ملخص

هذه دراسة تحليلية لنصين تأسيسيين من النصوص الإستراتيجية التي أثمرتها الحضارة الصينية العتيقة، وهما: كتاب صن تزو “فن الحرب”، الذي كُتب قبل الميلاد ببضعة قرون، و”الإستراتيجيات السِّت والثلاثون”، وهو نص مجهول المؤلف، يرجع تاريخه إلى القرن السادس الميلادي. وقد وضعت الدراسة النصين في سياق الزمان، وتتبعت أثرهما في الصين وخارج الصين ماضيًا وحاضرًا، وقدمت مضامينهما في خلاصات مكثفة ومبادئ آمرة. كما بيَّنت الدراسة ضرورة مدارسة هذين النصين لفهم العقل الإستراتيجي الموجِّه للصين اليوم، وهي القوة العظمى التي تطرق أبواب المنطقة العربية والعالم الإسلامي، في صعودها إلى قمة العالم بصبر وصمت، مستلهمةً حكمتها العتيقة، وحضارتها العريقة.

كلمات مفاتيح: الصين، صن تزو، الفكر الإستراتيجي، فن الحرب، النظام الدولي.

Abstract:

This analytical study examines two foundational texts on strategic thought from ancient Chinese civilization: Sun Tzu’s The Art of War, composed a few centuries BCE, and The Thirty-Six Strategies, an anonymous essay penned in the 6th century AD. The study situates both texts in their historical context, traces their past and present influence within China and beyond, and relays their content through concise summaries and commanding principles. Moreover, it emphasizes the necessity of studying these texts in order to understand the strategic mindset guiding China today, as this nation knocks on the gates of the Arab region and the Islamic world, and climbs quietly and patiently to the peak of global power, drawing inspiration from its ancient wisdom and rich civilization.

Keywords: China, Sun Tzu, strategic thought, The Art of War, international order.

­­____________________________________________

*د. محمد مختار الشنقيطي، أستاذ الشؤون الدولية المشارك، قسم الشؤون الدولية، جامعة قطر.

Dr.Mohamed El-Moctar El-Shinqiti, Associate Professor of International Affairs, Department of International Affairs, Qatar University.

مقدمة

أثمرت الحضارة الصينية العتيقة فكرًا إستراتيجيًّا اتسم بالسبق والأصالة والعمق، لأنه تخلَّق من رحم المعاناة، ونضج في لهيب الحروب الدامية في تاريخ الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة. وهو فكر يستحق الاطلاع والمدارسة من كل مهتم بالفكر الإستراتيجي اهتمامًا نظريًّا، ومن كل ساع إلى شحذ حاسته الإستراتيجية شحذًا عمليًّا. ويمكن القول: إن الفكر الإستراتيجي في الحضارة الصينية العتيقة يحمل بين جنبيه بذور كل الأفكار الإستراتيجية اللاحقة وجذورها. فجرْد أمهات الفكر الإستراتيجي يدل على أن أغلب الأفكار الكبرى التي تضمنتها هذه الكتب لها جذور أو بذور -على الأقل- في الفكر الصيني القديم.

ولأن هذا التراث الإستراتيجي العتيق لا يزال ملهمًا للنخبة السياسية والعسكرية الصينية، فإن هذه الدراسة تطمح إلى الإسهام في الكشف عن جوانب من العقل الإستراتيجي الموجه للصين اليوم في صعودها الهادئ إلى قمة العالم، من خلال عرض تحليلي لنصين من أهم النصوص الإستراتيجية الكلاسيكية التي أنتجتها الحضارة الصينية العتيقة، وهما: كتاب فن الحرب لصن تزو الذي يعتقد أنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، ووثيقة “الإستراتيجيات الست والثلاثون” لمؤلف مجهول، يترجح أنه كتبها في القرن السادس الميلادي، وتدل مضامينها على أن مؤلفها تربطه قرابة عقلية وثيقة بصن تزو.

تتركز إشكالية البحث على سؤالين محوريين، هما: ما العلاقة بين التراث الإستراتيجي الصيني الضارب الجذور في التاريخ وصعود جمهورية الصين الشعبية المعاصرة؟ ثم ما مدى صلاحية هذا الفكر الإستراتيجي الصيني العتيق للاستلهام في سياق الثقافة العربية والإسلامية اليوم؟ وقد وجدنا دلائل استلهام النخب الصينية المعاصرة لذلك التراث العتيق ابتداء من حروب التحرير الصينية ضد الاستعمار الياباني مطالع القرن العشرين، وهو أمر تكثف مع الزمن، خصوصًا مع مطامح الصين إلى الريادة العالمية في العقود الأخيرة. كما توصلنا إلى إمكانية استلهام التراث الإستراتيجي الصيني في السياق العربي والإسلامي، بعد نقله إلى البيئة الثقافية الخاصة بالمنطقة العربية والعالم الإسلامي، كما استلهمته النخب العسكرية والسياسية الغربية، بعد تطويعه لمزاجها الثقافي الخاص.

وتنقسم الدراسة إلى قسمين، لكل منهما منهجه ومنطقه. فالثلث الأول من الدراسة مقدمات عامة، تسلك المنهج التاريخي، فتبين أهمية الصين وتراثها الإستراتيجي، وضرورة أخذهما بجد، وتضع النصين المدروسين ضمن سياقهما التاريخي، وترصد انتقالهما من المحلية إلى العالمية عبر ترجمات عديدة إلى لغات شتى، كما تبين أثر هذين النصين في ثقافة الصين المعاصرة، وفي الثقافة الإستراتيجية الغربية. أما القسم الثاني من الدراسة الذي يقارب ثلثيها، فيعتمد المنهج التحليلي، وهو يركز على تقديم لباب النصين للقارئ، فيستخلص المبادئ الإستراتيجية الكبرى من النصين، ويصوغها صياغة مكثفة في أربع وعشرين مقولة آمرةً أو ناهيةً، سهلة الحفظ والاستيعاب، مستدلًّا عليها بحشد من الاقتباسات النصية، وشارحًا لها أحيانًا بأمثلة تاريخية تقربها من سياق الثقافة العربية والإسلامية. والغاية من تناول النصين بهذه الطريقة هي منح هذه الدراسة صبغة تعليمية وعملية، بعيدًا عن التجريد الأكاديمي البارد.

وليس هذان النصان هما كل ما ورَّثتنا إياه الحضارة الصينية العتيقة من كنوز الفكر الإستراتيجي، بل يوجد عدد لا بأس به من هذه الكنوز، أهمها النصوص الكلاسيكية السبعة التي اعتادت الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة اعتمادها برنامجًا لقادة الدولة السياسيين والعسكريين، ومنها كتاب صن تزو(1). لكن اختيارنا وقع على هذين النصين، لما امتازا به من عمق المضمون، وحبكة الصياغة، وأثر في التاريخ العسكري.

وربما يكون أشبه كتب التراث العسكري الإسلامي بهذين النصين هو كتاب مختصر سياسة الحروب، لمفكر عسكري من العصر العباسي، هو أبو سعيد الهرثمي، الذي عاش في القرن الثالث الهجري. فهو يقاربهما في عمق الحاسة الإستراتيجية، وكثافة الأسلوب، وحسن السبك. وسنجري مقارنات خفيفة بينه وبين صن تزو في ثنايا الدراسة. ورغم صدور عشر ترجمات عربية لكتاب صن تزو، فقد أعيانا الحصول على أي دراسة تحليلية جادة لكتاب صن تزو باللغة العربية، وهذا من محفزات إقدامنا على كتابة هذه الدراسة التي نأمل أن تسد هذه الثغرة.

الإعصار وتغير المناخ

يتركز اهتمام الرحالة المسلمين الأقدمين إلى الصين على براعتها الصناعية، وغرابة ثقافتها عن ثقافتهم، ووضع المسلمين فيها، على نحو ما نجد في رحلة السيرافي في القرن الثالث الهجري، ورحلة ابن بطوطة (703-779ه/1304-1377م) في القرن الثامن(2). لكن هذه الاهتمامات لم تعد كافية، ونحن في مسيس الحاجة اليوم إلى النظر إلى الصين بعيون جديدة، والمدارسة الجدية لفكرها، بما يتجاوز اهتمامات أولئك الرحالة، وعالـمهم الثقافي، وخيالهم الجغرافي. فلا مناص اليوم من بذل الجهد لفهم هذه الحضارة العتيقة، المتاخمة لحدود العالم الإسلامي، والمتفاعلة مع المنطقة العربية على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي وإستراتيجي. ومن هنا، تعيَّن استئناف القول في استكشاف الفكر الإستراتيجي الذي نبت من أرض هذه الحضارة، ضاربًا بجذوره في التاريخ السياسي والعسكري البشري.

ومما يجعل الاهتمام بالصين وفكرها الإستراتيجي متعينًا أنها أصبحت اليوم قوة دولية صاعدة تتمدد بهدوء وصمت، وتتقدم إلى الريادة العالمية بصبر وجلد؛ إذ تنقسم الكتل الدولية الكبرى اليوم إلى ثمان: أربع فاعلة وأربع منفعلة. أما الكتل الفاعلة فهي: الولايات المتحدة، والصين، وأوروبا، وروسيا. وأما الكتل المنفعلة فهي: الهند، والعالم الإسلامي، وإفريقيا، وأميركا اللاتينية. ولا يختلف الباحثون الإستراتيجيون في أن الصين اليوم هي القوة الصاعدة التي يجب أن تحسب لها الكتل الدولية -الفاعلة والمنفعلة- ألف حساب، فهي أوْلى من غيرها بالفهم والدراسة، نظرًا لما يترتب على صعودها من انزياحات في مراكز ثقل القوى الفاعلة، ومن تأثير على القوى المنفعلة.

وقد عبَّر روبْ جويس (Rob Joyce) مدير الأمن السيبراني في وكالة الأمن القومي الأميركية، تعبيرًا بليغًا عن صعود الصين الهادئ إلى الريادة العالمية، مقارنًا بينها وبين روسيا فقال: “أنا أعتبر روسيا إعصارًا، يأتي عاصفًا وقويًّا، أما الصين فهي تغير المناخ الذي هو طويل الأمد، بطيء الأثر، لا مهرب منه، ولا مردَّ له”(3). وهذا مجاز معبِّر وعميق الدلالة حقًا: فالإستراتيجية الروسية تبدو اليوم عاصفة ومتسرعة، لكن تأثيرها في النظام الدولي تأثير سطحي وموْضعي رغم عنفه وعنفوانه. أما الإستراتيجية الصينية فهي صبورة وهادئة، لكن تأثيرها في النظام الدولي عميق وشامل وبعيد الأثر.

ولا يعارض الصينيون هذا النمط من التوصيف لصعودهم، بل لعله يعجبهم ويخدم ما يرمون إليه من التسليم بريادتهم، ولكنهم يضْفون عليه معنى أخلاقيًّا مستمدًّا من تراث صن تزو. فالمفكر العسكري الصيني المعاصر، ليو مينغْفو -مثلًا-،  يجادل بأن الصين ستفوز على الولايات المتحدة فيما يدعوه “مبارزة القرن”(4)، لكن بمنهج مختلف تمامًا عن المنهج الأميركي، وهو يرسم صورة هذا الاختلاف بقوله:

“إن الصين مساهم أساسي في الفكر العسكري في أرجاء العالم، لكنها لم تكن مساهمًا أساسيًّا في حروب العالم. ففن الحرب الصيني فن سلمي، ودفاعي، وإستراتيجي، وخيِّرٌ، ومتحضر. فهو فن حرب يستعمل النعومة للتغلب على الحديد، والتروي للتغلب على القوة. وكتاب فن الحرب لصن تزو تعبير كلاسيكي عن ثقافة الصين العسكرية، وتأمُّل كثيف في شخصية الصين العسكرية، وعمل إبداعي في التعبير العسكري عن خصائص الصين السياسية”(5).

وسوف نرى بتحليلنا لأفكار صن تزو وحكمه الإستراتيجية في ثنايا هذه الدراسة ما إن كان مينغْفو دقيقًا في توصيفه لتلك الأفكار. لكن ما يهمنا هنا هو أن الصين قد خرجت مما يدعوه الصينيون “قرن المهانة” (1840-1949) الذي أذاقهم فيه المستعمرون الغربيون واليابانيون صنوف الإذلال، ثم بدأت خلال العقود الأربعة الماضية صعودًا مدهشًا. وهي تستمد الروح الدافعة لهذا الصعود من أمرين: الإصرار على محو آثار الإذلال المعاصر، والاعتزاز بأمجاد الإمبراطوريات الصينية الغابرة(6). وهذا الخروج الصيني من طوق الهيمنة الغربية على العالم التي دامت قرونًا، وتقدمها إلى مسرح التاريخ العالمي من جديد، يترتب عليه الكثير بالنسبة لمستقبل المنطقة العربية والحضارة الإسلامية.

التنين يطرق الأبواب

ويمكن أن نضيف إلى هذا الصعود الصيني على المستوى الدولي، أن الصين بدأت تتمدد بهدوء وثبات في بيئتنا الإستراتيجية، وتبني لنفسها رؤوس جسور في المنطقة العربية، وفي العالم الإسلامي الذي تجمعها حدود مشتركة مع خمس من دوله، هي: أفغانستان، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وباكستان. وهذه الأخيرة تربطها بالصين علاقات عسكرية متينة في مواجهة غريمهما المشترك، الهند، وعلاقات اقتصادية متصاعدة تتضح معالمها في مشاريع الصين في ميناء غوادر الباكستاني على بحر العرب، واستثماراتها الضخمة في البنية التحتية الباكستانية. كما أن الصين على احتكاك مباشر بالدول الإسلامية المطلة على بحر جنوب الصين: إندونيسيا وماليزيا وبروناي، وهي تستثمر استثمارات ضخمة في البنية التحتية في عموم دول آسيا الوسطى الإسلامية، بعد تراخي القبضة الروسية عن تلك الدول. كما ترتبط الصين بمعاهدة شراكة إستراتيجية مع إيران، وقَّعتْها الدولتان عام 2021، وتضمنت التعاون الإستراتيجي بينهما لمدة ربع قرن في كل المجالات، بما فيها المجال العسكري.  

وإذا تحدثنا عن باكستان وإيران فنحن نتحدث عن تخوم المنطقة العربية التي تتكثف صلات الصين بها، ويزداد حضورها فيها ومن حولها يومًا بعد يوم، وخصوصًا دول الخليج والشرق الأوسط والقرن الإفريقي. فقد وصل استيراد الصين من النفط الخليجي (العربي والإيراني)، مطلع العام 2022، أكثر من 50% من وارداتها، بما يتجاوز ثلاثة أضعاف الواردات النفطية والأوروبية الأميركية من نفط الخليج(7). وقد أقامت الصين منذ عام 2017 أولى قواعدها العسكرية خارج حدودها في دولة عربية، هي جيبوتي، لتقوية حضورها في باب المندب والبحر الأحمر والقرن الإفريقي.

وعلاقة الصين بمنطقة الخليج ليست جديدة على ما يبدو؛ إذ “يقال إنه عندما استولى العرب على ميناء الأُبُلَّه قرب البصرة، في خلافة عمر بن الخطاب، وجد بها المسلمون سفنًا صينية”(8). وقد تنبأ منظِّر العلاقات الدولية الأميركي، جون ميرشايمر (John Mearsheimer)، منذ عام 2010، باتفاقية “الشراكة الإستراتيجية الشاملة،” وأوضح ميرشايمر ما قد يترتب على هذه الاتفاقية لمنطقتي الخليج والشرق الأوسط على المدى البعيد، فقال:

“نظرًا لاعتماد الصين على نفط الخليج، فمن الراجح أنها ستتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية، بنفس المنحى التي نحاه الاتحاد السوفيتي من قبل. وليس اجتياح الصين للشرق الأوسط بالأمر المرجح، لأنه بعيد عن الصين، ولأن الولايات المتحدة ستسعى لإفشال هذا الهجوم يقينًا. ولكن من الراجح أن الصين ستؤسس لحضور عسكري دائم في المنطقة إذا استعان بها حليف مقرب. على سبيل المثال من الممكن تصور إيران والصين وقد رسَّخا العلاقات بينهما، ثم إذا بإيران تطالب باستقرار قوات صينية على أرضها“(9).

واللافت للنظر أن بعض المنظِّرين الصينيين لا ينكرون غايتهم البعيدة وهي وراثة النفوذ الأميركي في العالم. فبينما نجد منظِّرًا أميركيًّا يحذر من “إستراتيجيات الإزاحة” التي تنتهجها الصين بصبر وطول نفس، سعيًا إلى وراثة النفوذ الأميركي في العالم دون الدخول في حرب مباشرة مع أميركا(10)، نجد منظِّرا صينيًّا يبشر بعصر “ما بعد أميركا” في النظام الدولي، رغم سعيه لإقناع الأميركيين وغيرهم بأن الصين الممسكة بزمام القيادة العالمية مستقبلًا لن تكون قوة هيمنة، بل قوة تعاون(11). ومهما تكن النيات الطيبات أو الخبيثات التي تستبطنها القوة الصينية الصاعدة، فإنها قوة تطرق أبواب منطقتنا اليوم، وليس من الحكمة أو الحصافة تجاهلها.

المفكر الحاضر الغائب

ويجب ألا ننسى أن الفكر الإستراتيجي الصيني الذي نتناوله هنا حاضر في حياتنا عبر الآخرين، وخصوصًا الأميركيين الذين هم أكثر الشعوب مدارسةً وتطبيقًا لفكر صن تزو اليوم، وهم يطبقونه بالفعل في حروبهم وسياساتهم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. وقد كتب أحد الصحفيين الأميركيين المرافقين للجيش الأميركي في حرب الخليج، عام 1991: “على الرغم من أن الصين لم ترسل إلى الخليج جنديًّا واحدًا، إلا أن هناك صينيًّا لغزًا يشارك في المعركة، وهو يقود عمليات القتال. ذلك الجندي هو سون تسي [صن تزو] الذي عاش ومات قبل 2500 عام”(12).

ويكفي أن نعلم أن واضع خطة الحرب في الخليج، عام 1991، الطيار والمفكر الإستراتيجي الأميركي، جونْ بويدْ (John Boyd)، تلميذ نجيب من تلاميذ فكر صن تزو، وأنه استمد منه الأفكار الأساسية التي اشتهر بها. ففكرة إيقاع الخصم في حالة شلل إدراكي ونفسي التي نظَّر لها بويد هي “أساسًا إعادة تأويل معاصرة لكتاب صن تزو فن الحرب“(13)، كما لاحظ باحث عسكري تايلندي، وهي “المنطلق الذي انطلق منه بويْدْ، وقد كان يعتبر صن تزو أبًا مؤسسًا للإستراتيجيات العسكرية”(14)، كما لاحظ باحث عسكري أميركي، وسنتناول مفهوم الشلل الإدراكي فيما بعد.

لقد ظل كتاب صن تزو ملهمًا للقادة السياسيين والعسكريين عبر العصور. ورغم أن هذا الكتيب خفيف الوزن، لا تتجاوز كلمات ترجمته أحيانًا أكثر من عشرة آلاف كلمة، فإنه نص كثيف المادة، وهذا ما جعله منبعًا لا ينضب من الحكمة السياسية والعسكرية، يستمد منه كبار المفكرين الإستراتيجيين والقادة العسكريين والسياسيين، ورؤساء الشركات والمنظمات. ولا تزال الأكاديميات العسكرية المرموقة تدرِّس هذا الكتاب لطلابها إلى اليوم. وكما لاحظ مارك ((Mark McNeily فإن “الفصول الثلاثة عشر لهذا النص العتيق لا تزال مرجعًا اليوم لجنود لم يعودوا يقاتلون بالسيوف والرماح، بل بالصواريخ والطائرات المسيرة، ولا يتواصلون بالأعلام، بل عبر الأقمار الصناعية، ولا يناورون بناء على معالم الأرض، بل باستخدام نظام التموقع العالمي GPS”(15). فإذا لم نكن قد منحْنا هذا النص العتيق ما يستحقه من عناية، فإنه الحاضر الغائب في حياتنا، لأن الآخرين قد تدارسوه وطبقوا مبادئه الإستراتيجية علينا. فلنلتفت الآن إلى ملامح شخصية صن تزو، وشيء من تاريخ كتابه وبنْيته، وأثره الباقي، عسى أن نعوض شيئًا من تفريطنا السالف.

