لا شك أن الفيلسوف الإنجليزي، توماس هوبز، عندما وضع كتابه الشهير عن الدولة، إنما كان يتحدث عن دولة أخرى غير الدولة المعاصرة، فالعصر غير العصر والبشر غير البشر، والحقوق والواجبات غير ما كانت عليه منذ حوالي أربعة قرون، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أن جوهر الدولة لا يزال هو هو كأداة تنظيم اجتماعي يلزمها حد أدنى من القمع الناعم والخشن لممارسة وجودها ووظائفها؛ فهي ذلك الجهاز الاجتماعي مُحتكِر العنف بمفهوم ماكس فيبر، وأداة حماية الهيمنة الطبقية بمفهوم كارل ماركس، بما بين الرأيين من تنوعات وتوليفات مختلفة، تتفق كلها على كون العنف مكوِّنًا رئيسيًّا بدرجات مختلفة في وجود الدولة.

هذا المكوِّن الذي دفع هوبز، انطلاقًا من قناعته بأن دور الدولة الأول هو توفير الأمن للمجتمع من خلال سلطتها المطلقة؛ لحمايته من “حرب الجميع ضد الجميع” باعتبارها الحالة الطبيعية التي يسودها القتل والنهب وغيره، إلى وصفها باللفياثان، ذلك الوحش الأسطوري الذي يشبه التنين، الذي استلهمه من سِفر أيوب، “لا من أجل ذمِّه أو إدانته، بل للتدليل على قوته وسلطته الشاملة، وعدم خضوعه لأي اعتبار خارج ذاته وإرادته”[i].

لكن مع تطور العقد الاجتماعي، وتجاوزه لمفهوم هوبز عن الدولة، ارتباطًا بالتطور الاجتماعي الذي غيَّر أدوارها وأعاد تعريفها، لم تعد الدولة مجرد لفياثان قاهر يمارس القمع لتوفير الأمن، بل الحقيقة أن سمتها تلك قد تراجعت لصالح سمات وأدوار أخرى أرقى وأشمل، تقدمت على مكون العنف لتجعله دورًا “أداتيًّا” بحتًا، فيما أصبحت المشروعية مشروطة بتلك السمات والأدوار الأخرى، من تمثيل شعبي ورفاهية عامة..إلخ، أي الأدوار المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية بصفة عامة.

ولعل هذا التطور هو ما غيَّر مفهوم قوة الدولة الذي تحدث عنه هوبز نفسه، فلم تعد ممارسة العنف تمثِّل سوى الجانب البدائي من الدولة، الذي قد يتوافر، ومع ذلك تبقى الدولة ضعيفة أو مريضة بموازين الدول الحديثة، وهو ما ينطبق على الدولة المصرية موضوع هذه الدراسة، التي شأنها شأن غيرها من الدول العربية، ضارية لكن رخوة، فمعظمها “دول صلبة، والكثير منها في واقع الحال دول ضارية، لكن قلة قليلة منها دول قوية
________________________________________
*مجدي عبد الهادي، باحث اقتصادي مصري

حقًّا، فعلى الرغم من أنها تمتلك بيروقراطيات ضخمة وجيوشًا قوية وسجونًا قاسية، فإنها ضعيفة على نحو يدعو إلى الأسى حينما تواجه مسائل من قبيل جباية الضرائب أو كسب الحروب أو تشكيل قوة هيمنة فعلًا…”[ii].

والسؤال الذي تسعى هذه الورقة لإجابته يتعلق بتفسير هذا التناقض تحديدًا، فكيف ولماذا أصبحت الدولة المصرية لفياثانًا مريضًا: لفياثانًا قاهرًا سياسيًّا وأمنيًّا، عاجزًا اجتماعيًّا وتنمويًّا؟ وما العلاقة بين وجهي هذه الدولة: طغيانها السياسي وعجزها التنموي؟ هل الأمر ببساطة التفسيرات التي ترى قيادة أحدهما للآخر أم أن خلفهما معًا أسبابًا أخرى تتعلق بالبنى الاجتماعية والديناميات التاريخية التي تكونت بها وضمنها هذه الدولة بشكلها الحديث؟

ولإجابة هذا السؤال، تنتقل الورقة، التي تنتمي لحقل الاقتصاد السياسي[iii]، من الكلي إلى الجزئي، ومن العام إلى الخاص، فتبدأ بمناقشة نشأة النمط الاقتصادي الاجتماعي الذي تكونت في إطاره هذه الدولة بشكلها الحديث، في ضوء خلفيته السوسيوتاريخية وإطاره الجيوتاريخي، ثم تنتقل لمسح عام لتطوره الهيكلي وتحليل آثاره على هذه الدولة اجتماعيًّا ومؤسسيًّا؛ لتنتهي لتفسير منطق عمل هذا التركيب (النمط ودولته) بآثاره الاقتصادية الاجتماعية، وكيف ينتج هذه الثنائية الغريبة.

(1) الخلفية السوسيوتاريخية

دون إفراط في التفصيل التاريخي بما يتجاوز حدود الموضوع، لا يمكن تجاهل التاريخ الطويل للدولة في حضارة نهرية قديمة كمصر، وتحديدًا دولتها الشرقية سليلة النمط الشرقي/الآسيوي/الخراجي[iv]، الذي مثَّل لدى كثير من المُنظِّرين[v] المدخل الأساس في تحليل الطغيان السياسي للدول النهرية كمصر، حيث مركزية الدولة “المركزية” كأساس لاستمرار النمط كله، بهيمنتها على شكل الثروة الأساسي (الأرض الزراعية) ومورد تشغيله (المياه العذبة) وأداة إدارتهما (البيروقراطية الحكومية)، حتى إن عادل حسين، الذي لا يثق كثيرًا في أطروحة “النمط الآسيوي”، شدَّد على أهمية الدولة المركزية في مصر كحقيقة تاريخية، بغضِّ النظر عن توصيفها العلمي، بقوله: إن “أي لحظة من لحظات التصدع (للدولة) يصاحبها انهيار كامل في كافة الوظائف الاجتماعية، ولا يعود المجتمع إلى حيويته إلا حين تعود للدولة المركزية وحدتها ومسؤوليتها،..، فالدولة المركزية قامت -عندنا– بدور قيادة التقدم؛ حيث تحافظ على سلامة المجتمع وتطلق إمكانياته وتجعله أكثر انضباطًا، في حين يؤدي تحللها إلى تدهور القوى الإنتاجية وتأخر معدلات الإنتاج وزيادة معدلات الوفاة وعدم انتظام الري وانهيار العلاقات الاجتماعية والإنسانية”[vi]، فياله من تأثير مدوٍّ لهذه الدولة المركزية التي نتجت عن هذا النمط!

المهم أن هذه الخلفية التاريخية مثَّلت الأرضية التي استقبلت التغييرات التي جلبها التحديث العلوي والاستتباع الاستعماري؛ حيث دخل التشكيل المصري مرحلة تحوله الرأسمالي، لكن الرأسمالي التابع كمُصدِّر مواد أولية مع انهيار محاولة محمد علي الصناعية والاحتلال الانجليزي اللاحق؛ ليتحقق تحولان مُتكاملان:

أ/ سيادة الإنتاج السلعي في الزراعة وإدخال العلاقات النقدية في الاقتصاد، كجزء من فرض العلاقات الرأسمالية؛ لربط الاقتصاد المصري بالاقتصاد العالمي؛ ما مثَّل استدخالًا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية دونما تطوير مواز لقوى الإنتاج، خلافًا لمسار التطور الطبيعي حيث تسبق الأخيرة الأولى وتدفعها للتطور بما يلائمها، وهو الانعكاس الذي يمثل النقلة النوعية من التأخر التاريخي الكمي (فرق التطور التكنولوجي والتنظيمي) إلى التخلف الهيكلي الكيفي (علاقة التبعية الاقتصادية الاجتماعية) على مستوى النمط الإنتاجي.

