تهدف الدراسة إلى رصد الإسهامات العربية في التنظير وإثراء المعرفة الإعلامية، والوقوف على أهم الإشكاليات المنهجية والنظرية التي تواجه باحثي الإعلام في المنطقة العربية وتحليل أسبابها، وبيان كيفية معالجتها أو التقليل منها. ومن ثم استشراف توجهات التيارات البحثية السائدة فيما يتعلق بمنحى بحوث الإعلام والاتصال في ضوء مستجدات ثورة الاتصال وتقانة المعلومات الحالية. وعبر توظیف منهج التقارير السردية خلصت الدراسة إلى أن المكتبة العربية تعاني قصورًا في مجال التنظير الإعلامي والاتصالي، باستثناء بعض الأعمال البحثية، وأرجعت الدراسة أسباب ذلك إلى العديد من الإشكاليات التي تتعلق باختيار الموضوعات والمناهج والأدوات البحثية، وقلَّة المبادرات التي تسعى إلى إثراء المجال الإبستمولوجي في مجال علوم الإعلام والاتصال.
كلمات مفتاحية: بحوث الاتصال، فاعلية، إثراء، المعرفة الإعلامية، النظرية، العالم العربي.
This study aims to explore Arab contribution to the theorisation and enrichment of media knowledge, focusing on the key methodological and theoretical problems facing media researchers in the Arab world, analysing their reasons, and presenting the means of treating or lessening them. It also predicts the direction of prevailing research trends in light of the developments of the communication revolution and current information technology. By using the reporting narrative method, the study concludes that, with the exception of some research works, the Arabic library is lacking in the field of media and communications theorisation, and attributes that to a number of problems related to the selection of research topics, methodologies and tools as well as the lack of initiative to enrich epistemology in the field of media and communication sciences.
Keywords: Communication Research, Efficiency, Enrichment, Media knowledge, Theory, Arab World.
مقدمة
لم يتشكَّل الاتصال علمًا قائمًا بذاته إلا بعد عدة مراحل معرفية جعلته محلَّ اهتمام علوم كثيرة، مثل الفلسفة، والتاريخ، والاقتصاد، والجغرافيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم السياسة، وعلم الأحياء، وصولًا إلى التحكم الآلي والعلوم الإدراكية. وقد علَّق ولبر شرام (Wilbur Schramm) في العام 1963 على تطور علم الاتصال بقوله: “إن الاتصال ليس اختصاصًا أكاديميًّا؛ على النمط الذي هو عليه علم الفيزياء أو الاقتصاد، لكنه اختصاص على مفترق طرق يمر العديد منه، ولكن القليل فقط يتوقف عنده”(1). وهو تعليق يستند إلى متغيرات البحث العلمي، فحتى ستينات القرن الماضي، كان المهتمون بموضوع الاتصال هم علماء النفس، وعلماء الاجتماع، وعلماء الرياضيات، أو مختصون في علم السياسة عمدوا إلى اختبار جزء من نظرياتهم في ميدان الاتصال.
وإذا كان مفهوم الاتصال يطرح إشكاليات كثيرة على الباحث في تداخله مع عدد من العلوم، فإن نظريات الاتصال كمحور بحثي ليست أقل إشكالية منه وأنتجت الكثير من التعارضات بين الباحثين في الحقل الاتصالي، منها ما يتعلق بالوضع المعرفي ومنها ما يتعلق بتعريفها أساسًا. فتاريخ نظريات الاتصال هو تاريخ تقاطعات بين المادي وغير المادي، بين الدراسات الشاملة والمحدودة، بين الفرد والمجتمع، بين النسق الاجتماعي والفاعل الاجتماعي، وشكَّلت هذه المعطيات فوارق في الرؤى كانت لازمة تاريخية لهذا العلم نشأت على إثرها مدارس وتيارات واتجاهات مختلفة(2). ويركز المهتمون والباحثون في هذا الصدد على مدرستين كبيرتين للاتصال، هما: المدرسة الوظيفية والمدرسة النقدية، وقد تميزت المدرسة الوظيفية بالمنهج والوظائف وبالوضعية، ثم تفرعت إلى مداخل مختلفة تبعًا لتركيز اهتمام الباحثين شملت: الآثار والاستعمالات والمحتوى. ويُدافع أتباع المدرسة الوظيفية عن الموضوعية ويرفضون البحث النظري المجرد الخالي من المعطيات الموضوعية، وعمومًا فإن هذه المدرسة تدرس العلاقة بين الأفراد ووسائل الاتصال، وهي تصور المجتمع باعتباره مجموعة أجزاء مترابطة فيما بينها، وأن وسائل الاتصال جزء منها؛ تُسهم بجانب الأجزاء الأخرى في تلبية حاجات المجتمع الخاصة، وفي أداء مجموعة من الأدوار التي تعمل على تطويره وانسجامه. وتعتبر وسائل الاتصال نظامًا مفتوحًا يتفاعل مع البيئة المحيطة؛ تعمل على توفير التضامن والتكامل الداخلي بين أجزاء المجتمع؛ وإعداده للاستجابة للتغيرات بطريقة عامة وشاملة وواقعية(3).
أما المدرسة النقدية -وتحمل أسماء عديدة أكثرها رواجًا “مدرسة فرانكفورت”- فقد أعطت الأولوية للمحيط الاجتماعي الذي تجري فيه عملية الاتصال وكانت تتساءل دائمًا عن: من يتحكَّم في الاتصال؟ لماذا؟ ولفائدة من؟ هذا بالإضافة إلى رفضها للجانب الإداري للمدرسة الوظيفية، التي يعيبون عليها تركيزها على الاتصال وإهمالها للمحيط التاريخي والثقافي، وهو ما يشوِّه حقيقة الاتصال حسب رأيهم. وقد انقسم أتباع المدرسة النقدية إلى عدة اتجاهات، اهتم كل واحد منها بمؤشر واحد دون غيره من المؤشرات، فأصحاب المقاربة الاقتصادية السياسية تركزت مجهوداتهم على تحليل بنية أو نسق ملكية وسائل الاتصال وكيفية عملها كما جعلوا من الضبط الاجتماعي مركزًا لاهتماماتهم. وهناك أصحاب المقاربة الشمولية في المدرسة النقدية الذين يعطون الأولوية للعامل الأيديولوجي على حساب العامل الاقتصادي، وترى المدرسة النقدية أن وسائل الاتصال ما هي إلا وسائل للتلاعب بالجماهير وضمان تبعيتها، وتنتقد المدرسة الواقع الاجتماعي وتحث وتدعو الإنسان باستمرار لنقد الأفكار والأفعال والغايات بل ولتجاوزها(4).
وإجمالًا، تركز المدرسة النقدية على الكشف عن التناقضات في البيئة الإعلامية، والكشف عن العلاقة بين وسائل الاتصال والأنظمة السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى، ودور أجهزة الاتصال في المحافظة على استمرار النظام العالمي وانتشار العولمة الثقافية، ونشر نموذج ثقافي عالمي موحد، وأساليب التحكُّم والسيطرة وكيفية صنع القرار الإعلامي في المؤسسات الإعلامية. وقد مثَّل تبنِّي مدرسة “فرانكفورت” لمصطلح “التغيير الاجتماعي” إسهامًا مهمًّا في تاريخ البحث العلمي في مجال الثقافة والاتصال، وأثبت في هذا الجانب أن النظرية النقدية تكشف العلاقة الجدلية بين النظرية والواقع الاجتماعي، وتعكس الإدراك العميق لطبيعة الحقيقة الاجتماعية والعلاقة الجدلية بين الإنسان والحقيقة الاجتماعية. وتسعى النظرية النقدية إلى كشف الجوانب الأيديولوجية التي تكمن خلف النظام المؤسسي، كما تسعى إلى الكشف عن الوعي المزيف الذي تقدمه وتروج له وسائل الإعلام في المجتمعات الرأسمالية(5). وأنتجت هذه المدرسة نموذجًا للدراسات الثقافية النقدية لوسائل الاتصال والثقافة، يقوم على الجمع بين نقد الاقتصاد السياسي لوسائل الاتصال، وتحليل النصوص، ودراسة الآثار الاجتماعية للثقافة الجماهيرية والإعلام.
ويُضاف إلى هاتين المدرستين المدرسة البنيوية التي تقوم على دراسة العلاقات المتبادلة بين العناصر الأساسية المكونة لبنى يمكن أن تكون: عقلية مجردة، لغوية، اجتماعية، ثقافية، وبالتالي فإن البنيوية تصف مجموعة نظريات مطبقة في علوم ومجالات مختلفة، لكن ما يجمع هذه النظريات هو تأكيدها على أن العلاقات البنيوية بين المصطلحات تختلف حسب اللغة والثقافة، وأن هذه العلاقات البنيوية بين المكونات والاصطلاحات يمكن كشفها ودراستها. وفي مجال الاتصال، تسعى هذه المدرسة إلى فهم وإدراك المنتوج الاتصالي (النص، الخطاب، الصورة، اللقطة الإشهارية، الفيلم، البرنامج التليفزيوني، الأنواع الصحفية المختلفة، العرض المسرحي…) انطلاقًا من الفهم المنبثق من المنتوج ذاته، فهي لا تتناوله بأحكام مسبقة وآراء جاهزة، بل تتخذه موضوعًا للبحث للكشف عن العلاقات الخفية بين عناصره. فالبنيوية تسمح بفهم واقع وسائل الاتصال والتعامل مع منتوجها ضمن أوضاع إنتاجه(6).
وقد ساعدت بحوث الاتصال التي ازدهرت منذ أوائل القرن الماضي في الولايات المتحدة والغرب عمومًا، والتي تمحورت حول هذه المدارس، على تطوير ميادين علم الاتصال وبلورة نظرياته؛ حيث أخذت هذه الأبحاث في بداياتها منحًى فلسفيًّا ووصفيًّا في محاولة لتكوين مفاهيم أساسية لهذا العلم الحديث، ثم تطورت الأبحاث إلى مراحل متقدمة ولجت الميدان بتطبيق أساليب جديدة قائمة على التجريب.
وتميزت بحوث الاتصال منذ انطلاقتها الأولى بالتوجه السيكولوجي والسيكولوجي الاجتماعي، ولازم هذا التوجه تاريخها الطبيعي والأحداث الكبرى التي شهدتها تلك المرحلة، وعجَّلت بإيجاد مناهج وتقنيات جديدة لفهم وتفسير دور وسائل الاتصال ومكانتها في المجتمع، وأسست لبروز اتجاه سمح بتجاوز قصور انطباعات المعرفة العلمية والأفكار التأملية والنمطية النظرية في تفسير الظاهرة الاتصالية. وفي بداية الخمسينات، بدأت هذه البحوث بتوجهها الأميركي تشق طريقها نحو أوروبا بمصطلحاتها: الجمهور (المتلقي)، والتأثيرات والوظائف التي كانت مؤشرًا للاهتمامات الأميركية والتي انحصرت في دراسة محتويات وسائل الإعلام الجماهيرية من حيث الوظائف. ويُعد كل من بول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld)، وعالمي النفس، كيرت لوين (Kurt Lewin) وكارل هوفلاند (Carl Hovland)، وهارولد لازويل (Harold Lasswell) المؤسسين الأوائل لبحوث الاتصال الجماهيري. وقد أسهم هارولد لازويل في تزويد وسائل الاتصال بإطار مفاهيمي (الأسئلة الخمسة: من يقول؟ ماذا يقول؟ بأية وسيلة؟ ولمن يقول؟ وما التأثير الناجم عن ذلك؟) بعد أن ظلت لسنوات عديدة لا تتجاوز مجموعة من دراسات الحالة، حيث تم استخراج الفروع التالية: تحليل التحكم والرقابة، وتحليل المحتوى، وتحليل وسائل الإعلام أو الحوامل، ودراسة الجمهور، ودراسة التأثيرات. وقد جرى إعطاء أفضلية لبُعدين، هما: تحليل المحتوى ودراسة مسألة تأثيرات وسائل الاتصال(7).
