شوقي عرجون- *Chouki Ardjoune

 

ملخص

تتناول هذه الدراسة مسار تطور الدراسات الاستخباراتية في بريطانيا، مركزةً على تحولها من مجال مغلق ومحاط بالسرية إلى حقل أكاديمي معترف به، يخضع لمعايير البحث العلمي وآليات المساءلة الديمقراطية.

تنطلق الدراسة من فرضية أساسية مفادها أن التجربة البريطانية، رغم تعقيداتها وتناقضاتها، تمثل نموذجًا فريدًا يمكن الاستفادة منه، لا بوصفه قالبًا جاهزًا للتطبيق، بل كمجموعة من الدروس والمقاربات القابلة للنقد والاستلهام.

يستعرض البحث السياق التاريخي والسياسي لنشأة المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية، مع التركيز على الانفتاح التدريجي للمؤسسات الأمنية تجاه البحث الأكاديمي، بدءًا من إتاحة الأرشيفات ورفع السرية الجزئي، وصولًا إلى إنشاء برامج أكاديمية متخصصة في جامعات مرموقة مثل: King’s College London  وUniversity of Buckingham . كما يناقش البحث التداخل بين الأوساط الأكاديمية والأجهزة الاستخباراتية، وما يترتب على ذلك من إشكاليات تتعلق باستقلالية البحث الأكاديمي وحدود النقد.

تُبرز الدراسة عددًا من المعوقات البنيوية والسياسية التي تحول دون استنساخ التجربة البريطانية في الدول العربية، وفي مقدمتها هيمنة السرية المطلقة، وضعف الشفافية، وغياب الأطر القانونية المنظمة للنفاذ إلى المعلومات، إلى جانب محدودية الكفاءات الأكاديمية المتخصصة، وضعف ثقافة التوثيق التاريخي، والتداخل المعقد بين الأجهزة الأمنية والمؤسسات الأكاديمية.

في الختام، تدعو الدراسة إلى تبني مقاربة إصلاحية شاملة لتأسيس حقل أكاديمي عربي في الدراسات الاستخباراتية، ترتكز على تطوير البيئة التشريعية، ودعم البحث الأكاديمي المستقل، وتشجيع الجامعات على تقديم برامج دراسية متخصصة، بما يضمن بناء معرفة علمية رصينة حول قضايا الأمن القومي والاستخبارات، مع احترام ضرورات الأمن القومي ومتطلبات الشفافية والمساءلة.

الكلمات المفتاحية: الدراسات الاستخباراتية، المدرسة البريطانية، السرية، الشفافية، الأمن القومي، الإصلاح الأكاديمي، الدراسات الأمنية، الأكاديميا والاستخبارات، الشفافية والمسؤولية الديمقراطية.

Abstract

This study examines the trajectory of intelligence studies in Britain, focusing on the transformation from a closed, secrecy-bound field to a recognised academic discipline governed by scientific research standards and democratic accountability mechanisms. The study is based on the premise that the British experience, despite its complexities and contradictions, offers a unique model worth exploring—not as a ready-made template, but as a set of critical lessons and approaches that can inspire and guide similar efforts elsewhere.

The research outlines the historical and political context that gave rise to the British school of intelligence studies, emphasising the gradual opening of security institutions to academic inquiry, from the declassification of archives and partial disclosure to the establishment of specialised academic programmes at prestigious institutions such as King’s College London and the University of Buckingham. It also addresses the complex relationship between academia and intelligence agencies, highlighting concerns about academic independence and the limits of critical scholarship.

Moreover, the study identifies several structural and political obstacles that hinder the replication of the British experience in Arab contexts, including the dominance of absolute secrecy, lack of transparency, absence of legal frameworks for access to information, limited specialised academic expertise, weak archival practices, and the entrenched overlap between security services and academic institutions.

In conclusion, the study advocates for a comprehensive reform approach to establish an Arab academic field in intelligence studies. This approach should focus on developing a legal and institutional environment that guarantees access to information, supporting independent academic research, and encouraging universities to offer specialised programmes. Such efforts would contribute to building a robust body of knowledge on national security and intelligence issues, while balancing the imperatives of national security with the principles of transparency and accountability.

Keywords: intelligence studies, British school, secrecy, transparency, national security, academic reform, security studies, academia and intelligence, transparency and democratic accountability.

مقدمة

لم يكن موضوع الاستخبارات، بوصفه حقلًا معرفيًّا مستقلًّا، يحظى باهتمام كبير في الأوساط الأكاديمية أو في المجال العام، خصوصًا من حيث تحليل طبيعة عمل الأجهزة الاستخباراتية، ومساءلة أدوارها ضمن الأطر المؤسسية للدولة. وقد ظل هذا الموضوع لفترة طويلة محكومًا بالسرية المؤسسية والانغلاق، سواء من جانب الفاعلين الأمنيين أو من جانب النخب البحثية التي ترددت في مقاربة هذا المجال بحثيا لأسباب متعددة. غير أن سلسلة من التحولات الأمنية والسياسية الكبرى، وفي مقدمتها هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وهجمات لندن، عام 2005، والغزو الأنغلو-أميركي للعراق، عام 2003، دفعت إلى إعادة النظر في هذا الإهمال البحثي، وأثارت أسئلة جديدة حول حدود الاستخبارات، وجدوى ممارساتها، وموقعها ضمن المنظومة الديمقراطية.

في هذا السياق، برزت بريطانيا كحالة بحثية مثيرة للاهتمام؛ حيث عرف هذا الحقل الأكاديمي مسارًا متدرجًا وفريدًا، يختلف من حيث الخصوصية المؤسسية والسياق السياسي عن تجارب أخرى، لاسيما النموذج الأميركي. فبينما شهدت الولايات المتحدة نوعًا من التراكم البحثي المبكر نسبيًّا في حقل الدراسات الاستخباراتية، ظل هذا المجال في بريطانيا، حتى نهاية الثمانينات، مجالًا شبه محظور، يعاني من التعتيم والقيود القانونية الصارمة. لكن، ومع تعاقب التحولات السياسية، وضغوط المجتمع المدني، وتزايد التقارير الإعلامية التي سلَّطت الضوء على أنشطة الاستخبارات وخلفيات بعض العمليات الأمنية، بدأت مؤسسات الدولة البريطانية تتجه، بحذر، نحو رفع جزئي للسرية، وإتاحة بعض المواد الأرشيفية والوثائق الاستخباراتية التي كانت محظورة سابقًا؛ مما مهَّد الطريق أمام الباحثين للاقتراب من هذا الحقل وتطوير أدوات بحثية لفهمه.

وعليه، تهدف هذه الدراسة إلى تحليل المسار التاريخي والمؤسسي الذي أفضى إلى نشوء ما يُعرف بـ”المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية”، وتسليط الضوء على العوامل التي أسهمت في تبلورها كتيار بحثي مستقل ذي خصوصيات منهجية ومعرفية واضحة. كما تهدف إلى فهم الكيفية التي انتقل بها هذا الحقل من التهميش الأكاديمي إلى التأسيس المؤسساتي، وصولًا إلى إدماجه ضمن البرامج الجامعية البريطانية بوصفه مجالًا للبحث والتعليم.

ولا تقتصر أهمية هذه الدراسة على بعدها الوصفي أو التحليلي للتجربة البريطانية، بل تنبع كذلك من إمكانات استلهام هذا النموذج، نقديًّا، في السياقات العربية. إذ تسعى الدراسة إلى طرح تساؤل جوهري حول ما إذا كانت التجربة البريطانية قابلة للتكييف أو التوظيف في بيئات سياسية وثقافية مختلفة، تعاني من هيمنة السرية، وغياب الشفافية، وتقييد النفاذ إلى المعلومات.

