ملخص:

ظلت العلاقات المغربية-الخليجية تنتمي إلى دائرة الأولويات الكبرى والرهانات الاستراتيجية في السياسة الخارجية المغربية والخليجية على حدٍّ سواء، ومردُّ ذلك إلى مصفوفة المصالح المشتركة التي تأسست بينهما طيلة عقود من الزمن شملت المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والأمنية والثقافية. غير أن عوامل موضوعية وأخرى ذاتية مرتبطة بسياقات إقليمية ودولية ورهانات داخلية دفعت بهذه العلاقات إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر بات التساؤل مطروحًا من خلالها حول مستقبل هذه العلاقات.

كلمات مفتاحية: المغرب، الخليج العربي، السياسة الخارجية، الربيع العربي.

Abstract:

Moroccan-Gulf relations were, for a long time, a priority in the foreign policies of Morocco and the Gulf countries. These strategic and historical relations contained political, economic, religious, security and cultural dimensions. However, objective and subjective factors linked to regional and global contexts prompted an unprecedented level of tensions between Morocco and some Gulf Countries, especially with Saudi Arabia and the United Arab Emirates. In light of these transformations, the question about the future of these relations is a current issue.

Keywords: Morocco, Arab Gulf, Foreign Policy, Arab Spring.

مقدمة

ينص الدستور المغربي في ديباجته على مركزية المكونات الإفريقية والأندلسية والمتوسطية كروافد للهوية الوطنية، كما يشير إلى محاور الانتماء المغاربية والعربية/الإسلامية والأورو متوسطية وجنوب الصحراوية. ويعكس هذا التنصيصُ الدستوري حقيقةَ الارتباطات الجيوسياسية للمغرب التي تُوَجِّه سياستَه الخارجية، وتضبط سلوكه الدبلوماسي، وتتحكَّم في خياراته وأولوياته الخارجية.

فالقرب الجغرافي من أوروبا وارتباطه التاريخي بفرنسا وإسبانيا، الدولتين المستعمِرتين له لأزيد من نصف قرن، دفعه للارتباط السياسي والاقتصادي والأمني الاستراتيجي بأوروبا، وأضحى البُعد الأوربي مُكوِّنًا بنيويًّا في السياسة والاقتصاد والإدارة والأمن والثقافة في المغرب. وانتماؤه للقارة الإفريقية طبع مراحل مفصلية في تاريخه المعاصر، ما بين رهان محوري في السياسة الخارجية لما بعد الاستقلال، ثم انسحاب من منظمة الوحدة الإفريقية، سنة 1984، بفعل تداعيات قضية الصحراء، ثم إعادة تعريف مصالحه الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية في إفريقيا وعودة قوية للفضاء وللاتحاد الإفريقي، سنة 2017، (تشكَّل الاتحاد خلفًا لمنظمة الوحدة الإفريقية في يوليو/تموز 2002).

أما الانتماء للفضاء الأطلسي، فهو مُوَجَّه بالرغبة في الانخراط في دينامية الغرب الإفريقي (المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا على وجه الخصوص)، وبعلاقات المغرب بالولايات المتحدة الأميركية التي تربطها بالمغرب اتفاقية للتبادل الحر (2004) وحصوله على صفة الحليف الاستراتيجي لأميركا خارج حلف الناتو (2008). علاوة على ذلك، يوجد المغرب ضمن دائرة اهتمام حلف شمال الأطلسي؛ إذ انضم سنة 2016 لمنصة العمل المشتركة للحلف، ناهيك عن مشاركته في العديد من عمليات ومبادرات الحلف (الحوار مع دول المتوسط، عملية “أكتيف إنديفور” (Operation Active Endeavour) لمحاربة القرصنة البحرية في المتوسط…).

ووجَّهت الاعتبارات التاريخية والثقافية والدينية علاقات المغرب الخارجية بالمجال العربي/الإسلامي؛ فقد اختزل هذا الفضاء إلى حدٍّ بعيد تحالفات واصطفافات ومواقف المغرب مباشرة بعد حصوله على الاستقلال، خاصة في إطار علاقة التحالف والتنسيق مع معسكر الملكيات العربية والخلاف مع الأنظمة الجمهورية والعسكرية. كما وفَّر للنظام المغربي منصة إشعاعية دولية وإقليمية، في عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، من خلال أدوار الوساطة التي اضطلع بها في الصراع العربي-الإسرائيلي، وهَنْدَسَة ملامح النظام العربي الرسمي، ودعم التحالفات بين الأنظمة العربية المحافظة والغرب.

وفي ظل هذا البناء الجيوسياسي المتنوع، تبرز العلاقات المغربية-الخليجية كأحد محاور الاهتمام الرئيسة للسياسة الخارجية المغربية، والتي ظلت باستمرار توصف بأنها علاقات استراتيجية وحيوية ولا بديل عنها للطرفين. ونعتقد أن ثمة ثلاثة أسباب رئيسة أسهمت في هذا الأمر:

– أولًا: كون المغرب ودول الخليج تشترك في طبيعة الهيكل السياسي القائم على مفهوم الأسر الحاكمة؛ حيث يوجد الملك أو الأمير في أعلى هرم السلطة، والحائز على شرعية دينية وتاريخية وقانونية مسنودة برمزية سلطانية متعددة الأبعاد والمستويات. فالمغرب ودول الخليج عبارة عن ملكيات وإمارات وسلطنات محافظة تسعى إلى مواكبة تحولات العصر، والظهور بمظهر الدول العريقة الحريصة على تبني مقاربات ومناهج التحديث والعصرنة وقيادة مسيرة الإصلاح والتطور.

– ثانيًا: أن المغرب وإن كان موقعه الجغرافي قد أهَّله قديمًا وحديثًا لِتَبَوُّء مكانة جيوسياسية معتبرة، فإن مصادر التهديد الرئيسة ارتبطت بالجوار الجغرافي سواء من خلال النزاع والتنافس المستمرين مع الجزائر في الشرق، أو التوتر شبه الدائم مع إسبانيا في الشمال، والتي لا تزال تحتل أراضي ومواقع استراتيجية داخل المجال الترابي المغربي (سبتة ومليلية والجزر الجعفرية)، أو العلاقة الباردة مع موريتانيا في الجنوب، وفقدانه لعمقه الإفريقي منذ الانسحاب من المنظمة الإفريقية. وقد سمحت علاقات المغرب بدول الخليج بتجاوز هذه العوازل الجيوسياسية، وأسَّس من خلالها شبكة من التحالفات والمصالح المشتركة وصلت إلى حدِّ دعوته رسميًّا للانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي سنة 2012.

– ثالثًا: يتمثَّل في حصول المغرب من خلال علاقته بدول الخليج على الدعم المالي والسياسي والطاقي؛ إذ ظلت هذه الأخيرة تدعم كل المواقف والمبادرات المغربية بخصوص قضية الصحراء، وقدَّمت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة دعمها العسكري طيلة سنوات نزاعه مع جبهة البوليساريو. في المقابل، ظل المغرب منسجمًا ومتماهيًا مع السياسات الخليجية في العلاقة مع إيران والصراع العربي-الإسرائيلي، والاستراتيجيات العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والرؤية للنظام العربي الرسمي بشكل عام.

بيد أن هناك ثلاثة تحولات رئيسة بعثرت التوافقات المغربية-الخليجية، ونقلتها إلى مستويات غير مسبوقة من التوتر والخلاف:

– التحول الأول: ويرتبط بالتغييرات التي طرأت على مستوى قيادات وحكام المغرب والخليج العربي. بالنسبة للمغرب، وبعد وفاة الملك الحسن الثاني، تولى الملك محمد السادس الحكم في يوليو/تموز 1999، ويكاد يُجمع الباحثون في مجال السياسة الخارجية المغربية على أن العلاقات المغربية-العربية في عهد محمد السادس لم تعد تنتمي إلى دوائر الأولويات الجيوسياسية، وأن الاهتمام المغربي قد تحول إلى مجالات أخرى خاصة المجال الإفريقي. هذا في الوقت الذي ظلت فيه فضاءات أخرى حاضرة ومؤثِّرة في توجُّهات الدبلوماسية المغربية، مثل العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. وبدا واضحًا الفرق بين سياسة الحسن الثاني وسياسة محمد السادس على مستوى الحضور والفعالية؛ حيث إن دبلوماسية محمد السادس توظِّف بدلًا من ذلك خطابًا حذرًا ملحوظًا وحضورًا كاريزميًّا محسوبًا(1). في المقابل، برزت شخصيتا ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وهما بمنزلة الحاكمين الفعليين في السعودية والإمارات على التوالي، وقد صاحب هذا البروز تحولات جذرية في السياستين الخارجيتين للدولتين رامت تغيير هَنْدَسَة تحالفات البلدين، وتغليب محددات العلاقة مع المغرب لتنتقل من الدعم والصداقة والتنسيق إلى الإملاء والهيمنة والابتزاز.

