محمد الزين محمد أحمد إبراهيم – Mohamed Elzin Mohamed Ahmed Ibrahim*

 

ملخص

تتناول هذه الدراسة الأمراض والاختلالات (الباثولوجيا) التي تصيب أجهزة الاستخبارات بوصفها تحديًا يعوق عمل هذه الأجهزة وفاعليتها، وتطرح السؤال المركزي التالي: كيف تؤثر الاختلالات المؤسسية والنفسية في أداء الأجهزة الاستخبارية، لاسيما في كفاءة جمع المعلومات وتحليلها وصنع القرار؟ تركز الدراسة على التحيزات المعرفية والشك المرضي كعوامل نفسية رئيسة تؤثر في الإستراتيجيات الاستخبارية، وتعتمد منهجية تحليلية تشمل مراجعة الأدبيات والنمذجة النظرية والتحليل السوسيولوجي. وتكشف النتائج أن التصدي لهذه الظاهرة يتطلب إصلاحات مؤسسية لتعزيز التنسيق الداخلي وتطوير نماذج تحليلية تحد من التأثيرات النفسية السلبية. توصي الدراسة بتعزيز الشفافية والمساءلة داخل الأجهزة الاستخبارية، وإدماج برامج تدريبية لصقل مهارات التفكير النقدي وإدارة الضغوط؛ مما يسهم في رفع الجاهزية لمواجهة التحديات الأمنية بمرونة وفعالية.

الكلمات المفتاحية: باثولوجيا الاستخبارات، التحيزات المعرفية، الإصلاح المؤسسي، أداء الأجهزة الاستخبارية، صنع القرار.

Abstract

This study examines the pathology of intelligence as a challenge that hinders the effectiveness of intelligence agencies. It poses the central question: How do institutional and psychological dysfunctions impact the performance of intelligence agencies, particularly in the efficiency of information collection, analysis and decision-making? The study focuses on cognitive biases and pathological suspicion as key psychological factors influencing intelligence strategies. Employing an integrated analytical methodology, it incorporates literature review, theoretical modelling and sociological analysis. The findings indicate that addressing this issue requires institutional reforms to enhance internal coordination and develop analytical models that mitigate negative psychological effects. The study recommends fostering transparency and accountability within intelligence agencies and integrating training programmes to refine critical thinking and stress management skills, ultimately enhancing preparedness to tackle security challenges with flexibility and effectiveness.

Keywords: intelligence pathology, cognitive biases, institutional reform, intelligence agency performance, decision-making.

_______________

د. عميد (متقاعد) محمد الزين محمد أحمد إبراهيم، باحث في الدراسات الاستخباراتية، محاضر بأكاديمية جوعان بن جاسم للدراسات الدفاعية، وكلية أحمد بن محمد العسكرية، في قطر.

Dr. Mohamed Elzin Mohamed Ahmed Ibrahim (Retired Brigadier General), researcher in intelligence studies, and Lecturer at Joaan Bin Jassim Academy for Defense Studies and Ahmed Bin Mohammed Military College, Qatar

مقدمة

تُعَدُّ الاستخبارات إحدى الركائز الأساسية التي يعتمد عليها أي نظام سياسي أو أمني في العصر الحديث؛ فهي أداة حيوية لجمع المعلومات وتحليلها بهدف دعم عملية صنع القرار الإستراتيجي (Strategic Decision-Making) في المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وتُشكِّل أجهزة الاستخبارات حائط الصد الأول في مواجهة التهديدات الأمنية المتغيرة، كما تمثل عنصرًا محوريًّا في صياغة السياسات الوطنية والدولية. ومع ذلك، فإن هذا النظام المعقد ليس بمنأى عن التحديات الداخلية والخارجية التي قد تؤثر في أدائه وفعاليته.

تُعَدُّ “باثولوجيا الاستخبارات” (Intelligence Pathologies) إحدى الظواهر المثيرة للاهتمام في هذا السياق، وهي تُشير إلى دراسة الأمراض والاختلالات التي قد تصيب بنية ووظيفة أجهزة الاستخبارات. وتشمل هذه الظاهرة مجموعة من المشكلات التنظيمية والنفسية والتقنية التي تؤدي إلى انخفاض الكفاءة، وسوء التقدير، أو حتى الفشل في التنبؤ بالتهديدات. إن ديناميكية التفاعل (Dynamic Interaction) بين العناصر البشرية والتكنولوجية، وبين القيم المؤسسية ومتطلبات السرية، تجعل أجهزة الاستخبارات عرضةً للانحرافات والاختلالات.

علاوة على ذلك، فإن التحديات النفسية التي يواجهها القادة والمحللون، مثل التحيز المعرفي (Cognitive Biases) والشك المرضي (Paranoia)، قد تؤدي إلى قرارات مشوهة أو ردود فعل مبالَغ فيها تجاه التهديدات. وهذا ما يجعل فهم باثولوجيا الاستخبارات أمرًا ضروريًّا، ليس فقط لتحليل أسباب الفشل، بل أيضًا لتعزيز قدرة الأجهزة على التكيف مع بيئات العمل المتغيرة والمعقدة (Adaptive Capability).

تتناول هذه الدراسة باثولوجيا الاستخبارات بوصفها قضية محورية لفهم التحديات التي تواجه الأجهزة الاستخبارية وتأثيرها في عملية اتخاذ القرارات، وتهدف إلى تحليل العوامل المؤسسية والنفسية التي تُعيق الأداء الاستخباري، وذلك من خلال منهجيات تحليلية متعددة لتقديم رؤى معمقة(1). وقد اعتمدت الدراسة على التحليل النقدي للأدبيات والبيانات التاريخية لتحديد نقاط الضعف في الأنظمة المؤسسية والنفسية، إضافة إلى النمذجة النظرية لتوضيح أثر هذه الاختلالات على الأداء. كما استخدمت الدراسة التحليل السوسيولوجي لاستكشاف تأثير الثقافة التنظيمية والبيئة الاجتماعية على سلوك العاملين، بهدف فهم التفاعل بين الأفراد والبيئة في تشكيل الممارسات النفسية.

تتمثل مشكلة الدراسة في بحث باثولوجيا الاستخبارات من خلال تحديد وتحليل الاختلالات المؤسسية والنفسية التي تصيب أداء الأجهزة الاستخبارية. وتهدف إلى فحص كيفية تأثير هذه الباثولوجيا في فعالية جمع وتحليل المعلومات واتخاذ القرارات الإستراتيجية، بما يؤدي إلى تدهور الأداء الاستخباري، وعدم القدرة على الاستجابة الفعالة للتهديدات الأمنية. وتسعى الدراسة إلى الكشف عن الأسباب الكامنة وراء هذه الاختلالات، وتقديم حلول علاجية لتحسين فاعلية الأجهزة الاستخبارية.

وتفترض الدراسة أن باثولوجيا الاستخبارات، سواء على المستوى المؤسسي أو النفسي، تؤدي إلى اختلالات تؤثر تأثيرًا جوهريًّا في فاعلية الأداء الاستخباري. فمن خلال هذه الباثولوجيا، تُضعف الأجهزة الاستخبارية قدرتها على اتخاذ قرارات إستراتيجية دقيقة؛ مما يعرِّضها للفشل في مواجهة التحديات الأمنية. كما تفترض الدراسة أن معالجة هذه الباثولوجيا من خلال إصلاحات مؤسسية ونفسية شاملة، ستسهم في تحسين كفاءة الأداء الاستخباري وتعزيز قدرته على التكيف مع البيئة المتغيرة.

وتكمن أهمية الدراسة في تحليل الأسباب المؤسسية والنفسية التي تؤدي إلى اختلالات في أجهزة الاستخبارات، وفهم كيفية تأثير هذه العوامل في عملية اتخاذ القرارات الإستراتيجية. كما تُسهم الدراسة في تقديم توصيات عملية لتحسين فاعلية الأداء الاستخباري، بما يعزز القدرة على الاستجابة للتحديات الأمنية. وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل الظواهر الرئيسة المرتبطة بباثولوجيا الاستخبارات، بما في ذلك التحديات التنظيمية والنفسية، واستعراض أمثلة تاريخية لتوضيح الأثر العملي لهذه الظواهر. كما تسلط الضوء على الإصلاحات الضرورية لتحسين كفاءة الأجهزة الاستخبارية وتعزيز قدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية.

بناءً عليه، تم تقسيم الدراسة إلى عدد من المحاور التي تحاول تغطية الموضوع من جوانبه المختلفة، وذلك على النحو الآتي:

أولًا: ما الاستخبارات؟

قبل الخوض في تحليل “باثولوجيا الاستخبارات”، من الضروري البدء بتوضيح مفهوم الاستخبارات وأغراضها، باعتبارها عملية معقدة تتداخل فيها أبعاد متعددة. وكما يشير كل من لين سكوت (Lynn Scott) وبيتر جاكسون (Peter Jackson) (2)، فإن تعريف الاستخبارات ليس مسألة بسيطة، بل يتطلب تفكيرًا نقديًّا متعدد الأبعاد. فالاستخبارات تتجاوز مجرد جمع المعلومات وتحليلها، لتشمل استخدام هذه المعرفة في صياغة القرارات الإستراتيجية التي تؤثر في الأمن القومي والسياسات الدولية.

وفي منظور مغاير، يرى جيمس ديريان (James Der Derian) أن الاستخبارات تظل المجال الأقل فهمًا والأكثر نقصًا في التنظير(3). وعلى المستوى نفسه، يُبدي ديفيد خان (David Kahn)، أحد أبرز العلماء في هذا المجال، أسفه لعدم تسليط الضوء على الصعوبات الكبيرة التي تواجه الباحثين في الوصول إلى تعريف شامل ودقيق للاستخبارات. لذا، لا يمكن فهم طبيعة الاستخبارات وأغراضها إلا من خلال فحص الأطر المؤسسية والنفسية والتقنية التي تحكم عملها، وهو ما يعكس تأثيرها العميق في تشكيل السياسات وصياغة الأمن.

