابية قد شكَّلت ولا تزال محور العقيدة العسكرية للجيش المغربي، فقد تمَّ توجيه الجيش إلى مهام قتالية أخرى على المستوى الدولي في إطار ما يُصطلح عليه بـ”دبلوماسية الدفاع”، حيث تتمثَّل المظاهر الرئيسة لهذه “السياسة الخارجية المغربية للدفاع” في المشاركة في عمليات حفظ السلام، واستخدام الجيش كأداة دبلوماسية لدعم التضامن العربي…(39). فقد انخرط المغرب في قضايا عربية بواسطة آلية التحالف العسكري، وذلك من خلال مشاركته بتشكيلة عسكرية للقتال إلى جانب مصر وسوريا في حربهما ضد إسرائيل سنة 1973، وتوجيه وحدات عسكرية إلى الخليج على خلفية الدفاع عن السعودية بعد الاجتياح العراقي للكويت، فضلًا عن المساهمة في عملية “عاصفة الحزم” التي قادتها السعودية بدعوى استعادة الشرعية في اليمن، إلى جانب “مشاركة السلاح المغربي في الحرب على تنظيم الدولة، عبر بوابة الدعم العسكري لدولة الإمارات العربية المتحدة”(40).

أما على المستوى العالمي، يشارك المغرب بتشكيلات عسكرية في عمليات حفظ السلام تحت رعاية هيئة الأمم المتحدة؛ إذ “منذ ستينيات القرن العشرين، لم يَدَّخِر المغرب أي جهد للاستجابة لنداءات المجتمع الدولي. ويسهم الآن في خمس عمليات لحفظ السلام في إفريقيا وأميركا وأوروبا، مما يجعله المساهم الثالث عشر عالميًّا، والثاني عربيًّا والسادس إفريقيًّا”(41).

  1. ضعف الرقابة المدنية على المؤسسة العسكرية

تُنْعَت المؤسسة العسكرية بالعلبة السوداء أو البكماء، لأنها تضم “أسرارًا مقدسة” لارتباطها المباشر بالملك الذي ظلت الدساتير حتى النسخة ما قبل الأخيرة (دستور 1996) تُقَدِّس شخصه، وحظيت هذه المؤسسة بقدسية مكتسبة بالتبعية جعلتها تخرج من نطاق رقابة المؤسسات المدنية، حيث لا سيادة مدنية فوق القوات المسلحة غير سيادة الملك، لأن المؤسسة الملكية هي الأسمى بين كل المؤسسات والملك رئيس الدولة في نهاية المطاف.

كما لم يسبق قط خلال جميع التعديلات على الدساتير المغربية أن أُثِيرَت قضية موقع الجيش في الدستور، فعلى الرغم من أن موقع المؤسسة الملكية ذاتها قد طُرح للنقاش خاصة مع التعديلات الأخيرة للدستور، فقد ظل الجيش خارج أي نقاش أو جدل سياسي مما جعل العلاقات المدنية-العسكرية خارج تأطير دستوري واضح من حيث تحديد دور المؤسسة العسكرية في النظام السياسي.

وقد ظلت النصوص القانونية المنظِّمة للجيش إلى حدود الدستور ما قبل الأخير لا تمر عبر البرلمان، بل يُصْدِرها الملك بصفته القائد الأعلى للجيش. وحتى مع الدستور الجديد لسنة 2011 الذي وسَّع من مجال التشريع لدى البرلمان بموجب الفصل 71 منه، فإن ذلك لم يُغَطِّ بالنسبة للمجال العسكري -وبشكل ضيق- سوى الضمانات الأساسية الممنوحة للموظفين المدنيين والعسكريين.

وعلى غرار الكيفية التي تُمرَّر بها ميزانية البلاط الملكي، “عندما تُقَدَّم ميزانية الدفاع الوطني إلى البرلمان لا تكون موضوع أي نقاش، ويُصَوَّت عليها بالإجماع، فالبرلمان يمارس تأثيرًا ضعيفًا جدًّا بخصوص اعتماد هذه الميزانية القطاعية. في المقابل، ليس هناك ما يمنع البرلمانيين في البنية الدستورية من طلب توضيحات مفصلة ولعب دور مهم جدًّا في هذا المجال، ما داموا يفحصون مشاريع قوانين ويمكنهم تقديم تعديلات بحيث يتم تنفيذ القوانين بالكامل”(42).