– التحول الثاني: ويتمثَّل في أحداث الربيع العربي التي دفعت بكل من السعودية والإمارات والبحرين إلى نهج سياسات راديكالية تجاه المطالب الإصلاحية والديمقراطية تحت ذريعة الخشية من امتداد تأثيراتها إلى داخل هذه الدول وزعزعة استقرارها الداخلي والخارجي. وأبانت عن تشدُّد وقابلية لتوظيف كل الإمكانات بما فيها القوة العسكرية للتحكُّم في مخرجات الثورات العربية، وصلت إلى حد التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة في ليبيا وسوريا واليمن، ودعم الانقلاب في مصر، وحصار قطر، الدولة العضو في مجلس التعاون الخليجي، والرغبة في التحكُّم في الخيارات السياسية في المغرب وتونس. وقد كان من الطبيعي أن تفرز هذه المقاربات الراديكالية خلافات وتوترات مع العديد من دول المنطقة ومن بينها المغرب.

– التحول الثالث: تجسِّده المرحلة الانتقالية التي تمر بها السياسة الخارجية المغربية ما بين فترة اتسمت بعدم الوضوح على مستوى أولوياتها وبانحسار التأثير الذي وصل إلى حدِّ العزلة الدبلوماسية في بعض المجالات الحيوية مثل القارة الإفريقية، وبين فترة أعادت تنشيط دور السياسة الخارجية ومركزيتها في السياسات العمومية وإدماجها في عملية البناء السياسي والاقتصادي والاستراتيجي العام للدولة؛ حيث لم تعد الأبعاد التنموية الداخلية منفصلة عن التطلعات الاقتصادية الخارجية. يضاف إلى ذلك بداية الاهتمام بمجالات وفضاءات جيوسياسية وجيواقتصادية جديدة، مثل: أميركا اللاتينية وروسيا والهند والصين وتركيا. وهذه التغييرات قد تجعل المغرب أقل اعتمادًا على الدعم المالي الخليجي، خاصة أنه لا يزال من أكبر المستفيدين من مساعدات الاتحاد الأوروبي في حوض البحر الأبيض المتوسط؛ إذ تلقَّى المليارات من اليورو من طرف كل من الآلية الأوروبية للجوار  (ENI) والبنك الأوروبي خلال الفترة من 2014 إلى 2017(2).

انطلاقًا مما سبق، تبحث الإشكالية المركزية للدراسة محددات وخصوصيات العلاقات المغربية-الخليجية وَتَمَفْصُلاتِها التاريخية الرئيسة، وترصد القضايا الخلافية التي برزت بين المغرب وبعض دول الخليج، والتي بلغت حدَّ الاختلاف حول رؤى وتصورات ومواقف وسياسات من شأنها أن تمهد لمرحلة من فك الارتباط على المستويين القريب والمتوسط. وتحقيقًا لهذه الغاية، تسعى الدراسة للإجابة على سؤالين مركزيين:

– ما العوامل والمحددات التي نقلت العلاقات المغربية-الخليجية إلى مستويات متقدمة من التعاون والتنسيق والتحالف؟

– وما التحولات الإقليمية والدولية التي أنتجت معطيات التوتر والتناقض في السياسات الخارجية للطرفين (المغرب وبعض دول الخليج)؟

وينضبط هيكل الدراسة لأسئلة البحث؛ حيث يفصِّل في التقاطعات الكلاسيكية الكبرى في سياسات واستراتيجيات المغرب ودول الخليج، لينتقل للوقوف على مرحلة التحول الرئيسة وهي حقبة الربيع العربي، وكذا تداعياته التي أنتجت محفزات جديدة للتوتر بين المغرب وبعض دول الخليج. واعتمد الباحث في هذا السياق على مقاربة منهجية تجمع بين التأصيل التاريخي (العلاقات التاريخية المغربية-الخليجية)، والتوصيف البنيوي (بنية الأنظمة الحاكمة في المغرب والخليج)، والتحليل المقارن (السياسات الخارجية للمغرب والخليج)، ناهيك عن البعد السلوكي في سياق التفاعل مع الأحداث والمستجدات الدولية.

  1. محددات ومجالات العلاقات المغربية-الخليجية

تعتبر العلاقات المغربية-الخليجية إطارًا ملائمًا لفهم علاقات الارتباط الاستراتيجي للمغرب. فالمسافة الجغرافية التي تفصله عن الخليج العربي، لم تحل دون تأسيس علاقات قوية مع مختلف دول المنطقة -ولو بشكل متفاوت- سواء في إطار علاقات ثنائية أو في إطار العلاقة مع التكتل الإقليمي المتمثل في مجلس التعاون الخليجي. وتستند العلاقات المغربية مع دول الخليج إلى ثلاثة محددات رئيسة أسهمت في تأسيسها علاقات تاريخية ربطت ملوك المغرب المعاصرين (المَلِكَيْن، الحسن الثاني ومحمد السادس) مع ملوك وأمراء المنطقة (الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، الأمير جابر الصباح…).

1.1. المحدد الديني والأيديولوجي

تعود جذور العلاقات المغربية-الخليجية إلى التقارب المغربي-السعودي، على اعتبار أن المملكة السعودية كانت -ولا تزال- تمثِّل مركز الثقل الجيوسياسي الرئيس في الخليج العربي، وضمنها تتلاقى مختلف التقاطعات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة. فالارتباط بين النظامين يقوم أساسًا على التقارب على مستوى الشرعية الدينية وطبيعة التَّمَوْقُع الجيوسياسي. فبالإضافة إلى المؤسسات الدينية المتشابهة (أمير المؤمنين بالنسبة للملك المغربي وخادم الحرمين الشريفين بالنسبة للملك السعودي)، سعى النظام السعودي منذ نشأته إلى البحث عن تحالف مع المملكة الشريفة (أي المغرب)، وقد جسَّد البُعد الديني أساس مساعي هذا التحالف، خاصة من الجانب السعودي؛ إذ حرَّك أولى الاتصالات الدبلوماسية بين البلدين سنة 1811، حينما بعث الأمير، عبد العزيز بن سعود، رسائل إلى السلطان، المولى سليمان، داعيًا إياه إلى الوهابية، وقبله كان السلطان، محمد بن عبد الله، متأثرًا بالأفكار الوهابية التي كان يحملها بعض الحجاج المغاربة القادمين من المشرق(3).

وقد كان للفكر السلفي الوهابي امتداد لدى بعض اتجاهات الحركة الوطنية المغربية؛ إذ يشير علال الفاسي -وهو أحد مؤسسي مدونة الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة حاليًّا)- إلى الارتباطات المباشرة بين بلاد المغرب العربي وبلاد الحجاز(4).

كما أن دور العامل الديني لم يقتصر على تحديد معالم العلاقات المغربية-الخليجية في شقها الخارجي سواء الثنائي أو متعدد الأطراف، بل تم توظيف الفكر السلفي الوهابي في تدبير القضايا الداخلية لبعض دول شمال إفريقيا ومن بينها المغرب، خاصة خلال حقبة التسعينات. وهنا يمكن القول: إن الأمر يتعلق بتوافق ضمني بين هذه الدول الراغبة في مواجهة تنامي حركات الإسلام السياسي المستندة في الترويج لرؤيتها السياسية على الاختلالات الاقتصادية والتفاوتات الاجتماعية لهذه الدول، وبين المنهج العام للمملكة العربية السعودية الراغبة في مدِّ نفوذها وتأثيرها من خلال ما سمي بـ”تصدير الفكر السلفي الوهابي”(5).