وفي هذا السياق، يُلاحظ أن الاستخبارات تعني أمورًا مختلفة لأشخاص مختلفين؛ فقد أشار شيرمان كينت (Sherman Kent) إلى أن الدلالات التي ينطوي عليها مصطلح “الاستخبارات” تتسم بالشمولية والعمومية؛ مما يجعل من الصعب حصرها بسهولة؛ إذ إنها تتعلق بجميع الأنشطة البشرية. ومع ذلك، يؤكد كينت على وجود ثلاثة عناصر رئيسة تُشكِّل جوهر الاستخبارات، وهي: المعرفة، ونوع المنظمة التي تنتج تلك المعرفة، والأنشطة التي تمارسها هذه المنظمة(4).

في المقابل، يميل عدد من المراقبين، مثل ريتشارد ثورلو (Richard Thurlow)، إلى فهم الاستخبارات في المقام الأول بوصفها أداة لصنع السياسات الخارجية والدفاعية، بينما يركز آخرون على دورها في الأمن الداخلي، وكونها آلية من آليات الدولة القمعية(5). وربما تتمثل إحدى نقاط الخلاف المثيرة للاهتمام في الطبيعة الأساسية للاستخبارات؛ إذ يرى مايكل هيرمان (Michael Herman) -وهو ممارس سابق في المجال الاستخباري- أن الاستخبارات تُعد شكلًا من أشكال قوة الدولة في حدِّ ذاتها، ويُشكِّل هذا التصور جوهر تحليله في دراسته المؤثرة “قوة الاستخبارات في السلم والحرب”(6).

أما المؤرخ جون فيريس (John Ferris)، فيقدم وجهة نظر مختلفة؛ إذ يرى أن “الاستخبارات ليست شكلًا من أشكال القوة، بل وسيلة لتوجيه استخدامها، سواء كمضاعف للقوة القتالية، أو من خلال المساعدة في فهم البيئة المحيطة والخيارات المتاحة، وبالتالي كيفية تطبيق القوة أو النفوذ وضد مَن”(7). وبغضِّ النظر عن الصيغة التي يتم تبنيها، ومهما بلغت جودة الاستخبارات المتاحة، فإن حكم القادة السياسيين وفهمهم لقيمة وحدود الاستخبارات يبقى العامل الأهم.

وعلى المستوى المؤسسي، يدور التعريف الأميركي للاستخبارات عمومًا حول عملية إنتاج منتجات استخباراتية من مصادر سرية ومفتوحة ليستخدمها صانعو القرار. كما تُضيف الاستخبارات الأميركية بعض الوظائف العملياتية إلى هذا التعريف، من قبيل الدعاية، والعمليات السرية، والتدخل في الصراعات. في المقابل، تُعرِّفها الاستخبارات البريطانية بأنها “المعلومات السرية التي يتم الحصول عليها بوسائل خفية”(8).

استنادًا إلى ما سبق، يُظهر الفحص الأكاديمي لهذا المجال أن الاستخبارات لا تمثل مجرد عملية لجمع البيانات، بل هي نظام معقد يهدف إلى التنبؤ بالتهديدات وتحليل المخاطر، وهو ما يجعل دراستها تتطلب النظر في دورها الفعَّال في حماية الأمن القومي ومواجهة التحديات العالمية. وعليه، يُعد هذا التحليل نقطة انطلاق أساسية لدراسة “باثولوجيا الاستخبارات”، التي تُعنى بفهم التحديات التي تواجه هذا المجال وتأثيراتها في الأداء الاستخباري.

ثانيًا: مفهوم باثولوجيا الاستخبارات

يُعَدُّ مصطلح “باثولوجيا الاستخبارات” (Pathology of Intelligence) مجالًا متخصصًا في دراسة الأسباب العميقة والاختلالات البنيوية والسلوكية التي تصيب الأجهزة الاستخبارية على المستويَين، المؤسسي والنفسي. ويتضمن هذا المفهوم تحليلًا معمقًا للأخطاء والعوامل التي تؤدي إلى تدهور فعالية هذه الأجهزة؛ مما يسفر عن ضعف في الكفاءة أو انحراف في الأداء عن الأهداف الإستراتيجية المقررة.

ويستمد هذا المصطلح جذوره من علم الباثولوجيا، الذي يُعنى بدراسة الأمراض في الكائنات الحية، ويُستخدم في سياق الاستخبارات للإشارة إلى التحقيق المنهجي في أسباب الإخفاقات والتحديات التي تؤثر في أداء الأجهزة الاستخبارية. ويتناول هذا التحليل القضايا المرتبطة بسوء الإدارة، والانحرافات الأخلاقية، والتضليل، والتسييس، والمشكلات التنظيمية، وهي جميعها عوامل تُسهم في اتخاذ قرارات غير فعالة أو مضللة.

يركز التحليل الاستخباراتي القائم على مفهوم الباثولوجيا على فهم وتفسير الديناميات التي تؤدي إلى الإخفاقات في جمع المعلومات وتحليلها واستخدامها. ويتمثل الهدف الرئيسي من هذا التحليل في تحديد العوامل المؤدية إلى الفشل، واقتراح حلول وإصلاحات تُسهم في تعزيز الكفاءة الاستخبارية، وتحسين القدرة على التكيف مع التحديات المتغيرة بشكل فعال ومنظم.

وتُعَد دراسة باثولوجيا الاستخبارات أمرًا أساسيًّا لتعزيز الأداء المؤسسي، وتقليل مخاطر اتخاذ قرارات مبنية على معلومات غير دقيقة أو متحيزة؛ مما يؤدي إلى تحسين القدرة على الاستجابة للتهديدات، واتخاذ قرارات إستراتيجية مستنيرة.

ثالثًا: الاختلالات المؤسسية

تُعَدُّ الاختلالات المؤسسية من العوامل الرئيسة التي تؤثر سلبيًّا في فعالية الأجهزة الاستخباراتية؛ إذ تنشأ من عيوب هيكلية وتنظيمية تُعيق التنسيق الداخلي وتُضعف الأداء العام. وتتفرع هذه الاختلالات إلى عدة جوانب، تشمل:

 

  1. ضعف التنسيق

يُعزى فشل الاستخبارات الأميركية في منع هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، جزئيًّا، إلى نقص التنسيق بين وكالاتها المختلفة، مثل وكالة المخابرات المركزية (CIA) ومكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)؛ مما أدى إلى عدم تبادل المعلومات الحيوية بين الوكالات، وهو ما أعاق الجهود المبذولة لمنع الهجمات. ووفقًا للجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر، فإن “مجتمع الاستخبارات الضخم” لم يكن يتسم بالتنسيق المناسب بين الوكالات؛ إذ كانت كل وكالة تتعامل مع تهديدات الإرهاب بشكل منفصل؛ مما صعَّب ربط الأنشطة المشبوهة التي تشير إلى وجود شبكة إرهابية متكاملة. كما أن الحواجز البيروقراطية، مثل القوانين التي تمنع تبادل المعلومات حول المواطنين الأميركيين، حدَّت من قدرة الوكالات مثل الـFBI على مشاركة المعلومات مع الـCIA(9).

حتى بعد جمع المعلومات الاستخباراتية، كان التواصل بين الوكالات ضعيفًا؛ مما حال دون تبادلها بين المسؤولين. فعلى سبيل المثال، أشار كل من نيفين (Nevin) وفيليب أشارا (Philip Aschara) إلى أن التعاون بين الوكالات قد يتعطل بسبب العداوة بين كبار المسؤولين أو التنافس على الميزانيات(10)، مما يؤدي إلى استخبارات غير مترابطة(11). علاوة على ذلك، حتى عند تبادل المعلومات، كان هناك تقصير في تحليلها بشكل منسق؛ مما جعل تقدير حجم التهديدات أمرًا صعبًا. وقد اعترف الرئيس جورج بوش (George W. Bush)، في عام 2002، بوجود خلل في الاتصال بين الـFBI والـCIA.

وفي بداية الحرب على العراق، حدث فشل واضح في تقييم وجود أسلحة دمار شامل؛ مما أدى إلى غزو العراق، عام 2003، استنادًا إلى معلومات استخباراتية غير دقيقة. وكان التنسيق بين الـCIA ووكالات أخرى، مثل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، محدودًا؛ مما أسهم في تكوين صورة مشوهة عن تهديدات أسلحة الدمار الشامل(12).

ويعزز هذا النمط ما حدث في هجوم لندن، عام 2005؛ حيث ظهر نقص التنسيق بين جهاز الأمن الداخلي البريطاني (MI5) والشرطة البريطانية؛ مما أضعف الاستجابة الفعالة لتلك التهديدات. كما كُشِف، عام 2010، عن عمليات تجسس صينية على الأنظمة الأميركية؛ حيث فشل التنسيق بين وكالات الاستخبارات مثل الـNSA وCIA وFBI، مما جعل اكتشاف الأنشطة في وقت مبكر أمرًا بالغ الصعوبة.

وعلى المستوى العربي، كشفت الهجمات على السفارة الأميركية في تونس، عام 2012، عن ضعف التعاون بين وزارة الداخلية والاستخبارات العسكرية؛ مما أدى إلى تأخر الرد. وبالمثل، في مصر قبيل ثورة 25 يناير، فشلت الأجهزة الاستخباراتية في تنسيق المعلومات حول حالة الاحتقان الشعبي؛ مما أثَّر على فاعلية استجابتها. وفي لبنان، وبعد اغتيال رئيس الوزراء، رفيق الحريري (Rafik Hariri)، عام 2005، كان هناك انعدام لتبادل المعلومات بين الأجهزة الأمنية والاستخباراتية؛ مما أثَّر سلبيًّا على قدرة الحكومة اللبنانية في التعامل مع التهديدات الأمنية.

