مقدمة
لا يمكن الركون إلى الثورة الرقمية وما ينبثق عنها من مجال شبكي متعدد الوسائط، وأنماط تواصل متحرر و”وعدٍ كبير بالمساواة”، وخصوصًا لجهة المشاركة السياسية الواسعة، للانطلاق منها كإشكالية تتناول العلاقة وجدليتها بين الإعلام الحديث والمتغيرات التي تلوح في أفق المجتمعات العربية، للوصول تاليًا إلى فرضية يعتريها الكثير من الشك بأن تكنولوجيا الاتصال تسهم في عملية التغيير السياسي بما يرسخ الحريات العامة ويؤسس لحداثة ثقافية-اجتماعية.
ذلك أن النظريات الإعلامية، على اختلاف مقارباتها ومنطلقاتها، إنما تؤشر بوضوح إلى الأثر المحدود لوسائل الاتصال الجماهيري، ربطًا بالمعطيات السوسيولوجية وطبيعة البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها من عوامل ومنظومة قيم.
لكن المقاربة السلبية عن “الأثر المحدود” للإعلام لا تحجب المسار الحتمي لمتغيرات (بطيئة) تؤشر لمفاهيم جديدة تترسخ في مفاصل المجتمع. هذه المتغيرات ترتكز إلى عوامل متشابكة، أبرزها غلبة التكنولوجيا على الرقابة الرسمية، وكسر احتكار الطبقة السياسية السائدة في نشر المعلومة وإشهار الموقف، والتغيير النوعي كنتاج للتغيير الكمِّي.
- الإطار المنهجي للدراسة
أ- مشكلة الدراسة وفرضياتها
تتمثَّل الإشكالية في تجلياتها الحالية في أن الثورة التواصلية قد شَرَعت أبواب التفاعل السياسي في العالم العربي، وكسرت مسارًا طويلًا من الأحادية الإعلامية، وأوجدت فرصًا متساوية للمشاركة الواسعة، ولاسيما بالنسبة إلى المدوِّنين العاديين. كما وفَّرت للسياسيين إمكانيات هائلة في توجيه الرسائل الاعلامية، كأداة للتعبئة السياسية والاجتماعية، وعلى المستويات المحلية والخارجية على السواء.
وفي موازاة ذلك، يبرز سؤال مركزي: هل يمكن المراهنة على الثورة الرقمية من أجل رفع مستوى الثقافة العامة في المجتمع، وتاليًا، تحرُّر المواطن من هامشية الموقع والدور، علمًا بأن الثقافة العامة رديفةٌ حُكْمًا، للمعلومة والمشاركة الفاعلة والإيجابية في العملية السياسية، وصولًا إلى المشاركة في القرار؟
ويمكن تاليًا الوصول إلى فرضية مفادها أن السلطة السياسية المهيمنة تريد من هذه الثورة التقنية (غير المرغوبة) أن تكون امتدادًا لعلاقاتها التاريخية مع كل المؤسسات والأجهزة (الدستورية والتشريعية والقضائية والأمنية والاقتصادية وطبعًا الإعلامية) بما هي أدوات تُسَخَّر لتأبـيد سلطاتها ومواجهة أية محاولة لكسر أحادية السلطة. وفي المقابل، فإن المجتمع المدني، (أقلُّه المجموعات والأفراد الناشطون)، وجد في الإعلام الجديد وتكنولوجيا الاتصال فضاءً مستقلًّا وبإمكانيات هائلة وغير منضبطة أو خاضعة للرقابة، وأن ثورة المعلومات يمكنها إحداث الهزَّة التاريخية والأخلاقية في الفكر العربي.
كما تتبدَّى فرضية موازية: لا يمكن المراهنة على التقنيات الحديثة كي تقود عربة الديمقراطية والتطور والحداثة والحريات العامة، وإنْ زرعت بذور المشاركة وإبداء الرأي؛ ذلك أن المساواة المفترضة بين المدوِّنين، على اختلاف مواقعهم، تبقى مسألة نظرية، وتندرج في سياق مقولة: إن هناك الكثير من الحرية (من خلف الإنترنت) والقليل من الديمقراطية.
واستطرادًا، يمكن الافتراض أنه، وبمعزل عن المقوِّمات والأسس العلمية والفكرية، لا يمكن للإعلام الحديث، أن يسهم بشكل إيجابي وفاعل في تغيير المجتمعات العربية نحو الأفضل استنادًا إلى ما يشهده العالم الافتراضي من معلومات تتواتر بغزارة.
وفي المقابل، لن تتبنى الدراسة فرضية أن السلطة لن ترضخ للواقع القائم، أو أنها ستعمد إلى ضبط الوسائل الحديثة (كما هي الحال بالنسبة إلى الإعلام التقليدي)، لأن مسار هذه الدراسة قد تحدَّد مسبقًا في مقاربة “الفعل السياسي الرقمي” ارتكازًا على ما شهدته تكنولوجيا الاتصال من تطوُّر متسارع.
ب- منهجية الدراسة
إن ما تمَّ رصده في هذه الدراسة من تفاعل السياسيين في جميع الدول العربية، والجداول التي تؤشِّر إلى نسبة استخدام “تويتر” وعدم التعمُّق في تحليل مضامين التغريدات، إضافة إلى المقاربة السريعة لبعض نماذج العمل السياسي، كل هذه المعطيات تفترض مقاربة نظرية تأخذ في الحسبان أثر تكنولوجيا الاتصال؛ ذلك أن الثورة الرقمية أوجدت دينامية جديدة تجاوزت المضمون ونظام القيم التقليدي، والعوائق (القانونية والسياسية) وأعادت الاعتبار لنظرية وسائل الإعلام الجماهيرية والثقافة الجماهيرية. ففي المجتمعات العربية، ونتيجة لهذا “الانعتاق” من الضوابط التاريخية والوضعية، تسود موجة إعلامية تفاعلية شاملة وواسعة وهذا ما يحكم مسار هذه الدراسة: مقاربة وصفية-كمِّية لمدى انتشار الإعلام التفاعلي السياسي في مجتمع متعطِّش للحريات والحق في التعبير، علمًا بأن التكنولوجيا قد تسهم في مسيرة الحريات.
ج- مجتمع الدراسة
يشتمل مجتمع الدراسة على حسابات سياسيين فاعلين على شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصًا على موقع تويتر، في إحدى وعشرين دولة عربية. ويمثِّل هؤلاء الفاعلون السياسيون مفردات لعيِّنة عمدية تتكون من رؤساء الدول، وبعض الوزراء والنواب، ورؤساء الأحزاب، وبعض الناشطين السياسيين ورموز المعارضة.
واعتمدت الدراسة في اختيار أفراد هذه العينة على كثافة الاستخدام والبروز على منصة تويتر وسهولة الوصول إلى حسابات الفاعلين السياسيين، واقتصرت على اختيار خمسة سياسيين من كل دولة. وركز البحث على دراسة حساباتهم الشخصية والرسمية على تويتر من حيث عدد المتابِعين (followers)، والمتابَعين (Following)، ومجموع التغريدات (tweets) إلا أن بعض الحسابات لا تُتَابَع مباشرة من قِبَل السياسيين، وخصوصًا رؤساء الدول حيث يوجد مغرد باسمهم. كما تمَّ التدقيق في حسابات الفاعلين السياسيين بشأن نسب المتابِعين لهم ومجموع التغريدات، والمواضيع المتداولة، والتعبير عن آرائهم حول الأحداث الداخلية والخارجية للبلاد.
واستطاعت الدراسة من خلال المعطيات والبيانات والإحصاءات التي توافرت في إطار الحدود الزمنية للبحث تحديد نسب تفاوت استخدام موقع تويتر بين بعض الفاعلين السياسيين في الدول العربية، وتعيين الدول التي تمتلك أعلى نسبة من حيث مجموع المتابَعين والمتابِعين، ومجموع التغريدات، وهي المتغيرات الثلاثة التي تحدد حالة استخدام تويتر من قبل الفاعلين السياسيين في المجال العربي*. وقد تمت عملية رصد تلك حالة في الفترة الممتدة بين 4 و9 يوليو/تموز 2019.