2.1. المحدد الاقتصادي

يختزل البعد الاقتصادي الجانب الأكثر حضورًا وديمومة ضمن العلاقات المغربية-الخليجية، فالمغرب كان البلد المغاربي الذي استفاد أكثر من الدعم الاقتصادي العمومي الممنوح من طرف الدول المنتجة للبترول في الخليج، ومن طرف الوكالات العربية للتنمية التي تم إنشاؤها بعد الحرب العربية-الإسرائيلية لسنة 1973. فبين 1973 و1989، حصل المغرب على 4.8% من الدعم العربي العام المخصص خلال تلك الفترة، وبالإضافة إلى هذه المساعدات التي كانت عبارة عن قروض للدولة أو لوكالات التنمية نجد تسهيلات في الأداء، ففي سنة 1984، وهبت المملكة العربية السعودية المغرب نصف استهلاكه الوطني من البترول، وفي سنة 1991، كافأت دول الخليج العربي المغرب عن مساهمته في حرب الخليج؛ حيث زودت المغرب بالبترول مجانًا بما قيمته مليار دولار، كما منحته قرضًا بما قيمته 3.6 مليارات دولار(6).

وقد استمر هذا المحدد في توجيه العلاقات المغربية-الخليجية؛ إذ إنه وبسبب الصعوبات الاقتصادية التي واجهها المغرب بفعل تأثيرات الربيع العربي والأزمة المالية العالمية وارتفاع أسعار النفط وأزمة الديون الأوروبية، سيسعى إلى “تعويض خسارته” من خلال بناء شبكة استثمارية مع دول الخليج، وهو ما تأتَّى له من خلال التوقيع على اتفاقية بينه وبين الصناديق السيادية لكل من قطر والإمارات والكويت، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، تقضي بإنشاء صندوق استثماري موحد بقيمة 2.5 مليار دولار(7).

3.1. المحدد الاستراتيجي والأمني

تشكَّلت العلاقات الاستراتيجية والأمنية بين المغرب ودول الخليج العربي عبر مسار من التراكم والتحول، أسهمت في بلورتها بشكل أساسي فترات النزاع والحرب التي شهدها العالم العربي والإسلامي، والتي كانت تنقل هذه العلاقات من طور إلى طور ومن مرحلة إلى أخرى.

مهَّدت حرب 1956 (أو العدوان الثلاثي على مصر) لبداية انتشار الأفكار الناصرية في العالم العربي، خاصة أن موجة التعاطف مع مصر كانت كبيرة وعامة(8)، وهذا السياق كان له دور في تحقيق التقارب المغربي-الخليجي على مستويين، الأول: وهو الصبغة الأيديولوجية للفكر الناصري الثوري، والذي كان يتعارض إلى حدٍّ بعيد مع الأيديولوجية المحافظة للملكيات(9). الثاني: الخشية من وجود تأثير لحركة الإخوان المسلمين في صفوف حركة الضباط الأحرار التي كان أحد زعمائها هو جمال عبد الناصر، أحد قيادات ثورة 23 يوليو/تموز 1952 في مصر، دون إغفال أن الملكيات الخليجية كانت -ولا تزال- تعتبر حركات الإسلام السياسي، وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، تهديدًا حقيقيًّا لشرعيتها الدينية والتاريخية.

أما حرب 1967، والتي مثَّلت هزيمة كبرى للنظام المصري والفكر الناصري الثوري، فقد فتحت المجال أمام بروز المعسكر العربي المحافظ الذي يتكوَّن أساسَّا من الملكيات، خاصة فيما يتعلق برؤيته لمنهج تدبير الصراع العربي-الإسرائيلي، والمفاوضات مع إسرائيل، وهي المرحلة التي شهدت تكثيف التنسيق السياسي بين المغرب والدول الخليجية، خاصة بعد إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي في سبتمبر/أيلول 1969(10).

بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، بات واضحًا مستوى ومجال التحالف المغربي-الخليجي والمغربي-السعودي على وجه الخصوص، فقد كان للمملكة العربية السعودية موقف داعم للأدوار المغربية في نزاع الشرق الأوسط، وهو ما يجلِّيه الدعم المالي الكبير الذي حظي به المغرب خلال هذه المرحلة(11).

مرة أخرى، سوف تفتح حرب الخليج، سنة 1990، مرحلة متقدمة من العلاقات المغربية-الخليجية، فبعد اجتياح القوات العراقية للكويت، كان المغرب أول من أعلن تضامنه مع الكويت داعيًا العراق إلى سحب قواته(12)، بل وشارك المغرب في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية من أجل ما سمته “تحرير الكويت”؛ حيث قام المغرب بإرسال 1200 عسكري إلى المملكة العربية السعودية، و5000 منهم إلى الإمارات العربية المتحدة. وفي هذا السياق، يشير إيان ليسر (Ian O. Lesser) إلى أن هذه القوات استمرت في الوجود بالمنطقة، وعبَّرت عن انتقال العلاقات المغربية بالخليج العربي إلى مرحلة الشراكة الأمنية الاستراتيجية طويلة الأمد(13).

 

  1. العلاقات المغربية-الخليجية ضمن سياق الربيع العربي

قبل مرحلة الربيع العربي كانت الأبحاث والدراسات الأكاديمية حول العلاقات المغربية تنطلق أساسًا من طبيعة الارتباطات الأيديولوجية بين النظام المغربي وبين الأنظمة السياسية في الخليج؛ حيث اعتُبرت هذه العلاقة علاقة بين مَلَكيات يحكمها التضامن والمصالح المشتركة والرؤية الموحدة لمختلف القضايا والإشكالات الإقليمية والدولية. وخلال المرحلة التي عرفت اندلاع “الثورات العربية” وبعدها، استمر هذا البُعد في توجيه النقاش حول راهن ومستقبل العلاقات المغربية-الخليجية مع التركيز على تحليل ميكانيزمات المقاومة لدى الملكيات العربية؛ حيث تحوَّلت الملكيات المحافظة في مجلس التعاون الخليجي نحو غريزة حفظ الذات، فعزَّزت قدراتها الدفاعية وسعت إلى تقوية تحالفاتها الأمنية وتوسيع شراكاتها(14).

كذلك دفع هذا الوضع بدول الخليج العربي إلى تبنِّي سياسة خارجية داعمة ومؤيدة للأنظمة التقليدية “القديمة”، وفي هذا السياق بدا المغرب دولة مستقرة سياسيًّا؛ حيث استطاع النظام تدبير الحركة الاجتماعية المتأثرة بـ”الربيع العربي” من خلال إطلاق إصلاحات سياسية ودستورية.

وبالإضافة إلى عامل الاستقرار السياسي، والعامل الجيوسياسي المتمثل في طبيعة الموقع الجغرافي للمغرب، فإن دول الخليج باتت أكثر حاجة للقدرات الأمنية والعسكرية المغربية، خاصة في حالة حدوث انتفاضات أو احتجاجات كبرى في أي دولة من دول الخليج(15). وهي بذلك تُعزِّز من استراتيجيتها الدفاعية المبنية على الاستعانة بالقدرات العسكرية والأمنية للمَلَكيات السُّنِّية(16)، ووفقًا لذلك، تُشكِّل القوات العسكرية والأمنية المغربية مصدرًا قيِّمًا للقوات المسلحة السُّنِّية المدرَّبة القادرة على الدفاع عن الأنظمة والمؤسسات الخليجية(17). وعليه، فإن التحولات التي حملها الربيع العربي مكَّنت من ترسيخ التقارب المغربي-الخليجي، وبهدف تقوية الثقل الاستراتيجي في المنطقة، وجَّه مجلس التعاون الخليجي في مايو/أيار 2011 -على هامش اجتماع وزراء خارجية دول المجلس- دعوة للمغرب والأردن للانضمام إلى المجلس ومنحهما عضوية كاملة.

استقبل المغرب دعوة الانضمام هاته بالترحيب وباهتمام كبير(18)، نظرًا لما يمكن أن توفره عضوية مجلس التعاون الخليجي من فرص وإمكانات اقتصادية، خاصة على مستوى حركة السلع والأشخاص وجذب الاستثمارات(19)، بالإضافة إلى الرغبة في ترسيخ العلاقات الاستراتيجية مع مجلس التعاون من أجل تعزيز النفوذ السياسي الإقليمي للمغرب والتأطير الجيوسياسي لنزاعه مع الجزائر المجاورة الغنية بالنفط، خاصة أنها استخدمت ثروتها النفطية لزيادة إنفاقها على الدفاع إلى حدٍّ كبير وتصعيد هجومها الدبلوماسي من أجل تعزيز الدعم لانفصاليي البوليساريو. كما أن تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية مع مجلس التعاون الخليجي من شأنه المساعدة على مواكبة الطفرة في الحفاظ على التوازن الاستراتيجي الهش في المغرب العربي، لاسيما أن السعودية موَّلت العديد من المشتريات العسكرية المغربية(20).