  1. الفساد الإداري

يُعَدُّ الفساد الإداري داخل الأجهزة الاستخباراتية عاملًا آخر يُسهم في باثولوجيا الاستخبارات؛ إذ يؤثر في نزاهة العمليات ويُقلِّل من مصداقية التقارير. وتُعد فضيحة “أسلحة الدمار الشامل في العراق” (2003) من أبرز الأمثلة على ذلك؛ إذ وُجدت تقارير استخباراتية مشوهة تُفيد بوجود تلك الأسلحة، واستُخدمت لتبرير الغزو. تم التلاعب بالمعلومات في هذا السياق لتقديم صورة غير دقيقة عن التهديدات.

وفي هذا السياق، يشير كل من سكوت (Lynn Scott) وجاكسون (Peter Jackson) إلى هذه القضية بشكل بارز في تحليلاتهما، حول التلاعب بالاستخبارات في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، والادعاءات التي تفيد بأن الحكومة البريطانية “زيَّفت” المعلومات الاستخبارية لتضليل الجمهور بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية(13).

  1. ضعف الرقابة والمساءلة

هناك مظاهر متعددة لسوء استخدام السلطة في سياقات تشهد ضعفًا في آليات الرقابة المؤسسية. ففي عام 2001، وخلال الحملة العسكرية في أفغانستان، أفادت تقارير صحفية ومنظمات حقوقية بأن بعض المعتقلين في مواقع احتجاز يُعتقد أنها خاضعة لإشراف وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، قد تعرضوا لأساليب استجواب قاسية. وقد أشار تقرير مجلس الشيوخ الأميركي، الصادر عام 2014، بشأن برنامج الاحتجاز والاستجواب، إلى أن بعض هذه الأساليب كانت تُمارَس في إطار عمليات استخباراتية تهدف إلى جمع معلومات عن “طالبان” وتنظيم “القاعدة”؛ مما أثار نقاشًا واسعًا في الأوساط السياسية والحقوقية حول التوازن بين متطلبات الأمن واحترام المعايير الأخلاقية.

وبالمثل، في عام 2011، كشفت وثائق مسربة إلى وسائل الإعلام عن تورط محتمل لبعض مسؤولي الاستخبارات البريطانية في عمليات تسليم لأشخاص إلى دول ثالثة، من بينها ليبيا. ومن بين أبرز الحالات التي أثيرت حينها، قضية عبد الحكيم بلحاج (Abdul Hakim Belhaj)، الذي نُقل من تايلاند إلى ليبيا، عام 2004، وتعرض للاحتجاز في سجن أبو سليم. وقد أفادت تقارير صحفية بأن عددًا من الضباط البريطانيين كانوا على علم بهذه العملية، وهو ما أثار جدلًا سياسيًّا في بريطانيا بشأن مدى التزام الأجهزة الاستخبارية بالقانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان(14).

وعليه، فإن هذه الأمثلة، رغم خصوصيتها، تسلِّط الضوء على ما يمكن وصفه في الأدبيات المتخصصة بـ”باثولوجيا الاستخبارات”؛ أي تلك الأنماط الثقافية والمؤسسية التي قد تسمح بوقوع انتهاكات دون رقابة كافية أو محاسبة فعالة، وهو ما يدعو إلى مراجعة آليات الرقابة الداخلية وتعزيز مبادئ الشفافية والمسؤولية المهنية داخل المؤسسات الاستخبارية.

  1. التسييس

يُعَدُّ التسييس من أبرز التحديات التنظيمية التي تواجه الأجهزة الاستخبارية، ويُقصد به استخدام هذه الأجهزة لتحقيق أهداف سياسية، على حساب الحيادية المهنية والموضوعية في جمع المعلومات وتحليلها. وتُؤثر هذه الظاهرة بشكل كبير في نزاهة العمل الاستخباري وجودة المعلومات المقدمة لصنَّاع القرار؛ مما يؤدي إلى قرارات إستراتيجية غير مستنيرة.

ومن منظور أكاديمي، يشير الباحثون في مجال الاستخبارات إلى أن التسييس قد يُفضي إلى “تآكل نزاهة العمل الاستخباري” (Erosion of Intelligence Integrity). وفي هذا السياق، يرى الخبير في الشؤون الاستخبارية روبرت دي. بيتيز (Robert D. Betts)، في كتابه Enemies of Intelligence، أن التدخلات السياسية تُضعف من قدرة الأجهزة على أداء دورها كمصدر مستقل للمعلومات؛ مما يهدد الأمن القومي. ويلفت بيتيز إلى أن التسييس يُقوِّض الأسس التي تُبنى عليها التقارير الاستخبارية في دعم القرارات السياسية والاقتصادية(15).

ويؤكد العديد من الدراسات هذه الرؤية، موضحةً أن التسييس قد ينجم عن ضغوط مباشرة أو غير مباشرة من الجهات السياسية، تهدف إلى توجيه التحليل الاستخباري لخدمة أجندات معينة. وقد تتجسد هذه الضغوط في “توجيهات غير رسمية” (Informal Pressures) تُمارَس عبر تلميحات أو توقعات ضمنية تؤثر في عملية التقييم.

ويُرْبَط هذا النمط من التأثير بنظرية “السلطة والسيطرة” (Power and Control Theory)، التي تُبين كيف يمكن للقوى السياسية الساعية للهيمنة على أدوات صنع القرار أن تُحاول التأثير في نتائج التحليل الاستخباري. ووفق هذه النظرية، قد تسعى السلطة إلى توجيه مخرجات العملية الاستخبارية لتتماهى مع أولوياتها، مما يُضعف استقلالية التقدير المهني(16).

ويُعَدُّ غزو العراق، عام 2003، مثالًا مركزيًّا يُستشهد به في الأدبيات المتخصصة عند مناقشة قضية التسييس. فقد استندت إدارة الرئيس الأميركي، جورج دبليو. بوش الابن (George W. Bush Jr.) إلى تقارير استخبارية أشارت إلى امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، لتبرير الغزو. ووفقًا لما ورد في عدد من التحقيقات البرلمانية والأكاديمية، فإن وكالات مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) كانت قد واجهت ضغوطًا مؤسسية كثيفة لتقديم تقارير تُعزِّز هذا التصور، رغم أن هذه التقديرات لم تكن مدعومة بأدلة ميدانية قاطعة، وتبين لاحقًا أنها غير دقيقة.

  1. الإفراط في السرية

تُعَد السرية عنصرًا أساسيًّا في العمل الاستخباري، تهدف إلى حماية المعلومات الحساسة ومنع تسربها. ومع ذلك، فإن الإفراط في السرية قد يُفضي إلى عواقب سلبية تُعيق فعالية الأجهزة الاستخبارية. ويستند هذا النهج إلى مبدأ “المعرفة على قدر الحاجة” (Need to Know)، غير أن التشدد في حجب المعلومات قد يُضعف التنسيق، ويحد من الابتكار، ويُقلِّل من القدرة على التكيف مع التهديدات المتغيرة، مما يؤثر سلبيًّا في عملية صنع القرار(24).

وفي السياق الأكاديمي، يُعد الإفراط في السرية أحد أبعاد باثولوجيا الاستخبارات، لأنه يحد من التعاون بين الوكالات. ويُشير هانز مورغنثاو (Hans Morgenthau) إلى أن “الأنظمة المغلقة” (Closed Systems) تعزز التفكير النمطي، وتُقلل من تنوع الإستراتيجيات؛ مما يُضعف تبادل المعلومات الضرورية لتقييم التهديدات بدقة(25). كما يؤدي ذلك إلى صعوبة تكوين صورة شاملة لدى صُنَّاع القرار؛ مما يزيد من احتمالية اتخاذ قرارات استنادًا إلى بيانات ناقصة أو متحيزة(26).

ووفقًا لنظرية “الأنظمة المغلقة”، التي طرحها ديفيد إيستون (David Easton)، فإن المؤسسات التي تعمل في بيئات معزولة تفقد القدرة على التكيف مع التغيرات، وهو ما ينطبق على الأجهزة الاستخبارية حينما تُفرط في السرية؛ إذ تُصبح معزولة عن التفاعل مع الفاعلين الآخرين؛ مما يُضعف قدرتها على الاستفادة من التطورات التقنية والمعرفية(27). كما أن السرية المفرطة تُقيد أنشطة البحث والتطوير، وتحد من تبادل الابتكارات التقنية في التحليل الاستخباري؛ مما يجعل الأجهزة عُرضة للتأخر في مواكبة التهديدات الجديدة، كالهجمات السيبرانية والتقدم التكنولوجي لدى الخصوم.

علاوة على ذلك، يؤثر الإفراط في السرية في الجانب النفسي للعاملين؛ إذ قد يُفضي العمل في بيئة مغلقة إلى الشعور بالعزلة والضغط النفسي؛ مما ينعكس سلبيًّا على الأداء والجودة التحليلية. وتحت هذه الظروف، قد يُحْرَم المحللون من المعلومات الحيوية التي تُعد ضرورية لفهم التهديدات وتقديم تقييمات دقيقة.

رابعًا: التحديات النفسية والفكرية

تلعب التحديات النفسية والفكرية دورًا محوريًّا في باثولوجيا الاستخبارات؛ إذ تؤثر تأثيرًا مباشرًا في جودة التحليل واتخاذ القرارات الإستراتيجية. وتنبع هذه التحديات من التحيزات الفكرية والتنظيمية التي تدفع الأفراد إلى تفسير المعلومات وفقًا لقناعات مسبقة؛ مما يقلِّل من الموضوعية ويزيد من احتمالية الوقوع في الخطأ. كما تُعَد البارانويا عاملًا مؤثرًا؛ إذ يؤدي الشك المفرط إلى تقييمات غير واقعية للتهديدات، بينما قد يفضي تبلد المشاعر -الناتج عن الضغوط المستمرة- إلى قرارات تتسم بالقسوة أو انعدام الاعتبارات الإنسانية.