كذلك، يَنْدُر أن يتقدَّم البرلمانيون في إطار الرقابة السياسية على الحكومة بمساءلة رئيسها أو الوزير المعني حول سياسة الدفاع؛ إذ إن “مجموع الأسئلة الكتابية أو الشفوية المتعلقة بمجال الدفاع الوطني لم يتجاوز اثنين طيلة سنة 2011، وهوما ما يثبت قلة اهتمام البرلمانيين الذين لا يبذلون مجهودًا لمراقبة تخصيص النفقات الموجهة للدفاع الوطني، وذلك على خلفية أن هذا الأخير هو مجال محجوز للملك”(43). ويمتد الأمر ليجعل من عدم المتصور أن تخضع المؤسسة العسكرية لتفتيش ماليتها العمومية في إطار رقابة إدارية أو قضائية.

ولعل هامشية دور البرلمان كما أُشِير إليها أعلاه، ليست إلا انعكاسًا للدور الثانوي للحكومة في مجال السياسة العسكرية. وفي الواقع، تبدو سياسة المغرب “الدفاعية غير عمومية بكل ما تعنيه سياسة عمومية من معنى. ومرسوم 5 سبتمبر/أيلول 1975 واضح في هذا المجال؛ إذ يحدد أن “السياسة الدفاعية يُسَطِّرُها جلالة الملك”. فالحكومة لا تمتلك أية سلطة فعلية فيما يتعلق بتدبير هذا القطاع ولا تمتلك أية رؤية حوله. ومديرية الدفاع…. لا تعتبر هيئة حكومية لتحديد التوجهات الكبرى للسياسة الدفاعية والطريقة التي يجب أن يشتغل بها الجيش المغربي. فالجهاز يقوم بوظيفة إدارية لا علاقة لها بالتخطيط الاستراتيجي، ولا تعتبر مختبرًا لتطوير الأفكار في هذا الميدان”(44).

ومثلما أن تأثير المجتمع المدني على العلاقات بين المجالين، المدني والعسكري، ومساهمته في سياسة الدفاع، يبدوان محدودين جدًّا(45)، فإنه من الصعب الاقتراب من المؤسسة العسكرية إعلاميًّا بالتناول النقدي خاصة حينما يتعلق الأمر بكشف ملفات داخلية. ففي السنوات الأخيرة، انتقلت العلاقة بين الصحافة والجيش من مرحلة التحفظ إلى مرحلة الصدام؛ حيث تمت متابعة صحافيين لم يلتزموا بالخطوط الحمراء المرسومة بين المؤسستين، وذلك كما جرى سنة 2008 مع قضية صحيفة “الوطن الآن” التي نشرت وثائق أمنية وُصِفَت بالسرية مما أدى إلى تقديم أحد صحفيي هذه الأسبوعية للمحاكمة. كما اتضح عدم تساهل المؤسسة العسكرية مع عناصرها المتعاونين مع وسائل الإعلام، حيث على خلفية حوار أجراه أحد ضباط الجيش، وهو القبطان أديب، مع إحدى الصحف الأجنبية فيما يتعلق بقضايا فساد وتهريب داخل بعض دواليب الجيش، تمت متابعته قضائيًّا وحُكِم عليه بالسجن، ليقوم بعد خروجه منه بطلب اللجوء السياسي لفرنسا.

وعلى العموم، يحظى الجيش المغربي بمكانة سامية دون أن يستند إلى فكرة “البطل” كما يحاول إعلام جيوش بعض البلدان تثبيتها في عقول شعوبها كالولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل أو حتى مصر. كما لا يحتاج إلى تسويق نفسه مصدرًا أوحد لأساطير الوطنية والبطولة والشجاعة النادرة، وعلى ذلك فهو لا يحتاج إلى حملات إعلامية وجهود خارقة لتحسين الصورة، أو إلى الضغط على المؤسسات المدنية ليحظى بميزانيات متميزة. فمجرد اندراجه تحت قيادة الملك يكفي لوضع أنسب الإمكانات بين يديه.