شخصية صنْ تزو 

تدل الدلائل التاريخية المتاحة على أن صن تزو عاش في ظروف صراع مرير بين الدويلات التي كانت تتوزع أرض الصين وتتنازعها، وفي بيئة تقدر الحكمة السياسية والبراعة الحربية. ولكن لا يُعرف الكثير عن حياة صن تزو الشخصية، وإنما توجد شذرات ذات صلة بسيرته السياسية والعسكرية، وليس من الواضح مستوى الثقة التاريخية الذي تستحقه هذه الشذرات المتناثرة. فما صحَّ منها فهو معبِّر عن الوقائع التاريخية، وما لم يصح منها فهو يعكس ما أضفاه اللاحقون من المفكرين والمؤرخين الصينيين على صن تزو من صفات، ليست بالغريبة عليه، أو على مجتمعه وبيئته. ومن هذه الشذرات أن اسمه الأصلي “صن وو”، لكنه اشتهر باسم “صن تزو”، ومعناه: “المعلم صنْ”، تقديرًا لعلمه وخبرته، وأنه كان قائدًا عسكريًّا في بلاط مملكة وو Wu، وهي إحدى الممالك الكثيرة التي زادت على مئة وخمسين دويلة، وكانت تتقاسم الأرض الصينية آنذاك، وأن جده كان واليًا من ولاة الأقاليم(16). ولا يُعرف الكثير عن حياة صن تزو بعد لحاقه بمملكة “وو”، سوى أنه قاد جيشها في عدد من الحروب المظفرة ضد الممالك الصينية المنافسة.

ومن أشهر القصص عن صن تزو قصة لقائه مع ملك “وو”، واختبار الملك لخبرته بتحديه أن يدرب جواري القصر حتى يصبحن محاربات محترفات. فصفَّ صن تزو الجواري صفين، وعين على رأس كل من الصفين إحدى محظيات الملك الأثيرات إلى قلبه. وحينما أصدر أوامره إليهن ببدء التدريب العسكري تضاحكن في سذاجة واستغراب، فقال صن تزو: “إذا كانت الأوامر غير واضحة ومفهومة فالعتْب في عدم تنفيذها يرجع إلى القائد، وإذا كانت واضحة ومفهومة فالعتْب في عدم تنفيذها يرجع إلى الجندي”، ثم كرر أوامره، فتضاحكت الجواري مرة أخرى، فاستل صن تزو سيفه وقطع رأس الجاريتين، أمام ذهول وصدمة الملك، وسرعان ما أصبحت المتدربات طوع يده، ينفذن أوامره بسرعة وهمة وجد(17).

جدالات الزمن والسياق

وما لا يختلف فيه المؤرخون هو أن صن تزو عاش في الصين، وفيها كتب كتابه فن الحرب، قبل الميلاد بفترة من الزمان. لكنهم ينقسمون إلى مدرستين في تحديد الحقبة الزمنية التي فيها عاش المؤلف وظهر الكتاب: مدرسة تتناول الموضوع بمنهج التحليل التاريخي الخارجي، وتعتمد على شهادات مؤرخين صينيين أقدمين، وهي تميل إلى أن صن تزو عاش في الحقبة الزمنية المعروفة في التاريخ الصيني باسم حقبة “الربيع والخريف” التي امتدت ما بين العامين (722-481 ق. م.). ويعتقد هؤلاء المؤرخون -تبعًا لمصادر صينية قديمة- أن صن تزو عاش ما بين (544-496 ق. م.).

أما المدرسة الثانية فهي تحلل كتاب فن الحرب تحليلًا نصيًّا داخليًّا، يشمل لغة الكتاب ومصطلحاته، وطبيعة الأحداث العسكرية التي يصفها، وأنماط الأسلحة التي يتحدث عنها، وحجم الجيوش التي يصفها.. وتحاول استخلاص دروس من ذلك في تحديد البيئة التاريخية التي أنتجت النص. وتجادل هذه المدرسة بأن صن تزو وكتابه ينتميان لسياق زمني متأخر، وهو الحقبة المعروفة في تاريخ الصين باسم “حقبة الدول المتحاربة” وهي حقبة امتدت ما بين عامي (403-221 ق. م). وتترجح الكفة في الحوار الأكاديمي الغربي اليوم لصالح هذه المدرسة الأخيرة(18) بناء على أن أحجام الجيوش الضخمة، وتنظيمها المتطور المعقد، على نحو ما يظهر في كتاب صن تزو، لم يكن موجودًا في “حقبة الربيع والخريف” من تاريخ الصين، وأن مضامين الكتاب وأسلوبه يتناسبان أكثر مع أنماط التأليف والأساليب المتبعة في الكتابات الصينية خلال “حقبة الدول المتحاربة”(19).

ويقترح باحثون آخرون توفيقًا بين الأدلة، بالقول: إن صن تزو عاش في الحقبة الأولى، لكن تعاليمه العسكرية لم تُدوَّن في نص واحد متماسك في عصره، بل ظلت تراثًا شفهيًّا إلى أن دوَّنها وحررها أحد المتحدرين من سلالته، وهو صنْ بينْ الذي برهنت الأدلة التاريخية على أنه عاش تقريبًا ما بين 380-316 ق.م.(20)، وأن هذا المحرر طعَّم حكمة صن تزو بنكهة جديدة ومعطيات جديدة مستمدة من عصر متأخر.

 

“فن الحرب” في التاريخ

لقد عاش صن تزو في بيئة سياسية وعسكرية، فهو ابن بيئته وزمانه، لكنه تجاوز تلك البيئة وذلك الزمان أشواطًا بعيدة، بهذا الأثر الفكري الذي لا يزال يتحدى الزمن. ويكفي من صلابة هذا النص أن عمره يزيد على ثلاثة وعشرين قرنًا في أقل التقديرات، وهو ما زال محافظًا على طراوته الفكرية، وإلهامه للساسة والقادة، حتى اليوم. والغريب أن هذا النص الضارب في أعماق الزمن يحيل في نصه إلى كتاب آخر سابق عليه يسميه: “كتاب الإدارة العسكرية” (فص7، فق17)، مما يدل على عمق التراث العسكري الصيني.

وإذا كان السجل التاريخي قد خذلنا فيما يتعلق بتفاصيل حياة صن تزو، لكنه لم يخذلنا فيما يتعلق بكتابه فن الحرب الذي بقي محفوظًا عبر القرون، وظل متداولًا في الصين منذ كتابته إلى اليوم، بل وجعلت إمبراطورية سانغْ الصينية (960-1279م) دراسة هذا الكتاب -ضمن النصوص العسكرية السبعة- شرطًا لتولي أي منصب عسكري ذي بال في الدولة(21).

صيغ كتاب صن تزو بأسلوب كثيف، جعل نصه أشبه ما يكون بالأمثال والأقوال السائرة، لشدة تركيزه، وعمق أفكاره، وإجمال أسلوبه، وقد وصف هنري كيسنجر أسلوبه بأنه “يقع بين الشعر والنثر”(22)، واعتبره الجنرال ديفيد بترايوس “نصًّا ساحرًا” لأنه “مزيج من الروح الشعرية والبراغماتية”(23).

ومن الصين انتقل الكتاب إلى مجتمعات شرق آسيا المجاورة، فتُرجم خلال العصور الوسطى إلى لغات التبتْ واليابان والمانشو(24)، وكان له أعمق الأثر في التاريخ العسكري الآسيوي. يقول البحاثة الأميركي في النصوص العسكرية الصينية القديمة، رالفْ سويرْ (Ralph Sawyer)  إن كتاب صن تزو فن الحرب “ظل أهم نص عسكري في آسيا على مدى ألفي عام… فقد تدارسه المنظِّرون العسكريون والجنود المحترفون في الصين واليابان وكوريا. وأثَّر كثير من الإستراتيجيات الواردة فيه تأثيرًا بالغًا في التاريخ العسكري الياباني المروي، ابتداء من القرن الثامن الميلادي”(25).

ولعل الأثر الأكبر للكتاب في العصر الوسيط خارج الصين كان في اليابان التي وصلها الكتاب مطلع القرن السادس الميلادي، فترك بصمته على تقاليدها العسكرية لعدة قرون؛ حيث احتفى به رجال البلاط الإمبراطوري الياباني، واتخذته المؤسسة السياسية والعسكرية اليابانية دليلًا عمليًّا لتكوين القادة والجنود(26)، وظل الكتاب منذئذ نصًّا تأسيسيًّا لا يُستغنى عنه في الأكاديميات العسكرية اليابانية.

لكن العسكري الأميركي، العميد صمويل غريفيثْ (Samuel B. Griffith) (1906-1983)، الذي خدم ملحقًا عسكريًّا في سفارة بلاده ببيجين وترجم كتاب صن تزو إلى الإنكليزية، يرى أن اليابانيين لم يفلحوا دائمًا في الامتثال لحكمة صن تزو الإستراتيجية، فهم حين ضربوا الأميركيين ضربتهم المؤلمة في بيرل هاربر، يوم 7 ديسمبر/كانون الأول 1941، حققوا نصرًا تكتيكيًّا رائعًا، مقابل خسارة إستراتيجية كارثية، فكانت ضربة بيرل هاربر “انتصارًا تكتيكيًّا، لا إستراتيجيًّا” وكان ثمن ذلك الانتصار التكتيكي فادحًا جدًّا، لأنه كان “عملًا متهورًا” غير محسوب العواقب، خلافًا لما ترشد إليه حكمة صن تزو(27). ومع هذا الحضور الكثيف لكتاب صن تزو في التراث الآسيوي، لا عجب أن الزعيم الفيتنامي هو شي منهْ (1890-1969م) قد ترجم الكتاب إلى اللغة الفيتنامية.

ترجمات غربية وعربية

بدأ كتاب صن تزو يخرج من بيئته الآسيوية القديمة إلى العالم المعاصر في ختام القرن الثامن عشر. فقد صدرت ترجمة فرنسية للكتاب، عام 1772، بقلم القسيس اليسوعي، جان آمْيُو (Jean Amiot) (1718-1793)، الذي عمل منصِّرًا في بيجين (28). لكن الكتاب لم يتحول جزءًا من نسيج الثقافة الإستراتيجية الغربية إلا في القرن العشرين. فقد نشر النقيب في الجيش البريطاني، أفراردْ كالثروبْ (Everard Calthrop) (1876-1915)، ترجمة إنكليزية للكتاب، عام 1908، بعنوان: كتاب الحرب: النص العسكري الكلاسيكي للشرق الأقصى (29). ولم تكن تلك الترجمة جيدة،

وهذا ما حفز الباحث الأسكتلندي المتخصص في الشؤون الصينية، ليونيلْ جايلسْ (Lionel Giles)

 (1875-1958)، إلى إنتاج ترجمة إنكليزية رصينة للكتاب عام 1910، لا تزال تتداولها أيدي القراء إلى اليوم. ثم توالت الترجمات الإنكليزية بعد ذلك. وقد أحصيت سبعًا وأربعين ترجمة إنكليزية للكتاب صادرة ما بين عام 1904 و2020، واطلعت على نصوص عشرة منها على الأقل.

وصدرت نحو عشر ترجمات عربية للكتاب، اطلعت على أربع منها، هي ترجمات رؤوف شبايك، وربيع مفتاح، وكامل يوسف حسين، وطبعة دار الكتاب العربي التي لا تحمل اسم مترجمها!(30) وهذه الترجمات منقولة عن الإنكليزية، وهي ضعيفة الصياغة، تظهر أخطاء اللغة وارتباكات الأسلوب من صفحاتها الأولى، ويتبين عدم الدقة والإهمال من مقارنتها مع الترجمات الإنكليزية التي نقلتْ عنها. وبالنظر إلى ضعف هاته الترجمات العربية، وكونها منقولة عن لغة أخرى وسيطة، لا عن الأصل الصيني، فقد تحاشيناها في هذه الدراسة، وآثرنا الاعتماد على ترجمة إنكليزية نقلها العميد صمويل غريفيثْ عن اللغة الصينية مباشرة.

والسبب في اعتمادنا ترجمة غريفيثْ من بين الترجمات الإنكليزية الوافرة العدد هو كون مؤلفها ضليعًا في الفكر والتاريخ الصيني، وهذه الترجمة هي موضوع رسالته للدكتوراه في التاريخ العسكري الصيني بجامعة أوكسفورد، بما يعنيه ذلك من الخضوع لمعايير العمل الأكاديمي الرصين. كما أن هذه الترجمة زكَّتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، واعتمدتْها ضمن سلسلة النصوص الكلاسيكية الصينية التي نشرتْها.

ثم إن غريفيث أضاف لترجمته تعليقات عدد من الشراح الصينيين القدامى على كتاب صن تزو، فزاد النص سعةً وثراءً. وهو إلى ذلك لم يكتف بترجمة الكتاب، بل أشبعه دراسة وتحليلًا. كما ترجم غريفيث كتيب ماو تسي تونغ عن حرب العصابات، وقدم له بمقدمة تحليلية ثمينة، وألَّف دراسة ضافية عن جيش التحرير الشعبي الصيني، وسنعود إلى هذين العملين لاحقًا، لنرى من خلالهما فضل صن تزو على الصين المعاصرة(31). ومن الواضح أن تمرس المترجم بالسياق الثقافي الذي أنتج النص من أهم الأمور المساعدة على دقة الترجمة. فكل ما اقتبسناه من نص صن تزو في هذه الدراسة فهو من ترجمتنا المباشرة عن نص غريفيث الإنكليزي.

الأثر الباقي في الصين

ومن حيث الأثر الباقي في الصين ذاتها، فقد استمد مؤسس الصين المعاصرة، ماو تسي تونغ (1893-1976، ورفاقه الشيوعيون إستراتيجياتهم العسكرية من صن تزو، فماو نفسه “كان تلميذًا لكتاب فن الحرب طيلة حياته”(32)، و”الشيوعيون كانوا تلاميذ لصن تزو”(33)، وكان كتابه “إنجيلهم في عملياتهم”(34)، ولا يزال، ملهمًا للقادة السياسيين والعسكريين الصينيين في الزمن الحاضر، وهم يرونه “صالحًا للتطبيق اليوم كما كان يوم كتبه مؤلِّفه”(35)؛ فلا عجب أن كان الكتاب مقررًا لازمًا في جميع الكليات العسكرية في الصين المعاصرة(36).

ويدرك خصوم الصين الذين يراقبون صعودها بريبة وقلق قوة الاستلهام من تراث صن تزو في تفكير قادتها اليوم. فقد أفرد هنري كيسنجر فقرة من عدة صفحات في كتابه عن الصين بعنوان: “الواقعية السياسية الصينية وكتاب صن تزو فن الحرب” لخص فيها أفكار صن تزو الإستراتيجية، ومظاهر استلهامها من طرف النخب الصينية المعاصرة (37). وأكد الجنرال الهندي المتخصص في الشأن الصيني، راجيف نارايانان (Rajiv Narayanan)، على ضرورة الانتباه إلى الاستمرارية التاريخية في إستراتيجيات الصين المعاصرة، مشيرًا إلى أن جميع القادة الصينيين المعاصرين -بمن فيهم قادة تايوان- يستلهمون نصوص الإستراتيجيات الست والثلاثين وكتاب صن تزو، وغيرها من النصوص العسكرية التي أنتجتها الحضارة الصينية العتيقة(38).

أما أدميرال البحرية الياباني، فوميو أوتا (Fumio Ota)، فقد أدرك استلهام القادة الصينيين اليوم لنص صن تزو خلال زيارات ميدانية له للمؤسسات العسكرية الصينية؛ إذ وجد أن كتاب صن تزو هو أساس برامجها التكوينية. وكان من أطرف ما لاحظه أنه كلما ذكر جملة من نص صن تزو أمام أحد القادة العسكريين الصينيين أكمل له القائد الصيني تلك الجملة ارتجالًا، فهم يحفظون نص الكتاب عن ظهر قلب(39). وقد توصل أوتا إلى أن “إستراتيجية الصين الحالية متأثرة تأثرًا عظيمًا بأفكار صن تزو”(40)، ونصح اليابان بمحاربة الصين من خلال استخدام أفكار صن تزو قائلًا: “يجب أن نستخدم صن تزو ضد الصين”(41)؛ إذ هو -في نظره- سلاح ذو حدين.

الأثر الباقي في الغرب

ورد في بعض المصادر أن الامبراطور الفرنسي، نابليون بونابرت (1769-1821)، اطلع على طبعة من ترجمة القسيس اليسوعي، جان آميوتْ، لكتاب صن تزو إلى اللغة الفرنسية، واستمد منها عددًا من مناوراته الحربية غير المألوفة التي أذهلت معاصريه. ويرجح غريفيثْ هذا الاستنتاج بناء على أن نابليون اشتهر بأنه قارئ نهم حين كان ضابطًا شابًّا، وأن من المستبعد أن يفوته نص بهذه الأهمية كان متاحًا لقراء اللغة الفرنسية في عصره(42). ولا يستبعد رالف سويرْ أيضًا اطلاع نابليون على كتاب صن تزو(43) لكن مترجمًا آخر لصن تزو، وهو فيكتور ماير (Victor H. Mair)، يشكِّك في اطلاع نابليون على الكتاب، ويعتبر الأمر “قصة رومانسية صيغتْ لتحريك الخيال، لكنها مجرد تلفيق”(44)، رغم أنه لا يقدم أدلة نافية مقنعة. ولا يزال الجدل الأكاديمي في هذا الموضوع محتدمًا.

ومع ذلك، فإن الكتاب لم ينتشر في الغرب ويشتهر إلا بعد الحرب العالمية الأولى وما حدث فيها من فظائع، حيث بدأ الغربيون يبحثون عن منظور إستراتيجي أقل عناءً وأكثر غناءً من أنماط الحروب التي قادتهم إليها نظرياتهم العسكرية المتوارثة منذ القرن التاسع عشر، وأهمها نظريات المفكر العسكري البروسي، كارل كلاوس فيتز ((Clausewitz) (1780-1831)، التي تنحو منحى المصادمة والتدمير، ولا تهتم كثيرًا بالمناورة والالتفاف، والاقتصاد في الدماء والدمار.

لقد وجد الغربيون ضالتهم في كتاب صن تزو فن الحرب، ويرجع الفضل الأكبر في ذلك للمفكر العسكري البريطاني، ليدل هارت (Liddell Hart)  (1895-1970)، الذي سوَّق الكتاب لدى الأوساط الإستراتيجية الغربية، وتبنَّى عددًا من مقولاته الأساسية. وبإلهام من صن تزو صاغ هارتْ فكرة “المقاربة غير المباشرة”، وهي من أهم إسهاماته في الفكر الإستراتيجي. وخلاصة هذه الإستراتيجية هي أنه “ينبغي على المرء -كقاعدة عامة- أن يضرب ضد أكثر نقاط العدو ضعفًا، وليس ضد أقوى حصونه”(45). وهذه فكرة مستمدة من صن تزو، على نحو ما سنبينه فيما بعد تحت عنوان: “اضرب الخواصر الرخوة”.

وفي تقديمه لترجمة غريفيث الإنكليزية، وصف ليدل هارت كتاب صن تزو بأنه من أقدم الكتب في فن الحرب، وبأنه لم يوجد نص استطاع تجاوزه في العمق والشمول. كما ذهب هارتْ إلى أن النص الذي ربما يداني صن تزو في هذا المضمار هو كتاب كلاوس فيتز بالعنوان ذاته: فن الحرب، لكن كتاب صن تزو يفوقه، رغم أنه مكتوب قبله بأكثر من ألفي عام؛ إذ “يمتاز صن تزو برؤية أوضح، ونظرة أعمق، وبطراوة أبدية”(46).

ولا يزال المفكرون الإستراتيجيون والقادة العسكريون في الغرب يتبارون في تمجيد هذا الكتيب الصيني العتيق. فالمفكر الإستراتيجي الأميركي، روبرت غرين (Robert Greene)، يقول: “إن أعظم مفكر إستراتيجي في كل العصور هو صن تزو من دون ريب”(47)، والجنرال الأميركي ديفيد بترايوس (David Petraeus)، قائد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان والمدير السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية CIA، يصفه بأنه “سابق لزمانه، وفكره لا يزال صحيحًا حتى اليوم،” ويذهب إلى أن كتابه “لا يزال محافظًا على أهميته كما كان وقت كتابته”(48).