ولا تقتصر هذه التحديات على الأفراد، بل تمتد لتشمل كفاءة العمل الجماعي داخل الأجهزة الاستخبارية؛ مما قد يُضعف التنسيق ويُفضي إلى قرارات غير دقيقة أو متسرعة. وتُوضح الدراسات الأكاديمية أن هذه العوامل تُعزز التفكير النمطي وتؤدي إلى تقديرات مبالَغ فيها؛ مما يُقوض قدرة الأجهزة الاستخبارية على استشراف التهديدات بواقعية وشمولية.

  1. التحيزات الفكرية

تُعَد التحيزات الفكرية من أبرز العوامل النفسية التي تؤثر في جودة التحليل الاستخباري؛ إذ تدفع المحللين إلى تفسير المعلومات وفق قناعاتهم السابقة؛ مما يُضعف دقة التقييمات الإستراتيجية. ويُعد التحيز التأكيدي (Confirmation Bias) من أبرز هذه التحيزات؛ حيث يدفع الأفراد إلى البحث عن المعلومات التي تدعم معتقداتهم، وتجاهل الأدلة المناقضة لها(28).

فعلى سبيل المثال، أسهم هذا التحيز في فشل الولايات المتحدة في التنبؤ بالغزو السوفيتي لأفغانستان، عام 1979؛ إذ جرى التقليل من أهمية المؤشرات التحذيرية، نتيجة لعدم اعتقاد المحللين بإمكانية حدوث تدخل سوفيتي مباشر. كما لعب دورًا في تأخر الإدراك الأميركي لحجم التهديد خلال أزمة الصواريخ الكوبية، وفي حرب فيتنام؛ حيث بالغت الاستخبارات الأميركية في تقدير خطر الشيوعية؛ مما أدى إلى قرارات غير دقيقة.

ووفقًا لنظرية التحيزات الإدراكية (Cognitive Bias Theory)، تؤثر العوامل النفسية في طريقة معالجة المعلومات. ويُوضح دانيال كانيمان (Daniel Kahneman) في كتابه Thinking, Fast and Slow أن العقل البشري يعتمد على نوعين من التفكير: الأول سريع وحدسي (System 1)، وهو الأكثر عُرضة للتحيزات المعرفية، والثاني بطيء وتحليلي (System 2)، وهو الذي يتطلب جهدًا ذهنيًّا أكبر ويعتمد على المنطق والتقييم النقدي(29).

ومن التحيزات الأخرى المؤثرة في التحليل الاستخباري، تحيز الاعتزاز بالنفس (Self-Serving Bias)؛ حيث يميل المحللون إلى تفسير المعلومات بما يدعم قراراتهم السابقة. فقبيل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، جرى التقليل من أهمية تقارير استخباراتية حذرت من تهديدات تنظيم القاعدة، نتيجة لاعتقاد بعض المحللين بعدم وجود تهديد حقيقي للأمن القومي الأميركي(30).

وتُظهر هذه الأمثلة بوضوح كيف تؤثر التحيزات في دقة التحليل الاستخباري وصنع القرار الجماعي؛ إذ تُشوه الإدراك وتُقوِّض فعالية التقييمات الإستراتيجية. ويُشير كانيمان إلى أن هذه التحيزات تُضعف قدرة المحللين على تقديم توقعات موضوعية وشاملة للتهديدات؛ مما ينعكس سلبيًّا على القرارات التي تُبنى على تلك التقييمات.

  1. البارانويا

تُعَدُّ البارانويا ظاهرة نفسية باثولوجية تؤثر تأثيرًا كبيرًا في العاملين في الاستخبارات؛ إذ تتجسد في الشك المفرط وتفسير المواقف غير المهدِّدة على أنها تهديدات حقيقية. ويتفاقم هذا الشعور في البيئات الاستخباراتية المشحونة بالضغوط المستمرة والتوترات السياسية؛ مما يُعزز مشاعر القلق والخوف، ويؤدي إلى تحليلات غير دقيقة للمخاطر.

ووفقًا لنظرية الانفعالات والضغط النفسي، التي طورها ريتشارد لازاروس (Richard Lazarus) وسوزان فولكمان (Susan Folkman)، فإن التعرض المستمر للضغوط يُعزز من الاختلالات النفسية، ومنها البارانويا، حيث يؤدي الإدراك المشوه للواقع إلى اتخاذ قرارات استخباراتية غير دقيقة(31). في هذا السياق، قد يُبالغ المحللون في تقدير تهديدات معينة أو يُهملون أخرى، بناءً على مشاعر غير منطقية بالخطر؛ مما يُلحق ضررًا بالتقييمات الإستراتيجية(32).

ومن الأمثلة البارزة، التقارير الاستخباراتية الأميركية خلال حرب فيتنام؛ إذ أدى القلق المفرط بشأن التهديد الشيوعي إلى مبالغة في تقدير الخطر؛ مما أسفر عن قرارات إستراتيجية غير متوازنة(33). وتؤكد هذه الحالة أن البارانويا ليست اضطرابًا فرديًّا فحسب، بل قد تؤثر في الأداء الجماعي للمؤسسات الاستخباراتية؛ مما يستدعي تطوير آليات منهجية للحد من أثرها على عملية صنع القرار.

وفي السياق ذاته، تُعَد حالة جيمس أنجلتون (James Jesus Angleton)، رئيس مكافحة التجسس في وكالة المخابرات المركزية الأميركية بين عامَي 1954 و1974، مثالًا بارزًا على أثر البارانويا في العمل الاستخباري؛ إذ كان مقتنعًا بوجود عميل مزدوج داخل الوكالة لصالح الاتحاد السوفيتي؛ مما دفعه إلى الشك المفرط بزملائه وإطلاق تحقيقات استمرت سنوات، أثَّرت سلبيًّا على كفاءة الوكالة خلال الحرب الباردة(34).

وبالمثل، عانى جوزيف ستالين (Joseph Stalin) من بارانويا شديدة قادته إلى شنِّ حملات تطهير واسعة في ثلاثينات القرن العشرين، أُعدم وسُجن خلالها آلاف القادة والمسؤولين؛ مما أضعف القدرات الاستخباراتية والعسكرية السوفيتية(35). أما كيم فيلبي (Kim Philby)، العميل المزدوج في الاستخبارات البريطانية (MI6) لصالح الاتحاد السوفيتي، فقد عاش تحت ضغط نفسي هائل بسبب الخوف من كشف خيانته، وساهمت هذه البارانويا المتبادلة بين الاستخبارات البريطانية والسوفيتية في تأخير اكتشاف خيانته لعقود(36).

كذلك، تُظهر قضية إدوارد سنودن (Edward Snowden)، موظف وكالة الأمن القومي الأميركية (NSA)، كيف تؤثر الضغوط النفسية في العمل الاستخباري على اتخاذ القرار؛ إذ أدى قلقه المستمر إلى تسريب وثائق سرية كشفت عن برامج تجسس موسعة؛ مما أثار جدلًا واسعًا بشأن الضغوط النفسية في البيئات الاستخباراتية(37).

وقبيل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، وردت تحذيرات استخباراتية متكررة بشأن تهديدات تنظيم القاعدة، غير أن بعض المحللين قلَّلوا من أهميتها نتيجة شعور زائف بالأمان، فيما يُعرف بالبارانويا المعاكسة؛ مما أدى إلى تباطؤ في اتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة(38).

ولا يقتصر أثر البارانويا على فترة العمل، بل يمتد إلى ما بعد التقاعد؛ إذ أشار العديد من قدامى المحاربين الاستخباراتيين، خاصة بعد حرب فيتنام، إلى استمرار مشاعر القلق وانعدام الثقة؛ مما أدى إلى العزلة الاجتماعية وضعف التفاعل مع المجتمع(39).

وتؤكد الدراسات النفسية على أثر الضغط المهني المستمر في البيئات الاستخباراتية؛ إذ يشير جون بيري (John Perry) إلى أن التعرض لضغوط عالية قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية دائمة، مثل القلق والبارانويا. ورغم أن دراسته لا تتناول العاملين في الاستخبارات تحديدًا، فإن نتائجها تنطبق على هذا السياق لطبيعة الضغوط المشابهة(40).

كما يدعم لازاروس وفولكمان، من خلال نظرية الضغط النفسي، فكرة أن التعرض المستمر للضغوط يُضعف الصحة النفسية، ويؤثر في القدرة على التحليل واتخاذ القرار، وهي عناصر حاسمة في العمل الاستخباري(41).

عمومًا، تُسلِّط البارانويا الضوء على التأثير العميق للضغوط النفسية على رجال الاستخبارات؛ مما قد يؤدي إلى تشويه إدراكهم للواقع واتخاذ قرارات غير دقيقة. كما أن امتداد هذه التأثيرات إلى ما بعد الخدمة يؤكد أهمية دراسة الأبعاد النفسية للظاهرة، وآثارها طويلة الأمد في العاملين بهذا المجال الحيوي.

  1. تبلد المشاعر

يُشكِّل العمل في بيئات عالية الضغط عاملًا رئيسًا في نشوء حالات نفسية باثولوجية لدى رجال الاستخبارات، من أبرزها تبلد المشاعر (Emotional Numbness)؛ حيث يفقد الفرد القدرة على التعاطف مع الآخرين؛ مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات صارمة تفتقر إلى الحساسية خلال العمليات الميدانية أو الاستجوابات، وهو ما يزيد من احتمالات التصعيد وارتكاب أخطاء أخلاقية.

ووفقًا لنظرية الإجهاد المزمن، فإن التعرض المستمر للضغوط النفسية يُضعف الاستجابة العاطفية ويُعزز التكيف السلبي مع مشاهد العنف؛ مما يُخل بالتوازن الأخلاقي والمهني في العمل الاستخباري. ويتجسد ذلك في لا مبالاة تجاه العواقب الإنسانية للقرارات المتخذة، وهو ما ينعكس سلبيًّا على فاعلية العمليات ومستوى الثقة بين الزملاء(42).