  1. تداخل النخب العسكرية والنخب السياسية

إن النظام المخزني بالمغرب يقوم على شبكة معقدة ومتداخلة من العلاقات بين النخبتين السياسية والعسكرية سواء من خلال روابط الدم والقربى أو علاقات المصاهرة. فالطبقة الحاكمة في المغرب بشقيْها، السياسي والعسكري، تُشكِّل كتلة متلاحمة من القرابات والصداقات والمصالح بين عائلات محدودة تحتكر كل المجالات وتوزع فيما بينها الأدوار السياسية والعسكرية وفق منطق مخزني يتحكَّم فيه الملك كأمير للمؤمنين وكقائد أعلى للقوات المسلحة الملكية(46)؛ حيث إن للقرب من الملك، وفق المنظومة السياسية، دورًا أساسيًّا في اكتساب شخصيات عسكرية معينة لسلطة خاصة تتحدد حسب درجة قربها من الملك(47).

وقد اعتبر بعض الباحثين النخبة العسكرية جزءًا من الطبقة السياسية، ويمكن تعضيد هذا الرأي بتسجيل حضور العسكريين إلى جانب السياسيين في مناسبات أو أحداث وطنية يرأسها الملك حتى لو كانت ذات بعد سياسي، غير أن ذلك لا يعني النظر إلى نخبة الجيش كطبقة عسكرية وفًقا لمعيار القوة والسلطة، فلا وجود لطبقة عسكرية بالمغرب، كما لا تسيطر على النخبة العسكرية توجهات أيديولوجية أو ميول دينية، لكن ذلك لا يعني أنها علمانية.

وبخصوص الأصول الاجتماعية للنخبة العسكرية المغربية، فإذا كان الجيش في الماضي يجذب أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة، وكانت علاقة الطبقات الاجتماعية العليا به تظهر من خلال اكتفائها بالتقرب من كبار العسكريين حماية لامتيازاتها وأوضاعها، فإن تشريح تلك الأصول الاجتماعية للجيش حاليًّا يكشف عن تركيبة تعكس التحولات السوسيو-سياسية التي شهدها المغرب، حيث صار العسكريون من خلال علاقات الزواج والمصاهرات جزءًا من الطبقات العليا للتركيبة الاجتماعية بالمغرب.

ويندرج مسار علاقة النخبة العسكرية بقضية السلطة ضمن نمط “المقايضة، وهو يعتمد على شراء الولاء السياسي للعسكريين من خلال المقايضة بإعطائهم مزايا مادية معينة سواء على المستوى الجماعي أو الفردي. وتشمل هذه الإغراءات بالإضافة إلى المرتبات المجزية، الإعفاءات الجمركية على السيارات والسلع الترفيهية والسفر للخارج من أجل حضور دورات تدريبية، والتعيين في الوظائف العسكرية وما إلى ذلك”(48). أما خارج المسار المهني العسكري، فيمكن السماح للنخب العسكرية ببعض التأثير السياسي المحسوب، ويظهر ذلك مع نماذج محدودة لتولي قيادات عسكرية من المتقاعدين للمناصب السياسية التنفيذية والتشريعية واختراقهم للعمل الحزبي، حيث سُمِحَ للكولونيل عبد الله القادري، بعدما تم إبعاده عن صفوف الجيش، برئاسة الحزب الوطني الديمقراطي وتعيينه وزيرًا للسياحة. غير أن تغلغل العسكريين في النظام السياسي ظل من ناحية مراقَبًا تعزيزًا لهيمنة الفاعل الملكي، ومراهَنًا عليه من ناحية أخرى لمحاولة إضعاف الهياكل الحزبية من مدخل شَخْصَنَة السياسة.

وإذا كانت الوضعية المتميزة للجيش تضفي على العسكريين هالة خاصة وتمنحهم مكانة متميزة في المجتمع المغربي، فلا يمكنها أن تبلغ درجة الهيمنة على المجتمع، وذلك بفضل سيادة الثقافة المدنية التي تعززها الضمانات الملكية في اتجاه تحصين المغرب ضد احتمال تَشَكُّل “دولة ضباط” موازية.

