ملخص:
تبحث الدراسة حالة المقاطعة الإعلامية الرقمية لأحد الأفلام العربية (اسحبوا فيلم أميرة)، الذي تناول موضوع النطف المهربة، أوائل شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، وتهدف إلى التعمق في فهم المزيد من هذه الحالات، والكشف عن بعض الخصائص الخفية للاحتجاجات الرقمية من خلال منهج تحليل الشبكات الاجتماعية. وتحاول الدراسة الإجابة عن تساؤلات بشأن نوع الشبكة، والمجموعات التي ظهرت، والمؤثرين، وأهم القضايا والأفكار التي تداولها المحتجون، واستخدمت من أجل ذلك عُدَّة منهجية مركَّبة تشمل تحليل الشبكات الاجتماعية، وتحليل المضمون، والتحليل الموضوعاتي. سُحبت بيانات الوسم خلال ثلاثة أيام من تصدره موقع تويتر باستخدام (NodeXL)، واختير منها 1000 تدوينة من العينة العشوائية البسيطة لتحليلها موضوعاتيًّا باستخدام (MAXQDA). وتوصلت الدراسة إلى أن الحملة تشكَّلت وفق نموذج “التجمعات المجتمعية” التي عادة ما تظهر عندما يكون هناك شبه اتفاق على موضوع الحملة، ولا يوجد معارضة قوية لها. شارك فيها طيف واسع ومتنوع من المؤثرين، وأسهمت عوامل عدة في نجاح الحملة؛ إذ تعاملت مع موضوعات حساسة للغاية في مجتمع لا يقبل المساس بالشرف والمقاومة، إضافة إلى الزخم الإعلامي، والمشاركة الدولية، وتزامنها مع حراك فعلي، ومخاطبة عدة جهات معنية، وتداول القصص الواقعية على الشبكة.
كلمات مفتاحية: المقاطعة الرقمية، فيلم أميرة، تحليل الشبكات الاجتماعية، تويتر.
Abstract:
This study explores the digital boycott of an Arabic film, Amira, which discusses the topic of smuggled sperm, in December 2021, and aims to deepen the understanding of these cases. Through the methodology of social network analysis, the study reveals many of the hidden characteristics of digital protests. It also attempts to answer questions about the type of network, the groups that appeared, the influencers, and the most important issues and ideas that the protesters discussed. To do this, the study used mixed methods, such as social network analysis, content analysis and thematic analysis. The data was gathered over the course of three days through NodeXL, and 1000 random tweets were selected for thematic analysis through MAXQDA. The study found that the campaign was formed according to the community clusters model, which usually appears when there is a collective agreement on the campaign topic, and there is no strong opposition to it. A wide and diverse range of influencers participated in it. Several factors contributed to the success of the campaign, as it dealt with highly sensitive topics in a society that does not accept compromise honour and resistance, including media momentum, international participation, its synchronisation with an actual movement, the addressing of several stakeholders and the circulation of real stories on the network.
Keywords: Digital Boycott, Amira Film, Social Network Analysis, Twitter.
مقدمة
في الثاني عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، اختار الأردن، عبر الهيئة الملكية للأفلام(1)، التي تُعد الجهة الرسمية المخولة بتقديم الأفلام للترشح لجوائز الأوسكار، فيلم “أميرة” للمخرج المصري، محمد دياب، كي يمثِّله رسميًّا في الدورة الرابعة والتسعين لجوائز الأوسكار في التنافس على فئة الأفلام الطويلة الدولية لعام 2022. وفي بداية ديسمبر/كانون الأول، تناول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي الخبر لينطلق وسم (#اسحبوا_فيلم_أميرة)، مساء يوم الثلاثاء السابع من الشهر نفسه.
احتجت أطراف عدة على الفيلم، أولها: زوجات الأسرى، ونشرن مقاطع مصورة تدين الفيلم و”إساءته للأسرى”، وأوضحن أنهن كنَّ على اطلاع على سيناريو الفيلم وقت الإنتاج، وجرى رفض التصور الدرامي المقترح في حينها وقدَّموا تصورهم لتعديل المغالطات وتم تجاهل المقترحات(2). وأصدرت “الحركة الأسيرة” بيانًا استنكرت فيه الفيلم، واعتبرت “جميع من أسهم في إنتاجه غير مرغوب به في فلسطين ومطلوبًا للملاحقة القانونية والأخلاقية”(3). وصدرت بيانات أخرى من المجتمع المدني والأهلي اعتبرت الفيلم “تجنِّيًا على الحقيقة”(4).
أردنيًّا، أفادت هيئة الإعلام المرئي والمسموع (هيئة رسمية)(5) أنها لم تتلق أية طلبات بشأن عرض فيلم “أميرة” بدور السينما داخل المملكة، وأدانت لجنة فلسطين في مجلس النواب الأردني الإساءة للأسرى واعتبرت أن الفيلم “يغيِّر الواقع الحقيقي”. ونُظِّمت وقفة احتجاجية من “اللجنة الوطنية للأسرى والمفقودين الأردنيين في معتقلات الاحتلال الإسرائيلي” أمام مقر الهيئة الملكية للأفلام، طالبوا فيها بسحب الفيلم من تمثيل الأردن في جوائز الأوسكار، ووقف عرضه نهائيًّا داخل الأردن وخارجها، حاضرًا ومستقبلًا(6).
مع انطلاق الوسم المحتج على الفيلم وترشيحه، أصدر المخرج محمد دياب بيانًا(7) باسم أسرة الفيلم، أكد حرصها على عدم ترك أي مجال لتأويل الفيلم وأن الفيلم خيالي، والإشارة إلى أن طرق التهريب الحقيقية ما زالت غير معروفة. لاحقًا، أعلنت الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، سحبها للفيلم من سباق جوائز الأوسكار احترامًا لمشاعر الأسرى وعائلاتهم، واستجابة للجدل الكبير الذي أحدثه، على الرغم من إيمان الهيئة أن الفيلم لا يمس القضية الفلسطينية ولا قضية الأسرى: “بل على العكس، فإنه يسلط الضوء على محنتهم ومقاومتهم وكذلك توقهم لحياة كريمة على الرغم من الاحتلال”(8).
يثير السرد السابق تساؤلات عدة حول الإنتاج الإعلامي العربي وعلاقته بالثقافة والقضايا العربية، فمن الذي يوجه الإنتاج الإعلامي العربي ويتحكم به؟ ومن الذي صنع الفجوة المتعاظمة بين واقع الشعوب والمجتمعات وبين القضايا التي يطرحها الإعلام؟
فعلى الرغم من انشغال غالبية الشعوب العربية بتدبير أمور المعيشة اليومية، ومكابدة صعوبات الحياة، إلا أنها ما زالت تهتم بالقضايا الكبرى، ونجد بالمقابل صناعة فنية وإعلامية تتجاهل الواقع والقضايا، أو تعكس صورة مغايرة للصورة التي تؤمن بها الشعوب، فما السبب في ذلك؟ وهل ما زال لدى عامة الناس، وخاصة الشباب، الرغبة في الدفاع عن قضاياهم وعلى تنظيم أنفسهم والتعبير عن همومهم؟ هل ما زالت المجالات العامة الرقمية تقدم نفسها مجالاتٍ عامة قادرة على الفعل والتأثير برغم ما يمارَس تجاهها من تضييق؟
تحاول الدراسة إلقاء مزيد من الضوء على حالات منتقاة نجحت فيها شبكات الإعلام الاجتماعي في إحداث أثر واقعي، ولذلك ندرس حالة وسم “اسحبوا فيلم أميرة” من خلال تقديم إجابات على التساؤلات التالية:
- ما نوع الشبكة وعلاقتها بشكل التواصل الذي حصل بين المستخدمين؟
- ما المجموعات التي ظهرت؟ ومن المؤثِّرون؟
- ما أهم القضايا والأفكار التي تناولتها الشبكة؟
- ما عوامل نجاح الاحتجاج على الفيلم ومقاطعته؟
كانت هناك حالات عديدة للمقاطعة الشعبية لكثير من المؤسسات الإعلامية والأعمال الفنية دون أن تحظى بالدراسة العلمية لمعرفة أسبابها وتبعاتها، مثل حملات مقاطعة قناة “إم بي سي”(9)، وحملة مقاطعة قناة “رؤيا”(10) التي لا تزال آثارها موجودة على الإنترنت، وغيرها الكثير من حملات المقاطعة ذات الدواعي والتبعات المختلفة.
إن دراسة مثل هذا الشكل من المقاطعات بشكل علمي منهجي يُعين على التراكم المعرفي في موضوعات المقاطعة، والحشود الرقمية، وتأثيرها؛ ذلك أنه موضوع متداخل التخصصات تُعنَى به علوم الاجتماع والسياسة والإعلام والاقتصاد وغيرها. ويسهم تراكم الجهود البحثية في هذا المجال في تمكن الباحثين من الوصول إلى استنتاجات تعين في فهم طبيعة المجتمعات والتحولات التي تجري فيها. كما أن دراستنا تُعد من الدراسات العابرة للحدود الوطنية، فهي لا تعني المجتمع الأردني وحده، ولا الفلسطيني ولا المصري، وإنما دراسة تعبِّر عن مجتمع عربي مسلم متجاوز للحدود القومية.
- اعتبارات منهجية
أصبحت الشبكات الاجتماعية التي تتشكَّل بفعل الحشود الرقمية حول قضية ما موضوعًا مهمًّا في البحث الأكاديمي وفي معرفة كثير من الظواهر الرقمية وكشف خفاياها، وبات تحليل الشبكات منهجًا متعارفًا عليه في كثير من التخصصات العلمية، وأكثر الأدوات الموثوقة للقيام به هو برنامج (NodeXL) لسهولة استخدام الموقع وحساسيته لحاجات الباحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، فأحد أهم القائمين عليه عالم اجتماع، كما أن للبرنامج إمكانيات قوية في جمع وتحليل وتصوير الشبكة ومعرفة المؤثرين والمضامين(11).
وقد جرى استخدام هذا البرنامج الفعال في جمع وتحليل وتصوير الشبكة التي تشكَّلت حول الوسم في الفترة من (7-9 ديسمبر/كانون الأول 2021)، وبلغ عدد العلاقات (edges) التي خضعت لتحليل الشبكات الاجتماعية (7436) علاقة، شكَّلها نحو (3520) مستخدمًا (vertices).
تم سحب عينة عشوائية بسيطة مكونة من (1000) تدوينة عن طريق الاختيار العشوائي الذي يوفره برنامج إكسيل، من مجموع التدوينات التي ظهرت في الشبكة بُغية تحليلها موضوعاتيًّا من خلال برنامج (MAXQDA)، المخصص لتحليل البيانات النوعية. وأُجري التحليل الموضوعاتي عبر الاسترشاد بالطريقة التي اقترحتها الأكاديمية، بريت ديلاهونت (Brid Delahunt)، والباحثة، مويرا ماغواير (Moira Maguire)(12).