وتؤكد الدراسات النفسية أن الضغوط المزمنة تُؤثر في القدرة على التحكم العاطفي والسلوكي. في هذا السياق، يُشير جون بيري (John Perry) إلى أن التعرض المستمر للإجهاد في بيئات عالية التوتر يُسهم في ظهور اضطرابات عاطفية طويلة الأمد. وعلى الرغم من أن دراسته لا تتناول رجال الاستخبارات تحديدًا، فإن نتائجها تساعد في فهم تأثير هذه الضغوط على العاملين في البيئات الحساسة(43).

كما يُشير لازاروس وفولكمان إلى أن الإجهاد المزمن قد يُضعف آليات التكيف العاطفي؛ مما يؤدي إلى استخدام أساليب دفاعية مثل تبلد المشاعر. وفي بيئات الاستخبارات، قد تتحول هذه الآليات إلى عزلة اجتماعية بعد التقاعد، وهو ما يُبرز التأثيرات طويلة الأمد للضغوط النفسية في المهن ذات المتطلبات العالية(44).

ويُقدِّم التاريخ أمثلة واضحة على هذه الظاهرة؛ فقد أظهرت أساليب الاستجواب العنيفة خلال الحرب العالمية الثانية تطور مشاعر العزلة وفقدان التعاطف نتيجة للضغوط المستمرة. وفي العصر الحديث، تعكس أحداث سجن أبو غريب (2003–2004) مدى تأثير تبلد المشاعر في القرارات الأخلاقية؛ إذ أظهرت التحقيقات فشل الجنود في مراعاة الأبعاد الإنسانية لضحاياهم؛ مما يؤكد أثر بيئات الحرب والضغط النفسي في إنتاج سلوكيات قاسية(45).

توضح هذه الأمثلة كيف أن الضغوط المستمرة في البيئات الاستخباراتية تُسهم في نشوء اضطرابات نفسية تُؤثر على جودة القرارات والتفاعل الإنساني. لذا، فإن فهم تأثير هذه العوامل يُعد أمرًا بالغ الأهمية لمعالجة التحديات النفسية التي تواجه العاملين في هذا المجال.

  1. هوس المعلومات

يعكس هوس المعلومات الميل المفرط إلى جمع كميات ضخمة من البيانات دون تركيز كافٍ على تحليلها؛ مما يؤدي إلى استنزاف القدرات التحليلية وتراجع جودة القرارات الاستخبارية. وتشير نظرية الفائض المعلوماتي (Information Overload Theory) إلى أن التدفق المستمر للمعلومات دون وجود أدوات تحليل متطورة يؤدي إلى تشتت معرفي؛ مما يُضعف القدرة على استخلاص الأنماط واتخاذ القرارات في الوقت المناسب(46).

في بيئات الاستخبارات، يُسهم الضغط الناتج عن معالجة كمٍّ هائل من المعلومات في إرهاق نفسي، يتجلى في اضطرابات مثل القلق والاكتئاب والعزلة الاجتماعية(47). كما تُشير الدراسات إلى أن الإفراط في معالجة البيانات في البيئات عالية الضغط، كما في الاستخبارات، يؤدي إلى تراجع القدرة على تصفية البيانات المهمة؛ مما يزيد من الإرهاق العاطفي ويُضعف الكفاءة التحليلية(48).

فعلى سبيل المثال، خلال العمليات الأميركية في العراق وأفغانستان، واجه الجنود تدفقًا كبيرًا من المعلومات الاستخبارية، مما أدى إلى إجهاد معرفي حَدَّ من قدرتهم على اتخاذ قرارات مستنيرة(49). وبالمثل، قبيل هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، واجه موظفو وكالة المخابرات المركزية الأميركية صعوبات في التنسيق بين كميات هائلة من المعلومات؛ مما أعاق استخلاص استنتاجات دقيقة وأسهم في فشل التنبؤ بالهجمات(50). وفي وكالات استخباراتية أوروبية، أدى الضغط المستمر لمعالجة البيانات، دون وقت كافٍ للتحليل، إلى ارتفاع مستويات القلق والاكتئاب بين الموظفين(51).

تُوضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يؤدي هوس المعلومات إلى تدهور الصحة النفسية للعاملين في الاستخبارات؛ مما يُفضي إلى اضطرابات باثولوجية مثل القلق والاكتئاب والعزلة، إضافة إلى تراجع القدرة على التفاعل الاجتماعي الفعال.

  1. الخوف من الفشل

يُعَدُّ الخوف من الفشل عاملًا نفسيًّا باثولوجيًّا يؤثر في رجال الاستخبارات؛ إذ يؤدي إلى الحذر المفرط أو اتخاذ قرارات استباقية غير مبررة؛ مما يُقيد التفكير الإبداعي ويُفضي إلى تفويت فرص إستراتيجية. ويبرز هذا التأثير في البيئات عالية الضغط؛ حيث يُسفر التوتر المزمن عن ضعف القدرة على اتخاذ قرارات دقيقة ومدروسة.

ووفقًا لنظرية الضغط النفسي (Stress Theory)، التي طورها ريتشارد لازاروس (Richard Lazarus) وسوزان فولكمان (Susan Folkman)، فإن العمل في بيئات شديدة التوتر يزيد من تبني سلوكيات دفاعية تحد من الابتكار؛ مما قد يؤدي إلى الشعور بالعجز أو القلق المستمر(52). وفي هذا السياق، تُشير دراسة ديفيد بيل (David Bell) إلى أن التعرض المستمر لمخاوف الفشل يُسهم في اضطرابات نفسية طويلة الأمد، مثل القلق والاكتئاب، وهي أعراض شائعة بين العاملين في الاستخبارات. ويرى بيل أن المسؤوليات الثقيلة والمخاطر المرتبطة باتخاذ قرارات حساسة قد تخلق بيئة من التوتر العصبي؛ مما يؤدي إلى تراجع الأداء المهني ووقوع أخطاء إستراتيجية(53).

ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة خلال حرب فيتنام؛ إذ تعرَّض الجنود والاستخبارات العسكرية الأميركية لضغوط نفسية هائلة، نتيجة الخوف من الفشل في جمع المعلومات أو اتخاذ قرارات غير دقيقة؛ مما دفع بعض القادة إلى اتخاذ قرارات استباقية استنادًا إلى معلومات غير مكتملة، وهو ما أدى إلى إخفاقات إستراتيجية(54). كما لعب هذا العامل دورًا في غزو العراق، عام 2003؛ حيث واجهت الاستخبارات الأميركية وقوات التحالف صعوبة في الحصول على معلومات دقيقة حول أسلحة الدمار الشامل المزعومة؛ مما أدى إلى اتخاذ قرارات متسرعة ذات نتائج عكسية(55).

وفي حقبة الحرب الباردة، شكَّل الخوف من الفشل في مواجهة التهديدات النووية ضغطًا مستمرًّا على مسؤولي الاستخبارات في كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي؛ مما دفعهم إلى اتخاذ قرارات استباقية غير محسوبة، ساهمت في زيادة التوترات الدولية(56). كما أظهرت دراسة حول الاستخبارات البريطانية (MI6) أن عددًا من كبار المسؤولين كانوا يعانون من خوف مفرط من الفشل في تنفيذ المهام الحساسة؛ مما أدى إلى اتخاذ قرارات متسرعة أو غير دقيقة، خاصة فيما يتعلق بجمع المعلومات حول أسلحة الدمار الشامل في العراق(57).

  1. إدمان السلطة

يُطرح مفهوم “إدمان السلطة” في الأدبيات النفسية بوصفه أحد الاضطرابات المحتملة في البيئات القيادية ذات الضغط المرتفع؛ حيث قد تؤدي المسؤوليات الحساسة إلى ظهور نزعات قوية نحو السيطرة واتخاذ القرار الفردي؛ مما قد يؤثر في العلاقات المهنية ويُضعف فاعلية العمل الجماعي. ووفقًا لنظرية “السلطة والسيطرة” (Power and Control Theory)، فإن البيئات المؤسسية التي تتطلب قرارات حاسمة تحت ضغط دائم قد تُسهم في تضخيم الإدراك الذاتي للنفوذ، ما قد يدفع بعض الأفراد إلى أنماط سلوكية تميل إلى الانغلاق أو الهيمنة(58). وتبرز هذه الديناميكيات بشكل خاص في المؤسسات ذات البنية الهرمية الصارمة؛ حيث تُصبح الحاجة إلى التحكم أحيانًا استجابة دفاعية لضغوط المسؤولية المستمرة.

وقد أشارت دراسات وتحليلات تاريخية إلى أن بعض الأجهزة الاستخباراتية قد شهدت حالات داخلية اتسمت بارتفاع مستويات المركزية والتحكم؛ مما انعكس على ديناميات العمل الجماعي والتنسيق الداخلي. فعلى سبيل المثال، تشير كتابات مؤرخي الاستخبارات إلى أن جهاز الاستخبارات السوفيتي (KGB) في فترات معينة من تاريخه، اتسم ببيئة عمل شديدة الانضباط والرقابة، رافقتها أجواء من التوتر الداخلي والتنافس؛ مما أثَّر في مرونة العمليات(59). وفي السياق الأميركي، تبرز عملية “أجاكس “(Ajax) بوصفها مثالًا يُستشهد به في بعض الأدبيات عند مناقشة أثر التوترات الداخلية والضغوط السياسية على التنسيق بين الوكالات أثناء الحرب الباردة. أما في أوروبا، فقد أوردت تقارير إعلامية وأكاديمية إشارات إلى تأثيرات بيروقراطية مماثلة داخل بعض الأجهزة الأمنية، انعكست على مستوى التعاون المؤسسي .(60)

وفي السياق الشرق أوسطي، تشير بعض الدراسات المتخصصة إلى تحديات تنظيمية داخلية في أجهزة استخباراتية مثل جهاز الموساد (Mossad)، ترتبط بنمط القيادة المركزية وتأثيره في التنسيق العملياتي. كما تشير مراجعات أكاديمية إلى أن بعض الأجهزة في دول العالم النامي، بما فيها أجزاء من العالم العربي والإفريقي، واجهت صعوبات تنظيمية تعود جزئيًّا إلى ضعف آليات التقييم والمساءلة؛ مما أسهم في خلق بيئة عمل يغلب عليها الطابع الرأسي والمركزي.