وبالانتقال إلى بحوث الاتصال في الإعلام الجديد، الذي فرض العديد من التحديات أمام الدارسين والباحثين في هذا المجال، ظهر اتجاه جديد لدراسة الظواهر والممارسات الاجتماعية والإنسانية وتفسير الظواهر الاتصالية الجديدة، واستُخدِم العديد من المناهج من بينها المقاربة الإثنوغرافية الافتراضية التي تختلف في تقنياتها عن الإثنوغرافيا الكلاسيكية. فطفرة تكنولوجيا المعلومات أثَّرت بشكل كبير على دراسة المفاهيم العلمية وقلبت بعضها رأسًا على عقب، وألغت أخرى وخلقت مناهج بحثية سعت ضمنيًّا لتأسيس تراث نظري متجدد يعكس خصوصية الإنترنت ومختلف تطبيقاتها داخل الحياة الاجتماعية.
في سياق هذا السرد التاريخي لبحوث الاتصال تأتي هذه الدراسة إثراءً للنقاش الذي بدأ ولم ينته بعد حول مدى مساهمة بحوث الاتصال في العالم العربي في التأطير لنظريات اتصالية إعلامية تستمد أصولها من المجتمع العربي وإرثه وثقافته عوضًا عن التموقع الإبستمولوجي ذي الصلة بهذا العلم والمستمد من المجتمع الغربي، وبذلك تتمحور مشكلة الدراسة وتتحدد أهدافها في تحليل اتجاهات بحوث الاتصال في العالم العربي على مستوى الكيف وبيان مدى مساهمتها في التأطير لنظرية إعلامية عربية من خلال تقديم رؤية نقدية موضوعية لهذه البحوث والدراسات أملًا في الانخراط والاندماج في الأطر والسياقات العالمية لعلوم الاتصال بما يحفظ خصوصية المجتمع العربي الاجتماعية والثقافية والحضارية التي يتميز بها.
وبهذا، فإن الدراسة تهدف إلى الكشف عن الإسهامات العربية في التنظير وإثراء المعرفة الإعلامية، والوقوف على أهم الإشكاليات المنهجية والنظرية التي تواجه باحثي الإعلام في المنطقة العربية وتحليل أسبابها، وبيان كيفية معالجتها أو التقليل منها. ومن ثم استشراف توجهات التيارات البحثية السائدة فيما يتعلق بمنحى بحوث الإعلام والاتصال في ضوء مستجدات ثورة الاتصال وتقانة المعلومات الحالية بما يزيد من رصيد المعرفة والتنظير العربي في هذا المجال. وبذلك فإن الدراسة تحاول الإجابة عن التساؤلات الآتية:
– ما اتجاهات الدرس والبحث في علوم الاتصال؟
– هل أسهم الدرس والبحث العلمي العربي في مجال علوم الاتصال في التأطير لنظرية إعلامية عربية؟
– ما مدى فاعلية بحوث الاتصال في المنطقة العربية في إثراء المعرفة الإعلامية النظرية؟
– ما الإشكاليات المنهجية والنظرية التي تواجه باحثي الإعلام في العالم العربي؟
– ما أنجع الطرق والحلول لمعالجة هذه الإشكاليات؟
وتعتمد الدراسة على توظیف منهج التقارير السردية، الذي يُعنى بجمع المعلومات المتاحة عن موضوع معين وفق خطة محددة، وتقييم تلك المعلومات وتنظيمها، ثم صياغتها صياغة كیفیة في صورة تقرير متماسك يتضمن العرض الوصفي والتحليل ورؤية الباحث واستنتاجاته، بما یتفق مع هدف البحث، وتتلخص إجراءات منهج التقارير السردیة في(8):
– القراءة الشاملة والمتعمقة لموضوع البحث، وتحديد العناوين الرئيسة والفرعية التي تشكل الموضوع بجوانبه كافة.
– جمع المعلومات التي تغطي هذه العناوين الفرعیة والرئيسية، وذلك بموجب خطة معینة وبأساليب يراها الباحث مع مراعاة التوثيق الكامل للمصادر والمراجع.
– تقییم المعلومات التي جُمِعت، واستكمال الناقص، واستبعاد المكرر، وقد یجد الباحث ضرورة إعادة تصنيف المعلومات وتنظيمها.
– الصياغة الأولية للمعلومات وإعادة تقییمها، مع إجراء التعديلات التي يراها الباحث ضرورية لكي يكون التقرير متكاملًا وسلیمًا.
– صياغة التقرير في صورته النهائية متضمنًا العرض الوصفي والتحليل النقدي، والملخصات العامة.
وللوصول إلى ذلك، تم اختيار عينة عمدية من الدراسات والبحوث العلمية العربية المنشورة على شبكة الإنترنت شملت عددًا من رسائل الدكتوراه والماجستير والأوراق العلمية المنشورة في مجلات علمية محكمة وأخرى قُـدِّمت في مؤتمرات وملتقيات علمية متنوعة في منطقتي المشرق والمغرب العربي في العقدين الماضيين، بلغ عددها (100) عمل بحثي. واعتمدت الدارسة في تحليل البيانات والمعلومات والنتائج التي تضمنتها العينة التي خضعت للتحليل على ما یسمى بأسلوب التحليل البعدي؛ الذي يعمل على تقويم دقيق للمواد التي نُشرت بالفعل؛ إذ يتناول بالتنظيم والتكامل والتقويم البحوث والدراسـات التي تم نشرها، وذلك من خلال تحديد المشكلة وتوضيحها، والوقوف على البحوث السـابقة لتعريف القارئ بالوضع الحالي للبحث، والتعريف بالعلاقـات، والتناقضات، والفجـوات التي قد توجد في البحوث السـابقة، واقتراح الخطوة أو الخطوات التالية لحل ما قد يوجد من مشكلات(9). وذلك من خلال العناصر التالية:
- اتجاهات بحوث علوم الاتصال (مدخل عام)
تُعد علوم الإعلام والاتصال حديثة نسبيًّا، ولكن على الرغم من ذلك أضحت علومًا لها نظرياتها ومناهجها وتقنياتها ومقارباتها المعرفية المتصلة بالظاهرة الاتصالية كظاهرة إنسانية واجتماعية، وقد تعددت الأبحاث في حقل علوم الإعلام والاتصال، واستخدم الباحثون المناهج والأدوات بالاستناد إلى نظريات ومقاربات كان قد طوَّرها رواد علم الاجتماع والنفس أمثال: إيميل دوركهايم (Emile Durkheim)، ومارسيل موس (Marcel Mauss)، وموريس هالبواكس (Maurice Halbwachs) وابن خلدون، بل وذهب التبني أبعد من ذلك ليشمل علومًا أخرى خدمة للموضوع وأهدافه؛ الأمر الذي جعل مجال الاتصال يبقى على مفترق طرق كل العلوم: يأخذ ويستفيد من النماذج والأدوات التي تضطلع بها. ومع تنامي البحث في الاتصال وعناصره ارتقت بحوثه إلى الموضوعات العلمية وتبلورت في ضوء تلك الجهود اتجاهات نظرية منها: اتجاه التفسير التاريخي، والاتجاه التحليلي الأمبريقي، والاتجاه الجدلي النقدي، غير أن ذلك لم يكن كافيًا لتقديم كامل الحقائق المتعلقة بعملية الاتصال التي أصبحت تستند إلى عدد من الفرضيات المستنبطة من حقول علمية متنوعة، خاصة الأعمال التي درست العلاقة بين المجتمع وعمليات الاتصال، وقد قاد ذلك إلى ظهور اتجاهات ومداخل أخرى يمكن تحديدها فيما يلي(10):
- الاتجاه السياسي لأبحاث الإعلام والاتصال: ظهر هذا الاتجاه على يد الباحث الأميركي، هارولد لازويل، منذ العام 1930، حيث قام هذا الاتجاه بدراسة تأثير وسائل الإعلام في المجتمع من خلال تحليل ما تنشره من مواضيع ومضامين باستخدام منهج تحليل المضمون بأسلوبه الكمي إلى جانب اهتمامه بدراسة القائمين بالاتصال من رجال السياسة وكل ما له علاقة بوسائل الاتصال كافة.
- الاتجاه السيكولوجي الاجتماعي: ظهر هذا الاتجاه في أحضان علم النفس الاجتماعي ومن رواده بول لازارسفيلد وكرت لوين وكارل هوفلاند. وقام هذا الاتجاه على الدراسات القياسية الميدانية لآراء جماهير وسائل الإعلام، خاصة آراء جمهور الراديو أو دراسة الاتصال داخل الجماعة، أو الدراسات التي تناولت تغيير الاتجاهات. وإذا كان لكل علم حدود معرفية في مجال حقله، فإن ثمة موضوعات مشتركة ما بين علم الاتصال وعلم الاجتماع، فالترابط الاجتماعي الإعلامي يُبين مدى الأهمية المحورية للحقول المعرفية بين علوم الإعلام والاتصال وعلم الاجتماع، خصوصًا في ظل تنوع العدة التكنولوجية الإعلامية والاتصالية، فعلاقات المجتمع الإنساني قوامها الاتصال.
- الاتجاه الإصلاحـي: الذي اهتم بالتنظيم والتكوين والسلطة على وسائل الإعلام وبكل ما له علاقة بالسياسة العامة لهذه الوسائل، وهي الجوانب المأخوذة مباشرة من تقرير لجنة حرية الصحافة الأميركية التي تشكَّلت سنة 1947، والمعروفة بلجنة “هوتشنز” (Hutchins)، وكان مضمون تقرير هذه اللجنة وما تضمنه من نتائج محل اهتمام معاهد وكليات الإعلام دراسة وتحليلًا.
- الاتجاه التـاريخـي: الذي اهتم بالتأريخ لحياة رجال الصحافة والإعلام، وقام به الباحثان، هارولد إينيس (Harold Innis) وديفيد رايسمان (David Raisman).
- الاتجاه الصحفـي: ظهر هذا الاتجاه على مستوى معاهد الصحافة ومراكز أبحاث الاتصال التي ركزت في نشاطها البحثي على وسائل الإعلام وعلى خصائص القائم بالاتصال، ومن رواد هذا الاتجاه عالم الاتصال ولبر شرام.
- الاتجاه الذي يدرس فلسفة اللغة والمعاني: يهتم اتجاه فلسفة اللغة والمعاني بموضوعات قياس المعاني والاتجاهات السلوكية اللغوية، وبدراسة تطبيق نظرية المعلومات على الاتصال الإنساني، وهي نظرية تستخدم الآليات الوظيفية التي يقوم بها الفرد لوضع المعاني الخاصة بالتدفق المعرفي الذي يستقبله كل يوم. وفي هذه النظرية يكون الفرد مدركًا أو واعيًا لجزء صغير من المعلومات التي يتعرض لها، ويختلف هذا الإدراك من فرد لآخر، وهذا ما يفسر الاختلاف أو التباين بين الأفراد في تفسير الرسالة الإعلامية. وقد كانت هذه الموضوعات محلَّ اهتمام العديد من الدارسين المنتمين إلى تخصصات الفلسفة والأنثروبولوجيا واللغة، وعلم النفس، والرياضيات وغيرها.