ب/ إعادة صياغة الدولة المصرية بما يلائم الصيغة الاستعمارية؛ حيث استحضار النمط الغربي وأدواته بمضمون شرقي تابع مُستلَب السلطة؛ ما مثل على المستوى السياسي خلافًا للتحول المذكور آنفًا على المستوى الاقتصادي، استباقًا من قوى الإنتاج (القوى القسرية للدولة الاستعمارية-التابعة) لعلاقات الإنتاج (منطق عملها الاجتماعي وتشابكها مع المجتمع)؛ ما مكن الدولة (المُستلبة مرتين بالهيمنة الاستعمارية والتغول البيروقراطي) من قوة هائلة من أدوات إنتاج القسر، دون علاقات حديثة موازية لإنتاج القرار الاجتماعي والإدارة الحديثة في سياق مجتمعها بنمطه ذي المخلفات الشرقية، وهكذا فبينما “تنسخ الأنظمةُ المُقيدةُ المؤسساتِ من الأنظمة المفتوحة[vii]،..، تعمل تلك المؤسسات بشكل مختلف في سياق الأنظمة المُقيدة؛ وبالتالي تكون لها آثار مختلفة عنها في الأنظمة المفتوحة”[viii]؛ فتكون النتيجة أن ما تمتلكة الدولة من قوة وتنظيم بآليات حديثة مُستوردة من الغرب تنقلب وبالًا على الإدارة المحلية، وترتب العديد من الاختلالات الاجتماعية والوظيفية[ix]، بدلًا من أن تلعب دورًا تحديثيًّا، كما هو مُفترض منها لو عملت ضمن سياقها الكلي من التطور المتوازن بين قوى وعلاقات الإنتاج (على المستوى السياسي هنا). وهكذا، فخلافًا “للتأكيد المعتاد بأن التكنولوجيا تمثل عاملًا من عوامل الدمقرطة…، تستفيد الأنظمة القمعية من التكنولوجيا المعاصرة[x]…، فبتوافر تكنولوجيات فائقة التقدم في السوق الدولية، تستطيع أنظمة قمعية كثيرة أن تحتفظ بالسلطة رغم أنف شعوبها”[xi]،  والأسوأ أن امتلاك قوى عسكرية وأمنية كبيرة في ظل تخلف الدولة عن المستوى المحترف والعقلاني للدولة الفيبرية، قد يعني السماح “بمزيد من القمع واستخراج الريوع من المعارضين؛ ما يعوق جهود التنمية”[xii].

ويؤكد اتساق التحولين السابقين (المُتعاكسين ظاهريّا)، وتوافقهما مع مصلحة الاستعمار، اقتباس دال لنزيه الأيوبي[xiii] عن بي. بي. راي، يقول فيه: “يعتقد كثير من المراقبين الأوربيين ذوي النوايا الحسنة أنه كان بإمكان الدول الرأسمالية الغربية من وجهة فنية، أن تكون مهتمة بدعم تطوير بيروقراطية حديثة ذات كفاءة بصفتها في موقع معارض للبيروقراطية ذات السمة القبلية، لكنهم ينسون شيئًا واحدًا، هو أن الرأسمالية لا تهتم بالجانب الفني للتنمية (إنتاج قيم الاستعمال) بل بالجانب الاجتماعي (تنمية العلاقات الرأسمالية للإنتاج)”. وهكذا، فهي تعمل على تعزيز العلاقات الرأسمالية السلعية/النقدية دون تطوير تكنولوجي إنتاجي (كعلاقات إنتاج على حساب قوى الإنتاج)، فيما تعزز قوة البيروقراطية القسرية دون تطويرها مهنيًّا واجتماعيًّا (كقوى إنتاج على حساب علاقات الإنتاج)؛ ما أنتج لنا النمط المتخلف هيكليّا والبيروقراطية المتغوِّلة سياسيّا.

 (2) الإطار الجيوتاريخي

ننتقل هنا لمناقشة عامة للإطار الدولي الذي يؤطر حدود وآفاق نمو وتطور النمط الطرفي ودولته الاستبدادية بصفة عامة، مُستفيدين من تحليل الأنظمة العالمية world-system Analysis، الذي أطلق جذوته عالم الاجتماع الأميركي الرائد، إيمانويل واليرشتالين.

فنجد على مستوى “النمط” تأييدًا من التحليل المذكور لنظرية رايموند فيرنون “دورة حياة المنتج” Product life-cycle theory[xiv]، وإن كان بشكل أعمق وأشمل باستحضاره حقائق الأوضاع الاحتكارية وتراتبية السلطة العالمية كأبعاد اجتماعية[xv] يتجاهلها الوصف التقني المجرد لنظرية فيرنون، وهكذا فالنمط الطرفي التابع لمستعمرة سابقة كمصر يظل محصورًا في منتجات الأطراف عالية التنافسية، منخفضة التكنولوجيا والقيمة المُضافة والربحية (ويكفي أن نعرف في هذا الصدد أن أقصى طموحات مصر الصناعية حتى تاريخه لا تعدو المشاركة في فتات صادرات صناعة بدائية كالمنسوجات، والكويز تشهد!)؛ ما يضيق فضاءه السوقي المُحتمل؛ ومن ثم يضعف إمكانات نموه الصناعي وتطوره التكنولوجي والتنظيمي؛ أي آفاقه التنموية بعامة.

يرتبط بما سبق ضعف الفائض الاقتصادي المُنتج في إطار النمط الطرفي (ارتباطًا بانخفاض الإنتاجية وضيق السوق..إلخ؛ بكبح التصنيع واستلاب الفائض)، والذي يحدد حدود الديمقراطية الاقتصادية الممكنة؛ فالواقع أنه بمنطق التحليل المذكور نجد أن:

“الديموقراطية على الصعيد العالمي مجرد امتداد لمنطق تدفق وتوزيع الفوائض، لكن في الاتجاه العكسي؛ فحيث تتحدد مواقع “المركز-الطرف” بمواقعهم من سلاسل القيم العالمية، أي طبيعة الصناعات والمراحل الإنتاجية المتخصصين بها، أو تقسيم العمل الدولي بين القطاعات (الأكثر قيادية-الأعلى ربحية) و(الأكثر تبعية-الأدنى ربحية)، ضمن عملية التبادل غير المتكافئ الشاملة؛ ومن ثم تقسيم الفوائض عالميًّا، وحيث إن “محتوى الديموقراطية” -اجتماعيًّا- يحدده التوازن الطبقي، فيما “حدودها” -اقتصاديًّا- تتحدد بحجم الفائض، باعتباره موضوع إدارتها؛ يكون لدينا اتجاه عكسي ما بين مسار حجم الفائض من الأطراف إلى المراكز (فوائض أصغر-مُنتهبة، فأكبر-نهبية)، ومسار حدود الديموقراطية من المراكز إلى الأطراف (ديموقراطية أوسع-استلابية، فأضيق-مُستلبة)، ما يتسق ومنطق إدارة الاقتصاد العالمي نفسه، وتصدير الأزمات من المراكز إلى الأطراف، وتوزيع الدخول بين شعوبه، في “وحدة منطق” للديموقراطية محليًّا وعالميًّا”[xvi].

وهو ما أكدته على مستوى “الدولة”، دراسة كينيث بولين[xvii] التي أثبتت –إمبريقيًّا- الارتباط الإيجابي ما بين كل من التطور الاقتصادي (وبالتالي حجم الفائض) والموقع من النظام الدولي (انخفاض درجة التبعية؛ ومن ثم انخفاض استلابه) من جهة والديمقراطية السياسية من جهة أخرى، كما عززته الدراسة الأوسع نطاقًا زمانًا ومكانًا لروب كلارك[xviii]، بإثباتها الارتباط الإيجابي بين الموقع من النظام الدولي والتطور السياسي وتسارع الدمقرطة كذلك.

ويوضح كل ما سبق الإطار التاريخي والعالمي للنمط الاقتصادي الاجتماعي الطرفي السائد في مصر، بشكل شديد الكلية والعمومية، عبر القرنين المنصرمين، وبغضِّ النظر عن الفترات العرضية التي حاولت فيها تعديل موقفها الاقتصادي وموقعها الدولي دون جدوى..، ذلك النمط الذي لا يمكن فصله عن تكوين الدولة المصرية الحديثة/القديمة، خصوصًا بعد الانفتاح الاقتصادي، الأمر الذي ينقلنا إلى مسار التطور الهيكلي لهذا النمط ودولته في سياق تفاعلهما.

 (3) التطور الهيكلي للنمط

يحدد ذلك التطور نمط النمو، أي الطريقة التي يتحقق بها النمو الاقتصادي، فيمكن القول بأنه الوجه الهيكلي للنمو الكمي، وهو يتخذ أشكالًا لا حصر لها؛ كونه مُحصلة تفاعل عديد من البنى والديناميات، كحجم ونوع الموارد الطبيعية والمادية والبشرية المتاحة، وحجم البلد وعدد السكان، والموقع الدولي واتجاهات الاقتصاد الإقليمي والعالمي، والسياق الاجتماعي وبنية السلطة واتجاهات السياسات…إلخ، لكنه إجمالًا يتراوح ما بين نمطين أساسيين في العصر الحديث، هما نمط التصنيع المُستقل ونمط فخ الموارد[xix].

وبالنظر للهيكل الاقتصادي المصري، نجده “أقرب” للثاني منه للأول؛ حيث نجد الصناعة التحويلية في عام 2015/2016، قد بلغت بالكاد نسبة 17% من الناتج المحلي الإجمالي، والزراعة حوالي 12% منه، بمجموع 29% فقط للقطاعات السلعية، فيما بلغت نسبة الصناعات الأخرى (التعدين والتشييد والكهرباء والمياه) حوالي 15% منه؛ لتبقى للخدمات بأنواعها نسبة 55% تقريبًا من الناتج المحلي الإجمالي[xx]؛ ما يجعله هيكلًا اقتصاديًّا يستحق بالكاد وصف “شبه الصناعي”  Semi-Industrial، في ضوء المستوى التنموي لمصر كدولة، كبيرة الحجم سكانيًّا (أي لا يمكنها أن تعتمد اقتصاديًّا على الخدمات أو تتبنى توجهًا تنمويًّا خارجيًّا بحتًا في الأجل الطويل)، تنتمي لشريحة دول الدخل “المتوسط-المنخفض”.