د- أهمية الدراسة
تكمن أهمية هذا البحث في وضع تصور عام عن مدى استخدام السياسيين العرب لمواقع التواصل الاجتماعي ليس بهدف الإحصاء الكمي بقدر ما يهدف إلى وضع مقاربات مفاهيمية تتعلق بالفضاء العام، لأننا في مرحلة انتقال بين ثقافة المطبوع والثقافة الرقمية. وهذه الدراسة تفيد في التوصل إلى منهج يتيح فهم سلوكيات الأفراد في المرحلة الانتقالية الحالية.
- بيئة اتصالية جديدة ومجتمع شبكي خارج إطار السلطة
2.1. تكنولوجيا الاتصال: ديناميكية وتفاعلية
أمام الانتشار الواسع لتكنولوجيا الاتصال على الصعيد العالمي كما العربي، والآفاق (المفترضة) التي أتاحتها لجمهور واسع وجد نفسه أمام ممارسات تنتظم حول تفاعلية تُقدِّم نفسها كطريقة جديدة للخطاب الإعلامي بل ولآلية عمل المهنة، وتفترض أنها قادرة على صنع مشاريع ثقافية وسياسية، وعلى إرساء النضج السياسي وإنتاج الديمقراطية في العالم العربي، يغدو السؤال بديهيًّا عن مدى فاعلية هذ التطور التواصلي في خلق (أو التمهيد لـ) مجتمع يمكن أن ينتظم بطريقة مستقلة، من دون سلطة عليا، وأن يتحرَّر من الثقافة السياسية السائدة التي تفرضها الطبقة المسيطرة، وإنْ تباينت منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية. وهل نحن فعلًا أمام “ديناميكية تواصلية جديدة تذوب فيها الانتماءات القديمة وتختفي المراتب لِيَحلَّ محلَّها أداء شبكي الطابع، وأهم ما فيه حساب عدد مرات الاتصال والروابط”، كما يفترض المتخصصان في مجال العالم الرقمي، فرانسيس بيزاني (Francis Pisani) ودومينيك بيوتيه (Dominique Piotet)، واللذان يذهبان إلى التأكيد على أن هذه “الديناميكية التواصلية الجديدة” “ترسم ضربًا من الديمقراطية السامية”، وأننا نتجه إلى “عالم يكون فيه جميع مستخدمي الإنترنت سواسية، لأن الشبكات لا تعير اهتمامًا للمراتب”(1). وفي سياق مشابه، يرى بنجامين لوفلوك (Benjamin Loveluck) أن الإنترنت “يشكِّل وعدًا كبيرًا بالمساواة وجنَّة للتعبير بحرية دون هيئة رقابة، بل ونموذجًا أعلى لديمقراطية المشاركة، مُؤَسَّس على التداول المستمر”(2).
لكن هذه “الديناميكية التواصلية” والتي قد تصل في حدودها القصوى إلى ما يسمى “النضال الإلكتروني”، تبقى مع استثناءات محدودة، دون “مشترك جمعي” يتيح توحيد الرؤى وبلورة خطة عمل ميدانية؛ ذلك أن هذه “الديناميكية التواصلية” عبارة عن جماعات “شبكية” في الإنترنت تتوافق فيما بينها تقريبًا في اتجاه عكسي، أي إنها مجموعات من الأفراد من دون ارتباط. إنها مجموعات خاصة نشأت حول مركز اهتمام مشترك أو حول هوية أو قضية مشتركة. وبمقدار ما أن الجماعات الشبكية “سائلة” ويتم الخروج منها بمجرد نقرة ليس فيها الكثير من المجازفة، فهي لا تُلزم الفرد أبدًا؛ فالفرد فيها “يتصفَّح” ولا يدين بشيء لأي أحد. وهي في الغالب جماعات من تجمُّعات أفراد لا يتعارفون فيما بينهم. وكل واحد يمكنه البقاء متخفِّيًا خلف اسم مستعار(3).
وفي سياق مشابه، يوجِّه أندرو كين (Andrew Keen) نقدًا شديدًا إلى “ثورة الويب (التي) لا تقدِّم لنا إلا نظرة سطحية على العالم بدلًا من التحليلات المعمَّقة، وتقدِّم الآراء الحاسمة بدلًا من المنطق الاستدلالي المتوازن، وقد تحوَّلت المعلومة من خلال الإنترنت إلى مُنْتَجٍ مشوَّش بمئات الملايين من المدوِّنين الذين يُعبِّرون في الوقت ذاته عن أنفسهم”(4).
ومن الممكن الاستفادة من الإنترنت وشبكات التواصل كوسائل للتواصل في عدة مجالات، أهمها العمل الجماعي، والذكاء الجماعي، والتفاعلية والمشاركة في القرارات، وهي ثلاثة مفاهيم تتداخل مع أيِّ عمل حاليًّا، وخصوصًا العمل السياسي.
2.2. الفضاء العربي والإعلام الرقمي
يمكن تحديد وظائف الإعلام الرقمي تبعًا لما يمتاز به من خصائص ولما يشكِّله من منصات اختصرت كل المسافات: الزمنية والمكانية وسعة الانتشار وتعدد الاتجاهات (لم تعد رسالة بمصدر واحد ومتلقٍّ أو مجموع المتلقين). والأهم من ذلك كله اتساع أفق التعبير من دون أي عائق (باستثناء الرادع الذاتي).
فالإعلام الرقمي يتيح تحقيق انتشار فوري غير مكلف، والتواصل بسهولة مع جمهور واسع بأساليب ولأغراض متعددة، وتفادي الرقابة وتسهيل الوصول إلى المعلومات. كما يسهم خصوصًا في تقديم رؤى جديدة لعالم أكثر تنوُّعًا وشفافية وربما عدالة أيضًا، وفتح المجال واسعًا أمام أنماط معرفية غير مألوفة، والخروج من إِسَار الرواية الرسمية للحياة بكل عناوينها، ما يؤدي إلى رؤية نقدية متشككة، وتوسيع مفهوم التواصل إلى مداه الأقصى وبشكل متوازن، أي إن الوظائف التاريخية التي حددتها “لجنة ماكبرايد” في تقريرها الصادر عام 1980 عن اليونسكو تغدو قابلة للتطبيق العملي، ولا سيما منها: الإعلام، والتنشئة الاجتماعية، والحفز، والمناقشة والحوار.
وهكذا، فالإعلام الرقمي، أو ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعرفة، أوجدت عالمًا بلا قيود، وخارج إطار سلطة الدولة. كما أن “الاتصال الإلكتروني المتعدد الوسائط يحقق مجالًا شبكيًّا يتحوَّل فيه الفرد باستمرار بين مواقع البث والتلقي، وتنصهر داخله العوامل الفردية”(5).
أوجد دخول الإعلام الرقمي إلى الفضاء العربي، في السنوات القليلة الماضية، مناخًا مغايرًا لتقليد مترسِّخ يطبع، إلى الآن، المجتمعات العربية، سواء على صعيد العلاقة بين رأس السلطة الحاكمة وعموم الشعب، أو لجهة الآفاق التي فرضها هذا الإعلام، على صعيد الحصول على المعلومة، أو لجهة إمكانية النشر والتعبير.
فالمجتمعات العربية وجدت نفسها، بعد تقنين صارم ورقابة ومنع، أمام وفرٍ في المعلومات، وتنوُّعٍ في الآراء والمواقف، كانت حتى سنوات قليلة رهن قرار السلطة: مدى المعلومة يقف عند حدود إرادة الحاكم، المعلنة أو المضمرة، أو حتى المفترضة (من قبل الرقيب). بل إن المجتمع قد يكون في أحيان كثيرة امتدادًا لمقص الرقيب من حيث ضبط أي “تفلُّت” قد يُسجَّل على مستوى بعض المجموعات أو الأفراد. فنحن في العالم العربي لا نزال نعيش “في أجواء السلطوية السياسية التي لا ترحِّب بالتعددية ولا تشجع الحوار المفتوح ولا تحترم الآراء المخالفة”.