- اتجاه شبكـات الاتصال: الذي تخصص في دراسة موضوع البث الإعلامي عبر الأثير منطلقًا من مبدأ نظام التوزيع العصبي في جسم الإنسان.
- اتجاه الممارسة المهنية: وتشمل الممارسة المهنية اتجاهين رئيسيين، الاتجاه الأول: يتناول وصف اتجاهات الممارسة المهنية ومستواها في المجالات الفنية والإدارية والمالية، ويدخل في هذا الاتجاه عدد من البحوث والدراسات، مثل: وصف العقائد والأفكار والمبادئ الخاصة بالقائم بالاتصال والعاملين في مجال التنظيم والإدارة، ووصف التأهيل العلمي والمهني لهذه الفئات، ووصف المهارات المتميزة في مجالات الإعداد والإنتاج بما ينعكس على شخصية المؤسسة أو الرسائل الإعلامية. الاتجاه الثاني: يتناول وصف اتجاهات الممارسة المهنية ومستواها في إطار العلاقة مع غيرها من العوامل الداخلية والخارجية التي تؤثر في هذه الممارسة، وتأثيرات الممارسة الإعلامية على المنتج الإعلامي في النهاية.
وثمة تصنيف آخر لبحوث الإعلام والاتصال حيث يقسمها بعض الباحثين إلى ثلاثة اتجاهات أساسية(11):
– الاتجاه الأول: يقف بين العلوم العصبية والعلوم المعرفية ويعالج الاتصال في علاقته مع الدماغ: إدراك وتفكيك الصورة واللغة.
– الاتجاه الثاني: يقف بين العلوم المعرفية والعلوم الطبيعية ويرتكز على مشاكل الاتصال بين الإنسان والآلات.
– الاتجاه الثالث: يرتكز على علوم الإنسان والمجتمع، ويدرس الاتصال بين الأفراد والجماعات، وكذلك تأثير تقنيات الاتصال في مسار المجتمع.
وفي هذه الاتجاهات الثلاثة تلتقي عدة تخصصات كالفلسفة، والاقتصاد، والقانون، وعلم السياسة، وتاريخ الآلات، والجغرافيا، وعلم النفس، وعلم النفس الألسني، وعلم الإنسان. فمن الصعب وضع حدود واضحة تحدد بحوث الإعلام والاتصال وتفصلها عن غيرها من البحوث الإنسانية، فالباحث لا يدرس وسائل الاتصال فقط، وإنما يدرس عملية الاتصال بكامل أركانها، وهذا ما يفسر علاقة علم الاتصال بالعلوم الإنسانية الأخرى.
وقد ركزت اتجاهات بحوث الاتصال كافة على دراسة تأثير وسائل الاتصال في الجمهور حيث أراد الباحثون التعرف على ماذا يفعل الجمهور بالوسائل، وماذا تفعل الوسائل بالجمهور. ويُعد تحليل تأثير وسائل الإعلام مفتاحًا لكل دراسة حول الاتصال؛ حيث شكَّل محور النقاشات المعرفية التي أسست لبحوث الإعلام والاتصال، ونتج عن هذه البحوث والدراسات مجموعة النظريات والمقاربات التي تناولت التأثير القوي والتأثير الانتقائي والتأثير المعتدل، وهي بحوث تهتم بالتغيير أو التحول الذي قد يطرأ على سلوكيات الجمهور ومواقفه وحالاته الانفعالية الذهنية الإدراكية والمعرفية أثناء وبعد التعرض لوسائل الإعلام ومقارنة ذلك بالوضع السابق للتعرض. وقد تميزت أبحاث التأثير في الفترة الأولى (منذ بداية القرن العشرين إلى بدايات الحرب العالمية الأولى) بالتركيز على الأثر القوي لوسائل الإعلام في الجمهور، ومفاد ذلك أن الرسائل، التي تقدمها الوسائل الاتصالية ويستقبلها الجمهور، تؤدي إلى استجابة آنية ومباشرة وفورية متأثرة بافتراضات نظرية المجتمع الجماهيري(12). وكانت المحاولات التي تتناول العلاقة بين ما تبثه وسائل الإعلام والجمهور المتلقي في هذه المرحلة عبارة عن انطباعات وآراء ونظريات ذاتية أكثر منها استنتاجات لتحليل وقائع موضوعية وعلمية.
أما أبحاث المرحلة الثانية (من أواخر سنوات الثلاثينات إلى الستينات من القرن العشرين) فقد ركزت على إعادة النظر في قدرة وسائل الاتصال على التأثير القوي في الجماهير، ونتج عن ذلك نظريات جديدة تشير إلى محدودية التأثير، وأن وسائل الاتصال ما هي إلا عامل من بين عوامل أخرى تؤثر جميعها في سلوكيات واختيارات الأفراد. وقد اهتمت الدراسات في هذه الفترة بالتركيز على التأثير في المجال السياسي، وهي دراسات أُجريت حول تأثير أنواع من المحتوى، خاصة الأفلام وبرامج الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية، وترتب على ذلك إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين وسائل الإعلام والأفراد، وتم رفض فكرة أن الناس يواجهون وسائل الإعلام باعتبارهم جمهورًا لا رابط بين أفراده وأن وسائل الاتصال لا تعمل وحدها سببًا ضروريًّا وكافيًا للتأثير في الجمهور؛ ولكنها تعمل ضمن جملة عوامل أخرى. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أبحاث الجمهور التي تبلورت منذ سبعينات القرن العشرين ضمن نوع من التيار البحثي الذي أحدث قطيعة مع النموذج السائد منذ الأربعينات؛ حيث تحول من تحليل التأثير قصير المدى ليهتم بالتأثير على المدى البعيد لمجموعة أنظمة وسائل الإعلام كمؤسسات اجتماعية، خاصة الأبحاث المتعلقة بتكوين الرأي العام، وقد ضمت هذه المرحلة أطر نظريات كل من ترتيب الأولويات، والاعتماد على وسائل الإعلام، والإنماء الثقافي، والتي تُعد من نظريات التأثير المعتدل لوسائل الإعلام(13).
ومع بداية ثمانينات القرن العشرين ظهر تيار بحثي يهتم بالكيفية التي “يُفسر بها المتلقي الرسائل الإعلامية”، أي التركيز على عملية التلقي في حدِّ ذاتها باعتبارها ممارسة لها أسسها الاجتماعية والثقافية، وباعتبارها عملية بناء اجتماعي للمعاني التي يضيفها المتلقي على الرسائل الإعلامية. وإذا كانت أولى الأبحاث في ميدان الاتصال كمية بالدرجة الأولى، تهدف إلى التعرف على حجم الجمهور، ومعدلات التعرض وتحقيق أكبر قدر ممكن من الربح، فإن دراسات الجمهور فيما بعد باتت تهتم بالكيف بدلًا من الكمِّ، أي محاولات معرفة طبيعة الدلالات والمعاني التي ينتجها أفراد الجمهور، فعملية الاتصال لا تسير في اتجاه واحد/خطي: مرسل ¬ رسالة¬ مستقبل، بل يمكن للمستقبل أن يضفي تعديلات جديدة على الرسالة وفق العملية التالية: إنتاج¬ انتقال ¬ توزيع ¬ استهلاك ¬ إعادة إنتاج. وخلصت هذه الأبحاث إلى أن للجمهور دورًا فعالًا في تعامله مع محتويات وسائل الاتصال، وأن باستطاعته إضفاء تأويلات وتفسيرات على المحتوى الذي يتلقاه(14).
وثمة تيار آخر يستمد المفاهيم الجديدة المتعلقة بجمهور وسائل الإعلام وسلوكياته وأبحاثه ومقوماتها من الأدبيات التي أوجدتها تيارات ما بعد الحداثة التي تتجلَّى أفكارها في جوانب التلقي المختلفة وفي نشر المستحدثات والنقاشات حول العناصر الأكثر تداولًا في الأبحاث وهي مفاهيم تكنولوجيا الإعلام والاتصال المستجدة في المحيط الاتصالي المتحرك والمتمثلة في مفهوم السياق المحلي (Domestic Context)، ومفهوم التكنولوجيا المنزلية (Domestic Technologies)، ومفهوم التفاعلات الأسرية (Family Dynamism). وقد أسهمت هذه المفاهيم المرتبطة في أساسها بقواعد واستعمالات وعلاقات الجمهور بتكنولوجيا الإعلام والاتصال وتحديدًا مشاهدة التليفزيون في إحداث تحولات مهمة في فهم الجمهور الذي اعتبرته الدراسات والأبحاث الأولية مجرد أفراد متأثرين بالقوة البالغة للرسائل الإعلامية قارئين للنصوص وللصور التي تنتجها وتوزعها وسائل الإعلام. بعبارة أخرى، جرى التركيز في الدراسات، التي تستمد أصولها من الدراسات الثقافية، على “الجمهور المتلقي” في حدِّ ذاته باعتباره متلقيًا أكثر نشاطًا(15).
وتلخيصًا، فإن بحوث الاتصال قد مرَّت بعدد من المراحل منذ مطلع القرن العشرين وحتى ظهور وسائل الإعلام الجديدة، هي(16):
– المرحلة الأولى: بدأت مع ظهور اهتمام علماء الاجتماع بوسائل الاتصال منذ مطلع القرن العشرين، وكانت نظرية المجتمع الجماهيري أولى النظريات التي استندت إليها الدراسات الاتصالية التي ركزت على التأثيرات قصيرة المدى لوسائل الاتصال في آراء واتجاهات الأفراد.
– المرحلة الثانية: من العام 1940 وحتى بداية عام 1960 اعتمدت بحوث الاتصال على نظريات علم النفس الاجتماعي لمعرفة تأثير وفعالية وسائل الاتصال، وفي هذه المرحلة توصلت الدراسات إلى اكتشاف أهمية العوامل الاجتماعية وتأثيرها في جمهور وسائل الاتصال.
– المرحلة الثالثة: بدأت من العام 1960 وحتى ظهور ما بات يُعرف بالإعلام الجديد؛ حيث شهدت بحوث الإعلام والاتصال العديد من التغيرات فلم تعد تركز على آثار وسائل الاتصال قصيرة المدى، ولكن أصبح التركيز على موضوعات أكثر شمولية تتعلق بعلاقة المؤسسات الإعلامية مع غيرها من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمع وكذلك علاقتها بالمجتمع ككل.
ومع اتساع انتشار الإنترنت وتغلغلها في جميع نواحي الحياة واجتياح العولمة الإعلامية، وتعميم أنظمة الاتصال الرقمية التي غيرت من طبيعة العلاقة بين المرسل والمتلقي وأضفت عنصر الوجود غير المادي واللامحدودية في الزمن والمكان للجمهور، شهدت دراسات وبحوث الإعلام والاتصال تطورًا أسماه البعض بالجيل الثالث؛ حيث ظهر مصطلح “إثنوغرافية الاتصال” من خلال كتابات الباحثيْن الأميركييْن، دال هايمز (Dall Hymes) وجون جومبيرز (John Gembers)، اللذين حاولا الاستفادة من التيارات التي كانت سائدة في مجال الأنثروبولوجيا واللسانيات والسيسيولوجيا في كتابهما “الاتجاهات في علم اللغة الاجتماعي: إثنوغرافيا الاتصال”، والذي خصصاه لعرض المقاربة الجديدة لبحوث الإثنوغرافيا. ويعرَّف المنهج الإثنوغرافي بأنه “عملية المراقبة أو الملاحظة المباشرة لسلوك مجموعة اجتماعية وإعداد وصف كتابي حولها”. ومن هذا المنطلق فالإثنوغرافيا تعتمد على الوصف والملاحظة والمشاركة للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بحياة الجماعة والأفراد وسلوكهم في فترة زمنية معينة، وتعتمد على مشاركة الباحث لتجارب المبحوثين وذلك لإسقاط النظريات والاجتهادات العلمية على الواقع المدروس والظاهرة المراد معرفتها بطريقة وصفية(17).