ويؤكد اقتراب مصر من هذا النمط الأكثر تخلفًا، مؤشر “التعقيد الاقتصادي”، الذي يقيس درجة تنويع الاقتصاد قطاعيًّا وسلعيًّا كمقياس لدرجة تطوره، فنجد مصر في المرتبة (63) من إجمالي (128) دولة غطاها المؤشر عالميًّا، والخامسة من إجمالي ست عشرة دولة غطَّاها المؤشر على مستوى منطقة الشرق الأوسط، وهى مرتبة متأخرة كما هو واضح، تضعها على عتبة النصف الأسفل من المؤشر؛ حيث بلغت قيمة المؤشر لمصر (-0.021)، ضمن مجموعة الدول المنتمية للجانب السلبي منه، بل وأقرب لأدنى قيمة للمؤشر (موريتانيا، -1.907) مما هي لأعلى قيمة له (اليابان، 2.316)[xxi].

وباسترجاع تاريخي مُوجز لمسار التطور الهيكلي العام للاقتصاد المصري الذي أدى إلى هذا النمط، نجد حلقاته الكلية الرئيسية كما يلي:

  • كان أهم مظاهر الانتهاك الاستعماري، أو الرسملة القسرية بما شملته من استباق علاقات الإنتاج لقوى الإنتاج على ما سبق بيانه، هو ما وصفه محمد دويدار بحالة “الالتواء الهيكلي، وتحويل هيكل الاقتصاد لكي يتم الإنتاج أساسًا استجابةً لاحتياجات الاقتصاد الأم…، حيث هدفت الدولة في مرحلة أولى إلى بناء اقتصاد مستقل داخل السوق العالمية، دون السماح لرأس المال الأجنبي بأن يلعب دورًا يُذكر داخل مصر، لكنها في مرحلة ثانية تسعى إلى بناء نوع من الاقتصاد السلعي داخل السوق العالمية، لكنها تقبل هذه المرة أن تقوم بذلك، ليس فقط مع وجود رأس المال الأجنبي، وإنما بالالتجاء إليه في شكله المالي كذلك[xxii]؛ لينتهي الأمر بالدولة إلى تسليم الفلاح إلى رأس المال”[xxiii].
  • أدى هذا الربط إلى رسملة مُعجلة للزراعة المصرية لحساب الخارج؛ أدت لإغلاق أبواب التشغيل الزراعي أمام ملايين الفلاحين المصريين وطردهم من القرية، لتبدأ عملية تحضر عشوائية ورثَّة؛ بسبب ضعف الصناعة والبنية التحتية ورأس المال الاجتماعي؛ حيث:
  • لم يسمح اقتصاد التصدير التابع والخاضع للخارج، الذي ورثته مصر عن الأسرة العلوية والاحتلال الانجليزي، سوى بنمو مُختنق لصناعة ظلت في نطاق التصنيع الاستهلاكي الخفيف، لكن للمفارقة، وسوء الحظ، بتركيب احتكاري سابق لآوانه بحكم نشأتها أساسًا من باطن طبقة ملاك الأراضي، لا الطبقة التجارية كما حدث في أوروبا، إلى جانب أسباب أخرى بالطبع؛ وهو ما أضعف حوافزها للتطور بحكم أرباحها الاحتكارية، كما أضعف قدرتها على توفير فرص عمل للملايين النازحة من الريف المصري؛ ما أدى إلى نشوء فائض عمل مُزمن نتج عنه:
  • تضخم قطاع خدمات، تغلب عليه العشوائية وعدم الرسمية، لاستيعاب هذه الملايين في “تشغيل فقر” منخفض المهارات والإنتاجية، مثل أرضية التحضر العشوائي الرث المذكور آنفًا، بكافة آثاره الاقتصادية والاجتماعية، والذي:
  • أدى متواكبًا مع ضعف التشغيل التصنيعي (بمزاياه المُفترضة/المفقودة على صعيد الوعي الفردي والاجتماعي) مع التركيب الاحتكاري للصناعة، إلى انقسام وتفتت للطبقة العاملة (الضروري توحدها للتحول الديمقراطي)، كذا أدى بالتفاعل مع حالة الفقر الحضري العام (ناهيك عن الريفي الطبيعي في بلد متخلف)، إلى تباطؤ التحول السكاني[xxiv]؛ ومن ثم الاحتجار الديمغرافي في مرحلة النمو السكاني المرتفع (المرحلة الثانية)؛ ما رفع معدلات الإعالة والاستهلاك، وخفض معدلات الادخار الفردي والعام؛ الذي أدى بدوره إلى:
  • ضعف الاستثمار، سواء في رأس المال الإنتاجي أو الاجتماعي أو البشري؛ ما أضعف النمو الاقتصادي الكمي وباطأ التطور الهيكلي الكيفي، وفرض ضغطًا على الموارد العامة يدفع للاتجاه للموارد الريعية وللاستدانة المُستمرة لمواجهة الحاجات والمطالب المحلية المتزايدة.
  • أدت حالة فائض العمل، إضافةً للحالة الاحتكارية وضيق السوق وضعف رأس المال الاجتماعي ابتداءً، إلى إضعاف حوافز تطوير صناعة ثقيلة أو شبه ثقيلة؛ ما أضعف تطور الصناعة عمومًا، وأبقاها تابعة تكنولوجيًّا للخارج؛ وأضعف من ثم فاعلية استراتيجية استبدال الواردات في الستينات؛ لتصل إلى سقفها سريعًا، قبل أن تحقق نقلات اقتصادية وتنموية نوعية، خصوصًا على صعيد الصناعة، مع تأزم مزمن في التصدير الصناعي كمورد للنقد الأجنبي.
  • تعمَّق هذا الضعف الصناعي، مع اختناق آفاق نموه بضيق السوق وتراجع الدعم الحكومي بعد إقرار سياسات الانفتاح الاقتصادي، وتراجع معه القطاع الزراعي؛ لتضعف الموارد الضريبية الإنتاجية، وتتعزز الفجوة التجارية السلبية؛ لتتفاعل مع تأزم النقد الأجنبي المذكور آنفًا؛ وتؤدي مُجتمعة إلى:
  • فجوات تجارية ومالية ونقدية مُزمنة، دفعت الحكومات المصرية للتركيز على تنمية الموارد الريعية (سهلة وعاجلة التحصيل نسبيًّا) لا الإنتاجية (المشروطة بتحسين الإنتاجية والتنافسية)، كحلول سريعة استسهالية لمواجهة هذه الفجوات العاجلة كما المُزمنة؛ فزاد الاعتماد على الموارد الخارجية الريعية وشبه الريعية (صادرات البترول والغاز الطبيعي، وتحويلات العاملين بالخارج، وعوائد السياحة وقناة السويس، والإعانات الخارجية)؛ بآثارها على النمط الاقتصادي والدولة ككيان سياسي؛ حيث:
  • أصبح مُجمل الأداء الاقتصادي المصري عبر نصف القرن الماضي تقريبًا مرتبطًا بتقلبات الريوع الخارجية المتوفرة له[xxv]، والتي قدرها قمر وسوتو كمتوسط عام بحوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة (1970-2013)[xxvi]، فيما قدرها حازم الببلاوي بحوالي 20% منه خلال الفترة (1993-2005)[xxvii]، وكل منهما معدل عال بالمقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 8.7%، بل وحتى بالمقارنة بمعظم البلدان العربية غير النفطية نفسها[xxviii]، علمًا بأنه قد يكون أكبر لو أخذنا بالاعتبار كافة الأشكال غير المباشرة من الريع، وهو ما أدى إلى:
  • ظهور أعراض للمرض الهولندي[xxix] والاتجاه الريعي عمومًا[xxx] في الاقتصاد المصري، خصوصًا بسبب المعونات وتحويلات العاملين بالخارج؛ ما عزز الطابع الريعي مرةً أخرى لسببين، أولهما على المستوى الميكروي، بتوسيع نطاق الممارسات والأنشطة والقطاعات الريعية في الاقتصاد داخليًّا على حساب الممارسات والقطاعات المُنتجة، وثانيهما على المستوى الماكروي، بإضعافه الإنتاجية العامة والتنافسية الدولية؛ ما أضعف النمو والموارد المالية ذات الأصل الإنتاجي؛ لتزيد حاجة الحكومة واعتمادها على الموارد الريعية، اللذين كانا من محفزات تلك الحالة ابتداءً[xxxi].