لكن المغرب لم يرفض الدعوة ولم يقبلها، واعتبر في ردِّه الرسمي أن الفضاء المغاربي يمثِّل عمقه الاستراتيجي، وهو خيار أساسي لا رجعة فيه للأمة المغاربية، وأنه يسعى إلى شراكة أو وضع متقدم في إطار العلاقة مع الخليج. ويُفَسَّر الموقف المغربي هذا بأن انضمام المغرب الرسمي إلى مجلس التعاون الخليجي من شأنه أن يُكرِّس “تَخَنْدُق” المغرب ضمن الملكيات العربية المحافظة المقاومة لموجة التغيير والتحوُّل الديمقراطيين، وأن يعرقل مسلسل الإصلاح الذي انخرط فيه المغرب تفاعلًا مع المعطيات الداخلية والخارجية التي دفعت بالنظام السياسي المغربي إلى الإعلان عن خطة لإصلاح الدستور ومباشرة إصلاحات سياسية غير مسبوقة(21). ويتفادى المغرب كذلك الدخول في حرب عَقَدِيَّة أخرى بين السعودية السُّنِّية وإيران الشيعية، مثلما حدث في ثمانينات القرن العشرين عندما أدى التمويل الخليجي إلى تطور الحركة السلفية في مواجهة المد الشيعي الثوري وحركات الإسلام السياسي(22)، خاصة وأن هذه الأخيرة أصبحت أحد المكونات الرئيسة في البناء السياسي المغربي، بل ومثَّلت أحد أجوبة وخيارات النظام المغربي في سياق التفاعل مع حركة الشارع إبَّان الربيع العربي.

غير أن طيَّ صفحة انضمام المغرب (ولو مؤقتًا) لمجلس التعاون الخليجي، لم يوقف التعاون والتنسيق المغربي-الخليجي، وانتقلت العلاقات خلال مرحلة الربيع العربي إلى شراكة استراتيجية، مُنِح المغرب بموجبها مبلغ 5 مليارات دولار من أجل تمويل العديد من المشاريع الاقتصادية، بالإضافة إلى قرضين بقيمة 285 مليون دولار من البنك الإسلامي للتنمية بهدف تمويل مشاريع خاصة بالماء الصالح للشرب والطاقة الكهرومائية، كما أسهمت المملكة العربية السعودية في تمويل مشروع “نور ورزازات” للطاقة الشمسية بقيمة 500 مليون دولار، وقيام الشركة السعودية-المغربية للاستثمار الإنمائي بتمويل العديد من المشاريع بغلاف مالي قدره 230 مليون دولار(23). وكل هذه المشاريع جاءت في إطار خطة العمل المشترك 2012-2017، والتي جرت المصادقة عليها خلال الجولة التي قام بها الملك محمد السادس لكل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت في أكتوبر/تشرين الأول 2012. كما جرى في فبراير/شباط 2011 عقْدُ الدورة 11 للجنة المشتركة المغربية-السعودية، والتي جرى خلالها التوقيع على مذكرة تفاهم حول إجراءات التكامل وتبادل البيانات في مجال التخطيط الحضري وبرنامج مشترك للتعاون بين معهد الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية السعودية والأكاديمية الملكية المغربية للدبلوماسية(24).

 

  1. العلاقات المغربية-الخليجية: محفزات التوتر

انْبَنَت مصفوفة العلاقات الاستراتيجية المغربية الخليجية على جملة من التفاهمات والتوافقات ركيزتها الأساسية الدعم المالي والاقتصادي والسياسي الخليجي مقابل استمرار المغرب في الاضطلاع بدور العمق الحيوي الخليجي في شمال إفريقيا والمغرب العربي، خاصة بالنسبة للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

بيد أن هذه المعادلة المعبِّرة عن مستويات متقدمة من التقارب المغربي-الخليجي، لم تعد قادرة على استيعاب واحتواء الخلافات العميقة التي برزت خلال الأعوام الخمس المنصرمة مع دولة الإمارات في المقام الأول والسعودية في المقام الثاني، والتي نقلت العلاقات بينهما من خانة الوفاق التاريخي إلى خانة الأزمات المستمرة؛ إذ إن مجموعة من العوامل توحي بأن تحولات مهمة قد تطول بنية العلاقات المغربية-الخليجية.

1.3. التناقضات الداخلية الـ”بَيْن خليجية”

ليس خافيًا أن العقد الأخير شهد صعودًا خليجيًّا بارزًا على الساحة الدولية والإقليمية، فالارتفاع المستمر لأسعار المنتجات الطاقية عزَّز بشكل كبير من الإمكانات المالية والاقتصادية لدول الخليج، ومنحها فرصًا لتطوير سياساتها الخارجية ضمن مساحات جيوسياسية وجيوستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على وجه الخصوص. كما أن أحداث الربيع العربي أثارت انشغالات أمنية وسياسية لملكيات وإمارات الخليج (السعودية والإمارات والبحرين على وجه الخصوص) من منطلق أن هذه الموجة من الثورات المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية والإصلاح السياسي وقعت ضمن المجالات الحيوية والحدود القريبة للخليج. وعمدت هذه الدول -مدفوعة بالرغبة في التحكُّم في الارتدادات السياسية والأمنية والاقتصادية للربيع- إلى التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في كل الأزمات الإقليمية في ليبيا وتونس ومصر واليمن وسوريا(25).

وأفرزت صيغ ووضعيات التدخل المختلفة في تلك الدول تباينات وتمايزات غير مسبوقة بين رؤيتين، الأولى: تتبناها كل من السعودية والإمارات ومعهما البحرين، والثانية: تُمثِّلها دولة قطر.

شكَّلت القضايا الأمنية والاستراتيجية، بالإضافة إلى مسألة الديمقراطية والإصلاح السياسي، محور الخلاف الخليجي الداخلي، وذلك على الرغم من عناصر التشابه بين المكونات الثقافية والإثنية والسياسية والاقتصادية والتاريخية بين دول الخليج، إلا أن توظيفها واستثمارها وتسخيرها اختلف بشكل كبير بين المقاربتين المذكورتين أعلاه.

تعتبر قطر أن مسألة النمو الاقتصادي والمجتمعي المستدام في عصر العولمة تمر بالضرورة عبر تحرير المجتمع وتوفير الوصول الشامل لثروة البلاد وفتح التعليم الليبرالي للجميع، وهي بذلك تسعى إلى بناء قوة ناعمة مختلفة عن بنية الأنظمة المجاورة، كما أنها عملت على تقويض احتكار الأنظمة العربية الرسمية للمعلومة وضمان الوصول الحر إليها من خلال تشجيع دور الجامعات ومراكز الفكر ووسائل الإعلام(26). واستنادًا إلى هذا التصور، بدا واضحًا ومفهومًا مختلف أشكال الدعم الذي قدَّمته قطر لدول الربيع العربي، خاصة أنها لم تستشعر داخليًّا أي خطر أو تهديد يمكن أن يمتد إليها أو لنظامها، لاسيما أنها ركزت توجيه قدراتها المالية والاقتصادية بالشكل الذي قلَّص من فرص اندلاع احتجاجات داخلية ومنحها فرصة وهامشًا للحركة والمناورة. لذلك، فقد مثَّل الربيع العربي لحظة فاصلة لقطر كي تسهم في تشكيل مستقبل العالم العربي تحت شعار البحث عن حلول عربية للمشاكل العربية(27).

ضمن مستوى آخر، يُسجَّل لنظام الحكم في قطر قدرته على الانفتاح والاضطلاع بأدوار سياسية مهمة؛ فقد راكم تجربة معتبرة في مجال الوساطة الدولية في ملفات وقضايا ذات أبعاد استراتيجية وحساسة في النظام الدولي ككل، أكثرها بروزًا الوساطة القطرية في اليمن (2008-2010)، ولبنان (2008)، ودارفور (2008-2010)، وحل النزاعات بين السودان وتشاد (2009)، وبين جيبوتي وإريتريا (2010)، ناهيك عن دورها في الحوار مع إيران حول الملف النووي، والاستقرار السياسي في أفغانستان ورعاية الاتفاق السياسي بين حركة طالبان والولايات المتحدة الأميركية سنة 2020، إضافة إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والواضح أن تحوُّل مبدأ الوساطة إلى مرتكز أساس في تعريف نظام الحكم في قطر وبِنْيته، له تفسير آخر يتجلى في قدرته على استيعاب وقبول الفعل والموقف السياسي واحتوائه والتفاعل معه، ولعل هذا ما يفسر تحوُّل قطر منذ فترة طويلة إلى ملاذ للإسلاميين والمعارضين السياسيين من مختلف أرجاء العالم العربي والإسلامي(28)، ودعمها للتشكيلات السياسية التي دفعت بها أحداث الربيع العربي خاصة حركات الإسلام السياسي.