فالإثنوغرافيا الافتراضية، والتي تهدف إلى تصور الإنترنت كثقافة وسياق للتفاعل الاجتماعي على حدٍّ سواء، شاع استخدامها في الآونة الأخيرة في الوسط الغربي تحت عدة مصطلحات من بينها الإثنوغرافيا الرقمية، والإثنوغرافيا على الخط، والإثنوغرافيا الافتراضية، وهي تدرس المستخدم الرقمي من ناحية الصورة الاجتماعية والحضارية والثقافية والاتصالية لتكوِّن إطارًا متناسقًا يظهر فيه تفاعل تلك الجوانب، فهي تدرس سلوك المستخدم في بيئته الثقافية والاتصالية والاجتماعية الجديدة، خاصة شبكات التواصل الاجتماعي والتي تعبِّر عن وجوده ويكون ذلك إما باللفظ أو بالإيماءات والحركات وحتى الصمت. ويعتمد المنهج الإثنوغرافي على الوصف والتحليل باستخدام الكلمة والعبارة عوضًا عن الأرقام والجداول الإحصائية. وتجدر الإشارة إلى أن الظواهر التي أفرزها الإعلام الجديد أخذت عدة مسارات بحثية متباينة، منها(18):
– المسار الأول: الذي يقر صلاحية الأساليب البحثية الكلاسيكية في معالجة قضايا الإعلام الجديد باعتباره تطورًا وتقدمًا للإعلام التقليدي.
– المسار الثاني: الذي حاول تطوير ذات الإجراءات القديمة وتطويعها لتتجانس وخصوصية هذا الكيان الجديد.
– المسار الثالث: الذي يسعى لاكتشاف آفاق نظرية جديدة تساعد في تفسير ظواهر الإعلام الجديد والعمل على استحداث أدوات بحثية ومنهجية تلائم الظواهر محل الدراسة والبحث.
وقد مرَّ البحث في وسائل الإعلام الجديد بمراحل عدة، من مرحلة الانبهار والاحتفاء بالانتشار السريع لهذه الوسائط والإمكانات التواصلية التي توفرها، إلى الاهتمام بدراسة تأثيرها على العلاقات والروابط الاجتماعية(19). وحدد بعض الباحثين، ومن واقع دراسات الاتصال الرقمي، أربعة مراحل مرَّ بها البحث والتنظير العلمي في الوسائط الجديدة؛ حيث ركزت المرحلة البحثية الأولى على الاتصال الإنساني والتقارب بين وسائل الإعلام وفكرة النص المتشعب وواجهات الاستخدام. وفي هذه المرحلة ظهرت الارهاصات النظرية الأولى عن الكمبيوتر والاتصال الشبكي، واستندت دراسات هذه المرحلة على نظرية المعلومات ونظرية النظم. أما المرحلة الثانية، والتي أُطلق عليها مرحلة البدايات، فتركزت البحوث فيها حول النص الفائق وواجهات الاستخدام وسهولة الاستخدام والاتصال المعتمد على الكمبيوتر، واعتمدت على النظريات التفكيكية ونظرية المعرفة وعلم النفس. وشملت المرحلة الثالثة ثلاثة توجهات بحثية ونظرية، هي: دخول الإنترنت إلى الثقافة الشعبية، وظهور ثقافة الإنترنت بين الأكاديميين، ثم ظهور الثقافة الناقدة للإنترنت، وتناولت البحوث خلالها الإنترنت والفضاء الإلكتروني، والطريق السريع للمعلومات، والمجتمع الافتراضي، والتفاعلية والنص الفائق ومجتمع الشبكة، واستندت الجهود النظرية خلال هذه المرحلة على نظريات المعرفة وعلم النفس وعلم الاقتصاد والعلوم السياسية والاجتماع والثقافة والتكنولوجيا. أما المرحلة الرابعة، وتسمى مرحلة دراسات الإنترنت، فقد ركزت البحوث خلالها على دراسة المصادر المفتوحة والمدونات والويكي وخدمات التزويد والشبكة. ونظريًّا، استندت البحوث في هذه المرحلة على تطبيق نظريات الاتصال التقليدية على وسائط الاتصال الجديدة إلى جانب البحث في النظريات الجديدة. واتفق الباحثون على خمسة مفاهيم نظرية رئيسية وحاكمة في بحوث وسائل الإعلام الجديدة هي: الفضاء الإلكتروني، والمجتمع الافتراضي، والتفاعلية، والنص الفائق، والوسائط المتعددة(20).
وقد أفضت هذه الجهود البحثية إلى ظهور العديد من الرؤى والمقاربات النظرية التي عملت على رصد تأثيرات البيئة الرقمية على النظريات الاتصالية التي أنتجتها مرحلة ما قبل ظهور التقنيات الحديثة ومدى انطباقها على تفسير الظواهر الإعلامية الجديدة، وتحديد كيفية التعاطي معها، كما أن هذه التطورات قادت إلى ظهور نظريات جديدة تفسر الظواهر الإعلامية المرتبطة بها. ونتج عن ذلك تحول في تحليل النظريات الاتصالية وفي بنائها وتصنيفها، ويمكن النظر إلى ذلك من خلال عنصرين رئيسين: الأول: جدلية صلاحية نظريات الاتصال الكلاسيكية القديمة للتطبيق من عدمه، وهي مقاربات الرفض والقبول. والثاني: الإسهامات النظرية الحديثة، وميلاد نظريات ونماذج ترتبط بالإعلام الجديد انطلاقًا من فهم سماته، وخصائصه ووظائفه وتأثيراته. وبمسح التراث العلمي للمداخل النظرية المستخدمة في دراسات الإعلام الرقمي يتضح أن أبرزها مدخل التأثيرات والمدخل الوظيفي، ومدخل الإعلام الرقمي، وفي ضوء ما تقدم يصنِّف البعض نظريات الاتصال في الوقت الراهن إلى ثلاثة مستويات، هي(21):
– المستوى الأول: نظريات أصبحت قديمة بعد ظهور الإنترنت وتحتاج إلى المراجعة.
– المستوى الثاني: نظريات يمكنها التعايش مع التطورات التكنولوجية الحديثة وتحتاج إلى التطوير.
– المستوى الثالث: نظريات ارتبط ميلادها بظهور الإنترنت وبزوغ الإعلام الجديد.
وبما أن ميدان الاتصال يشهد كل يوم الجديد من الابتكارات والممارسات فإن نظريات الاتصال هي الأخرى شهدت وستشهد المزيد من التنقيح والتجديد المستمرين.
- واقع بحوث الاتصال في العالم العربي والعجز في التأطير لنظريات إعلامية عربية
ترجع إسهامات النظرية في البحث العلمي إلى العلاقات التي تربط بينهما، والتي يمكن التعبير عنها بأنها علاقة تبادلية وتفاعلية متينة، بحيث لا يستغنى أحدهما عن الآخر، فالنظرية من غير بحث علمي يمدها بحقائق جديدة ويمتحن صحتها باستمرار تكون عديمة الجدوى، لأنها قد تبقى مجرد تجريد لا يعكس الواقع. وفي المقابل، فإن البحث العلمي لا يمكن أن يتطور من غير الاعتماد على النظريات باعتبار أن النظرية تقوم في جزء منها بتبرير عملية البحث وتعطيه الشرعية من خلال جعل الحقائق منطقية ومصوغة في سياق مرتب ومنظم، فصياغة البحث العلمي تستدعي التقيد بقواعد وإجراءات تكوِّن إطارًا معرفيًّا ومنهجيًّا يساعد الباحث في توجيه دراسته العلمية في الاتجاه الصحيح الذي يعتمد على المنهج العلمي الذي يتناسب وطبيعة دراسته ومجالاتها(22).
وفي العلوم الاجتماعية بصفة عامة، وعلوم الإعلام والاتصال بصفة خاصة، تتعدد وتتنوع الدراسات العلمية، ويرجع ذلك إلى تعدد وتنوع الظواهر والحالات والمشاكل في مجال البحث، ولم يتفق الباحثون على تقسيم واحد للبحوث العلمية، ولذلك توجد عدة تقسيمات منها ما كان أساسها المجال الذي تتناوله فيتم تقسيمها إلى بحوث اجتماعية، وبحوث طبيعية، وبحوث إنسانية، ومنها ما كان أساسه الوسائل المستخدمة في إنجازها وذلك بتقسيمها إلى بحوث كمية وبحوث نوعية، ومنها ما كان أساسها المنهج المطبق في إجرائها وبالتالي توزعت إلى بحوث تاريخية، وتجريبية، وإحصائية، ومسحية…إلخ. غير أن الباحثين على اتفاق في تصنيف البحث العلمي إلى ثلاثة مستويات، هي: المستوى الاستكشافي، والمستوى الوصفي، والمستوى التفسيري. وفق ما قام به الباحث، موريس دوفرجي (Maurice Duverger)(23)، وهي ذات المستويات التي تُقسَّم على أساسها بحوث علوم الإعلام والاتصال.
فالبحوث الاستكشـافيـة: التي تُعرَف أيضًا بالبحوث الاستطلاعية أو البحوث الأولية، يلجأ إليها الباحث لتذليل الصعوبات التي يواجهها على مستوى استكشاف الظواهر أو التعرف عليها بصورة جيدة، ويتم بناؤها الفني بصورة مرنة لا تتطلب الكثير من الإجراءات البحثية أو التصميم الهيكلي المعقد، كما لا تتطلب تعدد التساؤلات والفرضيات لكونها تعالج نقطة واحدة في شكل إجابة عن سؤال واحد. وتستخدم الأبحاث الاستكشافية في مجالات العلوم التي تعاني عدم توافر الرصيد المعرفي. وعلى مستوى بحوث الإعلام والاتصال يُستخدم هذا النوع من البحوث بصورة كبيرة، لأن بحوث الإعلام والاتصال تعاني عدم وجود نظريات وقوانين كافية تساعد في عملية البحث وتحديدًا في صياغة الفرضيات(24). فمعظم نظريات الاتصال والإعلام مستمد من علوم أخرى. والأمثلة على هذا النوع من الدراسات في بحوث الإعلام الاتصال كثيرة لكون هذا الحقل بكر ومتجدد يشمل كل المواضيع المتعلقة بالإعلام أو حتى الأطر المعرفية وإشكاليات علوم الإعلام والاتصال نفسها(25).
