مقدمة

بدأ الاهتمام بالخطاب الاحتجاجي لشريحة الشباب التي تنتمي لألتراس فرق كرة القدم، في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بشكل مباشر بعد انتفاضات 2011(1) التي شهدتها المنطقة. وشكَّل ألتراس مصر ثيمة لأولى الدراسات، التي تم تناولها من زاوية دراسة الحالة (2)، لاسيما بعد ترديد أناشيدهم الاحتجاجية خارج أسوار الملاعب، ومشاركتهم في التظاهرات الشعبية كتلك التي كانت تُنَظَّم أمام السفارة الإسرائيلية، حيث اعتقل على إثرها أحد أعضاء “وايت نايتس” (Ultras White Knights) (UWK07)، وهي أول مجموعة ألتراس في مصر تشجع نادي الزمالك المصري. كما تناسلت الأغاني الاحتجاجية، منها على سبيل المثال لا الحصر: “مش ناسيين التحرير” لمجموعة وايت نايتس، وأغنية” 25 يناير قولنا بأعلى صوت”، وكذلك أغنية “حرية” و”يا غراب ومعشش” لألتراس أهلاوي. وتم إجمالًا مقاربة هذه الخطابات الاحتجاجية في إطار مقولة السياسة المشاكسة (Contentious Politics) (3).

من هذه الزاوية يمكن أيضًا قراءة الخطاب الاحتجاجي في الملاعب، باعتباره يمثِّل تحولًا مجتمعيًّا؛ إذ إن التنافس الرياضي في ملاعب كرة القدم أصبح “ذريعة” لخلق موقع جديد ونوعي للفاعلية (Agency)(4) الاحتجاجية الشبابية. هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الاحتجاج الذي يظهر في الملاعب وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد (الألتراس) مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية لكل بلد على حدة والمحددات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى هذه الفاعلية الجديدة التي برزت داخل ملاعب كرة القدم وفهم مضمونها في سياق المواطنة الرقمية الجديدة.

فما سياقات هذا الخطاب الاحتجاجي الجديد في أبعاده الاجتماعية والسياسية والثقافية في المغرب؟ وكيف تؤثر التحولات الاجتماعية على الأشكال الجديدة للاحتجاج في المغرب؟ وكيف يمكن فهم منطق الخطاب الاحتجاجي للألتراس: هل نحن أمام صيرورة أم دينامية أم تغير أم فوضى أم ارتباك أم انزلاق أم أزمة أم احتباس أو أمام جميع هذه الحالات مجتمعة؟ ما دور المجال الرقمي في بناء الخطاب الاحتجاجي؟ ما أشكال السلوكات والتعبيرات الاحتجاجية؟ وما مستقبل خطاب الألتراس في المغرب؟

للإجابة على هذه التساؤلات، سنشرع -أولًا- في تقديم المنهجية العامة للمقاربة المعتمدة في الدراسة، وثانيًا: رصد سياق نشأة الألتراس، وثالثًا: توصيف الانتقال من مواقع رياضية إلى مواقع احتجاجية، ورابعًا: تناول وظيفة الفضاء الرقمي كوعاء لإبداع أشكال جديدة من الاحتجاج، وفي الأخير سنخلص لاحتجاج الألتراس كمعارضة سياسية من خارج البنيات المنظمة.

  1. الإطار النظري والمنهجي للدراسة

يرمز مفهوم الخطاب الاحتجاجي (5) إلى متن لغوي حجاجي وترافعي يُبْنَى على تراكيب وصيغ بلاغية ذات وظائف تعبيرية وتواصلية. يُمَكِّن الخطاب الاحتجاجي من إبداع مفاهيمَ جديدة للواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ورفعها في شعارات والترويج لها بطريقة مقنعة وطاقة لغوية محرِّكة. لهذا يشكِّل الخطاب الاحتجاجي أساس ظاهرة الألتراس. ولفهم نمط التواصل الاحتجاجي، يبدو ضروريًّا الإلمام بالبيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي أدت إلى ظهوره وكذلك مدى تأثيره في المتلقي وقدرته على بناء وعي ومعنى مجتمعي جديد.

للإلمام بهذا المعنى والوعي الاحتجاجي الجديد، ستعتمد الدراسة نظرية التفاعلية الرمزية عند إيرفين كوفمان (Erving Goffman) (6) التي ترتكز على ثلاث صيغ تشبيهية لتحليل المعنى الناتج عن التفاعلات الخطابية، أولاها: مسرحي، وثانيها: طقوسي، وثالثها: ترفيهي يحيل على اللعب. بالنسبة لكوفمان هذه الصيغ التشبيهية تمكِّن من فهم نوعية وطبيعة التفاعلات المجتمعية التي تمارَس في بنية مغلقة وحاضنة لأفراد بعينهم يُسمِّيها الكاتب المؤسسة الكاملة (Total Institution) (7). فالتعايش داخل هذه البنية يشبه القيام بأدوار داخل مسرحية وأي خطأ من أحد الممثلين يؤدي إلى فشل التفاعل ويتم اعتباره وصمًا (Stigmate) وخروجًا عن القاعدة والطقس. لهذا، فالتجارب المجتمعية تخضع لإطارات تحدد التمثُّلات وتوجه الإدراك وتتحكم في سلوكات والتزامات الأفراد المنضوين في بنيات مغلقة مثل بنية الألتراس. تتميز هذه المقاربة مقارنة بالأبحاث التي تناولت ظاهرة الألتراس بالمغرب كونها تعتبر الظاهرة خطابية ومدنية وليست نوعًا من أنواع العنف والشغب الشبابي (8).

فالفرضية الأساسية، التي تُقَدِّم تفسيرًا لأصناف وضروب الخطاب الاحتجاجي للألتراس فيما يتعلق بالحالة المغربية، تقوم على أن الخطاب الاحتجاجي لم يعد مرتبطًا بموقع معين أو تراب محدد، وأن المطالب يتم التعبير عنها عبر خطاب ينهل من فاعلية تشاركية رقمية تتم ترجمتها في مواقع رياضية تمَّ تملُّكها كفضاءات احتجاجية (ملعب كرة القدم). لذلك، يمكن مقاربة الخطاب الاحتجاجي للألتراس من زاوية نظرية التفاعلية الرمزية لكوفمان؛ حيث يعمد الأفراد الفاعلون إلى تنظيم تفاعلاتهم مع المجتمع من خلال “مَسْرَحَة” تُوَزَّع فيها أدوار بعينها تمكِّن من بناء المعنى الجماعي للخطاب.

ولِأَجْرَأَة هذه الفرضية، اعتمدت الدراسة على مقاربة سوسيولوجية تمتح من المنهج الوصفي التحليلي قواعده ومرتكزاته، وأدوات منهجية كيفية مبنية على أُسُسِ النظرية المتجذرة (Grounded Theory) التي تتأسس على مقاربة استقرائية (9) تتوخى بناء المفاهيم، وهدفها النهائي هو توليد نظريات(10) وبناء الأطر التحليلية من خلال الملاحظة الدقيقة وتحليل المعطيات وتصنيفها في إطار موضوعاتي لفهم الظاهرة. ويمكن إيجاز منهجية النظرية المتجذرة (11) من خلال عدة مراحل منها تحليل أسئلة البحث وتجميع أولى المعطيات وغربلة النماذج المفاهيمية وترميز المعطيات وترتيب المذكرات…إلخ.

فيما يتعلق بأدوات الدراسة، تمَّ توظيف الملاحظة وقراءة التفاعلات الخطابية واللغوية الرقمية بين أعضاء الألتراس لجمع المعطيات التي ترتبط بمجريات الأحداث والإنتاج الخطابي من سنة 2017 إلى شهر مارس/آذار 2019 بغية تحليل وتوصيف مضمون المتن الخطابي عبر شبكة للتحليل ثلاثية الأبعاد، يركِّز أحدها على إبراز الألفاظ المثيرة وآخر يتجلَّى فيه العمق التفاوضي للخطاب، أما البُعد الثالث فهو لضبط الحقل الدلالي للاحتجاج.

  1. نشأة الألتراس بالمغرب

تُعرَف الألتراس بأنها مجموعة من المشجعين الرياضيين تتميز بوفائها وانتمائها غير المشروط لفرقها والتزامها منقطع النظير ومساندتها بالشعارات والأناشيد واللوحات الفنية. تكونت أولى المجموعات في مدينة ساو باولو البرازيلية عام 1939، وعُرِفَت بـ”التورصيدا” (Torcida)، لتنتقل فيما بعد إلى أوروبا وبالضبط إلى يوغوسلافيا ثم كرواتيا مع جمهور “هايدوك سبليت” (Hajduk Split) إلا أن أغلب الكتابات حول الألتراس تتفق على أن أولى المجموعات التي عبَّرت عن وعيها بالانتماء للألتراس تأسَّست بإيطاليا في موسم 1968-1969 تحت اسم “فوسا دي ليوني” (Fossa dei Leoni) لمساندة فريق “إيه سي ميلان”، وظهر بعد ذلك ألتراس فريق نادي “إنتر ميلان” تحت مسمى “بويز سان” 1969 (1969Boys San). في نفس السنة ستنشأ مجموعة مشجعي فريق “سامبدوريا” وتتخذ لها اسم “ألترا تيتو كوشياروني” (Ultrà Tito Cucchiaroni) على اسم اللاعب “تيتو كوشياروني” لتصبح أول مجموعة توظف لفظة “ألتراس” في تسميتها (12). بعد هذا التاريخ ستنتشر مجموعات الألتراس في باقي بلدان أوروبا انطلاقًا من إسبانيا في منتصف السبعينات ثم فرنسا في الثمانينات وإنجلترا وباقي الدول الأوروبية في التسعينات.