والتحليل الموضوعاتي (Thematic Analysis) هو طريقة لتحليل البيانات النوعية نتمكن من خلالها من تحديد الموضوعات التي يتم استخراجها من البيانات، وتنظيمها، والسماح بتفسيرها وإدراجها في البحث. وقد قمنا بإجراء خطوات التحليل الموضوعاتي وفقًا للآلية المنهجية التالية: قراءة التدوينات أكثر من مرة بهدف التعرف عليها والتآلف معها، ووضع رموز مبدئية لكل تدوينة، ثم البحث عن الموضوعات (الثيمات) داخل التدوينات، فمراجعة الموضوعات التي تم استخراجها، وتعريف الموضوعات وتحديد العلاقات بينها، وأخيرًا كتابة النتائج(13).
- الإطار النظري والدراسات السابقة
يتناول هذا المحور بعض المفاهيم المحورية في الفعل الاحتجاجي الرقمي، والفضاء الذي تجري فيه عملية الاحتجاج، لذلك ستركز الدراسة على مفهومي المقاطعة والحراك الرقمي.
المقاطعة
توظف الدراسة مفهوم المقاطعة في هذا السياق لمجموعة أسباب، أولها: أن المقاطعة هي فعل عقابي جماعي أو فردي يتبنى مطالبة ما تجاه خطأ أو ظلم حدث، ويعزز هذا الأمر ما ستورده الدراسة لاحقًا في التحليل وبيان وجود مطالبة بالمقاطعة الثقافية، بل وتجاوزت المطالبات بالمقاطعة إلى أشكال أكثر حدة، مثل العقاب والجزاء (والتي تقع ضمن التعريف الأوسع للمقاطعة). بالإضافة إلى ذلك، يمكن توظيف مفاهيم أخرى كالانسحاب والعداء مثلًا، إلا أنها قد تقف قاصرة عن تفسير بعض أجزاء عينة البحث لهذه الدراسة لخصوصيتها.
عادة ما توصف المقاطعات بأنها فعل عقابي بصورة ما. في هذا الصدد، قد يوفر تعريف أستاذ الفلسفة، ديفيد بونين (David Boonin) للعقاب، والذي تم وضعه في سياق قانوني، نقطة انطلاق جيدة، فهو يرى أن العقوبة إيذاء معلن عنه ومتعمد ويهدف إلى التقييد والجزاء(14)، وتشمل ضررًا عقابيًّا عن قصد ونية مسبقة تجاه المسؤول عن انتهاك أو ظلم ما.
في حملات المقاطعة أو أخذ موقف مقابل لجهة ما، يتصرف المقاطعون أنفسهم على اعتبار أنهم يستجيبون بشكل جماعي لظلم، أو خطأ حصل، من خلال رفض التفاعل مع الطرف المذنب أو المسؤول، ويتم بناء إستراتيجيات لفرض عقاب جماعي بناء على موقف قد يكون محط إجماع. ويناقش باحثون أنه في لحظات المقاطعة أو اتخاذ الموقف، عادة ما تستند على أربعة تفسيرات أساسية لما يمكن ممارسته في المقاطعة: 1. تجنب التواطؤ، 2. الاحتجاج، 3. العقاب الاجتماعي، 4. الإكراه الاجتماعي(15). وبناء عليه، فإن التفاعل الجماعي والفردي معها يكون على مستويين يبرران المقاطعة أو المطالبة، أولهما: معقولية النقد الأخلاقي المقدم من الداعين للمقاطعة، والثاني يتعلق بشكل مباشر بنوع المقاطعة أو المطالبة، ومقدار الكلف المتعلقة بها.
بالإضافة إلى ذلك، فإن المقاطعة عادة ما تنطلق من أرضية أخلاقية واجتماعية، وتضع أرضية أخلاقية اجتماعية أيضًا لكسب المؤيدين، وجعل هذه الأرضية الأخلاقية شيئًا يمكن نزعه وسلبه من الآخر المذنب، في الوقت الذي توصف فيه المقاطعة/المطالبة بأنها جهد جماعي مدني غير رسمي، ووجود فاعلين يطالبون بوقف التعامل أو مقاطعة جهة بعينها بناء على ذنب اقترفته. وبطبيعة الحال لا تنجح أو تؤثر المقاطعة إلا بهذا الجهد الجماعي الذي يستلزم ضغطًا يتجاوز المقاطعة الفردية ويدفع باتجاه ضغط اجتماعي لتحقيق “العدالة”(16).
يجدر التفريق هنا بين الشعبي والرسمي؛ إذ تنظم الدول، في بعض الأحيان، المقاطعات أيضًا، مما يفرض التزام المواطنين بهذه المقاطعات بموجب القانون، عدا عن كون المقاطعين يختلفون اختلافًا كبيرًا في الدرجة التي ينسقون بها جهودهم؛ فقد أظهرت النقابات العمالية والحركات الدينية والمنظمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني درجات عالية من التنظيم في الإعلان عن أفعالهم، وحشد المشاركة، والتفاوض بشأن أهداف المقاطعة ومطالباتهم.
على النقيض من ذلك، كثيرًا ما تنتج المقاطعات في الوضع الراهن مجموعات أكثر تلقائية، تتجمع لفترة وجيزة حول قضية واحدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويتعدد فيها الفاعلون، كما نرى في قضية مقاطعة المنتجات الفرنسية على تويتر على سبيل المثال(17). قد يكون قادة المجموعة ببساطة أولئك الذين تحظى تصريحاتهم بأكبر قدر من الاهتمام والتفاعل، وقد لا يكون للمشاركين صلة أكثر من كونهم أشخاصًا يعتقدون جميعًا معتقدًا واحدًا أو أيديولوجيا مشتركة.
بالإضافة إلى فعلي التجنب والانسحاب من التفاعلات الاجتماعية والثقافية، تشمل ممارسات المقاطعة أيضًا التواصل مع الجهة المذنبة أو المسؤولة والجمهور بشكل عام، ويقوم المنظمون بإبلاغ الجهة المذنبة بأنهم قاموا بفعل يستوجب الاحتجاج عليه أو مقاطعته والأسباب الداعية لذلك. وفي كثير من الأحيان، يكون المقاطِعون أو المطالِبون مستعدين لاستئناف العلاقات العادية في حال انتفاء سبب المقاطعة. لاحقًا، يعلن المقاطعون عن أنشطتهم وانتقادهم الأخلاقي للجمهور العام. وتحاول هذه الدعاية عادة إقناع المزيد من الناس بالانضمام إلى المقاطعة، وتشمل الجهود المبذولة تحفيز مشاركة المزيد والانخراط في أشكال الرفض والتعبير السلبي، مثل التعبير عن السخط أو الغضب تجاه الأشخاص الذين يواصلون التفاعل مع الجهة المسؤولة، ويمكن أن تأخذ المقاطعة خطوات أخرى فيما يعرف بـ”المقاطعة المعيقة” (Obstructionist Boycott) التي قد تتجاوز تصدير الخطاب إلى فعل ميداني في الاعتصامات أو الوقفات(18).
ويمكن النظر في الأدبيات التي بحثت في تلازم المقاطعة والأعمال الفنية في مواجهة سياق استعماري أو الاحتلال أحيانًا، كما في حالة مدينة برنو في تشيك(19)، إبان الدخول الألماني النازي إليها عام 1939؛ حيث أثَّر ذلك على حياة الناس اليومية، وبدأت مظاهر الاحتجاج والمقاطعة الضمنية تنسحب على التفاصيل الصغيرة من تلك الفترة، واستهلت أولًا باستبدال منتجات محلية بمنتجات الأسواق الألمانية، ورفض الناس التعامل مع التجار أو مع من يتحدثون بالألمانية كجزء من “المقاومة الرمزية”.
لكن الفعل الأبرز المتصل هنا أن أحد تمظهرات مقاطعة التشيكيين لما هو ألماني انسحبت على السينما والأعمال الدرامية كذلك؛ حيث قاطع التشيكيون الأعمال الألمانية، ومع تزايد شعبية ورواج السينما الألمانية بعد عام 1942 اتخذت المقاطعة للألمان شكلين موازيين، أولهما: مشاهدة الأعمال التشيكية والتشجيع على ذلك، باعتبار المشاهدة جزءًا من الهوية الوطنية، والآخر: العزوف عن دور العرض التي تضع إعلانات لأعمال سينمائية ألمانية، حتى دعا ذلك بعض التجار والقائمين عليها إلى إعادة تصنيف بعض الأعمال على أنها ليست ألمانية لمجرد وجود بعض الفنانين غير الألمان في العرض. وفي تلك الفترة، روَّجت الصحافة المحلية لعرض موسيقي عام 1940 (byl český muzikant) عبر ربطه بسياق وطني وأن العمل يضم ألحانًا “تشبهنا” ولها حيز داخلنا(20).
إبان تلك الفترة، شهدت مصر أيضًا مقاطعة مشابهة تمثلت في مقاطعة شعبية لدور السينما الأميركية(21)، وتضافرت فيها خطابات حزب “مصر الفتاة” المناهضة للاستعمار، وحملتها ضد الصهيونية، بين أعوام 1945-1952، سبقتها اختيارات وقرارات قام بها مديرو دور عرض “فوكس” (Fox) و”إم جي إم” (MGM) تسببت في خلق انقسامات عميقة بين دور سينما هوليوود في مصر، خصوصًا وأنها لم يُنظر لها على أنها مجرد مسارح لعرض الأفلام، بل سفارات ثقافية لجذب الجماهير للثقافة والأفلام الأميركية. فهاجم محتجون في شارع سليمان باشا (طلعت حرب لاحقًا) سينما مترو الموجودة هناك، نهايات عام 1945، وانفجرت قنبلة يدوية بعدها بخمسة أشهر في قاعة مسرح ميامي في الشارع المقابل لسينما مترو، وتأججت دعوات لمقاطعة ومهاجمة دور السينما الغربية أدت إلى انخفاض عائدات دور السينما بنسبة 80% في بعض الأحيان.
الحراك الرقمي
بالنظر إلى أشكال الاحتجاجات الرقمية خلال الأعوام القليلة الماضية فإنه كثيرًا ما جرى استحضار مفهوم الفضاء العام الذي وضعه الفيلسوف الألماني، يورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وطرح تساؤلًا حول ما إذا كان مناسبًا اعتبار أن الفضاء الرقمي جاء ليشكِّل فضاء بديلًا، أو إن كان يصح القول: إن هذه المساحات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي هي فضاء عام بالأساس. لعل البدايات كانت مع محاولة لفهم ما قد تمثله منصات التواصل الاجتماعي من خيارات في فضاء رقمي، كما فعل السوسيولوجي، جاك جوردن (Jake Gordon)، حينما حاول تدوين ملاحظاته حول الإنترنت، منذ عام 2004، في ورقته “هل توفر الإنترنت أساسًا لفضاء رقمي يقارب رؤية هابرماس؟”(22).