ست وثلاثون إستراتيجية

كل ما قدمناه من مقدمات حتى الآن يتركز على كتاب فن الحرب لصن تزو، وهو النص الأساسي المستهدف بالتحليل في هذه الدراسة، بيد أن النص الثاني: “الإستراتيجيات الست والثلاثون” نص مهم أيضًا، وهو نص مجهول المؤلف كما أسلفنا. وقد ذهب المؤرخون مذاهب شتى في التخمين بشأن مؤلفه، فمنهم من نسبه إلى صن تزو نفسه، ومنهم من نسبه للقائد العسكري الصيني، تانْ داوْجي (ت 436م)، دون إثبات تاريخي في الحالتين.

وقد ورد أول ذكر للإستراتيجيات الست والثلاثين في نص صيني يرجع تاريخه للقرن السادس الميلادي، ثم أصبحت هذه الإستراتيجيات متداولة بين النخب السياسية والعسكرية خلال إمبراطورية شينغْ (1644-1911)، أخرى الإمبراطوريات الصينية الكبرى التي انهارت تحت وطأة الاستعمار البريطاني أواسط القرن التاسع عشر، ثم الياباني مطالع القرن العشرين. وكان النص معروفًا آنذاك باسم: الفن السري للحرب: الإستراتيجيات الست والثلاثون.

تعتمد الطبعات والترجمات المعاصرة لهذا النص على مخطوط مكتشف عام 1941. أما من حيث البنية والمضامين، فإن الإستراتيجيات الست والثلاثين هي مجموعة مقولات تشبه الأمثال والأقوال السائرة، صيغت بأسلوب كثيف، بحيث لا تتجاوز أي منها جملة أو جملتين، وترشد كل منها إلى مكيدة من المكائد العسكرية والسياسية الفعالة. وقد قسمها مؤلفها -أو محررها- إلى ستة أقسام يشمل كل قسم منها ست إستراتيجيات، تختلف عن غيرها باختلاف السياق المناسب لتطبيقها، وهي:

  • الإستراتيجيات المناسبة عند رجحان ميزان القوة لصالحك.
  • الإستراتيجيات المناسبة لمصادمة العدو مصادمة مباشرة.
  • الإستراتيجيات المناسبة لمهاجمة العدو بمبادرة وقرار منك.
  • الإستراتيجيات المناسبة لظروف الاضطراب والالتباس.
  • الإستراتيجيات المناسبة لانتزاع مواقع جديدة من العدو.
  • الإستراتيجيات المناسبة لحالات الاختلال الميؤوس منها.

وتوجد اليوم عدة ترجمات إنكليزية لنص الإستراتيجيات الست والثلاثين، من أحسنها صياغة ترجمة الأكاديمي الكندي ستيفان فرسْتابنْ (Stefan H. Verstappen)، وهي مشفوعة بشروح من المترجم، ونماذج تاريخية تطبيقية انتقاها من التاريخ الصيني والياباني، وهي الترجمة التي نعتمدها في هذه الدراسة(49). وتوجد ترجمات إنكليزية أخرى، منها ترجمة بيتر تايلور (Peter Taylor) (50) وترجمة ويليام ويلسون (William Wilson)، وهي منقولة عن ترجمة وشرح ياباني، بقلم هيروشو موريا (Hiroshi Moriya) (51). وعن ترجمة ويلسون صدرت ترجمة فرنسية بقلم الباحثة، جوزيت غروليي (Josette Nickels-Grolier) (52). أما اللغة العربية فلم نجد من ترجم الإستراتيجيات الست والثلاثين إليها، سوى رؤوف شبايك الذي ألحقها بترجمته لكتاب صن تزو، لكن ترجمته للنصين ضعيفة الصياغة، تظهر الأخطاء اللغوية من صفحتها الأولى، صفحة الإهداء! لذلك آثرنا اعتماد ترجمة فرسْتابنْ الإنكليزية. وتتضمن الإستراتيجيات الست والثلاثون “بعض أشد المكائد الحربية وأخفاها على الإطلاق”(53)، كما لاحظ فرسْتابنْ الذي يرى أن العديد من الحيل الحربية المعاصرة لها جذور في هذه المكائد الصينية.

لباب النصين ورسالتهما

يوجد تداخل بين مضامين الفصول الثلاثة عشر التي يتألف منها كتاب صن تزو، كما يوجد تداخل بين المعاني المعبَّر عنها في الإستراتيجيات الست والثلاثين، فضلًا عن أوجه الشبه بين مضامين النصين. ولا عجب في ذلك، فهما ثمرة من ثمار تشكل ثقافي واحد، هو الحضارة الصينية وتقاليدها السياسية والعسكرية. ويعين هذا التداخل على ضم أفكار بعضها لبعض في شكل خطوط عريضة بارزة. ولذلك عمدنا هنا إلى استخلاص لباب النصين بالتركيز على مضامينهما الكبرى بدلًا من استعراض أفكارهما استعراضًا خيطيًّا. وقد تجاهلنا ما ورد في كتاب صن تزو من التفصيلات الفنية ذات الصلة بأعداد الجيوش، وأنماط الأسلحة التي كانت مستخدمة في الصين القديمة، لأنها أمور تنتمي لعصر مضى وانقضى.

لقد استنبطنا من النصين ما اعتبرناه مبادئ إستراتيجية عامة، صغنا جلها بلغتنا الخاصة، لأن أغلبها لم يرد في النصين بلفظه، لكن معانيها مبثوثة -صراحة أو ضمنًا- في ثناياهما. وقد دلَّلنا على كل من هذه المبادئ باقتباسات من النصين، وأبرزنا شيئا من دلالاتها بما يقرِّبها أكثر إلى ذهن القارئ المعاصر، وعضدنا أحيانًا ما ذكره صن تزو بكلام بعض شراحه الصينيين الأقدمين، أو بنصوص من الإستراتيجيات الست والثلاثين، إذا حصل تشابه في المعنى بين هذه النصوص. وقد نفتتح التأصيل للمبدأ الإستراتيجي بنص من الإستراتيجيات الست والثلاثين ابتداءً، إذا كان معناه فيها أوضح وأبرز، ثم نعضده بما ذكره صن تزو وشراحه عن ذلك المبدأ.

ولابد من التأكيد هنا على أن أهمية هذه المبادئ لا تقتصر على الشؤون العسكرية، بل هي مبادئ إستراتيجية عامة، يمكن تطبيقها في الحرب، كما يمكن تطبيقها في السلم، خصوصًا في عالم الأعمال، والسياسة، والإعلام، والثقافة، بل وسائر أنماط الحياة البشرية المبنية على المدافعة والصراع. ولعل أحد مترجمي كتاب صن تزو إلى الإنكليزية استصحب هذا المعنى، فآثر ترجمته بعنوان فن الإستراتيجية(54) بدلًا من عنوانه الأصلي: فن الحرب. ومثله شارح الإستراتيجيات الست والثلاثين، الياباني هيروشي موريا، الذي وضع له عنوانًا فرعيًّا هو: “دليل النصوص الكلاسيكية الصينية إلى النجاح في الحرب والأعمال والحياة“(55).

ونظرًا لكثافة الاقتباسات من نص تزو فيما يلي من هذه الدراسة، وأن أشهر طبعات كتابه -ومنها ترجمة غريفيث التي نرجع إليها هنا- مرقمة الفقرات، فسنكتفي بالإشارة عند نهاية كل اقتباس من كتاب صن تزو بإحالة مختصرة داخل متن الدراسة على رقم الفصل (فص) والفقرة (فق) من الكتاب، تجنبًا لتشتيت ذهن القارئ بكثرة الرجوع للهوامش. ومثل ذلك فعلناه في الاقتباس من نص الإستراتيجيات الست والثلاثين، فقد اكتفينا بذكر رقم الإستراتيجية، إعفاء للقارئ من الرجوع المتكرر إلى الهوامش. فكل طبعات هذا النص مرقمة الفقرات، بما فيها ترجمة ستيفان فرسْتابنْ التي نقتبس منها هذه النصوص.

وبعد هذا التطواف الطويل في السياق التاريخي، نتجه الآن إلى استكشاف لباب هذين النصين، وما اكتنزاه من بذور الفكر الإستراتيجي وجذوره في الحضارة الصينية العتيقة.

  1. انْتق حروبك بعناية

إن أول المبادئ الإستراتيجية التي يوصي بها صن تزو هو أخذ قرار الحرب بما يستحقه من جد وروية وتأمل في العواقب، ففي أولى الجمل الافتتاحية لكتابه يقول صن تزو: “إن الحرب قضية ذات أهمية حيوية للدولة. فهي طريق إلى البقاء أو الفناء، الازدهار أو الاندثار، ولذلك تتعين دراستها بعمق” (فص1، فق1). ذلك أن دخول الحرب أمر سهل، لكن كسبها ليس كذلك، ولا شيء أكبر ضررًا وأعظم خطرًا على الدول والمجتمعات من استسهال أمر الحرب، والتهور في الاندفاع إليها، دون إدراك كاف لعواقبها المدمرة، وتفكير عميق في ثمارها المريرة. ولذلك يوصي صن تزو بأن “لا تتصرف إلا لتحقيق مصلحة الدولة” (فص12، فق17)، وبناءً على رؤية موضوعية لحقيقة الخطر الداهم، مع التأكد من الظفر على العدو: “إذا لم تكن قادرًا على الظفر فلا تستخدم قواتك، وإذا لم تكن في خطر فلا تقاتل” (فص12، فق17).

وتزداد قيمة هذا المبدأ في حالة الدول الصاعدة التي يتربص أعداؤها بها، ويسعون لتهشيمها في عنق الزجاجة، قبل أن تستكمل بناء قوتها، وتحقق كامل منْعتها. وهذا أمر استوعبته الصين المعاصرة استيعابًا كاملًا، وغاب عن بعض الدول العربية. ففي العلاقة المعقدة بين القوة الصاعدة والقوة السائدة، يحتاج قادة القوة الصاعدة إلى قدر كبير من الحكمة السياسية، والصبر الإستراتيجي، وطول النَّفَس، والسكوت على ما لا يسر، والتنازل عن المكاسب الصغيرة، وتجنب الصدام السابق لأوانه.. من أجل استكمال أسباب الصعود، وحرمان الأعداء من أي ذريعة لوأد المسيرة: “ولذلك فإن الحاكم المتبصر متأن، والقائد الجيد حذرٌ من التسرع، وبذلك تظل الدولة آمنةً، ويظل جيشها مصونًا” (فص12، فق19).

وحاصل هذا المبدأ أن أخطر ما في الحرب هو قرار الحرب، ومن هنا يلح صن تزو على أن “من يعرف متى يستطيع القتال، ومتى لا يستطيع القتال، سينتصر” (فص3، فق25). أما من يخوض الحرب دون حساب دقيق واستشراف عميق لمآلات الحرب فهو يقفز في الظلام، ويسبح في دماء شعبه باستهتار، وهو لا يستحق موقع الصدارة والقيادة في أي جماعة بشرية راشدة. فانْتق حروبك بحكمة، ورتب العداوات والصداقات بدقة، واحذر من الانجرار إلى حروب الوكالة، والحروب السابقة لأوانها، والمتأخرة عنه.

  1. الأذهان قبل الميدان

من أهم ما يميز الفكر الإستراتيجي لدى صن تزو هو إدراكه أن الحرب تخاض في الأذهان قبل أن تخاض في الميدان، وأن هزيمة العدو في المعركة الذهنية هي المفتاح للانتصار عليه في المعركة الميدانية. فالهَمُّ الأهم لصن تزو هو وجود صفة الفطنة والذكاء في القائد، بحيث لا يحكم على الأمور بالظواهر والبدائه التي يدركها غيره، وهو في ذلك يقول: “توقع النصر حين يكون عامة الناس قادرين على توقعه ليس دليلًا على قمة البراعة… وتمييز الشمس من القمر ليس علامة على حدة النظر، وسماع صوت الرعد ليس دليلًا على حدة السمع” (فص4، فق8-9). وإنما يتميز القائد على غيره بسبر أغوار الظواهر، والغوص على خبايا الأمور، واستنباط ما وراء ذلك.

فليس كل الناس مؤهلين للفهم الدقيق والاستنباط العميق، والأصل أن يكون القادة أهلًا لذلك. أما إذا لم يكن القادة أهلًا لموقع القيادة، فقد تنتج عن ذلك أصناف من الجهالات المهلكة للجيوش والدول، تحدث صن تزو عن ثلاثة منها، فقال: “توجد ثلاث طرائق يمكن للقائد أن يجلب بها الدمار لجيشه، وهي: حين يجهل أن على الجيش ألا يتقدم ثم يأمره بالتقدم، وحين يجهل أن على الجيش ألا ينسحب ثم يأمره بالانسحاب، وهذا يسمى إصابة الجيش بالعرج. وحين يشارك في إدارة الشؤون العسكرية وهو جاهل بها، فهذا يوقع ضباط الجيش في الحيرة. وحين يجهل معضلات القيادة، ثم يشارك في تحمل هذه المسؤولية، فهذا أمر يثير الريبة في أذهان ضباط الجيش” (فص3، فق19-22).

وقد ذهب صن تزو إلى أن “القادة العسكريين المتمرسين الذين لا يتدخل الملك في قراراتهم ينتصرون” (فص3، فق29)، بل ذهب إلى حدِّ القول: “إن بعض أوامر الملك يجب ألا تطاع” (فص8، فق8) إذا كانت تدخلًا من القيادة السياسية فيما لا تحسنه من أمر الحرب. وعلق على ذلك أحد شراح صن تزو، وهو شيا لينْ قائلًا: “إن إقدام الجيش وإحجامه [في ساحة الحرب] يخضع لإرادة القائد العسكري، طبقا للظروف السائدة، وأسوأ الشرور في هذا السياق هي صدور الأوامر من بلاط رأس الدولة” (فص3، فق19).

ويذكِّرنا هذا الأمر بالجدل بين القادة السياسيين والعسكريين حول قرارات الرئيس المصري، محمد أنور السادات (1918-1981)، المتضاربة بشأن تقدم الجيش المصري من الضفة الشرقية للقناة إلى المضايق في صحراء سيناء أثناء حرب رمضان 1973، وتردده المهلك بين رفض التقدم حين كانت الظروف مواتية، والإصرار على التقدم بعد أن ضاعت فرصته، وقد تم تبرير عدم التقدم في البداية بالحاجة لإبقاء القوات المصرية تحت حماية حائط الصواريخ، من الطيران المعادي، ثم جرى تبرير التقدم في وقت لاحق، حينما حشدت

إسرائيل قواتها في سيناء، بالحاجة إلى تخفيف الضغط عن الجبهة السورية، ومع ذلك، فقد فسر بعض نقاد السادات الأمر بجهله بشؤون الحرب، لأنه “لم يخدم في القوات المسلحة سوى ثلاث سنوات، وهو برتبة الملازم والنقيب في الأربعينيات”(56). وهنا تظهر مساوئ الجهل بمعادلة الإحجام والإقدام الذي حذر منها صن تزو، كما تظهر مخاطر الجانب الذهني من الحرب الذي منحه رجحانًا على غيره.

ويرتب صن تزو مستويات المعرفة التي تتحكم في مصائر الصراع، فيضعها في مراتب ثلاث: معرفة النفس والعدو كليهما، ومعرفة النفس دون معرفة العدو، ومعرفة العدو دون معرفة النفس، ثم يرتب على ذلك نتائجه المنطقية، فيقول: “اعرفْ العدو، واعرف نفسك، تتجنب المهالك، حتى ولو خضت مئة معركة. إذا كنت جاهلًا بالعدو، عارفًا بنفسك، فإن حظوظك في الفوز والخسارة متساوية. أما إذا كنت جاهلًا بالعدو وبنفسك، فإنك ستخسر كل المعارك يقينًا” (فص3، فق31-33). ويعلق شارحه لي شوانْ على هذا الصنف الأخير الجاهل بنفسه وبالعدو، فيقول: “هؤلاء عصابات من الحمقى، فما الذي يتوقعونه غير الهزيمة؟!” (فص3، فق33).

وأعلى مراتب التفوق المعرفي هي التي تقود إلى الانتصار دون قتال، وتلك هي قمة البراعة الإستراتيجية. يقول صن تزو: “إن الفوز بمئة انتصار في مئة معركة ليس قمة البراعة. إنما قمة البراعة هي إخضاع العدو دون قتال” (فص3، فق3). وقد أشار الفارس الأمير، أسامة بن منقذ (488-584ه/ 1095-1188م)، إلى هذا المعنى بقوله: “أحزمُ الملوك من لم يلتمس الأمر بالقتال، وهو يجد إلى غير القتال سبيلًا”(57). ولا يتحقق هذا النمط من الظفر السلمي إلا بمعرفة عميقة بالخصم، كما يقول صن تزو: “المعرفة السابقة بالعدو هي السر في أن الأمير المتبصر والقائد العسكري الحكيم يهزمان العدو حيثما حلَّا، وأن إنجازهما يفوق إنجاز غيرهما” (فص13، فق3).

ولأن صراع الأذهان أهم من صراع الميدان وأسبق، فإن المتوفق في معرفة عدوه وفي التحوط من معرفة عدوه به، هو الذي ينتصر في الحرب عادة. وهنا تتقاطع أفكار صن تزو مع أفكار الهرثمي؛ إذ يقول: “أول العمل في الحرب، ورأس التدبير فيها، ألا يظهر عدوك على عوراتك، ولا تسْتتر عنك عوراته” (58)، بل إن المتفوق ذهنيًّا ليضمن الانتصار في الحرب قبل خوضها، كما يقول صن تزو: “الجيش المحكوم له بالنصر ينتصر قبل خوض المعركة، أما الجيش المحكوم عليه بالهزيمة فيقاتل أولًا، ثم يأمل الظفر بعد ذلك” (فص4، فق14). وإلى هذه الحكمة التي تؤكد رجحان حرب الأذهان على حرب الميدان أشار أسامة بن منقذ بقوله: “أضعف حيل الحرب اللقاء”(59).

  1. لا تكن أحمق شجاعًا

فإذا كان استسهال أمر الحرب خطرًا عظيمًا، فيستلزم ذلك التفكير في شأنها بدم بارد، بعيدًا عن التهور. فقرار الحرب ليس مما يصلح فيه الارتجال، ولا أن يتولاه الهواة، أو يُتخذ على عجل. بل يجب أن يصاغ بناء على تأمل وتدبر ونظر في العواقب، لأن كل تعجل فيه على غير هدى فهو مهلكة للدول والأمم والأوطان. ويكفي من مركزية هذه الفكرة لدى صن تزو أنه ضمنها الجملة الافتتاحية من كتابه التي أوردناها من قبل: “إن الحرب قضية ذات أهمية حيوية للدولة؛ فهي طريق إلى البقاء أو الفناء، الازدهار أو الاندثار” (فص1، فق1). ولا يفتأ صن تزو يحذر من التهور في خوض الحرب، وهذا أمر يتفق معه فيه المنظِّرون العسكريون المسلمون؛ فالهرثمي -مثلًا- يقول: “اطلب الأناة ما استقامت لك، واقبل العافية ما وُهبتْ لك. ولا تعجل إلى اللقاء ما وجدت إلى الحيلة سبيلًا. لا تسأمن مطاولة عدوك، فإن في الأناة انتظار إمكان فرصة، وظفرًا من عدو بعورة”(60).

كما يؤكد شراح صن تزو الصينيون القدماء على هذا المعنى، فشارحه تو مو يعلق على تحذيرات صن تزو من التهور بالقول إن “القائد الأحمق الشجاع مصيبة” (فص8، فق18). ثم يبين تو مو العواقب الوخيمة المترتبة على هذا النمط من القيادة غير المتزنة، لأنها تتسم بالانفعال، ويتحكم فيها الارتجال، وتورد شعوبها المهالك، فيقول: “فما الفرق بين هذا التصرف وسوْق الناس الأبرياء إلى الماء الذي يغلي أو إلى النار؟ ألا يشبه هذا بالضبط جلْب البقر والغنم لإطعام الذئاب والنمور”؟ (فص 4، فق14).

وتذكِّرنا الحكمة الصينية في هذا المضمار بقول الخليفة عمر بن الخطاب لسليط بن عمرو الأنصاري: “لولا عجلة فيك لَوَلَّيْتُك، ولكن الحرب زبونٌ لا يصْلح لها إلا الرجل المكيث”(61)، و”رجل مكيث: أي رزين،” “وحرب زبون: تزبن الناس، أي تصْدمهم وتدْفعهم”(62). كما تذكِّرنا بقول المهلب بن أبي صفرة: “عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة”(63)، وبقول الشاعر أبي الطيب المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان       هو أولٌ وهْي المحـــــــــــل الثاني

ولربما طعن الفتى أقرانــــــــــــــــــــــــــه       بالرأي قبل تطاعن الأقران

ومعنى البيت الأول أن “الشجاعة إذا لم تصْدر عن عقل أتتْ على صاحبها فأهلكته”(64)، أما البيت الثاني فمعناه أن الفتى “قد طعن أقرانه بالمكيدة، ولطْف التدبير، ودقة الرأي”(65).