فيما يتعلق بتاريخ الألتراس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (13)، يعتبر ألتراس “دراغون” (Dragon) المساند لنادي الاتحاد الليبي أول مجموعة ألتراس تكوَّنت سنة 1989، وتمَّ حلُّها بعد أسبوع(14). وفي عام 1995، ظهر ألتراس “أفريكان وينرز” (African Winners) المساند للنادي الإفريقي التونسي. وفيما بعد، أي سنة 2002، ظهر ألتراس “المكشخين” لنادي الترجي الرياضي، وفي سنة 2004، تأسست مجموعة “لاكليك سلتيك” (La Click Celtic) التي شكَّلت نواة ألتراس الرجاء البيضاوي المغربي. وفي عام 2007، ظهر في مصر ألتراس فريقي الأهلي “ألتراس أهلاوي”، والزمالك “ألتراس وايت نايتس”. وفي نفس السنة، تأسست مجموعتان بالجزائر تساندان فريق نادي المولودية الجزائري أطلق عليهما اسم “ألتراس فيردي ليون” (Ultras Verde Leone) و”ألتراس ميغا بويز” (Ultras Méga Boys). وفي سنة 2008، تكوَّن في السودان ألتراس “جوارح المريخ” المتعاطف مع نادي المريخ السوداني و”ألتراس الأسود الزرقاء” (Ultras Blue lions) الذي يشجع فريق الهلال السوداني. وفي الأردن، ظهر “ألتراس غرينز” Ultras Greens)) المساند لفريق نادي الوحدات.

فيما يتعلق بالمغرب، تتعدد القصص والروايات حول تاريخ نشأة أول ألتراس، لكنها تتفق في مجملها على سنة 2005(15)، ويظل النقاش قائمًا بين ألتراس الرجاء (Green Boys) وألتراس فريق الجيش الملكي (Ultras Askary de Rabat) حول لقب أول ألتراس بالمغرب (16). بعد هذا التاريخ تأسست باقي أشكال الألتراس والتي يتجاوز عددها الخمسين، وأصبحت تمثِّل جميع الفرق الرياضية.

جدول رقم (1) يبرز أهم مجموعات الألتراس والأندية التي تشجعها في المدن المغربية

م اسم الألتراس النادي الرياضي المدينة
1 غرين بويز (Green Boys) الرجاء الرياضي الدار البيضاء
2 وينرز (Winners) الوداد الرياضي الدار البيضاء
3 ألتراس عسكري (Ultras Askary) الجيش الملكي الرباط
4 حلالة بويز (Helala Boys) النادي القنيطري القنيطرة
5 فطال تايغرز (Fatal Tigers) المغرب الفاسي فاس
6 كرايزي بويز (Crazy Boys) الكوكب المراكشي مراكش
7 غرين كوست (Green Ghost) أولمبيك خريبكة خريبكة
8 ألتراس إيمازيغن  (Ultras Imazighen) حسنية أكادير أكادير
9 لوس ريفينوس  (Los Rifenos) شباب الريف الحسيمي الحسيمة
10 ريد مين  (Red Men) النادي المكناسي مكناس
11 ألتراس هيركوليس  ( Ultras Hercules) اتحاد طنجة طنجة
12 ألتراس شارك    (Ultras Shark) أولمبيك آسفي آسفي
13 كاب سولاي (Cap Soleil) الدفاع الجديدي الجديدة
14 أورنج بويز  (Orange Boys) النهضة البركانية بركان
15 ألتراس صحراء (Ultras Sahara) شباب المسيرة العيون
16 ألتراس 2طان بويز (Ultras 2 Tan Boys) نهضة طانطان طانطان
17 ألتراس ريفولتي  (Ultras Révoltés) شباب أطلس خنيفرة خنيفرة
18 سواسة بويز (Swassa boys) اتحاد آيت ملول آيت ملول
19 ألتراس بيرات (Ultras Pirates) الجمعية السلاوية سلا
20 فايترز (Fighters) يوسفية برشيد برشيد

ترتكز غالبية هذه التسميات على اللغة الإنجليزية، وتنتمي إلى حقل دلالي يحيل على الشجاعة والنبل والقوة كصفات للمنافسة وإثبات الذات (“بويز”، “وينرز”، “هيركوليس”، “فايترز”، “ماتدوريس”، “ريفولتي”..) مع استعمال خصوصيات محلية، في بعض الحالات، كاستعارات هويَّاتية، مثل “حلالة بويز”، حيث تشير “حلالة” إلى نبات محلي بمنطقة القنيطرة أو “إيمازيغن” و”سواسة” و”ريفينوس”؛ حيث إن هذه الألفاظ تحيل على اسم الساكنة بمنطقة أكادير وآيت ملول والريف أو على فترة من تاريخهم كـ “قراصنة” كما هو الشأن بالنسبة لفريق الجمعية السلاوية. أما “ألتراس شارك” (القروش) فهي كناية على طبيعة النشاط الاقتصادي لمنطقة آسفي الذي يرتكز على الصيد البحري، أو “أورانج” (الليمون) في حالة النهضة البركانية كمنتوج يميز منطقة بركان ونواحيها (17).

  1. الانتقال من مواقع رياضية إلى مواقع احتجاجية

بما أن الدراسة ركزت على الحيز الزمني الذي يمتد من عام 2017 حتى حدود مارس/آذار 2019 من الضروري الإشارة إلى المنع (18) الذي طال مجموعات الألتراس في المغرب، والذي استغرق سنة كاملة، حيث حظرت إبَّانه وزارة الداخلية، في أبريل/نيسان 2016، جميع أطياف الألتراس من الولوج إلى الملاعب بعد الأحداث الدامية التي جمعت فصيلين من ألتراس فريق الرجاء، وهما: فصيل النسور وفصيل غرين بويز، وراح ضحيتها مشجعون من فريق الرجاء البيضاوي. فَتَحْتَ اسم قانون 09/09 يشار إلى القانون المتعلق بتتميم مجموعة القانون الجنائي “في العنف المرتكب أثناء المباريات أو التظاهرات الرياضية أو بمناسبتها”، والتي تتراوح فيها الأحكام بين السجن بالنسبة للأحداث المؤدية للموت وأقصاها خمس سنوات والغرامات المالية وأقصاها 50 ألف درهم (حوالي 5.200 دولار). بعد شهر مارس/آذار 2018، وهو تاريخ عودة الألتراس إلى الملاعب، صار فعل الألتراس في المغرب، لاسيما ألتراس الرجاء والوداد البيضاوي والنادي القنيطري، يكتسي حلة شعارات خطابية مهتوفة ومُغَنَّاة ومكتوبة متضمنة لمنسوب عال من الاحتجاج والمطالب الاجتماعية والسياسية.

فيما يتعلق بسياق الانتقال من مواقع رياضية إلى مواقع احتجاجية يتوجب إيلاء أهمية اجتماعية لطبيعة الخطاب من زاوية ارتباطه بشريحة عمرية بعينها وهي شريحة الشباب. لذلك، فإن لفهم تمظهرات طبيعة الخطاب يبدو ضروريًّا ربطها بنسق سلطة خطاب الألتراس(19) وقدرتها على ملء الفراغ الذي خلقته البنيات السياسية والنقابية والمدنية. من خلال معاينة الخطابات في مواقع الألتراس التي اشتغل عليها الباحث، لاسيما مواقع ألتراس الرجاء البيضاوي والوداد البيضاوي والنادي القنيطري والمغرب التطواني(20)، لاحظ أن الانتقال تم من خلال متن حقوقي ارتكز أساسًا على المطالب الشبابية، لأنها مطالب الشريحة التي تشكِّل ساكنة الملاعب؛ يتراوح عمر أغلبية أفرادها بين السادسة عشرة وسن الخامسة والعشرين.

كما أن ضيق مواقع الاحتجاج وخصائص المحتجين (الفئة العمرية للألتراس) قد أدى إلى خلق هامش من الحرية عبر تملُّك فضاءات رقمية (مواقع الألتراس والمجموعات الرقمية) لا تستدعي ترخيص السلطات وتتيح مفعول المفاجئة ومباغتة الخصم المفترض (الحكومة أو السلطة أو الدولة…) عبر تعبئة وخطاب مُفَكَّر فيه. هذه الاستراتيجية تخضع لسياق الانتقال من مواقع رياضية إلى مواقع احتجاجية في تفاعل إيجابي مع سيكولوجيا الجماهير مما أدى إلى تحول في محاضن التنشئة: فمن تنشئة داخل بنيات تقليدية (أحزاب سياسية، جمعيات شبابية، منظمات مدنية) إلى تنشئة في أحضان بنيات حديثة (فصائل الألتراس) و”ممارسة سياسية” خارج المؤسسات وفي فضاءات افتراضية مفتوحة.