وينتهي بنا هذا المسح الاقتصادي التاريخي شديد التبسيط والعمومية لنمط النمو ولمسار تكونه، إلى غلبة الطابع الريعي على النمط الاقتصادي المصري، بما يقرِّبه من نمط فخ الموارد المذكور، كذا يشير إلى أربع سمات رئيسية (مترابطة) لهذا النمط، نضعها في خلفية أذهاننا كأساس لتحليل منطق عمل الدولة المصرية اجتماعيّا ومؤسسيّا في سياق تمفصلها مع النمط وإدارتها له، وهي:

  • (عجز تصنيع وفائض عمل) موروثان بتوابعهما عن الرسملة المُختنقة بتبعيتها السوسيوتاريخية وطرفيتها الجيوتاريخية.
  • (مرض هولندي ومالية ريعية) مُستجدان بآثارهما مع الطفرة النفطية والانفتاح الاستهلاكي.

(4) الحالة الريعية الخاصة: الدولة الريعية-الاستبدادية

ارتباطًا بانزلاق مصر إلى نمط فخ الموارد المذكور، أخذت الدولة المصرية تتخذ طابعًا ريعيًّا متزايدًا، لينطبق عليها شكل الدولة في ظل ذلك النمط، الذي يميل -غالبًا- لأن يكون “دولة أوليجاركية عصابية أو دولة نهبية تنشر ريوع الموارد (عادةً ما بين 13 و23% من الناتج المحلي الإجمالي[xxxii]) لتعزيز المصالح الفئوية على حساب السياسة الاقتصادية المتماسكة والرفاهية الاجتماعية طويلة الأجل”[xxxiii]، فهي دولة لا تمثِّل شعبها بقدر ما تمثل مصالح النخبة الريعية المسيطرة عليها، وبحكم أولوية الموارد الريعية عندها، فإنها تصبح أقل اهتمامًا –بقدر توفر تلك الموارد وسعة نطاقها- بالتنمية الإنتاجية للاقتصاد المحلي وتوسيع سوقه القومية، فتتقدم اعتبارات العلاقات الدولية والمالية العامة على اعتبارات التنمية الاقتصادية محدودة الأفق، خصوصًا مع قلة الموارد المتاحة لبلد محدود الموارد الريعية بالنسبة لعدد سكانه كمصر[xxxiv].

تلك المحدودية في الموارد الريعية لم تنقذ مصر من نمط فخ الموارد أو نمط دول التخصيصات بتعبير جياكو لوشياني، الذي ذكر في سياق حديثه عن التداخل بين الأنماط في المنطقة العربية، أن “التمييز بين دول رصد التخصيصات ودول الإنتاج يصبح غابشًا، حين تكون هذه الدول على الحافة في التطبيق الفعلي، فالجزائر…، في حين أن مصر وتونس تتمتعان ببعض الدخل من الخارج؛ فهما ليستا من دول الإنتاج تمامًا، والظاهر أن الفارق الوحيد هو في درجة الضيق في الميزانية”[xxxv]، أي إنه فارق درجة لا فارق نوع!

ويزداد الطابع التسلطي لهذه الدولة مع تعاظم التناقض بين الطابع الريعي “اللاتنموي/الاستئثاري” (الكافي لتمويل دولة قمعية زبونية) من جهة، وتعاظم مطالب المُستبعدين من جنتي “التنمية الطرفية والتخصيص الريعي” الضيقتين (غير الكافيتين لتوفير فرص عمل ورفاهية عامة) من جهة أخرى؛ ولا عجب أن “يتزامن الطابع الريعي للدولة مع الأسلوب السلطوي في الحكم، وتضخم أجهزتها، وحدَّة الأسلوب الرقابي واحتوائها الشمولي للمجتمع…، حيث التملك الخاص هو ما يسم علاقة النخب الحاكمة بسلطة إدارة الدولة الريعية وتطويعها واحتكارها للحفاظ على مواردها المادية والسياسية، وعادةً ما تمارس هذه النخب وظيفة السلطة داخل الدولة باحتمائها الدائم بزعامة قوية وتعبوية، وباعتمادها الشبكة-الجماعة كأداة أو يد خفية مركزية في الحكم والمراقبة والتأثير والمراقبة، وبتكريس الزبونية السياسية…، كما لا تعتمد تلك النخب الريعية حكمًا هادئًا، بل تجدها محتاجة دائمًا لتنشيط وإذكاء التعبئة الرمزية والإعلامية كأداة للحكم”[xxxvi]، كشعارات “تحيا مصر”، “أم الدنيا”، لتكون “قد الدنيا”…إلخ، من شعارات فارغة المضمون لا تكلف السلطة شيئًا، فيما تصلح شعارات “وليمية” للتعبئة وتكميم الأفواه.

وفي هذا النمط، يكون احتكار السلطة شرطًا للاستئثار بعوائد الموارد، فيما تحصيل الموارد وسيلة لإدامة احتكار السلطة (أي إن العلاقة “الأساسية” بين السلطة والثروة عكس اتجاهها في أي نظام رأسمالي طبيعي[xxxvii]). وهكذا، فأخطر نتائج قيام هذه الدولة الريعية، هي “أن الدولة أصبحت وظيفتها الأساسية توزيع المزايا والمنافع على أفراد المجتمع…، فتظهر في شكل هيكل من الشرائح الريعية، وباعتبارها المصدر الأول للريع والملاذ الأخير للشرائح الريعية الأخرى…، فيمكن القول بأن معظم الثروات الخاصة لم تتكون بعيدًا عن ممارسات السلطة العامة في سياساتها الإنفاقية”[xxxviii].

هذا التشابك الوثيق بين العام والخاص على صعيد تحصيل -لا إنتاج- وتوزيع الثروة، وارتفاع أهمية أشكال التوزيع المباشر لها (ارتباطًا بانخفاض التنويع القطاعي ومن ثم التعقيد الاقتصادي)، فضلًا عن الضعف الأصيل لهذا النمط التنموي، بآثاره الاستبعادية (بطبيعته الاستئثارية المباشرة) التهميشية (بانخفاض حاجته للتشغيل الإنتاجي) المُركبة، تعمل مُجتمعةً على تعميق الصراع على الفائض الاقتصادي، وخصوصًا كلما ازداد الضغط الاجتماعي عليه بشكل يخفض وحدته للفرد (متوسط النصيب الحسابي للفرد)، ويعمق الشعور بسوء التوزيع بالضرورة.

ليس مفاجئًا إذن تغير أولويات الإنفاق العام بما يتسق مع هذا الاتجاه الريعي-الاستبدادي في الدولة، ما ظهر بشكل شديد الفجاجة في فترات التحول، كما كان بعد انتفاضة يناير/كانون الثاني 1977، فزاد عدد العاملين بأجهزة القمع من دفاع وأمن وعدالة بنسبة 212% تقريبًا، كأعلى نسبة زيادة بين جميع القطاعات، خلال ثلاث سنوات فقط (1977-1980/1981)، مقابل زيادتهم بنسبة 120% للعاملين بقطاعات التعليم والبحوث والشباب، و125% لقطاع الخدمات الصحية والاجتماعية، و143% بقطاعي التموين والتجارة…إلخ[xxxix]. وكإنفاق عام، بلغ نصيب نفقات أجهزة القمع في إجمالي الاستهلاك العام، ضعف نصيب نفقات التعليم والصحة فيه تقريبًا، أي 26.2% مقابل 12.9% عام 1976، و22.2% مقابل 12.9% عام 1980/1981[xl]، وهو الاتجاه الذي استمر لاحقًا طوال مرحلة مبارك[xli]، وما بعدها [xlii]بشكل غني عن البيان.

ولعل المفارقة في ما سبق، هي أن الدولة الساداتية الأكثر انفتاحًا من الدولة الناصرية من وجهة المظاهر السياسية، تبدو كدولة أكثر استبدادًا بمنظور الاقتصاد السياسي وعلم اجتماع المالية العامة؛ ما يؤكد إيجابية العلاقة بين النمط الريعي والاستبداد السياسي بشكل عام، في صورة الدولة متعاظمة الاتجاهات الريعية والميول التسلطية في ذات الوقت، مهما كان صخب كرنفالاتها السياسية! وهو ما ظهر في ترتيب مصر المتأخر على مؤشر الديمقراطية، بعد كل هذه العقود من الحديث عن الدمقرطة والحريات، فاحتلت المرتبة (130) من إجمالي (167) غطاها المؤشر عام 2017، بتقدير (3.36/10)، ما يقل عن المتوسط العالمي البالغ (5.52)، ما وضعها بجدارة ضمن مجموعة الدول الاستبدادية (الأسوأ ضمن مجموعات المؤشر الأربعة)، وبالطبع بتقديرات سلبية جدًّا للعناصر التفصيلية للمؤشر بالقياس للمتوسطات العالمية، من أداء حكومي ومشاركة سياسية وحريات مدنية…إلخ[xliii].