في مقابل الرؤية القطرية، انطلقت المقاربة الإماراتية-السعودية من البيروقراطية المركزية للدولتين؛ حيث أدت سياسات ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى أَمْنَنَة الدولتين بالشكل الذي جعل كلا النظامين مستعدًّا لفعل أي شيء وتوظيف كل الوسائل والآليات للحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي. أُعْطِيَت الأولوية للاستقرار الداخلي على حساب الحريات العامة والفردية، وللاستبداد الطائفي على حساب التعددية. وبدت السياسات الإماراتية والسعودية رامية لإعادة إحياء الأساطير والمقولات المحافظة حول قابلية العالم العربي للخضوع للحكم الثيوقراطي الاستبدادي باعتباره الضامن الأساسي للاستقرار الداخلي، وكون النظام الديمقراطي التعددي يفتح المجال للفعل السياسي ولنشاط المجتمع المدني، وهي محفزات لتقويض الاستقرار ودعم التمرد والإرهاب(29).

تحوَّلت الأفكار والسياسات الإماراتية/السعودية إلى عقيدة ثابتة في سلوك الدولتين، وقد جرى ذلك ضمن مستوى سياسي دعمت من خلاله كل حركات الارتداد على الثورات العربية، وضيقت على التنظيمات السياسية التي أفرزتها سياقات الربيع العربي، وعمدت إلى تقويض المسارات السياسية والديمقراطية والانتخابية في مصر وتونس وليبيا واليمن. وضمن مستوى آخر، أمني واستراتيجي، أعادت (السياسات الإماراتية/السعودية) تعريف مفاهيمها الخاصة للتهديد والإرهاب ضمن أجندات لا تأخذ في الحسبان اعتبارات ومقتضيات الأمن الإقليمي الخليجي أو الأمن القومي العربي عبر تحطيم ما تبقى من تصورات التهديد المشترك لأمن الخليج وتعميق الخلاف والاستقطاب الإقليمي من خلال حصار دولة قطر منذ يونيو/حزيران 2017، وإنشاء مجلس تنسيق سعودي/إماراتي -في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه- أسهم في تعميق التباعد على مستوى المقاربات المشتركة للأمن والتعاون، والتي أُنْشِئ مجلس التعاون الخليجي على أساسها سنة 1981. وقد بدا النظامان، الإماراتي والسعودي، أقرب إلى محور جديد أكثر تشددًا ذي طابع إقصائي/صراعي أكثر منه اندماجيًّا، يستبعد حتى البحرين المناهضة بدورها لقطر ويستعين بمصر، وتوجد حتى عُمَان والكويت ضمن بنك أهدافه(30).

وانتقل تأثير الخلافات الـ”بين خليجية” المحتدمة بفعل السياسات الإماراتية-السعودية الراديكالية إلى سعي حكام البلدين إقامة تحالفات وولاءات واصطفافات وفق المنطق والمصلحة والرؤية الإماراتية-السعودية، وهو ما فتح الباب أمام بروز توترات بين دول الخليج وبعض حلفائها التقليديين وعلى رأسهم المغرب.

2.3. منهج التوازن المغربي تجاه حصار قطر

بفعل التفكُّك الذي أحدثته الطموحات المتنامية الإماراتية-السعودية على بنية التكتل الإقليمي الخليجي، تأثرت -إلى حدٍّ كبير- العلاقات الخارجية لمجلس التعاون الخليجي بالمناخ الجيوسياسي الجديد، وبرزت تباينات واختلافات بين الخيارات المغربية وتلك الإماراتية-السعودية.

وبرزت معالم هذا الاختلاف بادئ الأمر حول طبيعة التعاطي مع مطالب الإصلاح الديمقراطي؛ فقد كان المغرب أكثر مرونة وقابلية للتجاوب مع احتجاجات الشارع التي تزامنت واندلاع الاحتجاجات الشعبية في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، بينما اختارت دول الخليج خيار التدخل العسكري في البحرين واليمن وليبيا. وهذا التباين الجوهري ليس وليد اللحظة المرتبطة بالربيع العربي، وإنما هو توجُّه يكاد يكون ثابتًا لدى الدولة المغربية، وهي بذلك تبتعد عن محاولات تأسيس “نادي الملكيات” الذي يتكوَّن من دول الخليج بالإضافة إلى الأردن والمغرب.

بدا التباين واضحًا كذلك على مستوى التطلعات والخيارات الجيوسياسية بين المغرب والخليج. فخلال العقد الأخير أضحى التعاون جنوب-جنوب مفهومًا وتوجُّهًا مركزيًّا في السياسة الخارجية المغربية، وعلى الرغم من أن هذا الخيار لا يُشكِّل في حدِّ ذاته بديلًا للعلاقات المغربية-الخليجية، إلا أنه وبالمقابل يرمي إلى تجاوز الإطارات التقليدية الموجِّهة لهذه العلاقة (العروبة، الإسلام، الوحدة العربية…). من جهتها، فإن دول الخليج واستنادًا إلى العامل الاقتصادي بالدرجة الأولى(31)، زاد من حماستها ورغبتها في توسيع دائرة نفوذها وتأثيرها الدولي من جهة، وفي التوجه نحو مزيد من التحكُّم في المجالات الجغرافية القريبة من حدودها، مثل: اليمن ومصر وليبيا وسوريا وفلسطين من جهة أخرى(32). وهذه المعطيات وإن كانت لم تؤثر بشكل مباشر في متانة العلاقات المغربية-الخليجية، إلا أنها فتحت الباب أمام ظهور اهتمامات وطموحات جيوسياسية وجيوستراتيجية أخرى لدول مجلس التعاون الخليجي تتجاوز نمط العلاقات والارتباطات التقليدية، كما أن تنوعها واختلافها مهَّد لظهور بعض الاختلافات والتباينات بخصوص بعض القضايا والمواقف.

بيد أن الموقف المغربي من حصار دولة قطر عمَّق الخلافات بين المغرب من جهة، والإمارات والسعودية من جهة أخرى، فالمغرب لم يعلن دعمه لدول الخليج، ولم يقطع علاقاته واتصالاته مع قطر ولم يعبِّر كذلك عن تضامنه معها، بل قام بإرسال طائرة محملة بالمواد الغذائية على اعتبار أن دول مجلس التعاون الخليجي -باستثناء عُمَان والكويت- أوقفت كل طرق ووسائل الإمداد والتواصل. ويعتبر الموقف المغربي وفق هذه الشروط والسياقات مفاجئًا (مقارنة بموقف باقي دول شمال إفريقيا) بالنظر إلى طبيعة التحالف الاستراتيجي الذي يربط المغرب بكل من السعودية والإمارات(33).

ويعبِّر الموقف المغربي عن تطور ملحوظ في النزعة البراغماتية والواقعية للمغرب تجاه دول الخليج؛ حيث يحافظ على نمط علاقاته التقليدية مع السعودية والإمارات مع الرغبة في الارتقاء بها إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية المُؤَسَّسَة والمُهَيْكَلَة، وله في ذلك العديد من مظاهر الاصطفاف إلى معسكر المملكة العربية السعودية، فالمغرب انضم إلى دول الخليج في التحالف الدولي ضد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” ابتداء من ديسمبر/كانون الأول 2015، بالإضافة إلى التحالف السعودي-الإماراتي للعمليات العسكرية في اليمن من خلال المشاركة بست طائرات مغربية مقاتلة من نوع (إف 16).

بالمقابل، فإن الدولة المغربية المدفوعة بالرغبة في الحفاظ على حد أدنى من التوازن الاستراتيجي في إطار علاقاتها بأقطاب الخليج العربي، تسعى للحفاظ على الرصيد الذي حققته في علاقتها بدولة قطر، وهذا الرصيد تجلى بوضوح في انتقال العلاقات المغربية-القطرية إلى مستوى متقدم من خلال التوقيع، في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، بين المغرب والصندوق السيادي القطري على مشروع سُمِّي بـ50-50 للاستثمار المشترك بقيمة 2 مليار دولار(34).