في هذا الصدد، تشكِّل الفردية الجماعية (21) مفهومًا يمكِّن من تتبع ثقافة وأسلوب جديدين للاحتجاج ورصد منظومة احتجاجية لها منطلقاتها ومقوماتها ووقعها التعبيري والسلوكي على الفرد والجماعة. كلتا الصيغتين سواء صيغة المفرد (“الفردية”) أو صيغة الجمع (“الجمعية”) تركزان على انتماء يتماهى فيه الفرد مع الجماعة، وتتماهى الجماعة فيه مع الفرد. فهذا التعبير الاحتجاجي الجديد يعكس خطابًا يتداخل فيه الانتساب إلى جماعة بعينها (الألتراس)، والشعور بالانتماء إلى المجتمع المغربي من خلال سلوك الفاعلية والرغبة في الانخراط في الدينامية المجتمعية، والـتأثير في السياسة العامة للبلاد مع ما يتطلبه ذلك من تضحية وفراق الأهل و”الأمهات”(22) وشعور بالمغامرة الفردية والجماعية في سبيل حب وعشق الفريق.

فيما يتعلق بتركيب وبنية الحقل المعجمي للشعارات، يمكن الوقوف على نسق خطابي تمتزج فيه الذات الجمعية: “مابغيتونا نقراو، مابغيتونا نخدمو، مابغيتونا نوعاو”، و”سكتونا بالفاليوم”، و”الحرية لي بغينا يا ربي”، “جيناكم من للخر”، “فهاد لبلاد عايشين ف غمامة”، “خلاونا كليتامى”… والذات الفردية: “الهدرة طلعت ف راسي وغير فهموني”، “ما نلاشيش ما نلاشيش”، “لمن نشكي حالي”، “راني مغبون”(23) التي تمثِّل البوح الفردي والشخصي للألتراس..

جدول رقم (2) يبيِّن الخريطة المعجمية لخطاب الألتراس

م الوحدات المعجمية البارزة الملفوظ الاحتجاجي
1 الفاليومValium) ): دواء مخدر ذو قدرة إدمانية عالية “سكتونا بالفاليوم”
2 “الحرية” “الحرية لي بغينا يا ربي”
3 “ما نلاشيش” فعل مقترض من الفرنسية في صيغة النفي بالعامية المغربية يقابله بالفرنسية    (Je ne lâcherai pas) “ما نلاشيش ما نلاشيش” (لن أستسلم لن أستسلم)
4 “فاير” ( (Fire(كلمة مقترضة من الإنجليزية تعني “النار”) “المعيشة أون فاير”
5 ” البابور” (المركب: كناية على الهجرة) “الشعب مَحْكُورْ كيفكَّر فَالْبَابور”

كلتا الصيغتين الخطابيتين، صيغة المفرد وصيغة الجمع، ترتكزان على تعابير وشعارات ومقولات تدخل في إطار التحدي الإيجابي وتحيلان على حقول خطابية ترافعية من قبيل: المظلومية “فَ بْلادِي ظَلْمُونِي”(24) و”لمن نشكي حالي”، والحُكْرَة: “الشعب مَحْكورْ كَيْفَكَّرْ فَالْبَابُّور”، والممانعة: “المعيشة أون فاير”، و”جاي نَكْلاشِي الحكومة”، و”مَغَنَمْشِيوشْ لْعَسْكَرْ” (لن ألبِّي الدعوة للخدمة العسكرية).

جدول رقم (3) يبرز الحقول الخطابية لشعارات الألتراس المهتوفة والمُغَنَّاة والمكتوبة

م المتن الاحتجاجي الحقول الخطابية
1 “الشعب مَحْكُورْ كيفكَّر فَالْبَابور”، “عَايْشِينْ فَ غْمَامَة”، “راني مَغْبُونْ”، الشعب مَحْكورْ” غياب العدالة الاجتماعية
2 “ما نلاشيش ما نلاشيش ” (لن أستسلم لن أستسلم) الممانعة والإصرار
3 ” مَغَنَمْشِيوشْ لْعَسْكَرْ” (لن ألبِّي الدعوة للخدمة العسكرية)، “جاي نَكْلاشِي الحكومة” (حضرت لأتنازع مع الحكومة) الصدامية الجماعية
4 “بصوت الشعب لي مقموع جاي نغني جاي نقول” المرافعة الشعبية
5 “مابغيتونا نقراو، مابغيتونا نخدمو”، “مابغيتونا نوعاو باش تبقاو فينا تحكمو”، “خلاونا كي اليتامى” الحرمان الاجتماعي
6 “في بلادي ظلموني”، “مواهب ضيعتوها بالدوخة هرَّسْتُوها”، “صرفوا علينا حشيش في كتامة” المظلومية والتيئيس
7 “في القبة التكرير وف المقرر البغرير” فقدان الثقة في السياسة

في هذا المتن الاحتجاجي وتعبيراته الجديدة، يعمد الأفراد الفاعلون إلى تنظيم تفاعلاتهم مع باقي أفراد المجتمع من خلال “مَسْرَحَتِها”، وتوزيع أدوار بعينها، تُمكِّن من بناء المعنى الجماعي. ففي حالة ألتراس المغرب تشكِّل تفاعلات المجموعات الافتراضية، مثل: غرين بويز، وينرز، حلالة بويز، كاب سولاي، ألتراس إيمازيغن، أساس بناء المعنى الاحتجاجي بالارتكاز على البيئة الثقافية والمعيشية للمتفاعلين من خلال إبداع هاشتاغات ورسائل وأغان وشعارات متفق عليها من طرف “المؤلفين” و”الكتَّاب”. تُوَزَّع الرسائل الخطابية وتتم التعبئة لها افتراضيًّا تحت مسؤولية وتأطير مسيِّري المجموعات “الأدمين” ويتلقاها مجموع منخرطي الألتراس لـ”تَمْثِيلِها” و”تجسيدها” وتَخْرِيجِها كعمل مسرحي لمفاجأة “الخصم المفترض”، وكذلك كمتنفس للتعبير عن دراما واحتقان الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما يُبَيِّنه أدناه مضمون لافتة ألتراس النادي المكناسي حول احتجاجات الأساتذة.

صورة رقم (1) تظهر لافتة لألتراس النادي المكناسي عن أوضاع الأساتذة بالمغرب (25)

نص اللافتة: “لن تتقدم البلاد ما دامت تسيء للأستاذ”.

لهذا، يتم لعب الأدوار في احترام تام للآخر والبيئة المحيطة من خلال ميثاق أخلاقي يتأسس على خطاب مواطن متفق عليه: “شجِّعْ فرقتك بلا ما اتْخَسَّر هَضَرْتَكْ” (شجع فرقتك دون استعمال ألفاظ نابية)، و”شجع فرقتك ونقي ابْلاصْتَكْ” (شجع فرقتك ونظِّف مكانك). ويمكِّن هذا الإطار النظري من فهم التغير الذي طرأ على طبيعة المجتمع؛ حيث تمَّ الانتقال من مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال، وأصبح الاتصال كاستراتيجية لـِ”المَسْرَحَة” والتعبير عن الاحتجاج، هذا التحول يسائل طبيعة ونوعية الخطاب وكيفية مقاربة هوية المحتجين الجدد مع الأخذ بعين الاعتبار الدينامية السياسية في المغرب والمحدِّدات الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى هذه الفاعلية (26) الجديدة التي أوجدت وعاء جديدًا لشعور المواطنة وهو وعاء المواطنة الافتراضية.

من الملاحظ إذن أن الشعارات المتداولة لم تصبح مقتصرة على جمهور أو ألتراس فريق معين ومحصورة في مواقع بذاتها (ملاعب كرة القدم)، بل صار لها تواجد وتداول خارج هذه المواقع وتمَّ تملُّكها من طرف أطياف مختلفة من المواطنين لا علاقة لهم بالرياضة ويعيدون تصريفها في مواقع مجتمعية أخرى، كالمعاهد الجامعية والأسواق والمسيرات الاحتجاجية. فالخصم لم يعد الفريق المقابل أو السياسة الرياضية أو الجامعة أو المدرب فلان مثلًا، بل السياسات الحكومية ومقرريها؛ فالمواجهة الخطابية تتم بتفويض الرياضة كجسر للاحتجاج وتحقيق الفاعلية والانخراط في المجتمع. فيما مضى كانت الجماهير الرياضية ترفع لافتات ضد المؤسسات الرياضية، واليوم أصبحت المضامين ذات المرجعية السياسية والحقوقية تطغى على الشعارات داخل الملاعب.