ويُفترض في ظل الدستور الجديد توسع آفاق التقارب بين النخبة العسكرية والنخب المدنية؛ وذلك مع صدور قانون الضمانات الممنوحة للعسكريين؛ حيث سمح هذا القانون لأفراد الجيش “بمقتضى المادة الخامسة بإمكانية إنشاء أو الانخراط بمؤسسات المجتمع المدني التي ليس لها طابع سياسي أو نقابي أو ديني. ونظرًا لتداخل اهتمامات المؤسسات المدنية، فيُتوقع أن تسمح هذه الآلية بتقريب العسكريين أكثر من الحياة السياسية والشأن العام لاسيما أن أغلب المؤسسات المدنية النشطة إما تابعة للأحزاب السياسية أو تخضع لتأثيرها. لذلك يُنتظر أن تُخضع الدولة النشاط المدني للعسكريين لرقابة مشددة، وقد يُقَيَّد بقوانين داخلية في المؤسسة العسكرية(49). ومن ثم، فالتجانس الذي يميز النخبة العسكرية عن النخب المدنية ينبغي أن يظل محدودًا ضمن الإطار الداخلي للجيش ولا يمتد إلى تناسق خارجي مع المكونات المدنية.

  1. الاندماج المدني-العسكري أو الأنشطة غير الحربية للجيش

يحضر الجيش المغربي بكثافة في الحياة المدنية لاسيما من داخل المسار العسكري ولو في ظل غياب تنصيص الدستور على ذلك؛ حيث تنخرط القوات المسلحة في الشأن العام الداخلي “سواء من خلال توسيع نطاق دور العسكريين أو من خلال استخدام العسكريين من جانب السلطات المدنية كأداة لتحقيق غايات معينة”(50). فقد برز الدور المجتمعي والاقتصادي للمؤسسة العسكرية حينما عمل الملك الراحل، الحسن الثاني، على إشراك النخبة العسكرية في تدبير الشأن العام في بداية فترة حكمه في ستينات القرن الماضي؛ فقد صرح لصحيفة “Le Petit Marocain”، في عددها المؤرخ بـ15 مارس/آذار 1966، بما يلي: “لقد أشركنا الضباط العسكريين في تدبير بلادنا وتسييرها سواء كوزراء، وعمال ورجال سلطة، لأن جيشنا قد ساهم في تكوين الأطر المسيرة لوزارة الداخلية. وبالتالي، فإننا عازمون على استثمار المزايا والمؤهلات الجسمانية للضباط في هذا التدبير…”(51).

كما يجد الجيش نفسه بفضل انضباطه وتنظيمه ملزمًا بالانشغال بمهام أخرى فوق عسكرية كما تقول أطروحة المدافعين عن دوره التنموي…حتى يتجنب العطالة التي تجعله فريسة للمؤامرات السياسية، وأيضًا كي يندمج في الجهود التنموية الوطنية ويستفيد المجتمع من مهاراته التقنية…وفي هذا الصدد يقوم بمهام عديدة، تعليمية (مثل محاربة الأمية وبناء المدارس…)، ومهام صحية (الاشتراك في حملات التطعيم لصالح الأطفال وحتى الأنعام…)، بالإضافة إلى الأشغال العمومية والإدارية…(52). كما يتدخل للمساهمة في مواجهة تداعيات الكوارث الطبيعية المترتبة عن الفيضانات أو عن كثافة الثلوج أو شدة البرد، حيث تعمل القوات المسلحة عبر مروحياتها على إيصال إمدادات المساعدات الغذائية إلى السكان المتضررين، وتجهيز مستشفيات عسكرية متنقلة بالمناطق النائية، فضلًا عن ذلك، تم إحداث مهام جديدة للقوات العسكرية وطنيًّا على خلفية تحويلها إلى جيش محترف طبقًا لما نادى به صامويل هنتنغتون؛ حيث جرى إشراك وحدات من الجيش في مكافحة الهجرة غير القانونية بين سنتي 2005 و2007، كما نزل الجيش إلى الشوارع في إطار محاربة الإرهاب سنة 2007 في مدينة الدار البيضاء، ليشمل ذلك كبريات المدن المغربية مع برنامج “حذر” الذي انطلق سنة 2014.

وبالإجمال، ليس صحيحًا أن وظيفة المؤسسة العسكرية إنمائية أو إنقاذية، بل هي دفاعية فحسب، وأثبتت التجارب أن انصرافها عن دورها الطبيعي يعود عليها بنتائج عكسية(53)، حيث تضعف في ظل ذلك الروح العسكرية القتالية.