علاوة على ذلك، فإن الطبيعة الهرمية للأجهزة الاستخباراتية قد تؤدي بطبيعتها إلى تركز القرار في يد فئة ضيقة من القيادات، لاسيما في غياب الرقابة المؤسسية المستقلة؛ مما قد يعزز مناخًا تنافسيًّا داخليًّا ويؤثر في الشفافية والمرونة التنظيمية. وهو ما يستدعي، في المقابل، تطوير آليات رقابية واضحة ومستقلة، تُسهم في ترسيخ بيئة مؤسسية أكثر توازنًا، وتعزز الكفاءة والاستقرار الإداري داخل الأجهزة الاستخبارية.

  1. النرجسية

تُعَدُّ النرجسية أحد الاضطرابات النفسية التي قد تظهر في الأفراد العاملين ضمن بيئات العمل عالية الضغط، مثل الأجهزة الاستخباراتية. وتتميز النرجسية بزيادة مفرطة في تقدير الذات (Grandiosity)، حيث يميل الأفراد النرجسيون إلى المبالغة في تقييم أهميتهم الذاتية وقدراتهم؛ مما قد يقود إلى تجاهل الآراء النقدية أو الميل إلى فرض الهيمنة على القرارات. وفي بيئة الاستخبارات، حيث يُناط بالأفراد التعامل مع معلومات حساسة واتخاذ قرارات حاسمة في ظروف متقلبة، قد يعزز هذا الشعور بالعظمة خطر اتخاذ قرارات متهورة قائمة على تقدير ذاتي مفرط(62).

ولا تقتصر النرجسية على تقدير الذات، بل تشمل أيضًا الحاجة المفرطة للإعجاب، وهي سمة شائعة لدى الأفراد الذين يسعون باستمرار إلى نيل التقدير والاعتراف من الآخرين. وفي بيئات العمل الاستخباري، حيث يُعد الاحترام المهني جزءًا من الديناميكيات الداخلية، فإن السعي غير المتوازن وراء الإعجاب قد يؤدي إلى تراجع الموضوعية في اتخاذ القرار. كما يجد الأفراد النرجسيون صعوبة في تقبل النقد أو الاستماع لآراء الفريق؛ مما يُضعف التعاون ويحد من التنسيق الفعال بين العمليات الاستخباراتية(63).

ومن منظور مغاير، تتداخل النرجسية أحيانًا مع اضطرابات مثل اضطراب الهوية والانفصال عن الذات (Dissociation and Identity Disturbance)، وهو أمر شائع في البيئات الاستخباراتية الحساسة، حيث تتطلب الظروف المعقدة اتخاذ قرارات إستراتيجية تحت ضغط. قد يؤدي هذا الانفصال إلى تبني هويات متناقضة أو غير مستقرة؛ مما يعيق القدرة على اتخاذ قرارات متسقة ومدروسة، ويُعزز من السلوكيات الفردية التي تُهدد العمل الجماعي(64).

بالإضافة إلى ذلك، قد يرتبط الأفراد النرجسيون باضطراب الشخصية الوسواسية (Obsessive-Compulsive Personality Disorder – OCPD)، حيث يُظهرون رفضًا للتنازل عن السيطرة أو التعاون. وفي السياق الاستخباري، قد تؤدي هذه السمات إلى بيئة يسودها الإفراط في التدقيق والرقابة؛ مما يُقيد اتخاذ قرارات مرنة وفعالة، ويُقوض التفكير الإبداعي(65).

أحد الأبعاد الخطيرة للنرجسية هو ارتباطها بجنون الارتياب (Paranoia)؛ إذ يشك الأفراد النرجسيون بنوايا الآخرين، ويظنون أنهم يسعون إلى التقليل من شأنهم أو التآمر ضدهم. وفي البيئات الاستخباراتية التي تتميز بتعدد الجهات الفاعلة، يُفاقم هذا الميل الشعور بالعزلة ويُصعِّد التوتر بين الأفراد. ويتجه النرجسيون في هذه الحالات إلى التفكير الثنائي المتطرف؛ مما قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات مبنية على معلومات غير موثوقة أو معتقدات زائفة، وهو ما يُقوض مصداقية العمل الاستخباري(66).

خامسًا: مستقبل باثولوجيا الاستخبارات

في سياق تعزيز فاعلية الأجهزة الاستخبارية، تبرز الحاجة إلى تطبيق إصلاحات شاملة تتناول الأبعاد التنظيمية والتقنية والنفسية والأخلاقية. وتهدف هذه الإصلاحات إلى تحسين التنسيق، وتعزيز الشفافية، وتطوير القدرات البشرية والتقنية، وضمان الالتزام بمعايير النزاهة المهنية. ومن خلال تبني هذه المقاربات، يمكن للأجهزة الاستخبارية أن تتعامل بفاعلية أكبر مع التهديدات المتغيرة والمعقَّدة.

تُعَد فاعلية التنسيق بين الوكالات الاستخبارية محورية في تقليل الفجوات المعلوماتية، وتحسين الاستجابة للتهديدات. ووفقًا لنظرية التنسيق المؤسسي (Organizational Coordination Theory)، فإن تبني نظم متكاملة لتبادل المعلومات يُسهم في تعزيز التعاون وتكامل العمليات؛ مما يضمن دقة تبادل البيانات وسرعة معالجتها(67). وفي هذا السياق، تُوفر المنصات الرقمية الآمنة أدوات فعالة لتعزيز التنسيق المؤسسي.

إلى جانب ذلك، تبرز أهمية الشفافية والمساءلة بوصفهما ضمانتين لنزاهة العمل الاستخباري، وتقليلًا لاحتمالات التحيز أو التسييس. وتُعد الحوكمة الرشيدة (Good Governance Theory) إطارًا نظريًّا يوفر أدوات لتعزيز الشفافية عبر آليات مثل اللجان المستقلة لمراجعة القرارات، ومتابعة الأداء المؤسسي(68).

ومن ناحية التقنية، فإن الاستثمار في أدوات تحليل المعلومات المتقدمة يمثل ركيزة أساسية. ووفقًا لنظرية البيانات الضخمة (Big Data Theory)، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في رصد الأنماط الخفية والتنبؤ بالتهديدات يُعزز دقة التحليل ويُسهم في تحسين اتخاذ القرار(69).

وفي البُعد البشري، تُعد برامج التدريب المتخصص أحد أهم عناصر بناء القدرات. وتُبرز نظرية التعليم المستمر (Continuous Learning Theory) أهمية تطوير مهارات التفكير النقدي وفهم التحيزات النفسية، وكيفية إدارة الضغوط المهنية(70). كما يشكِّل تطوير نظم مراقبة السلوك المهني جزءًا من منظومة النزاهة، استنادًا إلى نظرية الشفافية المؤسسية (Institutional Transparency Theory)، والتي تدعو إلى إنشاء فرق رقابية مستقلة لرصد الأداء وضمان المعايير الأخلاقية(71).

وبموازاة ذلك، تُعزز القيادة الأخلاقية فاعلية الإصلاح المؤسسي، كما تشير نظرية القيادة الأخلاقية (Ethical Leadership Theory)، التي تؤكد على أهمية القادة القادرين على غرس قيم الشفافية والنزاهة ضمن الثقافة المؤسسية(72).

في السياق النفسي، تستوجب معالجة باثولوجيا الاستخبارات تبني مقاربات شاملة تتعامل مع الضغوط النفسية طويلة الأمد. وتشير نظرية الإجهاد المزمن (Chronic Stress Theory) إلى أن التعرض المستمر للضغوط يؤدي إلى تدهور القدرة على التكيف العاطفي؛ مما يتطلب تدخلات علاجية تشمل التدريب على تقنيات الاسترخاء وإدارة القلق(73).

كما تُبرز نظرية التفكير المزدوج لـ “دانيال كانيمان” (Daniel Kahneman) أهمية التمييز بين التفكير الحدسي (System 1) والتحليلي (System 2) في تقليل الانحرافات المعرفية، خاصة التحيز التأكيدي؛ مما يُحسِّن من جودة القرار الاستخباري(74).

أما الحالات الأكثر تعقيدًا، مثل البارانويا، فتتطلب تدخلًا علاجيًّا مكثفًا من خلال برامج مثل العلاج المعرفي السلوكي (CBT) أو العلاج الجماعي، وهي ممارسات مدعومة بنظرية الانفعالات والضغط النفسي لـ”لازاروس وفولكمان”(75). على أن هذه العلاجات لا تُثمر إلا في بيئة مؤسسية داعمة، وفقًا للنموذج البيئي للضغط النفسي (Ecological Model of Stress)(76).

وفي مجال الدعم التكنولوجي، تُمثل أدوات التحليل الذكي حلًّا ضروريًّا لتخفيف العبء المعرفي عن المحللين، استنادًا إلى نظرية الفائض المعلوماتي (Information Overload Theory) التي تُظهر العلاقة بين التدفق المعلوماتي والتشتيت النفسي(77).

ولا ينبغي أن يقتصر الدعم على فترة الخدمة، بل يمتد إلى ما بعد التقاعد، وفقًا لنظرية التكيف النفسي (Psychological Adaptation Theory)، من خلال برامج دعم انتقالي تُساعد المتقاعدين على التكيف مع الحياة المدنية، وتقلل من آثار العزلة النفسية(78).