استحضار هابرماس كان يشوبه التفاؤل في كثير من الأحيان، خصوصًا أنه يأتي في سياق مقارنة خصائص الفضاء العام التقليدي في مقابل الفضاء الرقمي على اعتبار أن الانخراط فيهما يكون طوعيًّا وأن هناك نوعًا من المساواة في قدرة المشاركين على التعبير عن أفكارهم وأطروحاتهم لكونهما مفتوحين للجميع، بالإضافة إلى وجود استقلالية بصورة أو بأخرى عن الأنظمة السياسية والاقتصادية والدينية على حدٍّ سواء.
لاحقًا، ظهرت دراسات أكثر عمقًا وتخصصية تبحث في مكامن الفعل والمساحات التي تملكها أدوات الفضاء الرقمي، على غرار الأبحاث التي ظهرت في سياق ثورات الربيع العربي(23)، أو على صعيد اجتماعي ومحاولة رصد ملامح إنتاج الخطاب على المدونات الرقمية كحال ورقة الباحثيْن، محمد النواوي وسحر خميس، التي حاولا من خلالها رصد ملامح لإمكانية وجود “فضاء عام افتراضي إسلامي”(24)، أو حتى على صعيد اقتصادي-سياسي كحال دراسة حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على منصة تويتر(25).
ويلاحظ أن هذا الفضاء الرقمي يمكن له أن يكون حاضرًا وفاعلًا إبان الخمول الميداني الذي قد يشوب بعض الحراكات أو البلدان، ويمكن له أن يلعب دورًا في التنشئة والتوعية والتحشيد بين المستخدمين والذي يمكن أن يولِّد حالة تراكمية تأخذ أشكالًا مطلبية أو احتجاجية ذات بُعد رقمي وميداني على حدٍّ سواء(26)، كما حدث في دول عربية عدة كرفض قوانين ضريبة الدخل في الأردن عام 2018 أو المطالبة بإسقاط النظام السوداني مع نهاية عام 2019، والتعبير عن ذلك باستخدام وسومات أو هاشتاجات كـ(#معناش\#إضراب_الأردن)، أو (#تسقط_بس) و(#الردة_مستحيلة في السودان).
وحتى في سياق فلسطيني محكوم بالاستعمار، كانت هناك محاولات دراسة وسائل الاتصال الحديثة والصحافة والإعلام بوصفهما أداة يمكن من خلالها خلق فضاء عام لمجموعة ما أو فضاء عام تمثيلي، كما في حالة الفلسطينيين داخل أراضي عام 1948 تحت حكم المؤسسات الإسرائيلية، ووجدت أن وسائل الاتصال الحديثة قد سهلت عملية تشكيل وصناعة مجال عام خاص بهم في مقابل الهيمنة الإسرائيلية(27).
الحراك الرقمي بين تيارين
في مقابل التيار التبشيري بما يمكن أن تحدثه منصات التواصل الاجتماعي، قدَّم باحثون من تيار مقابل أطروحتهم حول مدى واقعية التعويل على هذا الفضاء الرقمي، لعل أبرزهم كان المفكر الكوري-الألماني، بيونغ تشول هان (Byung-Chul Han)، الذي قدَّم أطروحته حول الآفاق الرقمية التي أسماها “من داخل السرب”(28) التي يقيمها على مجموعة من الملاحظات حول فردانية هذا الفضاء، وأنه يتسم بخصائص عددية كسهولة الغضب وما أسماه بـ”عدم الاحترام” الذي تعززه مثل هذه المنصات، وتداخل مساحات العام والخاص فيها.
لكن المهم هنا، أن هان يقدِّم ملاحظة تأسيسية حول فاعلية المساحات الرقمية؛ حيث إن مجتمع الإنترنت الكبير هذا ربما يبدو مجتمعًا مؤثِّرًا من الظاهر، إلا أنه يشكِّك في امتلاكه قوة حقيقية لافتقاره لإمكانيات التعبئة، ويقتصر على تحركات فردية تلغي بدورها حضور الـ”نحن” وأنها بلا روح جامعة، ويناقش هان أيضًا أن ما تفعله هذه المساحات هو تجميع لا تجمُّع، وحشود غير متماسكة تضج بالضوضاء الغاضبة وتلغي بحضورها الفاعلية الجماعية وتعزز العزلة الفردية مدفوعة بنرجسية مستمرة ومصلحة ذاتية. فالخصائص البنيوية لهذه المنصات تجعل من السهل إخفاء هوية المستخدمين، وخوارزميات تتلاعب بالتصدر وتجعل قيمة الأشياء في وصولها لا في مضمونها(29).
وعمومًا، فإن مجمل الدراسات التي تناولت الحركات الاجتماعية في المساحات الرقمية والأجيال الجديدة في غالبها لا تنفك عن تيارين رئيسيين يُعنيان بدراسة ثنائية الاجتماعي-الرقمي بشكل عام، أحدهما تفاؤلي قد نذكر فيه الكاتب توماس فريدمان (Thomas Friedman)(30) ويبدو أكثر حماسًا للمستقبل، في مقابل تيار آخر تشاؤمي رواده كثر وليس آخرهم بيونغ هان أو نيال فورغسون (Niall Ferguson) في أطروحته “البرج والميدان”(31).
بين الرؤية التفاؤلية والرؤية التشاؤمية، تحضر في بعض الأحيان نظرة وسطية تأخذ إسهامات التكنولوجيا الحديثة ودورها في الحركات الاجتماعية، وتعطي للهياكل والبنى الاجتماعية اعتبارها. في هذا الصدد، يحاجج الباحث، عبد الله الحيدري(32)، بأن التسليم بأن هناك تأثيرًا مطلقًا لمنصات التواصل الاجتماعي وشبكاتها قد يكون فيه إغفال لتداخل ثنائية الإنساني والتقني في الأحداث المركبة، وأن الانحياز لنموذج تفسيري واحد في هذه الثنائية قد يكون فيه تبسيط مخل. فمن جهة، تم التعامل من شبكات التواصل الاجتماعي بعين الانبهار مرة أخرى بعد فترة سابقة كان الحديث عن الوسائل الاتصالية الحديثة في أَوْجِه مع ظهور السينما والإذاعات، والذي قاد إلى ظهور نظريات مثل نظرية الرصاصة السحرية، ومن جهة أخرى، صعوبة غض الطرف عن ظروف سياسية واجتماعية قد تكون مسبِّبة لأحداث ساعدت منصات التواصل الاجتماعي في التشبيك والتحشيد والتعبئة.
ويدفع الحيدري لنظرة تحاول المواءمة بين فهم دور شبكات التواصل الاجتماعي وإنصافها في الدور التي يمكن أن تأخذه، جنبًا إلى جنب ومراعاة الأبعاد الاجتماعية والحسية والرمزية وغيرها من مركبات بنيوية ومتداخلة، ويورد على ذلك نموذج محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا حينما استخدم أردوغان وسائل التكنولوجيا الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي بوصفها أداة تعبئة لمخاطبة الشعب التركي وحثه على النزول إلى الشارع، والدفاع عن الديمقراطية، ووجوب دراسة الحادثة من بُعد اتصالي تزامنًا مع أبعاد تراعي “الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والعمراني الذي يُمَثِّل مفاصل الشبكة المركزية، كبنية مُرَكَّبة، متناسقة اندمجت في حدودها عناصر الحدث”.
- موضوع الاحتجاج بين الواقع والدراما
وبالعودة إلى موضوع الدراسة، وقبل استعراض ما توصلنا إليه من نتائج تجيب على تساؤلاتها الأساسية، قد يكون من المفيد استعراض قضية “النطف المهربة”، ووضعها في سياقها الواقعي، وكيف تمت معالجتها على المستويات الشعبية والدينية في المجتمع الفلسطيني، وكيف عالجها الفيلم دراميًّا.
التصور الشعبي: نطف محررة في سياق استعماري
في سياق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تحضر قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية لتعبِّر عن رمزية مكثفة في مقاومة التطهير العرقي المستمر ضد الشعب الفلسطيني، وتجلَّت هذه الرمزية في مسيرة طويلة من المواجهة المباشرة والإضرابات الفردية والجماعية والإضرابات المفتوحة عن الطعام في السجون ومحاولات التحرر منها وتأسيس هياكل تمثيلية تحت مظلة الحركة الأسيرة وحملات تصعيد ومناصرة وإسناد شعبي وصولًا إلى ما أسموه مرحلة “النطف المحررة”، وما يمكن أن تعبِّر عنه بوصفها امتدادًا لأنماط الفعل الطويلة.
يمكن القول: إن فترة الثمانينات وحتى التسعينات كانت بداية الهاجس في سؤال استمرارية الحياة الأسرية بعد السجن، تحديدًا مع منع سلطات السجن الأسرى الفلسطينيين مما يعرف بـ”حيدر أهافا”، أو غرف الحب الزوجية، وإدراك الأسرى أن مساعي إسرائيل في “قهر الإنسان الفلسطيني نفسيًّا ومعنويًّا لن تتوقف (33)، فجرت نقاشات وحوارات طويلة داخل الحركة الأسيرة على أكثر مستوى، خصوصًا وأن خطوة مثل هذه تأتي في مجتمع محافظ يضع اعتبارًا قدسيًّا للأنساب.
وفي سبيل اتخاذ موقف جماعي منها، وضعت النقاشات التي دارت حول مسألة تهريب النطف الاعتبارات الشرعية والاجتماعية والأمنية على حدٍّ سواء(34)، فحصل الأسرى على فتاوى من دائرة الإفتاء في فلسطين وعدد من المرجعيات المحلية والإسلامية، ووضِع لذلك ستة شروط دقيقة تشمل سلامة الإجراءات ودقة النقل وإشهاد أهل الزوجين وغيرها من الاعتبارات. وتناولت النقاشات على الصعيد الاجتماعي تساؤلات حول مدى قبول المجتمع ووعيه بهذا الخيار غير المسبوق والذي قد يعرِّض الزوجة والعائلة لحرج كبير، وكان هدف الأسرى هنا السعي باتجاه خلق الحاضنة الاجتماعية الحامية، بدءًا من إقناع الزوجات بالفكرة ولاحقًا العائلة وتوسيع تقبُّل الدوائر الاجتماعية المحيطة للفكرة تدريجيًّا. فاقترح الأسرى حينها أن يتم الحديث عن الفكرة إعلاميًّا في جميع المحطات والمواقع والإذاعات محليًّا وعربيًّا، ودعوة وزارة الأوقاف الخطباء لتناول المسألة بشكل مكثف، وأن تقوم مؤسسات المجتمع المدني بالعمل على نشاط توعوي أفقي للفكرة.
أمنيًّا، جرت نقاشات حول حلول الإنجاب من داخل السجن، والدفع في الجوانب القانونية وفق القوانين الدولية والأعراف العربية والهامش المتاح في السجون الإسرائيلية، لكن هذه الفكرة رُفضت بشكل مباشر لجملة من الاعتبارات، أهمها مسألة عدم أخلاقية السلطات الإسرائيلية ووجود احتمالات ابتزاز وفضح الخلوة الزوجية بما أن العملية برمتها تتم في مرافق تحت إدارة السجان.