فالقيم السياسية الراسخة تستمد قوتها من ضعف مقومات الديمقراطية بكل تراثها وآلية اعتناقها وتطبيقها. بمعنى آخر، فإن الديمقراطية مسار تراكمي، علميًّا، وثقافيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، ثم سياسيًّا.
- السياسة والنشر الرقمي وشبكات التواصل
لم يعد يخفى على أحد أن شبكات التواصل الاجتماعي باتت تشكِّل مساحة مفتوحة إضافية للعاملين في السياسة في جوانبها كافة، مهما كان الحدث السياسي. وإذا كان السياسيون بشكل خاص يستغلُّون الإعلام لإيصال رسائلهم منذ أن وجد العمل السياسي، فقد بدأت هذه العملية اليوم تأخذ أبعادًا مختلفة من خلال شبكات التواصل، وخصوصًا منذ أن فاز باراك أوباما في العام 2008 بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية، بعد حملة استُغِلَّت فيها وسائل التواصل جيدًا، وكان لها دور أساسي فيها.
لقد أصبح اللجوء إلى مستشارين للتواصل (يهتمون بصورة المرشح، وخطاباته، وثيابه، ووقوفه أمام الجمهور…) خلال الحملات الانتخابية نظامًا عالميًّا، يُضاف إليه حاليًّا التواصل من خلال اللجوء إلى خدمات رقميَّة، والذي صار من المسلَّمات.
في حملته الانتخابية، لجأ باراك أوباما، حسب برايان ستلتر (Brian Stelter)، إلى كريس هوجس (Chris Hughes)(6) أحد مؤسِّسي موقع فيسبوك، والذي تمكَّن من جمع نصف مليون ناشط أصبحوا فيما بعد “مبعوثين” على الويب، وشكَّلوا جزءًا رئيسًا فاعلًا في الحملة. وهو ما دفع السياسيين في كل العالم إلى استثمار هذه المساحات الافتراضية التي تتشكَّل منها مجموعات حقيقية من الناخبين لتغدو مساحات فعلية للتجييش وجمع التبرعات وإقناع المستخدمين ومحاولة تغيير وجهات نظرهم، إما شرعيًّا بشكل واضح وإما بصورة غير شرعية، كما حصل مع شركة “كامبريدج أناليتيكا”، التي استغلَّت فيسبوك للتأثير في سلوك الأفراد، عندما قرصنت 87 مليون حساب مستخدم في أميركا وبريطانيا(7). وقد قامت بدراسة ملفاتهم الشخصية وعدد “الإعجابات” (اللايكات) وكل ما يقومون به للتعرف إلى توجهاتهم والتأثير في سلوكهم، من خلال توجيه رسائل تتناسب مع شخصيتهم وتدفعهم إلى اتخاذ الخيارات التي تناسبهم. وبحسب الدراسات، فقد ساعد ذلك في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، كما في تعديل نتائج الاستفتاء الذي حصل في بريطانيا من أجل “البريكست”.
مما لا شك فيه أن العمل السياسي منذ القدم يتطلَّب خطابًا ونصًّا لكي يوجِّه الأفراد. وفي زمن الفلاسفة السفسطائيين، كان الإقناع يرتكز على البلاغة في الخطاب بغضِّ النظر عما إذا كان هذا الخطاب يحمل في طياته الحقيقة. وهو ما دفع الفلاسفة السقراطيين إلى محاربتهم بقولهم: إن ما يُقال عليه أن يُقْنِع الآخرين، من خلال استخدام الخطاب الواقعي الذي يحمل الحقيقة المرتكزة على وقائع لا على مغالطات.
ما حصل في شركة “كامبريدج أناليتيكا” يشبه ما كان يقوم به السفسطائيون: الإقناع بغض النظر عن الحقيقة. وهنا، من الممكن طرح السؤال الآتي: هل يحق لنا في العمل السياسي أن “نكذب كي نوجِّه الرأي العام؟”. فإذا أردنا أن نتطلَّع إلى الوعود التي تُطلق خلال الحملات الانتخابية، وما يُنفَّذ منها فعليًّا، يتبيَّن لنا أن الكلام ما كان إلا مجرَّد خطاب. ولكن، ما دور شبكات التواصل في ذلك؟ هل غيَّرت في قوانين العمل السياسي والنص السياسي شكلًا ومضمونًا؟
إذا قاربنا الانتخابات النيابية التي جرت في لبنان، 6 مايو/أيار 2018، نستطيع القول: إن شبكات التواصل شهدت في منصاتها حضورًا كثيفًا للسياسيين، إما مباشرة وإما من خلال فرق مساعِدة للتواصل مع الناس تملك مهارات ومعرفة في التقنيات الرقمية، ما يؤكد أن شبكات التواصل أصبحت مُحَرِّكًا فعليًّا.
وتفيد دراسة أُجريت حول شبَّان تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عامًا في 2015 بمعهد الصحافة الأميركية ومركز “أسوشيتد برس” لأبحاث الشؤون العامة، أن 88% من المشاركين المسجلين على فيسبوك يتلقون معلوماتهم من المنصة. وبشكل سهل وبسيط، فإن تواصلًا جيدًا على الشبكات يؤدي حتمًا إلى رؤية جيدة للمرشح. إضافةً إلى ذلك، تُعَدُّ شبكات التواصل أداة “لمغازلة” الناخبين غير الملتزمين بالإعلام الكلاسيكي أو هؤلاء الذين تكون معلوماتهم مستقاة في كثير من الأحيان من شبكات التواصل. وبشكل عام، إن كان في الغرب أو في البلاد العربية فإن الأغلبية تتلقى المعلومات من شبكات التواصل، بالأخص جيل الشباب.
وحسب تحقيق نشرته “ذا سولت ليك تريبيون” (Lake Tribune The Salt) بعنوان “هل الصحف محكوم عليها بالفشل؟”، فإن مزيدًا من الأميركيين يتجهون الآن للإنترنت لمعرفة الأخبار مقابل انخفاض قراء الصحف المطبوعة أو الورقية. وذكر التقرير -الذي صدر في فبراير/شباط 2019- أن نصف مستهلكي الأخبار الإلكترونية يتصفَّحون مواقع إخبارية بطرق غير مباشرة عن طريق تتبُّع الروابط الإلكترونية الخاصة بقصص إخبارية بعينها مقابل 41% يتصفَّحون الصفحات الرئيسية للمنظمات الإخبارية بشكل مباشر. وأفاد 64% من جمهور الشباب (أقل من 25 عامًا) بأنهم يلجؤون إلى شبكات التواصل لتلقي المعلومات.
بالطبع، قد يبدو هذا “السباق للحصول على إعجاب” بين المرشحين مهزلة. في الواقع، كلما كانت “الشخصية” أكثر شعبية، زاد نشر المحتوى في الصفحة، ما قد يؤدي إلى بروزها وبروز ما ينشر من أفكار، ولكن كثرة “الإعجاب” على فيسبوك لا تعني حتمًا الفوز في الانتخابات، إذا أخذنا التواصل الانتخابي كمؤشر لأثر الشبكات في الحياة السياسية والإقناع. لذلك، من المفترض إعادة توصيف هذه الشعبية الافتراضية مع السياق السياسي. فأن تكون الأول على وسائل التواصل الاجتماعي لا يعني أن تكون مرشحًا للفوز، وهذا ما بيَّنته الإحصاءات في الانتخابات الفرنسية لرئاسة الجمهورية عام 2017.
ولكن لا شك في أن شبكات التواصل من الممكن أن تكون وسيطًا فاعلًا في التأثير، وفي زيادة الوعي السياسي، وفي تغيير بعض القضايا التي تفيد العامل في المجال السياسي وفي الإضرار به أيضًا وفضحه. كما أن السياسيين يتَّبعون استراتيجيات مختلفة للتواصل؛ فبعضهم يستثمر في عدة منصات، ولكن يبقى أهمها فيسبوك وتويتر. هذه الاستراتيجيات للتواصل المختلفة بطبيعتها مفتوحة وتحاكي الجمهور نفسه، وتتوجَّه على الأغلب إلى الناخبين الشباب الناشطين في الشبكات الاجتماعية، والذين يستطيعون التأثير في الحملة والمشاركة من خلال نشر الأفكار.