وبصرف النظر عن ذلك، لا يقتصر اندماج القوات المسلحة في الأنشطة المدنية في بعض صوره على الداخل، وإنما يمتد ليشمل إطار العلاقات الخارجية للبلاد في إطار “دبلوماسية إنسانية”؛ حيث اضطلعت بعثات للجيش المغربي بنقل المساعدات التضامنية لضحايا الكوارث الطبيعية كما في حالتي هايتي والنيجر، وبتقديم خدمات طبية في إطار مستشفيات متنقلة كما كان الشأن في غزة بفلسطين، ومخيم الزعتري بالأردن.

 

  1. المؤسسة العسكرية في سياق الإصلاح

بالنظر للتحولات السياسية التي يشهدها المغرب، في ظل حكم الملك محمد السادس، خاصة بعد دستور 2011 الذي جاء استجابة لمطالب الشارع بالتغيير، هل يمكن أن يلي ذلك تغيير عسكري، على اعتبار أن الإصلاح في القطاع العسكري هو في النهاية ذو بعد سياسي؟

ففي الوقت الذي ظلت فيه المؤسسة العسكرية توجد في وضعية تأخر عن مجتمع ينتقل إلى الديمقراطية، كان من ضمن الملفات المراهَن على فتحها في ظل شعار “محاربة الفساد” الذي رفعته حكومة “الربيع المغربي” هو نظام الرعاية العسكرية القائم على السياسات الريعية السابقة وما استفادت منه مكونات النخب العسكرية وكبار الضباط من امتيازات صارت في حكم المكتسبات التي لا يمكن التنازل عنها مما قد يوصل البلاد إلى مستويات من العبء المالي غير المقدور على تحمله.

ذلك أن اشتداد الضغوط السياسية والاقتصادية واستمرار انعكاس النتائج السلبية للعولمة والركود الاقتصادي العالمي على الوضع الاجتماعي الداخلي، والارتهان لضوابط وقواعد صندوق النقد الدولي ومتطلباته سيفرض عاجلًا أم آجلًا البدء باسترجاع العديد من المنافع والخدمات المميزة التي يتلقاها أفراد المؤسسة العسكرية…(54). غير أن مثل هذه الترتيبات الليبرالية التي يمكن أن تصحب العملية السياسية لا يمكن إلا أن تصطدم بممانعة النخبة العسكرية البيروقراطية المهيمنة تقليديًّا؛ إذ إنه طبقًا لصامويل هنتنغتون، في كتابه “العسكري والدولة”، فإن “الفرق الجوهري بين العسكريين والمدنيين هو أن الفئة الأولى عادة ما تتبنَّى اتجاهات محافظة، في حين أن الفئة الثانية غالبًا ما تتبنى اتجاهات ليبرالية”(55).

وعلى المستوى المالي، فيُنتظر مراجعة الإنفاق العسكري بصورة نسبية من خلال ترشيد النفقات والارتقاء بكفاءة الميزانية العسكرية، خاصة في ظل السياسات الحكومية القائمة على التوجهات التقشفية الحافظة للتوازنات المالية. وأمام تراجع احتمالات الحروب في ظل تزايد القدرة على الردع المتبادل وتقلص الصراعات التقليدية لصالح التنافس الاقتصادي، ينبغي إعادة ترتيب ضرورات واردات السلاح، خاصة في ظل عدم انغماس المغرب في التفاعلات الإقليمية التي أبانت عن تصاعد الاعتماد على القوة العسكرية؛ حيث يبرر هذا التدخل عقد صفقات التسلح في مسعى للحصول على منظومات تسلح غير تقليدية.

وفي انتظار مثل هذه التحولات الهيكلية، تعتبر أهم الخطوات في مسار التغيير العسكري في السنوات الأخيرة هي تلك المتعلقة بمنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وبالعودة إلى اعتماد التجنيد الإجباري. فعلى خلاف الضغوط الحقوقية التي فرضت المستجد الأول، يبدو أن المستجد الثاني لم تفرضه ضرورة عسكرية بتكوين قوة احتياطية، وإنما جاء استجابة لرهانات غير عسكرية، وهو ما عكسه خطاب الملك أمام البرلمان، في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018، حينما ذهب إلى أن “الخدمة العسكرية تقوي روح الانتماء للوطن. كما تمكِّن من الحصول على تكوين وتدريب يفتح فرص الاندماج المهني والاجتماعي أمام المجندين الذين يُبرزون مؤهلاتهم، وروح المسؤولية والالتزام”، وذلك في سياق استعراض توجيهاته بخصوص مجموعة قضايا “تهدف للنهوض بأوضاع المواطنين، وخاصة الشباب، وتمكينهم من المساهمة في خدمة وطنهم”(56)، لاسيما حينما يكونون “ضحايا للبطالة والفقر والتهميش، ما يجعلهم فئة غير محصَّنة إزاء مختلف التهديدات الأمنية”(57).