لكن هذا الطابع الريعي لا يقف عند هذه الحدود السياسية “المالية-البيروقراطية”، بل ينتقل لحدود أوسع كنسق اقتصادي شامل تحكمه ممارسات ريعية مُعمَّمة؛ ما ينقلنا من “مسار الموارد” (المُستورد في حالة مصر كبلد فقير الموارد الريعية بالأساس) إلى “مسار الريع” (المُعزز بجذور سوسيوتاريخية وإطار جيوتاريخي وتشوهات هيكلية مما سبق بيانه)؛ فقد انتهت غلبة الحقبة النفطية إلى “غلبة العقلية الريعية على الاقتصاد العربي في مجموعه في المراكز الريعية والإنتاجية على السواء؛ ما انعكس على أنماط السلوك في القطاعات الإنتاجية نفسها”[xliv].

 (5) الحالة الريعية العامة: النظام الكوربوراتي المحاسيبي

لا يمثل مسار الموارد (وبشكل أقل: نمط فخ الموارد) شرطًا كافيًا بذاته لهذه الحالة الريعية العامة، كما أنها يمكن أن توجد بدونه، لكنها تتعمق وتتعزز وتستحيل حالةً شاملة حال حلوله، بل إن أثره حتى على المستوى السياسي “يعتمد على كثير من السياقات غير المتصلة بالموارد الريعية ذاتها، وعلى رأسها الميراث التاريخي”[xlv]. لهذا لا تعارض بين القول بأن أصول الحالة الريعية في مصر “الريعية العامة” ترجع فعليًّا إلى نمطها الخاص من الرسملة الطرفية التابعة من جهة، والقول في ذات الوقت بالدور الهائل للطفرة النفطية “الريعية الخاصة” في تعميق وتعجيل وتيرة سيادة وانتشار هذه الحالة في جسدها الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى.

ويعني الانتقال من الريعية الخاصة إلى الريعية العامة، الانتقال من “ريعية الموارد” إلى “ريعية الممارسات”، ففيما تنحصر الأولى أساسًا في قطاعات ريعية بطبيعتها أو موارد ريعية بظرفها، يمكن أن تتسع الثانية، وغالبًا ما تفعل، لتشمل كافة القطاعات والأنشطة والممارسات في الاقتصاد والمجتمع، وغالبًا ما تقود الريعية الخاصة إلى العامة كلما تخلف المجتمع المعني، أي كلما انخفض مستوى تطوره؛ فلدى المجتمعات الأكثر تقدمًا آليات ووسائل لمقاومة الريعية العامة وكبح انتشارها، وإلا ما أصبحت -ولا استمرت- مجتمعات متقدمة من الأساس!

ويقودنا هذا لتمييز ضروري بين مدخلين أساسيين في تحليل الحالة الريعية العامة أو ريعية الممارسات، وهما مدخل “الأنظمة المُقيدة والمفتوحة”[xlvi] ومدخل “السعي للريع” [xlvii]، على ما بينهما من تعارض، يرى الباحث إمكان تجاوزه، إذا ما وُضعا في إطار رؤية تطورية لا ستاتيكية.

فمدخل الأنظمة المُقيدة يعترف بالريع كمُكون ضمن وجود أي نظام مهما بلغت درجة تطوره، لكنه يراه كمكون متناقص تدريجيًّا بتطور الأنظمة من مقيدة تكبح العنف بتخصيص الريوع على الجماعات القوية وفقًا لمدى قدرتها على تهديد النظام، إلى مفتوحة مستقرة القواعد وعامتها على كافة المفردات بالتساوي؛ فلا تحتاج لهذا التخصيص المقيد، فيما يرى مدخل السعي للريع تسلل مجموعات ولوبيَّات مختلفة لتحقيق ريوع من وراء ظهر الأنظمة المُقررة (ولو بشكل شرعي) كشكل من أشكال الفساد، فكأنما يعترف الأول بمشروعية الريوع، فيما يرفضها الثاني، وهو ما يبدو تناقضًا للوهلة الأولى، منبعه توحيد معايير قياس الفساد (خصوصًا الخاصة بالمجتمعات المفتوحة المتقدمة) عبر كافة المجتمعات، فيما ينتهي الإشكال لو ميزنا -نظريًّا على الأقل- بين “الريوع الضرورية” لاستقرار النظام المُقيد في ضوء مستوى تطوره، مما يُعد ضمن الترتيب السياسي “شبه المُعلن” للنظام نفسه، و”الريوع غير الضرورية” التي تُعد فسادًا صريحًا (حتى ولو اتخذت صيغة مُقننة)، في ضوء تجاوز مستوى التطور لضرورتها للاستقرار، بحيث لا تمثل جزءًا من ترتيبات يستطيع النظام الدفاع عنها علنًا وبصفتها الحقيقية.

ويدخل في باب المدخل الأول “الأنظمة المُقيدة والمفتوحة”، السمة “الكوربوراتية” للدولة المصرية، والتي تقوم على تأميم السياسة من خلال استراتيجيات تجمع بين الاحتواء/الاستبعاد (في المشاركة والحقوق والمزايا…إلخ) في التعاطي مع الجماعات المُنظمة القوية، فيجري التعامل معاها كجماعات عضوية تضامنية؛ فلا فردية شخصية كمستهلك في سوق حرة، ولا تنظيم مُستقلًّا كمواطنين ضمن فضاء ديمقراطي (لا عجب أن ربط البعض أصول الكوربوراتية بالدولة الريعية/البوليسية[xlviii])؛ فالتعامل الوحيد المشروع يكون من خلال التنظيمات التمثيلية/الصورية، التي تكون تحت هيمنة الدولة بدرجات تتفاوت بحسب قوة الجماعة الاجتماعية، فتسيطر الدولة على انتخابات النقابات والاتحادات وغيرها؛ لتفرض ممثلين موافقين لرغبتها، بتزوير الانتخابات وبغيره، كما تسترضي شيوخ القبائل القوية والعائلات الكبيرة (كما في سيناء والصعيد)، ليكونوا بالأحرى وسطاء سياسيين وأدوات هيمنة، لا ممثلين لمجموعاتهم.

وارتبط بهذه السمة العامة، سمتان فرعيتان: الأولى هي “بقرطة السياسة”، فالسياسة سُحبت لباطن الدولة، والقضايا كلها أصبحت قضايا فنية بحتة يحسم الجدل فيها الخبراء، وأصبح التنظيم السياسي الحقيقي للحكم هو جهازه البيروقراطي (يبدأ الأمر أولًا بتداخل بين أحزاب وتنظيمات حكومية/أمنية متداخلة مع بيروقراطية الدولة، ثم يصل لأقصى تجلياته بالعسكرة الشاملة لاحقًا)، والثانية المرتبطة بها هي “الزبونية السياسية”، أي علاقات الراعي-الزبون، التي تمثل الوجه الميكروي للكوربوراتية كنظام ماكروي، وضرورتها المنطقية، فهي التي تكفل التعبئة من أسفل عبر الممثلين لتكوين شبكة المؤيدين/المنفذين لسياسة الدولة، ويظهر تجليها الأكثر فجاجة في المظاهرات والفعاليات المُصطنعة وفي الانتخابات الديكورية التي تهواها الدولة المصرية كثيرًا، حيث تمثل مناسبة طيبة لاختبار ممثليها وتبديلهم بحسب مدى فاعليتهم!

أما بالنسبة للمدخل الثاني “السعي للريع”، فيدخل فيه بالأساس “رأسمالية المحاسيب” المصرية، وكافة أشكال “الفساد البيروقراطي”[xlix] (وبالطبع التواطؤ بينهما)؛ حيث النهب المُنظم -أغلب الوقت- بقنوات قانونية “شكليًّا”، فسادت الاحتكارات كافة قطاعات الاقتصاد المصري[l]، وتقيدت ممارسات اللبرلة من خصخصة وخلافه بهياكل وشبكات الدولة الكوربوراتية المحاسيبية؛ فوزعت الأصول والمزايا والأسواق على تلك الرأسمالية المحاسيبية باسم إطلاق قوى السوق الحرة والقطاع الخاص!

وسواء تعلق الأمر بتجليات الشكل الأول أو الثاني، فإنهما يتمظهران بشكل مباشر أو غير مباشر في ممارسات متعددة من الفساد الماكروي والميكروي، ما يؤكده مؤشر مدركات الفساد، الذي احتلت مصر مرتبته الـ (117) من إجمالي (180) دولة غطَّاها المؤشر عام 2017، بتقدير (32/100)، ما يقل عن المتوسط العالمي البالغ (43) وعن متوسط المنطقة العربية نفسها البالغ (38)، ويضعها ضمن الثُلث الأفسد عالميًّا[li]، ما تؤيده بشكل أعم مؤشرات الحكم الصالح، من محاسبة واستقرار وفاعلية حكومية ونوعية مؤسسات وحكم قانون وسيطرة على الفساد، التي سجلت مصر فيها جميعًا تقديرات سلبية تتراوح ما بين النصف والربع الأسوأ على مسطرة المؤشر (+2.5 إلى -2.5)، ومراتب دنيا تتراوح ما بين الثلث (34.13/100 للسيطرة على الفساد) والسدس (17.31/100 لنوعية المؤسسات)، وأحيانًا العُشر (9.05/100 للمحاسبة…) الأسوأ[lii]!