……………………………..

  1. خذ الوقائع ودع الرغائب

يدعو صن تزو إلى بناء الخطط الإستراتيجية على المعطيات الصلبة التي بيدك، لا على الأماني حول أمور يرجع قرارها للخصم، فيقول: “من مبادئ الحرب ألا تفترض عدم قدوم العدو، بل أن تعتمد على استعدادك للقائه حين يأتي. وألا تفترض أن العدو لن يهاجم، بل أن تجعل نفسك حصينًا أمام هجومه” (فص8، فق16). فما يعوِّل عليه القائد ذو الحاسة الإستراتيجية ليس ما قد يفعله العدو تخمينًا، بل ما يفعله هو يقينًا. وكما يقول صن تزو: “حصانتك الدفاعية ترجع إليك، أما وجود ثغرات في صف العدو فهو أمر يرجع إلى العدو” (فص4، فق5).

وهنا يكون صن تزو قد بذر البذور الأولى لمبدأ إستراتيجي معاصر، هو مبدأ “التقييم الصافي” Net Assessment وهو مصطلح جديد نسبيًّا، بدأ استخدامه في سبعينات القرن العشرين لدى باحثين أميركيين. والمقصود بمصطلح التقييم الصافي هو التقييم الموضوعي المتجرد من الرغائب والأماني لعناصر القوة والضعف لديك ولدى الخصم. لكن المفهوم الذي يعبِّر عنه هذا المصطلح ليس بالجديد، فقد ورد معناه في صدارة كتاب صن تزو الذي خصص الفصل الأول منه لعملية التقييم الأولي للوضع، وحساب عناصر القوة والضعف، قبل خوض أي صراع. وقد اعترف الباحثون الأميركيون -ممن أشبعوا مفهوم “التقييم الصافي” بحثًا- لصن تزو بفضل السبق إليه، خصوصًا في الفصل الأول من كتابه(66). فالفكرة الرئيسية لذلك الفصل هي ضرورة التقييم الدقيق لعوامل القوة والضعف، والتفكير في مسارات الأمور ومآلاتها، وعدم الانسياق وراء أي خيار إلا إذا تبينت سبل الظفر فيه راجحة واضحة.

ويدخل مبدأ التقييم الصافي ضمن إلحاح صن تزو على ضرورة الجمع بين معرفة النفس ومعرفة العدو. لكنه يتجاوز هنا ذلك الإجمال إلى شيء من التفصيل، فيذهب إلى وجود نوعين من العوامل لكل منهما أثره الخاص، وهي العوامل التي في صالحك، وتلك التي ليست في صالحك، ويلحُّ على وجوب أخذ كل من الصنفين في الاعتبار، فيقول: إن القائد “يستطيع جعْل خططه قابلة للتنفيذ إذا أخذ العوامل التي في صالحه بالاعتبار. ويستطيع تجاوز العوائق إذا أخذ العوامل التي في غير صالحه بالاعتبار” (فص8، فق13). ولعل أكثر ما شاب الحروب العربية المعاصرة هو عدم الدقة في التقييم الصافي عند بدء تلك الحروب؛ حيث ترجع أسباب الخسارة إلى ترجيح الرغائب على الوقائع في قرار الحرب وفي إدارتها، وعدم صياغة الخطط على أساس من المعطيات الصلبة والتقييم الصافي.

  1. اكسبْ دون أن تغلب

لم يكن صن تزو متعطشًا إلى سفك الدماء وهدم الممتلكات، ولا كانت هزيمة الخصم غاية في ذاتها بالنسبة له، بل كان يميل إلى أن كسب العدو أفضل من كسْره. وهو يرى أنك يمكن أن تكسب دون أن تغلب، فليست الغاية إذلال العدو، بل تحقيق الأهداف. كما أن كسْب المنهزم إلى صف المنتصر يزيد من قوة المنتصر، ويمحو ما تزرعه الحرب في النفوس من الأحقاد المترسبة، وبذلك يكون النصر مثمرًا، وذا أثر باق، لا مجرد جولة ظرفية من حرب أبدية. وربما يفسر هذا النمط من التعامل الحكيم مع المنهزمين عمق الأثر الإيجابي الباقي للفتوحات الإسلامية الأولى، بخلاف الغزوات المغولية العاصفة التي اجتاحت العالم، لكنها لم تترك أثرًا باقيًا يُذكر.

يقول صن تزو: “يجب أن تكون غايتك هي السيطرة على كل ما تحت السماء كما هو، وبذلك تتجنب استنزاف قواتك، وتكون مكاسبك كاملة. هذا هو فن الإستراتيجية الهجومية” (فص3، فق11). وهو ينصح باستخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية والنفسية، لإخضاع العدو وكسب الخصم، دون حاجة إلى مواجهة دموية معه، ما كان ذلك ممكنًا: “فإن المتمرسين بالحرب يُخضعون عدوهم دون قتال، ويستولون على مدنه دون هجوم عليها، ويُسقطون دولته دون عمليات استنزاف متطاولة” (فص3، فق10). فإذا تعينت الحرب فلتكن سريعة خاطفة، خفيفة الثمن، قصيرة الزمن.

وقد بالغ باحثون صينيون، فاعتبروا صن تزو داعية سلام، بناء على هذا الطرح. وقد أوردنا من قبل قول ليو مينغْفو: “فن الحرب الصيني فن سلمي، ودفاعي، وإستراتيجي، وخيِّرٌ، ومتحضرٌ”! محيلًا على فكر صن تزو في هذا المضمار. ولسنا ندَّعي تجرد صن تزو من القيم الأخلاقية والإنسانية، لكن ما تدل عليه هذه الحكم -ضمن سياق تفكيره الإستراتيجي- هو أنه كان يؤمن بالاقتصاد في الجهد، وبتحقيق الغايات المبتغاة بأرخص ثمن وأخصر طريق، وأنه كان يسعى لتحقيق الثمار السياسية والحضارية للحرب، حتى لا تتحول جهدًا دمويًّا عبثيًّا، لكنه لم يكن داعية سلام بطبيعة الحال، فهو منظِّر للحرب وممارسٌ لها.

وربما يكون الدافع إلى إلحاح صن تزو على دقة التسديد في الحروب، ولطف المعاملة مع المنهزمين، هو أن الحروب التي نظَّر لها وخاضها كانت حروبًا بين أشقاء ينتمون إلى الحضارة الصينية الواحدة، رغم خلافاتهم السياسية ومطامحهم الشخصية، وكانت الغاية من تلك الحروب هي توحيد الشعب الصيني تحت تاج ملك واحد. ولذلك لم يكن الإيغال في الدماء من مصلحة الملك المنتصر الذي يريد أن يضم شعوب الدويلات الصينية الأخرى إلى دولته، دون أن يزرع الأحقاد وروح الثأر الدائم، فينقض ما بناه. وفي كل الأحوال يستحق صن تزو الاحترام هنا، سواء كان هذا الشق من تنظيره نابعًا من دوافع أخلاقية مبدئية، أو من حكمة مصلحية عملية، فالتقليل من أثمان الحرب وما يترتب عليها من فواجع يظل أمرًا محمودًا، بغض النظر عن النيات والدوافع.

  1. تحكمْ في بيئة الصراع

يمكن إدراج العديد من أفكار صن تزو ضمن مبدأ التحكم في بيئة الصراع. ويبدأ ذلك بحسن استخدام طبوغرافية الأرض؛ إذ إن “طبوغرافية الأرض هي أعظم معين في المعارك” (فص10، فق17). وفي هذا السياق يقول صن تزو: “يقتضي فن تحريك القوات أن العدو إذا سيطر على أعالي الأرض فلا تهاجمه، وإذا كان يسند ظهره إلى الجبال فلا تواجهه” (فص7، فق26)، وهو يلح على أنْ “يتخذ القائد المتمرس موقعًا لا يمكن أن ينهزم فيه” (فص4، فق13). وقد لخص أحد شراحه الأقدمين، وهو شيا لينْ، المعنى العام لبيئة الصراع بقوله: “يجب على القائد أن يعتمد على قدرته على التحكم في الوضع لصالحه، بحسب ما تقتضيه الفرص السانحة” (فص8، فق9). ويتفق الهرثمي مع هذه الحكمة العسكرية، فيقول: “احرص على أن تسند ظهور أصحابك في مصاف اللقاء إلى الموضع الذي تأمن أخذ العدو منه”(67).

وتشمل بيئة الصراع عوامل معنوية ونفسية وجسدية، يسعى القائد المتمرس إلى الإمساك بها، سعيًا للتحكم في بيئة الصراع. وقد فصَّل ذلك صن تزو بقوله: “لا يهاجم المتمرسون بالحرب العدو وهو متحفز، وإنما حين يكون مرْتخيًا وجنوده في حنين لبلادهم، فهذا هو التحكم في العوامل المعنوية. وهم ينتظرون العدو المشوش في انضباط، والعدو المضطرب في هدوء، وهذا هو التحكم في العوامل النفسية. كما ينتظرون العدو القادم من بعيد وهم قريبون من أرض المعركة، والعدو المرهق وهم في حالة استجمام، والعدو الجائع وبطونهم ملأى، وهذا هو التحكم في العوامل الجسدية” (فص7، فق 22-24).

وبالتحكم في بيئة الصراع يكون للسابق ميزة على غيره، لذلك يقول صن تزو: “من يحتل ميدان المعركة أولًا، ثم ينتظر عدوه هناك، فسيكون مطمئنًّا مستعدًّا. أما من يصل متأخرًا، ويخوض القتال على عجل، فسيكون مرهقًا مستنزفًا” (فص6، فق1). ويتقاطع هذا النص مع القاعدة الرابعة من الإستراتيجيات الست والثلاثين: “انتظرْ العدو المرهق وأنت مرتاح”، والمقصود بها أن عليك أن تختار الزمان والمكان والسياق الذي يمنحك ميزة على الخصم قبل مواجهته، وألا تبادر إلى المواجهة قبل اكتساب ميزة مؤكدة ترجح انتصارك: “فالحَذِر الفطن الذي يكمن منتظرًا خصمه المتجرد من الحذر والفطنة هو الذي ينتصر في الحرب” (فص3، فق28).

ولعل هذه الوصايا تذكِّر المطلعين على الحياة الحربية في صدر الإسلام بسبْق المسلمين جيش قريش إلى أرض المعركة في غزوة بدر، ونزولهم في موقع صلب يصْلح مجالًا للحركة والمناورة، وسيطرتهم على مصادر الماء، وهذا مكسب إستراتيجي في لفيح الصحراء، وحرمانهم عدوهم من الماء بتغوير الآبار الأخرى. وبعد كل هذه الاستعدادات التي رسمت خريطة المعركة وضمنت ميزة إستراتيجية للمسلمين، وجعلتهم متحكمين في بيئة الصراع، “أخذوا قسطهم من الراحة بقية الليل، ليكونوا أقوياء في الصراع الوشيك”(68).

إن مبدأ التحكم في بيئة الصراع يصدق أيضًا في عالم السياسة والأعمال والإعلام والثقافة، وفي جميع مجالات الحياة الحيوية. فأحد العوائق الكبرى أمام الثورات وحركات التحرير والتغيير الديمقراطي في العالم العربي اليوم هو أن القوى الاستبدادية تتحكم في بيئة الصراع مسبقًا، بحكم تحصنها في شعاب الدولة العميقة، وامتلاكها أدوات القوة والسلطة العامة، بينما يهاجم الساعون إلى التغيير من خارج ميدان المعركة؛ فهم بحاجة إلى تضحيات أكبر، وخيال إستراتيجي أخْصب، لكي ينتزعوا من المستبدين هذه الميزة الإستراتيجية، أو يعطلوا أثرها على الأقل.

ومن أوجه التحكم في بيئة الصراع خارج النطاق العسكري امتلاك سلطة المنبر في الإعلام من خلال تملك وسائل الإعلام، وامتلاك رأس المال ووسائل الإنتاج في المنافسة التجارية، والاستحواذ على إدارة المؤسسات العلمية والتعليمية والثقافية، من أجل رسْم هويتها ورسالتها، وتوجيه خطابها وسرديتها. فالمتحكم في بيئة الصراع في كل هذه الحالات يضمن لنفسه توجيه الأمور الوجهة التي يريد، مع ترك هوامش للآخرين يتحركون فيها، وهم يحسبون أنهم أهل دور وأثر، لكنهم لا يؤثرون في مآلات الأمور.

  1. لا تنتحرْ خوف الموت

إن مفهوم بيئة الصراع أوسع من مجرد شكل الأرض التي تخاض عليها المعركة بالمعنى العسكري الضيق، أو العوامل المعنوية والنفسية والجسدية المؤثرة في المتحاربين. فهي تشمل كل ما يلابس الصراع من عوامل وظروف محفزة أو مثبطة، فضلًا عمَّا يُدْعى اليوم “البيئة الإستراتيجية” التي تشمل الظروف الإقليمية والدولية، سواء كانت معينة أو معيقة. ولأن بيئة الصراع بهذا المعنى ليست طوع يدك، فقد يتعين عليك الانتظار حتى تتحسن البيئة الإستراتيجية، تفاديًا لصراع مهلك في بيئة غير مواتية. وقد حذَّر صن تزو من تسرع القادة إلى الهجوم قبل نضج الظروف، فقال: “إذا عجز القائد عن السيطرة على تعجله، وأمر جنوده باجتياح الأسوار مثل النمل، فسيُقتل ثلث جنوده دون فتح المدينة. هكذا تكون المصيبة المترتبة على هذه الهجمات” (فص3، فق9).

ويُنسب إلى السياسي البروسي أوتو بيسمارك (Otto Bismarck) (1815-1898) أنه كان يقول: “الحرب الاستباقية انتحار خوف الموت”(69). وهو لا يقصد كل حرب استباقية طبعا، بل تلك التي تخاض في بيئة إستراتيجية غير مواتية؛ إذ لا يوجد صراع سياسي أو عسكري في فراغ، وكل الصراعات مرتبطة بسياقاتها وبيئاتها التي قد تكون مواتية لأحد الخصوم وغير مواتية لغيره. ومن الأخطاء الإستراتيجية المهلكة المسارعة إلى الحرب، تحت وطأة ظروف صعبة، أو انجرارًا وراء استفزاز من العدو، أو انتصارًا للكرامة الجريحة، أو انتقامًا لهزائم سابقة.. دون أخذ البيئة الإستراتيجية في الاعتبار.

وقد كان من ذكاء الثوار الجزائريين أنهم فجروا ثورتهم عام 1954 في أوج انشطار النظام الدولي، جرَّاء الحرب الباردة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي، مدركين أنهم سيكسبون الكثير من ذلك الانشطار. ولم يفزع المنظِّرون الإستراتيجيون الإسرائيليون من شيء فزعهم من ثورات الربيع العربي، بسبب ما كان سيترتب على نجاحها من تغير عميق في بيئة الصراع في غير صالحهم (70). ولذلك اعتبروا تحرر الشعوب العربية من الاستبداد خطرًا وجوديًّا على الدولة اليهودية. ويمكن اعتبار نقطة الضعف الأساسية في عملية “طوفان الأقصى” البارعة هي تفجُّرها في بيئة استراتيجية غير مواتية

  1. قايض الزمن بالثمن

يمكن اعتبار صن تزو من أبرز المفكرين في اقتصاد القوة، ومن أهم الأفكار التي ألح عليها فكرة الاستثمار في الزمن لتقليل الثمن، فهو يرى أن “السرعة هي جوهر الحرب” (فص11، فق29)، وقد اتبعه في ذلك شارحه شانغ يو فقال: “أقبلْ مثل العاصفة، وانسحبْ مثل البرق” (فص6، فق10). وكان صن تزو سبَّاقًا إلى التحذير من الحرب الطويلة، فهو يرى ذلك النمط من الحروب خسارة للمنهزم والمنتصر كليهما. وقد تردد هذا المعنى في أكثر من موضع من كتابه، ومنه قوله: “النصر هو غاية الحرب، فإذا طالت الحرب تثلمت الأسلحة، وانهارت المعنويات” (فص2، فق3). وقوله: “إذا تورط الجيش في حملات حربية طويلة فإن موارد الدولة لن تكفي لذلك” (فص2، فق4). بل إنه عمَّم الحكم في هذا المضمار، فذهب إلى أنه “لم يكسب بلد قط من حرب طويلة” (فص2، فق7).

على أن مبدأ التحذير من الحرب الطويلة ليس على إطلاقه، فهو إذا كان قد يصدق في الحرب بين الدول، فإنه لا يصدق على حروب التحرير بين الشعوب الثائرة ومستعمريها ذوي الجيوش النظامية، ففي هذه الحالة لا تكون الحرب الطويلة في صالح القوى النظامية للدولة الاستعمارية طبعًا، لكنها في صالح قوى التحرير. وقد أدرك ذلك الزعيم الصيني، ماو تسي تونغ، وهو تلميذ نجيب لفكر صن تزو. فإذا كانت الحرب الطويلة لا تخدم الدول -كما لاحظ صن تزو بحق- فهي تخدم حركات التحرر والثورات الشعبية، كما أدرك ماو.

ولذلك، نظَّر ماو لمنهج الحرب المتحركة الطويلة في استنزاف الاستعمار الياباني للصين مطلع القرن العشرين، وخصص قسمًا من كتاباته العسكرية لهذا الموضوع، فدعا إلى “حرب دفاعية طويلة الأجل”(71) ضد المستعمرين، وتساءل ماوْ: “هل تستطيع الصين أن تنتصر سريعًا؟ الجواب: كلا. لن تستطيع ذلك، وحرب المقاومة سوف تكون حربًا طويلة”(72). وقد تركزت إستراتيجية ماو على “النضال الطويل الذي يتخذ من الريف قواعد إمداد”(73).

وحاصل مبدأ مقايضة الزمن بالثمن أن الزمن ليس أمرًا ثانويًّا، فإذا تعجل المحارب قطف الثمار قبل إبانها فقد يخسر كل شيء، وإذا تأخر عن اقتناص الفرصة في وقتها فقد تتفلت من يديه إلى الأبد. وقد عبَّر عن ذلك أحد شراح صن تزو، وهو هو ينْ هسي بقوله: “حين يجلجل الرعد، فلا وقت لتغطية الآذان” (فص1، فق26). وفي التراث العربي أشار أسامة بن منقذ إلى قول الحكماء: “العجْز عجْزان: عجزٌ عن طلب الأمر وقد أمكن، والجد في طلبه وقد فات”(74). وحاصل هذا المبدأ وجوب الحذر من الحرب الطويلة بالنسبة للدول، أما الثورات وحركات التحرر فالزمن في صالحها عادة، وطول الحرب يعينها على استنزاف العدو، في ظل اختلال موازين القوة لصالحه.

  1. تدفقْ كالماء المنساب

يركز صن تزو في تنظيره الإستراتيجي على أهمية المرونة في التكيف مع السياقات المختلفة. وهو يستعمل استعارة بليغة في وصف الظروف المتبدلة في الحرب، فيشبه الحرب بالماء: “كما أن الماء ليس له شكل ثابتٌ، فكذلك الحرب لا تستقر على حال واحد” (فص6، فق28). كما يشبه الجيش ذا القيادة الرصينة بالماء المتدفق. فإذا كان الماء في انسيابه واندفاعه يغير مساره وشكله طبقًا لشكل الأرض التي يسيل عليها، فكذلك يجب أن يكون الجيش مرنًا متكيفًا مع تبدل الظروف وتفاعل الأعداء. يقول صن تزو: “يمكن تشبيه الجيش بالماء، فكما أن السيل يتجنب الأعالي، ويسارع إلى المنخفضات، فكذلك الجيش يتجنب مواطن قوة العدو، ويهاجم مواطن ضعفه. وكما يغير الماء انسيابه طبقًا لشكل الأرض، فكذلك الجيش يحقق نصره طبقًا لحالة العدو” (فص6، فق27-28).