أما البحوث الـوصفيـة فهي التي تعمل على وصف الظاهرة بعد استكشافها، أي إنها تهدف إلى التعرف على العناصر المكونة للظاهرة والعلاقات السائدة داخلها، وهي ضرورية، لأنها تدرس الوضع الراهن للظاهرة دراسة تصويرية دقيقة أي إن الهدف الأول والأخير للبحوث الوصفية هو جمع معلومات كافية ودقيقة عن الموضوع المدروس كما هو في الحيز الواقعي، وتصنيفه إلى عناصره الرئيسية والفرعية وتفسيره تفسيرًا شاملًا من أجل استخلاص النتائج في شكل دلالات تساعد على الوصول إلى تعميمات حول الموقف المدروس. وبالتالي، فإن تصميمها يتطلب عناية كبيرة من حيث البناء الهيكلي وجوانب التعبير عن البيانات بشكل كافٍ غير منقوص. ومن هنا، كان المنهج المسحي والأساليب الكمية هي الأدوات التحليلية الأكثر ملاءمة في هذا النوع من الدراسات لكونها أدوات تعتمد على المسح الدقيق للمعطيات والتعبير عن النتائج بطرق خاصة تعتمد على الإحصاء في التبويب والتحليل لاستخراج المؤشرات التي تحتويها(26). وتُعد البحوث الوصفية الأكثر استخدامًا في دراسات وبحوث علوم الاتصال لملاءمتها لدراسة بعض المشكلات والظواهر التي تتصل بالإنسان ومواقفه وآرائه ووجهات نظره في علاقته بالإعلام ووسائله، وهذا أمر جعل معظم بحوث الإعلام والاتصال في إطار هذا النوع من البحوث.
وبالانتقال إلى بحوث العـلاقـات السببيـة بيـن المتغيـرات، فإن هذا النوع من البحوث يقوم على اختبار علاقات التأثير والتأثر بين متغيرات الظاهرة الواحدة أو الظواهر المختلفة، وهي أبحاث تمثِّل مرحلة النضوج العلمي لأن الباحث لا يكتفي فيها باستكشاف الظاهرة أو تصويرها بل يذهب إلى أبعد من ذلك فيدرس العوامل التي أوجدتها على الشكل الذي هي عليه، وهي بحوث تُستخدم في المرحلة المتقدمة ومرحلة النضوج العلمي من مراحل المعرفة العلمية في التخصصات المختلفة(27).
وتُعد عملية دراسة أبحاث اختبار العلاقات السببية في الإعلام والاتصال عملية معقدة، لأنها تتناول ظواهر مرتبطة بنشاط الإنسان وحركة المجتمع وبالتالي تتعدد وتتشعب العوامل المتحكمة في هذه الظواهر، ولذلك يتطلب هذا النوع من البحوث والدراسات دقة علمية متناهية من حيث تحديد المشكلة البحثية بصورة دقيقة وواضحة، وضبط حدود البحث على مستوى صياغة الفرضيات، واعتماد خطة علمية يتمكن الباحث من خلالها من تقديم البراهين على الفرضية التي وضعها، وتقديم البيانات والحقائق بأسلوب تحليلي مقنع غير متناقض الطرح، وتقديم الأدلة العلمية الكفيلة بإبعاد كل أنواع الشك والغموض عن النتائج التي توصل إليها، ويعتمد إجراء هذا النوع من الدراسات بصورة أساسية على المنهج التجريبي؛ إذ عن طريقه يمكن التحكم في المتغيرات المدروسة أثناء اختبارها(28).
وبتحليل عيِّنة هذه الدراسة، والذي تضمَّن النقاط التالية: الاهتمامات البحثية الرئيسة والفرعية، والمناهج والأدوات البحثية، والأطر المعرفية، والأطر النظرية، ومجتمعات الدراسة، والقيمة المضافة، والإنتاج الفكري الإعلامي والاتصالي العربي، ومطابقة ذلك مع الدراسات السابقة(29)، يمكن القول: إن هناك شبه اتفاق على أن بحوث ودراسات الاتصال والإعلام في المنطقة العربية يثير معظمها جدلًا كبيرًا حول مواضيعها، وإشكالياتها، ومناهجها وأدواتها البحثية، واعتمادها على نظريات بعينها ظهرت في بيئة غربية لا تتجانس مع الخصوصية الثقافية والحضارية للمنطقة العربية. وقد تم توظيف متسع للعديد من النظريات الكلاسيكية، مثل الاستخدامات والإشباعات، ونظرية ثراء الوسيلة، والاعتماد على وسائل الإعلام، والغرس الثقافي، والفعل الاجتماعي، ووضع الأجندة، وحراسة البوابة الإعلامية مع عدم الحرص لدى العديد من الباحثين على متابعة المراجعات وجوانب التطوير الخاصة بتلك النظريات في ظل تطور صناعة الإعلام وظهور وسائط جديدة غيَّرت المشهد الإعلامي، وبعض المداخل النظرية والمفاهيم المرتبطة بظهور الوسائط الرقمية الجديدة، مثل الحتمية التكنولوجية، وتحول الوسائل، والدراسات الثقافية. وغاب عن كثير منها الإشارة إلى النماذج والمداخل الاتصالية، كما أن بعض هذه الدراسات يطرح فرضيات لا تتسق مع النظرية التي تعتمد عليها الدراسة، مما يؤكد وجود قصور في فهم هذه النظريات ومدى ملاءمتها للتطبيق في الواقع العربي، فكثيرًا ما يطرح الباحثون فروضًا غير متسقة مع السياقات المجتمعية ذات الصلة بالبيئة العربية، وبتتبع منطق تبعية الدراسات الإعلامية في المنطقة العربية، يلاحظ أن منطقة المغرب العربي تنهل مما يسود في الفضاء الفرانكفوني من أطروحات نظرية، بينما تتأثر البحوث الإعلامية في منطقة المشرق العربي بالمدرسة الأنجلوسكسونية. وبالانتقال إلى الأطر المعرفية يلاحظ أن هناك اهتمامًا واضحًا في أساليب عرض الدراسات السابقة وتحليلها بشكل نقدي كبديل لتقديم ملخصات لها، ومع الجهد المبذول في إعداد الأطر المعرفية في تلك البحوث والدراسات إلا أن معظم هذه الأطر المعرفية خاصة في البحوث المنشورة يعمل على تكرار القديم ولا يضيف ما هو جديد ومستحدث، فهناك طفرة كمية ولكنها تحتاج إلى المزيد من الترشيد المعرفي والمنهجي والإجرائي.
فالطفرة الكمية في مجال بحوث الإعلام سواء على مستوى رسائل الماجستير والدكتوراه أو على مستوى البحوث سواء المنشورة في دوريات أو المقدمة إلى مؤتمرات، والتي لها ما يبررها موضوعيًّا ومنطقيًّا، وهو زيادة عدد مؤسسات التأهيل الإعلامي المتمثلة في كليات ومعاهد وأقسام الإعلام والاتصال، كشفت عن جوانب إيجابية في الممارسات البحثية ينبغي تعظيمها، كما أظهرت سلبيات عديدة على مستوى إعداد البحوث منهجيًّا ومعرفيًّا وإجرائيًّا ينبغي تداركها مستقبلًا، فمعظم بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية ذات قيمة معرفية فقط تضاف إلى التخصص، أما القيمة التطبيقية المضافة فمحدودة جدًّا. وتعتمد معظم البحوث على منهج المسح الذي يُعد ضرورة في البحوث الوصفية، ولكن يؤخذ على هذا المنهج أنه منهج كمي يتعامل مع أدوات يصعب معها الوصف الكيفي، فهو يقف عند حدود الوصف مما يجعل الوصول إلى نتائج سليمة صعبًا، وبذلك تجدر الإشارة إلى أن معظم بحوث الاتصال في المنطقة تتبع الأسلوب النمطي الذي يعتمد على الإحصاء والرصد والتوصيف في معالجة بعض المشكلات البحثية من غير التعمق في تحليلها وسبر أغوارها، مما جعلها بحوثًا نمطية، تفضي إلى استنتاجات أصبحت معروفة ومكررة، لا يقدم معظمها أية إضافة للعلم أو إثراء للمعرفة النظرية الإعلامية في المحيط العربي، ولا يوجد توظيف للبحوث التقييمية، أو التطويرية، أو المستقبلية، مع غياب للدراسات التأسيسية، فبحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية يعاني معظمها من انسداد معرفي يمثله مرحلة الفراغ في تطوير النظريات، فالعالم العربي في هذا المجال كان ولا يزال حبيسًا لتراكمات معرفية مستمدة من الغرب(30)، وترجع أسباب ذلك إلى:
– غياب روح المبادرة والتجديد
للخروج من حالة الفراغ في تطوير نظريات الاتصال الغربية ومواءمتها مع البيئة العربية لابد من المبادرة والتجديد في مجال البحث والدرس الإعلامي والاتصالي العربي. فنظريات الاتصال عبارة عن تراكمات معرفية إنسانية يجب الاستفادة منها والتفاعل معها وتقييمها ونقدها والإضافة إليها، وكل ذلك من خلال الحراك والجدل العلمي، ويمكن التعامل معها كتراكمات معرفية ظهرت بمبررات موضوعية وواقعية طُبِّقت وجُرِّبت على جماهير وبيئات غربية مختلفة، فالواجب هنا تبني النظريات أو رفضها بعد تطبيقها على البيئة العربية أو استحداث نظريات تنسجم والمجتمع العربي، خاصة أن إبدال نظرية بنظرية أخرى لا يمكن إلا عن طريق حقيقة علمية. والعلم في مستواه العقلي لا يحمل جنسية أو عقيدة معينة، وفي الإعلام والاتصال هناك تراكم في المعارف الإعلامية منذ ظهور الصحافة في القرن السادس عشر في أوروبا مرورًا بتطوير علم الإعلام والاتصال في عشرينات القرن العشرين بأميركا إلى سيادة تكنولوجيا الاتصال حديثًا. وهذا التراكم المعرفي محل احترام وتقدير ولكن البحث عمَّا يميز علوم الإعلام والاتصال في المنطقة العربية أمر مشروع ومطلوب ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق المبادرة والتجديد والبعد عن التقليد من غير معاصرة أو الاستحداث من غير انتماء.
– غياب مؤسسات تتبنى المبادرات النادرة
تُعد مؤسسات البحث العلمي من أهم مصادر تطوير المعارف الإنسانية، فهي تحقق التمايز المعرفي في المجالات كافة، كما تعمل على إثراء المعرفة بأنماطها المختلفة، من خلال قيامها بإجراء البحوث العلمية بناء على احتياجات المجتمع سواء بمبادرة منها لوضع حلول لمشكلة يعاني منها قطاع معين، أم بناء على طلب قطاع ما لأجل التوصل إلى حلول ووضع مقترحات. ووجود هذا النوع من المؤسسات في أية دولة مؤشر على تقدم الحياة المعرفية والبناء المؤسسي فيها، بشرط أن تأخذ دورها في محيطها الذي تعمل فيه، فوجودها وحده لا يعني قدرتها على التأثير، فبعض الدول تنشط فيها هذه المؤسسات فتترك تأثيرها الواضح على المعرفة الإنسانية، وفي دول أخرى تُعد المؤسسات البحثية فيها هامشية وضعيفة ومحدودة التأثير. وترجع أهمية مراكز الأبحاث إلى فاعليتها في معالجة المشكلات فهي تضم نخبًا ذات تركيز معرفي عالٍ، قادرة على تحديد طبيعة المشكلات، وسبل علاجها، والتحرك برؤية واضحة نحو المستقبل. وقد قامت الدول العربية خلال العقود الستة المنصرمة بإنشاء العديد من مراكز الأبحاث المستقلة أو التابعة للجامعات، بهدف القيام بالأنشطة البحثية في مختلف العلوم والمعارف، ويمثِّل مركز البحوث والدراسات التابع لجامعة الدول العربية، الذي أُسِّس عام 1952، أول مركز للبحوث في العالم العربي، وهو يضم قسمًا للبحوث والدراسات الإعلامية. ولكن ومن خلال متابعة النشاط البحثي لهذه المراكز يلاحظ ضعف اهتمامها بالبحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال، خاصة الجانب ذا الصلة بالتنظير الذي يفضي إلى إثراء المعرفة العلمية في هذا المجال. فغياب مؤسسات بحثية تُعنى بتبني المبادرات التي تهدف إلى إثراء التأطير المعرفي العربي في علوم الاتصال على قلتها يعد أحد أسباب قصور وعجز بحوث الاتصال في العالم العربي عن القيام بدورها تجاه الإسهام الفاعل في هذا العلم سواء على مستوى العالم أو في المنطقة.