وانطلاقًا من ذلك، تطرح الدراسة سؤالًا مركزيًّا:

ما العوامل التي أسهمت في تطور المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية؟ وما الذي يميزها عن غيرها من التجارب، لاسيما المدرسة الأميركية؟

ويتفرع عن هذا السؤال المحوري أربعة أسئلة فرعية:

  • ما أبرز العراقيل المهنية والسياسية التي أعاقت ترسيخ الدراسات الاستخباراتية في بريطانيا خلال العقود الماضية؟
  • كيف أسهمت التحولات السياسية والقانونية في إتاحة الأرشيفات والوثائق السرية أمام الباحثين البريطانيين؟
  • ما الخصائص المنهجية والمعرفية التي تميز المدرسة البريطانية عن نظيرتها الأميركية؟
  • ما مدى حضور الدراسات الاستخباراتية في المناهج الجامعية البريطانية؟ وما الأدوار التي تؤديها في تشكيل الوعي السياسي والمجتمعي بأعمال الاستخبارات؟

وللإجابة عن هذه الأسئلة، تنطلق الدراسة من الفرضيات التالية:

  • أن تطور الدراسات الاستخباراتية في بريطانيا لم يكن نتيجة طبيعية لتراكم أكاديمي داخلي، بل جاء استجابة لضغوط مجتمعية وسياسية، فُرضت عقب أزمات أمنية كبرى.
  • أن الانفتاح النسبي في السياسات الأرشيفية سمح بإعادة قراءة التاريخ الاستخباراتي البريطاني في سياق نقدي يتجاوز السرديات الرسمية.
  • أن المدرسة البريطانية تتميز بتركيزها على البعد التاريخي والتنظيمي والأخلاقي لأجهزة الاستخبارات، مقارنة بالمدرسة الأميركية التي تركز على الأبعاد العملياتية والتقنية.
  • أن إدماج حقل الدراسات الاستخباراتية ضمن برامج دراسات الأمن في الجامعات البريطانية عزَّز من مشروعية الاستخبارات موضوعًا بحثيًّا مستقلًّا.

منهجيًّا، توظف الدراسة المدخل التاريخي النقدي (Critical Historical Approach) بوصفه الإطار التحليلي الأكثر ملاءمة لتفكيك مراحل تطور هذا الحقل، والربط بين السياقات السياسية والقرارات المؤسسية، وتشكُّل الخطابات الأكاديمية. ويتيح هذا المدخل تجاوز التوصيف السردي، نحو تحليل بنيوي يركز على لحظات الانكشاف السياسي (كالأزمات والفضائح الاستخباراتية) التي مهدت لنشوء خطاب نقدي داخل الأوساط البحثية. كما يساعد على تفكيك أنماط إنتاج المعرفة، ورصد حدود إسقاط التجربة البريطانية على الدول العربية، بالنظر إلى تباين البنى القانونية والسياسية والمؤسسية.

أما على المستوى النظري، فتتأسس الدراسة على مقاربة تصف هذا التيار باسم “المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية”؛ وذلك استنادًا إلى مجموعة من المؤشرات الموضوعية، في مقدمتها وجود جماعة علمية متماسكة (Epistemic Community) تتشارك مرجعيات معرفية ومنهجية، من أبرز رموزها: كريستوفر أندرو (Christopher Andrew)، ومايكل هيرمان (Michael Herman)، وريتشارد ألدريتش (Richard Aldrich)، وبيتر غيل (Peter Gill). وتتميز هذه المدرسة باستخدام المنهج الكيفي، والتحليل التاريخي لطويل المدى، والتركيز على العلاقة بين الاستخبارات والديمقراطية، مع الاهتمام بأخلاقيات العمل الاستخباراتي.

كما أن تراكم الدراسات والأبحاث، ونشرها في مجلات متخصصة مثل Intelligence and National Security وJournal of Intelligence History، إضافة إلى تدريس هذا الحقل في جامعات بريطانية مرموقة مثل King’s College London وAberystwyth University، يعزز من استقلالية المدرسة البريطانية، ويمنحها طابعًا مؤسسيًّا. وقد أدى هذا الزخم المعرفي إلى حضورها الوازن في المؤتمرات الدولية، وتثبيت مكانتها إلى جانب مدارس أخرى كالأميركية والروسية.

وتختتم هذه المقدمة بتحديد المفاهيم المركزية التي تشكِّل الإطار الإبستمولوجي للدراسة، وتشمل:

الاستخبارات (Intelligence): مجموعة من الأنشطة الرامية إلى جمع وتحليل المعلومات السرية لخدمة القرار الأمني والسياسي.

السرية (Secrecy): مبدأ مؤسسي لحماية المعلومات الحساسة من الكشف.

رفع السرية (Declassification): عملية قانونية لإتاحة الوثائق السرية بعد زوال مبررات حمايتها.

التاريخ الرسمي للاستخبارات (Official Intelligence History): السرديات المعتمدة من الدولة بشأن نشاطات أجهزتها الاستخباراتية.

أرشيف الاستخبارات (Intelligence Archives): قاعدة الوثائق التي تُتاح لاحقًا للباحثين.

الرقابة البرلمانية (Parliamentary Oversight): آلية ديمقراطية لمساءلة الأجهزة الأمنية.

التوازن بين السرية والشفافية (Balance Between Secrecy and Transparency): إشكالية جوهرية في هذا الحقل، تسعى إلى ضمان الأمن القومي دون تعطيل حرية البحث الأكاديمي.

أولًا: معوقات الترسيخ الأكاديمي للدراسات الاستخباراتية في بريطانيا

جاءت بدايات الاهتمام الأكاديمي بدراسة الاستخبارات في مطلع القرن الحادي والعشرين في لحظة فارقة من تاريخ العلاقات الدولية؛ حيث أصبح الدور السري للمخابرات في الأمن العالمي والشؤون السياسية أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، نتيجة تعاظم التهديدات غير التقليدية وتكرار الإخفاقات الاستخباراتية(1). ومع ذلك، فقد واجهت محاولات تأصيل هذا الحقل العلمي في بريطانيا جملة من العراقيل البنيوية، كان أبرزها هيمنة منطق السرية، والممانعة المؤسسية تجاه الانفتاح، وتقييد آليات المساءلة.

  1. عقبة السرية

تميزت الثقافة السياسية البريطانية، طيلة القرن العشرين، بانتهاج سياسة متشددة في التعامل مع المعلومات الاستخباراتية، تقوم على الحجب الكامل والتكتم المؤسسي. وقد شكَّل هذا السياق أحد أكبر العوائق أمام ترسيخ حقل أكاديمي مستقل لدراسة الاستخبارات؛ إذ واجه الأكاديميون والباحثون صعوبات بالغة في النفاذ إلى الوثائق والأرشيفات؛ ما جعل من دراسة هذا المجال أمرًا محفوفًا بالعقبات القانونية والإجرائية.

دعمت الحكومات البريطانية المتعاقبة، من المحافظين والعمال، هذا التوجه، وأصرَّت على استمرار منطق السرية باعتباره دعامة أساسية للأمن القومي. ولم تكن هناك استثناءات تُذكر تسمح للباحثين المدنيين بالوصول إلى المعلومات، باستثناء حالات نادرة. ومع ذلك، ظهرت من حين لآخر مذكرات شخصية لضباط استخبارات متقاعدين منذ سبعينات القرن الماضي؛ ما خلق ديناميكية مزدوجة تجمع بين الحظر والتسريب، وأسهمت لاحقًا في تهيئة المناخ الفكري لنشوء حقل دراسي متمايز.