وإذا كانت الريعية الخاصة تحفز الاستبداد السياسي والتخلف المؤسسي كإمكانية تزداد بتخلف النمط والدولة، فإن الريعية العامة تفرضه، بل وتشترطه لاستمرارها؛ كونها بطبيعتها تنطوي على ممارسات فساد واستغلال فجة، وبعبارة أخرى، إذا كان أثر الأولى مشروطًا بالسياق العام والخلفية التاريخية (فلم يخلق المرض الهولندي نظامًا استبداديًّا في بلده الأم!)، فإن الثانية هي بذاتها السياق السلبي المُعزِّز للاستبداد، المُعزَّز به، أي سبب له ونتيجة عنه معًا في حلقة خبيثة تغذي نفسها بنفسها.

خاتمة: لماذا الدولة المصرية طاغية سياسيًّا، وإن ضعفت، عاجزة تنمويًا، وإن اجتهدت؟!

ربما يبدو السؤال نافلة بعد كل ما تم سرده، لكن لا بأس بإيجاز ختامي يجمع الخيوط الكثيرة، التي تفرقت، بشكل أكثر تركيزًا وترابطًا، كخطوط عريضة لفهم الاقتصاد السياسي للديمقراطية والتنمية في مصر:

أولًا: أسست الخلفية السوسيوتاريخية للنمط الاقتصادي الاجتماعي المصري لحالة من التخلف الهيكلي اقتصاديّا وسياسيًّا (بحالة مركبة من الرواسب الشرقية والتمفصلات الإنتاجية واختلال العلاقة بين علاقات وقوى الإنتاج بأشكال مختلفة على مستويي التنظيم الاجتماعي والمؤسسي للإنتاج والسلطة)؛ بشكل أضعف الفائض الاقتصادي الكلي (المُحدد الأول لحدود الديمقراطية الاقتصادية) وكبح تطور المجتمع المدني (مُحدد محتوى تلك الديمقراطية اجتماعيًّا)، مقابل مركزته للسلطة السياسية وتعزيز قوة بيروقراطيتها (معامل التحويل بين حدود الديمقراطية ومحتواها).

ثانيًا: كبَحَ الإطارُ الجيوتاريخي آفاقَ تطور الصناعة المصرية؛ بما أخلَّ بالتطور الطبيعي لعمليات التحضر الاجتماعي والتحول السكاني والتبلور الطبقي؛ بما أدى لعدد من الاحتجازات المانعة لكلٍّ من التطور الاقتصادي والسياسي، خصوصًا من خلال حلقة “فائض العمل وتجزؤ سوقه” المركزية في إضعاف التحول باتجاه الصناعة الثقيلة، وتنشيط النشاط النقابي، وتحسين توزيع الدخل…إلخ.

ثالثًا: عزَّز بروز الحالة الريعية الخاصة التي أُصيب بها الاقتصاد المصري منذ السبعينات، انحراف تطوره الهيكلي عن المسار الصناعي، محدود/مسدود الآفاق من الأصل؛ فعزَّز العناصر الكامنة باتجاه تفاقم الحالة الريعية العامة؛ بما أدى بالأساس إلى تباطؤ التعقيد الاقتصادي (ومن ثم كبح التبلور الاجتماعي)، وتعاظم قوة البيروقراطية-الكوربوراتية (ومن ثم تعزيز النظام المُقيد/المحاسيبي/الريعي)؛ أي بالمُجمل: إضعاف وتفتيت المجتمع المدني وتقوية الدولة وشبكتها الاجتماعية، فضلًا عن تبديد الفائض الاقتصادي وكبح التنمية الاقتصادية الاجتماعية بحالة “ركود ريعي” شاملة.

رابعًا: بتقوية الدولة (كبيروقراطية وعُصب زبائنية) وشبكتها الاجتماعية (من رأسمالية محاسيب احتكارية)؛ تعززت مركزيتها السياسية وعزلتها الاجتماعية معًا؛ فابتعدت عن الأولويات التنموية لمجتمعها من جهة، وغدت جهاز تراكم ثروة لصالح بيروقراطيتها ومحاسيبها من جهة أخرى[liii]؛ فأصبحت المركزية/الاستبدادية رأسمالًا بذاته بالنسبة للبيروقراطية، تحرص على الحفاظ عليه وتعزيزه لحماية مُكتسباتها؛ فازدادت أهمية الوسائل القسرية في الاحتفاظ بها، وفي حماية أوضاع سوء توزيع

[i] هوبز، توماس، اللفياثان..الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، أبو ظبي، 2011)، ص 14.

[ii] الأيوبي، نزيه، تضخيم الدولة العربية..السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، ترجمة أمجد حسين، (المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2010م)، ص 25.

[iii]  فلن تكون ورقة اقتصاد تقني أو بحت Pure Economics ولا ورقة علوم سياسية Political Science.

[iv]  استخدمت الأسماء الشهيرة المختلفة للنمط لوحدة المحتوى العام، ولتجنب الخلافات التي تخرج عن نطاق البحث بخصوصه، فما يهمنا هنا هو الفكرة العامة للنمط، حيث “تجتمع الخطوط العامة لهذه التنظیرات على أن أصل هذا النمط هو وجود مصدر واحد للمیاه في مجتمعات زراعیة واسعة، وغیاب مصادر للري الطبیعي كالأمطار؛ ما یتطلب سلطة مركزیة لرعایة شئون الري وتوزیع المیاه، سلطة استبدادیة تقوم على بناء وإدارة نظام ري اصطناعي، وتمتلك بموجب هذه المهمة الملكیة النهائیة للأرض التي تأخذ على مستوى القرى صورة الملكیة الشائعة أو ما یُسمى بالمشترك القروي، كما تقوم بالمشاریع الجماعیة بأسالیب السخرة وغیرها، وتحصل الریع أو الضرائب أو العمل القسري من الفلاحین من خلال الوسطاء القیمین على القرى كمُمثلین للسلطة”، انظر:

  • عبد الهادي، محمد مجدي، التغير الهيكلي والنمو الاقتصادي في مصر في الفترة (1961-2010م)..دراسة تحليلية، (رسالة ماجستير)، جامعة المنصورة، 2017م، ص 65.

[v]  كآدم سميث وجيمس ميل وكارل ماركس (الذي أسماه نمط الإنتاج الآسيوي)، وماكس فيبر (الذي وصفه بنمط الدولة البيروقراطية الهيدروليكية)، وكارل فيتفوجل (الذي راوح في تسميته ما بين نمط الاستبداد الآسيوي ونمط الإمبراطورية الهيدروليكية)، وسمير أمين بقدر من الخلاف (وأطلق عليه نمط الإنتاج الخراجي)، أما أشهر من طبقوه على الحالة المصرية فكانوا أحمد صادق سعد ونزيه الأيوبي.

[vi]  لطفي، سهير، “ندوة مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي وواقع المجتمعات العربية”، الفكر العربي (معهد الإنماء العربي)، (مج 5، العدد 35 و36، ديسمبر/كانون الأول 1983)، ص 338.

[vii]  الأنظمة المُقيدة هي الأنظمة المتخلفة سياسيًّا، فيما المفتوحة هي المتقدمة، وسيتم شرح المفهومين بإيجاز في موقعهما المناسب.

[viii]  نورث، دوغلاس، واليس، جون، ويب، ستيفن، وينغاست، باري، في ظل العنف..السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ترجمة كمال المصري، (عالم المعرفة 433، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2016م)، ص 410.

[ix]  لمناقشة أكثر شمولًا حول قضية التحديث المُستورد/غير النقدي، دولةً وقانونًا وثقافة، وآثاره وأسباب عدم نجاحه وسُبل علاجه، انظر:

  • بادي، برتران، الدولة المُستوردة..تغريب النظام السياسي، نقله إلى العربية لطيف فرج، (مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، 2017).

[x]  خلافًا للمفهوم الضيق للتكنولوجيا لصاحب الاقتباس، أرى التكنولوجيا هنا بالمعنى الواسع الذي يشمل الأشكال الأحدث من التنظيم والسيطرة.

[xi] El Beblawi, Hazem, Economic Growth in Egypt: Impediments and Constraints (1974-2004), (Commission on Growth and Development Working Paper, No. 14, 2008), p 9.

[xii]  نورث، دوغلاس، واليس، جون، ويب، ستيفن، وينغاست، باري، في ظل العنف..السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ص 423.

[xiii]  الأيوبي، تضخيم الدولة العربية، ص 211.