ومع تراجع الوساطة المدنية والسياسية أضحت الملاعب تشكِّل تعويضًا لمواقع الاحتجاج الكلاسيكية (ساحات المؤسسات الحكومية أو في مدينتي الرباط والدار البيضاء…)، بل مواقع تتم من خلالها التنشئة السياسية الفردية والجماعية وتقمص هويات “نضالية” ظرفية. وهذه التنشئة تستند إلى المطالبة والترافع على مجموعة من القيم المادية، مثل الصحة والتشغيل والتعليم ومستوى المعيشة (“الشعب مَقْهُورْ”، و”التعليم رَاجَع اللُّورْ”، و”الشعب مَهْمُومْ”، و”الشعب مَضْيُومْ”)(27)، وأيضًا على نقد مرير وسخرية لاذعة من السياسات العمومية مدعوم بعبقرية خطابية جماعية شبابية ونشاط سياسي افتراضي كما يظهره شعار “في القُبَّة التْكَرْكِيرْ.. وفي المُقَرَّر الْبَغْرِيرْ”، وهو شعار يزدري سلوكات البرلمانيين داخل قبة البرلمان (يمضون وقتهم في الضحك) وينتقد إدراج اللهجة المحلية/المغربية في مقررات التعليم الأولي (معجم العامية في المقررات).

صورة رقم (2) تبرز انتقاد الألتراس لأداء البرلمانيين واستخدام العامية في المقررات الدراسية (28)

نص اللافتة: “فُالْقُبَّة التْكَرْكِيرْ.. فَالْمُقَرَّرْ الْبَغْرِيرْ” (لفظة ” التْكَرْكِيرْ” تحيل على الضحك المبتذل في مجلس النواب، أما كلمة ” الْبَغْرِيرْ” التي أُدْخِلَت إلى المقررات الدراسية فتعني بالعامية نوعًا من الخبز المحلي).

وبالنظر إلى أن عدد المنخرطين في بعض مجموعات الألتراس يفوق المليون منخرط، وهم كذلك في اتصال مستمر وتعبئة متواصلة عبر يقظة افتراضية وتفاعل جماعي، يمكن كذلك التساؤل حول إمكانية انتقال هذا الجمهور الافتراضي إلى الواقع الميداني والاحتجاج في الفضاء الواقعي، باعتبار أن منسوب الوعي السياسي لدى الألتراس قد يُمكِّنهم من التنظيم والتحرك خارج أسوار الملاعب الرياضية، لتصبح المواجهة مباشرة مع السلطات والحكومة والدولة كما وقع مع التلاميذ الرافضين للساعة الإضافية في عدد من المدن المغربية؛ إذ تحوَّل التفاعل الافتراضي إلى فعل واقعي من خلال الوقفات الاحتجاجية أمام المؤسسات التعليمية. فهل سيظل احتجاج الألتراس، في ظل الصرامة والإجراءات الزجرية تجاه الفصائل المشجعة، حبيس أسوار الملاعب ولن يتعداها إلى الشارع؟

  1. الفضاء الرقمي في علاقته بإبداع أشكال جديدة من الاحتجاج

رافق دخول الألتراس إلى عهد الاحتجاج والنشاط السياسي الرقمي، أو ما يُطلَق عليه “الهاكتيفيزم” (Hacktivisme) (29)، بزوغ مجتمع سياسي من الشباب المتصلين والناشطين شبكيًّا/رقميًّا. فأضحى نشاط هذا الجيل من الشباب بمثابة تمظهرات لديمقراطية رقمية ترتهن بالتحولات المجتمعية التي بدورها أفضت إلى مصفوفة من المتطلبات والحاجيات الجديدة على أساسها تتم الممارسة السياسية، من قبيل حاجيات جماعية تتصل بالقيم المادية، مثل التشغيل والصحة والتعليم والمواصلات والبنيات التحتية والسكن والأمن والماء والكهرباء… وحاجيات نخبوية ترتبط بالقيم غير المادية من قبيل المطالبة بالمناصفة، وإلغاء عقوبة الإعدام، والحريات الفردية، وحرية العقيدة، والمساواة في الإرث، والحق في اللغة، والحق في الثقافة.

بموازاة هذه الحاجيات الجماعية والنخبوية ظهرت حاجيات فردية تحيل على قيم الحياة التي تجسدها مسيرات العطش وغلاء المعيشة ونسبة الوفيات (الرضع، النساء الحوامل)، وعودة بعض الأوبئة (السل والليشمانيا والأمراض التناسلية والسرطان…)، ووقع التقلبات المناخية وعدم التكافؤ في توزيع الثروات؛ مما أدى إلى خلق فضاء راديكالي ومجال لثقافة مضادة ورأسمال رمزي مكتسب رافض للحلول الوسطى فتحول الفضاء الرقمي إلى قناة للتحدي والمقاومة ومجال لفرض الذات، وصار تعبيرًا عن تجاهل تمثُّلات الآخر الدونية (ربط الألتراس بالشغب والمخدرات والانحراف) ومجالًا للمصالحة مع الذات ما نتج عنه تكامل احتجاج الملاعب بالاحتجاج الرقمي وصار يمثِّل آلية واستراتيجية نضالية للضغط والتحاور والدفاع عن المكتسبات وتحقيق المطالب.

في هذه الحالة، هل يُشكِّل احتجاج الشاشات (السيلفيات ومقاطع الفيديو والأغاني والأناشيد) أداة مساعدة ومواكبة لاحتجاج الملاعب أم إنه أمام عدم فاعلية احتجاج الملاعب ستعمد الألتراس إلى نهج الاحتجاج الرقمي لتفادي المواجهة المباشرة مع السلطات وجرِّ الفاعل المؤسساتي إلى معترك العالم الافتراضي الذي لم يخبر بعد متاهاته وتحدياته؟

لفهم هذا النوع من الممارسة السياسية الرقمية، نحيل على عناصر المرور من التعبئة الرقمية إلى الأثر الواقعي، وهذه العناصر تتمثَّل في تملك الخطاب الاحتجاجي والترصيد والتمكين من خلال الرمزية الاحتجاجية والعمق التفاوضي لشعارات الألتراس وقدرتها على إعادة بناء الرأي العام. ويتم هذا البناء الدلالي عبر الإجماع على جدوى الفعل الاحتجاجي لاسيما مع ردود الفعل التي تلت منع الألتراس من الميادين، وغياب قطب مناهض لمجتمع الألتراس والتحول من الاعتبارات المادية (المطالبة برفع التيفوات “لوحات فنية”، ومتابعة المقابلات والتنقل مع الفريق…) إلى تمثُّلات قيمية رمزية حقوقية ومجتمعية من قبيل العدالة والتضامن والعيش الكريم.

فالاحتجاج في صيغته الافتراضية يجسد المنطق الجديد للممارسة السياسية للألتراس التي تعتمد على خطاب المواطنة الافتراضية بالارتكاز ليس على أيديولوجيا معينة، بل على “ميديا”(30) تُؤَسَّس على مصفوفة من الصور المعبِّرة والمؤثرة ومقاطع فيديو صادمة وتصريحات يائسة و”هاشتاغات” معبئة ومقولات بعينها من قبيل: “الشعب” و”الحكرة” و”جينيراسيون” ((Génération بمعنى الجيل الذي يمثِّله شباب الألتراس. فإذا كان الاحتجاج الواقعي (احتجاج الملاعب) احتجاجًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، فإن الاحتجاج الرقمي (احتجاج الإنترنت والشاشات والشبكات الاجتماعية) هو احتجاج افتراضي عابر للحدود ومنفتح على جميع السياقات (فلسطين، الجزائر، تونس، مصر…) يُشكِّل فيه التشبيك والاتصال والتشارك أداة للتمرُّن على الاستقطاب السياسي والانخراط الجماعي والالتقاء حول القضايا الاجتماعية والسياسية المشتركة لبلدان المنطقة كما تُبَيِّنُه الصورة أدناه التي رفعتها ألتراس الرجاء تنديدًا بإعدام تسعة شبان بمصر (“السجان واحد مع اختلاف الأزمان، من يوسف عليه السلام إلى شبان مصر الشجعان”).

صورة رقم (3) توضح التقاء المشجعين حول قضايا اجتماعية وسياسية مشتركة (31)

نص اللافتة: “السجَّان واحد مع اختلاف الأزمان، من يوسف عليه السلام إلى شبان مصر الشجعان”

يمكن الإقرار بأن أحد الأسباب المباشرة لاحتجاج الألتراس في المغرب هو رغبة الأفراد في تجاوز جميع البنيات السياسية والدينية والنقابية والمؤسساتية والتحرك دون مواجهات مباشرة مع السلطة بالارتكاز على ثقافة “بارطجي” (شارك) كأداة للإقناع والتوافق والالتزام الجماعي. فالممارسة الاحتجاجية الافتراضية بالنسبة للفرد والمجموعات صارت تشكِّل الضامن لاستمرارية الممانعة والتعبئة. وكنتيجة لهذه الثقافة تمكَّن الحراك الرقمي من إعادة تصويب الوعي الاجتماعي والتفكير في غزو فضاءات أخرى من خلال ثقافة مضادة ما جعلها مجالًا جديدًا للتنشئة الافتراضية يتأسس على يقظة مواطنة أفضت إلى نزوح من العالم الواقعي إلى العام الافتراضي. وهذه اليقظة المواطنة ترتكز على مبدأ سيادة الموقف على الفاعل، فأصبح الافتراضي هو الجسر الجديد للاحتجاج السياسي للألتراس وكآلية للضغط والتأثير.