فمرونة الماء المنساب تظهر في أنه لا يصادم المصاعب التي تعترض طريقه بفجاجة وعناد، بل يلتف حولها، كأنما لديه إحساس دائم بوجود ثغرة في الطريق المسدود. وهذه الثغرة الكامنة هي التي قصدها صن تزو بقوله: “إذا أحسن العدو إعداد مقدمة جيشه، فإن مؤخرة جيشه ستكون ضعيفة. وإذا أحسن إعداد مؤخرة جيشه فإن مقدمة جيشه ستكون هشة. وإذا أحسن إعداد ميْسرته فإن ميْمنته ستكون ضعيفة. وإذا أحسن إعداد ميمنته فسيكون عدد جنود ميسرته قليلًا. وإذا حاول حسْن الإعداد في كل موضع فسيكون ضعيفًا في جميع المواضع” (فص6، فق15).

ومن مرونة الماء المنساب أنه إذا انسدت في وجهه السبل ركد وتجمع، مستجمعًا قوته، ومكتنزًا طاقته، في انتظار اللحظة المناسبة حين يتراكم منه ما يكفي لمقاومة العائق الذي أوقف انسيابه. ففي أحوال الانسداد هذه يصبح اكتناز القوة، وانتظار تغير نوعي في البيئة الإستراتيجية، هو الخيار السليم. ولا تخدم هذه الصيغة الانسيابية الهجوم والمناورة العملية فحسب، بل هي إستراتيجية دفاعية وتنظيمية ناجعة كذلك. فالانسيابية تحْرم العدو من قراءة القوالب التنظيمية التي تضع فيها قواتك، وفهم أنماط النشاط التي تنتهجها في تحركاتك. وفي ذلك يقول صن تزو: “أفضل طريقة لتشكيل قواتك هي ألا يكون لها شكل محدد يمكن فهمه. وبذلك يعجز أمهر الجواسيس عن استيعاب وضْعك، ويعجز أحكم القادة عن التخطيط ضدك” (فص6، فق24). وهذا درس تنظيمي ودفاعي ثمين للقوى السياسية التي تتحرك تحت وطأة الاستبداد، ولحركات المقاومة والتحرير الذي تطاردها قوى الاستعمار.

إن مجاز انسياب الماء في نصِّ صن تزو يشير إلى نمط من المرونة التي لا تهدر الجهد في مغالبة العوائق بتسرع وعناد، بل تعْمد إلى استجماع القوة لمعركة المستقبل بصبر وروية. وحاصل هذه المرونة أنك إذا خسرت جولة من الصراع فلا تجمدْ على وسائل عتيقة، وخطط فاشلة. بل اعترِفْ بالواقع، وتراجعْ بحثًا عن فرص متجددة. فظهور مصاعب في الطريق لا يعني خسارة الحرب، وإنما يعني الحاجة إلى استكشاف دروب غير مطروقة، ومسالك جديدة للعمل، وشيء من مراجعة الذات، وشحذ الإستراتيجيات، وتحوير التحالفات.

ولا تنتهي أهمية هذه المرونة الانسيابية عند الشكل المرن، المتكيف مع السياقات والظروف وتطورات الصراع، بل تتجاوز ذلك إلى التكتيكات العملية؛ حيث يوصي صن تزو بتجنب تكرار المسالك السابقة، حتى وإن أثبتت جدواها، لأن التكرار يقضي على روح المفاجأة، ويجرد المبادرة من عنفوانها، ويجعل تنبؤ الخصم بسلوكك أمرًا سهلًا. وفي هذا المعنى، يقول صن تزو: “إذا انتصرتُ في معركة، فإني لا أكرر التكتيكات [التي بفضلها كسبت تلك المعركة]، بل أستجيب للظروف بأنماط وأشكال لا حصر لها” (فص6، فق26).

  1. اضْرب الخواصر الرخوة

يتفرع من مبادئ التكيف والمرونة الانسيابية والسيولة الدائمة التي يوصي بها صن تزو مبدأ عملي مهم، هو تجنب مواطن قوة العدو، واستهداف مواطن ضعفه، مثل الماء تمامًا حين يتجنب أعالي الأرض، وينساب في منحدراتها. فهذا هو الذي ينسجم مع فلسفة الاقتصاد في القوة، والسعي إلى تحقيق الغايات بأرخص ثمن وأخصر طريق؛ ذلك أن “المتوغل في مواطن ضعْف العدو يكون اندفاعه مطردًا دون عوائق” (فص6، فق10). وقد بنى صن تزو هذا التصور على إدراكه وجود ثغرات في صفوف الخصم دائمًا، مهما تكن تحصيناته، وأن البحث عن هذه الثغرات، والدخول منها بيسر إلى قلب العدو -على نحو ما ينساب الماء إلى منخفضات الأرض- هو الطريق الأسلم لتحقيق النصر.

وقد استمد عدد من الإستراتيجيين المعاصرين من صن تزو هذا المعنى، ولعل أبرزهم البريطاني ليدلْ هارتْ. فبينما اندفعت الجيوش الأوروبية إلى مذبحة الحرب العالمية الثانية أدرك ليدل هارت أن فكرة الحرب الشاملة عبر المصادمة المباشرة فكرة مدمرة، فاعترض على خوض الحرب بهذا النمط من الإستراتيجيات، ورفض أن يكون شريكًا فيما اعتبره جريمة التضحية العدمية بشباب الأمة البريطانية، وتدمير الحضارة البريطانية(75).

وأكد هارتْ في تقديمه ترجمة غريفيثْ لكتاب صن تزو على أن الحضارة الغربية لو كانت استمدت من فكر هذا الحكيم الصيني لكانت وفرت على نفسها بحارًا من الدماء التي سالت في الحربين العالميتين خلال القرن العشرين، مشيدًا بما في نص صن تزو من حس “الواقعية والاعتدال”(76) والاقتصاد في الدماء والأموال. ولم يخرج هارت في كتاباته الإستراتيجية والعسكرية الوافرة عما دعا إليه صن تزو؛ فقد ألح على تجنب الحروب غير المثمرة، وتفادي المجابهات التصادمية المدمرة، واستهداف مواطن ضعف العدو، واستثمار أخطائه.

  1. امزجْ الدفاع بالهجوم

ليس فكر صن تزو جامدًا على مسار الهجوم المحض أو مسار الدفاع المحض، بل هو فكر ديناميكي، يضع كلًّا من المسارين في سياقه، ويرجحه ضمن المعادلات العملية النسْبية. فهو يؤكد أولًا على أن “الحصانة تكمن في الدفاع، أما فرص النصر فتكمن في الهجوم” (فص4، فق5). فلكل من الهجوم والدفاع وظيفة، ولا يسد أي منهما مسد الآخر. فحين تكون الأولوية هي تحصين الذات والمحافظة على رصيد القوة المتحصل، فالمنحى الطبيعي هو الدفاع. وحين تلوح فرصة الظفر على العدو فلا مناص من الهجوم. يقول صن تزو ناقلًا عن أسلافه من حكماء الصين الأقدمين: “فيما سلف كان المتمرسون بالحرب يحصنون أنفسهم أولًا، ثم ينتظرون لحظة ظهور ثغرة في دفاعات العدو ليهاجموا” (فص4، فق1). وهذا منسجم مع ما ذهب إليه بعض المنظِّرين العسكريين في التاريخ الإسلامي، ومنهم الهرثمي الذي يقول: “أول ما يحتاج إليه صاحب الجيش هو أن يكون في حال الأمن -وقبل أن يفجأه عدوه- قد حصن نفسه”(77).

كما يضع صن تزو قضية الهجوم والدفاع في سياق موازين القوة. فالوضع الطبيعي للطرف الأضعف أن يميل إلى الدفاع، وللطرف القوي أن يميل إلى الهجوم: “فعلى المرء أن يقتصر على الدفاع حين تكون قوته دون قوة خصمه، وأن يهاجم حين يملك فائض قوة” (فص4، فق6). وقد لا تكون هذه المعادلة دقيقة في كل الظروف، خصوصًا في حروب الثورات وحركات التحرر، التي تعتمد منهج الاستنزاف البطيء، وتسجيل النقاط المتراكمة، من خلال الهجمات الصغيرة المتكررة، المرهقة للجيوش النظامية.. لكنها تظل صحيحة كقاعدة عامة في الصراع بين الدول.

على أن صن تزو لا يفصل بين الهجوم والدفاع فصلًا حديًّا، وإنما يجعل الأمر أشبه بالكيمياء المعقدة التي تستلزم خبرة ومهارة، لمزج العناصر الدفاعية والهجومية. فضمْن تطبيقه لفلسفة اقتصاد القوة التي يتقنها، ينصح صن تزو بالتظاهر بالضعف، مع اقتناص كل فرصة تسنح، والولوج من أي باب يفتح. وبهذه الخلطة المركبة من الدفاع والهجوم يتحقق النصر لكن هذه المزاوجة بين الهجوم والدفاع لا تتحقق إلا بالبراعة في مخادعة العدو واستغفاله، بزرع انطباع خاطئ في نفسه عن مواطن قوتك وضعفك، وعن نياتك وتحركاتك. وكما يقول صن تزو: “فأمام براعة المتمرسين في الهجوم لا يعرف العدو أين يهاجم، وأمام براعة المتمرسين في الدفاع لا يعرف العدو أين يدافع” (فص6، فق8).

  1. وسِّعْ خزان خياراتك

ومن أهم جوانب فكر صن تزو الإستراتيجي مبدأ التركيب بين القوة العادية والقوة الاستثنائية، وهو تركيب لا حصر لأشكاله وأنماطه، لأنه ينتج أنماطًا لا تُحصى من المناورات التي يمكن الانتقاء منها والتركيب بينها، حسب ظروف الزمان والمكان والإمكان. يقول صن تزو: “في ساحة الحرب توجد قوتان فقط: القوة العادية والقوة الاستثنائية لكن صور التركيب بينهما لا حصر لها” (فص5، فق11). وهو يستعمل مجازات من الموسيقى والألوان والأذواق لشرح هذه الفكرة فيقول: “المقامات الموسيقية خمسة فقط، لكن مزجها يُنتج أعدادًا من الألحان لا يستطيع إنسانٌ سماعها كلها لكثرتها. والألوان الأولية خمسة فقط، لكن مزجها ينتج أعدادًا من الألوان لا يستطيع إنسان رؤيتها كلها لوفرتها. والطعوم خمسة فقط في عددها، لكن خلطها ينتج أعدادًا من النكهات لا يستطيع إنسان تذوقها كلها لتنوعها” (فص5، فق8-10). وهكذا يتوقف أثر كل مناورة على مناسبتها للسياق والبيئة الإستراتيجية. والتركيب بينها ينتج أعدادًا لا حصر لها من فرص التحرك ضد الخصوم. وتبدو الإستراتيجيات الست والثلاثون منسجمة تمامًا مع رؤية صن تزو في هذا المضمار؛ إذ جاءت القاعدة الخامسة والثلاثون منها بعنوان: “إستراتيجية التكتيكات المركبة”، وهو ما عبَّر عنه صن تزو بمجازات الموسيقى والألوان والأذواق آنفة الذكر. فالإستراتيجيات والتكتيكيات البسيطة ذات البعد الواحد يسهل فهمها وإفشالها، لكنها حين تكون مركبة من عناصر شتى، ومفتوحة على أكثر من مسار، فسيعْسر على الخصم تتبعها وإبطالها. ولذلك ينظِّر بعض الإستراتيجيين المعاصرين لمفهوم “خزان الخيارات الإستراتيجية”(78) pool of strategic options في التعاطي مع التحديات، بدلًا من اعتماد إستراتيجية واحدة، ذات بعد واحد.

وليس المقصود هنا بخزان الخيارات الإستراتيجية مجرد وجود خطط بديلة، والقدرة على الانتقال من الخطة (أ) إلى الخطة (ب) في مسار مستقيم، بل المقصود السير في مسارات متوازية وملتوية، والتركيب المبدع بين أكثر من إستراتيجية وخطة وتكتيك. لقد آمن صن تزو بأنه “لا يوجد شيء مطرد في الحرب، باستثناء التغير المطرد”(79). فلكي تظل تحركاتك فعالة ومربكة للخصم، تحتاج إلى توسيع آفاق مناوراتك، وتجديدها وتعقيدها باستمرار، من خلال تركيب الإستراتيجيات والخطط والتكتيكات، وتجنب الجمود على أنماط يسهل التنبؤ بها والتصدي لها.

  1. تمرسْ بفنون الخداع

ورد في الحديث النبوي: “الحرب خدعة”(80)، كما ورد فيه: “لم يكن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها”(81). وقد توصل صن تزو لحكمة مشابهة، فكتب في الفصل الأول من كتابه: “كل الحروب مبنية على الخديعة” (فص1، فق17)، ثم فصَّل هذا المعنى تفصيلًا إجرائيًّا في ثنايا الكتاب، متخذًا لكل حالة ما يناسبها من أنماط الخديعة فكتب: “استغل غفلة عدوك، وسافرْ عبر الدروب غير المطروقة، ثم هاجمْه من حيث يأمنك” (فص11، فق29). وقال: “حين تكون قريبًا تظاهرْ بالبعد، وحين تكون بعيدًا تظاهرْ بالقرب” (فص1، فق19). وزاد شارحه مينغْ الأمر تفصيلًا، فعلَّق قائلًا: “اعتمدْ أنماطًا عديدة من الخداع: تراءَ لعدوك في الغرب، وهاجمه في الشرق. أغْرِه بالقتال في الشمال، واضربه في الجنوب” (فص11، فق 26).

ولا يكتفي القائد البصير بخداع عدوه، بل هو مضطر إلى خداع ضباطه وجنوده كذلك، حرصًا على صيانة الخطط من الانكشاف للعدو، وضمانًا لتحقيق الغايات المبتغاة دون معوقات، فالقائد “ينبغي أن يكون قادرًا على كتم خططه عن ضباطه وجنوده” (فص11، فق43)، كما يقول صن تزو. وإلى ذلك أضاف شارحه “تساوْ تساوْ” معلقًا: “يستطيع جنوده مشاركته في الاحتفال بالنصر، لا مشاركته في وضع الخطط” (فص11، فق43).

وقد وردت فكرة الخداع الحربي في عدد من الإستراتيجيات الست والثلاثين، ومنها القاعدة السادسة: “املأ الشرق صخبًا، وهاجمْ في الغرب”، وهي مستمدة من نص صن تزو كما هو واضح، وفحواها زرع توقعات زائفة في ذهن العدو، وتحييد جزء من قوته باستثارته في مواطن يتوقع منك ضربها، وبذلك تتمكن من مهاجمته من مـأمنه. وأكثر تلك القواعد فجاجة في هذا المضمار هي القاعدة العاشرة: “أخْف خنجرك خلف ابتسامتك” التي تنصح بالتظاهر للعدو بالمودة، وعدم إظهار أي شيء أمامه غير النيات الحسان إلى حين الاقتدار على منازلته بجدارة، ثم مباغتته في الخفاء بضربة لا تقوم له بعدها قائمة.

بل إن القاعدة الأولى من الإستراتيجيات الست والثلاثين تتضمن حثًّا على الخداع، لكن بطريقة مركبة: “خادع السماء من أجل عبور البحر”. والمقصود بذلك أن المخادعة بوسائل التستر والكتمان المعتادة لا تفيد، بل تزيد الشك، وتزرع الريبة، وأن المخادعة الفعالة للعدو تكون بإخفاء النيات المستترة في بحر من العمل العلني الصاخب. فإذا أردت النجاح في خديعة العدو، فاجعله يتخلى عن حذره، باستثارته استثارة علنية متكررة تفقده الإحساس. وحينما يتخدر إحساسه، ويتخلى عن يقظته، فتلك هي اللحظة المناسبة للهجوم.

ولعل أبلغ تجسيد لهذه الإستراتيجية هو ما فعلته مصر بإسرائيل تمهيدًا لحرب رمضان عام 1973. فقد انبنت “خطة بدر” لعبور قناة السويس، وتحرير ضفتها الشرقية من الاحتلال الإسرائيلي، على خطة خداع إستراتيجي أساسها تكرار المناورات العسكرية على الضفة الغربية لقناة السويس تحت سمع وبصر الإسرائيليين، وفيْض التصريحات والتهديدات من الجانب المصري عن قرب الحسم؛ مما خدر حاسة الإسرائيليين، فلم يعودوا يأخذون المناورات والتصريحات المصرية على محمل الجد، حتى فاجأهم الجيش المصري بهجومه الساحق في وضح النهار(82). ومثل ذلك فعلته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في الإعداد لعملية “طوفان الأقصى”، فقد استنزفت الإسرائيليين بكثرة المناورات، حتى خدرت حاستهم الأمنية، ثم صبحتهم بهجومها الصاعق على حين غرة فجر يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

  1. استفْززْ الخصم لتفْهمه

وينصح صن تزو بأنك إذا لم تفلح في فهم خطط عدوك، فهاجمْه هجومًا استفزازيًّا، ثم تمعن في ردَّات فعله، فسيكشف لك ذلك أنماط تفكيره وخططه وحركته: “استفززْه وتأمل أنماط حركاته… أَثِرْ حفيظته لتفهم مواطن فائض قوته، ومواطن نقْصها” (فص6، فق21). وكنا ذكرنا من قبل أن فكر صن تزو يختلف عن الفكر الإستراتيجي الغربي الذي ينحو منحى المصادمة المباشرة، ويؤدي إلى دفع الأثمان الباهظة من طرفي الصراع، وأن صن تزو يميل إلى تبني الإستراتيجيات المركبة ذات المرونة العالية. فهو يقسم الهجوم إلى نمطين: مباشر، وغير مباشر. والهجوم غير المباشر أهم عنده من المباشر. فالهجوم المباشر مجرد عمل تكتيكي لاستفزاز العدو، وقياس حجم قوته، وكشف نياته وتحركاته، أما الهجوم غير المباشر فهو الهجوم الإستراتيجي الذي يؤمِّل تحقيق النصر من خلاله. يقول صن تزو: “من يتقن فن الهجوم المباشر والهجوم غير المباشر سينتصر. ذلك هو فن المناورة” (فص 7، فق6).

ويوصي صن تزو بتوزيع القوة إلى مسارين يكمل بعضهما بعضًا، وذلك بوضع القوة العادية في مواجهة العدو لمشاغلته، أما القوة الاستثنائية فتكون أداة المناورة والالتفاف لتحقيق النصر: “كقاعدة عامة في ساحة المعركة، استخدم القوة العادية للاشتباك مع العدو، واستخدم القوة الاستثنائية للانتصار عليه” (فص5، فق5). فالهجوم المباشر في نظر صن تزو مجرد استثارة للعدو لكشف خباياه، وفهم نياته وتحركاته. أما الحرب الحقيقية فهي تلك التي تأتي في صيغة هجوم التفافي غير مباشر. وقد وردت في أربع من الإستراتيجيات الست والثلاثين أربعة مجازات تعبِّر عن هذا المعنى بصيغ مختلفة، وهي كلها تدعو إلى استفزاز العدو للوقوف على حقيقة نياته، وفهم مسار تحركاته. هذه القواعد هي القاعدة الثالثة عشرة: “اضرب العشب لإخراج الثعبان من جحره”، والخامسة عشرة: “أغْر النمر بالنزول من الجبل”، والعشرون: “خضْخض الماء تمسك السمك”، والثامنة والعشرون: “اسْحب السلم بعد إغراء عدوك بصعود السقف”.

وحاصل هذه القواعد الأربع أنك إذا التبستْ عليك خطط العدو، فعليك افتعال أمر غريب يلفت انتباهه، أو تقديم فرصة زائفة بين يديه يغويه بريقها، أو شحْذ نرجسيته وإثارة حميته بعمل استفزازي لا يملك إلا أن يستجيب له. وبذلك يغدو منكشفًا تمامًا، ويصبح تخطيطك لمواجهته أمرًا ميسورًا. وغالبًا ما تنجح هذه المكيدة مع القادة الأغرار والمغرورين، فتنكشف خططهم ومواطن ضعفهم. أما القادة المتمرسون فلا تنطلي عليهم عادة، بحكم حصانة الخبرة، وتراكم التجربة. وقد برع ماو تسي تونغ في استعمال هذه المكيدة في حرب التحرير الصينية ضد الاستعمار الياباني، وكان يدعوها إستراتيجية “الإغراء العميق”(83).