ووفقا لصحيفة المدن الإلكترونية(8)، فإن تويتر تحوَّل إلى منصَّة تربط رجال السياسة والمسؤولين بالقاعدة الشعبية والإعلام، لأن عدة تغريدات من 280 حرفًا وتسجيلات صوتية لمدة ثوانٍ أصبحت تشكِّل بديلًا من مؤتمرات صحافية مطوَّلة. فبعض رجال السياسة لجأ إلى التخلي عن الرسميات وأضواء المؤتمرات الصحافية وكتابة البيانات لصالح التغريد على تويتر.
وبحسب المدن، ففي لبنان، على سبيل المثال، يغرِّد معظم رجال الصف الأول في السياسة على تويتر، ولكن حسابات هؤلاء يديرها مؤيدون. فلكل سياسي فريق ينسِّق معه عملية صياغة التغريدات. قد يكون وحده رئيس الحزب التقدمي، وليد جنبلاط، الذي يغرِّد شخصيًّا بصورة مباشرة. وفي التراتبية خلال الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار 2018، حلَّ سعد الحريري في المرتبة الأولى من حيث نسبة المتابعين (556 ألفًا)، وسمير جعجع ثانيًا (146 ألف متابع)، ثم وليد جنبلاط ثالثًا (143 ألفًا)، ثم سامي الجميل رابعًا (137 ألفًا)، ثم سليمان فرنجية خامسًا (55.9 ألف متابع). أما الأقل نشاطًا، فكان ميشال عون (35.6 ألف متابع).
أما خارج لبنان، فكثيرًا ما صدرت مواقف سياسية عبر تويتر قبل وسائل الإعلام. ففي يوليو/تموز 2013، أعلن رئيس المجلس الأوروبي، دونالد توسك (Donald Tusk)، بواسطة تغريدة، أن زعماء منطقة اليورو توصَّلوا إلى اتفاق حول تقديم قرض إنقاذ لليونان.
ويبقى التغريد وإطلاق المواقف السياسية عبر تويتر سهلًا بالنسبة إلى السياسي، وربما أفضل، بحسب الخبراء، ففي هذه الحالة يمكنه أن يتجنَّب أسئلة الصحافيين المباشرة، وأحيانًا المحرجة، ويستطيع إيصال رسالته كاملة من دون اجتزاء.
إذن، يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي، من خلال ما تتضمَّنه من حملات واقتراحات، التأثير في الناس وتشكيل الرأي العام في الدول الديمقراطية، حيث خيارات الناخبين ليست طائفية أو عائلية…أما المواطن اللبناني، والمواطن العربي بشكل عام، فمن المستحيل أن يتأثر بالشعارات أو الحملات الانتخابية، لأن الثقة غير موجودة، والرأي العام “مبعثر”.
ومن الممكن أن تؤدي وسائل التواصل دورًا في خدمة بعض المرشَّحين ذوي الإمكانيات المادية المتواضعة؛ حيث يتمكَّنون من خلالها من الإعلان عن برامجهم الانتخابية بأسعار منخفضة، ومخاطبة نحو 58 في المئة من الجمهور في العالم العربي. ولكن بطريقة حسابية بسيطة، نجد أن المرشَّحين الذين لم يكونوا يملكون إمكانيات مادية جيدة، لم ينجح منهم أحد في الانتخابات الأخيرة، إلا أن شبكات التواصل ساعدتهم كي يكونوا مرئيين إعلاميًّا عبر الإنترنت.
استطرادًا، إن وسائل التواصل الاجتماعي بتوفيرها الفرص للمرشَّحين ذوي الإمكانيات المحدودة، لم تؤثِّر في نتائج الانتخابات، وإنما زادت عدد الناخبين المؤيدين للأحزاب الكبيرة. نشير هنا إلى أن فيسبوك وتويتر هما وسيلتان للتواصل وليس للاتصال، وقد يكونان وسيلة لزيادة الناخبين ولتجييش الجماهير، وقد يلجأ البعض إلى شراء عدد من المؤيِّدين (الإعجاب) أو عدد المشاركين في المحتوى على منصات مواقع التواصل الاجتماعي. هذه العملية تُعرف بالنشر الذكي باعتبارها أقوى الطرق التسويقية للخدمات والمنتجات وأكثرها فاعلية، وهي توفِّر للمرشَّحين طريقة سهلة للوصول إلى الناخبين، كما توفِّر لهم تقارير تفصيلية عن حملاتهم ومستوى تأثيرها (ردود الفعل).
وعن خصوصية مواقع التواصل الاجتماعي، يُعَدُّ فيسبوك وسيلة التواصل الأكثر استقطابًا، لأن المستخدمين موجودون بكثافة فيه، ويتبادلون المعلومات فيما بينهم. وبات موقع تويتر، نظرًا إلى أنّ التغريدة فيه لا تتجاوز 280 حرفًا، يُستخدم لتوجيه رسائل جدِّية تعبِّر عادةً عن مواقف محددة.
3.1. بين الواقع والفعل والتنفيذ
لقد أدت التقنيات إلى تطور موازٍ بين وسائل الإعلام والسياسة، وإلى تغير في العلاقة بين السياسة والإعلام والإعلاميين في الوقت نفسه، كما في علاقة السياسيين بالتقنيات. ولها أيضًا تأثير في المتغيرات التشريعية والتأثير في رموز السلطة، وفي ثقافة المجتمع المرتبط بأشكال جديدة من التدخل المباشر في الحياة السياسية. ومن هنا، تُطرح عدة أسئلة: هل سيكون للديمقراطية التشاركية، المستندة إلى الإنترنت، مستقبل في العالم العربي؟ هل ستتطلَّب تقنيات المعلوماتية نمطًا جديدًا من المواطنة؟ وهل سيكون هناك مواطن جديد مختلف عما هو عليه الآن، ومرتبط بشكل مختلف مع الديمقراطية أو أن كل هذه التقنيات ليست إلا غلافًا ولا تغيُّر في الجوهر؟
إن المواطَنة الرقمية جزء لا يتجزأ من الديمقراطية التشاركية المبنيَّة على سهولة التواصل والتفاعل بين الأفراد والمؤسسات الرسمية، و”المواطن المسؤول هو المواطن الذي يكون على علم دائم بما يجري”، كما يقول أوبير بوفميري (Hubert Beuve- Méry) (9)؛ ذلك أن الوصول إلى المعلومات هو الشرط الأول للمواطنة(10).
عمومًا، من المحتمل تعريف مصطلح “المواطنة الرقمية” بجميع الأنشطة الرقمية التي تُسهِّل الممارسات الفردية والاجتماعية القائمة أو الجديدة في مجال “مشاركة المواطنين” بالمعنى الواسع للمصطلح. وبعبارة أخرى، يشير هذا المفهوم إلى فكرة مفادها أن الشبكات الرقمية عرضة لتطوير المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية أو تعزيزها، وهذا ما يطرح عدة أسئلة: هل من سلطة للوسيط الرقمي؟ وما العلاقة بين الإنترنت والالتزام أو المشاركة المدنية؟ هل علينا أن نعطي سلطة خاصة لوسيلة التواصل وتبادل المعلومات والبيانات والملفات؟
نستطيع أن نشير بشكل لا لبس فيه إلى أن قوة التأثير تدفع نحو التغيير! فعلى سبيل المثال، هناك تبسيط إذا ما قلنا: إن الشبكات الاجتماعية غيَّرت الأنظمة في تونس أو مصر أو غيرهما من البلدان، ولكن سيكون أيضًا من الخطأ عدم الالتفات إلى دور التقنيات في فهم الحياة المدنية الجديدة وأخذها على محمل الجدِّ. فالمواطن يكون فاعلًا عندما تكون المعلومات متوافرة لديه. ففي الدول الديمقراطية، يحتاج المواطنون إلى معلومات عن التحديات التي تواجهها الحكومة والمقترحات اللازمة ليكونوا فاعلين. لذلك، عليهم أن يكونوا قادرين على التواصل مع بعضهم بعضًا لمناقشة المشاكل واقتراح حلول لها. وهذا ما تسمح به وسائل الاتصال، وقد تبيَّن مدى تأثيرها في تطور الحياة المدنية.