وهذه الخلفية الاجتماعية لقرار العودة إلى الخدمة العسكرية الإجبارية تدعم فرضية خلفية سياسية ممهورة بسعي السلطة إلى ضبط الشباب وضمان ولائهم للدولة في الوقت الذي صاروا فيه وقودًا للحراكات الاجتماعية المتصاعدة؛ حيث “يسهم التجنيد الإلزامي في معالجة ظاهرة الاغتراب بين القطاع المدني الذي يقوم على اتجاهات حرة والقطاع العسكري الذي يقوم على واجب التحفظ وذلك أمام عدم تطابق وجهات النظر بين القوات المسلحة والمجتمع في مجال السياسة الخارجية وحتى السياسة الداخلية، فالمجند لا يلتزم فقط بمجموعة من المهارات القتالية والتقنية الخاصة والتي قد تكون معقدة، لكنه أيضًا يلتزم بالخضوع لقوانين دقيقة خاصة بالسلوك الاجتماعي تؤطرها سياسة الهوية التي تسطِّرها الدولة للمواطن الذي تريد…(58).

 

خاتمة

في سياق خصوصية العلاقات المدنية-العسكرية بالمغرب، وطبيعة النظام السياسي الممهور بملكية تنفيذية حاكمة، لاسيما أن المجال العسكري هو مجال سيادي، والملك هو الممثل الوحيد للسيادة العليا للبلاد، خلصت الدراسة إلى مجموعة من الاستنتاجات كالآتي:

– دستوريًّا، الجيش غير منفصل عن الملك المحتكِر لشرعية حماية الوطن والحفاظ على أمنه واستقراره.

– سياسيًّا، كان الجيش وسيظل لاعبًا أساسيًّا في معترك النظام السياسي بحكم التحديات التي واجهها المغرب ولا يزال؛ إذ تهيمن المؤسسة الملكية على الجيش وتضبط حركته. فباستثناء محاولتي الانقلاب أصبح الجيش مرتبطًا بالنظام الملكي الذي يعتبر العامل الوحيد الذي يُوحِّد النفوذ العسكري والسياسي بسبب النظام السلطوي للمغرب. وبالرغم من أن الجيش أصبح وسيلة لدعم الملكية عن طريق إيجاد أدوار جديدة لنفسه إلا أن القوة المدنية للسيطرة التي تُنفَّذ من قبل الملك تعمل كصمام أمان ضد تدخل الجيش بالسياسة أو ضد تدخل النخبة العسكرية لمعارضة النخبة السياسية.

– إن عدم استغناء الجيش عن أدوار محلية بموازاة تركيزه على المهمات الدولية الحربية والسلمية، لا يمكن أن يخرج عن إطار سيطرة السلطة المدنية الملكية ووفق فترات زمنية غير متصلة تضمن عدم توسع تلك الأدوار بدرجة أكبر لتبلغ محظور التدخل في العمليات السياسية.

– إذا كان الجيش يحتاج إلى إصلاح مؤسساتي يشمل تطوير هيكلته وتنظيمه في أفق تحسين قدراته حتى يكون في مستوى تحديات التهديدات المستحدثة، فالرهان هو أن يؤول ذلك الإصلاح إلى دَمَقْرَطَة الجيش، أولًا: من الداخل بنشر ثقافة الديمقراطية بين هياكله باعتماد تنشئة عسكرية عصرية تُعْلِي من قيم المواطنة والمسؤولية، وثانيًا: في علاقته بالمحيط؛ وذلك بجعله منفتحًا على المجتمع عبر تمكين هذا الأخير من تقاسم وتملك ميراث الجيش ورصيده، وهو ما يمكن أن يضطلع به إعلام عسكري متكامل من مجلات أو مواقع إلكترونية أو غيرها.

المراجع

(1) Mathurin C. Houngnikpo, Guarding the Guardians: Civil-Military Relations and Democratic Governance in Africa (New York: Ashgate Publishing Company, 2010), 48.