وكمآل حتمي لهذه الممارسة الاحتجاجية، برز فاعل سياسي جديد مُمَثَّل في شباب الألتراس الذي يتميز فعله ونشاطه السياسي بممارسة سياسية وسائطية رقمية، بينما كانت الشعارات السياسية التي تُتَدَاوَلُ في السابق داخل الملاعب الرياضية بالمغرب في غالبيتها ذات صبغة سيميائية وهويَّاتية من خلال التلويح ببعض الرموز من قبيل العلم الفلسطيني أو الأمازيغي أو الباسكي أو صور بعض الشخوص الثورية (شي غيفارا، وياسر عرفات). أما بعد شهر مارس/آذار 2018، وهو تاريخ الترخيص بعودة الألتراس للملاعب، صارت الشعارات خطابية تتضمن منسوبًا عاليًا من الاحتجاج والمطالب الاجتماعية والسياسية تروم تحسين أوضاع الشباب المغربي والانخراط في الدينامية السياسية الوطنية والإقليمية.

  1. رهانات وتحديات الخطاب الاحتجاجي: ممارسة المواطنة

يبدو أن التحدي الأساس أمام الخطاب الاحتجاجي للألتراس هو ربطه بظاهرة الشغب(32) واعتباره نقيضًا لمقولة وخطاب المواطنة. إن المعطى الأول الذي أرجع الموضوع إلى النقاش من جديد هو أحداث العنف والتخريب التي تلت بعض المقابلات منها أحداث الحسيمة وسيدي قاسم (2018) ووجدة (2019)، كما أن ما وقع ويقع من شغب منذ سنوات يمكن تفسيره بالارتكاز على عدة محددات يتداخل فيها ما هو قانوني بما هو مجتمعي، وما هو مرتبط ببيئة التنشئة الاجتماعية، ومحيط العيش المشترك. فالشباب حين ولوجه للملعب، تحدث عنده قطيعة مع منظومة المواطنة، ويخرج من الملعب بشحنة مضادة تجعله خارج القانون، ومن ثم يعيث عنفًا في المحيط، مما يخلق تشنجًا وبوادر ثقافة كراهية بين المواطنين. فإذا كان مجال الرياضة يمثِّل في الأصل فضاء للتعايش والتآخي والروح الرياضية، فهذا المجال في المغرب، ينطوي على بؤر توتر اجتماعية، بحيث يبدأ بتوتر رمزي من خلال عنف خطابي يجسده التراشق بالألقاب والشعارات ليتحوَّل إلى عنف مادي يمكن أن يسفر عن خسائر في الأرواح كما حدث سنة 2016 بين فصيلين من ألتراس فريق الرجاء (فصيل النسور وفصيل غرين بويز).

وبالنسبة للحلول التي يمكن من خلالها تجاوز هذه الظاهرة، يبدو أن الرجوع إلى التجارب الدولية في غاية الأهمية لاسيما التجربة الإنجليزية. في إنجلترا لا يفصل بين المدرجات ورقعة الملعب إلا متران أو ثلاثة أمتار فقط، فلماذا لا يهجم الجمهور ولا تقع أعمال شغب؟ لأن الذي يؤدي ثمن التذكرة، في القانون الإنجليزي، هو مواطن معروف، ويجلس في كرسي يحمل رقمًا معينًا وتتوفر السلطات المعنية على كل المعطيات التي تهم صاحبه. فالذي يلج الملعب ليس متفرجًا بدون هوية، يفعل ما يريده بلا قيود، بل يجب أن يكون المتفرِّج قبل هويته العابرة والظرفية (متفرجًا ومحبًّا لفريق) مواطنًا بهوية محددة وقارَّة ابتداء من المقعد الذي يجلس عليه، حيث يتم ربطه بالمعطيات الشخصية، وبالتالي فإن ذلك يفرض عليه احترام الفضاء العمومي، وتَحَمُّل مسؤولية سلوكه كمواطن.

كما تجدر الإشارة إلى أن إيجاد الحلول لهذه المشكلة الشبابية في الحالة المغربية مرتبط أيضًا بمحاضن التنشئة الاجتماعية التي تبتدئ من المدرسة والأسرة ودور الشباب وغيرها. فدور المدرسة مثلًا يتجلى كذلك في التحسيس بإيجابيات المواطنة المسؤولة، ومحاربة ثقافة العنف، خطابًا وممارسةً، وإرساء مسارات المواطنة والتربية على القيم   وتأهيل ومواكبة الجمعيات الرياضية التي تؤطِّر شباب الألتراس. كما تبرز في هذا الخضم أهمية “اليقظة الاستراتيجية” التي تمنع حدوث أي عنف أو شغب قبل أي مباراة من خلال تتبع رسائل وتفاعلات مجتمع الألتراس في الفضاءات الرقمية.

ومن زاوية أخرى، يمكن استشراف رهانات الخطاب الاحتجاجي للألتراس في المغرب على ضوء عدة مؤشرات، منها على سبيل المثال لا الحصر:

أولًا: الاحتباس القيمي وتراجع بعض القيم، مثل: التضامن، والمساواة، والعدل، و”المعقول”، وتجذُّر بعض المقولات مثل: الحكرة، والظلم، والمظلومية، والفساد، و”التشرميل”(33).

ثانيًا: الحرمان الاقتصادي الذي يفسر اندلاع حركات الاحتجاج الواسعة كنتيجة لانتشار الفقر والهشاشة والتبئيس بين المواطنين، وفقدان الثقة في الوظيفة الاجتماعية للسياسات العمومية (مستوى المعيشة، ودور القطاع الخاص في تحسين البيئة المعيشية).

ثالثًا: الارتباك المجتمعي مع تزايد الوعي بالحقوق المادية والتشكيك في دور المنظومة السياسية والاقتصادية في تحسين البيئة المشتركة وخدمة الصالح العام.

رابعًا: النفور السياسي الواقعي للشباب؛ حيث أصبح الانخراط في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من تمثُّلات المحظور مما سيؤدي إلى تبخيس العمل السياسي والمدني، ويخلق رأيًا عامًّا سيزداد ازدراؤه للسياسة والعمل المدني باعتباره ضربًا من “التجارة” أو “الاغتناء”.

خامسًا: إعادة تسيس الألتراس عبر بوابة الافتراضي من خلال تنشئة افتراضية مبنية على حقائق معيشة (فيديوهات، صور، هاشتاغات، ترول، أناشيد) وليس على أخبار زائفة مما نتج عنه جيل متصل، كما تؤكده بيانات التقارير حول الوضعية الرقمية بالمغرب. في هذا الصدد، كشفت مؤسسة “هوت سويت” (Hootsuite)، في تقريرها السنوي المعنون بـ”الحالة الرقمية في العالم لسنة 2019″(34)، بخصوص انتشار مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب، عن كون نسبة استخدام الشبكة العنكبوتية من قِبَل المغاربة وصلت إلى 62% وهي نسبة تفوق المعدل العالمي الذي يبلغ 57%، أي ما يعادل 22.57 مليون مغربي. وتبلغ نسبة ولوج المغاربة إلى الشبكة العنكبوتية 86% كل يوم. أما بخصوص استعمال مواقع التواصل الاجتماعي، فقد أكدت بيانات التقرير أن “واتساب” يحتل المركز الأول بنسبة 87%، متبوعًا بموقع “فيسبوك” بنسبة 76%، يليه “يوتيوب” بنسبة وصلت 60%.

وتبعًا لهذه المؤشرات المجتمعية، يمكن رصد بعض تحديات التحولات الاجتماعية في علاقتها بالسلوك الاحتجاجي للألتراس. فاستعجال البدائل التنموية يبدو ضرورة ملحَّة للفعل التدبيري المُعَقْلَن والرؤية السياسية الاستباقية لكيلا تتحوَّل حالة التبئيس و”قلة الحيلة” التي يعاني منها شباب الألتراس إلى عصيان مدني يجد مبرراته في إحباط مجالي وخطاب درامي مُؤَسَّس على تمثُّلات عفوية حول تنمية غير عادلة تعيد وجدان الألتراس إلى ثنائية قاتلة تميز بين “مجالات غنية متطورة” و”مجالات فقيرة متخلفة”. كما أن الحكومة مدعُوَّة إلى الانكباب على إعادة الدينامية إلى الحركية الاجتماعية التي شهدت فرملة في ظل التحولات المجتمعية التي يشهدها المغرب. وكنتيجة مباشرة لهذه الفرملة تلاشت الطبقة الوسطى، والتي يشكِّل تلاشيها خطرًا على الاستقرار الاجتماعي في المغرب؛ فالطبقة الوسطى في المغرب تعيش تصلُّبًا؛ نتج عن تفاوت في تكافؤ الفرص في المنظومة الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع مؤشرات الرقي الاجتماعي التي كان يمثِّل التعليم والتكوين محركها الأساسي، وأضحت معها شريحة الشباب ومن بينها الألتراس تشعر بأنها فقيرة وفي وضعية هشاشة. كما أن من بين تمظهرات هذه الفرملة عودة التمثُّلات الإيجابية حول الهجرة السرية؛ ذلك أن الشبان المغاربة أضحوا يفضِّلون الهجرة والمغامرة بأرواحهم في عرض البحر ومشاركتها بالسيلفي كنوع من حكايات النجاح على البقاء في المغرب وعدم إدماجهم اقتصاديًّا كما تردده لازمة إحدى أغاني “حلالة بويز” “الشعب مَقْهُورْ كَيْفَكَّرْ فَ الْبَابُّور” (الشعب مقهور يفكر في الهجرة).