– التأهيل والدرس الأكاديمي
ظهرت الإرهاصات الأولى للتأهيل الإعلامي الأكاديمي العام والمتخصص في أميركا نهاية القرن التاسع عشر، ثم تأسس بشكل منهجي ومنظم في بداية القرن العشرين، ویمثِّل التأهيل المهني أحد محاور العملية التعليمية التي یتلقاها الطلاب في الأقسام العلمية الإعلامية المختلفة، بهدف تنمية الحس الإعلامي المهني لدى المتخرجین بما یمكِّنهم من الاستجابة للطبيعة الخاصة بالعمل الإعلامي التي تقتضي استشراف الحاجات الإعلامية الملحَّة للجماهير المستهدفة، واتخاذ القرارات المناسبة فیما يتعلق بالوسائل، والأساليب، والتقنيات الإنتاجية الملائمة للاستخدام. ويرى البعض أن التعليم الإعلامي الأكاديمي یتبع واحدًا من الاتجاهات الثلاثة التالية حسب رؤية المؤسسة التي تتبنَّاه والمستقبل الذي تتوخاه تلك المؤسسة من برنامجها الدراسي، والاتجاهات هي: التأهيل الفكري، والتأهيل المهني، والتأهيل المعرفي(31).
وفي المنطقة العربية يرجع تاريخ تدريس الإعلام إلى العام 1935 في قسم الصحافة بالجامعة الأميركية في القاهرة، ثم كان تأسيس معهد التحرير والترجمة والصحافة بجامعة القاهرة عام 1939، وحتى وقت قريب كانت تطبيقات التعليم الإعلامي في الوطن العربي تميل بشكل عام إلى تدريس الإعلام كتخصص عام دون أن تحدد للطالب تخصصًا معينًا حيث يدرس الطالب مجموعة من المقررات ذات الطابع الشمولي، والقليل منها یمیل إلى التشعيب وطرح التخصص والتخصص الدقيق. وقد اتجه قسم من بلدان العالم العربي إلى الأخذ بالتقاليد الأنجلوسكسونية في أسماء ومقررات ومحتويات برامجه الدراسية الإعلامية والاتصالية لأسباب كثيرة ربما يرتبط أهمها بالإرث الاستعماري والوظيفة الأيديولوجية للفضاء الأكاديمي، وقسم ثانٍ تبنَّى النموذج الفرانكفوني في التسمية والمحتوى المعرفي لأسباب لا تختلف كثيرًا عن الأسباب السابقة، وقسم ثالث اختار منزلة ثالثة توفيقية تجمع بين الاثنين ولكن ليس على مستوى الاغتناء المعرفي والمنهجي بين المنظومتين بل ربما انحصر الأمر غالبًا على أسماء البرامج الأكاديمية التي تعكس هذا الجمع ولا تتجاوزه لغيره(32).
ويشير بعض الباحثين إلى بعض المشكلات الأساسية في مجال التأهيل العلمي للإعلامیین في العالم العربي لعل أبرزها الافتقار إلى التخطيط عند تأسيس المعاهد والكليات والأقسام، ونقص الكوادر العلمية، ومشكلة المراجع العلمية وضعف المناهج الدراسية، وقلَّة الإمكانات التدريبية، وطرق اختیار الطلاب لدراسة الإعلام والاتصال، وقلة الاهتمام بالبحث التطبيقي(33). ونرى أن هذه الإشكاليات ألقت بظلالها على خريجي كليات وأقسام الإعلام ومن ثم مخرجات بحوث الإعلام والاتصال في العالم العربي وحال دون قيام معظم هذه البحوث بالدور المطلوب تجاه إثراء المعرفة الإعلامية النظرية في المنطقة؛ الأمر الذي يتطلب البحث في طرق علاجها.
– شبه القطيعة بين المهني والأكاديمي في حقل الإعلام والاتصال
في البدء نشير إلى أن الممارسة المهنية للإعلام والاتصال سبقت الدراسات الأكاديمية، فالإعلام والاتصال لم يتحولا موضوعًا للدراسة والبحث ومن ثم إلى تخصص مستقل إلا بعد سنوات طويلة من الممارسة المهنية. فممارسو العمل الإعلامي الأوائل لم يكونوا إعلاميين في الأصل، كما أن الباحثين الأوائل في هذا المجال ينتمون إلى حقول معرفية متنوعة، وحتى النظريات التي أنتجتها الدراسات المتعلقة بحقل الإعلام والاتصال تميزت بارتباطها بنظريات أخرى من مجالات علمية مختلفة أسهمت في بناء هذا التخصص، خصوصًا ما ارتبط منها بعلوم اللغة واللسانيات وعلم الاجتماع والاقتصاد وغيرها، لكن ينبغي ألا تؤخذ هذه الحقيقة دليلًا على تواضع شأن هذا الميدان، أو أن تُعد وسيلة للتقليل من شأنه، بقدر ما تؤكد أن البحوث في هذا المجال تستدعي تخصصات مختلفة ومتكاملة(34)، وأن الممارسة الإعلامية بحاجة إلى تكامل الأكاديمي مع المهني.
ولكن في الوطن العربي الأمر مختلف فقد ظل تعليم الإعلام والاتصال حبيس كليات ومعاهد جامعية معزولة عن الواقع المهني، وظلت القطيعة سمة العلاقة بين تلك المؤسسات الأكاديمية والمؤسسات الإعلامية المهنية، وإلى اليوم لم تتغير الحال كثيرًا، بل هناك من يرى أن الإعلام والاتصال ليسا بعلم وأن ممارستهما تعتمد على الموهبة والاستعداد وتتطور بتراكم الخبرات وليس التحصيل الأكاديمي، ومن النادر أن تلجأ المؤسسات الإعلامية في المنطقة العربية إلى المؤسسات الأكاديمية لإجراء البحوث والدراسات المشتركة لمعرفة صدى وتأثير ما تنشر وتبث. ونرى أن التنظير في جوانب المعرفة الإعلامية في المنطقة يحتاج إلى تكامل الأدوار بين الأكاديمي والمهني، فمن شأن ذلك المساهمة في إجراء دراسات وبحوث إعلامية تثري المعرفة النظرية العربية في علوم الإعلام والاتصال.
ولمعالجة أوجه القصور الذي صاحب معظم دراسات وبحوث الاتصال في المنطقة العربية وحال دون مساهمتها في إثراء المعرفة النظرية الإعلامية على النحو المطلوب نرى الآتي:
أولًا: الاهتمام بالتنوع في مجالات وموضوعات بحوث الإعلام والاتصال، والبعد عن التكرار، وتوجيه الباحثين بضرورة البحث العلمي في مجالات إعلامية واتصالية لم يتم طرق أبوابها، مع مواكبة المستحدثات في هذا المجال. ويمكن الوصول إلى ذلك عن طريق التنسيق بين أقسام وكليات الإعلام على مستوى القطر الواحد وعلى المستوى العربي، فضلًا عن تبادل الرسائل المتميزة على مستوى الماجستير والدكتوراه بين أقسام وكليات الإعلام.
ثانيًا: حثَّ الباحثين العرب في مجالات الإعلام والاتصال والميادين البحثية الأخرى على التعاون البحثي من أجل بلورة أطر نظرية لدراسة الظواهر الاتصالية وتفسير عمل وسائل الإعلام والاتصال في المنطقة العربية، وصياغة نظريات علمية خاصة ببيئة الإعلام والاتصال تنطلق من الواقع العربي وتتناسب مع طبيعته وخصوصيته، وهذا أمر يتطلب توافر الآليات والدعم المادي وإنشاء جسم إقليمي عربي يُعنى بالدراسة والبحث في ميدان الإعلام والاتصال. وينبغي ألا يفهم ذلك بأنه دعوة للابتعاد أو إلغاء كل فكر أو نهج أو نظرية إعلامية اتصالية غربية، فذلك بالطبع غير مجدٍ وغير علمي، وإنما المقصود استلهام واستنباط الواقع العربي عند السعي إلى وضع فكر علمي إعلامي واتصالي عربي صالح للتعبير عن واقع المنطقة العربية وغير بعيد عن ساحة الفكر الاتصالي العالمي.
ثالثًا: إنهاء القطيعة بين المهني والأكاديمي في حقل الإعلام: والمسؤولية هنا مشتركة في إنهاء هذه القطيعة، ويقع العبء الأكبر على أقسام وكليات الإعلام بوصفها الوعاء الحقيقي لتلقي الرصيد العلمي والمعرفي لأي تخصص في علوم الاتصال، ومن المهم في هذا الصدد الإشارة إلى أن أقسام الإعلام مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتطوير مناهجها، والموازنة ما بين التحصيل الأكاديمي والتطبيقات المهنية. وتبرز أهمية تدريس علوم الإعلام والاتصال في الجامعات والمعاهد الأكاديمية من خلال إعداد إعلاميين تدفع بهم إلى سوق العمل الإعلامي، إلى جانب إعداد باحثين أكاديميين مؤهلين لدراسة المشكلات الإعلامية؛ مما يجعل مؤسسات التأهيل الإعلامي أمام تحدي تحقيق هذه الأهداف من خلال مخرجات العملية التعليمية في تخصص علوم الإعلام والاتصال سواء في المجال المهني أو الأكاديمي ومقرراتها الدراسية وتوظيف التكنولوجيات الرقمية في التعليم، مع ما يحمله ذلك من توسيع لمجالات الإعداد المهني المستقبلي للمهنيين في تخصصات الإعلام المختلفة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى على المؤسسات الإعلامية في المنطقة العربية الانفتاح على مؤسسات التعليم الإعلامي وعمل شراكات ليس في مجال التدريب فقط وإنما حتى في الجانب الأكاديمي المهني، فالكثير من حملة شهادة الدكتوراه في مجال الإعلام غير ممارسين ولا يملكون مهارات التطبيقات الإعلامية، ومن التجربة العملية يتعلم ويكتسب العاملون في مجال الإعلام خبرات ومهارات من الميدان لا يمكن اكتسابها في قاعات الدرس الأكاديمي.