يعود أحد أبرز التعبيرات عن هذه الثقافة الرسمية إلى تصريح شهير لوزير الخارجية البريطاني، السير أوستن شامبرلين (Austin Chamberlain)، عام 1924، حين قال: “إن جوهر أي جهاز استخباراتي هو أن يكون سريًّا، وإذا ما بدأتَ في الكشف عن المعلومات، فمن الواضح تمامًا أنه لم يعد هناك جهاز استخباراتي سري”(2). وقد جاء هذا التصريح منسجمًا مع قانون الأسرار الرسمية لعام 1911، الذي صيغ خصيصًا لمنع نشر أو تسريب أية معلومات تتعلق بالأنشطة الاستخباراتية. غير أن المفارقة تتجلى في أنه، وبعد ثلاث سنوات فقط، قام وزير الخارجية ذاته بقراءة برقيات سوفيتية غير مشفرة أمام مجلس العموم، مبررًا بها قرار قطع العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي، وهو ما أسفر عن إلحاق أضرار جسيمة بجهود استخبارات الإشارة البريطانية في مواجهة الكتلة الشرقية(3). ورغم ذلك، ظلت الحكومات البريطانية متمسكة بسياسة التكتم، واستمرت في تعزيز إطار قانوني يُجرِّم كشف أسرار العمل الاستخباراتي دون تفويض رسمي.

إلا أن هذا الواقع لم يمنع الأوساط الثقافية من التفاعل مع موضوع الاستخبارات بوسائل غير مباشرة. فقد أسهمت فضائح التجسس السوفيتي في بريطانيا، وما أثارته من صدمة سياسية وإعلامية، في إحياء هذا الموضوع داخل الرأي العام، وإن بقي ذلك في إطار محدود. كما بدأ منذ مطلع السبعينات عدد من ضباط الاستخبارات السابقين بكتابة مذكراتهم وسيرهم الذاتية التي تناولت، بدرجات متفاوتة من الجرأة، نشاطاتهم داخل الجهاز(4). ويمكن اعتبار هذه الديناميكية التفاعلية بين “السرية المؤسسية” و”الانكشاف غير الرسمي” نقطة انطلاق أولية لظهور خطاب استخباراتي جديد يتجاوز الصورة الدعائية التي دأبت الدولة على تصديرها.

ومع مرور الوقت، أصبح موضوع التجسس رائجًا في الأدب الإنجليزي، وخصوصًا خلال الحرب الباردة، التي وفرت أرضًا خصبة لتخيل عمليات الاستخبارات وتحليل أبعادها السياسية. وفي هذا الإطار، تبرز روايات جون لو كاريه (John Le Carré)، الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية، التي لاقت رواجًا واسعًا رغم انتقاداتها الصريحة للسياسات البريطانية، وخصوصًا فيما يتعلق بتدخلاتها الخارجية في إفريقيا وأميركا اللاتينية بعد الحرب الباردة(5). وعلى الرغم من القوانين الصارمة التي تجرِّم إفشاء المعلومات الاستخباراتية، فقد تمكن العديد من الضباط السابقين من الكتابة حول هذا المجال، وإن بأساليب روائية أو أدبية أو ساخرة(6)؛ مما شكَّل أحد أبرز مفارقات التقليد البريطاني: ففي حين تُطبق قواعد قانونية صارمة تمنع الكشف غير المصرح به، إلا أن الكتابة عن الاستخبارات، في شكل من الأشكال، كانت أكثر شيوعًا في بريطانيا منها في أي بلد آخر.

وقد أسهم هذا التوتر البنيوي بين مطلب السرية الرسمي وحالات الانكشاف المجتمعي في تهيئة بيئة فكرية مواتية لتحويل الاستخبارات من موضوع “محظور معرفيًّا” إلى مجال مفتوح للنقاش والتحليل الأكاديمي. فمع تزايد التسريبات، وانتشار المذكرات الشخصية، والضغط الإعلامي المتصاعد، بدأ يتشكل حقل معرفي يتجاوز الرواية الرسمية، ويتجه إلى تحليل بنية العمل الاستخباراتي من حيث التنظيم، والثقافة المؤسسية، ونمط الأداء.

هذا التحول لم يكن معزولًا عن التحولات السياسية التي عرفتها بريطانيا منذ السبعينات، خاصة فيما يتعلق بتوسيع هامش المساءلة البرلمانية، وتنامي دور الإعلام الاستقصائي، والانفتاح المتدرج في السياسات الأرشيفية. وبهذا، بدأت ملامح المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية تتبلور، لا من حيث الموضوعات فحسب، بل أيضًا من حيث المقاربة المنهجية التي فضَّلت التحليل التاريخي والمؤسسي، بدلًا من الاقتصار على التقييم الأمني التقني. لقد أسس هذا الاتجاه لتقليد علمي مستقل يتمحور حول دراسة الاستخبارات بوصفها ظاهرة سياسية معقدة، تتقاطع فيها اعتبارات الأمن والديمقراطية، وتستدعي تأطيرًا نقديًّا يتجاوز ثنائية “النجاح أو الفشل”، لصالح فهم أعمق لبنية القرار، وإكراهات العمل السري، وحدود الشفافية في الأنظمة الديمقراطية.

 2- الضغط المجتمعي والمقاومة المؤسسية

شهدت الفترة التي أعقبت عام 1986 توترًا ملحوظًا بين الحكومة البريطانية ومجتمع الاستخبارات، بعد محاولة حكومة مارغريت تاتشر منع نشر مذكرات الضابط السابق في جهاز الأمن الداخلي (MI5)، بيتر رايت، التي حملت عنوان Spycatcher. وقد تضمنت هذه المذكرات اتهامات حساسة استهدفت شخصيات بارزة، منها مدير MI5 الأسبق، روجر هوليس، ورئيس الوزراء السابق، هارولد ويلسون، بالاشتباه في ارتباطهم بالاستخبارات السوفيتية. لجأت الحكومة إلى رفع دعوى مدنية ضد رايت في أستراليا، استنادًا إلى الإخلال بالواجب المهني، بدلًا من تفعيل قانون الأسرار الرسمية لعام 1911 المذكور آنفًا(7). وقد عكست هذه الخطوة محدودية القانون التقليدي في التعامل مع تسريبات الضباط المتقاعدين، وفتحت تدريجيًّا المجال أمامهم لنشر مذكراتهم، ضمن هامش محسوب من الإفصاح.

في هذا السياق، انتقد المؤرخ البريطاني البارز في حقل الاستخبارات، كريستوفر أندرو (Christopher Andrew)، في عام 1988، تمسك الدولة البريطانية بمنطق السرية المطلقة، معتبرًا أن رفع السرية لا ينبغي النظر إليه كتهديد، بل كوسيلة لإبراز الإنجازات التاريخية وتعزيز الفهم المؤسسي لأجهزة الاستخبارات. وقد تجلى هذا الموقف في كتابه المشترك مع أوليغ غورديفسكي (Oleg Gordievsky)، الصادر عام 1990، بعنوان الاستخبارات السوفيتية 1917-1990، والذي اعتمد على شهادات من داخل النظام السوفيتي، مع تأكيده في الوقت نفسه على محدودية الوصول إلى بيانات موثوقة تتعلق بالمؤسسات البريطانية ذاتها(8).

3- الانفتاح التدريجي

منذ مطلع التسعينات، بدأت بريطانيا اتخاذ خطوات تدريجية نحو تأطير النشاط الاستخباراتي بقواعد قانونية؛ حيث تم لأول مرة إدراج الأجهزة الثلاثة -جهاز الأمن (MI5)، وجهاز الاستخبارات السرية (MI6)، ومكاتب الاتصالات الحكومية (GCHQ)- ضمن إطار تشريعي يتيح نوعًا من الرقابة البرلمانية. وقد تجسد ذلك في إنشاء “لجنة الاستخبارات والأمن” (ISC)، سنة 1994، وهي لجنة تضم برلمانيين يُعيَّنون من قبل رئيس الوزراء، وتتولى مراقبة الإنفاق والسياسات والعمليات الاستخباراتية، من خلال ثلاث لجان فرعية تُوزع الاختصاصات بين مجلس العموم ومجلس اللوردات. وتُشكَّل لجان مؤقتة أحيانًا لأداء مهام محددة، ثم تُحل فور انتهاء مهامها، بينما تستمر لجان أخرى من دورة برلمانية إلى التي تليها(9).