إبان نقاشات الحركة الأسيرة حول النطف المحررة، كانت السلطات الإسرائيلية قد واجهت فكرة إنجاب الأسرى بالرفض المطلق من حيث المبدأ، سواء أكانت حرية مؤقتة أو نطف مهربة أو خلوة شرعية، ورفضت التماسات تقدَّم بها حقوقيون للسماح للأسرى المتزوجين بإنجاب الأطفال، كما في حالة الأسير المحكوم بالسجن مدى الحياة، وليد دقة، وزواجه عام 1999 حين رفضت المحكمة المركزية في الناصرة التماسًا قدمه مركز عدالة.
تعود أولى محاولات تهريب النطف، بحسب باحثين، إلى عام 2002، لكن أيًّا منها لم ينجح لأسباب تقنية تتعلق بحفظ العينات، وتقنيات التلقيح الصناعي، غير أن هذه المعضلات لم تستمر طويلًا؛ إذ نجحت في العام 2012 أولى عمليات ولادة طفل من نطف مهربة، وكان هذا الطفل مهند، نجل الأسير عمار الزبن المحكوم بالسجن المؤبد، لتعلن بداية مسيرة تجاوزت مئة مولود حتى الآن.
رحلة الولادة الطويلة التي تبدأ بتهريب النطفة عبر أغطية الأقلام، أو علب قطرة العين بعيدًا عن أعين السجان، يتبعها ذهاب مباشر لحفظ العينة، ويكون أفراد من كلتا العائلتين شهودًا على الاستلام والحفظ وإبلاغ شيخ القرية أن ابنتهم وزوجها الأسير سيقومون بعملية الزراعة بعد نجاح التهريب، وهو الذي يذيع الخبر بعد ثبوت الحمل، ويذيع مرة أخرى خبر خروج المولود للحياة، التي عادة ما يعقبها احتفالات وابتهاج طويل في القرية(35).
تُقابَل هذه العملية بإجراءات عقابية من سلطات السجن الإسرائيلية تجاه الأسير قد تصل لعزله في الزنازين الانفرادية، وغرامات بآلاف الشواكل، وحرمانه من رؤية طفله الرضيع بعد الولادة، ومنع ذويه من الزيارة كما حدث مع أسرة الأسير عبد الكريم الريماوي، ونجحت عائلات أخرى بتكرار العملية لأكثر من مرة.
العملية برمتها وبمجمل تفاصيلها يعتبرها أهالي الأسرى تحديًا لإرادة السجان ومنازعته على سيطرته التي يحاول فرضها، وتتجاوز ذلك بما تمثِّله (الإنجاب والنسب) من رمزية ذات خصوصية عالية في مجتمع محافظ وجعل استمراره رمزًا في مواجهة الاستعمار.
النطف المهربة في سياق دراما الفيلم
تدور أحداث الفيلم حول رغبة أسير فلسطيني (نوار) بسجن “مجدو” في إنجاب طفل مع زوجته (وردة) في محاولة ثانية بعد أن أنجب منها ابنته الأولى والوحيدة (أميرة) قبل ستة عشر عامًا، وبحكم السياسات “الإسرائيلية” التي تمنع الأسرى من لقاء أزواجهم، يحاول نوار إقناع وردة بتهريب نطفته، وتوافق زوجته وابنته أميرة على تنفيذ رغبته عند زيارته في السجن.
تظهر عقدة الفيلم حين يقوم الطبيب بتجهيز الزوجة لاستقبال النطفة وتحليل نطفة الزوج ليفاجأ بأن الزوج الأسير يعاني من عيب خلقي -وُلد به- يمنعه من الإنجاب. هنا، تنطلق دوامة أسئلة حول أصل الفتاة أميرة، وأصل النطفة التي ولدت منها؛ فتجتمع العائلة لتجبر الزوجة على الاعتراف بخيانتها والإفصاح عن اسم الوالد الحقيقي لأميرة، فيتم حجز وردة في منزل العائلة تحت حراسة الجميع، ويعرف نوار بالحادثة ويقابل ابنته أميرة ويطلب منها أن تشك في أي رجل يمكن أن تظن أنه الوالد البيولوجي حتى يقوم ذووها بعمل تحليل للتأكد. تشك أميرة في البداية بمدرس لها في المدرسة كان يلازم والدتها باستمرار، حينما يثبت التحليل براءته تتسع دائرة الشك لتصل إلى المقربين من العائلة وأشقاء الأسير.
يتفاقم الضغط الاجتماعي على الأم وابنتها، ويسعون بنفسهم للتحقيق، ويصل مسار الفيلم إلى الاشتباه بأن أصل أميرة هو من نطفة السجان الإسرائيلي الذي أوصل النطفة وقام بتبديلها سابقًا، ويكون حل العائلة للنجاة من أي وصمات اجتماعية هو الهروب والسفر. لكن الفتاة تقرر أن تقوم بقتل أي إسرائيلي تراه يوم سفرها. ومع أول محاولة لها يسقط سلاحها في نقطة تجمع لجنود إسرائيليين ليقوموا بإطلاق النار عليها وتصفيتها على الفور، لاحقًا يأتي الوالد الإسرائيلي البيولوجي ليرى جثتها في المشرحة، ويُختتم الفيلم برفع صورتها على لافتة مكتوب عليها “شهيدة”.
مع نهاية الفيلم يظهر في المشهد الأخير ثلاث عبارات بشكل متتالي: “منذ 2012، وُلد أكثر من 100 طفل بطريق تهريب النطف”، “طرق تهريب النطف تظل غامضة”، تلحقها عبارة أخيرة “كل الأطفال تم التأكد من نسبهم”.
- النتائج: ما الذي تخفيه الشبكة وما مضامينها؟
نعرض في هذا المحور النتائج التي توصلت إليها الدراسة بعد تطبيق الإجراءات المنهجية على البيانات، بهدف تحقيق هدف الدراسة والإجابة على تساؤلاتها؛ ونبدأ بتحليل الشبكة ومعرفة نوعها والمجموعات التي تشكلت منها، ثم نتعرف على مضامين الشبكة وأهم الموضوع والقضايا التي تمت مناقشتها.
4.1. تحليل الشبكة الاجتماعية لوسم “اسحبوا فيلم أميرة”
الشكل (1): شبكة المشاركين في وسم “اسحبوا فيلم أميرة”
بين 7-9 ديسمبر/كانون الأول 2021
أولًا: نوع الشبكة
يمثِّل الشكل رقم (1) شبكة يظهر فيها المشاركون كدوائر، والعلاقات التي تشكَّلت بينهم كخطوط، وقد تم إخفاء هويات المشاركين ومعرِّفاتهم. وهي شبكة موجهة من نوع “التجمعات المجتمعية” (Community Clusters)، تكونت من مجموعات متوسطة الحجم، وبعض الأفراد المنعزلين(36).
تكونت الشبكة من (3518) مدونًا، ظهرت بينهم (7434) علاقة، منها (4960) علاقة مميزة (unique edges). أما أنواع العلاقات التي تشكَّلت فهي خمسة على النحو التالي: (4004) إعادات تدوين، و(2380) تدوينة، و(914) ردًّا وذكرًا (mentions)، و(54) ذكرًا في التدوينة (mentions in retweet). كما ظهر هناك (2409) حلقات ذاتية (self-loops). أما كثافة الشبكة فهي (0.00034204). وتتضمن عددًا كبيرًا من المجموعات الصغيرة ومتوسطة الحجم، عشر منها مميزة من جهة حجمها وتنوع موضوعاتها.
ثانيًا: المجموعات
الجدول (1): أول عشر مجموعات في الشبكة وعدد أفرادها والعلاقات التي تشكلت بينهم
المجموعات | عدد العقد (المشاركون) | عدد الروابط (العلاقات) | حلقات ذاتية |
المجموعة 1 | 839 | 1063 | 1063 |
المجموعة 2 | 482 | 1670 | 410 |
المجموعة 3 | 419 | 422 | 4 |
المجموعة 4 | 257 | 426 | 106 |
المجموعة 5 | 253 | 575 | 153 |
المجموعة 6 | 207 | 333 | 99 |
المجموعة 7 | 202 | 317 | 84 |
المجموعة 8 | 199 | 255 | 38 |
المجموعة 9 | 121 | 207 | 55 |
المجموعة 10 | 112 | 274 | 122 |
ظهرت في الشبكة أعداد كبيرة من المجموعات تربو عن المئة، ولكن كثيرًا منها مجموعات صغيرة تتضمن أعدادًا قليلة من المشاركين، أما أول عشر مجموعات فتضمنت أعدادًا أكبرها (839) عقدة (أي مستخدم)، وأقلها (112) عقدة سنقوم باستعراض مضامين أهمها من ناحية الحجم والموضوعات كما يبيِّن الجدول رقم (1).
– المجموعة الأولى: أفراد منعزلون
تعتبر هذه المجموعة الأكبر من ناحية عدد المشاركين، وتضمنت (839) فردًا يدونون باستخدام الوسم بشكل منفرد دون أن يكونوا مرتبطين بغيرهم، وليس بينهم شخص مؤثر يتحلقون حوله، وإنما يدونون ويعيدون تدويناتهم بأنفسهم.
أبرز الموضوعات التي تحدثوا عنها، هي: تداول وسم “اسحبوا فيلم أميرة”، واستياء كبير من الفيلم وموضوعه وكل من شارك فيه، لما فيه من إساءة للقضية الفلسطينية، والأسرى الفلسطينيين الأبطال، وأن هذا الفيلم لا يليق بالأردن وفلسطين.
كما تم الحديث عن النطف المحررة، وشارك المستخدمون في المجموعة روابط من موقع يوتيوب، إلى جانب صفحات تنتمي في غالبها إلى مواقع إعلامية عربية مثل: السوسنة (assawsana.com)، ورؤيا الإخباري (royanews.tv)، ووكالة شهاب الإخبارية (shehabnews.com)، وجو 24 (jo24.net)، وغيرها. ويبيِّن الجدول أدناه أبرز مضامين النقاش وموضوعاتها في المجموعة الأولى، من خلال رصد أبرز أزواج الكلمات رواجًا.