3.3 الاقتراب الإماراتي-السعودي من مجالات السيادة والخصوصية المغربية

من المعلوم أن البناء السياسي العام للدولة المغربية سواء في بعده الداخلي أو الخارجي يتأسَّس على جملة من المرجعيات التي تمثِّل النواة المركزية للدولة. ويُشكِّل مجالان اثنان، أو بعبارة أدق: اختصاصان اثنان، الأركان الأساسية للتعريف السياسي للنظام المغربي.

– المجال الأول: وهو تدبير وتوجيه الميزان الداخلي للقوة بين مختلف التشكيلات والتنظيمات السياسية الحزبية منها وغير الحزبية، وكذا تحديد مواصفات اللحظات والمحطات السياسية، وشروط التحوُّل والانتقال وصيغه وسقفه. فمنذ الاستقلال سنة 1956، لم تنفك الملكية تتدخل بشكل مباشر في الحياة الحزبية والسياسية من منطلق حيازتها لمفاتيح السلطة السياسية ولشرعية مُرْتَكِزَة على البنيات التقليدية للحكم في محدداتها التاريخية التراثية والسياسية. لذلك نجد الملك، على سبيل المثال لا الحصر، هو من فرض حالة الاستثناء سنة 1965، وهو من وضع أُسُسَ التناوب التوافقي، سنة 1996، بإدماج جزء مهم من المعارضة السياسية في الحكم، وهو من فتح باب المشاركة في الحياة السياسية للإسلاميين، وهو من دبَّر مرحلة اندلاع احتجاجات 20 فبراير/شباط 2011 ضمن موجة الربيع العربي، ووجَّه مخرجاتها من خلال تعديل دستوري متقدم أدخل تعديلات جوهرية على الدستور المغربي، وفتح الباب أمام حكم الإسلاميين الذين قادوا الحكومة المغربية منذ 2011 إلى يومنا هذا.

– المجال الثاني: وهو السياسة الخارجية؛ إذ يحتكر الملك كل مؤسسات الدولة في مجال علاقاتها الدولية مستندًا على بناء مؤسساتي سلطاني ذي خلفية تاريخية تفرض المؤسسة الملكية نفسها من خلاله سلطة عليا في تسيير وتدبير الاختصاصات والمهام الخارجية للدولة. ووفق هذا المنظور، فإن مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية ظل تاريخيًّا -ولا يزال- ينتمي إلى النواة الصلبة للسلطة وغير خاضع لمبدأ فصل السلط وتوازنها.

ومنذ اندلاع أحداث الربيع العربي، ثمة مؤشرات على أن الإمارات والسعودية سعيتا للاقتراب من مجالات خصوصية وسيادية مغربية إما تأثيرًا أو توجيهًا. فالإمارات، ومن منطلق عدائها لحركات الإسلام السياسي بشكل عام، لم تكن “تنظر بعين الرضا” لتولِّي حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية زمام قيادة الحكومة؛ مُصَنِّفَةً إياه “حزبًا إخوانيًّا”، وانبرى ضاحي خلفان، قائد شرطة دبي وأحد الوجوه البارزة للدولة الأمنية الإماراتية، للتعبير عن هذا التوجه في تدوينة عبر تويتر متوقعًا خلالها “سقوطًا مدويًّا لحكومة عبد الإله بن كيران”، رئيس الحكومة المغربي (2011-2016)، مؤكدًا أن “إخوان المغرب سيسقطون خلال عام”(35). وضمن نفس الاتجاه، وخلال فترة جائحة كورونا، قامت صفحات إلكترونية مدعومة إماراتيًّا بشنِّ حملة ممنهجة ومُوَجَّهَة ضد المغرب مُتَّهِمَةً إياه بـ”الفشل في محاربة وباء كورونا وإهمال الشعب المغربي وعدم توفير المؤن والغذاء له وتركه عرضة لوباء كورونا”(36). وهو نفس المنحى الذي اتخذته تقارير إعلامية بثتها قناة العربية المحسوبة على السعودية حول التدابير الحكومية المغربية لمواجهة فيروس كوفيد-19.

وإذا كانت هذه الحملات تهدف -بحسب وجهة النظر المغربية- إلى تشويه سمعة المغرب وتبخيس خياراته السياسية غير المتماهية مع توجهات المحور السعودي-الإماراتي، فإن مجال السياسة الخارجية الذي ظل تاريخيًّا الإطار الأكثر تعبيرًا عن التوافقات بين المغرب ودول الخليج سيتحوَّل إلى أحد المحاور الرئيسة للتناقضات والخلافات بين الطرفين.

لم تعد الخلافات المغربية-الخليجية خافية، وبرزت مؤشرات واضحة على وجود تباينات جوهرية في توجهات وتصورات وسياسات الطرفين، فقد سبق للمغرب أن عبَّر على لسان وزير خارجيته، ناصر بوريطة، في مارس/آذار من العام 2019، عن أن “السياسة الخارجية المغربية قائمة على ثوابت ومبادئ، وأنها مسألة سيادة وأنه ربما لا نتفق على بعض القضايا وأن التنسيق يجب أن يكون بناء على رغبة الطرفين وليس حسب الطلب، كما أن العلاقة بين المغرب والخليج يجب أن تكون متقاسمة وإلا فسيكون من الطبيعي عدم استثناء أي من البدائل”(37). وإلى جانب هذا الموقف، قام المغرب باستدعاء سفيره من السعودية في فبراير/شباط 2019، وسحب سفيره من أبوظبي ردًّا على عدم تعيين هذه الأخيرة سفيرًا لها في الرباط منذ أبريل/نيسان 2019، كما أغلقت “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، والتي كانت تُصنَّف أهم مؤسسة ثقافية للإمارات في المغرب، أبوابها وجمَّدت أنشطتها في مطلع أبريل/نيسان 2020.

وتعبِّر هذه المواقف والخطوات المغربية عن انزعاج من المقاربات السعودية/الإماراتية “الجديدة”، وعن رفض للضغوط التي باتت تُمارَس على التوجهات الخارجية التوافقية للمغرب وعرقلتها. فخلال العقدين الأخيرين بدا واضحًا توجُّه المملكة المغربية نحو تبني سياسة خارجية جديدة تدعم الطابع الاعتدالي لسلوكها الخارجي القائم على الحفاظ على علاقات مع أكبر قدر من الأصدقاء وتجنب مزيد من الخصوم والنأي عن الصراعات والانقسامات العربية والدولية(38)، وتنويع شبكة الشركاء السياسيين والاقتصاديين سواء من الدول أو من المنظمات الإقليمية والدولية. ويُسجَّل في هذا الإطار عودة المغرب للاتحاد الإفريقي، سنة 2017، بعد أن ظل منسحبًا لأزيد من ثلاث عقود، ومراجعة سياسات القطيعة التي كان يعتمدها مع الدول المعترِفة بجبهة البوليساريو المطالبة بالاستقلال عن المغرب؛ حيث أعاد علاقاته السياسية بكل من أنغولا والرأس الأخضر وبنين وتوغو وموزمبيق وكوبا والمكسيك وجامايكا وغيرها. وتقدم، في فبراير/شباط 2017، بطلب الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، وشهدت علاقات المغرب مع قوى دولية صاعدة، مثل: الهند والصين وروسيا وتركيا، تحولات مهمة سياسيًّا واقتصاديًّا. كل هذه العناصر أكسبت المغرب مؤهلات للاضطلاع بأدوار إقليمية ودولية، سعى المغرب من خلالها لإعادة توجيه سياسته الخارجية نحو الإطارات التوافقية والتفاوضية والتعاقدية، هادفًا لإعادة بناء مجالاته الحيوية الإقليمية في المغرب العربي وإفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء. بيد أن هذه الرهانات المركزية في سياسة المغرب الخارجية اصطدمت بسياسات إماراتية وسعودية مضادة باتت تتجاوز سقف ومساحة التفاهمات مع المغرب.

في الملف الليبي الذي احتضن المغرب المفاوضات بشأنه، والتي تُوِّجَت بالتوقيع على اتفاق الصخيرات بين أطراف النزاع وشكَّل المرجع السياسي الرئيس للأزمة الليبية، لم يكن السلوك الإماراتي داعمًا لمسار السلام في ليبيا، واستمرت في دعم اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، سياسيًّا وعسكريًّا، وأوعزت له بالانقلاب على الاتفاق؛ حيث أعلن في أبريل/نيسان 2020 إيقاف العمل بالاتفاق وتفويض المؤسسة العسكرية التي يرأسها بقيادة البلاد. واستعانت الإمارات في طموحاتها الإقليمية الجديدة بمصر بديلًا عن المغرب، حليفها التقليدي في المنطقة، وقوَّضت جهود الوساطة المغربية وهمَّشتها في مقابل دعم مسار برلين الذي لم يُسْتَدْع إليه المغرب، بينما اسْتُدْعِيَت إليه الجزائر المنافس الإقليمي الرئيس للمغرب.