وإذا أردنا العودة إلى الجذور، فإن أول قانون لحرية المعلومات صدر في العام 1766 في السويد، وهو قانون يضمن الوصول إلى المعلومات، بناءً على رغبة البرلمان في الوصول إليها بعد أن كانت حكرًا على الملك. وصدر القانون الثاني في العالم في فنلندا عام 1951. وفي العام 1966، صدر أول قانون في الولايات المتحدة الأميركية، وفي النرويج في العام 1970. وقد شهد العقد الأخير من القرن العشرين موجة جديدة من هذه القوانين في وسط أوروبا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وشرقها. وبلغ عدد سكان العالم الذين يعيشون في دول تضمن قوانينها الوطنية الحق في المعرفة والحصول على المعلومات نحو 5.5 مليارات شخص، ولكن في منطقة الشرق الأوسط، تبقى القوانين مختلفة!
الأسئلة إذن، عديدة ومتشعِّبة حول أثر الإنترنت في المواطنة: فهل هناك أثر فعلًا؟ وما دور الإنترنت في الديمقراطية؟ وما علاقة التربية المدنية بالعالم الرقمي؟ وما تأثير هذه العلاقة في الرأي العام (في البلدان العربية) إذا ما وجد؟! وأخيرًا، ما المشروع السياسي للإنترنت؟
لكي نتفاعل مع السياسيين ويتفاعل السياسيون معنا، من المفترض أن تكون المهارات والكفاءات الرقمية مؤمَّنة لبناء مجتمع معرفي في المجالات كافة، ومن ضمنها مجال السياسة، على أساس أنه المحرك لاستراتيجيات البلد. ومن المفترض أيضًا تأهيل المواطن معرفيًّا، وخصوصًا رقميًّا، وهو ما يُعرف حاليًّا بالتمكين الذي يفترض به أن يؤدي إلى الوعي!
للإجابة على الأسئلة المطروحة آنفًا، نشير إلى أن المجموعة الأولى منها على صلة بتمكين المواطن ليصبح شريكًا ومشاركًا كاملًا، وإعطائه صلاحيات من الممكن أن تؤدي إلى نزع بعض الشرعية عن الأنظمة ذات الطابع الرسمي في اتخاذ القرارات، مهما كانت أهميتها، لمصلحة الشعب أو لمصلحة الحكومات والهيئات المدنية! فالشبكة التفاعلية يمكن أن تسمح للحكومة والسلطة عمليًّا بالخروج من بعض المآزق والتغلُّب على الحواجز المؤسساتية التي تؤثر في تطوير المجتمعات. كل ذلك بناءً على مجموعة فرضيات باتت مؤكدة، أولها أن الرقمنة هي ثورة اتصالات تسهم في تغيير المجتمع. ثانيًا: أن التكنولوجيا المعلوماتية تتطلَّب سياسات جديدة. ثالثًا: أن الإنترنت تُغيِّر في العالم وفي منطقة نفوذنا كأفراد وجماعات. رابعًا: أننا بفضل التكنولوجيا نكتسب المعرفة وحرية العمل والتصرف. خامسًا: لا يمكن للحكومات إيقاف هذه العملية، فالمستقبل ملك لأولئك الذين يقومون ببنائه.
لقد غيَّرت التقنيات رؤية الجماهير، وبحسب ما تقول لوتشي ميرا (Lucie Merra)، فقد اتّجهنا من التزام الكتل (الجماهيرية) إلى كتلةٍ من الالتزامات. وهذا ما يتعلَّق بعدة اتجاهات تتمثَّل بسهولة الحصول على المعلومات التي أصبحت في متناول الجميع، وتضاعف الفعاليات الشبكية وتنوُّعها. وقد بات من الممكن لأيٍّ كان أن يكون ناشطًا، بحسب مستواه، في الأمور الصغيرة كما العظيمة.
إن التجديد ليس فقط مسألة تقنيات، بل إنه يحمل أبعادًا متعددة، فالأدوات التقنية تدفع إلى تخطِّي السلوكيات الحالية نحو سلوكيات جديدة كما أن التشابك حق أساسي وليس خدمة! هذا التبادل والترابط لا يمكن فصله عن الحرية، ولكن كل هذا يؤدي بالتالي إلى سهولة المراقبة.
إضافةً إلى ذلك، فإن التغيُّرات (عمليات) ليست نابعة فقط من قرارات تقنية تكنوقراطية، ولكن من الثقافة؛ فالسياسي الفاعل على الإنترنت من المفترض به أن يعي أننا انتقلنا من ثقافة الإبحار إلى ثقافة البحث، ومنها إلى ثقافة التشارك (Browser – search – share)، لكي نصل إلى خرائط مجتمعية متشابكة. ومن هنا أيضًا، جاءت التغيرات في عملية التواصل السياسية-الإعلامية، من التواصل من شخص إلى شخص، ثم من شخص إلى جماعة، وبالتالي من جماعة إلى جماعة.
هنا يدخل مفهوم الأنا الاجتماعي الرقمي الذي يُؤَسِّس للتفاعل السياسي وردود الفعل السياسية من أجل التعبير لكي يكون الفرد “موجودًا”، فأن لا يكون موجودًا على شبكة الإنترنت هو أمر قد يؤدي به إلى الانعزال، وهذا هو مفهوم “الويب الاجتماعي”. وللإشارة، فإن “الويب” هو بروتوكول لعرض المعلومات والبحث عنها والوصول إليها، و”الويب الاجتماعي” هو عرض للمعلومات الشخصية وتبادلها مع المجتمع الافتراضي، ولكي تكون موجودًا وفاعلًا فيه، عليك أن تعطي قليلًا أو كثيرًا من ذاتك!(11).
3.2. الكفاءة الرقمية
إن الكفاءة الرقمية تنطوي على استخدام واثق وحاسم لتكنولوجيا المعلومات في العمل والاتصالات والتسلية، والشرط الأساسي هو معرفة تكنولوجيا المعلومات. وتشمل المهارات اللازمة القدرة على البحث، وجمع المعلومات ومعالجتها، واستخدام طرائق منهجية، وتقييم أهميتها، والتمييز بين الحقيقي منها والافتراضي، والقدرة على استخدام أدوات لإنتاج المعلومات المعقَّدة وعرضها وفهمها، والقدرة على الحصول على الخدمات على شبكة الإنترنت لتحديد مكانها واستخدامها. لذلك، ينبغي أن يكون لدى الفرد القدرة على استخدام التقنيات لدعم التفكير النقدي والإبداع والابتكار.
وبما أن الرقميات دخلت في حياة الباحث اليومية، فلكي يفهم العالم، عليه أن يأخذ ذلك في الاعتبار ضمن أعماله، استنادًا إلى التنظيمات المنطقية للفكر (كالاستدلال والاستنتاج والاستدراك) لعله يصل إلى الحقيقة والدقة في المعلومات. والعلوم بشكل عام تنفتح في المكان والزمان اللذين تتطوَّر بهما، وهذا التطور المفاهيمي يظهر أكثر فأكثر في التفاعلات التي يحاول أن يشرِّعها التطور التقني بين الثقافة التي يتداخل بها ويحدث فيها، والظروف التي تتخطى الحدود الضيقة لهذه الثقافة (كمفهوم يجمع الإنسانيات ومجالاتها). إذن، المعلوماتية تنفتح على الثقافة، والثقافة بدورها تنفتح على المعلوماتية. وهنا يبرز دور ما يُسمَّى حاليًّا “الإنسانيات الرقمية”، فهي ليست مسألة أدوات تقنية، بل إشكالية تتعلَّق بالتجديد في العلوم(12).
3.3. النص السياسي الرقمي وغير الرقمي
مهما كانت الأداة المستخدمة لإيصال الرسالة السياسية، فإن الخطاب السياسي هو خطاب مرتبط بالسلطة وبمحاولة التأثير في الآخرين وإقناعهم، ولو كان هذا الخطاب خارج نطاق القواعد النصية، فهو يهدف دائمًا إلى الإقناع، بغض النظر عن الحقيقة، وهو أيضًا خطاب موجَّه تستخدم فيه الكلمات بناءً على تراكيب بلاغية من أجل التجنيد والحشد والدفع إلى العمل والفعل، إن كان من السياسي، صاحب السلطة، كي يحافظ عليها، أو من السياسي الذي يريد أن يصل إلى السلطة، لأن بعض العاملين في السياسة يفتقرون إلى الانتماء الفعلي للوطن.