رابعًا: الدمج بين الأساليب الكمية والكيفية في بحوث الإعلام والاتصال، والاتجاه إلى الأبحاث التحليلية النقدية والتقييمية، والتطويرية، والمستقبلية، لما لها من دور في دراسة الظواهر الاتصالية وتوفير العلاج للعديد من القضايا وسبر أغوارها، فمن الأهمية خلق تكامل بين أكثر من منهج أو نظرية لدراسة قضايا ومشكلات الإعلام والاتصال في الوطن العربي، فالاعتماد على الأسلوب الكمي وحده، أو على الأسلوب الكيفي وحده، لا يوفر تصورًا علميًّا دقيقًا لدراسة الظواهر الإعلامية والاتصالية، لأن البحث في هذا المجال يفرض على الباحثين الربط بين مختلف الأدوات والمناهج لتحقيق التكامل الذي يتيح دراسة الظاهرة في سياقها والغوص في أعماقها حتى يتحقق الفهم الشامل لها، وهذا ما توفره الأساليب الكيفية. وباستخدام الأساليب الكمية يتم تحقيق الموضوعية، والمصداقية والواقعية في النتائج قدر الإمكان. لذا، فتبني نموذج منهجي مختلط أو هجين يجمع كليهما في بحث واحد يتيح الاستفادة من مزاياهما معًا، ويقلِّل من القصور الناتج عنهما منفصلين، ويمكن أن يسهم ذلك في توافر إنتاج فكري إعلامي اتصالي تتمخض عنه أطر نظرية أكثر ملاءمة واستيعابًا ومواكبة لما يحدث في المجتمعات العربية.
خامسًا: إعادة النظر في طرق تدريس الإعلام واختيار من يَدرُسَه كتخصص، وتركز أدبيات تعليم الإعلام حديثًا على وضع استراتيجيات جديدة لمناهج تعليم الإعلام؛ حیث ترتكز هذه الاستراتيجيات على أربعة عناصر أساسية لعملية التعلم التي یكون محورها الطالب في الأساس، وهي: المعلومات، والمشاركة، والممارسة، والتقییم. وسواء كان تعليم الإعلام یتم بأسلوب إلقاء المحاضرات العادیة أو عبر الوسائط الإعلامية الرقمية، فإنه ینبغي توافر مناخ حماسي، متعدد وغني بالمعارف يتجانس والسیاق المجتمعي الذي یُدرس فیه ولابد أن یحتوي هذا المنهج على العديد من الجوانب التطبيقية التي یقوم الطالب بتنفيذها فردیًّا أو بالعمل في جماعة، ثم تقییم الطالب نفسه للأنشطة التي قام بها قبل أن یقیِّمها أساتذته. وينبغي أن يأخذ التعليم في مجال الإعلام والاتصال في الحسبان مجموعة من الاعتبارات حددها توماس هانیتزش (Thomas Hanitzsch) في الإجابة عن التساؤلات الآتية(35):
- الدوافع: ما جدوى تعليم الإعلام والاتصال؟
- النموذج: ما منظومة الأفكار التي تقود تعليم الإعلام والاتصال؟
- المهمة: ما الوضع الاجتماعي الذي يتبوؤه تعليم الإعلام والاتصال، أو حتى المهنة ككل في المجتمع؟
- التوجه: على أي مرتكز (أو مرتكزات) ینبني تعليم الصحافة والإعلام (مثلًا على: الوسيلة، الشكل البرامجي، وظائف الإعلام في المجتمع ….)؟
- الاتجاه: ما المعاییر القیاسیة لمستوى خریجي هذا النوع من التعليم؟ وما الذي ینبغي أن یكونوا عليه؟
- السیاق: ما السیاقات الاجتماعية التي تدور في إطارها دراسات تعليم الإعلام والاتصال؟
- التعليم والتربية: هل یعمل تعلیم الإعلام والاتصال كعامل مهيئ للتواصل الاجتماعي أم یمیل نحو خلق مزيد من العزلة؟
- المساقات أو المناهج: إلى أي مدى یتحقق التوازن بین المعارف العملية وتلك النظرية؟
- المنهج أو الطریقة البحثية: ما البناء أو الآلیة الأكثر تفضیلًا؟ ولماذا؟
- الإدارة والتنظيم: ما مدى وجود نظم إدارية محددة في مؤسسات تعلیم الإعلام والاتصال؟
ومع الأخذ بما تم ذكره أعلاه ونظرًا للحاجة الماسَّة إلى الجمع بین المهارات العملية، والنمو الفكري والمساقات العامة في خریجي أقسام ومعاهد وكليات الإعلام، لابد أن تتبنى أقسام وكليات الإعلام العربية نظمًا وبرامج تدريسية وطرقًا بحثية توفر الاتجاهين وأن تعمل على استحداث طرق جديدة لاختيار من يدرس الإعلام، كإجراء اختبارات قدرات للطلاب قبل البدء في التأهيل الأكاديمي على غرار ما تقوم به كليات الفنون. ونرى أن إعادة النظر في طرق تدريس الإعلام والاتصال ومراجعة المناهج وطرق اختيار الطلاب من شأنه المساهمة في تخريج كادر بشري مؤهل للعمل في وسائل الاتصال وقادر على إجراء بحوث نوعية يمكن أن تسهم في إثراء المعرفة النظرية في هذا المجال.
- بحوث الإعلام والاتصال وإثراء المعرفة النظرية الإعلامية في العالم العربي: رؤية استشرافية
إن مسايرة كليات ومعاهد وأقسام الإعلام في المنطقة العربية للتطورات العلمية الرئيسية التي تحدث في العالم في مجال علوم الإعلام والاتصال تُعد محدودة، فهذه التطورات هي ثمرة ديناميكية المجتمعات المتقدمة، وليس من المتصور أن يبدأ مثل هذا التطور العلمي في العالم العربي قريبًا، ولكن من الضروري مسايرتها ومتابعتها، وأن تجري ترجمة المؤلفات الأساسية التي تصدر في بيئات ثقافية أخرى، وأن تُعقد الندوات التعليمية في كليات ومعاهد وأقسام الإعلام والاتصال لمناقشتها ونقدها وإلقاء الأضواء على خفاياها وتقويمها. وبهذا يتم التمهيد للزمن الآتي حيث يستطيع الباحثون العرب الإضافة والتطوير ومن ثم الإبداع، ويكونون بذلك من المساهمين في حركة البحث العلمي في حقل الإعلام والاتصال على المستوى المحلي والإقليمي والدولي. فمنذ ظهور علوم الإعلام والاتصال في العالم العربي بشكلها الحديث ظلت المعرفة الإعلامية في المنطقة العربية مستمدة من الغرب، والمساهمة العربية في مجال إنتاج المعرفة الإعلامية واستخدامها لا تزال محدودة جدًّا، وأن الوضع لا يزال يتسم بتواضع مؤشرات الأداء ونوعيته، ويحتاج إلى مزيد من الجهد للتطوير والارتقاء الكمي والنوعي، كما أن الفجوات الفارقة لا تزال سمة واضحة في مستوى نتائج البحوث وكثافة الإنتاجية بين كليات ومعاهد وأقسام الإعلام والاتصال العربية.
فمن الملاحظ وجود اهتمام وجهد ومتابعة لتطورات ظاهرة الإعلام الجديد وتكنولوجيا المعلومات والاتصال وتطبيقاتها الإعلامية (شبكة الإنترنت، ووسائط الإعلام الرقمي) من خلال الرسائل العلمية والبحوث المنشورة في الدوريات أو المقدمة للمؤتمرات وورش العمل العلمية ولكن بشكل غير كاف؛ وذلك إذا أخذنا في الاعتبار أن تكنولوجيا المعلومات والاتصال وتطبيقاتها في المجال الإعلامي، وهو مجال متنام ومتطور، ترتبط به مجالات فرعية تتضمن: تكنولوجيا المعلومات، وتكنولوجيا الاتصال، والإعلام الرقمي، والإعلام الجديد، وشبكة الإنترنت، والإعلام الاجتماعي، والتسويق الإلكتروني، والطباعة، والنشر الإلكتروني والصحفي، وتقنيات الإنتاج الإذاعي والتليفزيوني، والمنصات الرقمية، والحوسبة السحابية، وإنترنت الأشياء، والتكنولوجيا القابلة للارتداء، والبلوك تشاين، والحقيقة الممتدة، والواقع الافتراضي، والواقع المعزز، وشبكات الجيل الخامس، وأنظمة الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني. كما أن هذا المجال يتم مناقشته في إطار مجموعة سياقات عامة: مجتمع المعلومات، ومجتمع المعرفة، والثورة الصناعية الرابعة، والثورة الرقمية، وحروب المعلومات وتداعياتها المرتبطة بالأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي، والدعاية الدولية المحوسبة، والفوضى المعلوماتية، وعصر ما بعد الحقيقة.
فالعالم في الوقت الحالي يعيش عصر الثورة الصناعية الرابعة المعززة بقوة الذكاء الاصطناعي، والتي تمتاز بسرعة كبيرة في الظهور والتطبيق، وهي ثورة أثَّرت في مناحي الحياة كافة، ولكن هذا التأثير يظهر بصورة أكبر في التعليم والبحث العلمي. ويرى البعض أن الثورة الصناعية الرابعة تُعد من الابتكارات المدمرة للبحث العلمي بطريقته الحالية، فقد لا يحتاج الباحث مع هذه الثورة لأداة الاستبيان أو أخذ عيِّنة للدراسة ومن ثم التعميم، فهي تمثل عصر نهاية البيانات الأولية. فالبيانات أصبحت موجودة في الحوسبة السحابية “الكلاود”، كما أن أدوات التحليل التي كانت تتيح اختبار عدد قليل من العينات أصبحت بفضل الذكاء الاصطناعي تحلِّل ملايين العينات وبسرعة فائقة، كما أن البيانات الضحمة ستحل العلاقات الارتباطية (العلاقات السببية)، وأن العلم بحسب هذه الثورة يمكن أن يتقدم حتى من دون نماذج متماسكة أو نظريات موحدة، وفي ظل النموذج الجديد للثورة الصناعية الرابعة بثلاثيته: الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وإنترنت الأشياء، لم تعد النظرية الكلاسيكية تتسق مع هذه الأدوات(36). وعليه، ولتطوير البحث العلمي في مجال الإعلام والاتصال بالمنطقة العربية في ظل الثورة الصناعية الرابعة مع الأخذ في الاعتبار ما ورد من مقترحات في ثنايا هذه الدراسة، من المهم العمل على:
– تطوير البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال من خلال الاستفادة من التقنيات المعاصرة في الثورة الصناعية الرابعة.
– التركيز على الأعمال الإبداعية والبعد عن التكرار والروتين في بحوث الإعلام والاتصال.
– تشجيع البحوث الجماعية إلى جانب الفردية، وتشجيع الدراسات متعددة التخصصات وإطلاق خطط بحثية مستقبلية لمعاهد وكليات وأقسام الإعلام والاتصال بالتعاون مع الجهات المستفيدة والتي من بينها المؤسسات الإعلامية.
– تشجيع التأليف الجماعي للكتب المرجعية من خلال الأقسام العلمية، بدلًا من الكتب التي يُعدها أفراد، وأن تمارس كليات ومعاهد وأقسام الإعلام سلطتها في مراجعة الكتب المرجعية في تقنيات الاتصال كمجال متغير يحتاج إلى الضبط.
– الالتزام بالمعايير العلمية والمنهجية في عملية التحكيم وتطوير الدوريات ذات الصلة بعلوم الإعلام والاتصال، والعمل على التعاون مع مؤسسات التعليم الإعلامي ومراكز البحوث ودور النشر الدولية، مع تأهيل الباحثين للتعامل مع النشر الدولي.
– تطوير المناهج وإدخال الذكاء الاصطناعي ضمن مواد التدريس بكليات ومعاهد وأقسام الإعلام والاتصال.
– الربط بين البحث العلمي وتكنولوجيا المعلومات وسوق العمل وحل المشكلات في البيئة الاتصالية.