أخيرًا، يُعَد التقييم النفسي المنتظم عنصرًا وقائيًّا أساسيًّا، عبر أدوات قياس متخصصة، للكشف المبكر عن الاضطرابات وتقديم التدخل المناسب في الوقت المناسب. وتُسهم هذه المقاربة في تعزيز استقرار الأفراد والحفاظ على جاهزيتهم المهنية على المدى الطويل.

خاتمة

تُعد باثولوجيا الاستخبارات موضوعًا محوريًّا لفهم التحديات التي تواجه الأجهزة الاستخبارية في سعيها لتحقيق الأهداف الإستراتيجية وإدارة الأزمات. ومن خلال تحليل الأبعاد المؤسسية والنفسية لهذه الظاهرة، يتضح أنها لا تقتصر على أخطاء فردية أو مشكلات معزولة، بل تمثل نتاجًا لتفاعل معقد بين عناصر تنظيمية ونفسية تؤثر بعمق في أداء الأجهزة الاستخبارية.

على الصعيد المؤسسي، كشفت الدراسة أن ضعف التنسيق بين الوكالات الاستخبارية يشكل أحد أبرز أسباب الفجوات المعلوماتية، ويُضعف من القدرة على استشراف التهديدات بصورة شاملة. وقد أظهرت النتائج أن غياب التنسيق يُعزز الانغلاق المؤسسي، ويُفضي إلى عمل منفصل لكل وكالة؛ مما يؤدي إلى تفتُّت المعلومات وتضاربها، ويزيد من احتمالية الوقوع في أخطاء إستراتيجية جسيمة. وهو ما يستدعي تبني نظم فعالة لتبادل المعلومات، تعتمد على منصات رقمية آمنة، وتُعزز الثقة عبر تطبيق آليات مراجعة مستقلة؛ إذ إن الشفافية تُسهم في بناء الثقة الداخلية، وترفع من كفاءة اتخاذ القرار، مما يعزز مصداقية الأجهزة وفاعليتها.

أما على الصعيد النفسي، فقد بيَّنت الدراسة أن التحديات النفسية تمثل عنصرًا حاسمًا في التأثير على الأداء الاستخباري. وتُعد التحيزات الإدراكية، مثل التحيز التأكيدي، من أبرز هذه التحديات؛ إذ تدفع المحللين إلى البحث عن أدلة تؤكد معتقداتهم السابقة؛ مما يفضي إلى قرارات مشوهة وغير موضوعية. وتُضعف هذه التحيزات من دقة التحليل، وتُقوض قدرة الأجهزة على تقييم المعلومات بشكل متوازن. كما أظهرت الدراسة أن بيئات العمل عالية الضغط تُسهم في تفاقم مشكلات نفسية كالبَارانويا وتبلد المشاعر؛ مما يُعيق قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات مدروسة، ويُهدد جودة الأداء التحليلي.

ولمعالجة هذه الإشكاليات، أكدت الدراسة أهمية تبني برامج تدريبية متخصصة تُعزز التفكير النقدي وتُنمي الوعي بالتحيزات الإدراكية. ويجب أن تتضمن هذه البرامج تقنيات تساعد العاملين على التعرف على هذه التحيزات والتعامل معها بفعالية، بما يُحسِّن جودة التحليل ويُقلِّل من الأخطاء الإستراتيجية. كما يشكِّل التدريب على إدارة ضغوط العمل جزءًا أساسيًّا من هذه البرامج، من خلال تطبيق تقنيات مثل التأمل، والتنفس العميق، ودعم الصحة النفسية بشكل عام، وهي تدابير تسهم في تعزيز الأداء الفردي والجماعي على السواء.

ويُبرز هذا التحليل الشامل أهمية تبني إصلاحات مؤسسية ونفسية متكاملة تُسهم في بناء بيئة عمل أكثر مرونة واستجابة، مما يُعزز قدرة الأجهزة الاستخبارية على مواجهة التحديات الأمنية المعقدة. ومن خلال تطبيق هذه الإصلاحات، يمكن بناء جهاز استخباري أكثر كفاءة ونزاهة، قادر على اتخاذ قرارات إستراتيجية قائمة على معلومات دقيقة وموثوقة، بما يعزز الأمن القومي، ويُحسِّن استجابة المؤسسات الاستخبارية للأزمات المتزايدة في عالم سريع التحول.

وقد توصلت هذه الدراسة إلى عدد من النتائج الرئيسة التي يمكن تلخيصها على النحو الآتي:

البُعد المؤسسي: أوضحت الدراسة أن ضعف التنسيق بين الوكالات يُنتج فجوات خطيرة في تبادل المعلومات، تُضعف من دقة تقييم التهديدات. ويتطلب الأمر إدخال نظم فعالة لتبادل المعلومات، تقوم على تقنيات متقدمة ومنصات رقمية آمنة، إلى جانب آليات مراجعة مستقلة تُعزز الشفافية، وتُنمِّي بيئة عمل تعاونية تُحسِّن من اتخاذ القرارات الإستراتيجية.

البُعد النفسي: كشفت الدراسة أن التحيزات الإدراكية، وخصوصًا التحيز التأكيدي، تُؤثر تأثيرًا بالغًا في جودة التحليل وفاعلية القرار. كما أن بيئات العمل الضاغطة تُسهم في ظهور حالات من البارانويا وتبلد المشاعر؛ مما يُقوِّض الموضوعية والفاعلية. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى برامج تدريبية تُنمِّي التفكير النقدي، وتُعزز الوعي بالتحيزات، وتُساعد العاملين على التكيف مع ضغوط العمل، بما يُحسن جودة الأداء الاستخباري.

الأخلاقيات المهنية: تُعَد الأخلاقيات عنصرًا أساسيًّا لضمان نزاهة العمل الاستخباري؛ إذ يُؤدي غيابها إلى تآكل الثقة، وتدني فاعلية الأداء. ويُوصَى بتعزيز ثقافة النزاهة والشفافية من خلال آليات فعالة للمراقبة والمراجعة، مثل فرق التحقيق المستقلة والتدقيق الداخلي، بما يضمن أن تكون القرارات مستندة إلى معايير أخلاقية راسخة، تُعزز من مصداقية الأجهزة، وتدعم قدرتها على اتخاذ قرارات إستراتيجية دقيقة وموثوقة.

وبناءً على ما سبق، تُؤكد الدراسة أن باثولوجيا الاستخبارات تُشكِّل عاملًا جوهريًّا في تفسير اختلالات الأداء داخل المؤسسات الاستخبارية. وفهم هذه الظاهرة، بأبعادها النفسية والمؤسسية، يُمهد الطريق نحو بلورة إستراتيجيات إصلاحية شاملة تُسهم في تعزيز الأداء الكلي لهذه الأجهزة. ومن خلال تحسين التنسيق المؤسسي، وتطوير القدرات التحليلية، وتكريس قيم النزاهة المهنية، يمكن للأجهزة الاستخبارية أن تُحقق مستويات أعلى من الكفاءة والجاهزية، وتُواجه التهديدات الأمنية المتزايدة في هذا العصر المتقلب، بكفاءة وثقة واستقلالية.

المراجع

(1) تجربة ميدانية للباحث، استنادًا إلى عمله داخل الأجهزة الاستخباراتية في السودان لأكثر من 25 عامًا.

(2) Len Scott and Peter Jackson, “The Study of Intelligence in Theory and Practice,” Intelligence and National Security, vol. 19, no. 2 (2004), p. 141.

(3) James Derian, Antidiplomacy: Spies, Terror, Speed and War (Oxford: Blackwell, 1992).

(4) Sherman Kent, Strategic Intelligence for American World Policy (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1949), p. ix.

(5) Richard Thurlow, The Secret State: British Internal Security in the Twentieth Century (Oxford: Blackwell, 1994).

(6) Michael Herman, Intelligence Power in Peace and War (Cambridge: Cambridge University Press, 1996).

(7) John Ferris, “Intelligence,” in R. Boyce and J. Maiolo (eds.), The Origins of World War Two: The Debate Continues (Basingstoke: Palgrave, 2003), p. 308.

(8) Kobi Michael and Aaron Kornbluth, “The Academization of Intelligence: A Comparative Overview of Intelligence Studies in the West,” Cyber, Journal of Intelligence and Security, vol. 3, no. 1 (May 2019), pp. 5–6.

(9) شادي عبد الوهاب منصور، الدراسات الأمنية الدولية: البعد الخفي في إدارة السياسة الخارجية، ط1 (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2023)، ص 21.

(10) Michael Herman, Intelligence Power in Peace and War (Cambridge: Cambridge University Press, 1996).

(11) Mark M. Lowenthal, Intelligence: From Secrets to Policy, 9th ed. (Washington, DC: CQ Press, 2023).

(12) اللجنة الوطنية للهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة، التقرير النهائي للجنة الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة (واشنطن العاصمة: لجنة الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة)،

https://www.9-11commission.gov/report/.

(13)  مركز الرافدين للدراسات الإستراتيجية، حرب العراق وأسلحة الدمار الشامل: فشل استخباري أم صنيعة البيت الأبيض؟، 29 مارس/آذار 2019 (تاريخ الدخول: 25 يوليو/تموز 2025)، https://rasammerkezi.com/translations/4113/

 (14)  حسام الحملاوي، “دور الشرطة في الثورة المصرية المضادة”، سياسات عربية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 66 (قطر، 2024)، ص 93.

(15) Len Scott and Peter Jackson, Ibid, p. 145.

(16)  مايكل يونغ، “ماذا وراء أعمال العنف في سورية؟”، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط، 17 مارس/آذار 2025 (تاريخ الدخول: 21 مارس/آذار 2025)، https://carnegie-mec.org/diwan/92471.