(2) جميل مطر، “المكوِّن العسكري في صنع السياسة الخارجية…النموذج الأميركي”، السفير، 25 مارس/آذار 2015.

(3) فؤاد الأغا، علم الاجتماع العسكري، ط 1 (الأردن، دار أسامة للنشر والتوزيع، 2008)، ص 214.

(4) ليلى سيد مصطفى أرباب، “الجيش والاستقرار السياسي في السودان”، المجلة العربية للعلوم السياسية (مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان، العدد 36، 2012)، ص 9.

(5)  Houngnikpo, Guarding the Guardians, 24.

(6) Aurel Croissant and David Kuehn, eds., Reforming Civil-Military Relations in New Democracies: Democratic Control and Military Effectiveness in Comparative Perspectives (Switzerland: Springer, 2017), 3.

(7) Houngnikpo, Guarding the Guardians, 9.

(8) Ibid, 38.

(9) Croissant and Kuehn, Reforming Civil-Military Relations in New Democracies, 4.

(10) Ibid, 6.

(11) Houngnikp, Guarding the Guardians, 49

(12) Peter D. Feaver, Armed Servants: Agency, Oversight, and Civil-Military Relations (Cambridge: Harvard University Press, 2003(, 2.

(13) Eboe Hutchful, “Democratic Control of the Security Sector in Africa,” (paper presented at the Africa Center for Strategic Studies Senior Leaders Seminar, Gaborone, Botswana, 2005), Cited in Houngnikp, Guarding the Guardians, 38.

(14) محمد شقير، النخبة العسكرية وامتيازات السلطة بالمغرب، ط 1 (المغرب، منشورات دفاتر وجهة نظر، 2011).

(15) Brahim Saidy, “Relations civilo-militaires au Maroc: le facteur international revisité,” Politique étrangère, Institut français des relations Internationales, France, no. 3, (2007).

(16) Brahim Saidy, “Army and Monarchy in Morocco: Rebellion, Allegiance and Reforms,” The International Spectator, (Italian Journal of International Affairs, Italy, Issue 2, (2018).

(17) Brahim Saidy, “La structure constitutionnelle des relations civilo-militaires au Maroc,” in La Constitution marocaine: Analyses et commentaires, (Paris: LGDJ, 2012).

(18) يهودا بن مايير، العلاقات المدنية العسكرية في إسرائيل، ترجمة مصطفى الرز، (مصر، مكتبة مدبولي، 1998)، ص 32.

(19) المرجع السابق.

(20) عبد الإله بلقزيز، “السياسة في ميزان العلاقة بين الجيش والسلطة”، في الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي، ط 1 (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002)، ص 18.

(21) علي الدين هلال ونيفين مسعد، النظم السياسية العربية المعاصرة: قضايا الاستمرار والتغيير، ط 4 (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 66.

(22) محمد شقير، المؤسسة العسكرية بالمغرب: من القبلية الى العصرنة، (المغرب، إفريقيا الشرق، 2008)، ص 131.

(23) ينص الفصل 54 في فقرته الأولى على ما يلي: “يحدث مجلس أعلى للأمن، بصفته هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، وتدبير حالات الأزمات، والسهر أيضًا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية”.

(24) عمر بندورو، النظام السياسي المغربي، ط 1 (المغرب، د.ن، 2002)، ص 87.

(25) المعطي منجيب، “القوات المسلحة الملكية والسياسة-نحو تسييس دور الجيش بالمغرب”، مجلة وجهة نظر (د.ن، المغرب، العدد 35، 2008)، ص 9.

(26) حمدي عبد الرحمن، “النخبة الإفريقية…تحدي العسكرة وتسليع السياسي”، مجلة الديمقراطية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مصر، العدد 53، 2014)، ص 43.

(27) عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، ط 1 (المغرب، منشورات دفاتر وجهة نظر، 2006)، ص 238.

(28) منذر سليمان، “وجهة نظر حول الجيش والسياسة في الوطن العربي”، في الجيش والسياسة والسلطة في الوطن العربي، ط 1 (لبنان، مركز دراسات الوحدة العربية، 2002)، ص 85-86.

(29) بيير فير مورين، تاريخ المغرب منذ الاستقلال، ترجمة عبد الرحيم حزل، (المغرب، إفريقيا الشرق، 2010) ص 78.