الجدول (2): أكثر أزواج الكلمات رواجًا في المجموعة الأولى
التكرارات | أزواج الكلمات |
52 | فيلم، أميرة |
25 | فيلم، يسيء |
25 | يسيء، لأسرانا |
25 | الأبطال، #اسحبوا_فيلم_أميرة |
24 | يليق، بالأردن |
24 | يمثلها، فيلم |
24 | لأسرانا، الأبطال |
23 | فلسطين، يمثلها |
22 | تهريب، النطف |
22 | النطف، المهربة |
– المجموعة الثانية: الدفاع عن الأسرى
الشكل (2): شكل المجموعة الثانية وعلاقاتها مع بقية المجموعات ونموذج من أبرز تدويناتها
تشكَّلت المجموعة الثانية من خلال مشاركة (482) فردًا شاركوا في تدوينات غاضبة تطالب بسحب الفيلم، ولكنها تتميز باستخدام روابط خارجية تحيل إلى صفحة خاصة بالفيلم (https://m.imdb.com/title/tt12244822/)، وصفحة أخرى تحيل إلى ما يسمى مكتب إعلام الأسرى (https://asramedia.ps/)، فضلًا عن نشر وسوم خاصة بالأسرى، من مثل: (الأسرى خط أحمر)، كما تمت مهاجمة أبرز ممثلي الفيلم ووصفوهم بالصهيونية. وكان حساب الممثلة (sabamubarak) أكثر الحسابات التي تلقت ردودًا (replied to)، والأكثر ذكرًا (mention).
– المجموعة الثالثة: مجموعة خارجية انتهازية
الشكل (3): شكل المجموعة الثالثة وعلاقاتها مع بقية المجموعات وتدوينتها الأساسية
شارك في المجموعة الثالثة (419) فردًا، وهؤلاء جميعهم استغلوا شهرة الوسم الذي كان متصدرًا تلك الفترة في الدعاية لقضايا ليست ذات علاقة بموضوع الوسم على الإطلاق، وهذه من الظواهر التي يمكن رصدها بكثرة في عالم الوسوم، وتتميز بأنها مجموعات استغلالية، متسلقة، تركب موجة تصدر البعض للوصول إلى أكبر عدد من المشاهدات. وكما يظهر من الشكل (3)، فهناك غياب أي علاقة تربط هذه المجموعة مع بقية المجموعات المُشاركة في الوسم.
– المجموعات (4-10): تركيز على موضوع الوسم
أما بقية المجموعات فقد تضمنت أعدادًا أقل، فتضمنت المجموعة الرابعة (257)، والمجموعة الخامسة (253)، ثم ظهرت مجموعات صغيرة لا يزيد عدد أفرادها عن 10 مستخدمين، ولا يتسع المجال لاستعراضها جميعها لكنها تنتمي لموضوع الوسم الأساسي. ويظهر الجدول أدناه أهم الموضوعات التي تم تداولها في بقية المجموعات العشر الأولى، وفقًا لتصنيف أكثر أزواج الكلمات تداولًا.
الجدول (3): أزواج الكلمات في المجموعات 4-10
المجموعة 4 | المجموعة 5 | المجموعة 6 | المجموعة 7 | المجموعة 8 | المجموعة 9 | المجموعة 10 |
الفيلم، الساقط | فيلم، أميرة | وليد، دقة | فيلم، أميرة | لأسرانا، الأبطال | سجون، الاحتلال | سجون، الاحتلال |
شاركونا، بالاحتجاج | وزارة، الثقافة | النطف، المهربة | فيلم، أردني | يليق، بالأردن | قضية، الأسرى | تهريب، النطف |
بالاحتجاج، الفيلم | الفيلم، #اسحبوا_فيلم_أميرة | الأسير، وليد | النطف، المهربة | بالأردن، توأم | لتمثيل، الأردن | فيلم، أميرة |
الساقط، أميرة | النطف، المهربة | طريق، النطف | الأسرى، الذين | توأم، فلسطين | وزارة، الثقافة | نطفة، جرى |
أميرة، والمطالبة | سجون، الاحتلال | ابنة، الأسير | لفيلم، أميرة | فلسطين، يمثلها | قصة، الفيلم | جرى، تهريبها |
والمطالبة، بسحبه | الثقافة، الأردنية | الطفلة، ميلاد | نشطاء، يطلقون | يمثلها، فيلم | خط، أحمر | تهريبها، سجون |
بسحبه، ومنع | عرض، فيلم | ميلاد، وليد | يطلقون، حملة | فيلم، يسيء | أحمر، #اسحبوا_فيلم_أميرة | الاحتلال، لزوجة |
ومنع، عرضه | الأسرى، الفلسطينيون | دقة، ابنة | حملة، إلكترونية | يسيء، لأسرانا | الثقافة، الأردنية | لزوجة، أسير |
عرضه، عبر | وسحب، الفيلم | دقة، وعن | إلكترونية، باسم | الأبطال، #اسحبوا_فيلم_أميرة | الأردنية، الممثلة | #فريق_مجاهدون، #اسحبوا_فيلم_أميرة |
عبر، هاشتاج | الشعب، الفلسطيني | وعن، طريق | باسم، #اسحبوا_فيلم_أميرة | سجون، الاحتلال | الممثلة، للأردن | نطفة، قهرت |
ثالثًا: المؤثرون
الجدول (4): المؤثرون في شبكة وسم “اسحبوا فيلم أميرة”
م | الحساب | عدد المتابعين |
1 | حساب “مش هيك” سياسي ساخر | موقوف |
2 | مُشارِكة | 360 |
3 | مُمثلة | 946,4 ألف |
4 | إعلامي معروف | 722,3 ألف |
5 | مُشارِكة | 3,211 |
6 | مُشارِكة | 705 |
7 | حساب معطل | – |
8 | حساب معطل | – |
9 | وكالة أنباء فلسطينية | 578,4 ألف |
10 | كاتب وداعية فلسطيني | 371,4 ألف |
يبيِّن الجدول أعلاه أن أهم المؤثرين هم حساب ساخر شهير، وناشطون ومناصرون للقضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، كما كان للإعلام دور بارز من خلال مؤسسات أو أشخاص معروفين في مجال الدعوة والكتابة. ويشير تعطيل بعض الحسابات إلى التضييق الذي تمارسه إدارة بعض مواقع التواصل على الناشطين في مجال الدفاع عن القضية الفلسطينية.
4.2. نتائج التحليل الموضوعاتي
تم تحليل الوسوم التي اختيرت عشوائيًّا تحليلًا موضوعاتيًّا وفق القضايا التي تناولتها التدوينات، وقد ظهرت مجموعة من الموضوعات أمكن تصنيفها على النحو التالي:
الشكل (4): نتائج التحليل الموضوعاتي
ردود الفعل على الفيلم
ظهرت مجموعة من ردود الفعل، أبرزها ما يلي:
– مجموعة مُطالبات: سحب ومقاطعة وإيقاف ومحاسبة واعتذار
أورد المحتجون عددًا من المطالبات، على رأسها: سحب الفيلم وإيقاف بثه ومنعه. ولا عجب في ذلك، فقد كانت هذه المطالبة بالتحديد مرتبطة بالوسم “اسحبوا_فيلم_أميرة”، الذي تم تداوله على نطاق واسع، وكان مادة وحيدة لكثير من التدوينات دون أية إضافات أخرى. وطالبت تدوينات أخرى بسحب الفيلم من الترشح للأوسكار، ومنعه من العرض في كافة المنصات، وإيقافه في الشرق الأوسط ومنع تداوله عالميًّا وإتلاف الفيلم، وأن إيقافه في الأردن فقط لا يكفي. وتم توجيه هذه المطالبات لعدد من الجهات الرسمية الأردنية، وهي: هيئة الإعلام باعتبارها المؤسسة المعنية بالرقابة على المحتوى الإعلامي، حسب المغردين، والهيئة الملكية الأردنية للأفلام، ونقابة الفنانين الأردنيين.
كما طالب المحتجون بمقاطعة المهرجانات التي عرضت الفيلم وكل من شارك فيه من منتجين وممثلين ومحاسبتهم باعتبارهم خصومًا للمجتمعات، ونادوا برفع دعوى قضائية لمحاكمتهم، وسحب عضوية الممثلين من نقابة الفنانين الأردنيين، ومقاطعة أعمال “هؤلاء المجرمين قضائيًّا ووطنيًّا ونبذهم”. وطالت مطالبات المحاسبة كذلك الهيئة الملكية للأفلام المسؤولة عن ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار، وكل من أسهم ماديًّا في دعم الفيلم. فضلًا عن تقديم اعتذار صريح “للأسرى وذويهم”.
– تأييد الأسرى: الأسرى ليسوا مادة لخيالاتكم
حظي موضوع تأييد الأسرى والدفاع عنهم وعن عوائلهم باهتمام بالغ من قبل المشاركين في الحملة، ووصفوهم بعبارات التبجيل والتقدير العالي؛ فهم “أشرف من كل الدنيا..”، و”أبطالنا”، و”أنبل الناس”، و”تاج رؤوسنا”، و”طهرنا وعزنا وقوتنا وتاجنا”.
وتحيَّن آخرون الفرصة للتذكير بالمعاناة والظلم والحزن الذي يعاني منه الأسرى في سجون الاحتلال، “ألا يكفيكم خذلانهم وقهرهم ومعاناتهم في سجون الاحتلال”. واستنكر آخرون استخدام الأسرى نوعًا من الدراما والحبكة السنيمائية للتأكيد على أن القضية لا تتحمل التحريف فـ”الأسرى مش مادة لخيالاتكم ولا قصصكم المُحرفة”.
أما عن قضية تهريب النطف بحد ذاتها، فقد أيدها عدد من المغردين عن طريق احتفائهم بها، ودفاعهم عن الأسرى الذين يقومون بها، واختلفت طرق هذا التأييد لتنقسم إلى شكلين،:الشكل الأول: بالتعبير عن الأهمية المعنوية لهذه القضية في مواجهة الاحتلال والإشارة إليها نوعًا من أنواع مقاومة الاحتلال. فـ”الوصف الذي يليق بتهريب النطف.. هو الإبداع في المقاومة.. فصاحة الفعل أمام تأتأة العجز والاستسلام.. فحين يولد طفل لأسير يقبع خلف القضبان فهذا هو الانتصار!!”. والشكل الثاني كان عن طريق بيان دقة وتعقيد الإجراءات التي تمر بها النطف لتهريبها من داخل السجون حتى تصل إلى زوجة الأسير، فهي ليست بالبساطة التي صورها الفيلم وبالتالي يستحيل فيها الخطأ. “اتبع الأسرى ومن يساعد على تهريب النطف وصولًا إلى المستشفى أقصى درجات الحيطة والحذر، وكان الناقل يقسم على كتاب الله بحضور شاهديْن من أهل الزوجين أنه استلم النطف من الأسير وحافظ عليها حتى أوصلها إلى مأمنها”، فضلًا عن أن “هذا الحدث يتم بكل سرية وأمان عال والناقل يكون من الناس ذوي الثقة والأمانة العالية”. وتداول المقاطعون صورة لفتوى شرعية للدكتور الشيخ عكرمة صبري حول مشروعية إجراء عمليات التلقيح باستخدام النطف المهربة من الأسرى وفق شروط محددة.
وتمثَّل آخر أشكال تأييد الأسرى بتعبير عدد من المغردين عن ثقتهم بأن هذا الفيلم لن يقلل من أهمية قضية الأسرى وعملية تهريب النطف، ولن تنجح محاولات تشويه القضية والتشكيك في أبنائها، وأن الفيلم “لن يغير من حقيقة طهر هذه الظاهرة الساطعة كسطوع الشمس في رابعة النهار!!”.