[xiv]  تقسم نظرية “دورة حياة المُنتج” حياة المُنتج لأربع مراحل (هي: الظهور والنمو والنضج والانحدار)، حيث يتحدد موقع إنتاج المنتج بحسب مرحلة حياته، فالمنتج في طور الظهور والنمو يكون إنتاجه “حكرًا” على المراكز الرأسمالية التي تكون الأقدر على ابتكاره وإنتاجه؛ وتحوز في المقابل أرباحًا احتكارية، ثم في مرحلة نضجه ينتشر إنتاجه بين عديد من المراكز الرأسمالية والدول الوسيطة، فتزداد المنافسة وتتنمط العمليات الإنتاجية وتنخفض الأرباح؛ ثم يصل لمرحلة التدهور بتحوله لمنتج تقليدي لا يحقق أية أرباح احتكارية ولا يتطلب مهارات عمالية خاصة؛ فتنقله الشركات الدولية للأطراف الرأسمالية لتعوض اختفاء الأرباح الاحتكارية بمزايا انخفاض الأجور وغياب التكاليف البيئية في تلك الدول، انظر:

  • عبد الهادي، مجدي، “الصراع حول العولمة..تناقضات التقدم والرجعية في توسع رأس المال عالميًّا”، جريدة القاهرة، السنة الثامنة عشر، العدد 896، 18 سبتمبر/أيلول 2017.

[xv]  وولرستين، إيمانويل، تحليل النظم الدولية، ترجمة أكرم علي حمدان، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2015)، ص 46-51.

[xvi]  محمد، كريم، “كيف نفهم الصراع في العالم العربي؟.. الباحث مجدي عبدالهادي يجيب”، (حوار)، حفريات، 23 سبتمبر/أيلول 2018م، (تاريخ الدخول: 29 سبتمبر/أيلول 2018):

  • https://www.hafryat.com/ar/blog/كيف-نفهم-الصراع-في-العالم-العربي؟-الباحث-مجدي-عبدالهادي-يجيب

[xvii] Bollen, Kenneth, “World System Position, Dependency, and Democracy: The Cross-National Evidence”, American Sociological Review, (Vol. 48, No. 4, Aug., 1983), pp. 468-479.

[xviii] Clark, Rob, “World-system position and democracy, 1972–2008”, International Journal of Comparative Sociology, (53(5-6), 2013) pp. 367–399.

[xix]  “يقوم نمط التصنيع التنافسي على دولة تنموية تعزز التنوع التنافسي، بدفع التصنيع والإصلاح المؤسسي عند مستوى دخل فردي منخفض؛ بما يعزز توسع الصناعة التحويلية كثيفة العمالة الموجهة للتصدير؛ ومن ثم الاستيعاب السريع لفائض العمل الريفي ودفع سوق العمل لنقطة تحوله (أي ارتفاع الأجور والاتجاه للرسملة وتنويع النشاط الصناعي)، وذلك ضمن مجموعة من التحولات الاقتصادية-الاجتماعية تشمل: تسارع التصنيع والتحضر (ومن ثم التحول السكاني وانخفاض معدل الإعالة وارتفاع الادخار)، وتعقد الاقتصاد (وبالتالي تزايد ضرورة المشاركة السياسية والاهتمام بالكفاءة ومكافحة السعي للريع)، وضبط سوق العمل وتحسن توزيع الدخل (مع تزايد المهارات وانخفاض تكاليف الصفقات بتراكم رأس المال البشري والاجتماعي)؛ وما ينتج عن كل ما سبق من اتجاه للدمقرطة الاقتصادية والسياسية وتماسك السياسة الاقتصادية واستقلالها وعدالتها النسبية.

أما نمط فخ الموارد فيعود إلى تطاول الاعتماد على صادرات السلع الأولية، بما يؤدي إلى تأخير مرحلة التصنيع كثيف العمالة (محرك التحولات الأساسي في النمط النقيض)؛ وهو ما يؤدي إلى اتجاهات مناقضة لاتجاهات النمط السابق، أهمها: اتجاه التنويع الإنتاجي لسلع أو مصادر دخل أولية أخرى، وبطء أو تراجع التصنيع والتحضر (ومعهما تأخر التحول السكاني وبطء انخفاض معدل الإعالة بنتائجهما)، وتأخر نقطة انقلاب سوق العمل (أي تزايد فائض العمل الريفي مع تزايد السكان دون استيعاب المدن له وتزايد تفاوت الدخل والتوترات الاجتماعية)، وعادةً ما يرتبط بهذا النمط دولة نهب أوليغارشية، تعمل على نشر السعي للريع، وتعزيز المصالح الفئوية على حساب السياسات المتماسكة، وفرض سياسة حماية تحمي الاحتكارات الصناعية دون أن تنميها لغياب المنافسة؛ فتكون النتائج النهائية لهذا النمط: انتقال الموارد إلى القطاعات المحلية غير الاتجارية محدودة الكفاءة، وتزايد اعتماد الاقتصاد على السلع ذات التنافسية والعوائد المتناقصة، وتزايد هشاشته واعتماده على الخارج، كذا تزايد التفاوت وبطء تراكم رأس المال المادي والاجتماعي والبشري، فضلًا عن تزايد البطالة وتشوه توزيع الدخل والأصول الاجتماعية لصالح الأقليات المسيطرة سياسيًّا؛ ومن ثم تزايد الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالتالي تفاقم الانقسامات الاجتماعية والتوترات السياسية”، انظر:

  • عبد الهادي، مجدي، “النزاعات في الوطن العربي..بين الجذور الهيكلية والعجز المؤسسي”، المستقبل العربي، (العدد 471، مايو/أيار 2018)، ص 21 و22.

[xx]  المركز المصري للدراسات الاقتصادية، كتيب الإحصاءات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية، إصدار 2018، ص 21.

[xxi] Hausmann, Ricardo, Hidalgo, César A., Bustos, Sebastián, Coscia, Michele [et al.], The Atlas of Economic Complexity: Mapping Paths to Prosperity, ( MIT Press, Cambridge-MA, 2014), p 64: 66.

[xxii]  ولابد أن نقرأ ذلك وعيوننا على الحاضر في مصر اليوم، مهما اختلفت التفصيلات والجزئيات!

[xxiii]  دويدار، محمد، الاقتصاد المصري بين التخلف والتطوير، (دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، 1978)، ص 148.

[xxiv]  قدم الدكتور رمزي زكي رحمه الله تفسيرًا للانفجار السكاني الذي تعانيه الدول المتخلفة بصفة عامة، ومنها مصر، يربطه فيها بنشأة التخلف (الهيكلي) في تلك الدول، والتدخل الاستعماري فيها بآثاره السلبي منها والإيجابي، فكانت “العوامل التي أدت إلى تخفيض معدل الوفيات من طبيعة خارجية، بينما العوامل التي أسهمت، وما زالت تسهم، في رفع معدل المواليد، من طبيعة داخلية، فضلًا عن أن العوامل الخارجية ذات تأثير نشط في إبقاء العوامل الداخلية المؤدية لارتفاع معدل المواليد،…، فقد استطاعت الدول الرأسمالية أن تعمل من خلال نشاطها داخل الدول المتخلفة، على تخفيض معدل الوفيات خلال فترة وجيزة، ولكنها عملت من ناحية أخرى وبنفس القوة باستغلال الدول المتخلفة وتطويق التطور فيها؛ ومن ثم الإبقاء على الظروف الاقتصادية والاجتماعية المسببة لارتفاع معدل المواليد”، وهو تفسير يتوافق بشكل معقول مع تصور مدخل التغير الهيكلي للترابط بين عمليات التصنيع والتحضر والتحول السكاني الذي يتبناه الباحث ويؤكد من خلاله على دورها -في إطار من علاقة تأثير وتأثر جدلية- في صياغة نمط النمو في ثنايا البحث؛ ما فرض بعضًا من التفصيل للتفسير المذكور هنا؛ كونه يؤكد “هيكلية” و”تاريخية” هذا الاحتجاز الديمغرافي، واستمرارية تأثيره حتى يومنا هذا؛ باستمرار أسبابه الهيكلية من جهة، وبتعميقه لمشكلات النمط؛ فإدامته من جهة أخرى! لمزيد من التفاصيل، انظر:

  • زكي، رمزي، المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، (عالم المعرفة 84، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1984)، ص 333 و334.

[xxv]  شهدت مصر نموّا مرتفعًا في الفترة (1974-1985م)، مع المساعدات الكبيرة من الأشقاء العرب واستعادة قناة السويس وحقول البترول في سيناء وارتفاع تحويلات العاملين بالخارج، ثم تراجعًا في النمو في الفترة (1986-1991م) مع انخفاض أسعار البترول وأثره السلبي على عوائد صادراته المصرية وتحويلات العاملين بالخارج والأثر السلبي لحالة عدم الاستقرار الداخلي والعمليات الإرهابية على عوائد السياحة، تلاه تحسن في النمو في الفترة (1992-1998م) مع تلقي مصر للثمن السياسي لمساهمتها في عاصفة الصحراء، بإسقاط جزء معتبر من ديونها، وبمساعدات كبيرة من الخليج العربي، ليعاود التدهور الكرة خلال الفترة (1999-2003م) مع تدهور عوائد السياحة بعد عملية الأقصر الإرهابية، وانخفاض أسعار النفط، وآثار الأزمة المالية العالمية أعوام (1997-1999م) وغيرها، انظر:

  • El Beblawi, Economic Growth in Egypt…, p 26-27.