(30) Saidy, “Army and Monarchy in Morocco,”: 6.

(31) سعيد الصديقي، “تطور الجيش المغربي-عهدان ونهج واحد”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 مارس/آذار 2015، (تاريخ الدخول: 1 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2QJvDiE.

(32) محمد ضريف، الدين والسياسة في المغرب: من سؤال العلاقة إلى سؤال الاستتباع، (المغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، 2000)، ص 69.

(33) محمد البصري (الفقيه)، “رسالة للفقيه البصري موجهة إلى عبد الرحمن اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد في 8 أغسطس/آب 1974″، مغرب الوقائع، (تاريخ الدخول: 1 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2WGpK9x.

(34) مصطفى العلوي، مذكرات صحافي وثلاثة ملوك، (المغرب، منشورات أخبار اليوم، 2011)، ص 133.

(35) الصديقي، تطور الجيش المغربي، مرجع سابق، ص 6.

(36) Saidy, “Army and Monarchy in Morocco,”: 8.

(37) محمد عبد الخالق قشقوش، “حدود الدور السياسي للجيوش”، مجلة الديمقراطية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مصر، العدد 52، 2013)، ص 52.

(38) بيير فير مورين، مغرب المرحلة الانتقالية، ترجمة علي آيت حماد، (المغرب، منشورات طارق، 2002)، ص 199.

(39) إحسان الحافظي، “المغرب وعاصفة الحزم: تحولات في العقيدة العسكرية”، مجلة سياسات عربية (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، العدد 14، 2015)، ص 97.

(40) Saidy, “Relations civilo-militaires au Maroc,”: 595.

(41) Brahim Saidy, “La Politique de Défende Marocaine: Articulation de L’interne  à L’extérieure et de l’externe,” Mghreb-Machrek, (CHOISEUL éditions, France, no. 202, (2009-2010): 129.

 (42)Saidy, “La structure constitutionnelle des relations civilo-militires au Maroc,”: 162-163.

(43) Ibid,163-164.

(44) إبراهيم اسعيدي، واقع وآفاق السياسات الأمنية بالعالم العربي، مركز الجزيرة للدراسات، 24 يناير/كانون الثاني 2011، (تاريخ الدخول: 2 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2Jf7ZWZ.

(45) Saidy, “La structure constitutionnelle des relations civilo-militires au Maroc,”: 166.

(46) محمد شقير، النخبة العسكرية وامتيازات السلطة بالمغرب، مرجع سابق، ص 83.

(47)  المرجع السابق، ص 78.

(48)  عبد الرحمن، “النخبة الإفريقية”، مرجع سابق، 43.

(49) الصديقي، “تطور الجيش المغربي”، مرجع سابق، ص 11.

(50)  بن مايير، العلاقات المدنية العسكرية في إسرائيل، مرجع سابق، ص 34.

(51)  شقير، النخبة العسكرية وامتيازات السلطة بالمغرب، مرجع سابق، ص 89.

(52) نور الدين زمام، القوى السياسية والتنمية: دراسة في سوسيولوجيا العالم الثالث، (الجزائر، دار الكتاب العربي، 2003)، ص 285.

(53) بلقزيز، “السياسة في ميزان العلاقة بين الجيش والسلطة”، مرجع سابق، ص 33.

(54) منذر سليمان، “وجهة نظر حول الجيش والسياسة في الوطن العربي”، مرجع سابق، ص 92.

(55) السيد ياسين، “إشكالية العلاقات المدنية العسكرية”، مجلة الديمقراطية (مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، مصر، العدد، 52، 2013)، ص 41.

(56) “خطاب الملك أمام أعضاء مجلسي البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018″، مجلس النواب المغربي، (تاريخ الدخول: 2 يناير/كانون الثاني 2020)، https://bit.ly/2UfPRTb.

(57) إسماعيل حمودي، “العودة إلى الخدمة العسكرية: الدواعي والتحديات”، المعهد المغربي لتحليل السياسات، 28 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2UHeEPg.

(58) نبيل زكاوي، “التجنيد الإجباري يحقق مفهوم المواطنة وفق هذه الشروط”، أنفاس بريس، 24 أغسطس/آب 2018، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2020): https://bit.ly/2UzUMgO.