ورغم هذا التقدم المؤسساتي، فإن العديد من النقاد لا يزالون يعدون وتيرة الانفتاح البريطاني “محدودة”، لاسيما عند مقارنتها بالتجربة الأميركية(10). ويُعزى هذا التقييد -لدى بعض الباحثين- إلى طبيعة الاستجابة الخارجية التي فُرضت على بريطانيا نتيجة التزاماتها تجاه الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وليس بسبب تحول داخلي عميق في الثقافة السياسية أو العقيدة الأمنية.

كما تعرضت فاعلية لجنة الاستخبارات والأمن إلى نقد شديد، خاصة بعد فشلها في تقديم تقييم مستقل بشأن مشاركة بريطانيا في حرب العراق؛ مما أضعف مصداقيتها في نظر الرأي العام. وفي الوقت ذاته، تزايد اهتمام البرلمان الأوروبي بأداء دور رقابي على أنشطة الاستخبارات، لاسيما من خلال التحقيق في مراكز الاعتقال السرية التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في أوروبا؛ مما أضفى بعدًا دوليًّا جديدًا على قضايا الرقابة والمساءلة.

بدأت أولى المحاولات الرسمية لرفع السرية بشكل مؤسسي مع حكومة جون ميجور، في عام 1992؛ حيث شرعت الأجهزة الاستخباراتية تدريجيًّا في تحويل سجلاتها إلى الأرشيف الوطني. وقد شملت هذه الخطوة دائرة الأمن، ومكاتب الاتصالات الحكومية، ومدرسة الشيفرة والكود الحكومي، في حين استمر جهاز الاستخبارات السرية (SIS) في الامتناع عن الإفراج عن ملفات عملياته خلال الحرب. ويعكس هذا التفاوت في الإفصاح اختلافًا في التصورات المؤسسية للتهديدات، وتباينًا في الهياكل البيروقراطية ومدى الاستعداد للانفتاح والرقابة.

ومن أبرز التطورات في هذا السياق تبني سياسة تعديل الوثائق بدلًا من حجبها بالكامل، من خلال إخفاء أسماء الأشخاص والمواقع الحساسة؛ مما أتاح للباحثين هامشًا أوسع من الاطلاع الأكاديمي، مع المحافظة على مقتضيات الأمن القومي. وقد شكَّل دخول “قانون حرية المعلومات” لعام 2005 حيز التنفيذ نقلة نوعية، رغم استثناء وكالات الاستخبارات من نطاقه؛ إذ بات بالإمكان الوصول إلى وثائق محفوظة لدى هيئات حكومية أخرى؛ مما وفَّر للباحثين مداخل غير مباشرة لفهم البنية الوظيفية والأداء المؤسسي للاستخبارات البريطانية.

إن التحولات التراكمية التي شهدها حقل الاستخبارات في بريطانيا منذ أواخر الثمانينات -من صدامات الحكومة مع ضباط سابقين، وضغوط الإعلام والأكاديميا، إلى الإصلاحات القانونية والرقابية- قد أسهمت في بلورة حقل أكاديمي جديد يُعرف اليوم بـ”المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية”. ولم تنشأ هذه المدرسة فقط استجابةً للرغبة في فهم الدور الاستخباراتي من منظور علمي، بل تأسست أيضًا على تفاعل معقد بين رفع السرية التدريجي، وتزايد الطلب الجامعي على تحليل الأمن القومي، والتحول من السرديات الأمنية إلى التحليل النقدي لدور المخابرات في صنع السياسات الداخلية والخارجية.

وقد أتاح هذا السياق الأكاديمي تأسيس تقليد بريطاني مميز في الدراسات الاستخباراتية، يجمع بين التحليل الوثائقي المنهجي، والفهم السياسي والمؤسسي لديناميكيات صنع القرار والرقابة، مع توظيف أدوات المنهج التاريخي وعلوم السياسة والعلاقات الدولية. وعليه، فإن هذه المدرسة تمثل تجربة أكاديمية نابعة من واقع سياسي خاص، وتقدم نموذجًا مغايرًا للمدرسة الأميركية التي تطورت في بيئة أكثر انفتاحًا ووفرة في الوثائق.

ثانيًا: مصادر ومناهج الدراسات الاستخباراتية في بريطانيا

بدأت بعض المحاولات لكتابة تاريخ الاستخبارات البريطانية منذ ستينات القرن العشرين، لكنها قوبلت بمقاومة شديدة، خاصة من قبل الحكومة. ففي عام 1984، ألَّف جوناثان بلوش وباتريك فيتزجيرالد كتابًا بعنوان “الاستخبارات البريطانية وعملياتها السرية في إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط”، تطرقا فيه إلى أبرز العمليات السرية التي نفذتها الاستخبارات البريطانية، كما تناولا علاقاتها مع نظيرتها الأميركية في مناطق مختلفة من العالم(11).

ظل الاهتمام الأكاديمي البريطاني بدراسة الاستخبارات خلال الثمانينات محدودًا، واقتصر في الغالب على عدد قليل من المؤرخين. وغالبًا ما عُدَّت الاستخبارات بُعدًا مفقودًا في دراسات العلاقات الدولية. وفي عام 1986، أسهم كريستوفر أندرو (Christopher Andrew) في تأسيس دورية الاستخبارات والأمن القومي (Intelligence and National Security)، التي أصبحت لاحقًا مجلة عالمية رائدة في هذا المجال، وأسهمت في تطوير الدراسات الاستخباراتية كفرع جانبي داخل حقل العلاقات الدولية، مدفوعة بتغيرات متسارعة في سياسات رفع السرية في بريطانيا(12).

رغم تمسك الثقافة البريطانية التقليدية بمبدأ السرية، فقد أُتيح الوصول إلى سجلات الاستخبارات البريطانية بوسائل متعددة، أبرزها: التاريخ الرسمي، والترتيبات التعاونية السرية، ومجموعات الوثائق التاريخية المختلفة. فعلى سبيل المثال، نُشر التاريخ الرسمي للمخابرات البريطانية في الحرب العالمية الثانية بعد عام 1979، واشتمل على ملفات مفصلة وموثوقة تركزت أساسًا على الحرب ضد دول المحور. ومع ذلك، لم تتضمن هذه الملفات معلومات عن الاختراقات التي قامت بها الاستخبارات السوفيتية، أو عن عمليات الخداع الإستراتيجي. ورغم اكتمال المجلد الأخير، سنة 1980، فقد تأخر نشره حتى 1990 بسبب تحفظات رئيسة الوزراء آنذاك، مارغريت تاتشر.

ولم تُبذل أي محاولة لاحقة لتكرار عملية توثيق التاريخ الرسمي للمخابرات البريطانية. ومع ذلك، أشار ريتشارد ألدريتش (Richard Aldrich) إلى إمكانية إجراء دراسة تحليلية مقارنة عن استخبارات الحرب الباردة. وعندما قرر جهاز الأمن (MI5) توثيق تاريخه بمناسبة مرور مئة عام على تأسيسه، تم اختيار البروفيسور كريستوفر أندرو لتنفيذ المشروع. وفي السياق نفسه، كُلِّف البروفيسور كيث جيفري (Keith Jeffery) من جامعة كوينز بكتابة مجلد التاريخ الرسمي لمصلحة الاستخبارات السرية (SIS)، والذي يغطي الفترة من 1909 إلى بدايات الحرب الباردة، وكان من المقرر نشره في عام 2010. وقد أتيحت للمؤرخين صلاحيات الوصول إلى الأرشيفات الخاصة بالمصلحة، مع التأكيد على ضرورة حماية المصادر الاستخباراتية.