ضمن مستوى آخر، بدأت الإمارات العربية المتحدة تُسجِّل حضورًا لافتًا في الجوار المغربي الصعب والمتوتر، خاصة في إطار العلاقة مع الرئيسين الجديدين في الجزائر وموريتانيا (عبد المجيد تبون وولد الغزواني)، عبَّرت عنها الزيارات المتبادلة (زيارة وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، للجزائر في يناير/كانون الثاني 2020، وزيارة وزير الخارجية الجزائري للإمارات في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وزيارة الرئيس الموريتاني، ولد الغزواني، للإمارات في فبراير/شباط 2020)، والتي نقلت العلاقات بين الإمارات والجزائر وموريتانيا إلى مستويات متقدمة لم ينظر إليها المغرب بعين الرضا. فالتنسيق الإماراتي-الجزائري ارتكز على الملف الليبي، والتقت إرادة الطرفين على الالتفاف على اتفاق الصخيرات ودعم مسار برلين، كما أن الرغبة الجزائرية في استقطاب الرساميل الإماراتية والحصول على الدعم المالي والاقتصادي من شأنها التأثير على وجهة الاستثمارات الإماراتية. وضمن نفس السياق، شهدت العلاقات الإماراتية-الموريتانية دفعة قوية، خاصة بعد اصطفاف الجمهورية الإسلامية الموريتانية إلى جانب دول الحصار المفروض على قطر. انتقلت موريتانيا إلى موقع متقدم في الاستراتيجية الإماراتية؛ حيث استفادت من تمويلات مهمة في مجالي التنمية والاستثمار بغلاف مالي قدره 2 مليار دولار وتم إلغاء التأشيرات بين البلدين، وتنظر الإمارات لموريتانيا حاليًّا باعتبارها مفتاحًا رئيسًا لتصريف سياساتها في المنطقة، خاصة أنها صلة وصل رئيسية بين المغرب العربي ومنطقة الساحل، ومن منطلق رئاستها لمجموعة دول الساحل الخمس العام الجاري، تظل مؤهلة للعب أدوار أمنية واستراتيجية مهمة تلتقي من خلالها الطموحات الإقليمية الإماراتية مع الرغبات الفرنسية في محاربة الإرهاب والتحكُّم في جيوسياسية المنطقة(39). يضاف إلى ذلك، إعلان السعودية والإمارات في مارس/آذار 2019 عن زيادة استثماراتها في موريتانيا في مجال الموانئ والمنشآت العسكرية، ويشمل هذا الاتفاق مشروع إنشاء قواعد عسكرية سعودية ومشروع ممول من الإمارات لتعزيز مرافق ميناء نواذيبو سيمكِّنها من تعزيز استراتيجيتها البحرية الرامية لإنشاء طريق مستمر من سواحلها إلى البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط مدعمة باتفاقيات الموانئ التي أبرمتها في القرن الإفريقي، وهو ما يشكِّل منافسة قوية للمشاريع المغربية في مجال الموانئ والنقل البحري في الداخلة وطنجة المتوسط(40).

وإذا كانت الخلافات مع السعودية أقل حدة، إلا أن ذلك لا يمنع من أن العلاقات بينها وبين المغرب دخلت مرحلة من الفتور غير المسبوق ومن التباين والاختلاف على مستوى المواقف المشتركة بخصوص قضايا مثَّلت تاريخيًّا محور التوافق بينهما. فقد عرفت القضية الفلسطينية تطورات مهمة برزت من خلالها الرغبة الأميركية/الإسرائيلية في الطي النهائي لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية، وبدا واضحًا اصطفاف ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، إلى جانب الأطروحة الأميركية فيما يتعلق بصفقة القرن وفي إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وهي مواقف استشعر المغرب خضوعه لضغوط للقبول بها من موقعه وأدواره التاريخية في القضية، وبصفة الملك محمد السادس رئيسًا للجنة القدس التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي(41). وهذا الاستصغار والتجاوز السعودي لموقع المغرب قوبل بردود مغربية تجلت في رفض استقبال ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان. حدث ذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، في أوج حادثة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، والمطالبة بتأجيل اجتماع اللجنة العليا المشتركة التي كانت ستُعقد في نفس الفترة.

علاوة على ما سبق، نقلت السعودية خلافها مع المغرب إلى خانة خرقت القواعد الأخلاقية والأخوية لعلاقات البلدين؛ حيث بثَّت قناة العربية السعودية تقريرًا، في فبراير/شباط 2019، بنبرة إيجابية عن جبهة البوليساريو؛ حيث حرصت على إبراز وجهة نظر البوليساريو على حساب المغرب، مشيرة إلى اعتراف الكثير من الدول بـ”الجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية” المعلنة من طرف واحد(42). كما انبرى عدد من الصحفيين والمدونين للهجوم على المغرب والتشهير به وبقيادته وبخياراته السياسية والاقتصادية، كما امتنعت السعودية والإمارات عن دعم المغرب في ملفه لتنظيم كأس العالم لسنة 2026 وصوَّتتا لصالح الملف الأميركي.

 

خاتمة

حققت العلاقات المغربية-الخليجية تراكمات مهمة عبر نصف قرن من الارتباط السياسي والاقتصادي والأمني، وكان من الممكن أن تُشكِّل نموذجًا متقدمًا من التعاون العربي-العربي، خاصة أنها انْبَنَت في شقٍّ أساس منها على معاني الأخوة والتضامن العربي الذي جسَّدته العلاقات الشخصية التي ربطت ملوك المغرب (خاصة الملك الحسن الثاني) بملوك وأمراء الخليج (الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والملك فهد بن عبد العزيز آل سعود)، وتمظهر في الدعم الاقتصادي والسياسي الخليجي الذي ظل المغرب يتفرد به مقارنة بباقي الدول العربية، في مقابل مساهمة المغرب في بلورة ملامح النظام الأمني الخليجي عبر التحالفات والمصالح المشتركة التي نسجها مع دول الخليج.

وقد فرضت أحداث الربيع العربي وتداعياته، وكذا التحوُّلات التي طالت رؤى صنَّاع القرار في المغرب والخليج حول القضايا الإقليمية والدولية وتصوراتهم حول أولويات ورهانات السياسة الخارجية لبلدانهم، تباينات وأحيانًا تناقضات تتعلق بتدبير وتوجيه السلوك الخارجي، غير أن ذلك لا يوحي ولا يدل على أن العلاقات المغربية-الخليجية قد وصلت إلى نفق مسدود أو إلى نقطة عدم العودة، ويظل استمرارها وتمتينها رهينًا بتحقيق ثلاثة شروط أساسية:

– أولًا: البحث عن آليات تؤسس لشراكة اقتصادية حقيقية تتجاوز منطق المساعدات المالية وتُطَوِّر الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف غير المفعلة، والتي لم تُشكِّل بعد مرجعية للمبادلات التجارية والمعاملات المالية.

– ثانيًا: التوافق الجماعي حول استيعاب الخصوصيات المحلية واعتبارات السياسة الداخلية، واحترام الخيارات الذاتية في السياسة والاقتصاد والأمن، وتفادي الاقتراب من المجالات السيادية للدول العربية، وتفهم ديناميات التحول السياسي والديمقراطي.

– ثالثًا: مراجعة الإمارات والسعودية لسياساتهما “التدخلية” في شؤون دول الربيع العربي.

 

المراجع

(1) Abdassamad Belhaj, La Dimension Islamique dans la Politique Étrangère du Maroc: Déterminants, Acteurs, Orientations (Louvain-la-Neuve: Presses universitaires de Louvain, 2009), 177.

(2) ياسمينة أبو الزهور، “حصر النفوذ الأوربي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: المغرب”، المعهد المغربي لتحليل السياسات، 31 مايو/أيار 2020، (تاريخ الدخول: 17 يونيو/حزيران 2020): https://bit.ly/37NH3ZY.

(3) Belhaj, La Dimension Islamique dans la Politique Étrangère du Maroc, 173.

(4) Elena Maestri, ‘‘The role of the GCC in North Africa in light of the ‘Arab Spring’’’, in North African politics: change and continuity, ed. Yahia H. Zoubir and Gregory White (London; New York: Routledge, 2016), 355.