– الانتقادات
وُجِّهت انتقادات شديدة اللهجة لطاقم العمل، خاصة ممن ارتبطت أسماؤهم بشكل مباشر بالفيلم، مثل صبا مبارك، والتي مثَّلت دور زوجة الأسير ووالدة أميرة، والمخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد، واتُّهموا بأنهم “يخدمون دولة الاحتلال والدول الداعمة لهم بتعمدهم تشويه مآثر الفلسطينيين”، وأن “الخزي والعار سوف يلاحق كل من شارك في هذا العمل”؛ ذلك أنهم “تجردوا من الإنسانية والشرف”، و”ماديون يسعون إلى المال والشهرة على حساب ضمائرهم وقضايا أمتهم”، وأنهم “لا يمثلون العرب”. كما وُجِّهت انتقادات عديدة إلى المؤسسات التي ارتبطت بالفيلم، مثل هيئة الإعلام والرقابة، والهيئة الملكية للأفلام، وتساءل المدونون عن دور هذه المؤسسات ومدى “اطلاعها على نصوص الأفلام قبل العمل عليها”. كما استغرب المغردون أيضًا من إجازة المؤسسات وسماحها بإنتاج مثل هذه الأعمال التي يجب عليهم “الاستحياء والتبري منها”. كما وجهت انتقادات لجميع الدول المشاركة بالعمل باعتبارها دولًا مطبعة أو ساعية للتطبيع، وأن دعمها ووقوفها مع القضية الفلسطينية لم يعد أمرًا ذا أولوية مقارنة بعلاقتها مع الاحتلال. وعقد المحتجون مقارنة بين فكرة الفيلم وأعمال درامية أخرى كان يمكن لطاقم العمل عليها مثل فكرة هروب أسرى نفق الحرية، والشيخ جراح، وغيرها.
– رفض الفيلم واستنكار من الإعجاب به
ظهر عدد من التدوينات التي تذكر صراحة رفضها للفيلم بمختلف العبارات، بل وتعبر عن تبرؤها من الفيلم وممثليه، وأكثر هذه التدوينات صدرت عن مواطنين أردنيين وفلسطينيين، لأن القضية تمس في الأساس البلدين من ناحية أبطالها ومراحل إنتاجها وقضيتها، وباعتبار الفيلم يناقش قضية فلسطينية ويمثِّل الأردن في المهرجانات والجوائز الدولية، وردَّد كثيرون أن “فيلم أميرة لا يمثِّل شعبنا”.
كما استنكر المحتجون إبداء عدد من الجمهور إعجابهم بقصة الفيلم؛ حيث ذكر مغردون استغرابهم من التصفيق الحار الذي حظي به الفيلم في مهرجان فينيسيا الدولي للأفلام. كما قابل المغردون احتفاء صبا مبارك -بطلة العمل- بالفيلم في حسابها على شبكات التواصل الاجتماعي بالاستنكار الكبير. كما استنكر آخرون عرض الفيلم في مهرجانات الأفلام الدولية، مثل مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان، واستغربوا من السبب الذي يؤدي للإعجاب به ليصل لمستوى تمثيله للأردن في الأوسكار. كما استنكر عدد من المغردين وجود مدافعين عن الفيلم يحتجون على الانتقادات الموجهة للفيلم بدعوى أنها انتقادات مسبقة، لم يشاهد أصحابها الفيلم، وإنما وجهوا انتقاداتهم بناء على متابعة منشورات آخرين، واعترض بعض المغردين على من يدعو لمشاهدة الفيلم، بأن الواجب مقاطعته لا مشاهدته “مع الأسف مش بعيدة تكون مشاهداته عالية عشان الناس الفضولية حتى لو كانوا معارضين فكرة الفيلم”.
– دعوة لمشاهدة الفيلم والتحقق مما يثار عنه
ظهرت بعض التدوينات التي تستنكر الانتقادات التي وجهت للفيلم قبل مشاهدته، والتأثر بآراء الآخرين بطريقة عمياء، ودعت إلى ضرورة التحقق قبل إبداء الرأي. وبالرغم من أنها مجرد مشاركات قليلة إلا أنها ولَّدت ردود أفعال تستنكر هذه الدعوة كما ذكر سابقًا. ويقول أحدهم: “شبه متأكد الي غردوا على هاشتاج #اسحبوا_فيلم_أميرة ..ما شافوا الفيلم ..بس سمعوا عنه فقط عبر السوشيال ميديا ..من خلال النشطاء …لا تحكوا عن شي بس عشان غيرك حكى عنه وانت مش عارف عنه شي”.
– استعراض لمحتوى الفيلم وحديث عن آثاره الاجتماعية والنفسية
ظهرت مشاركات أخرى استعرض خلالها المحتجون محتوى الفيلم وأشاروا إلى مواضع اعتراضهم، وإلى آثار ذلك على المستوى النفسي والاجتماعي للأسرى وعائلاتهم. وانتقد المغردون محتوى الفيلم بشكل عام، حيث وصفه البعض بأنه “لا يرقى لمعنى المحتوى”، وأنه ضد الإسلام والمسلمين ولا يخدم إلا الاحتلال كونه “قصة متصهينة وسخيفة ومن الخيال!”. كما اعتبروا محتوى الفيلم خياليًّا وروائيًّا وغير واقعي لاستحالة حدوث الخطأ في عملية تهريب النطف التي بُنيت عليها حبكة الفيلم، وفيه تشويه للواقع و”تضليل وكذب مطلق”. واعتبر المشاركون فكرة الفيلم أنها حبكة درامية “غير مسؤولة”.
واستعرضوا أهم الآثار السلبية على المستويات النفسية والاجتماعية للأسرى وعائلاتهم، ودارت في مجملها حول:
– تشويه سمعة الأسرى وزوجاتهم وأبنائهم، وزراعة الشك في نسب أي طفل يولد عن طريق تهريب النطف، بما يؤدي إلى تفكك في المجتمع، وخاصة أن الأسرى من أهم مكونات المجتمع الفلسطيني، و”هذه قضية قذف أعراض واضحة، و”هي القضية الوحيدة اللي بصير فيها دم في مجتمعنا”. واعتبر كثيرون أن الفيلم “يغتال الأسرى معنويًّا ويطعنهم في أنسابهم وشرف زوجاتهم”، ويسبب لهم “الأذى النفسي”.
– زراعة الشك هذه تؤدي إلى الاستهانة بعمليات النطف المهربة، باعتبارها أحد أكثر أشكال المقاومة تعقيدًا، والفيلم في تصورهم جزء من خطة ممنهجة لإضعاف المقاومة الفلسطينية، وللفيلم آثار خطيرة تهدف في المحصلة إلى “رفض الفكرة وعدم قبولها اجتماعيًّا وينتهي آخر آمل لأسرى المؤبدات بالحصول على ولد”.
– احتفاء بأطفال الأسرى من النطف المهربة وزوجاتهم
تداول المغردون في الوسم ردود أفعال زوجات الأسرى اللواتي أنجبن بنطف مهربة، ومدى فخرهن بخوضها، والصعوبات والتحقيقات التي مررن بها لإنجاح العملية، وكشفوا أن “الأسير، وليد دقة، تعرض للتحقيق الشديد ودخل العزل لمدة 6 شهور فقط بسبب إنجابه لابنته “ميلاد” عبر نطق مهربة”. وأكدوا تعقيد عملية تهريب النطف، التي تخضع لحسابات أمنية ودينية وطبية، وسبب عدم الكشف عن هذه الطرق هو حرص الأسير الفلسطيني على استمرار وجوده خارج السجون. ووصفت تدوينات سعادة الزوجات بأطفالهن وتوضيح مدى أهمية أطفالهم للمقاومة. “أتذكر حجم السعادة التي اجتاحت بيت الأسير والجميع كان سعيدًا بالطفل فرحة لا توصف وقبل يومين أيضًا رزق أسير في غزة بتوأم”. وسردت زوجات الأسرى موقف الاحتلال الذي عجز عن اكتشاف تفاصيل عملية التهريب وفشلهم في إيقافها حتى الآن. وأكدت الأمهات “نحن نعلم جيدًا أن أبناءنا من أصلابنا، وكل مساعيكم في إفشال هذه الخطوة المفرحة لنا لن تنجح”. كما تم تداول أسماء الأسرى وزوجاتهم وأطفالهم ونشر صورهم تحت اسم “سفراء الحرية” كنوع من الاحتفاء بهن.
– ردود الفعل الرسمية
تداول المحتجون في الوسم عددًا كبيرًا من ردود الأفعال الرسمية على الفيلم وعلى حملة المقاطعة له، وكانت على ثلاثة مستويات:
- مؤسسات وشخصيات فلسطينية: طالبت بسحب الفيلم من الترشح للأوسكار، ومنع بثه ونشره، وأكدت مساعيها بالتواصل مع المؤسسات الأردنية، واتخاذها إجراءات ضد فيلم أميرة، بالإضافة إلى إجراءات أخرى اتخذتها لمنع إنتاج الأفلام المسيئة في المستقبل. وكشفت عن عدم استجابة منتج فيلم أميرة لاعتراضاتها ضد الفيلم قبل إصداره، ورفضه لمحاولات المساعدة في تصحيح الرواية الحقيقية لعملية تهريب النطف. ومن أهم المؤسسات: نادي الأسير، ووزارة الثقافة الفلسطينية، ورئيس هيئة شؤون الأسرى، ومكتب إعلام الأسرى، والحركة الأسيرة الفلسطينية.
- مؤسسات وشخصيات أردنية: يمكن تصنيف ردودها زمنيًّا كالآتي: التصريحات الأولى متعلقة بترشيح الأردن فيلم أميرة للأوسكار، تلاها تصريح هيئة الاعلام الأردنية بنفي أي أخبار عن إيقاف عرض الفيلم، وجاءت التصريحات التي تلتها محاولةً للتنصل من المسؤولية؛ إذ اعتبرت الهيئة الملكية للأفلام أن فيلم أميرة “خيالي وروائي وليس وثائقيًّا، واختيار أسلوب رواية القصة وسرد الأحداث يعود لطاقم العمل”، كما ظهرت تصريحات رسمية تدين الفيلم وتنتقده بشدة وتؤكد أهمية قضية الأسرى، ونشر نقيب الفنانين الأردنيين أنه “ليس لنا علاقة بفيلم أميرة، وموقفنا أن الفن يحاكي واقع الناس، وهناك تشويه في بعض الحالات للقضية الفلسطينية”.
- تصريحات كادر الفيلم: ويمكن تقسيمها زمنيًّا كالآتي: احتفاء وسعادة وفخر بإنتاج الفيلم، مثل تصريحات الممثلة الرئيسية، صبا مبارك، التي عبَّرت في تدوينة لها على حسابها في تويتر عن فرحتها أثناء افتتاح الفيلم، وكذلك أحد منتجي الفيلم، معز مسعود، وهي أيضًا من أوائل التصريحات قبل انتشار الوسم تلتها تصريحات ترى أن “الفيلم خيالي، وأن كافة الأطفال تم إثبات نسبهم فيما بعد”. وبعد اشتداد الضغوطات عليهم، تغيرت نبرة تصريحاتهم وأعلنت عن إيقاف عرض الفيلم، وأنهم يتفهمون “غضب الكثيرين على ما ظنوه إساءة للأسرى”.