  1. اسْحب العدو لساحتك

يقول صن تزو: “إن المتمرسين بالحرب يجلبون عدوهم إلى ساحة المعركة، ولا يجلبهم إليها” (فص6، فق2)، وهم “يتحكمون في حركة العدو من خلال افتعال ظروف يضطرونه للخضوع لها” (فص 5، فق20). فهو ينصحك بالإمساك بزمام المبادرة، وسحب الخصم إلى الساحة التي تُحسن منازلته فيها، وفرض المواجهة عليه ضمن الشروط التي تضمن لك الظفر، بعد أن تبعده عن منابع قوته ومصادر إمداده، وعن الظروف والسياقات المعينة له عليك. ولذلك رتَّب صن تزو أنماط المواجهات مع العدو من حيث المواتاة، فجعل أسوأها مهاجمة المدن والقلاع الحصينة، قائلًا: “إن أسوأ السياسات هي مهاجمة المدن. لا تهاجم المدن إلا إذا لم يكن لديك خيار آخر” (فص3، فق7)، وحذَّر من أن “الجنود إذا هاجموا المدن فستُستنزف طاقتهم” (فص2، فق3).

لكن صن تزو نبَّه إلى أن “من يستطيع سحب العدو إلى ساحته يفعل ذلك بمنح عدوه مكسبًا” (فص6، فق3). فلن يتحقق لك سحب العدو إلى ساحتك إلا بإغرائه بمكسب لا يستطيع مقاومته، أو السكوت له عن أمر يرضي غروره، لكي يطمئن لوضعه وهو سادرٌ في غفلته، وسائرٌ في طريق الخسارة الإستراتيجية. وقد تردد هذا المعنى في أكثر من موضع من نص الإستراتيجيات الست والثلاثين، فالقاعدة الثانية منها تقول: “حاصرْ (ويْ) من أجل إنقاذ (زاوْ)”، وهي حكمة مستمدة من صراع الدويلات الصينية القديمة. وحاصلها أنه إذا تعذرت المصادمة المباشرة مع عدو متحصن في حصن منيع، فهاجمْ شيئًا عزيزًا عليه خارج ذلك السياق، لسحبه إلى الأرضية التي تُحسن مواجهته عليها. وحينما يستنفر العدو تحت وطأة إغرائك له، ويسير إلى أرضية المواجهة المواتية لك، فبادرْ إلى اغتنام الفرصة، وهاجمه في السياق المواتي لك.

ولعل أبلغ مثال على هذه المكيدة الإستراتيجية خطة السلطان صلاح الدين الأيوبي (532-589ه/ 1137-1193م) في سحب جيش مملكة بيت المقدس الصليبية إلى معركة حطين عام 1187م، في فضاء مفتوح، بعيدًا عن القلاع والحصون التي يتعسر على المسلمين اقتحامها. فبعد أن قرر صلاح الدين أن هضبة حطين قرب بحيرة طبرية هي الموقع الأنسب لمواجهة العدو الصليبي، استخدم وسيلة إغراء فعالة لسحب العدو إلى ذلك الموقع، وهي مهاجمة بلدة طبرية التي تحكمها أميرة الجليل الصليبية، أشيفا (ت1187م) زوجة ريموند الثالث (1140-1187م)، أمير طرابلس، وأحد قادة الصليبيين. وكان العرف لدى الفرنجة أن يهب ملكهم بجيشه لنجدة أي بلدة يملكها أحد قادته، وزاد من إغرائهم للنجدة وحميتهم للقتال وجود الأميرة الصليبية داخل القلعة المحاصرة.

وقد أدرك قاضي جيش صلاح الدين، بهاء الدين ابن شداد (539-632ه/ 1145-1234م)، عمق المكيدة التي أوقع فيها السلطان أعداءه الصليبيين باستثارة حميتهم، فكتب عن ذلك يقول: “ولما بلغ العدو ما جرى على طبرية، لم يأخذهم الصبر دون إجابة الحمية، فرحلوا من وقتهم وساعتهم، وقصدوا طبرية للدفع عنها”(84). وذاك ما قصد إليه صلاح الدين وخطط له. وهكذا نجح صلاح الدين في سحْب الصليبيين إلى ساحة المعركة التي تناسبه، وإيقاعهم في الشرك الذي نصبه. وحين خرجوا إلى طبرية اعترض جيشهم ودمر قوتهم العسكرية والسياسية على ضفاف بحيرة طبرية، بعد أن حرمهم الوصول إلى مائها (مطبِّقًا بذلك قاعدة التحكم في بيئة الصراع).  وكانت معركة حطين الفاصلة هي التي قصمت ظهر القوة الصليبية، فانفتحت بعدها مباشرة الأبواب لتحرير القدس، ونهاية المشروع الصليبي.

  1. أوقع العدو في شلل إدراكي

لقد رأينا أن الحرب من منظور صن تزو عمل ذهني ونفسي قبل أن تكون جهدًا ماديًّا وقتاليًّا، وأن المعارك تُحسم في الأذهان قبل أن تحسم في الميدان. ولذلك عدَّ باحثون عسكريون معاصرون صن تزو ممن بذروا بذور علم النفس العسكري(85). ويتضح هذا من تنظيره للتلاعب الذهني والنفسي بالخصم، من أجل وضعه في حالة شلل إدراكي، تفقده روح الاتزان وحاسة التفكير السليم. يقول صن تزو: “استثرْ غضب قائد العدو، وشَوِّش تفكيره… أبْقه تحت الضغط، واستنزف طاقته” (فص1، فق22،24). ويضيف شارحه مينغْ: “أثرْ حفيظته، وشوشْ تفكيره، لكي يشتت قوته في حيرة” (فص11، فق 26).

فإذا كان قائد العدو مغرورًا، سريع الغضب، سطحي التفكير، ضعيف النظر في العواقب، فتلك حالة مثالية للتشويش الإدراكي. وفي ذلك يقول أحد شراح صن تزو، وهو شانغْ يو، مفصِّلًا فكرة أستاذه: “إذا كان قائد جيش العدو متعجرفًا سريع الغضب، فاشتمْه واستثـرْ غضبه، وبذلك ستثور ثائرته، ويتشوش تفكيره، ويهاجمك بتهور دون خطة” (فص1، فق22).  كما يقول في موضع آخر مؤصلًا لهذا الأمر تأصيلًا نفسيًّا: “إن القلب هو منبع قوة القائد. فالانضباط والتشوش، والشجاعة والجبن، صفات يتحكم فيها القلب. لذلك فإن المتمرس في السيطرة على عدوه يثير حفيظته ثم يهاجمه. فهو يستثير غضبه ليشوش تفكيره، ويستفزه ليرعبه. وبذلك يجرد عدوه من قلبه، ومن قدرته على التخطيط” (فص7، فق20).

وقد يستلزم إيقاع العدو في الشلل الإدراكي اختراقًا لصفه، لا بالمعنى الأمني والاستخباري الذي يعني الحصول على معلومات من داخل صف العدو، فذلك أمر شائع وسهل نسبيًّا. وإنما بمعنى الاختراق الإستراتيجي الذي يجعلك تشارك في صناعة قراراته، وحسْم خياراته. وبهذا توصي القاعدة الثلاثون من الإستراتيجيات الست والثلاثين: “انتقلْ من موقع الضيف إلى موقع المضيف”. والمقصود بها السعي إلى اختراق صناعة قرار العدو، وفكره ونفسيته، ورؤيته لأعدائه وأصدقائه، ثم توجيه تصوراته وخططه من الداخل، بما يخدم تحكمك فيه، وسيطرتك عليه.

ومما يدل على أصالة صن تزو وسبقه زمانه أن إيقاع العدو في شرك الشلل الإدراكي، باختراق منظومة رؤيته وتصوراته، مفهوم جديد نسبيًّا في الفكر الإستراتيجي، وهو المفهوم الذي اشتهر به المفكر العسكري الأميركي، جون بويْدْ (1927-1997)، مصمم طائرات إف 15 وإف 16 المقاتلة، وأحد أبرز المنظرين الإستراتيجيين في عصرنا، حتى إنه وُصِف بأنه “الطيار المقاتل الذي غيَّر فن الحرب”(86)، وبأنه “عقل الحرب”(87). ويعتبر مفهوم الشلل الإدراكي أهم إسهامات جون بويدْ في الفكر الإستراتيجي.

والواقع أن جون بويد استمد فكرة الشلل الإدراكي من صن تزو، كما يقر بذلك كاتب سيرته، روبرت كورام (Robert Coram)، الذي كتب: “يقول بويد مستمدًّا من صن تزو: إن القائد الأمثل هو الذي يحقق النصر دون قتال، لأن غايته هي تشتيت الخصم، وشل تفكيره، وهدْم قوته، من خلال زرع الفوضى والذعر والاختلال في صفوفه”(88).

  1. كنْ من عقلاء المجانين

وفي مقابل سعيك إلى إيقاع عدوك في الشلل الإدراكي والتشوش العقلي، يوصيك صن تزو بالتظاهر أمام العدو وكأنك أنت المشوش الذي لا يدرك ما يفعل: “تظاهرْ بالتشوش” (فص1، فق20). وفي هذه الحالة الخداعة سيكون “التظاهر بالتشوش ثمرة من ثمار النظام المحكم، والتظاهر بالجبن ثمرة من ثمار الشجاعة، والتظاهر بالضعف ثمرة من ثمار القوة” (فص5، فق18). وانسجامًا مع هذه الفكرة، توصي القاعدة السابعة والعشرون من الإستراتيجيات الست والثلاثين بوصية غريبة، وهي: “تظاهرْ بالجنون لكن حافظْ على اتزانك”.

ويمكن تفسير هذه القاعدة على وجهين: أحدهما افتعال الغضب والانفعال أمام الخصم لابتزازه وتخويفه، وتشجيعه على قراءة نفسيتك ووضعيتك بطريقة خاطئة مبالغ فيها. والثاني: التظاهر بالضعف الإدراكي وبعدم فهم بواطن الأمور، لكي يستصغر العدو قوتك الإدراكية، ويستهزئ بنمط تفكيرك. فيكون المقصود هنا هو التمسْكن من أجل التمكن، على نحو ما نظَّر له صن تزو في قوله: “حين تكون قويًّا تظاهرْ بالضعف، وحين تكون نشطًا تظاهرْ بالخمول” (فص1، فق18)، وقوله: “كن خجولًا مترددًا مثل الفتاة العذراء، وحين يمنحك العدو فرصة كن جريئًا وسريعًا مثل الأرانب البرية، وبذلك لن يستطيع الصمود في وجهك” (فص11، فق61).

وفي كلا التفسيرين تشير قاعدة التظاهر بالجنون إلى أهمية إيقاع العدو في سوء تقدير قوتك الإدراكية والتخطيطية، إلى أن يقع في حبائلك. فمقتضى هذه القاعدة هو التنازل عن المواهب الإدراكية في الظاهر، مع الاحتفاظ بكامل اليقظة العقلية في الباطن. وهي تذكِّرنا بكتاب عقلاء المجانين لابن حبيب النيسابوري (ت406 ه/ 1016م). فقد ضمَّن ابن حبيب كتابه الطريف فصولًا معبِّرة عن هذا المنحى منها: فصل “من تجانَّ وتحامق وهو صحيح العقل،” وفصل “من تحامق ليرخي وقتًا ويطيب عيشًا”، وفصل “من تحامق لينال غنًى”، وفصل “من تحامق لينجو من بلاء وآفة!”(89).

ومن الطرائف ذات الصلة بسياق هذه الدراسة أن أحد عقلاء المجانين الذين ذكرهم ابن حبيب في كتابه كان يستعيد عقله في أوقات الحرب، ثم يعود لجنونه في أوقات السلم! وهو رجل من أهل بلدة طرسوس الموجودة بولاية مرسين التركية اليوم؛ حيث “كان بطرسوس مجنون اسمه رزام، وكان إذا خرج المعسكر خرج مع الناس، وأخذ سيفًا ودرقةً، ولا يزال يلْقى أعداء الدين. فإذا حصل في الحرب زال عنه جنونه، فإذا انقضى القتال، فعاد إلى البلد، رجع إلى جنونه”(90). فما أحوجنا إلى “عقلاء المجانين” الذين يستعيدون عقولهم وقت الحرب، وما أغنانا عن “مجانين العقلاء” الذين يفقدون عقولهم وقت الحرب، فيوردون شعوبهم المهالك.

  1. تقبل الخسائر المحسوبة

لكل أمر ثمين ثمنه، ويستلزم الظفر بالعدو ثمنًا، وهو التضحية له أحيانًا ببعض المكاسب غير الجوهرية، ضمانًا لسحبه إلى الشرك الإستراتيجي الذي سيودي به. ولن يتحقق ذلك إلا إذا قبلت ببعض الخسائر التكتيكية ثمنًا لما ستجنيه من مكاسب إستراتيجية. توصي الحكمة الإستراتيجية الصينية العتيقة بألا تحرص على الكسب في كل حال، فذلك غير ممكن، وهو سعي يخل بالأولويات، ويؤدي لضعف خطوط الدفاع، وتراخي خطوط الهجوم؛ ذلك أن “الحرص على كسب كل شيء يقود لخسارة كل شيء”(91). فلا مناص من ترتيب المكاسب والخسائر ترتيبًا سليمًا، وقبول ما ليس منه بدٌّ من خسائر محسوبة، لا تؤثر على مآلات الصراع.

وإلى هذا المعنى أشار صن تزو في قوله: “قدم للعدو طُعمًا يغريه… ثم اضربه بقوة” (فص1، فق20). وقوله: “سِرْ عبر طريق غير مباشر، وشوِّش تفكير العدو بمنحه طعمًا… فمن يفعل ذلك فقد استوعب إستراتيجية الهجوم المباشر وغير المباشر” (فص7، فق3). كما تردد هذا المعنى في عدد من الإستراتيجيات الست والثلاثين، ومنها القاعدة الحادية عشرة: “ضَحِّ بشجرة البرقوق تكسبْ شجرة الخوخ”، والسابعة عشرة: “تخلصْ من الطوب تحصلْ على حجر اليشم”، واليشم نوع من الأحجار الكريمة التي تُستعمل في الزينة. ومقتضى هاتين القاعدتين هو أن الحرص الشديد على الاستحواذ على كل شيء كثيرًا ما يقود إلى خسارة كل شيء، وأن التضحية المؤلمة ببعض المكاسب هي الطريق الوحيد أحيانًا للفوز في النهاية. فلا تترددْ في التضحية بالخسائر الصغيرة مقابل المكاسب الكبيرة. فهذا النوع من التضحية يمنح العدو إحساسًا زائفًا بالنصر، فيوقعه في الغفلة عما هو آت، ويجعله لقمة سائغة لك.

ومن أعظم الأمثلة على قبول الخسائر المحسوبة قبول الحلفاء بخسائر جدية في الحرب العالمية الثانية بسبب هجمات ألمانية عديدة، سكتوا عليها رغم علمهم السابق بها، وقدرتهم على وأدها، تجنبًا لانكشاف أعظم مكسب استخباري لهم، وهو تمكنهم من اختراق نظام الشيفرة الألمانية “أنيغْما”. ولم يكن في وسع الحلفاء التفريط في هذا الاختراق الذي لا يقدر بثمن، مهما تكن التضحيات، لأنه هو الذي سيمكنهم في النهاية من النجاح في القضاء على ألمانيا النازية في معركة النورماندي الشهيرة على السواحل الفرنسية عام 1944. وكان اختراق أنيغما “أعظم سر في الحرب العالمية الثانية بعد القنبلة النووية”(92). ولذلك تقبل الحلفاء خسائر عديدة على أيدي الألمان، تجنبًا لهدْر هذا الكنز الإستراتيجي.

  1. قاتلْ بسيف مستعار

إن الاستظهار بقوة الغير أمر ضروري في غالب الأحيان، تعضيدًا لقوتك، واقتصادًا في تبديدها. وهذه هي غاية الأحلاف السياسية والعسكرية عمومًا، فهي نوع من التلاقي في المناطق الرمادية مع قوى أخرى، لتحقيق غايات مشتركة للمتحالفين. وقد حرص صن تزو على هذا المبدأ حتى في تعامله مع أسرى العدو. فهو يوصي بمعاملة الأسرى معاملة كريمة من أجل كسب قلوبهم وضمهم إلى صفك. يقول صن تزو: “تعامل مع الأسرى بلطف وعاملهم بإحسان، فهذا يسمى الانتصار في المعركة وزيادة القوة في الوقت ذاته” (فص2، فق19-20). ويعلق على ذلك شارحه شانْغْ يو قائلًا: “يجب الاعتناء بجميع الجنود [من أسرى العدو] بكل كرم وتعاطف، لكي نستطيع استخدامهم” (فص2، فق19).

وربما يرجع الحض على حسن معاملة الأسرى في هذه النصوص الصينية الكلاسيكية إلى ما أشرنا إليه من قبل من كون المتحاربين كانوا أبناء الحضارة الصينية الواحدة، وغاية الكثير من تلك الحروب هي توحيد الصين تحت راية امبراطورية واحدة. فهذا التماهي بين المتحاربين، وهذا النزوع الوحدوي يستلزمان شيئًا من لطف المعاملة وكسب القلوب. ولم يكن صن تزو مجرد مفكر عسكري، بل كان مفكرًا سياسيًّا، يراعي الجوانب السياسية والاجتماعية والنفسية للحرب، وقد أدرك أن الحرب يجب أن تكون خادمة للسياسة، قبل ألفي عام من إطلاق كلاوس فيتز عبارته المتداولة على الألسنة اليوم: “إن الحرب ببساطة هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى”(93).

لكن العنوان الذي استخدمناه لهذا المبدأ هنا تحويرٌ لصيغة أكثر فجاجة وردت في القاعدة الثالثة من الإستراتيجيات الست والثلاثين، ونصها: “اقتلْ بسيف مستعار”. وترمي هذه القاعدة إلى معنى أكثر انتهازية مما قصدناه هنا، وحاصله أنه يوجد دائمًا حمقى مفيدون useful idiots بالتعبير الأميركي، يمكنك استغفالهم واستغلالهم ليتحملوا عنك بعض الأعباء والأوزار وهم لا يشعرون، وما عليك إلا أن تتملك أهدافهم وتصادرها، وتجعلها خادمة لأهدافك. فهنا تكون الاستعانة بقوة غيرك أكثر انتهازية، حتى في العلاقة بالحلفاء.

وتبعًا لهذا المنطق الانتهازي فإنك تستطيع أن تستخدم قوة الآخرين ومواردهم في محاربة عدوك، وأن تتخذ من حلفائك المغفلين -ومن أعدائك الحمقى- واجهةً ودرعًا في حروبك. وطبقًا لهذه القاعدة فإن عليك أن تقتصد في قوتك ومواردك، ولا تبددها فيما ليس ضروريًّا، وأن تتخفف من الأثمان المادية والمعنوية لحروبك وتحمِّلها للآخرين، وأن تضرب من تحت الخاصرة خفْيةً، وتوجه سهام الانتقام إلى غيرك.

وقد برعت القوى الكبرى المعاصرة في استعمال الدول الصغيرة ذات القيادات المتهورة أو البلهاء هذا الاستعمال الانتهازي في حروب الوكالة بينها؛ إذ لم تشهد أربعون عامًا من المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي على النفوذ الدولي مواجهةً مباشرةً بين الجنود الأميركيين والسوفييت، بل كانت كل الحروب التي خاضها الطرفان في فترة الحرب الباردة حروبًا بالوكالة. وإن خاضها أحدهما بجنوده قاتله الثاني بجنود غيره، تطبيقًا لقاعدة القتال بالسيف المستعار.

ومن الأفكار المهمة التي استلهمها الجنرال الأميركي، ديفيد بترايوس، من صن تزو، وطبقها خلال الحروب الأميركية التي قادها في المنطقة العربية والعالم الإسلامي -خصوصًا في العراق وأفغانستان- فكرة القتال بسيف مستعار، أي القتال بأيدي الآخرين ودمائهم. وقد كتب بترايوس في تقديمه لكتاب صن تزو: “في الأعوام الأخيرة أصبحنا نقاتل من خلال الآخرين. فنحن نقدم المشورة لقوات الدول التي تستضيف قواتنا، ونمكِّنها من القتال، بدلًا من الانخراط في القتال بأنفسنا”(94). وبذلك نفهم أن للحكمة الصينية الداعية إلى القتال بسيف مستعار وجهها الآخر المهم، وهو التحذير من أن تكون سيفًا مستعارًا بأيدي الآخرين يخوضون حروبهم بدمائك. وما أحوجنا اليوم في المنطقة العربية والعالم الإسلامي إلى هذا الوجه من الحكمة الصينية!