[xxvi] Kamar, Bassem, Soto, Raimundo, Monetary Policy and Economic Performance in Resource Dependent Economies, (The Economic Research Forum (ERF), Working Paper 1123, July 2017), p 27.

[xxvii] El Beblawi, Economic Growth in Egypt…, p 24.

[xxviii] Kamar, Soto, Monetary Policy and Economic Performance…, p 27.

[xxix] Saab Maya Ayoub, Gretta, “The Dutch disease syndrome in Egypt, Jordan, Lebanon, and Syria: a comparative study”, Competitiveness Review: An International Business Journal, (Vol. 20 Iss 4, 2010) pp. 343-359.

[xxx]  “هذا التعميق للتبعية يتم من خلال التحول إلى اقتصاد ريعي، يتم على حساب القطاعات الإنتاجية (نشاطات الإنتاج المادي من زراعة وصناعة وما في حكمهما)، متمثلًا في زيادة الاعتماد على: “ريع البترول” بما يتضمنه استخراجه من تكنولوجيا لا يسيطر عليها الاقتصاد المصري، و”ريع تصدير القوة العاملة المصرية للخارج”، و”ريع الموقع” المتمثل في ريع السياحة وريع قناة السويس، و”ريع الفائدة” باتجاه تفضيل توجيه الادخارات الخاصة المحلية نحو إقراض الحكومة، أي تفضيل الفائدة كنوع من الدخل، وهو اتجاه ريعي، وكذلك تفضيل العيش على فائدة الودائع، وخاصة من العملات الأجنبية…، فضلًا عن دخول العاملين في المناصب العليا في القطاع العام والإدارة الحكومية دون مساهمة حقيقية في الإنتاج، والاتجاه الريعي للسياسة الاقتصادية السائدة في الابتعاد عن كل ما هو إنتاجي والاعتماد على الدخول الريعية” (بتصرف)، انظر:

  • دويدار، محمد، الاتجاه الريعي للاقتصاد المصري (1950-1980م)، (منشأة المعارف بالإسكندرية، 1982م)، ص 160.

[xxxi]  وكأنما ذلك التمويل الريعي ماء بحر، كلما شربت منه؛ ازددت ظمأ!

[xxxii]  ألا يذكِّرنا هذا النطاق بنسبة الـ 15 إلى 20% ريوع موارد/ناتج إجمالي الخاصة بمصر، سالفة الذكر؟!

[xxxiii] Auty, Richard M., “The political economy of resource-driven growth”, European Economic Review, (vol. 45(4-6), May. 2001), p. 844.

[xxxiv]  ولا أدل على ذلك من الملاحظة الميكروية الثاقبة لسامر سليمان عن التحول في الأهميات النسبية بين وزارات المالية والتخطيط والتعاون الدولي والبنك المركزي عبر نصف القرن الأخير، بدءًا من تراجع أهمية وزارة المالية لصالح وزارة التخطيط في الفترة الناصرية مع الاهتمام بالتنمية الاقتصادية بقيادة الحكومة، ثم انعكاس الاتجاه عمليًّا لصالح وزارة المالية والبنك المركزي مع الانفتاح الاقتصادي والتقليص المفترض لدور الحكومة والقطاع العام، كذا ارتفاع أهمية وزارة التعاون الدولي المسؤولة عن جلب المنح والإعانات وما شابه، انظر:

  • سليمان، سامر، النظام القوي والدولة الضعيفة..إدارة الأزمة المالية والتغيير السياسي في عهد مبارك، (الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الثالثة 2013م (2006م))، ص 230-233، 282-283.

[xxxv]  لوشياني، جياكومو، “دول رصد التخصيصات مقابل دول الإنتاج..إطار نظري”، المستقبل العربي، (العدد 103، سبتمبر/أيلول 1987م)، ص 88.

[xxxvi]  الشيحي، يعقوب، “عناصر أولية في سوسيولوجيا الدولة الريعية في المجتمعات العربية”، مجلة الفكر العربي المعاصر (مركز الإنماء القومي)، (مج 30، العدد 150-151، ربيع 2010م)، ص 155.

[xxxvii]  وهنا، تطل برأسها رواسب النمط الشرقي القديم في تكوين الدولة المصرية منذ قديم الأزل، فلا يمكن القول بأن هذه السمة مُستحدثة بالحالة الريعية الخاصة المُستجدة، فيقول فؤاد مرسي في هذا الصدد: “إذا كانت الملكية سبيل الوصول إلى السلطة والدولة في المجتمعات الأخرى، وبالذات في المجتمعات الأوربية، فإن الدولة كانت سبيل الوصول إلى الملكية في المجتمع المصري على اختلاف المراحل، وهى فكرة حقيقية انطبقت في الماضي، وما زالت تنطيق حتى الآن، وتمثل جانبًا أصيلًا من جوانب تطور المجتمع المصري…، وهذا ينطبق على الطبيعة البيروقراطية للدولة المصرية على مر العصور”، انظر:

  • لطفي، سهير، “ندوة مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي وواقع المجتمعات العربية”، ص 339.

[xxxviii]  الببلاوي، حازم، “الدولة الريعية في الوطن العربي”، المستقبل العربي، (العدد 103، سبتمبر/أيلول 1987م)، ص 70، 72.

[xxxix]  غنيم، عادل، النموذج المصري لرأسمالية الدولة التابعة..دراسات في التغيرات الاقتصادية والطبقية في مصر (1974-1982م)، (جامعة الأمم المتحدة ودار المستقبل العربي، القاهرة، 1986م)، ص 239.

[xl]  الأيوبي، نزيه، الدولة المركزية في مصر، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1989م)، ص 193.

[xli]  سليمان، سامر، النظام القوي والدولة الضعيفة، ص 71-99.

[xlii] ما يظهر حتى في ممارسات تظهر للوهلة الأولى كسوء تقدير للأولويات أو مجرد تأثير لبعض المؤسسات والفئات ذات المصلحة، كهوس بناء الطرق والكباري لربط المدن بعد 30يونيو2013، ما لم يكن أولوية حقيقية في بلد يعاني من تعطل آلاف المصانع وبطالة واسعة ومئات القرى التي لا تصلها الخدمات الأساسية، فيما كان الهدف الأساسي تسهيل وتسريع حركة الجيش للسيطرة على الدولة حال حدوث أي اضطرابات، على ما قال الرئيس، عبد الفتاح السيسي، نفسه لاحقًا، متباهيًا بقدرة الجيش على “الانتشار في البلد في ست ساعات فقط”، وبشبكة الطرق التي “تمسك بالبلد كده”، وهو ما يؤكد مرةً أخرى أولويات أمن النظام السياسي على التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشعب.

[xliii] The Economist Intelligence Unit, Democracy Index 2017..Free speech under attack, The Economist Corporate Network, 2017, p. 8.

[xliv]  الببلاوي، حازم، “الدولة الريعية في الوطن العربي”، ص 69.

[xlv] Malik, Adeel, From Resource Curse to Rent Curse in the MENA Region, (African Development Bank Working Papers, 2015), p. 8.

[xlvi]  لمزيد من التفاصيل حول مدخل الأنظمة المقيدة والمفتوحة، انظر:

  • نورث، دوغلاس، واليس، جون، ويب، ستيفن، وينغاست، باري، في ظل العنف..السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ترجمة كمال المصري، (عالم المعرفة 433، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2016م).

[xlvii]  لمزيد من التفاصيل حول مدخل السعي للريع، انظر:

  • Tullock, Gordon, The Rent-Seeking Society, (Liberty Fund, Indianapolis, 2005).

[xlviii] Ammous, Saifedean H., Arab Corporatism, (Working Papers 744, Economic Research Forum, 2012), p 17.

[xlix]  عبد الفضيل، محمود، رأسمالية المحاسيب..دراسة في الاقتصاد الاجتماعي، (الهيئة المصرية العامة للكتاب (مشروع مكتبة الأسرة)، القاهرة، 2012م)، فصل “آليات الفساد”، ص 93-101.

[l]  المرجع السابق، فصل “الرأسمالية الجديدة وتكوين المراكز الاحتكارية في الاقتصاد المصري”، ص 75-92.

[li] Transparency International, Corruption Perceptions Index 2017, Website (Visited in 3/10/2018): https://www.transparency.org.

[lii]  The World Bank Group, The Worldwide Governance Indicators (WGI) project, Website (Visited in 3/10/2018): http://info.worldbank.org/governance/wgi/#reports.

[liii] تشير بعض الدراسات إلى تجاوز الأثر السلبي لنظام التوزيع الاستهلاكي لدولة المصالح البيروقراطية–المحاسيبية هذه، للأثر السلبي للتبعية الاقتصادية والديون الأجنبية، خصوصًا بما تسببه من آثار ركودية كيفية طويلة الأجل على النشاط الاقتصادي، انظر:

  • Tsai, Ming‐Chang, “The State’s Interest Seeking and Economic Stagnation in the Third World..Cross-National Evidence”, The Sociological Quarterly, (Vol. 39, No. 1, Winter 1998), p. 102.