  1. احتجاج الألتراس: معارضة سياسية من خارج البنيات المنظمة

في ظل تراجع الوساطة المؤسساتية والسياسية والمدنية وتموقع المعارضة الفعلية داخل الشارع (35) وفي مواقع الفضاء الرقمي، أي خارج المؤسسات والبنيات المنظمة، انتقلت المعارضة الواقعية إلى معارضة افتراضية تجاوزت مفعول وتأثير المعارضة السياسية الكلاسيكية، حتى أصبحت هذه الأخيرة تابعة لها ولنبضها وإيقاعاتها وصار لزامًا على الفاعل السياسي استباق التفاعلات الافتراضية حول الراهن المغربي لكي لا يظل في حالة شرود. وهذا ما يمكن التَّمثيل له من خلال تأويل بعض الفاعلين السياسيين من داخل البرلمان لبعض أناشيد الألتراس “فَ بْلادِي ظَلْمُونِي” على أساس أنها صرخة ضد مروجي المخدرات وليست ضد السياسات العامة للحكومة.

في المقابل، يعيش الشباب، وضمنهم جموع الألتراس، حالة اغتراب سياسي يُصرَّف عبر الانخراط في الشبكات الافتراضية وتعويض هوياتي تم من خلاله استقالة الهويات الواقعية وتحميل هويات جديدة ذات طبيعة افتراضية بخطاب نوعي ينهل من حقول دلالية ترافعية. وهذا ما يعكس نمطًا من الاحتباس القيمي وسط الشباب يحيل بدوره على درجة معينة من الإحباط (36) كباعث على الاحتجاج يتم التعايش معه عبر سلوك اتصالي لا يعدو أن يكون نوعًا حديثًا من الإدمان: الإدمان الإلكتروني. في هذا الخضم، أصبح الألتراس المغربي جزءًا من العالم المعولم، ومن الآثار المترتبة عن هذا التحول أن الإنترنت أصبح “فضاء عامًّا”(37) للحوار وبلورة خطاب احتجاجي يوفر هامشًا واسعًا من الحرية لتداول القضايا ذات الأولوية بالنسبة للألتراس. كما أن هذا التحول أفضى إلى نوع من التداول المتحرر نسبيًّا من الرقابة الرسمية، فالمواطنة الواقعية أضحت افتراضية مفتوحة على جميع الرهانات.

يمكن وصف هذا النوع من المواطنة كشكل من أشكال الوعي السياسي للألتراس الذي أتاح بناء خطاب جامح بـ”فاعلية” تكتسح مساحات إضافية داخل الأسرة ومختلف البنيات المجتمعية، وقد تتحول إلى سلوك معارض يستمد قوته من المشاركة الرقمية. ومما يزكي هذه الملاحظات أن الشبان المغاربة، وضمنهم الألتراس، يقضون وقتًا أطول على الإنترنت؛ فقد أكد البحث الميداني السنوي المنجَز من طرف الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات حول مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصال لدى الأسر والأفراد (38)، لسنة 2018، أن عدد مستعملي الإنترنت في المغرب يفوق المتوسط العالمي بـ8 نقاط وأن ثلثي المستعملين يستخدمون الإنترنت يوميًّا، وما يقارب نصفهم يقضون أكثر من ساعة على الإنترنت من خلال الهاتف المحمول. في ظل هذا الواقع الرقمي وانطلاقًا من الإحصائيات حول أناشيد وأغاني الألتراس، يمكن الإقرار بأننا إزاء عهد جديد من الخطاب الاحتجاجي ألا هو “الخطاب الاحتجاجي الرقمي” لاسيما إذا تم الاستدلال بأغنية “فَ بْلادِي ظَلْمُونِي” التي تجاوز عدد متتبعيها ستة ملايين وتقدمت على أغنية وشعار فريق برشلونة الإسباني.

لهذا، أصبح ضروريًّا سَبْرُ أغوار العالم الرقمي، والتفاعل مع الشباب، والاشتغال على منطقه، والغوص في آلياته، وخَبْرُ تداعياته ليتمكن الفاعل السياسي من استشراف مآلات المعارضة السياسية للألتراس، واقتراح وإقرار السياسات العمومية الملائمة للمرحلة، والقبول بتراجع فعل وأثر الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية. لهذا، ولفهم أشكال الخطاب الاحتجاجي، لاسيما مع أفول عهد الوساطة المدنية والسياسية، يتوخى التعامل مع التعابير الاحتجاجية للألتراس ليس من داخل نسق ما يُسمَّى الانتقال الديمقراطي بل أساسًا من داخل نسق ومنطق التغير السياسي (39). من هذا المنطلق، سيتمكن الخطاب الاحتجاجي للألتراس من التأثير على المشروع المجتمعي المغربي لانتقاله من فضاء محدود (ملاعب كرة القدم) إلى فضاء مترامي الأطراف ألا وهو العالم الرقمي وخلق نوع جديد من التنشئة الاحتجاجية يصبح معها الافتراضي الجسر الوحيد للممارسة السياسية للشباب المغاربة.

للإلمام بتأثير الخطاب الاحتجاجي للألتراس على المحيط الاجتماعي والسياسي وخلفياته، يمكن الارتكاز على طبيعة القيم التي يحملها النزوح الرقمي للألتراس والفرص التي يقدمها لتعزيز قيم المواطنة والحرية والديمقراطية والتحديات التي يطرحها على مستوى محاضن التنشئة (الأسرة، المدرسة، جمعيات المجتمع المدني، الأحزاب). فمن القيم الجديدة التي أتاحها هذا الخطاب، يجب التذكير أولًا بقيمة الفردية الجماعية؛ فمن هذا المنظور يشكِّل التمرين السياسي بالنسبة للمحتجين مدخلًا للإحساس بشعور المواطنة والتغير الوجودي فتمَّ الانتقال من مقولة: الـ”تَّمَغْرَبِيتْ” والمغاربة والمواطنين إلى مقولات جديدة، مثل مقولة: “الشعب” و”اليتامى” التي تحيل عامة على الطبقة الفقيرة والمعوزة. ثانيًا: قيمة “التضامن غير المشروط” بحسب الوقائع والأحداث الراهنة والمتواترة في شكل ملصقات وصور وشعارات متضامنة مع حدث أو شخص كما هي الحال بالنسبة لألتراس “لوس ماطادوريس” Los Matadores))، وهو الفصيل المشجع لنادي المغرب التطواني، فيما يتعلق بالطالبة “حياة” الشابة التي قضت خلال محاولتها العبور إلى إسبانيا (40). ثالثًا: قيمة الرقابة المجتمعية؛ حيث يصبح شباب الألتراس في تربص مستمر بالوقائع والحقائق التي تمس الحياة العامة للمغاربة عبر ثقافة المكاشفة من خلال فعل النشر والمشاركة: “لوح” و”بارطجي” في فيسبوك أو واتساب كتعبير خطابي وتواصلي سياسي يرمي لكشف وفضح الواقع المعيش.

من هذه الزاوية، يمكن توصيف احتجاج المعارضة للألتراس من خلال جدلية المشاركة السياسية والمطالبة المواطنة. هذه المعارضة الجديدة تولَّد عنها تحول في طبيعة الخطاب الاحتجاجي؛ حيث أصبحت السمة الغالبة هي التصادمية (41). ومن تبعات هذه التصادمية، يمكن أن نشير إلى: تراجع الانخراط في العمل السياسي والمدني وتحييد وتقويض الوساطة السياسية والمدنية: “مواهب ضَيَّعْتُوها … كِيفْ بْغِيتُو تْشُوفُوها؟!”، وتجذُّر فقدان الثقة بين الدولة والشباب “فْلُوسْ لَبْلادْ كَاعْ كْلِيتُوها لْبَرَّانِي عْطَيْتُوها”. في المقابل، نشهد تضخم ثنائية “حْنَا” (نحن) و”هُمَا” (هم) (ثنائية الـ”نحن” والـ”هم”) وبروز ثقافة التفويض على اعتبار أن الألتراس “يتكلمون” بل صاروا صوت المجتمع و”الشعب” كما ورد في نشيد “وينرز”، وهو فصيل ألتراس فريق الوداد البيضاوي “بِصَوتْ الشعب لِي مَقْمُوعْ جَايْ نْغَنِّي جَاي نْكُولْ”.

وبموازاة عودة صراع الأجيال من خلال تمثلات انطباعية حول جيل الألتراس: “مْشَرمْلِين”، “مجرمين”… برزت حالة مجتمعية من التمييز السلبي عبَّرت عنها أغنية “حلالة بويز” “فـي تعليم إِكَلْخُونَا، بِزَرْوَاطَة إفكرونا، وعلى حقوقنا إمنعونا ويقمعونا..”، وأغنية ألتراس إيمازيغن في توصيفها لسلوكات رجال السلطة: “يقمع ويضرب فِيَّا، تَهْمُونِي وظَلْمُونِي والدَّمْعَة فْ عَيْنِيَّا”. لهذا، فمنطق التمييز السلبي نتجت عنه تعابير خطابية رافضة ومعارضة من خارج البنيات لاسيما مع أفول الخطاب الاحتجاجي المدني والسياسي المنظم وتجدد الاحتجاج العفوي وغير المنظم المؤسَّس على تعبئة افتراضية بمنزلة ممارسة وتمرين سياسي فردي وجماعي لشرائح احتجاجية جديدة مثل الألتراس والتلاميذ والنساء.