في العمل السياسي، لا يوجد إلا خطاب من أجل المنازلة والمغازلة والشرح والتجييش… وهو يُبْنَى دائمًا من خلال الكلمات بحسب السياق الذي من المفترض أن يتناسب معه. والخطاب السياسي موجَّه إلى الداخل والخارج معًا، كما أنه يختلف بحسب نظام الحكم القائم. انطلاقًا من ذلك، فإن على الخطاب السياسي، مهما كان الوسيط، وهل هو رقمي أم غير رقمي، أن يراعي هذه الأمور العامة. يبقى أن نشير إلى أن مستوى الخطاب ووقعه يرتبطان بالهرم وبالمكان الذي يشغله السياسي. ومهما كان شكل الاتصال السياسي، فهو مرتبط بالممارسات، وبمنطق السلطة الذي يوجِّه شكل الخطاب ووجهته.
وإذا أردنا أن نقول: إن السياسة هي تسويق، فإن ثورة المعلومات تساعد في تحرير السياسي من العبء الإعلامي الذي كان مسيطرًا أحيانًا، عندما كان “يستجدي” الإعلامي لكي يتحدَّث عنه أو ينشر له تصريحًا ما. هذا التغيير ليس بالأمر السَّهل، ولكنه يطرح إشكاليات عدة تتعلق بدور الإعلام، على الرغم من أنه ما زال حتى الآن مشرَّعًا لهذه التغريدات والتصريحات.
أما التغريد والانفتاح الشبكي وعمليات القرصنة والمراقبة والدخول غير الشرعي إلى الحواسيب، وخصوصًا في العمل السياسي، فإنه يؤدي إلى بثِّ معلومات وإشاعات زائفة، وهذا ما نشهده حاليًّا، وبكثرة؛ إذ إن الروابط الرقمية قابلة للاختراق، ومن الممكن إنشاء حسابات وهمية، وهذا ما أدى إلى البحث عن أدوات للتعرُّف إلى المعلومات الزائفة.
في سياق دراسة لحالة الاستخدام السياسي لتويتر في العالم العربي قمنا بها مع إحدى طالبات كلية الإعلام(13) في الجامعة اللبنانية، الفرع الأول، عن استخدام السياسيين لمواقع التواصل الاجتماعي، في يوليو/تموز 2019، يتبيَّن من خلال الجداول أن نسبة استخدام تويتر في العالم العربي تتزايد بكثافة ولكن ليس في كافة الدول. فكما نلاحظ فإن هذا الاستخدام متفاوت ومرتبط بعدة أمور، أهمها: عدد السكان، وحالة الوضع السياسي للدولة، بالإضافة للوضع الأمني. ولكن بصورة عامة، يستخدم السياسيون العرب شبكات التواصل بالأخص تويتر.
بعد عملية تجميع البيانات والإحصاء لـ21 دولة عربية لتبيان تفاعل سياسيي هذه الدول على تويتر، سنقوم من خلال الجداول والأشكال أدناه بالتعرف على ترتيب البلدان من الأكثر إلى الأقل استخدامًا وتفاعلًا على تويتر. وتبيِّن هذه الجداول والرسوم حالة المتغيرات (عدد التغريدات، والمتابَعين، والمتابِعين) المرتبطة بتفاعل السياسيين الذين شكَّلوا عينة الدراسة على تويتر.
جدول رقم (1) يبيِّن عدد الحسابات التي يتابعها الفاعلون السياسيون في الدول العربية ومجموع المتابِعين لهم وعدد التغريدات
عدد التغريدات (tweets) | عدد المتابِعين (followers) | عدد المتابَعين (Following) | أسماء الدول | م |
10664 | 2888832 | 1056 | الأردن | 1 |
136802 | 20200000 | 2044 | الإمارات | 2 |
31623 | 800300 | 5348 | البحرين | 3 |
9517 | 810000 | 84 | تونس | 4 |
14047 | 761917 | 1239 | الجزائر | 5 |
10384 | 43985 | 744 | جيبوتي | 6 |
8773 | 14693600 | 1182 | السعودية | 7 |
20102 | 70362 | 9073 | السودان | 8 |
23237 | 264480 | 776 | سوريا | 9 |
22313 | 282300 | 5290 | الصومال | 10 |
17577 | 2244000 | 277 | العراق | 11 |
3064 | 313752 | 918 | عُمان | 12 |
9110 | 398527 | 367 | فلسطين | 13 |
2273 | 1310700 | 111 | قطر | 14 |
119366 | 1497000 | 7024 | الكويت | 15 |
63106 | 3305800 | 5423 | لبنان | 16 |
2224 | 55987 | 294 | ليبيا | 17 |
21834 | 15380600 | 201 | مصر | 18 |
24711 | 650741 | 1125 | المغرب | 19 |
22059 | 19956 | 1609 | موريتانيا | 20 |
14831 | 1523000 | 402 | اليمن | 21 |
شكل رقم (1) يبرز توزيع نسب الحسابات التي يتابِعها الفاعلون السياسيون في الدول العربية
يبرز الرسم البياني رقم (1) توزيع نسب مجموع المتابَعين من قِبَل الفاعلين السياسيين، أي الحسابات التي يتابعها هؤلاء الفاعلون السياسيون في الدول العربية، والذين يمثِّلون أفراد عينة الدراسة، ويتضح أن السودان يمتلك أعلى نسبة من حيث مجموع المتابَعين من قِبَل الفاعلين السياسيين الناشطين على تويتر (%20)، ثم الكويت بنسبة 16%، ثم لبنان، والبحرين، والصومال بنسبة 12%، أما الدول الأخرى فتتراوح نسبة المتابَعين من الفاعلين السياسيين الناشطين على تويتر بين 5% و0.1%.
شكل رقم (2) يظهر توزيع نسب المتابِعين للفاعلين السياسيين في الدول العربية
يوضح الرسم البياني رقم (2) توزيع نسب مجموع المتابِعين لأفراد عينة الدراسة من الفاعلين السياسيين في الدول العربية، ويتبيَّن أن الإمارات جاءت في المرتبة الأولى من حيث نسبة المتابِعين لسياسييها بلغت 30%، تليها مصر بنسبة 23%، ثم السعودية 22%، ولبنان 5%، أما الدول الأخرى فتتراوح نسبة متابَعة سياسييها بين 3% و0.1%.
شكل رقم (3) يبرز توزيع نسب تغريدات الفاعلين السياسين في الدول العربية
يظهر الرسم البياني رقم (3) توزيع نسب مجموع تغريدات أفراد عينة الدراسة من الفاعلين السياسيين في الدول العربية، ويتبيَّن أن أعلى نسبة من حيث مجموع التغريدات للفاعلين السياسيين كانت في الإمارات وقد بلغت 23%، تليها الكويت بنسبة 20%، ثم لبنان بنسبة 11%، أما الدول الأخرى فتتراوح نسبة تغريدات فاعليها السياسيين بين 5% و0.1%.
ومن خلال هذه الجداول والأشكال (وعملية التنقيب عن حسابات السياسيين العرب)، تبدو عدة أمور:
– أغلب الرؤساء العرب لا يتابعون أحدًا.
– وجود الكثير من الحسابات الوهمية للرؤساء العرب.
– بعض الوزراء تغريداتهم رسمية تتم عبر حسابات الوزارة.
– صعوبة الوصول لحسابات السياسيين في بعض الدول (الصومال، وسلطنة عُمان، وجيبوتي على سبيل المثال).
– صعوبة معرفة الحسابات المزيفة والوهمية، خصوصًا حسابات رؤساء الدول.
– عدد كبير من الرؤساء لا يغردون مباشرة، بل لديهم من يغرد باسمهم وبعضهم لا يتفاعل تمامًا على تويتر.