في سياق موازٍ، ألَّف السير لورانس فريدمان (Lawrence Freedman) كتابًا عن التاريخ الرسمي لحرب الفوكلاند، تضمن تحليلات عن النشاطات الاستخباراتية البريطانية والمواقف الأرجنتينية تجاهها(13). وفي عام 1997، نشرت وزارة الخارجية البريطانية وثيقة بشأن طرد جماعي لضباط الاستخبارات السوفيتية في عام 1972، وقد تمكَّن بعض الكتَّاب البريطانيين من الوصول إلى ملفات SIS لفترة ما قبل الحرب، مثل غوردون بروك-شيفرد (Gordon Brook-Shepherd) الذي استخدم هذه الملفات في دراسته عن الاستخبارات الغربية والثورة البلشفية(14). كما استعان ألان جود (Alan Judd) بهذه الملفات لكتابة السيرة الذاتية لأول مدير لـSIS، السير مانسفيلد كومينغ (Mansfield Cumming)، وكذلك فعل أندرو كوك (Andrew Cook) في تأليف سيرة سيدني رايلي (Sidney Reilly)، أحد أبرز ضباط الاستخبارات.

وأسهمت الاستخبارات البريطانية أيضًا في نشر كتب تناولت أنشطة الاستخبارات السوفيتية خلال الحرب الباردة. ففي عام 1990، نشر أوليغ غورديفسكي (Oleg Gordievsky)، وهو ضابط مخابرات سوفيتي انشق لصالح SIS، مذكرات مشتركة مع كريستوفر أندرو كشفت حقائق عن العمليات السوفيتية. وفي عمل لاحق، تعاون فاسيلي ميتروخين (Vasili Mitrokhin) مع أندرو لنشر ملفات من الاستخبارات الروسية اعتمدت على وثائق حقيقية، نتج عنها ثلاثة كتب مهمة صدرت قبل وفاة ميتروخين في لندن، عام 2004(15).

ونظرًا لصعوبة الوصول إلى أرشيفات الاستخبارات بشكل مباشر، أشار كريستوفر أندرو إلى إمكانية استخدام ما سماه “ملفات الجوار” (adjacent files)، أي الوثائق الموجودة في وزارات الخارجية والداخلية والسفارات البريطانية، أو تلك الخاصة بالحلفاء مثل دول الكومنولث. بل إن بعض أرشيفات “إدارة العمليات الخاصة” البريطانية ظهرت في الأرشيف الوطني الأميركي بعد أن تم إيداعها بمكتب الخدمات الإستراتيجية هناك في الثمانينات(16).

ومن المصادر المهمة الأخرى “أرشيف الخصوم”، وهو يتضمن مواد مسربة أو محجوزة أو تم الحصول عليها لاحقًا، مثل محضر اجتماع استخباراتي بين الـCIA وSIS، عام 1953، حول اختراق الاتصالات السوفيتية في برلين، الذي كشف عنه لاحقًا جورج بليك (George Blake) بالتعاون مع سيرجي كوندراشيف (Sergei Kondrashev). كما وفر نايجل وست (Nigel West) وأوليغ تساريف (Oleg Tsarev) قوائم بمحتوى أرشيف KGB الذي حصل عليه أنتوني بلنت وكيم فيلبي، استنادًا إلى وثائق أتيح الوصول إليها لتساريف.

ويُعد عمل بول مادريل (Paul Maddrell) حول سجلات وزارة أمن الدولة الألمانية الشرقية (شتازي) مثالًا بارزًا في توظيف أرشيف الخصوم لفهم أنشطة الاستخبارات الغربية إبان الحرب الباردة.

من خلال كل ما سبق، يتضح أن تطور الدراسات الاستخباراتية البريطانية يعكس صراعًا دائمًا بين السرية والمساءلة، والتوتر بين الرغبة في كشف الحقائق والقيود السياسية والقانونية. وقد شكَّلت مقاومة الحكومات البريطانية لرفع السرية عائقًا أساسيًّا أمام الباحثين؛ مما أخَّر تأسيس حقل أكاديمي منظم. ومع ذلك، فإن مساهمات الباحثين والضباط السابقين الذين تحدوا هذه القيود، فضلًا عن الانفتاح الجزئي للأرشيفات، قد مهَّدت الطريق لبناء معرفة أعمق وأشمل حول عمل أجهزة الاستخبارات البريطانية.

هذا الانفتاح التدريجي أسهم في خلق توازن نسبي بين السرية والشفافية، ووفر للباحثين أدوات تحليلية جديدة لفهم التجربة البريطانية في مجال الاستخبارات. كما بيَّن أهمية الاعتماد على مصادر متعددة ومتنوعة، بما في ذلك الأرشيفات الحكومية، والأجنبية، وحتى أرشيفات الخصوم، لفهم السياقات التاريخية والسياسية المعقدة.

وقد نشأت المدرسة البريطانية في هذا المجال من تيارين معرفيين رئيسيين: الأول عسكري، تمثل في أعمال مؤرخين عملوا سابقًا في الميدان الاستخباراتي مثل رالف بينيت (Ralph Bennett) وباتريك بيسلي (Patrick Beesly)، والثاني أكاديمي، تأثر بمساهمات باحثين في العلاقات الدولية مثل الإيطالي ماريو توسكانو (Mario Toscano)، الذي قدم، في عام 1950، ورقة بحثية حول “مشكلات خاصة في تاريخ الحرب العالمية الثانية”، أعيد نشرها لاحقًا ضمن مؤلفاته(17).

ورغم تفاوت السياسات المتعلقة برفع السرية بين الدول، إلا أن مبدأ حماية المصادر والأساليب يظل جامعًا مشتركًا لدى أجهزة الاستخبارات جميعها. ففي حين أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) أبدت مرونة نسبية في الإفراج عن الوثائق، مع التأكيد على حماية عملائها، لا تزال هيئة الاستخبارات السرية البريطانية أكثر تحفظًا. فقد امتنعت الأخيرة عن رفع السرية عن تفاصيل حساسة، مثل قضية بينكوفسكي(18)، التي تضمنت معلومات عملياتية دقيقة ومحاضر استخلاص معلومات أجراها ضباط بريطانيون وأميركيون، بالإضافة إلى خرائط وكلمات سرية.

ومن أبرز أسباب التحفظ البريطاني، استمرار استخدام بعض الأساليب القديمة، مثل آلة إنغما (Enigma) التي استُخدمت في تعمية الرسائل خلال الحرب العالمية الثانية، من قبل دول أخرى حتى ما بعد الحرب(19). ومع ذلك، يرى البعض أن العديد من تلك الأساليب القديمة لم تعد تحمل حساسية أمنية بالغة، ما يستدعي إعادة النظر في استمرار حجبها باسم الأمن القومي.

في ضوء ما تقدم، تبين أن المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية تقوم على تقاليد عريقة وتجربة متراكمة، وتقدم نموذجًا علميًّا فريدًا يتكامل فيه البعد التاريخي مع التحليل المؤسسي والسياسي؛ ما يجعلها مرجعية مهمة في فهم العلاقة بين الاستخبارات والسياسة والأمن في السياق الغربي الحديث.

 

ثالثًا: مضامين المدرسة البريطانية وإشكاليات الاستلهام العربي

تطورت الدراسات الاستخباراتية بوصفها فرعًا أكاديميًّا بشكل بطيء وانتشار محدود داخل الجامعات العالمية، ويُعزى ذلك أساسًا إلى الطابع السري الذي يحيط بهذا المجال، بالإضافة إلى تردد الأوساط الأكاديمية في التعامل المباشر مع الأجهزة الاستخباراتية، خشية الوقوع تحت ضغوط أو استهداف من قبل المؤسسات الأمنية. ومع ذلك، بدأ العديد من الجامعات، في دول مختلفة، بإدراج برامج تدريس وبحوث متخصصة تتناول الاستخبارات كظاهرة سياسية وأمنية تستحق الدراسة والتحليل. وقد شهدت بعض الجامعات، لاسيما في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا وألمانيا وإسرائيل، تقديم دورات متخصصة في الدراسات الاستخباراتية خلال فترة الحرب الباردة، بينما ظلت معظم البرامج الأكاديمية في العلاقات الدولية، والعلوم السياسية، والتاريخ، وتحليل النزاعات، تتجنب تناول هذا الموضوع بشكل مباشر(20).