في هذا السياق، لم تشفع كل السياسات العمومية الخاصة بالتشغيل وتقليص الفوارق الاجتماعية(42) في الحد من معدلات البطالة بل عجزت الحكومات المتعاقبة عن إيجاد حل جذري وملموس لهذه الظاهرة، والتي تعرف انتشارًا كبيرًا في أوساط الألتراس وتسهم في تنامي احتجاج الملاعب نتيجة تدهور الدخل المعيشي للأسر المغربية، فيتحول الشباب من باحثين عن العمل إلى محتجين وضحايا لسياسات تشغيلية. وأصبحت علاقة البطالة باحتجاج الألتراس علاقة ترابطية تتمخض عنها خسائر وأعراض جانبية. ومن بين هذه الخسائر والأعراض الجانبية هناك العنف بجميع تمظهراته والذي يمكن رصده داخل ملاعب كرة القدم أو خارجها، وهذا العنف ليس مرتبطًا بنتيجة مقابلة كرة القدم بل بلحظة للتنفيس عن ظلم اجتماعي يُصرف من خلال خطاب احتجاجي مؤسَّس على شعور “الحُكْرَة”(43) التي من تداعياتها تهديد الأمن والسلم الاجتماعيين في ظل الانسداد السياسي وارتباك القيم الاجتماعية.

لهذا، يمكن إيجاز الفعل الاحتجاجي للألتراس بالاعتماد على الشكل أدناه الذي يساعد على فهم مصفوفة عناصر بروفايل أفراد الألتراس بالمغرب، وهو شكل يوضح علاقة جيل متصل رقميًّا بمحيطه الاجتماعي والسياسي من خلال سلوك معارضة جديدة ينبني على خطاب احتجاجي فاعل ومؤثر يرمي إلى تعميق الانتماء وتجذر ممارسة الرقابة المواطنة.

شكل رقم (1) يظهر بروفايل أفراد الألتراس

 

خاتمة

اعتمدت الدراسة على منظور عام لنظرية التفاعلية الرمزية كإطار لفهم الخطاب الاحتجاجي لشريحة الألتراس بالمغرب من خلال مقاربة كيفية ارتكزت على جمع المتون اللغوية والخطابية الاحتجاجية. كما أن دينامية الألتراس بالمغرب عرفت تحولًا بارزًا بعد سنة 2016، وهو تاريخ صدور قانون المنع، حيث بعد عودتهم إلى الملاعب صار خطاب الألتراس خطابًا احتجاجيًّا؛ فانتقلت معه حلبات الرياضة إلى مواقع لتمرين سياسي للشباب، وعنوانًا لانخراطهم في الصيرورة الاجتماعية والسياسية الوطنية والإقليمية. تمَّ هذا التحول من خلال وعاء الفضاء الرقمي بالنظر إلى خصائص جيل الألتراس الذي يتميز بكونه جيلًا متصلًا يتعايش ويتفاعل أساسًا عبر بوابة الافتراضي لتعميق مرتكزات مواطنته التي أضحت مواطنة رقمية عمادها الرقابة والفضح والكشف، مما خلق معارضين جددًا نشؤوا خارج البنيات الكلاسيكية المنظمة كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ويتميزون حصريًّا بخطاب احتجاجي مباشر وصدامي يجمع بين الذات الفردية والذات الجمعية ورافض لنصف الحلول ومناهض لـ”الحُكْرَة” والتهميش.

يمكن تباعًا اعتبار أن التحول النسقي الجديد في نوعية وخطاب الاحتجاج لدى شريحة الألتراس قد أسهم في تكريس الشعور بالمظلومية كما تعبِّر عنه لازمة “فَ بْلادِي ظَلْمُونِي”. وهذا النسق اعتمد حقولًا دلالية بعينها، مثل: عدم العدالة الاجتماعية والممانعة والإصرار والصدامية الجماعية والمرافعة الشعبية والحرمان الاجتماعي والتيئيس وفقدان الثقة في السياسة. فالخطاب الاحتجاجي للألتراس من هذا المنظور تعبير عن انسداد بنيوي لأفق الدولة قد يُسقط عقدة الخوف من ناحية وإمكانية انفلات المجتمع في أية لحظة من ناحية أخرى، ويقابل هذا الانسداد بطريقة متناقضة تضخم في خطاب الفاعلين (حكوميين أو مدنيين) لاسيما أن حاجيات ومتطلبات شباب الألتراس تظل دون إجابات مقنعة ولا تترجم على أرض الواقع. وكل هذه المظاهر ما هي إلا نتاج لمجموعة من التحولات الاجتماعية والتي أنتجت تعبيرات جديدة وخطابًا احتجاجيًّا مضادًّا في المغرب يجسده احتجاج الألتراس. لهذا، ففرضية النفوذ الرمزي لخطاب الألتراس أو الهيمنة الرمزية لخطابهم تظل واردة.

وتبقى هذه الفرضية الأقرب للتحقق بالنظر إلى وقع وفاعلية الخطاب الاحتجاجي لشباب الألتراس وتأثير تدويل منطقه وعمقه التفاوضي على حكومات ودول بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط. يمكن إذن استشراف أن الشعارات المتداولة في الملاعب ستتحول إلى لوازم تتكرر في جميع الاحتجاجات الشعبية بمفهوم “لايتموتيف” (Leitmotiv)، وهذا ما وقع في احتجاجات الجزائريين على العهدة الخامسة عندما ردد بعض المحتجين نشيد “فَ بْلادِي ظَلْمُونِي”. فالمتن الاحتجاجي لم يعد مقتصرًا على شباب أو جمهور أو ألتراس فريق معين أو محصورًا في رقعة جغرافية بعينها، بل صار مشتركًا رمزيًّا يتحدى الحدود السياسية ويحيي تضامن شعوب المنطقة ويتحدى حسابات وتوافقات البنيات الرسمية والحكومية من خلال تفاعلات رمزية متحضرة تشكِّل فيها بلاغة الخطابات الاحتجاجية سلاح التحدي والتغيير.

 

المراجع

(1) Dorsey, James, “Pitched battles: The role of ultras soccer fans in the Arab Spring”, Mobilization: An International Quarterly, 17(4), (2012), pp. 411-418.

(2) خميس، أكرم، ثورة جيل ألتراس، (المنظمة العربية لحقوق الإنسان، القاهرة، 2012)، ط 1، ص 75.

(3) Gibril, Susan, “Contentious Politics and Bottom-Up Mobilization in Revolutionary Egypt: the Case of Egyptian Football Supporters in Cairo”. In Gerges F.A. (eds) Contentious Politics in the Middle East. Middle East Today, (Palgrave Macmillan, New York, 2015), pp. 305-329-306.

 (4) Mayr, Erasmus, “Understanding Human Agency”, Oxford Scholarship Online, January 2012, (Visited on 8 February 2019):

 DOI:10.1093/acprof:oso/9780199606214.001.0001

(5) سراج، نادر، الخطاب الاحتجاجي: دراسة تحليلية في شعارات الحَراك المدني، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 2017)، ص 7.

  (6) Goffman, E. Comment se conduire dans les lieux publics, traduction et postface de Daniel Cefaï, (Économica, Études Sociologiques, Paris, 2013) , p. 19.

 (7)Lardellier, P. (dir). Actualité d’Erving Goffman, de l’interaction à l’institution, (Des Hauts et Débats, L’Harmattan, Paris, 2015), p. 3.

(8) Bourkia, A. Des Ultras dans la ville: Étude sociologique sur un aspect de la violence urbaine, (La Croisée des Chemins, 2018).

(9) Luckedoff, J. et Guillemette, F., Méthodologie de théorisation enracinée: Fondements procédures et usages, (Presses de l’Université de Québec, 2012), p. 5.

 (10) محمد، مصباح، الـتـيـارات الـسـلـفـيـة بـالمـغـرب: دراسة لسيرورات التحول نحو الراديكالية والاعتدال، (أطروحة لنيل الدكتوراه، جامعة محمد الخامس بالرباط، 2015)، ص 20.

 (11) Charmaz, K. Constructing Grounded Theory: A Practical Guide through Qualitative Analysis, )SAGE Publications Ltd, 2006), 1 ed, p. 2.

(12) Louis, S. Le phénomène ultras en Italie, (Mare et martin, 2006), p. 8.

(13) غرديقي، نزار، “تعرفوا على أبرز مجموعات الألتراس في شمال إفريقيا”، رصيف 22، 23 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 29 مارس/آذار 2019):

https://raseef22.com/article/47556-

(14) جمال بشير، محمد، كتاب الألتراس: عندما تتحدى الجماهير الطبيعة، (دار دوِّن للنشر والتوزيع، مصر، 2011)، ص 10.