– لا توجد العلامة الزرقاء لتوثيق حسابات بعض السياسيين لتأكيد هويتها، لكن بعد استقصاء مضمون التغريدات يتبين أن الحسابات رسمية.
- سياقات بروز الفعل السياسي الرقمي في المجال العربي
ينطلق السياسيون في مقاربتهم للقضايا العامة من مبدأ مواكبة التطورات وعرض رؤيتهم على الجمهور المتلقي. ومع هذه الثورة التقنية وما أفرزته من نمط تواصل متشعِّب الاتجاهات، فَقَدَ السياسيون، بما هم زعامة قيادية وأصحاب قرار، احتكار إعلان الموقف وفرض التوجيهات. بل إن ثورة تكنولوجيا الاتصال أوجدت عالمًا اجتماعيًّا جديدًا “يقع خارج إطار الضوابط والكوابح المعروفة، سواء أكانت هذه ضوابط من صنع الدولة أم المجتمع، أي إنه عالم لم يعد يخضع للضوابط والمعايير التي تحددها الدولة أو المجتمع”(14).
كان الموقف المعلن للمسؤول (أو السياسي) يحظى باهتمام كبير لدى مختلف الشرائح والأطراف. فهذا الموقف أولًا، من حيث طريقة الإشهار أو التظهير، يسير بخطى وئيدة: مؤتمر صحافي جيد التحضير، أو نشاط سياسي، أو بيان عن القيادة الحزبية، أو في أفضل الحالات، تصريح يَمُنُّ به السياسي على صحافي له حظوة.
وهذا الموقف ثانيًا، يُشكِّل نبراسًا يهتدي به الأنصار والمحازبون، ويُظْهِر الموقف الواضح والحاسم من قضية أساسية هي مدار اهتمام في المجتمع، وكذلك لِتُعْلَن رؤية هذا الطرف وقراءته للحدث.
هذه المكانة المرتفعة للتصريح أو الموقف (والذي لم يكن يوميًّا إلا في حالات استثنائية) داهمتها التطورات على اختلاف مندرجاتها: سياسيًّا، وحدثـيًّا، وكيفية التفاعل معها من قبل الجمهور المتلقي، انتهاء باحتكار الوسائل الإعلامية الكبرى للمعلومة والخبر ولدورها كمصدر وحيد للرسالة الإعلامية. مقابل هذا كله، انبثق “المواطن/المغرد”، ومن دون أي عائق بات شريكًا في “التصريح” و”الإعلان” وفي إبداء الرأي، ويرتكز هنا إلى امتلاكه المعلومة (بمصادرها المتعددة)، بعد أن كانت حكرًا على القيادي، وأصبح هناك تفلت من “الانضباط” الصارم وراء الزعيم، بعد أن تحرَّر من سطوة التبعية الفكرية وتاليًا السياسية، وارتقى إلى مرحلة “النظرة النقدية” حيال كل القضايا المطروحة. وانتهى احتكار الأطر الحزبية الكبرى لصالح مجموعات تنضوي في إطار هيئات مجتمع مدني، تتكاثر تباعًا وتستقطب شرائح متزايدة، من الشباب خصوصًا. هذا الواقع أوجد أصواتًا شبابية بشكل عام تشارك الطبقة السياسية في إشهار مواقف، غالبًا ما تكون ناقدة ورافضة للسياسة المعتمدة حيال قضية محددة.
وبالفعل، يكتمل مشهد المتغيِّرات مع وجود “الوسيلة”، أي الإعلام الرقمي. والمؤكد أن عالم تكنولوجيا الاتصال الحديثة ترك آثارًا خطيرة في العديد من ساحات “عمله”: انتفاضات تونس ومصر أولًا، وما شهده لاحقًا العديد من الساحات. وقد أصبح المجال الإعلامي العربي “فضاء تتصارع داخله قوى عديدة ومتباينة باحثة عن موقع تمركز لها”(15)؛ وذلك “بسبب التقنيات الحديثة من إمكانات وافرة لتلقي مضامين إعلامية جديدة”.
في النموذج السابق على هذه الثورة الرقمية، كانت “أجهزة الإعلام العربية خاضعة بشكل أو بآخر للسلطة عن طريق الإدارة أو التمويل أو الرقابة أو كلها معًا. هذا الوضع يعني سير تلك الأجهزة على النهج الذي ترسمه أيديولوجية الدولة، وهو أمر مهما قيل عن صدق نواياه، يُفقدها جوانب من المصداقية التي تؤهلها للعمل بفاعلية”(16).
وفي المقابل، فإن نموذج موقع “تويتر” كسر هذا الثالوث الذي كان يتيح للسلطة فرض رسالتها الأحادية. فالإدارة بقيت، إنما “المؤسسة”، أي “الوسيلة” التي سبقت الإشارة إليها، غدت دون قيود مكانية وتنظيمية، بل لم يعد هناك من دور احتكاري في نقل الرسالة الإعلامية، كانت تتفرَّد به المؤسسات التقليدية الراسخة (الصحافة المكتوبة والإذاعة والتليفزيون..). فالرسالة الإعلامية أصبح لها، مع “تويتر” وغيره من وسائط مشابهة، سبل وإمكانيات هائلة للانتشار خارج حدود الجغرافيا والسيادة الوطنية، لتبلغ كل “مغرِّد” في كل زوايا المعمورة.
والأمر عينه يصحُّ على عنصر التمويل؛ فالوسائل الإعلامية التقليدية، بما هي مؤسسات كبيرة، تحتاج إلى تمويل كبير لضمان استمراريتها. أما في موقع “تويتر” أو المدوَّنة، فالبوابات العالمية ومحركات البحث أدمجت خدمة استحداث الموقع بصورة مجانية، بما يسمح للمستخدم بإنشاء موقعه في غضون دقائق، ليتحوَّل إلى مشارك نشيط في التواصل العمومي. وبالنسبة إلى الرقابة، فإن سلطة الدولة تبقى عاجزة عن ضبط أو قمع فكرة يمكن لأي كان أن يُشْهِرَها تحت اسم افتراضي، ومن أي جهاز.
في أجواء مماثلة، يصبح السياسي أمام وقائع ومعطيات متعددة: أولًا: كيفية الاستفادة من التقنيات للتعبير المتواتر بما يواكب المستجدات السياسية والعامة من دون الوقوف أمام الشروط والظروف التي كانت في السابق تحكم رسائله الإعلامية. ثانيًا: سيجد نفسه أمام مروحة واسعة من الردود والمواقف تشمل على السواء سياسيين ومواطنين.
- التسويق السياسي: كسر الأحادية
لم يعد الجمهور كتلة متراصَّة خاضعة لقوى الهيمنة السياسية والاقتصادية؛ فبعد مرحلة إشهار دعائي أحادي تمارسه الدولة والأحزاب السياسية الكبرى، فإن مبدأ التسويق السياسي والدعاية وإبداء الرأي، أصبح، نظريًّا وتقنيًّا، في متناول الجميع، ليغدو الفضاء العام، وللمرة الأولى في تاريخ التطور البشري، عبارة عن شبكة تواصلية شديدة التجزيء. لكن هذا الفضاء العام لن يبقى طابعه سياسيًّا يقارب القضايا العامة، تبعًا لطبيعة المرسل (السياسيين وجهاز الدولة)، بل دخلت عليه أشكال تعبيرية جديدة وبخاصة “القضايا الشخصية”. ويقول برنار مياج (Bernard Miège) في هذا السياق: “إن إشهار الآراء لم يعد مقتصرًا على المجال السياسي بل لقد انضافت إليه الآراء المتعلقة بالحياة الشخصية والجماعية”(17). إنها عملية انتقالٍ من نموذج تاريخي في التواصل باتجاه واحد، تتولاه الوسائط التقليدية (بدءًا من الخطيب والمبشِّر والدَّاعية، إلى الصحيفة والإذاعة والتلفزيون)، وصولًا الى الإعلام/الشبكة.