وقد شهد ربع القرن الأول الذي أعقب الحرب العالمية الثانية ازدهارًا ملحوظًا في البرامج الأكاديمية المتعلقة بالعلاقات الدولية، والتاريخ الدبلوماسي، ودراسات المناطق في مؤسسات التعليم العالي في أميركا الشمالية والعالم الغربي عمومًا. غير أن هذا النمو الكبير لم يشمل دمج موضوع الاستخبارات في المناهج الدراسية؛ إذ لم تقدم سوى قلة قليلة من الهيئات الأكاديمية، قبل أواخر سبعينات القرن العشرين، مقررات أو وحدات دراسية متخصصة في مجال الدراسات الاستخباراتية(21).

في بريطانيا، تم إدخال محتوى الدراسات الاستخباراتية إلى المؤسسات الأكاديمية من قبل السير فرانسيس هاري هنسلي (Sir Francis Harry Hinsley)، الذي ترك العمل الحكومي وتولى منصب أستاذ العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج، سنة 1969. وفي تسعينات القرن الماضي، شرع كريستوفر أندرو (Christopher Andrew) في إدراج مساق دراسي حول التاريخ والاستخبارات ضمن برنامج “تريبوس” (Tripos) في قسم التاريخ بجامعة كامبريدج(22).

وقد أدى تنامي الاهتمام البحثي بالشأن الاستخباراتي إلى ظهور مجلات أكاديمية متخصصة أسهمت في تأطير هذا المجال معرفيًّا. ففي عام 1985، أطلق كريستوفر أندرو ومايكل هاندل (Michael Handel) “مجلة الاستخبارات والأمن القومي” في المملكة المتحدة، وفي العام نفسه تأسست “مجلة الدراسات الدولية للاستخبارات ومكافحة التجسس” برئاسة تحرير ريس براون (Reese Brown) في الولايات المتحدة. كما أُنشئت مجلة ثالثة متخصصة بعنوان “مجلة التاريخ الاستخباراتي”، سنة 2001، وذلك من قبل جمعية تاريخ الاستخبارات الدولية ومقرها ألمانيا. وفي عام 2007، أُطلقت “المجلة الأوروبية للدراسات الاستخباراتية” بصيغة إلكترونية، بإشراف تحريري بلجيكي-هولندي. ومع الوقت، أصبحت المؤتمرات السنوية للجمعيات الدولية مثل ISA (الرابطة الدولية للدراسات) وCASIS (جمعية الدراسات الاستخباراتية الكندية) فضاءات بحثية مفتوحة، أسهمت في تطوير حوار فكري وتوفير موارد تعليمية، وتكوينات أكاديمية متخصصة في مجال الدراسات الاستخباراتية(23).

إن المساهمات التي قدمها عدد من المفكرين البريطانيين، في عام 1985، ضمن فعالية علمية نظمتها جامعة إكستر، يمكن عدُّها مؤشرًا على تشكُّل نواة لمدرسة متميزة من الباحثين البريطانيين في مجال الدراسات الاستخباراتية. وقد تجلى هذا التوجه في الكتاب الجماعي، الصادر عام 1984، والذي حرره كريستوفر أندرو (Christopher Andrew) وديفيد ديلكس (David Dilks)، تحت عنوان: البُعد المفقود: الحكومات والمجتمعات الاستخباراتية في القرن العشرين (The Missing Dimension: Governments and Intelligence Communities in the Twentieth Century). وقد سبق هذا العمل كتابات ومحاضرات مبكرة، أبرزها المحاضرة التي قدمها البروفيسور إرنست ماي (Ernest May) في جامعة هارفارد، سنة 1980، والتي نُشرت لاحقًا، في عام 1984، تحت عنوان “معرفة الأعداء: تقييم الاستخبارات قبل الحربين العالميتين” (Knowing One’s Enemies: Intelligence Assessment Before the Two World Wars). وقد لفت الأنظار خلال ذلك المؤتمر أن أكثر من نصف المساهمين والمناقشين كانوا من الباحثين البريطانيين، وهو ما يعكس حجم اهتمامهم المتزايد بالمجال الاستخباراتي وتطويره أكاديميًّا(24).

وبناءً عليه، يمكن تصنيف بريطانيا بوصفها الدولة الأوروبية الأولى من حيث حجم الإنتاج العلمي والأكاديمي في حقل الدراسات الاستخباراتية، مقارنة بدول أوروبية أخرى مثل ألمانيا أو إسبانيا أو فرنسا. ففي الوقت الذي يُنشر فيه كتاب واحد حول الاستخبارات في فرنسا، تُقابل ذلك عشرة كتب أو أكثر تصدر في بريطانيا والولايات المتحدة، وهو ما يبرز التفوق الكمي والنوعي النسبي لهذا المجال في السياقين الأنجلوساكسونيين.

وقد كان “البُعد المفقود” في مرحلة التأسيس لهذا الحقل العلمي يتمثل في غياب التحديد المنهجي الدقيق لمجالات الدراسة وأنواع الإشكاليات التي يتناولها، إلا أن مرور الزمن سمح ببلورة تصنيفات أكثر وضوحًا، على الرغم من استمرار التحديات المرتبطة بإقناع الحكومات بضرورة الإفراج عن مزيد من المعلومات والوثائق لدعم الدراسات التاريخية. ويظل الإفراج المحدود وغير المنتظم عن مواد الاستخبارات، لاسيما تلك المتعلقة بفك الشيفرات في منتصف القرن العشرين، أحد أهم العوائق أمام الباحثين، ويؤدي أحيانًا إلى تحميل مسؤولي الأرشيف تبعات القرارات الرسمية، مما يُحبط المؤرخين ويدفعهم إلى سدِّ الفجوات من خلال استنتاجات غير مباشرة واستدلالات مفسرة(25).

وعلى مستوى التصنيف المعرفي، يمكن التمييز داخل حقل الدراسات الاستخباراتية بين قسمين رئيسيين: دراسات الاستخبارات في زمن السلم، ودراسات الاستخبارات في زمن الحرب. وفي كلتا الحالتين، تبرز ثلاث مراحل منهجية أساسية ينبغي الانتباه إليها: أولًا: الطريقة التي تُنجز بها عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية؛ ثانيًا: الآليات المعتمدة لتقييم تلك المعلومات وتحويلها إلى مادة “استخباراتية” قابلة للتوظيف؛ وثالثًا: حجم التأثير الذي تُحدثه هذه المعلومات على رسم السياسات العامة وصياغة الإستراتيجيات العليا.

وضمن هذه الانقسامات المنهجية في الدراسات الاستخباراتية، يُلاحَظ وجود تباينات واضحة بين مجالات الاستخبارات العسكرية، والأمن الداخلي، وعمليات التخريب وزعزعة الاستقرار، إضافة إلى استخبارات الإشارات وعمليات الخداع الإستراتيجي(26).

ومن بين العوامل التي أسهمت في التقدم الذي أحرزته المدرسة التاريخية البريطانية في دراسة الاستخبارات في زمن السلم، الاهتمام الكبير بالسجلات البريطانية التي استند إليها المؤرخون -ولا تزال قابلة للاستخدام- في إعادة بناء عمليات صنع القرار السياسي، والصور النمطية التي كانت تتبنَّاها الحكومة البريطانية حيال العالم الخارجي، انطلاقًا من الوثائق المتاحة لصنَّاع السياسات آنذاك(27).

وقد اتسمت المناهج التعليمية المعتمدة في حقل الدراسات الاستخباراتية ضمن الأوساط الأكاديمية، لاسيما في مراحل النشأة الأولى، بوجود أربع مقاربات نموذجية لتدريس الاستخبارات في مؤسسات التعليم العالي، وهي:

المقاربة الوظيفية: التي تركز على دراسة الأنشطة والعمليات التشغيلية التي تقوم بها الأجهزة الاستخباراتية.

المقاربة الهيكلية: وتهدف إلى تحليل دور وكالات الاستخبارات والأمن في تسيير الشؤون الدولية.