– إعادة تشكيل مهارات الباحث في حقل الإعلام والاتصال (التفكير الإبداعي، التفكير الناقد، حل المشكلات المعقدة، الذكاء العاطفي، الذكاء الاجتماعي، التواصل العلمي، اتخاذ القرارات) وأن يكون الباحث خبيرًا بعصره.
خاتمة
تُعد علوم الإعلام والاتصال من العلوم الحديثة مقارنة بالعلوم الإنسانية الأخرى، ولكن على الرغم من حداثتها شهدت منذ خمسينات القرن العشرين نقلة نوعية على مستوى المناهج والأدوات والتنظير، وجذبت اهتمام الكثير من الباحثين والعلماء الذين ينتمون إلى تخصصات علمية متنوعة على مستوى العالم، وزاد الاهتمام بعلوم الإعلام والاتصال إثر التطور السريع والمتنامي الذي شهدته وسائله على المستوى التقني، وعلى مستوى استخدامات الفرد والمجتمع لها، ولكن في المنطقة العربية ما زال هذا الحقل يعاني من القصور على المستوى البحثي والإبستمولوجي.
فالمكتبة العربية تعاني قصورًا في مجال التنظير الإعلامي والاتصالي، باستثناء بعض الأعمال البحثية التي يمكن أن تشكِّل لبنة أساسية من أجل الانطلاق نحو إنجاز دراسات معمقة، خصوصًا في ظل تزايد أهمية الوسيلة مقابل الرسالة، فالبحث العربي في مجال علوم الاتصال يواجه العديد من الإشكاليات التي تتعلق باختيار الموضوعات والمناهج والأدوات البحثية، وعدم قدرة بعض الباحثين على إحداث قطيعة إبستمولوجية مع أفكارهم المسبقة أثناء معالجتهم للقضايا المبحوثة؛ مما يؤدي إلى إحداث خلل وظيفي على مستوى النتائج البحثية، وهذا ما يوحي بضعف مصداقية وموضوعية هذه النتائج . وترجع أسباب القصور والإشكاليات إلى قلة المبادرات التي تسعى إلى إثراء المجال الإبستمولوجي في مجال علوم الإعلام والاتصال؛ إذ إن معظم بحوث الاتصال في المنطقة العربية يتم إجراؤها بهدف الترقي الوظيفي والأكاديمي وليس الإضافة المعرفية للعلم أو التخصص، فضلًا عن غياب مؤسسة أو جسم عربي يهتم بتطوير الجانب المعرفي في هذا المجال ويتبنى إجراء البحوث والدراسات التي تتسم بالدقة والمصداقية والموضوعية ويعمل على تمويلها بشكل جماعي. إضافة إلى ذلك، فإن هناك شبه قطيعة بين المهني والأكاديمي في الحقل الإعلامي والاتصالي العربي تركت بصماتها على مخرجات البحث والدرس الأكاديمي في هذا المجال.
ومن الملاحظ أن التنظير والبحث والدرس الأكاديمي العربي في علوم الإعلام والاتصال، اعتمد -ولا يزال- على الترجمة والنقل الحرفي للمعرفة الغربية في هذا التخصص، وتحتاج مخرجات هذه الترجمة للتحليل والنقد والإضافة التي تقود إلى التجديد والإبداع. ونرى ضرورة مواكبة الدرس الأكاديمي العربي للذكاء الاصطناعي وإدراج ذلك في مناهج كليات ومعاهد وأقسام الإعلام بالجامعات العربية؛ حيث يُعد الذكاء الاصطناعي من الابتكارات التي ستُنْهِي منهجية البحث العلمي بصيغتها الحالية. لذلك، لابد من وضع فلسفة جديدة مختلفة للدرس الأكاديمي الإعلامي العربي تقوم على الاستفادة من التقنيات المصاحبة للثورة الصناعية الرابعة “إذا أردنا مساهمة البحث العلمي الإعلامي العربي في إثراء المعرفة والتنظير في علوم الإعلام والاتصال” فعلى كليات ومعاهد وأقسام الإعلام في المنطقة العربية القيام بمجموعة مختلفة ومتكاملة من الأدوار والمهام التي تجمع بین المواكبة والتعليم والبحث والتدريب والممارسة.
المراجع
(1) حميد جاعد محسن الدليمي، علم اجتماع الإعلام: رؤية سوسيولوجية مستقبلية، (الأردن، دار الشروق، 2006)، ص 37.
(2) أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة نصر الدين لعياضي، الصادق رابح، ط 1 (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005)، ص 19-20.
(3) دينس ما كويل، الإعلام وتأثيراته: دراسة في بناء النظرية الإعلامية، ترجمة عثمان العربي (العين، جامعة الإمارات العربية المتحدة، 1992)، ص 44.
(4) كمال بومنير، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، ط 1 (بيروت، الدار العربية للعلوم، 2010)، ص 42.
(5) عبد الله عبد الرحمن، النظرية النقدية في بحوث الاتصال، (القاهرة، دار الفكر العربي، 2002)، ص 94.
(6) مارك بالنافز وآخرون، نظريات ومناهج الإعلام، ترجمة عاطف حطيبة، ط 1 (القاهرة، دار النشر للجامعات، 2017)، ص 114.
(7) أرمان وماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص 47-48.
(8) بركات عبد العزيز، مناهج البحث الإعلامي: الأصول النظرية ومهارات التطبيق، (القاهرة، دار الكتاب الحديث، 2012)، ص 113.
(9) رجاء أبو علام، مناهج البحث في العلوم النفسية والتربوية، ط 4 (القاهرة، دار النشر للجامعات، 2004)، ص 587.
(10) راجع ذلك في:
– محمد عبد الحميد، البحث العلمي في الدراسات الإعلامية، ط 1 (القاهرة، عالم الكتب، 2000)، ص 29- 52.
– الدليمي، علم اجتماع الإعلام، مرجع سابق، ص 59-64.
– منال أبو الحسن، أساسيات علم الاجتماع الإعلامي: النظريات والوظائف والتأثيرات، ط 1 (القاهرة، دار النشر للجامعات، 2006)، ص 83.
– آرثر آسا بيرغر، وسائل الإعلام والمجتمع، ترجمة صالح خليل أبو أصبع، سلسلة عالم المعرفة، (الكويت، العدد 386)، ص 23-24.
(11) مي العبد الله، البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال: من الأطر المعرفية إلى الإشكاليات البحثية، ط 1 (بيروت، دار النهضة العربية، 2010)، ص 39.
(12) محمود حسن إسماعيل، مبادئ علم الاتصال ونظريات التأثير، ط 1 (مصر، الدار العالمية للنشر والتوزيع، 2003)، ص 240-246.
(13) حسن عماد مكاوي، ليلى حسين السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة، (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 1998)، ص 287.
(14) محمد عبد الحميد، نظريات الاتصال واتجاهات التأثير، ط 3 (القاهرة، عالم الكتب، 2004)، ص 282.
(15) مي العبد الله وآخرون، الأطر المعرفية لعلوم الإعلام والاتصال، (منشورات الرابطة العربية لعلوم الاتصال، 2018)، ص 89.
(16) أبو الحسن، أساسيات علم الاجتماع الإعلامي، مرجع سابق، ص 73-75.
(17) علي محمد رحومة، علم الاجتماع الآلي، سلسلة عالم المعرفة، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 347، 2008)، ص 160.
(18) السيد بخيت، الإنترنت كوسيلة اتصال جديدة، الجوانب الإعلامية والصحفية والتعليمية والقانونية والأخلاقية، (الإمارات، دار الكتاب الجامعي، 2010)، ص 235.
(19) السيد بخيت، “الإشكاليات النظرية والمنهجية لبحوث وسائل التواصل الاجتماعي: قراءة تحليلية”، المجلة العربية للإعلام والاتصال (العدد 134، 2016)، ص 143.
(20) حسني محمد نصر، “اتجاهات البحث والتنظير في وسائل الإعلام الجديد: دراسة تحليلية للإنتاج العلمي المنشور في دوريات محكمة”، (مؤتمر وسائل التواصل الاجتماعي: التطبيقات والإشكالات المنهجية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، مارس/آذار 2015)، ص 9.
(21) راجع ذلك في:
– Stanley J. Baran, Dennis K. Davis, Mass Communication Theory: Foundations, Ferment, and Future (USA: McGraw, 2011), 340.
– Vilma Luoma-aho, Is social media killing our theories? (A paper presented at Viestinnän Tutkimuksen Päivät (Communication Research Days) February 12th, 2010 University of Tampere, Finland): 2-14.
(22) عبد الله عامر الهمالي، أسلوب البحث الاجتماعي وتقنياته، ط 2 (بنغازي، منشورات جامعة قاريونس، 1994)، ص 51.
(23) Maurice Duverger, Introduction to the Social Sciences: With Special Reference to their Methods (London: Publisher, Taylor & Francis Ltd, 2016), 240.
(24) شريف درويش اللبان، هشام عطية عبد المقصود، مقدمة في مناهج البحث الإعلامي، (القاهرة، الدار العربية للنشر والتوزيع، 2008)، ص 204.
(25) العبد الله، البحث العلمي في علوم الإعلام والاتصال، مرجع سابق، ص 173.
(26) بسيوني إبراهيم حمادة، دراسات في الإعلام وتكنولوجيا الاتصال والرأي العام، (القاهرة، عالم الكتب، 2008)، ص 221.
(27) إسماعيل إبراهيم، مناهج البحوث الإعلامية، ط 1 (القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2017)، ص 74.
(28) اللبان، عبد المقصود، مقدمة في مناهج البحث الإعلامي، مرجع سابق، ص 146.
(29) وقفت الدراسة على عدة دراسات سابقة تناولت بالتحليل بحوث علوم الاتصال والدرس الأكاديمي الإعلامي في المنطقة العربية تم ذكر بعضها ضمن مصادر هذه الدراسة.
(30) عبد الرحمن عزي، دراسات في نظرية الاتصال: نحو فكر إعلامي متميز، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2003)، ص 123.
(31) عبد الله ناصر الحمود، فهد عبد العزیز العسكر، “مدى تلبية مخرجات قسم الإعلام في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لحاجات سوق العمل: دراسة مسحية لآراء قیاديي العمل الإعلامي حول تأهيل المتخرجین في القسم”، مجلة جامعة الإمام (العدد 44، شوال 1424ھـ)، ص 9.
(32) ابتسام الجندي وآخرون، “التدريب الإذاعي بكلیة الإعلام: الواقع والرؤية المستقبلية”، (المؤتمر السنوي الثالث لكلية الإعلام، جامعة القاهرة، 25-27 مایو/أيار 1997)، ج 1، ص 214-360.
(33) رضا النجار، تحديات العمل الإعلامي بین الجامعة والمیدان، (دبي، منتدى الإعلام العربي، 21 یونیو/حزيران 2006)، ص 11.
(34) محمد البقالي، سؤال المهنية والأيديولوجيا في الصحافة، الحالة المغربية نموذجًا، ط 1 (الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 20.
(35) Mark Deuze, “Global Journalism Education: A conceptual approach,” Journalism Studies, Vol. 7, Issue 1, (February 2006): 23.
(36) شاهر إسماعيل الشاهر، “البحث العلمي وأخلاقياته في عصر التحول الرقمي”، المجلة الدولية لنشر الدراسات العلمية (المجلد 11، العدد 2، ديسمبر/كانون الأول 2021)، ص 22.