(15) تعتبر “إلترا طنجيز”، التي تساند فريق اتحاد طنجة، نفسها أول مجموعة ألتراس أدخلت “الموفمون” للمغرب، وقد تأسست في 10 يناير/كانون الثاني 2003. موقع 360، 14 يناير/كانون الثاني 2016، (تاريخ الدخول: 28 فبراير/شباط 2019):

http://ar.sport.le360.ma/les-ultras/4311

(16) “الألتراس: القوة الاحتجاجية الجديدة التي تثير الرعب”، اليوم 24، 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 28 فبراير/شباط 2019):

«الإلتراس».. القوة الاحتجاجية الجديدة التي تثير الرعب

(17) تفروت، لحسن، “سوسيولوجية جمهور كرة القدم: الألتراس المغربي نموذجًا”، مشاهد رياضية، 6 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 15 فبراير/شباط 2019):

https://sport.machahid.info/8877.html

(18) للمزيد من المعلومات حول هذا المنع، انظر:

Hamza Hachlaf, Mohammed, “Officiel: le ministère de l’Intérieur lève l’interdiction des ultras”, Sport 24 info, (Visited on 13 February 2019):

https://www.sport24info.ma/football/ministere-de-linterieur-leve-linterdiction-ultras/

(19) عماد، عبد اللطيف، “بلاغة جمهور كرة القدم: إطار نظري ومثال تطبيقي”، مجلة العمدة في اللسانيات وتحليل الخطاب، (العدد 6، جامعة محمد بوضياف، الجزائر، 2019)، ص 10-11-30.

(20) روابط بعض المتون الخطابية التي تم الاشتغال عليها:

https://www.youtube.com/watch?v=g8kT2_ktY2w

https://www.youtube.com/watch?v=kJvFAUZiK-Q https://www.facebook.com/1307224877/videos/10217042587759343/

(21)  الحيدري، عبد الله الزين، “الميديا الاجتماعية: المصانع الجديدة للرأي العام”، مركز الجزيرة للدراسات، 25 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 3 يناير/كانون الثاني 2019):

https://bit.ly/2D7lq8S

(22) متن أغنية “دموع لميمات” نشيد لألتراس “وينرز” لفريق الوداد البيضاوي، يوتيوب، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2017، (تاريخ الدخول: 12 يناير/كانون الثاني 2019):

https://www.youtube.com/watch?v=9UPYDSkmSyM

(23) من نشيد ألتراس “لوس كالاس” لفريق الدفاع الحسني الجديدي، يوتيوب، 13 يونيو/حزيران 2015، (تاريخ الدخول: 19 فبراير/شباط 2019):

(24) نشيد “ف بلادي ظلموني” تم إعداده في مارس/آذار 2017 من طرف الـ“Gruppo Aquile” الجناح الموسيقي للنسور الخضر، TEL QUEL، 14 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 11 فبراير/شباط 2019):

https://bit.ly/2Z3nF6z

(25) رُفِعَت لافتة “لن تتقدم البلاد ما دامت تسيء للأستاذ” بتاريخ 17 مارس/آذار 2019 في مقابلة النادي المكناسي ضد مولودية الداخلة، اليوم 24، 18 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2019):

«الإلتراس».. القوة الاحتجاجية الجديدة التي تثير الرعب

((26 Giddens, A. “Agency, Structure” In Central Problems in Social Theory. Contemporary Social Theory, (Palgrave, London, 1979), pp. 49-95.

(27) مقاطع من أغنية “الشعب مقهور” لألتراس فريق النادي القنيطري “حلالة بويز”، يوتيوب، 8 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 8 يناير/كانون الثاني 2019):

(28) رُفِعَت لافتة: “فالقبة التكركير… فالمقرر البغرير” في المباراة التي جمعت بين فريق الرجاء البيضاوي وفريق النادي القنيطري؛ تنتقد إدراج الدارجة المغربية في مقررات التعليم الأوَّلي، الأول، 13 سبتمبر/أيلول 2018، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2019):

 (29) Dagiral, Éric, “Pirates, hackers, hacktivistes: déplacements et dilution de la frontière électronique”, Critique 6-7, N 733-734, (Editions de Minuit, Paris, 2008), pp. 480-495.

(30) حسين ملكاوي، أسماء، “الحركات الاحتجاجية الرقمية في المنطقة العربية وتحولات المجال العام: دراسة ظاهراتية للحالة الأردنية”، مركز الجزيرة للدراسات، 3 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 4 يناير/كانون الثاني 2019):

https://bit.ly/2IairR6

(31) رُفِعَت اللافتة في مباراة نادي الرجاء البيضاوي ضد نادي الجيش الملكي في إطار منافسات البطولة المغربية لكرة القدم، التي جرت في 27 فبراير/شباط 2019، اليوم 24، 3 مارس/آذار 2019، (تاريخ الدخول: 4 أبريل/نيسان 2019):

 http://www.alyaoum24.com/1218333.html

(32) Bourkia, Abderrahim, “Des supporters dans la ville” dans Le Maroc au présent, éd. Boudoin DupretZakaria Rhani, Assia Boutaleb, Jean-Noël Ferrié et al., (Fondation du Roi Abdul-Aziz al-Saoud, Casablanca, 2015), pp. 205-211.

(33) لفظة “التشرميل” في العامية المغربية تفيد سلوك العنف الشبابي الذي يتجسَّد عبر أعمال السرقة والاعتداء الجسدي على الآخرين. انظر: بنيس، سعيد: “التشرميل” من الظاهرة الشبابية إلى الظاهرة المجتمعية”، هسبريس، 24 مايو/أيار 2014، (تاريخ الدخول: 1 مارس/آذار 2019):

https://www.hespress.com/writers/216761.html

(34) انظر: التقرير السنوي لمؤسسة “هوت سويت” حول “الحالة الرقمية في العالم لسنة 2019″، africa-bi.com، 29 يناير/كانون الثاني 2019، (تاريخ الدخول: 10 فبراير/شباط 2019):

https://bit.ly/2YUyY0C

(35) بنيس، سعيد، “قراءة في تمظهرات الشارع الاحتجاجي بالمغرب” في الفكر السياسي.. أسئلة وقضايا. في مدارات الحرية والإصلاح والدستور. دراسات مهداة إلى روح الأستاذة نجية بن يوسف، تنسيق حسن طارق، (منشورات الجمعية المغربية للعلوم السياسية الدار البيضاء، 2018)، ص 172.

(36) انظر: بيشو، سيسيل؛ فيليول، أوليفيه؛ ماتيو، ليليان، قاموس الحركات الاِجتماعية، ترجمة عمر الشافعي، (دار صفصافة للنشر والتوزيع والدراسات، الجيزة، 2017)، (تاريخ الدخول 20 فبراير/شباط 2019):

 https://www.arab-reform.net/ar/node/1235

(37) Habermas, J. L’espace public: traduit par Marc Launay, (Payot, Paris, 1978), p. 260.

(38) البحث الميداني السنوي، للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات، بتنسيق مع وزارة الصناعة والاستثمار والتجارة والاقتصاد الرقمي، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، والمندوبية السامية للتخطيط، خلال الفصل الأول من 2018 حول مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والاتصال لدى الأسر والأفراد:

https://bit.ly/2Ut7WyX

(39) Bennis, Said, “Enjeux et défis de la participation au Maroc: de la participation citoyenne à la revendication citoyenne” in From Democratic Transition to Democracy Learning Towards a Paradigmatic Turn in Democratization Studies, (Ed.) Mohamed El Hachimi, (Konrad-Adenauer-Stiftung e. V-Rabat, 2018(, pp. 129-135.

)40) لمزيد من المعلومات حول الأحداث التي تلت مقابلة المغرب التطواني ضد ضيفه الكوكب المراكشي في 28 سبتمبر/أيلول 2018، انظر:

Paillard, Soléne, “Maroc : Les ultras, nouvel étendard des revendications populaires”, Yabiladi, (Visited on 11 February 2019):

https://bit.ly/2G2a5aI

(41)  Mouffe, C. Le Paradoxe démocratique, (Beaux-Arts de Paris, Paris, 2016), p. 90.

( (42تستدعي إشكالية الفوارق الاجتماعية التي يعيشها المغرب ضرورة مساءلة العديد من الأسباب، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يمت إلى طبيعة مرجعيات منطق التنمية المحلية والجهوية المعتمَد من لدن الدولة (منطق تضامني أو منطق تنافسي أو منطق تكاملي أو منطق تنافري…) أو ما يتعلق بنوعية الموارد الاقتصادية للبنيات الحاضنة للمجال، أي الجماعات الترابية (موارد موسمية أو موارد دون قيمة تنموية في السوق الاقتصادية الوطنية (الصناعة التقليدية…) أو موارد ذات تسويق عالمي…)، أو ما يرتبط بنمط التراب (حضري أو قروي أو نصف حضري) في علاقته بالدينامية المجتمعية.

(43) بنيس، سعيد، “المجتمع المدني والفعل الاحتجاجي بالمغرب: الأنساق المفاهيمية الجديدة”، مجلة أبحاث، (العددان 61 و62، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2015)، ص 4.