المقاربة السياسية: وتتناول الاستخبارات من زاوية علاقتها بصنع القرار والسياسات العامة.

المقاربة التاريخية: التي تركز على التجارب السابقة والشخصيات البارزة في المجال الاستخباراتي.

ورغم ندرة المحاولات في الدول الغربية لتطبيق المحاكاة كوسيلة تعليمية في الفصول الدراسية الخاصة بالدراسات الاستخباراتية، فإن بعض النماذج تُظهر فاعلية هذا النهج. فعلى سبيل المثال، في برنامج الماجستير في الدراسات الاستخباراتية والأمنية بجامعة برونيل (Brunel)، يستخدم الأستاذ فيليب ديفيس (Philip H. J. Davies) أسلوب “المشروع الجماعي” لتعريف طلاب الدراسات العليا بآليات التحليل الاستخباراتي البريطاني، والذي يُعرف في بريطانيا بمصطلح “التقييم” (Assessment). ويُعد هذا النوع من “تمارين التقديرات” من أكثر الأدوات التعليمية “النشطة” شيوعًا في تدريس الاستخبارات؛ حيث يضع الطلاب أمام تحديات صياغة تنبؤات بعيدة المدى حول الشؤون العالمية. وتتميز هذه التمارين بكونها بديلًا فعالًا عن الطرق البحثية التقليدية، وقد أسهمت في إنتاج مؤلفات أكاديمية كتبها الطلاب أنفسهم استنادًا إلى هذه التجربة التعليمية.

وبالمثل، يعتمد الأستاذ كريستيان ويتون (Kristan J. Wheaton)، من كلية ميرسيهورست (Mercyhurst)، منهجًا غير تقليدي في تدريسه؛ حيث يستخدم الحواسيب وبرامج الألعاب الإلكترونية أداةً لتدريب الطلاب على الإستراتيجية الوطنية للاستخبارات في الولايات المتحدة. ويؤكد هذان النموذجان -في بريطانيا والولايات المتحدة- فعالية منهج المحاكاة في التعليم، إلى جانب الإستراتيجيات التقليدية، لما له من أثر ملموس في تعميق فهم الطلاب وتقديرهم للمادة الأكاديمية(28).

رغم ما شاب التجربة البريطانية من ترددات مؤسسية وتوتر دائم بين مقتضيات السرية ومتطلبات الانفتاح، فإنها تُعد نموذجًا رائدًا لتحول الدراسات الاستخباراتية من مجال محظور إلى حقل أكاديمي معترف به، يخضع لمنهجية البحث العلمي وآليات المساءلة الديمقراطية. ويطرح هذا النموذج، بما له وما عليه، تساؤلات جوهرية عند محاولة استحضاره في السياقات العربية: هل تستطيع الدول العربية، بما تنطوي عليه من خصوصيات سياسية وقانونية وثقافية، أن تسلك مسارًا مشابهًا؟ وهل يمكن الحديث، في ظل هيمنة السرية وضعف الشفافية وقيود الوصول إلى المعلومات، عن ملامح أولية لتأسيس حقل أكاديمي عربي في الدراسات الاستخباراتية؟

في هذا الإطار، تكتسب محاولة إسقاط التجربة البريطانية أهميتها، لا باعتبارها نموذجًا جاهزًا للاستنساخ، بل بوصفها مصدرًا غنيًّا بالدروس والمفارقات التي قد تُسهم في إضاءة الطريق نحو بناء دراسات استخباراتية عربية مستقلة، تتميز بالعمق التحليلي والصرامة المنهجية، وتستند إلى فهم مؤسسي للسياقات الأمنية والسياسية في المنطقة.

حدود محاكاة التجربة البريطانية في الدول العربية

يمكن رصد جملة من المعوقات البنيوية والمؤسسية التي تعرقل إمكانية محاكاة التجربة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية داخل السياقات العربية. من أبرز هذه المعيقات هيمنة منطق السرية المطلقة على الأجهزة الأمنية، وغياب أطر قانونية واضحة تنظم آليات رفع السرية أو إتاحة الأرشيفات التاريخية أمام الباحثين، لاسيما تلك المرتبطة بتاريخ مواجهة الاستعمار أو بالحروب العربية-الإسرائيلية، ودور أجهزة المخابرات فيها. كما تعاني الجامعات العربية من غياب شبه تام لمراكز بحثية متخصصة في دراسات الأمن والاستخبارات، فضلًا عن ندرة الباحثين المؤهلين أكاديميًّا في هذا المجال، وهو ما يرتبط بدوره بغياب التكوين العلمي المنهجي في موضوع الاستخبارات.

تُضاف إلى ذلك اعتبارات سياسية تتصل بخشية الأنظمة من كشف حقائق قد تُحرج مؤسسات الدولة أو تفضح ممارسات تنتهك الحقوق والحريات؛ مما يُبقي هذا الحقل ضمن “المنطقة المحظورة معرفيًّا”. كما أن ضعف ثقافة التوثيق التاريخي الرسمي، وتضارب المصالح بين المؤسسات الأمنية والهيئات الأكاديمية، يُشكِّل عائقًا إضافيًّا أمام بناء تراكم معرفي منظم يشبه ما تحقق في السياق البريطاني. وبهذا، فإن محاكاة التجربة البريطانية في السياق العربي تبقى رهينة جملة من التحديات المتشابكة التي لا يمكن تجاوزها دون إصلاحات قانونية وثقافية وسياسية جذرية.

ولتجاوز هذه المعيقات، يُفترض تبني رؤية إصلاحية شاملة تنطلق من إرساء بيئة قانونية وتشريعية تضمن الحق في النفاذ إلى المعلومات، وتُحدد ضوابط رفع السرية عن الوثائق الاستخباراتية بعد مدد زمنية مدروسة، على غرار النموذج البريطاني. كما ينبغي تشجيع الجامعات ومراكز الأبحاث على تطوير برامج أكاديمية متخصصة في دراسات الأمن والاستخبارات، مع توفير التدريب المنهجي للباحثين والمهتمين. ويمكن كذلك تعزيز الشراكة بين المؤسسات الأكاديمية والأمنية على قاعدة الشفافية والاحترام المتبادل، بما يسمح بإنتاج معرفة علمية رصينة لا تمس ضرورات الأمن القومي.

ويُمثل تبني مبدأ “التاريخ الرسمي” تحت إشراف مؤرخين معتمدين، مع تمكينهم من الوصول إلى الأرشيفات وفق ضوابط محددة، خطوة محورية في بناء تراكم معرفي عربي في هذا الحقل المهمش. كما أن نشر ثقافة الانفتاح على الذاكرة المؤسسية للدولة، ودمج الدراسات الاستخباراتية ضمن الحقول الأكاديمية الكبرى كالعلاقات الدولية والعلوم السياسية، يُسهم في تعزيز الوعي بأهمية هذه الدراسات في فهم السياسات الأمنية وتاريخ الدولة العميقة في العالم العربي.

وفي ضوء التجربة البريطانية، يمكن القول: إن الاستثمار في الدراسات الاستخباراتية داخل الدول العربية من شأنه أن يحقق مجموعة من الفوائد العلمية والعملية ذات الأبعاد الأمنية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية. فعلى المستوى الأكاديمي، يسهم هذا الحقل في تأسيس مجال معرفي مستقل ومتعدد التخصصات يُغني المكتبة العربية ويعزز البحث العلمي في قضايا الأمن القومي والاستخبارات. أما على المستوى السياسي والأمني، فإن تطوير هذا المجال يعزز من فاعلية مؤسسات الدولة، ويُرسخ ثقافة الشفافية والمساءلة، ويُعيد بناء الثقة بين المواطن وأجهزته الأمنية.