وإذا كانت الرسالة الإعلامية، في منطلقها، كثيفة وغزيرة ولديها مقاربات خارج السياسة إجمالًا، فإن هذا التَّراكم الكمِّي يؤدي إلى مسار نوعي، وإلى تحوُّل جذري في طبيعة التواصل، أي في مضمون الرسالة الإعلامية التي “تنزلق” نحو قضايا اجتماعية، بمقاربات متعددة ومتباينة. ما يستتبع تاليًا، أنماطَ تواصلٍ متحرِّرٍ إلى حدٍّ بعيدٍ من هيمنة إعلام السلطة، ويؤدي إلى تحرير عقل الإنسان العربي؛ ذلك أنه “حيثما تمَّ تطوير تكنولوجيا اتصال جديدة فاعلة، حدثت تحولات اجتماعية تُعزِّز الديمقراطية، مع ما يعنيه ذلك من كسر احتكار الفئة التي تسيطر على المعلومات. فانتشار المعرفة وشيوعها يُحدثان وعيًا بالحقوق بين أفراد الجمهور. ولهذا السبب، قاومت السلطات منذ الأزل انتشار المعرفة وتداولها”(18).
لقد أسهمت تكنولوجيا التواصل، في إسباغ دينامية جديدة على النشاط السياسي، من دون أن يؤدي ذلك إلى تجاوز الدور التاريخي للممارسة السياسية التقليدية أو الافتراض بأنه أمكن الخلود إلى سكون الوقائع والمعطيات الجديدة بما يتيح تجاهل أسئلة الحرية، والإطار القانوني، والتوازن بين حقوق وحريات الأفراد والنظام العام.
خاتمة
من الممكن اعتبار هذه التطبيقات فرصة للمواطنين، “الأشخاص من الأسفل”، للمشاركة والتفاعل وإبداء الرأي والنقاش في القرارات السياسية. في الواقع، إن الطريقة التي ينظر بها السياسيون إلى جمهورهم مهمَّة؛ إذ تظهر الطبيعة “التشاركية” لأجهزة الشبكات الاجتماعية، ولأنها أيضًا توضح الطريقة التي يحدِّد بها العاملون في السياسة كيفية بناء خطاباتهم.
في كثير من الأحيان يعتقد المحترفون في المجال السياسي أن اللجوء إلى المنصات الافتراضية يزيد جماهيريَّتهم الافتراضية التي تتابعهم على المنصات الرقمية. مفهوم الجمهور الافتراضي يفترض أن يُتَعَامَل معه، أولًا، من خلال تحليل المتخصصين في السياسة لتصور الجمهور، ثم فهم كيفية بناء هذه التصورات. والنقطة الأولى تقودنا إلى التمييز بين أربعة أصناف من المواطنين الافتراضيين الذين يتفاعلون مع الشخصيات العامة التي تنشر تغريدات: المواطن العادي المقتنع مسبقًا، والمواطن الذي نحاول أن نؤثر فيه، والمواطن الناشط، والمواطن المراقب. هذا التصنيف يساعد السياسيين في كيفية توجيه الخطاب إلى الجمهور بشكل أفضل.
استطرادًا، التفاعل الرقمي الحالي والتفاعل السياسي زاد المعلومات الزائفة التي يُعمل على حلِّها بأساليب حوسبة اللغة (هذا موضوع آخر جدير بالمتابعة، ولكنه خارج نطاق الدراسة). كل ذلك يؤكد أن علينا تعزيز دور الإعلام والإعلاميين قبل نشر المعلومات، وهو ما يعزِّز دور الإعلام الكلاسيكي، لأنه ما زال يتمتع بمصداقية. فبحسب الإحصاءات العالمية، فإن أكثر من 75% من الناس ما زالوا يعتمدون على الإعلام الكلاسيكي للتأكد من المعلومات.
لهذا، على العلوم السياسية أن تتأقلم مع هذه التغيرات لتأسيس أنظمة وبرامج تعليمية تعلُّمية تتناسب مع التغيرات التقنية. فالسياسة، أولًا وأخيرًا، هي أيضًا علم تنطبق عليه كلُّ التشريعات المعرفية. هذا عندما نمارس السياسة الفعلية خارج نطاق الطوائف والمحسوبيات والتزعُّم والتسلُّط. أما عندما تكون هذه المفاهيم موجودة، فلا لزوم للتفكير في الأمر (وهذا موضوع آخر). كل ذلك يتعلق بحياة الأفراد والمجتمع، أي بكيفية إدارة الدولة، وهذا ما يؤدي إلى ما يسمى “الحَوْكَمَة”. لذلك، فإن أسس ثقافة الفرد الرقمية بمعناها المعرفي -مهارة وممارسة- تسهِّل عملية الدخول في الحوكمة، والحوكمة الفعلية تتجذَّر فيما يسمى بـ”الديمقراطية التشاركية”.
لذلك، من المفترض أن يكون الفرد حاضرًا في هذا الحيِّز المكاني الافتراضي الذي يسمح بإجراء المحادثة، على سبيل المثال في فيسبوك وتويتر. وبهذا المعنى، يُعَدُّ هذا النهج الفعلي جزءًا من الهدف التشاركي للديمقراطية.
المراجع
(1) Dominique Piotet et Francis Pisani, Comment le web change le monde: L’alchimie des multitudes (France: Société – Sciences humaines, 2008), 36.
(2) Benjamin Loveluck, “Internet, vers la démocratie radicale,” Le Débat, no. 152, Septembre-Octobre, (2008): 150-166.
(3) انظر: برنار بوليه، نهاية الصحف ومستقبل الإعلام، (بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2011)، ص 148.
(4) Andrew Keen, Le Culte de l’amateur: Comment Internet tue notre culture (Paris: Scali, 2008), 16.
(5) الصادق الحمامي، “المجال الإعلامي العربي: إرهاصات نموذج تواصلي جديد”، في الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم، تحرير: عبد الإله بلقزيز، ط 1 (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013)، ص 107.
(6) Brian Stelter, “The Facebooker Who Friended Obama,” nytimes, July 7, 2008, “accessed June 1, 2019”. https://nyti.ms/2YF4uzp.
(7) Issie Lapowsky, “Facebook exposed 87 million users to Cambridge Analytica,” wired, April 4, 2018, “accessed 5, July 2019”. https://bit.ly/2Gzsg6H.
(8) بلقيس عبد الرضا، “تزاحم السياسيين اللبنانيين يبلغ تويتر”، المدن، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2018، (تاريخ الدخول: 5 يونيو/حزيران 2019): https://bit.ly/2xAGEIZ.
(9) Hubert Beuve- Méry (1902-1989), bnf, “accessed July 5, 2019”. https://bit.ly/2LIL5d5.
(10) انظر: غسان مراد، دهاء شبكات التواصل الاجتماعي وخبايا الذكاء الاصطناعي، (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2019)، ص 19-26.
(11) المرجع السابق، ص 122.
(12) انظر: غسان مراد، الإنسانيات الرقمية: ترويض اللغة في سبيل معالجتها آليًّا، (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2014)، ص 23-32.
(13) أُنجزت الدراسة بمشاركة جويل غسان موسى، سنة ثالثة إدارة معلومات في كلية الإعلام، الفرع الأول بالجامعة اللبنانية.
(14) باقر النجار، “الفضاء السيبراني وتحولات القيم”، في الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم، مرجع سابق، ص 317.
(15) الحمامي، “المجال الإعلامي العربي: إرهاصات نموذج تواصلي جديد”، مرجع سابق، ص 101.
(16) زكي الجابر، “أثر وسائل الاتصال في الجماهير وخاصة الجماهير العربية”، في وسائل الإعلام وأثرها في المجتمع العربي المعاصر، (تونس، المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، 1992)، ص 65.
(17) Bernard Miège, l’Information – communication, objet de connaissance (Paris: collection médias-recherches, 2004), 147.
(18) عصام سليمان الموسى، “الثورة الرقمية تضع الإعلام على مفترق طرق”، في الإعلام وتشكيل الرأي العام وصناعة القيم، مرجع سابق، ص 131.
* ستنشر مجلة لباب في نسختها الإلكترونية ملحقًا كاملًا بنتائج دراسة هذه الحالة؛ حيث تناولت بتفصيل المتغيرات الثلاث (المتابِعين، والمتابَعين، والتغريدات) لكل دولة على حدة.