4.3. نتائج تحليل المضمون
يركز هذا المحور على ثلاثة أبعاد، هي: أماكن التدوين، والوسائل التعبيرية، وأساليب التعبير المستخدمة التي ظهرت في العينة العشوائية.
أولًا: أماكن التدوين
الشكل (5): أماكن المدونين المشاركين في وسم #اسحبوا_فيلم_أميرة
يفضِّل كثير من مستخدمي موقع “تويتر” إخفاء مواقعهم الجغرافية، وفيما يخص شبكة المغردين في وسم “#اسحبوا_فيلم_أميرة” في الفترة الزمنية التي جمعت فيها البيانات، فقد أظهر 1728 مستخدمًا موقعهم. ويشير الرسم أعلاه إلى أن أغلب المشاركين كانوا من فلسطين والأردن، حيث ظهرت 1159 تدوينة منهما. وهذا أمر مبرر ومفهوم، فالفيلم يتناول قضية فلسطينية، وأغلب طاقم العمل من الأردن. وحاز الوسم اهتمام عدد كبير من المشاركين في مواقع جغرافية أخرى من دول عربية وغربية وغيرها كما يظهر في الشكل (5).
ثانيًا: الوسائل الرقمية والأشكال التعبيرية
استخدم المدونون مدى واسعًا من الأشكال التعبيرية؛ فإلى جانب النصوص المكتوبة المصاحبة للوسم، تداول المدونون أخبارًا صحفية في عدد من المواقع الإخبارية، سواء بوضع روابط مباشرة للصفحات، أو بنشرها نصوصًا مصوَّرة. كما قام المحتجون بتصميم ملصقات باستخدام صور مأخوذة من الفيلم، أو بوضع بوستر الفيلم والكتابة عليه، أو مقاطع مصورة منه، والتعليق عليها. كما ظهر في الوسم كثير من الصور الخاصة بالقضية الفلسطينية، مثل صور للأسرى من النساء والأطفال، وصور من مقاومة الفلسطينيين للاحتلال والانتفاضات السابقة.
الصورة (1): نماذج من التصاميم التي نشرت في الوسم
المصدر: تويتر- شبكة وسم #اسحبوا_فيلم_أميرة
ثالثًا: أسلوب التدوين: شتم ودعاء
تملك المحتجين غضب شديد ألجأهم لاستخدام تعابير غاضبة لا تخلو من الشتم وتوجيه أقسى عبارات النقد لكل ما يمت للفيلم بصلة. كما ظهرت كثير من عبارات الاستعانة والاحتساب.
ومن أكثر ردود الأفعال التي يتوجب الوقوف عندها، رغم قلَّتها، تدوينات تدعو للعنف واستخدام القوة ضد المشاركين في إنتاج الفيلم ولو بتجاوز القانون، بدعوى محاسبتهم “بالقوة”، و”هدر دمائهم” لقاء عملهم الذي يعد خيانة للقضية الفلسطينية. كما استخدم المحتجون في تدويناتهم كثيرًا من الشتائم الموجهة لعدد من الأطراف ذات العلاقة بالفيلم، تُظهر الصورة أدناه بعضًا منها.
الشكل (6): سحابة كلمات التعبير عن الغضب بالشتم
كما أكثر المحتجون من الدعاء، والتوجه إلى الله، والاستعانة به في إحقاق الحق ومعاقبة من له علاقة بالفيلم. وظهر كثير من التدوينات على شاكلة “اللهم انتقم من كل من شارك أو ساهم في هذه القذارة”. معتبرين أنه “ما زالت الحرب على الأمة وعلى قضاياها قائمة، حسبنا الله ونعم الوكيل”. كما استعانوا بآيات من القرآن الكريم وغيرها من أشكال الأدعية والاحتساب.
الشكل (7): سحابة كلمات المحتوى الديني
- مناقشة النتائج
طرحت الدراسة تساؤلات حول حملة مقاطعة “فيلم أميرة” على موقع تويتر بهدف معرفة طبيعة الشبكة التي تكونت، والمجموعات التي ظهرت، والقضايا التي طُرحت، فضلًا عن نتائج الحملة وتبعاتها على أرض الواقع. واستخدمت في ذلك عُدَّة منهجية مركبة لتحقيق هدف الدراسة. ويرجع السبب في اختيار هذه الحالة إلى دراسة المزيد من حالات الاحتجاج الناجحة ومعرفة العوامل التي ساعدت على ذلك.
بيَّن تحليل الشبكات الاجتماعية لوسم “اسحبوا فيلم أميرة” أن شبكة الوسم تشبه إلى حد كبير شبكات “التجمعات المجتمعية”، وعادة ما يظهر هذا النوع من الشبكات على تويتر أثناء النقاش حول موضوعات شعبية رائجة؛ حيث لكل مجموعة جمهورها ومؤثروها ومصادرها المعلوماتية. وهذه التجمعات توضح الزوايا المتنوعة حول الموضوع بناء على علاقته بالجمهور المشارك، وتُشبَّه هذه التجمعات بالبازار الذي يضم عدة بؤر مختلفة للأنشطة(36). وقد توزعت شبكة الوسم على عدد من المجموعات المهتمة بقضايا فرعية، لكن تصب جميعها في خدمة قضية المقاطعة كأحد أشكال الاحتجاج، وشكَّلت زخمًا معرفيًّا وجماهيريًّا مؤثرًا أدى في نهاية المطاف إلى تغيير أمر واقع لم يكن ليتحقق لولا الحملة الرقمية. وعليه، تشكِّل هذه الحالة نموذجًا للحراكات الرقمية الناجحة، وهو ما يدعم الفريق الذي ما زال يعول على الفضاءات الرقمية بديلًا للفضاء الهابرماسي، رغم صحة وجود بعض مظاهر الغضب وعدم الاحترام التي جعلت بيونغ هان(37) يشكِّك في تحقق فضاء عام رقمي حقيقي إلا أن حديثه عن اعتبار هذا الفضاء مجرد تحركات فردية بلا روح جامعة وحشود غير متماسكة غير صحيح في حالة الوسم محل الدراسة. فقد أظهر تحليل الشبكات أن ما جمع هذه الحشود هو حس جمعي طاغ بانتمائهم لقضية تعنيهم رغم اختلاف مشاربهم واهتماماتهم. وما نقوله بشأن استمرار ظهور حالات ناجحة لفاعلية الفضاء الرقمي، هو عدم اعتبار “الرقمنة” عاملًا أساسيًّا وجوهريًّا في تحديد فاعلية أي نشاط احتجاجي، وإنما ضرورة الانتباه إلى عوامل أخرى محيطة بالظاهرة المدروسة، أو كموضوع الحوار الذي يجري، وحيثياته، وأطرافه، تسهم بشكل كبير في تحديد مسار الاحتجاج ومآلاته.
وفي دراسة الحملة التي بين أيدينا من وجهة نظر شبكية، تمكَّنَّا من رصد جميع الخيوط التي ربطت بين جهات وأطراف مؤثرة، كان أبرزها صفحات الممثلين أنفسهم، والجهات المنتجة والمؤسسات الداعمة. كما استخدمت الصفحات الإعلامية بشكل واضح في دعم الحملة والترويج لها، بما أسهم في تشكيل رأي عام غاضب ومُطالب باتخاذ عدد كبير من الإجراءات أولها مقاطعة الفيلم من قبل الجماهير، وسحب الفيلم من قبل الجهة المنتجة، وعدم تقديمه للأوسكار كما كان يراد له، ولم يتوقف الأمر عن هذا الحد بل امتدت المطالبات إلى طلب الاعتذار لا بل المحاسبة والعقاب كما ظهرت بعض أشكال التهديد.
موضوعاتيًّا، ربما كان لعدم التوقف عند نقطة المقاطعة والسحب تأثير كبير فيما تحقق للحملة من نتائج. فرفع سقف المطالب أسهم بشكل كبير في تحقيق المطلب الأساسي منها وهي سحب ترشح الفيلم من الأوسكار، ووقف عرضه في دور السينما.
وأسهمت شبكة الوسم على تويتر في توفير قصص واقعية لعائلات الأسرى وأطفالهم أكثر من دورها في التحشيد الجماهيري على أرض الواقع، بل كان الوسم متزامنًا معه، فالأمر لا يتطلب حشودًا كبيرة، وإنما يهدف إلى كشف زيف رواية الفيلم واستبدال الرواية الصحيحة بها، وتؤدي وسوم تويتر عادة هذا الدور كما حصل في الاحتجاجات المناهضة للحكومة في تايلاند؛ إذ استُخدم تويتر لبناء روايات جماعية ونشر معلومات أكثر من الحشد للأنشطة الاحتجاجية غير المتصلة بالإنترنت(38).
وشكَّل موضوع الفيلم قضية حساسة جدًّا لا يمكن التهاون بالمساس بها بأي شكل من الأشكال، وهو موضوع الشرف والعرض؛ إذ يُعرَف عن المجتمعات العربية عمومًا، خاصة الأردن وفلسطين، تشددها الكبير في قضايا تمس الشرف والعرض، إلى درجة ارتباطها بما يعرف بقتل الشرف، فالمس بشرف العائلات من الخطوط الحمراء التي تراق في سبيل الحفاظ عليها الدماء رغم كونها جرائم تخالف تعاليم الدين الإسلامي(39). فكيف إذا كان الأمر يتعلق بعائلات أسرى لدى دولة الاحتلال؟! ولذلك، فإن احتجاجات المشاركين بعبارات تتضمن كلمة “أشرف” و”شرف” تكررت بشكل كبير في تدوينات المحتجين، الذين أوردوا جميع الحجج العملية والدينية التي تدعم قضية النطف المهربة، من فتاوى دينية، وإجراءات معقدة، شديدة الاحتراز من وقوع أي خطأ.
وتثير دراسة هذا الموضوع الانتباه إلى دور الإعلام وصناعة الأفلام العربية في تمثيل قضايا الشعوب وهمومها، وحفاظها على مستوى عال من احترام الجمهور وثقافته ودينه، خاصة إذا كانت أعمالًا عربية بأسماء عربية وتمويل عربي. وخلافًا لذلك، لن تقبل الجماهير بأدوار تمس قضايا ثقافية حساسة متجذرة في وعي الشعوب تتعلق بالشرف والنسب، فضلًا عن قضايا مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل الممكنة. فهذه الشعوب العربية ورغم ما تعيشه من مآس ما زالت حية، وقد وجدت في الفضاءات الرقمية فسحة من المشاركة والتعبير. وما زالت ظواهر الاحتجاجات الرقمية العربية على وسائل الإعلام الاجتماعي تحتاج إلى المزيد من الدراسات الجادة.