وفي البعد العسكري، يوفر هذا الحقل فهمًا أعمق للعمليات الاستخباراتية والإستراتيجيات الدفاعية، ويدعم بناء عقيدة أمنية قادرة على التكيف مع التهديدات المعاصرة كالحروب السيبرانية والهجينة. أما دبلوماسيًّا، فيمنح صُنَّاع القرار أدوات تحليلية لفهم ديناميكيات التعاون والصراع الاستخباراتي الدولي، ويُعزز من قدرة الدول العربية على التفاوض وبناء شراكات أمنية متوازنة. وأخيرًا، فإن تطوير هذا المجال يسهم في تحصين المجتمعات من الاختراقات الفكرية والتجسسية، ويدعم الابتكار في الصناعات الأمنية والمعلوماتية، بما يجعل من الدراسات الاستخباراتية رافعة إستراتيجية لتعزيز الأمن القومي العربي في أبعاده المختلفة.

خاتمة 

تُعد المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية نموذجًا متقدمًا لتحول حقلٍ ظل لعقود محاطًا بالسرية إلى مجال أكاديمي مشروع يخضع لقواعد البحث العلمي وآليات المساءلة. فقد انتقل هذا الحقل تدريجيًّا من فضاء مغلق داخل أجهزة مثل MI5 وMI6 وGCHQ، إلى حقل معرفي قائم تُدرَّس مواده في جامعات عريقة مثل كينغز كوليدج وجامعة باكينغهام. وقد أسهم هذا التحول في إغناء الفهم العلمي لطبيعة الدور الذي تضطلع به الاستخبارات في الأمن القومي وصنع القرار، لاسيما في ضوء التحولات الدولية الكبرى مثل الحرب الباردة وهجمات 11 سبتمبر/أيلول والحرب على الإرهاب.

لكن هذا الانفتاح لم يخلُ من إشكاليات جوهرية، أبرزها تحدي التوفيق بين مقتضيات السرية ومقتضيات الدراسة النقدية. فمن جهة، أتاح التعاون المؤسسي بين الأجهزة الأمنية وبعض الجامعات والمراكز البحثية إنتاج معارف تحليلية معمقة حول طبيعة عمل أجهزة الاستخبارات، وأسهم في بلورة فهم مؤسساتي لدورها في مواجهة التهديدات الحديثة، بما في ذلك التطرف العنيف، والتجسس الإلكتروني، والتدخلات الخارجية. فقد ظهرت، من جهة أخرى، انتقادات مشروعة حول مدى استقلالية هذه الدراسات، خاصة مع بروز تيار أكاديمي يُعرف بتقاربه من الأجهزة الاستخباراتية، ويُتهم أحيانًا بتبني خطاب يُعظِّم أدوارها ويُبرر تجاوزاتها؛ مما يثير تساؤلات حول مدى حيادية التحليل العلمي في هذا المجال.

وقد أظهرت التجربة البريطانية أن انبثاق هذا الحقل الأكاديمي لم يكن نتيجة قرار مركزي أو تطور مؤسسي واضح، بل جاء نتيجة تراكم تدريجي أسهم فيه مؤرخون رسميون، وكتَّاب مختصون في التاريخ العسكري، ومخبرون سابقون، فضلًا عن التسريبات والأرشيفات التي أُتيحت بفعل قوانين رفع السرية أو عبر أرشيفات الخصوم. وهكذا تشكلت شبكة معرفية متعددة المصادر، دفعت بالبحث الاستخباراتي إلى واجهة التحليل السياسي والتاريخي المعاصر.

وعلى الرغم من ذلك، لا تزال التساؤلات قائمة حول حدود هذا الانفتاح، ومدى قدرته على إنتاج معرفة حقيقية لا تخضع لمنطق التبرير أو التوظيف السياسي. كما أن استمرار تمويل بعض المراكز من جهات حكومية، أو احتفاظ المؤسسات الأمنية بحق “الفيتو” على بعض الموضوعات، قد يؤدي إلى تآكل الحد الفاصل بين البحث العلمي والدعاية المؤسسية. وفي هذا السياق، تُعد التجربة البريطانية مثالًا ثريًّا ومركبًا يُبرز كيف يمكن لمجال على درجة عالية من الحساسية أن يُدمَج تدريجيًّا في فضاء أكاديمي حر، لكنه أيضًا يوضح حدود هذا الإدماج حين تُقيده الحسابات الأمنية والسياسية.

بناء على ما تقدم، فإن الدراسة تخلص إلى أن المدرسة البريطانية في الدراسات الاستخباراتية قد أسست تقليدًا بحثيا يُحتذى من حيث التنظيم، والانفتاح الجزئي، وتعدد المصادر، لكنها تظل أيضًا تجربة غير مكتملة، تُجابه باستمرار هواجس الإفشاء الأمني، وصعوبات التمويل المستقل، وتحديات الحفاظ على التوازن بين النقد الأكاديمي والاحتياجات الأمنية للدولة.

المراجع

(1)  جوناثان بلوش، وباتريك فيتزجيرالد، الاستخبارات البريطانية وعملياتها السرية في إفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، تقديم فيليب آجي، ترجمة عفيف الرزاز (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1987)، ص 8–12.

(2) “A Note-So-Secret Service,” Time, September 1, 1986, https://bit.ly/4cNItn6.

(3) Len Scott, “Sources and Methods in the Study of Intelligence: A British View,” Intelligence and National Security 22, no. 2 (2007): 186–191.

(4) James Lockhart and Micah Robbins, “John le Carré’s Southern Turn: British Intelligence and Degenerative Satire in Post-Cold War Latin America and Africa,” Intelligence and National Security 38, no. 2 (2023): 259.

(5) Peter Jackson, “Christopher Andrew and the Study of Intelligence,” Intelligence and National Security 37, no. 2 (2022): 329. https://doi.org/10.1080/02684527.2021.2005810.

(6) The Intelligence and Security Committee of Parliament, “How the Committee Works,” https://bit.ly/3XvJoEp (accessed 5 September 2024).

(7) Gustavo Díaz Matey, “Intelligence Studies at the Dawn of the 21st Century: New Possibilities and Resources for a Recent Topic in International Relations,” UNISCI Discussion Papers, May 2005, 10.

(8) Ian R. Stone, “The Official History of the Falklands Campaign. Volume II: War and Diplomacy. Lawrence Freedman. 2007. London and New York: Routledge,” Polar Record 44, no. 4 (2008): 366. https://doi.org/10.1017/S0032247408007535.

(9) Sean Brennan, The KGB and the Vatican: Secrets of the Mitrokhin Files (Washington: Catholic University of America Press, 2022), 6. https://doi.org/10.2307/j.ctv2x8v5th.

(10) D. Cameron Watt, “Intelligence Studies: The Emergence of the British School,” Intelligence and National Security 3, no. 2 (1988): 339–341.

(11) Martin Rudner, “Intelligence Studies in Higher Education: Capacity-Building to Meet Societal Demand,” International Journal of Intelligence and CounterIntelligence 22, no. 1 (2009): 110–112.

(12) Allison M. Shelton, “Teaching Analysis: Simulation Strategies in the Intelligence Studies Classroom,” Intelligence and National Security 29, no. 2 (2014): 265.

(13) Robert Laffont, “Peter Wright,” https://bit.ly/3B0f2km (accessed 4 September 2024, 23:37).

(14) Watt, op. cit., 339.

(15) Ibid., 340.

(16) Ibid., 341.

(17) Rudner, op. cit., 111.

(18) Ibid., 112.

(19) Scott, op. cit., 187.

(20) Ibid., 188.

(21) Idem.

(22) Lockhart and Robbins, op. cit., 259.

(23) Jackson, op. cit., 329.

(24) Brennan, op. cit., 6.

(25) Stone, op. cit., 366.

(26) Shelton, op. cit., 265.

(27) Matey, op. cit., 10.

(28) The Intelligence and Security Committee of Parliament, op. cit. (accessed 5 September 2024).

 * د. شوقي عرجون، أستاذ الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية، جامعة محمد بوضياف– المسيلة، الجزائر.

Dr. Chouki Ardjoune, Professor of Geopolitics and International Relations, Mohamed Boudiaf University, M’Sila, Algeria.