(17)  عمار الحديثي، “فساد المنظومة الأمنية في العراق: جيش من الفضائيين”، نون بوست، 20 أكتوبر/تشرين الأول 2022، (تاريخ الدخول: 21 مارس/آذار 2025)،

https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/03/what-was-syrias-violence-about?lang=ar

(18)  هيكل بن محفوظ، “نظرة عامة على واقع إصلاح قطاع الأمن في تونس”، مبادرة الإصلاح العربي، يوليو/تموز 2014 (تاريخ الدخول: 21 مارس/آذار 2025)، https://www.arab-reform.net/publication/a-general-overview-of-security-sector-reform-in-tunisia/.

(19) “تحقيق بريطاني في ‘تورط’ المخابرات البريطانية بنقل سجناء إلى ليبيا”، بي بي سي عربي، 5 سبتمبر/أيلول 2011، (تاريخ الدخول: 6 يوليو/تموز 2025)،

https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2011/09/110905_uk_rendition_libya

(20) Richard K. Betts, Enemies of Intelligence: Knowledge and Power in American National Security (New York: Columbia University Press, 2007).

(21) Max Weber, Economy and Society: An Outline of Interpretive Sociology (Berkeley: University of California Press, 1978).

(22) Henry Kissinger, World Order (New York: Penguin Press, 2014).

(23) Robert S. Mueller, Report on the Investigation into Russian Interference in the 2016 Presidential Election (Washington, D.C.: U.S. Department of Justice, 2019).

 (24) فرح يحيى زعاترة، التهديدات السيبرانية على الأمن القومي الأميركي، ط1 (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2024)، ص 166.

(25) Raymond L. Garthoff, Deterrence and the Revolution in Soviet Military Doctrine (Washington, D.C.: Brookings Institution Press, 1990).

(26) Alexei Fursenko and Timothy Naftali, One Hell of a Gamble: Khrushchev, Castro, and Kennedy, 1958–1964 (New York: W.W. Norton & Company, 1997).

(27) Paul R. Pillar, “Intelligence, Policy, and the War in Iraq,” Foreign Affairs 85, no. 2 (2006): 15–27.

(28) “أجهزة الاستخبارات: الأدوار والمسؤوليات استنادًا إلى الحكومة الرشيدة لقطاع الأمن”، مجلة حكامة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 4 (قطر، 2022)، ص 138.

(29) Peter Kornbluh and Malcolm Byrne, eds., The Iran-Contra Scandal: The Declassified History (New York: The New Press, 1993).

(30) Christopher M. Andrew and Oleg Gordievsky, KGB: The Inside Story of Its Foreign Operations from Lenin to Gorbachev (New York: HarperCollins, 1990).

(31) Mark M. Lowenthal, Intelligence: From Secrets to Policy (Washington, D.C.: CQ Press, 2014).

(32) Hans J. Morgenthau, Politics Among Nations: The Struggle for Power and Peace, 7th ed. (New York: McGraw-Hill, 2006), p. 47.

(33) David Easton, A Systems Analysis of Political Life (New York: Wiley, 1965), p. 75.

(34) Daniel Kahneman, Thinking, Fast and Slow (New York: Farrar, Straus and Giroux, 2011), pp. 45–47.

(35) Ibid., pp. 45–47.

(36) Richard A. Posner, “The 9/11 Commission Report and the Intelligence Failure,” The Yale Review of International Studies, vol. 2, no. 1 (2007), pp. 6–10.

(37)  شوقي عرجون، “الدراسات الاستخباراتية كتخصص في حقل العلاقات الدولية”، مجلة ستراتيجيا، المعهد العسكري للوثائق والتقويم والاستقبالية، الجزائر، العدد 12 (2019)، ص 48.

(38) Richard S. Lazarus and Susan Folkman, Stress, Appraisal, and Coping (New York: Springer, 1984), pp. 20–45.

(39) David A. Bell, Paranoia and the Intelligence Community: Implications for Decision-Making (New York: Routledge, 2006), pp. 50–70.

(40) Brian Peterson, “Paranoia in Intelligence Analysis: A Case Study of the Vietnam War,” Journal of Intelligence and National Security, 1999, pp. 25–45.

(41) Michael Holzman, James Jesus Angleton, the CIA, and the Craft of Counterintelligence (Amherst: University of Massachusetts Press, 2008).

(42) John Ferris, “Intelligence,” in The Origins of World War Two: The Debate Continues, ed. Richard Boyce and John Maiolo (Basingstoke: Palgrave, 2003), pp. 308–327.

(43) Robert Conquest, The Great Terror: A Reassessment (New York: Oxford University Press, 2008).

(44) Ben Macintyre, A Spy Among Friends: Kim Philby and the Great Betrayal (New York: Crown Publishing, 2014).

(45) Edward Snowden, Permanent Record (New York: Metropolitan Books, 2019).

(46) John W. Berry, “Psychological Aspects of Social Re-entry After Professional Service,” International Journal of Stress Management, 2001, pp. 82–95.

(47) Richard S. Lazarus and Susan Folkman, Stress, Appraisal, and Coping (New York: Springer, 1984), p. 123.

(48) John W. Berry, “Psychological Aspects of Social Re-entry After Professional Service,” International Journal of Stress Management, 2001, p. 45.

(49) David A. Bell, Paranoia and the Intelligence Community: Implications for Decision-Making (New York: Routledge, 2006), p. 67.

(50) Ethan Weinstein, “The Ethics of Interrogation in Wartime: The Case of World War II,” The Journal of Military Ethics 6, no. 1 (2007): 54–68.

(51) Schlesinger, James. Report on the Independent Panel to Review DoD Detention Operations. United States Department of Defense, 2004.

(52) Martin J. Eppler and Jeanne Mengis, “The Concept of Information Overload: A Review of Literature,” Information Society 22, no. 5 (2006), p. 5.

(53) Richard S. Lazarus and Susan Folkman, Stress, Appraisal, and Coping (New York: Springer, 1984), p. 112.

(54) David A. Bell, Paranoia and the Intelligence Community: Implications for Decision-Making (New York: Routledge, 2006), p. 67.

(55) Martin J. Eppler and Sarah Mengis, “The Concept of Information Overload: A Review of Literature from Organization Science, Accounting, Marketing, MIS, and Related Disciplines,” The Information Society 22, no. 5 (2006), pp. 325–344.

(56) Richard S. Lazarus and Susan Folkman, Stress, Appraisal, and Coping (New York: Springer, 1984), p. 112.

(57) David A. Bell, Paranoia and the Intelligence Community: Implications for Decision-Making (New York: Routledge, 2006), p. 67.

(58) Loch K. Johnson, Blowback: The Costs and Consequences of American Empire (New York: Henry Holt and Company, 2003).

(59) John Lewis Gaddis, The Cold War: A New History (New York: The Penguin Press, 2005).

(60) Christopher Andrew, The Defence of the Realm: The Authorized History of MI5 (London: Penguin Books, 2009).

(61) Steven Lukes, Power: A Radical View (London: Macmillan, 1974).

(62) Judith Bell, The Impact of Trauma on Intelligence Officers: Emotional Responses and Coping Mechanisms (London: Routledge, 2006).

(63) Orlando Figes, The Whisperers: Private Life in Stalin’s Russia (London: Penguin Books, 2007).

(64) Avner Shapira, Mossad: The Greatest Missions of the Israeli Secret Service (New York: St. Martin’s Press, 2007).

(65) Heinz Kohut, The Analysis of the Self: A Systematic Approach to the Psychoanalytic Treatment of Narcissistic Personality Disorders (Chicago: University of Chicago Press, 1971), p. 45.

(66) Theodore Millon and Roger D. Davis, Personality Disorders in Modern Life (New York: Wiley, 2000), p. 100.

(67) David Robson, “The Narcissism Epidemic: How the Culture of Narcissism is Killing Our Self-Esteem,” Psychological Science 24, no. 7 (2015): p. 760.

(68) Ibid, p. 760.

(69) American Psychiatric Association, Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders (DSM-5), 5th ed. (Washington, DC: American Psychiatric Association, 2013), p. 692.

(70) Heinz Kohut, The Analysis of the Self: A Systematic Approach to the Psychoanalytic Treatment of Narcissistic Personality Disorders, previous reference, p. 55.

(71) Paul Lawrence and Jay Lorsch, Organization and Environment: Managing Differentiation and Integration (Boston: Harvard Business School Press, 1967), p. 45.

(72) John Graham, Bruce Amos, and Tim Plumptre, Principles for Good Governance in the 21st Century (Ottawa: Institute on Governance, 2003), p. 12.

(73)  مارك بيرد دسول، مستقبل الاستخبارات في القرن الحادي والعشرين، ط1 (أبوظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 2014)، ص 42.

(74) Viktor Mayer-Schönberger and Kenneth Cukier, Big Data: A Revolution That Will Transform How We Live, Work, and Think (Boston: Houghton Mifflin Harcourt, 2013), p. 78.

(75) Peter Jarvis, Towards a Comprehensive Theory of Human Learning (New York: Routledge, 2006), p. 94.

(76) Linda K. Treviño and Michael E. Brown, “Managing to Be Ethical: Debunking Five Business Ethics Myths,” Academy of Management Perspectives 18, no. 2 (2004): p. 72.

(77) Richard Lazarus and Susan Folkman, Ibid, p. 30–60.

(78) Daniel Kahneman, Ibid, p. 20–60.

(79) Peter Jones, Psychoanalytic Insights into Intelligence Work (London: Routledge, 2018), p. 100–140.

(80) James Stevens, The Environmental Stress Model in Professional Contexts (New York: Academic Press, 2015), p. 70–110.

(81) David Cooper, Information Overload and Its Professional Implications (Cambridge: Cambridge University Press, 2017), p. 180–220.

(82) James Stevens, Ibid, p. 85–110.