  1. جفِّفْ منابع القوة

من الإستراتيجيات الصينية العتيقة استهداف مصادر قوة الخصم بهدوء، وتجفيف منابعها دون إثارته، بدل استهدافه استهدافًا مباشرًا بطريقة تصادمية. فهذه الإستراتيجية تضمن لك نضوب قوة الخصم، وتلاشي طاقته تدريجيًّا، فتصبح هزيمته على يديك أمرًا محسومًا. ويدخل ضمن هذه الإستراتيجية كل ما يتعلق بالأحلاف السياسية والعسكرية وغيرها. وقد اهتم صن تزو بقضية الأحلاف، وألحَّ على ضرورة عزل العدو عن مصادر قوته وروافد مدده، بتفكيك أحلافه العسكرية والسياسية، حتى إنه عَدَّ “أهم شيء في الحرب هو ضرب إستراتيجية العدو، ثم يلي ذلك في الأهمية تفكيك أحلافه” (فص3، فق4).

وقد ورد هذا المعنى أيضًا في القاعدة التاسعة عشرة من الإستراتيجيات الست والثلاثين: “اختلس الحطب من تحت المرجل”. فاختلاس الحطب من تحت المرجل يجعل النار تذبل بهدوء. وخلاصة ما ترمي إليه هذه المقولة هي أن أمثل طريقة لمواجهة العدو أحيانًا تكون باستنزاف مصادر قوته بهدوء، حتى تذوي قوته وتتلاشى بالتدريج. وقد تكون مصادر قوة العدو هي وفرة المال، أو كثرة الرجال، أو سعة الأرض، أو قوة الأحلاف.. ويكون استهداف مصادر القوة بحسبها، فإذا كانت وفرة مال فبَدِّدْها وخربها، وإذا كانت وفرة عدد فازْرع الشقاق في صفه..

وقد وردت تطبيقات لهذا المبدأ الإستراتيجي في العصر النبوي، خصوصًا خلال حصار غزوة الخندق؛ حيث سعى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم إلى تفكيك حلف الأحزاب، بإغراء قبيلة غطفان بصلح منفرد مع المسلمين، وأوصى الصحابي نعيم بن مسعود -الذي كان يكتم إسلامه يومذاك- أن يخذِّل الأعداء عن المسلمين، بزرع الشقاق في صفوفهم. وقد نجح نعيمٌ نجاحًا باهرًا في الإيقاع بينهم(95). وعَدَّ عمر بن إبراهيم الأنصاري مكيدة نعيم من أبلغ الأمثلة على المكائد الحربية، واعتبرها “من أحسن ذلك موقعًا، وألطفه مأخذًا”(96).

وليس بعيدًا عن ذلك مدلول القاعدة الثانية والعشرين: “أغلِقِ البابَ تُمسكْ بالسارق”، بمعنى أنك إذا أردت الإمساك بعدوك فإن أسهل الطرق إلى ذلك، وأخفها كلفة عليك، هي قطع المدد عنه، وتفكيك تحالفاته، وعزله عن بيئته الإستراتيجية المواتية. فهذه كلها من المصادر الذي تغذِّي قوته، كما يغذي الحطب لهيب النار تحت المرجل. وبقطع هذه الأمداد، وعزل الخصم عن مصادر قوته يتحول لقمة سائغة، وثمرة يانعة، بين يديك.

وقد يكون منبع قوة الخصم ومصدرها الأساسي هو قوته المعنوية، ونوعية قادته وكفاءتهم، وهنا يكون السعي إلى نشر الرداءة في صفوف الخصم، وتغيير القيادة الملتزمة في صفه هو السبيل إلى إهلاكه. وقد درجت القوى الاستعمارية المعاصرة على نشر الفساد، والاستثمار في القيادات الرديئة، وفرْضها على الشعوب التي تريد التحكم فيها. وفي هذا السياق ترد القاعدة الخامسة والعشرون: “ضعْ جذوعًا خاوية محل عوارض السقف”، ومعناها أن عليك أن تستهدف العدو في ركائز قوته البنيوية، وأن تخترق صفوفه، بطريقة تهدم بنيانه، وتهد أركانه. ويكون ذلك بتهشيم بنْية قوته من خلال إدخال عنصر غريب يقضي على انسجامها وتماسكها الداخلي، أو اختراق صفه القيادي، والعبث بقراره الإستراتيجي، وبنوعية أدائه من خلال ذلك.

  1. راقب الحريق من وراء النهر

ورد هذا المعنى في القاعدة التاسعة من الإستراتيجيات الست والثلاثين بلفظ مشابه، وهو: “راقب الحريق من ضفة النهر الأخرى”، وقد اختزلناها في العنوان هنا. ومقصود هذه القاعدة أن المتحاربين إذا كانوا كلهم أعداء لك، أو لم تكن لك مصلحة في الانحياز لأحدهم، فابتعد عن صراعهم، وضعْ بينك وبينه حاجزًا منيعًا، كحاجز نهر بينك وبين حريق، ثم اكتنز قوتك، وانتظر حتى يستنزف الصراع كل الأطراف فتخور قواهم، وبذلك تنفتح أمامك أبواب السيطرة على الوضع بأرخص ثمن وأخصر طريق. وحتى لو كان أحد المتحاربين صديقًا لك أو حليفًا، لكن ظروف الصراع لا تسمح لك بترجيح كفته بشكل يرضيك، أو كان التدخل لصالحه يكلفك أثمانًا باهظة لا تملك القدرة أو الإرادة لدفعها، فإن الانتظار حتى تنضج ظروف التدخل في الصراع ستكون أفضل لك.

إن إستراتيجية مراقبة الحريق من ضفة النهر الأخرى تمكِّنك من وراثة قوة المتحاربين من الطرفين. ولعل ما ورد في القرآن الكريم من حديث عن الهزائم المتعاقبة بين الروم والفرس في السنوات الأولى من ظهور الإسلام إشارة إلى هذا: ﴿غُلِبَتِ الرومُ في أدْنى الْأرْضِ وهُمْ مِن بعْد غَلَبِهمْ سيغْلبون في بضْعِ سنين لله الْأمْر من قبْل ومن بعْد ويوْمئذ يفْرحُ الْمؤْمنون﴾(97). ورغم التفسير الشائع لهذه الآية الكريمة، وربطها بفرح مشركي مكة بانتصار الفرس، وفرح المسلمين بانتصار الروم، فإننا نجد فيها معنى أعمق وأكبر من ذلك بكثير.

فقد كانت هاتان الإمبراطوريتان تتوزعان النفوذ داخل الجزيرة العربية، وكان لكل منهما امتدادها التابع لها من “ممالك الأطراف العربية”(98)؛ فقد كانت مملكة الحيرة في العراق التابعة للفرس تتولى “دور الدولة الحاجزة لحماية الحدود وقوافل التجارة من شغب أبناء عمومتهم من بدو الصحاري”(99)، وكانت مملكة الغساسنة “دولة حاجزة ووسيطة على أطراف بادية الشام، تدين بالولاء لدولة الروم البيزنطية، وتنتفع منها، وتعمل باسمها”(100).

لكن القرآن فتح أعين العرب المسلمين على واجب الخروج من هذه التبعية الذليلة للإمبراطوريات المجاورة، وأرشدهم إلى أن هزيمة الروم ثم هزيمة الفرس تفتح الباب لانتصار المسلمين على الطرفين فيما بعد. وهذا ما لمَّح إليه ابن عاشور في تفسير الآية، حين أشار إلى “حكمة اقتضت هذا التعاقب، وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك”(101).

فلم يكن العرب المسلمون في أعوام الإسلام الأولى بحاجة إلى أكثر من مراقبة الصراع الدولي المحتدم على تخوم الجزيرة العربية، وتجنب الانخراط فيه من موقع التبعية، والانتظار مدة كافية للإنهاك المتبادل الذي ستصل إليه تلك “الإمبراطوريات المرهقة”(102)، كما وصفها ديفيد نيكول، ثم التحرك لحصاد ثمار الحرب بينهما، ثم وراثة الأرض من بعدهما، وهو ما حدث في بواكير الفتوح الإسلامية خارج الجزيرة العربية. وذلك ما قصدته الحكمة الإستراتيجية الصينية الداعية إلى مراقبة الحريق من ضفة النهر الأخرى.

  1. انهب البيت المحترق

ورد هذا المبدأ بلفظه في القاعدة الخامسة من الإستراتيجيات الست والثلاثين: “انهب البيت المحترق”، وهو دعوة إلى استغلال الظروف التي يكون فيها الخصم مستنزفًا للإجهاز عليه، ودفعه إلى تبديد قوته، وأنت تركز قوتك وتكتنزها. وحينما تتبدد طاقته، يصبح كالبيت المحترق الذي يسهل نهبه. وما تشهده المنطقة العربية والعالم الإسلامي من اختراق إستراتيجي، وسطوة للقوى الأجنبية عليها، إنما شجع عليه ما يعيشه العرب والمسلمون اليوم من تمزق داخلي، وصراعات بين الحكام والمحكومين، وخلافات بين مكونات الأمة بشكل عام. والبيت المحترق يغري المارة والغرباء باقتحامه ونهبه.

وقد برع الأميركيون في استخدام إستراتيجية نهب البيت المحترق. ففي الحربين العالميتين، الأولى والثانية، لم تدخل أميركا الحرب إلا متأخرة، وبعد أن استنزف القتال طاقة كل الأطراف، فأصبحت دولها خرابًا، وأرضها يبابًا. ففي المراحل الأولى من الحرب اكتفى الأميركيون بتصنيع السلاح للمتقاتلين، وضخ المال الوفير في الاقتصاد الأميركي ثمنًا لذلك، مع بناء القوة الأميركية واكتنازها، والاستعداد للحظة المناسبة. وحينما تدخلت الولايات المتحدة في الحربين كانت أقل القوى الدولية دفعًا لثمن الحرب، وأعظمها غنيمة منها، لأن الأطراف المتحاربة كانت قد أُنهكتْ، فغدت كالبيت المحترق الذي يسهل نهبه.

بل إن الأميركيين لا يكتفون أحيانًا بانتظار اشتعال النار في البيت لنهبه، بل هم يشعلون الحريق بانتهازية، لاستنزاف الأطراف المتحاربة، وتسهيل نهب البيت المحترق. وتشير الدلائل التاريخية إلى أن الأميركيين لم يكونوا بعيدين عن إشعال الحرب بين العراق وإيران (1980-1988)، لإشغال الطرفين بها، واستنزافهما مدةً مديدةً. فكانت الإستراتيجية الأميركية هي إنهاك الدولتين في حرب عدمية لا نهاية لها، خدمة للتفوق الإسرائيلي والنفوذ الأميركي في المنطقة. وقد عبَّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر (1923-2023)، عن هذه الإستراتيجية بقوله متحدثًا عن الحرب بين العراق وإيران: “إن المصلحة الكبرى للولايات المتحدة هي خسارة الطرفين”(103). كما لاحظ قائد أركان الجيش العراقي آنذاك، الفريق أول نزار الخزرجي، “النفق المظلم الذي أُعِدَّ لينزلق فيه العراق، ويتورط بحرب استنزاف طويلة تدفع باتجاه هدفين: تحييد قدرة العراق الفائقة باعتبارها عاملًا حاسمًا في المواجهة مع العدو الإسرائيلي من جهة، ثم ترْك الحرب لتأخذ ضريبتها الباهظة من البلدين المتحاربين اللذين كان احتواؤهما وإنهاكهما هدفًا هو الآخر يصب في مصلحة ذلك الكيان العدواني”(104).

ومن مظاهر الاستخدام الأميركي لإستراتيجية نهب البيت المحترق نظام العقوبات الاقتصادية الخانقة، التي يفرضونها على بعض الدول لإنهاكها، وتسهيل السيطرة عليها بعد ذلك. وأسوأ مثال على ذلك العقوبات الأميركية القاسية على العراق التي بدأت عام 0199، واستمرت أكثر من عقدين من الزمان، وهي العقوبات التي سهَّلت الغزو الأميركي للعراق، عام 2003، بعد أن تحول العراق تحت وطأة العقوبات بيتًا محترقًا جاهزًا للنهب.

وقد صاغ المفكر الإستراتيجي الأميركي، إدوارد لوتواك، هذا النمط من السلوك الأميركي باسم نظرية “إعطاء الحرب فرصة” في مقال شهير بهذا العنوان، عام 1999، دعا فيه إلى عدم التدخل لإنهاء الحروب، وتركها تأخذ مجراها الدموي، ثم فرض حل سياسي على الأطراف المتحاربة بعد أن تستنزف قواها(105). وفي عام 2014، دعا لوتواك إلى تطبيق نظريته على الحرب في سوريا في مقاله: “في سوريا تخسر أميركا إذا فاز أيٌّ من الأطراف”. وفيه كتب لوتواك: “إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضر المصالح الأميركية”، ثم ختم بنصيحة لصانع القرار الأميركي قال فيها: “سلِّحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، وأوقفوا دعمهم كلما بدا أنهم سيكسبون المعركة”(106). ولم يكن لوتواكْ مجرد ناصح للإدارة الأميركية ومنظِّر لها، بل هو يؤكد في مقاله -محقًّا- أن ما أوصى به هو واقع الموقف الأميركي في سوريا. فالوصية الصينية القديمة عن نهب البيت المحترق وجدت لها آذانًا صاغية لدى الأميركيين المعاصرين، بل إن الأميركيين تجاوزوا ذلك إلى إحراق البيت قبل نهبه.

  1. قاتلْ قتال اليائس

اشتهرت في التراث الإسلامي قصة القائد طارق بن زياد (50-102ه / 670-720م) الذي “أمر بإحراق المراكب التي جاز فيها”(107) بعد عبوره بجيشه الفاتح إلى الأندلس. ثم خطب في جيشه: قائلًا: “أيها الناس! أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، فليس لكم والله إلا الصدق والصبر…”(108). وقد اختلف الباحثون في ثبوت هذه الرواية التي لها نظائر في تاريخ الأمم الأخرى، وليس يهمنا التدقيق في ذلك الآن، وإنما يهمنا المبدأ الإستراتيجي الكامن وراءها، وهو القتال قتال اليائس، وهذه فكرة عتيقة من أفكار صن تزو.

إذ ينصح صن تزو القائد بأن يضع نفسه وجيشه في موقع اليائس، لكي يستبسلوا في القتال. فاليائس الذي لم يعد لديه ما يخسره لا يهاب الموت، وقد تتفجر في نفسه طاقات كامنة لم تكن لتظهر في غير هذه الظروف الحرجة، وهو على خط رفيع بين الفناء والبقاء. يقول صن تزو: “ضع جنودك في موقع لا يمكن الانفكاك منه، بحيث لا يستطيعون الهرب حتى ولو واجهوا الموت… ففي وضعية يائسة لن يخشوا شيئًا، وحيث إنه لا مهرب لديهم فسيقاتلون بثبات” (فص11، فق33).

وفي مقابل النصيحة لك بأن تقاتل قتال اليائس لكي تستبسل وتنتصر، ينصحك صن تزو بأن لا تحشر عدوك في الزاوية أبدًا، بشكل يدفعه إلى القتال قتال اليائس. يقول صن تزو: “لا تحْشُرْ عدوًّا في الزاوية” (فص7، فق32)، وهو ينصح بترك مهرب للعدو المحاصر لكيلا يستبسل في القتال: “إذا حاصرت عدوًّا فاترك له مهربًا” (فص7، فق31)، وعدم اعتراض طريقه وهو في طريق الفرار: “لا تُعِقْ مسار عدو راجع إلى بلاده” (فص7، فق30). فاستبسال العدو في القتال، بعد أن انسدت أمامه مسالك النجاة، إما أن يغير معادلة الصراع لصالحه، أو يجعل ثمن انتصارك عليه ثمنًا فادحًا على الأقل. وقد أوضح أحد شراح صن تزو، وهو تو يو، هذا المعنى في تعليقاته فقال: “قال الأمير فو شايْ: إن الحيوانات البرية إذا حُشرتْ في الزاوية قاتلتْ بشراسة، وما أصدق هذا الأمر على البشر، فهم إذا أدركوا أن لا مهرب لديهم فإنهم سيقاتلون حتى الموت” (فص7، فق32). ونسب أبو منصور الثعالبي إلى الإسكندر المقدوني (356-323 ق.م.) أنه كتب يوصي أحد قادته قائلًا: “حبِّبْ إلى عدوِّك الفرار، بأن لا تتبعه إذا انهزم”(109).

ويمكن تطبيق هذه الحكمة في جميع صنوف الصراعات والخلافات، حتى في المفاوضات السياسية والجدل الفكري. فليس من الحكمة أن تظهر خصمك السياسي ضعيفًا، بل الأفضل أن تحفظ له ماء وجهه، وتمكِّنه من التراجع الكريم دون حشره في الزاوية، أو إحراجه بشكل يجرح الكبرياء. وليس من الحكمة إظهار مناظرك الفكري جاهلًا ضعيفَ الحجة، لكيلا يعاند ويتمسك بحجته المتهافتة انتصارًا لذاته الجريحة بل الأفضل أن تتنازل له عن جزء من مساحتك، وتعيره جزءًا من حجتك، وتتظاهر له بأنكما تفكران بنفس الطريقة.. لكي تعينه على الرجوع للحق دون مكابرة.

فمبدأ القتال قتال اليائس سلاح ذو حدين، فهو وضع خطير إن دفعت العدو إليه، لأنه سيستبسل في قتالك، لكنه إستراتيجية فعالة إذا استخدمته لنفسك، تحصينًا لها من الهزيمة أو الاستسلام. وهو ليس مطلوبًا ولا مرغوبًا في كل الأحوال، وإنما هو استجابة استثنائية للحالات اليائسة، تفجر أعظم الطاقات الكامنة في صفك، وتعينك على تغيير المعادلة، و”انتزاع النصر من بين فكي الهزيمة”، حسب التعبير العسكري الشائع.

  1. خطِّط للانسحاب الآمن

رغم كل هذه الحكم الإستراتيجية التي ورَّثتنا إياها الحضارة الصينية العتيقة، فإن الرياح قد لا تجري بما تشتهي السفن، وقد يتبين من مسار الصراع أن المعركة خاسرة بشكل لا لبس فيه، فيتعين التفكير بواقعية في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والمراهنة على فرص الزمن الآتي. وهنا يتسم الفكر الإستراتيجي الصيني بالواقعية. فصن تزو يقرر ببرودة تامة: “إذا كانت قواتك قليلة العدد، فتأكد من قدرتك على الانسحاب” (فص3، فق16). ونجد صدى هذه الواقعية في القاعدة الأخيرة من الإستراتيجيات الست والثلاثين: “إذا فشلتْ كل المحاولات فانسحبْ”.

ويعلق فرستابن على هذه القاعدة بقوله: “إذا أصبحت قواتك هي الخاسرة، فإن المتبقي لديك ثلاثة خيارات: الاستسلام، أو التنازل، أو الانسحاب. أما الاستسلام فهو هزيمة كاملة، وأما التنازل فهو نصف هزيمة، لكن الانسحاب ليس هزيمة. وما دمت قد تجنبت الهزيمة فلا تزال أمامك فرصة”(110). ثم يضيف: “في فن الحرب موهبة حيوية لا يملكها أكثر الناس، وهي معرفة الوقت المناسب للفرار”(111). على أن التراجع على أعتاب الهزيمة ليس هو التحدي الحقيقي، رغم أن بعض الناس قد لا يستسيغه، وإنما التحدي الأعظم هو الطريقة التي يتم بها هذا التراجع. وهنا تزودنا القاعدة الحادية والعشرون من الإستراتيجيات الست والثلاثين بالمطلوب؛ حيث تقول: “غيِّر جلدك كما يفعل الزيز الذهبي”. والزيز الذهبي نوع من الحشرات التي تغير جلدها وتنسلخ منه في بعض فصول السنة، وهي ترمز إلى الخلود والاستمرار في الثقافة الصينية، لما تتسم به حياتها من كمون وانبعاث وتجدد.

وما تقصده هذه القاعدة أن النجاح في التراجع والانسحاب من معركة خاسرة يحتاج براعة في الخديعة، وإرادة قوية للبقاء، وتغييرًا للمظاهر مع المحافظة على الجواهر. فإذا انحشرْت في الزاوية، وأصبحت على وشك الهزيمة، فلا تنسحب تحت ظلال السيوف، أو تحت القصف، ففي ذلك دمار لقواتك، وإنما افتعلْ صخبًا يشغل عنك العدو، لكي تستطيع الانسحاب تحت غطاء من غبار المعركة. وبذلك تخرج من المأزق الذي أنت فيه، ثم تبدأ ترتيب صفوفك وبناء قوتك من جديد.