خلاصات واستنتاجات
– عادة ما تظهر شبكة من نوع “التجمعات المجتمعية” في حالات الاحتجاج التي تحقق نجاحًا في تحقيق مطالبها، ويتميز هذا الشكل من الشبكات بظهور مجموعات متعددة صغيرة إلى متوسطة الحجم، جميعها تهتم بالحديث عن موضوع الاحتجاج ولكن كلًّا منها يهتم بزاوية نظر مختلفة، ولا تظهر مجموعات معارضة حقيقية، وإنما بعض الآراء المتفرقة التي لا تشكِّل كتلة معارضة.
– يلعب المؤثرون دورًا مهمًّا في نشر المعرفة بالاحتجاجات الرقمية، والتحشيد لها، وتصدرها، لاسيما إذا كانوا متنوعين في مشاربهم وأنواعهم، بين الشخصيات الساخرة، والدينية، والإعلامية، وغيرهم من المواطنين والمستخدمين العاديين.
– لا يكاد يوجد احتجاج رقمي عربي، إلا ويكون المحتوى الديني ظاهرًا بوضوح، من خلال استخدام النصوص الدينية، أو الأدعية، أو العبارات الدينية بمختلف أشكالها.
– تستهدف بعض المجموعات التسويقية الدخيلة الوسوم المتصدرة للوصول إلى أكبر عدد من المستخدمين. وهذه المجموعات رغم كونها دخيلة وانتهازية إلا أنها تشير بشكل غير مباشر إلى تصدر الوسم الأصلي وتأثيره. وأحيانًا تكون هذه المجموعات الانتهازية ذات أبعاد سياسية.
– سيبقى الحديث عن إمكانيات الفضاء العام الرقمي مثار جدل واهتمام الباحثين، طالما نشهد حالات فشل ونجاح مستمرة، ويبدو أن الفضاء الرقمي أصبح أمرًا واقعًا، ولا يعزى نجاح حالات التواصل والحراك والتحشيد والتأثير إلى وجوده من عدمه، وإنما إلى وجود عوامل أخرى يمكن الكشف عنها من خلال المزيد من دراسة الحالات الناجحة. ولذلك يمكن القول: إن مواقع التواصل الاجتماعي ما فتئت تؤتي أكلها في تشكيل الرأي العام، من خلال الحشد والتغيير الواقع في كثير من الأمثلة، إذا ساندتها مجموعة من العوامل في حال توافرها، وفي الحالة المدروسة يمكن القول: إن عوامل النجاح الخاصة بحالة مقاطعة فيلم أميرة وسحبه كانت على النحو التالي:
- طبيعة موضوع الاحتجاج وحساسيته وأهميته بالنسبة للمجتمع، ففي مجتمع شرقي يمثِّل العرض والشرف أمرًا خطيرًا لا يمكن المساس به، ولذلك ظهرت ردود فعل قوية جدًّا من قبل المشاركين في الحملة.
- تصعيد لغة الخطاب وتنوع المطالب، جعل من التجاوب مع المطلب الأساسي وهو “سحب الفيلم” أمرًا ممكنًا.
- مخاطبة الجهات المعنية مباشرة بالقضية وأطرافها جميعها، فالحملة لم تقتصر فقط على الجهة المنتجة وإنما طالت الفنانين وأغرقت صفحاتهم الشخصية بالردود والتعليقات، وكذلك مخاطبة جهات رسمية عديدة.
- الزخم الإعلامي ومشاركة عديد من الوسائل الإعلامية في تغطية أخبار الحملة ومتابعة تطوراتها.
- المشاركة الدولية، فرغم كون القضية خاصة بأسر الأسرى الفلسطينيين، إلا أنها مسَّت عددًا كبيرًا من المشاركين المنتشرين في بقاع الأرض.
- التزامن بين الاحتجاج الرقمي، وتنظيم فعاليات احتجاجية في الشارع.
- سمحت شبكة الوسم بكشف الحقائق حول قضية النطف المهربة بأدلة واقعية عملية، وأسهمت مشاركة الأطراف المعنية الحقيقية بقصصهم الواقعية في تضيق المجال أمام انتشار قصة الفيلم.
المراجع
(1) “الأردن ترشيح فيلم “أميرة” لجوائز الأوسكار لعام 2022″، الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، (تاريخ الدخول: 12 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/ckNT2.
(2) “ميلاد الحلم” “تعليق على فيلم أميرة”، يوتيوب، 13 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 23 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/cpS25.
(3) “الحركة الأسيرة تصدر بيانًا للرأي العام حول فيلم “أميرة””، وكالة قدس نت للأنباء، 8 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 25 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/CKMOW.
(4) س.ك. “”الثقافة” و”مؤسسات الأسرى” و”الإعلام” ترفض فيلم “أميرة” وتعتبره إساءة لكرامة الأسرى وتاريخهم المشرف”، وكالة وفاء، 8 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 25 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/iL029.
(5) ليث الجنيدي، “هيئة إعلام الأردن: لم نتلق طلبًا لعرض فيلم “أميرة” بدور السينما”، وكالة الأناضول، 12 سبتمبر/أيلول 2021، (تاريخ الدخول: 25 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/grZ46.
(6) “بالصور… اعتصام امام هيئة الافلام ضد فليم اميرة”، صحيفة السوسنة، 12 سبتمبر/أيلول 2021 (تاريخ الدخول: 25 ديسمبر 2021)، shorturl.at/joqy3.
(7) محمد دياب، صفحة فيسبوك، “بيان من أسرة فيلم أميرة”، 8 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 9 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/dnO58.
(8) “الهيئة الملكية الأردنية للأفلام تسحب فيلم “أميرة” من سباق الأوسكار”، موقع الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، 9 ديسمبر/كانون الأول 202، (تاريخ الدخول: 15 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/enstU.
(9) “حملة لمقاطعة قنوات “إم بي سي” بقيادة الداعية العريفي”، القدس، 26 يونيو/حزيران 2014، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2022)، shorturl.at/eFR45.
(10) صفحة “حملة مقاطعة قناة رؤيا الفضائية”، فيسبوك، (تاريخ الدخول: 10 يناير/كانون الثاني 2022)، shorturl.at/mr069.
(11) Marc Smith et all., “Mapping Twitter Topic Networks: From Polarized Crowds to Community Clusters,” Pew Research Center: Internet, February 20, 2014, “accessed September 13, 2022”. https://pewrsr.ch/3C8TxfB.
(12) Moira Maguire, Brid Delahunt, “Doing a thematic analysis: A practical, step-by-step guide for learning and teaching scholars,” All Ireland Journal of Teaching and Learning in Higher Education, 9(3)., (2017): 3352.
(13) Ibid, 3354.
(14) David Boonin, The Problem of Punishment (New York: Cambridge University Press, June 2012), 12-19.
(15) Linda Radzik, “Boycotts and the Social Enforcement of Justice,” Social Philosophy & Policy, Vol. 34, Issue 1, (2017): 102-122.
(16) Ibid, 120.
(17) أسماء ملكاوي، مشاري الرويح، يحيى السيد عمر، “حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على تويتر: دراسة في تحليل الشبكات الاجتماعية”، لباب للدراسات الإستراتيجية والإعلامية (الدوحة، مركز الجزيرة للدراسات، العدد 10، 2021)، 11-58.
(18) Radzik, “Boycotts and the Social Enforcement of Justice,”: 122.
(19) Pavel Skopal, “Going to the Cinema as a Czech: Preferences and Practices of Czech Cinemagoers in the Occupied City of Brno, 1939–1945,” Film History, Vol. 31, Issue 1, (2019): 27-55.
(20) Ibid, 50.
(21) Ross Melnick, “Hollywood’s Muddle East: political change in Egypt and Israel and the consequences for Hollywood’s Middle Eastern Movie Theaters,” Historical Journal of Film, Radio and Television, (2016): 272-294.
(22) Jake Gordon, “Does the Internet provide the basis for a public sphere that approximates to Habermas’ vision?,” January 2004, “accessed December 12, 2021”. shorturl.at/LMP36.
(23) انظر: حمزة مصطفى المصطفى، المجال العام الافتراضي في الثورة السورية، (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، 2012).
(24) Mohammed El-Nawawy, Sahar khamis, “Collective identity in the virtual Islamic public sphere: Contemporary discourses in two Islamic websites”, International Communication Gazette, Vol. 72, Issue 3, (2010): 229-250.
(25) ملكاوي، الرويح، عمر، “حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على تويتر” مرجع سابق، 11-58.
(26) أسماء ملكاوي، “الحركات الاحتجاجية الرقمية في المنطقة العربية وتحولات المجال العام: دراسة ظاهراتية للحالة الأردنية”، مركز الجزيرة للدراسات، 3 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 28 ديسمبر/كانون الأول 2021)، bit.ly/3Dt27GV.
انظر: (27)
Amai Jamal, The Arab Public Sphere in Israel: Media Space and Cultural Resistance (Indiana University Press, 2009), 208.
انظر: (28)
Byung-Chul Han, “In the Swarm Digital Prospects,” The MIT Press Vol. 3, (2017).
(29) انظر:
Laura Ivey, “Byung-Chul Han, In the Swarm: Digital Prospects”, Rhizomes: Cultural Studies in Emerging Knowledge, Issue 32, (2017).
(30) انظر:
Thomas Friedman, Thank You for Being Late: An Optimist’s Guide to Thriving in the Age of Accelerations (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2016).
(31) انظر:
Niall Ferguson, The square and the Tower: Networks, hierarchies and the struggle for global power (London: Allen Lane 2017).
(32) عبد الله الزين الحيدري، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، 25 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2022)، shorturl.at/bcTW3.
(33) “Sperm Smugglers|AlJazeera World”, Youtube, November 8, 2017, “accessed December 9, 2021”. shorturl.at/lpqX6.
(34) رأفت خليل حمدونة، “أطفال النطف المهربة ثورة إنسانية في وجه السجان”، مركز الأسرى للدراسات، 2016، (تاريخ الدخول: 22 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/hlqSX.
(35) شذى حماد، “النطف المحررة: عن استعادة السيطرة على الحياة”، مجلة حبر، 22 ديسمبر/كانون الأول 2021، (تاريخ الدخول: 23 ديسمبر/كانون الأول 2021)، shorturl.at/entvY.
(36) Smith et all., “Mapping Twitter Topic Networks: From Polarized Crowds to Community Clusters,” op, cit.
(37) Han, “In the Swarm Digital Prospects,” op, cit.
(38) Aim Sinpeng, “Hashtag activism: social media and the #FreeYouth protests in Thailand,” Critical Asian Studies, Vol. 53, no. 2, (February 18, 2021) 192-205,
(39) علي عبد الأحد أبو البصل، “جرائم الشرف: دراسة فقهية مقارنة”، مجلة البحوث والدراسات الشرعية، (المجلد 2، العدد 9، 2013)، 225-264.