(5) Ibid.

(6) Ibid, 255-256.

(7) محسن الندوي، “أهمية الشراكة الاستراتيجية بين المغرب ومجلس التعاون الخليجي”، مجلة دراسات وأبحاث (جامعة الجلفة، الجلفة، العدد 23، 2016): 235، https://bit.ly/2AohQcs.

(8) Mohand Salhi Tahi, ‘‘The Maghreb states, Regional and Foreign Policies 1973-1987’’ (PhD thesis, University of Warwick, 1988), 205.

(9) ميغيل هرناندو دي لارامندي، السياسة الخارجية المغربية، ترجمة عبد العالي بروكي (الدار البيضاء، النجاح الجديدة، 2005)، ص 253.

(10) Belhaj, La Dimension Islamique dans la Politique Étrangère du Maroc, 173.

(11) Salhi Tahi, ‘‘The Maghreb states, Regional and Foreign Policies 1973-1987,’’ 289.

(12) عبد اللطيف الفيلالي، المغرب والعالم العربي (الدار البيضاء، مطبعة دار النشر المغربية، 2008)، ص 191.

(13) Ian O. Lesser, Security in North Africa: Internal and External Challenges (Santa Monica: Rand, 1993), 25.

(14) أنور بوخارس، “هل يوجد مكان للمغرب في مجلس التعاون الخليجي؟”، معهد كارنيغي للسلام في الشرق الأوسط، 25 مايو/أيار 2011، (تاريخ الدخول 18 أغسطس/آب 2018): https://bit.ly/3cZAe.

(15) Lin Noueihed and Alex Warren, The Battle for the Arab Spring: Revolution, Counter-Revolution and the Making of New Era (New Haven: Yale University Press, 2012), 256.

(16) تسمى هذه الاستراتيجية باللغة الإنجليزية “Coup-Proofing”، وتعتمد على خلق هياكل أمنية وعسكرية موازية للقوات النظامية غالبًا ما يتم تشكيلها من عناصر أجنبية، وذلك قصد التقليل من إمكانات قيام قوات الجيش النظامي بالانقلاب، وهي استراتيجية تعتمد عليها بشكل كبير دول الخليج العربي. لمزيد من التفاصيل حول هذه الاستراتيجية، انظر:

James T. Quinlivan, “Coup Proofing: Its Practice and Consequences in the Middle East,” International Security, Vol. 24, No. 2, (1999): 131-165.

(17) Noueihed and Warren, The Battle for the Arab Spring, 256.

(18) ‘‘Communiqué du Ministère des Affaires Etrangères et de Coopération Internationale,’’ 10 Mai 2018, “accessed August 19, 2018) : https://bit.ly/2OModHI.

(19) Miguel Hernando De Larramendi, Irene Fernandez Molina, ‘‘The Evolving Foreign Policies of North African States (2011-2014): New Trends in Constraints, Political Processes and Behavior,’’ in North African politics: change and continuity, ed. Yahia H. Zoubir and Gregory White (London; New York: Routledge, 2016), 248.

(20) بوخارس، “هل يوجد مكان للمغرب في مجلس التعاون الخليجي؟”، مرجع سابق.

يمكن الرجوع كذلك لدراسة سعيد الصديقي:

Said Saddiki, ‘‘Le Front Polisario: Une Entrave à la Complémentarité Maghrébine,’’ La “RASD” ou la non Viabilité d’un Produit Artificiel, (Rabat: Centre d’études internationales, 2008).

(21) De Larramendi and Molina, ‘‘The Evolving Foreign Policies of North African States (2011-2014),’’ 248.

(22) بوخارس، “هل يوجد مكان للمغرب في مجلس التعاون الخليجي؟”، مرجع سابق.

(23) Carolyn Barnett, ‘‘GCC-Maghreb Relations in Changing Regional Order,’’ CSIS Analysis Paper, (August 2013): 7.

(24) Centre des Etudes et de Recherches en Sciences Sociales, ‘‘Rapport stratégique du Maroc 2010-2013,’’: 95.

(25) Paolo Magri, Introduction to The Rising Gulf: The New Ambitions of the Gulf Monarchies, By Valeria Talbot (Milano: Italian Institute for International Political Studies, 2015), 8.

(26) Andreas Krieg, ‘‘The Weaponization of Narratives Amid the Gulf Crisis,’’ in Divided Gulf: The Anatomy of a Crisis,  Ed Andreas Krieg (London: Palgrave Macmillan, 2019), 94.

(27) كريستيان كوتس أولريكسن، “قطر والربيع العربي: الدوافع السياسية والمضاعفات الإقليمية”، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 24 سبتمبر/أيلول 2014، )تاريخ الدخول: 29 مايو/أيار 2020(: https://bit.ly/3dFHEPD.

(28) المرجع نفسه.

(29) Krieg, ‘‘The Weaponization of Narratives Amid the Gulf Crisis,’’ 101.

(30) Kristian Coates Ulrichsen, ‘‘Perceptions and Division in Security and Defense Structures in Arab Gulf States,’’ in Divided Gulf: The Anatomy of a Crisis,  Ed Andreas Krieg (London: Palgrave Macmillan, 2019), 34.

(31) الارتفاع الكبير في أسعار النفط جعل صناديق الثروة السيادية في الخليج تمثل 40% من إجمالي أصول صناديق الثروة السيادية في العالم، وتقوم بذلك بتوزيع وتوسيع الاستثمارات في أوروبا وآسيا والأميركيتين.

(32) لمزيد من التفاصيل حول مظاهر ومجالات وأدوات صعود دول الخليج العربي وطموحاتها الاستراتيجية خلال مرحلة ما بعد الربيع العربي، انظر:

Valeria Talbot et al., The Rising Gulf: The New Ambitions of the Gulf Monarchies (Milano: Italian Institute for International Political Studies, 2015).

(33) لمزيد من التفاصيل حول مواقف دول المغرب العربي من الأزمة الخليجية، انظر:

Youssef Cherif, ‘‘Everyone is taking sides in the Qatar Crisis. Here’s why these four North African states aren’t,’’ in The Qatar Crisis (Washington: Project on Middle East Political Science, 2017).

(34) Elena Maesteri, ‘‘The Gulf’s Proactivism in the Mena Region,’’ in The Rising Gulf: The New Ambitions of the Gulf Monarchies, Ed Valeria Talbot (Milano: Italian Institute for International Political Studies, 2015), 33.

(35) خالد البرحلي، “بعد هجمة “الذباب” الإلكتروني.. تفاصيل توغل أبوظبي في الإعلام المغربي”، الصحيفة، 16 أبريل/نيسان 2020، )تاريخ الدخول: 30 مايو/أيار 2020(: https://bit.ly/3cN6yvc.

(36) “يعتقد أنها إماراتية.. “العدالة والتنمية” ينتقد حملة إلكترونية ضد المغرب والعثماني”، الجزيرة نت، 17 أبريل/نيسان 2020، )تاريخ الدخول: 4 يونيو/حزيران 2020(: https://bit.ly/2zdW7De.

(37) “مواقفنا ليست حسب الطلب.. المغرب يضع 4 شروط للعلاقات مع السعودية والإمارات”، الجزيرة نت، 28 مارس/آذار 2019، )تاريخ الدخول: 10 يونيو/حزيران 2020(: https://bit.ly/2BM4xTd.

(38) مصطفى جالي، “العلاقات المغربية الإماراتية: سياسة الاعتدال في مواجهة سياسات الهيمنة”، مركز الجزيرة للدراسات، 23 مارس/آذار 2020، )تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2020(: https://bit.ly/2zhSZ9B.

(39) Dario Cristiani, ‘‘Geopolitics and the Greater Maghreb Security Complex in a Time of Financial Distress,’’ The Jamestown Foundation, April 6, 2020, ‘‘accessed June 11, 2020’’,  https://bit.ly/37kGmHj.

(40) Cinzia Bianco, ‘‘Tensions Rising among Morocco, Saudi Arabia, and the UAE,’’ LobeLog, May 2, 2019, ‘‘accessed June 11, 2020’’, https://bit.ly/2AhMWm0.

(41) Ibid.

(42) حسين مجدوبي، “السعودية توظف الصحراء الغربية للرد على مواقف المغرب و”الجزيرة””، القدس العربي، 2 فبراير/شباط 2019، )تاريخ الدخول: 11 يونيو/حزيران 2020(: https://bit.ly/2zq2GCO.