ومن أعظم الأمثلة التاريخية على براعة التراجع الآمن، خطة خالد بن الوليد (ت 21ه/ 642م) للانسحاب من معركة مؤتة بين المسلمين والروم في العهد النبوي. فقد وجد خالد نفسه ممسكًا بقيادة الجيش الإسلامي فجأة بعد أن استُشهد أمراء الجيش الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، واتضح أن المعركة غير متكافئة، وألا أمل للمسلمين في كسبها في ظل اختلال واضح لموازين القوة. فصاغ خطة بارعة أنقذ بها الجيش الإسلامي من خطر الاستئصال، ونجح نجاحًا باهرًا في تحقيق الانسحاب الآمن. يقول اللواء الركن محمود شيت خطاب، شارحًا خطة خالد:

“لقد قاتل يومه قتالًا شديدًا، فلما أظلم الليل غيَّر نظام جيشه، فجعل مقدمته ساقةً، وساقته مقدمة، وكذلك فعل بالميمنة والميسرة، أي إنه سحب جيشه من ساحة المعركة، وأبقى ساقة تحمي الانسحاب: نشر هذه الساقة لتحتل مساحة شاسعة من الأرض، وأمرهم أن يُحْدثوا أصواتًا مرتفعة بما لديهم من أبواق وطبول وأدوات حربية، وإثارة الغبار بالخيل تدور بسرعة في دوائر ضيقة. كل ذلك جعل الروم لا يشعرون بانسحاب قوات القسم الأكبر من المسلمين… ويعتقدون أن إمدادات جاءتهم ليلًا. لهذا لم يُقْدِم الروم على مطاردة المسلمين، فسهَّل ذلك على خالد مهمته في سحب رجاله من ساحة المعركة بأمان، ودون أن ينقلب الانسحاب إلى هزيمة… مما يعد معجزة عسكرية ومفخرة خالدة لقيادة خالد”(112).

ولا غرابة في أن يحصل خالد بن الوليد على لقب “سيف الله” من النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بعد هذه العملية البارعة، رغم أنها لم تكن عملية اقتحام جريئة لصفوف العدو، من النوع الذي برع فيه خالد كثيرًا، بل كانت مجرد انسحاب من المعركة. لكنها براعة الانسحاب الآمن في ظروف اختلال موازين القوة، وتلك براعة لا يتقنها إلا عظماء القادة مثل خالد بن الوليد.

دلالات الدرس الصيني

بعد هذا التطواف الطويل مع الحكمة الإستراتيجية الصينية العتيقة، من خلال تحليل كتاب صن تزو فن الحرب، ووثيقة الإستراتيجيات الست والثلاثين، نتوقف في الختام عند عدد من الدروس المجملة:

أولًا: إن الفكر الإستراتيجي الذي أنتجته الحضارة الصينية العتيقة يستحق مدارسة جادة، نظرًا لما يتسم به من سبق وعمق. ويكفي من سبق هذا الفكر أن أحد النصين الصينيين اللذين تناولتهما هذه الدراسة عمره ثلاثة وعشرون قرنًا على الأقل، والثاني عمره أربعة عشر قرنًا على الأقل. أما العمق فلعل تحليلنا للنصين قد كشف ما يكفي من الدلالة عليه.

ثانيًا: يجسد هذان النصان خصائص الفكر الإستراتيجي الصيني العريق، ومن أهمها: الاقتصاد في القوة، ووضْع الجهد في موضعه، وانتهاج الالتفاف المناورة، وتجنب المصادمة المباشرة، والحرص على تحقيق الغايات المبتغاة بأرخص ثمن وأخصر طريق. وغير ذلك من مبادئ إستراتيجية أجملناها بلغة مكثفة في القواعد الأربع والعشرين التي بسطناها في ثنايا هذه الدراسة.

ثالثًا: لا تعيش الصين اليوم قطيعة مع تراثها الإمبراطوري، رغم تجربتها الشيوعية المعاصرة. وهي لا تزال عميقة الاعتزاز بماضيها، ومنه تستمد الروح الدافعة إلى الصعود والتفوق. فلا يمكن فهم القوة الصينية الصاعدة، وما تتسم به من نضج وحصافة، وسعي إلى تحقيق الريادة دون اصطدام بالقوى السائدة، إلا بدراسة التراث الإستراتيجي الصيني.

رابعًا: إن الصين لم تعد حضارة غريبة يسهل تجاهلها، بل هي اليوم دولة عظمى، تستعد للوصول إلى قمة العالم، وتضمه بين ذراعيها الممتدين: جنوبًا عبر بحر الصين الجنوبي، وشمالًا عبر المتجمد الشمالي، وهي تشق وسط آسيا برًّا، متمددة بهدوء في قلب العالم الإسلامي، بما فيه المنطقة العربية. فالاهتمام بفكرها الإستراتيجي ليس فضولًا أكاديميًّا، بل هو ضرورة عملية.

خامسًا: إن ما بسطناه هنا من أفكار إستراتيجية صينية تعبِّر عن المبادئ النظرية التي أبدعتها الحضارة الصينية في هذا المضمار، لا عن الوقائع التاريخية بالضرورة. وإلا فإن الصينيين لم يفلحوا دائمًا في الامتثال لهذه المبادئ. لكن الصين الصاعدة اليوم تبدو جادة في الاستلهام من تراثها الإستراتيجي العريق، وهو حكمة مشاعة للجميع.

المراجع

(1) ترجم الأكاديمي الأميركي المتخصص في التاريخ العسكري الصيني، رالف سووْيرْ، هذه النصوص السبعة وعنونها بعنوان: الكلاسيكيات العسكرية السبع في الصين القديمة:

The Seven Military Classics of Ancient China. Translation and Commentary by Ralph D. Sawyer with Mei-Shun Sawyer (New York: Basic Books, 1993).

(2) انظر -على سبيل المثال-: أبو زيد حسن بن يزيد السيرافي، رحلة السيرافي (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1999)، ص 60. ومحمد بن عبد الله بن بطوطة، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار [رحلة ابن بطوطة] (الرباط: أكاديمية المملكة المغربية، 1997)، 1/277، 4/127، 4/132، 4/144.

(3) “The Cybersecurity 202: U.S. officials: its China hacking that keeps us up at night,” The Washington Post, March 06, 2019. Retrieved on August 13, 2024.

(4) Liu Mingfu, The China Dream: Great Power Thinking and Strategic Posture in the Post-American Era (New York: CN Times Books, 2015), p. 392.

(5) Mingfu, The China Dream, p. 161.

(6) David Scott, China and the International System, 1840-1949 Power, Presence, and Perceptions in a Century of Humiliation (Albany: State University of New York Press, 2008), p. 294.

(7) Abdullah Baabood, “Why China Is Emerging as a Main Promoter of Stability in the Strait of Hormuz,” (Beirut: The Malcolm H. Kerr Carnegie Middle East Center, 2023), p. 1.

(8) رحلة السيرافي، ص 3. من تقديم المحقق.

(9) John J. Mearsheimer, “The Gathering Storm: China’s Challenge to US Power in Asia,” The Chinese Journal of International Politics, Vol. 3, (2010), p.392.

(10) Rush Doshi, The Long Game: China’s Grand Strategy to Displace American Order (New York: Oxford University Press, 2021), p.3.

(11) Mingfu, The China Dream, p.111.

(12) من تقديم ربيع مفتاح لترجمته كتاب صن تزو، فن الحرب (القاهرة: شعاع، 1995)، ص 8.

(13) Saridporn Soonthornkit, “Sun Tzu Strategic Paralysis and Small Nation,” Center for Air and Space Power Studies, p. 50.

(14) Major Richard M. Fournier, “Boyd and the Past: A Look at the Utility of Ancient History in the Development of Modern Theories of Warfare,” (Master’s Thesis at School of Advanced Military Studies, Kansas, USA, 2013), p. 17.

وانظر أيضًا:

David Fodak, “John Boyd and John Warden: Air Power’s Quest for Strategic Paralysis,” (Alabama: Air University Press, 1995), pp. 1-2, 5, 15, 41.

(15) McNeily, Sun Tzu and the Art of Modern Warfare, (New York: Oxford University Press, 2015), p.2.

(16)The Art of War: Sun Zi’s Military Methods, translated by Victor H. Mair (New York: Columbia University Press, 2007), p.13.

(17) Sun Tzu, The Art of War, translated and with an introduction by Samuel B. Griffith (London: Oxford University Press, 1963), pp.57-59.

(18) عن الجدل التاريخي في عصر تحرير الكتاب، راجع -على سبيل المثال- رأي كل من مارك ماكنيلي وفيكتو ماير:

Mark R. McNeily, Sun Tzu and the Art of Modern Warfare, pp.1-2; The Art of War: Sun Zi’s Military Methods, translated by Victor H. Mair, p.1.

(19) Sun Tzu, The Art of War, Griffith’s translation, pp. 3-7.

(20) انظر مثالًا على هذا المسعى التوفيقي عند:

Peter van Emde Boas et al., Analyzing the Logic of Sun Tzu in The Art of War Using Mind Maps (Singapore: Springer Verlag, 2023), p.12.

)21) Griffith, The Chinese People’s Liberation Army (New York: Mc Graw-Hill Book Company, 1967), p.10.

(22) Henry Kissinger, On China (New York: Penguin Press, 2011), p.56.

(23) Gen David Petraeus, “‘The Art of War’: As relevant now as when it was written,” The Irish Times, 26/03/2018. وهذا المقال المنشور بالصحيفة هو نص تقديم ديفيد بترايوس لترجمة بيتر هاريس لكتاب صن تزو

(24) Boas et al., Analyzing the Logic of Sun Tzu, p.391.

(25)The Seven Military Classics of Ancient China, Saywer’s translation, p.149.

(26) قدم غريفيث في ذيل ترجمته لكتاب صن تزو جردًا تاريخيًّا مفصلًا لتأثير الكتاب في الثقافة اليابانية، راجع:

Sun Tzu, The Art of War, Griffith’s translation, p.169-178.

(27)  نفس المرجع، ص 177.

(28)  نفس المرجع، ص VIIII.

(29)The Book of War: The Military Classic of the Far East, translated from the Chinese by Captain E. F. Calthrop (London: John Murray, 1908).

(30) صن تزو، فن الحرب، ترجمة رؤوف شبايك (القاهرة: دار أجيال، 2007)؛ سون تسي، فن الحرب، ترجمة ربيع مفتاح (القاهرة: الشركة العربية للإعلام العلمي، 1995)؛ صن تسو، فن الحرب، ترجمة كامل يوسف حسين (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2005)؛ صن تزو، فن الحرب، تقديم وتعليق أحمد ناصيف (القاهرة: دار الكتاب العربي، 2010).

(31) للاطلاع على جرد مفصل بأعمال غريفيث ذات الصلة بصن تزو وفكره، راجع:

Major Peter Y. Ban, “Brigadier General Samuel B. Griffith II, USMC: Marine Translator and Interpreter of Chinese Military Thought,” Master thesis in military studies (Marines Corps University, 2011-2012).

(32) Griffith, The Chinese People’s Liberation Army, p.83.

(33)  نفس المرجع، ص 45.

(34) Mao Tse-tung, on Guerrilla Warfare, translated, with an introduction by Brigadier General Samuel B. Griffith (Washington, DC: U.S. Marine Corps, 1989), p.37.

(35) Griffith, The Chinese People’s Liberation Army, p.211.

(36)  نفس المرجع، ص 210.

(37) Kissinger, On China, p.50-64.

(38) Maj Gen Rajiv Narayanan, “Strategic Continuum of China’s Strategic Behaviour: Implications for India Post the 19th Congress of the CPC,” Center for Strategic Studies and Simulation (2018), p.2.

(39) Fumio Ota, “Sun Tzu in Contemporary Chinese Strategy,” Joint Force Quarterly, 73, 2nd Quarter (2014), p.77.

(40)  نفس المرجع، ص 80.

(41) نفس المرجع والصفحة.

(42) Sun Tzu, The Art of War, Griffith’s translation, p. X.

(43) The Seven Military Classics of Ancient China, Saywer’s translation, p.149.

(44)The Art of War: Sun Zi’s Military Methods, Mair’s translation, p.52.

(45) بريان بوند، الفكر العسكري عند ليدل هارت، ترجمة سمير كرم (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979)، ص 39.

(46) Sun Tzu, The Art of War, Griffith’s translation, p.V.

(47) Robert Greene, Les 33 Lois de la Guerre, traduction: Alain et Lakshmi Bores (Paris: A Contre-Courant Edition, 2014), p.XVII.

(48) Gen David Petraeus, “‘The Art of War’: As relevant now as when it was written,” The Irish Times, 26/03/2018.

(49) Stefan H. Verstappen, The Thirty-Six Strategies (Toronto: Woodbridge Press, 2017).

(50) Peter Taylor, The Thirty-Six Stratagems: A Modern Interpretation of A Strategy Classic (Infinite Ideas, 2013).

(51) Hiroshi Moriya, The 36 Strategies of the Martial Arts: The Classic Chinese Guide for Success in War, Business, and Life, translated by William Scott Wilson (Boulder: Shambhala, 2013).

(52) Le livre des 36 stratagèmes: Le guide des classiques chinois de la réussite à la guerre, en affaires et dans la vie (Paris: Budo Éditions, 2016).

(53) Verstappen, The Thirty-Six Strategies, p.1.

(54) R. L. Wing, The Art of Strategy: A New Translation of Sun Tzu’s Classic The Art of War (New York: Doubleday, 1988).

(55)The Classic Chinese Guide for Success in War, Business, and Life.

(56) سعد الدين الشاذلي، حرب أكتوبر: مذكرات سعد الدين الشاذلي (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2011)، ص 593.

(57) أسامة بن منقذ، لباب الآداب (القاهرة: مكتبة السنة، 1987)، ص 57.

(58) أبو سعيد الهرثمي، مختصر سياسة الحروب (القاهرة: المؤسسة المصرية العامة، بدون تاريخ)، ص 19.

(59) أسامة بن منقذ، لباب الآداب، ص 48.

(60) الهرثمي، مختصر سياسة الحروب، ص 20.

(61) أحمد بن يحيى البلاذري، فتوح البلدان (بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1988)، ص 247.

(62) أبو نضر الجوهري، كتاب الصحاح (بيروت: دار العلم للملايين، 1987)،1/293، 5/2130.

(63) أبو علي مسكويه الرازي، تجارب الأمم وتعاقب الهمم (طهران: دار سروش، 2000)، 2/ 352.

(64) علي بن أحمد الواحدي، شرح ديوان المتنبي (بيروت: دار الرائد العربي، 1999)، ص 1611.

(65) علي بن أحمد الواحدي، شرح ديوان المتنبي، ص 1612.

(66) راجع على سبيل المثال:

Thomas G. Mahnken (edit.), Net Assessment and Military Strategy: Retrospective and Prospective Essays (Emherst: Cambria Press, 2020), p.13.

 (67) الهرثمي، مختصر سياسة الحروب، ص 33.

(68) اللواء الركن محمود شيت خطاب، الرسول القائد (بغداد: دار مكتبة الحياة، 1960)، ص 73.

(69) Richard K. Betts, “Suicide from Fear of Death?” Foreign Affairs, Vol. 82, No. 1 (Jan.-Feb., 2003), p. 35.

(70) انظر نموذجًا من هذا الفزع في دراسة الكاتب الإسرائيلي أفرايم إنبار:

Efraim Inbar, “Israel’s Strategic Environment and European Security,” Strategie und Sicherheit (January 2014), pp. 673-681.

(71) ماو تسي تونغ، كتابات عسكرية (بيروت: دار ابن سينا، 1967)، ص 319.

(72) نفس المرجع، ص 248.

(73) Griffith, The Chinese People’s Liberation Army, p.237.

(74) أسامة بن منقذ، لباب الآداب، ص 46.

(75) بوند، الفكر العسكري عند ليدل هارت، ص 111.

(76) Sun Tzu, the Art of war, Griffith’s translation, p.V.

(77) الهرثمي، مختصر سياسة الحروب، ص 60.

(78) Christina Hoon and Claus D. Jacobs, “Beyond belief: Strategic taboos and organizational identity in strategic agenda setting,” Strategic Organization (August 2014), p.4.

(79) Griffith, Sun Tzu, the Art of war, Griffith’s translation, p.10.

(80) محمد بن إسماعيل البخاري، الجامع الصحيح (دمشق: دار ابن كثير، 1993)، 3/1102.

(81) نفس المرجع، ص 3/ 1078.

(82) عن “الخطة بدر” لعبور قناة السويس راجع: الشاذلي، حرب أكتوبر، ص 45-52.

(83) Griffith, The Chinese People’s Liberation Army, p.70.

(84) بهاء الدين ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (القاهرة: مكتبة الخانجي، 1994)، ص 127.

(85) على سبيل المثال:

Nidhi Maheshwari, Vineeth V. Kumar (edits.), Military Psychology: Concepts, Trends and Interventions (New Delhi, Sage, 2016), p.16.

(86) هذا هو العنوان الفرعي لكتاب روبرت كورام:

Robert Coram, Boyd: The Fighter Pilot Who Changed the Art of War (New York: Little, Brown and Company, 2002).

(87) هذا عنوان كتاب آخر عن بويد، من تأليف غرانت هاموند:

Grant T. Hammond, The Mind of War: John Boyd and American Security (Washington: Smithsonian Books, 2001).

(88) Coram, Boyd: The Fighter Pilot, p.327.

(89) الحسن بن حبيب النيسابوري، عقلاء المجانين (بيروت: دار الكتب العلمية، 1984)، ص 33-34، 34-36، 36-37، 37-40.

(90) نفس المرجع، ص 115.

(91) Verstappen, The Thirty-Six Strategies, p.54.

(92) David Kahn, Seizing the Enigma: The Race to Break the German U-Boat Codes, 1939-1943 (London: Arrow Books in 1991), p. 267.

(93) Carl von Clausewitz, On War (Princeton: Princeton University Press, 1989), p.87.

(94) Gen David Petraeus, “‘The Art of War’: As relevant now as when it was written,” The Irish Times, 26/03/2018.

(95) راجع: عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية (القاهرة: مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1955)، 2/229-230.

(96) عمر بن إبراهيم الأنصاري، تفريج الكروب في تدبير الحروب (القاهرة: الجامعة الأميركية، 1961)، ص 29.

(97) سورة الروم، الآيات 2-5.

(98) عبد العزيز صالح، تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة (القاهرة: مكتبة الأنجلو مصرية، بدون تاريخ)، ص 151.

(99) نفس المرجع، ص 153.

(100) نفس المرجع، ص 158.

(101) محمد الطاهر بن عاشور، تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد (تونس: الدار التونسية للنشر، 1984)، 21/47.

(102) David Nicolle, The Great Islamic Conquests AD 632-750 (Oxford: Osprey Publishing, 2009), p.48.

(103) Robert C. Johansen and Michael G. Renner, “Putting an End to the Iran-Iraq War,” Los Angeles Times, Feb 16, 1986. Retrieved on Sep 10, 2024 from: https://www.latimes.com/archives/la-xpm-1986-02-16-op-8822-story.html

(104) نزار عبد الكريم فيصل الخزرجي، الحرب العراقية-الإيرانية: مذكرات مقاتل (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014)، ص 15. من تقديم عبد الوهاب القصاب.

(105) Edward N. Luttwak, “Give War a Chance,” Foreign Affairs, Vol. 78, No. 4 (July-August, 1999),  pp.36-44.

(106) Edward N. Luttwak, “In Syria, America Loses if Either Side Wins,” The New York Times, Aug. 24, 2013.  Retrieved on Sep 10, 2024 from: https://www.nytimes.com/2013/08/25/opinion/sunday/in-syria-america-loses-if-either-side-wins.html

(107) الشريف الإدريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (بيروت: عالم الكتب، 1409ه)، 2/540.

(108) محمود مقديش الصفاقسي، نزهة الأنظار في عجائب التواريخ والأخبار (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1988)، 1/233.

(109) أبو منصور الثعالبي، خاص الخاص (بيروت: دار مكتبة الحياة، بدون تاريخ)، ص 84.

(110) Verstappen, The Thirty-Six Strategies, p.181.

(111) نفس المرجع، ص 184.

(112) اللواء الركن محمود شيت خطاب، قادة فتح العراق والجزيرة (دار القلم: القاهرة، 1964)، ص 69.