ملخص:
بينما تجتاح جائحة كوفيد-19 الكوكب، يكشف الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، المعاني العميقة لوباء كورونا ويتأمَّل في مفارقاته المحيِّرة ويتكهَّن بعواقبه، ويرى أن آليات السوق لن تكون كافية لمنع الفوضى والجوع. إن مواجهة هذا التهديد يشجع على أشكال جديدة من التضامن، وهذا فحسب هو الذي يمكن أن يقود إلى مستقبل أكثر أمانًا. ويجادل جيجك بأن الطريق الوحيدة لتجنب الانحدار إلى البربرية العالمية هي نوع جديد من الشيوعية.
كلمات مفتاحية: فيروس كورونا، الجائحة، الشيوعية، الرأسمالية، البربرية.
Abstract:
As Covid-19 sweeps the planet, Slovenian philosopher Slavoj Zizek uncovers its deeper meanings, marvels at its mind-boggling paradoxes and deliberates on the profundity of its consequences. He argues that market mechanisms will not be enough to prevent chaos and hunger; and that facing that threat directly encourages new forms of solidarity — and only that can carry us into a safer future. In addition, Zizek maintains that the only way of averting a descent into global barbarism is kind of new communism.
Keywords: Coronavirus, Pandemic, Communism, Capitalism, Barbarism.
مقدمة
كشف الناقد الثقافي والفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجيك (Slavoj Žižek)، في كتابه “جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم”، المعاني العميقة لجائحة كورونا التي تجتاح العالم، وتأمَّلَ في مفارقاتها المحيرة وتكهَّن بعواقبها. ويُبَشِّر جيجك بشيوعية جديدة، تختلف عن الشيوعية بمفهومها التقليدي وتلك التي تتبنَّاها الصين، للخروج من الأزمة وتفادي الانحدار إلى بربرية عالمية. ويُحَاجِج جيجك بأن بعض الإجراءات التي اتُّخِذَت في بريطانيا والولايات المتحدة، وما تدعو إليه منظمة الصحة العالمية، تؤيد دعواه التي جعلته هدفًا للنقد والسخرية من اليمين واليسار.
سلافوي جيجك واحد من أكثر الفلاسفة إنتاجًا وشهرة في العالم اليوم؛ وصفته مجلة المحافظين الجدد الأميركية “ذا نيو ريببلك” (The New Republic) بأنه “أخطر فيلسوف في الغرب”، والصحيفة البريطانية “ذا أوبزرفر” (The Observer) بـ”النجم المخلص لليسار الجديد”، وهو مثقف راديكالي. وكما يبيِّن عنوان أحد كتبه الجديدة، “Living in the End Times” (2010)، فإن اهتمامه الفلسفي هو الشعور واسع الانتشار بكارثة عالمية وشيكة وأسبابها الأيديولوجية الكامنة. وهذا ما جعله يركز في أعماله على الأزمة السياسية والاقتصادية والبيئية العالمية القائمة..(1).
يمزج، إلفيس بريسلي الفلسفة، كما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times)، في عمله بين الميتافيزيقيا الهيغلية والتحليل النفسي اللاكاني (نسبة إلى جاك لاكان ((Jacques Lacan) والجدلية الماركسية، لتحدي الأفكار السائدة والحقائق التي يُسلِّم بها اليسار واليمين(2).
صدر كتاب “جائحة كوفيد-19 تَرُجُّ العالم” عن دار النشر “أور بوكس”، وهي دار يسارية تنشر كتابًا أو كتابين في الشهر، ومعاييرها التحريرية صارمة. وقد وصفتها مجلة “دايزد” (Dazed) بأنها رد فعل جذري ومثير على الهيمنة الأمازونية (نسبة إلى شركة أمازون). وقد تنازل جيجك عن حقوق ملكية كتابه، وخصص عائداته لمنظمة “أطباء بلا حدود”.
يقع الكتاب في 146 صفحة من القطع الصغير، مقسم على 11 مقالًا، وليس فصولًا؛ لأن الكتاب تجميع لمقالات صحافية نشرها الكاتب في عدد من الصحف منذ بداية جائحة كورونا، وبعضها لا يتجاوز 900 كلمة. كما يضم الكتاب مقدمة وخاتمة. وجاءت عناوين هذه المقالات على النحو الآتي: “نحن الآن جميعًا في المركب ذاته”، “لماذا نحن متعبون دائمًا؟”، “نحو عاصفة كاملة في أوروبا”، “مرحبًا بالصحراء الفيروسية”، “المراحل الخمسة للجوائح”، “فيروس الأيديولوجيا”، “اهدأ وافزع”، “رقابة وعقاب نعم رجاء!”، “هل قدرنا البربرية بوجه إنساني؟”، “الشيوعية أو البربرية: هكذا ببساطة!”، “موعد في سامراء”، وهذا الفصل أضافه جيجك بعد أيام من صدور الكتاب.
يدعونا سلافوي جيجك إلى التساؤل: ما الخطأ في نظامنا حتى أخذتنا الكارثة على حين غرة على الرغم من أن العلماء ما فتئوا يحذروننا منها منذ سنوات؟(3).
- فيروس التفكير في مجتمع جديد
يرى جيجك أن الجائحة ما كانت لتحدث لولا غياب حرية التعبير في الصين وحقوق الإنسان، وهذا ما تؤكده الصحافية المقيمة في هونغ كونغ، فيرنا يو (Verna Yu): “لو كانت الصين تُعلي من شأن حرية التعبير، لم تكن لتوجد أزمة فيروس كورونا. وسوف تتكرر مثل هذه الأزمات طالما لم تُحْتَرَم حرية التعبير والحقوق الأساسية للمواطنين الصينيين”….
لقد كان الطبيب الصيني لي وينليانغ ((Li Wenliang، مكتشف وباء الفيروس التاجي المستجد، بطلًا أصيلًا من أبطال عصرنا، في نظر جيجك، وهو نسخة صينية من شيلسي مانينغ (Chelsea Manning) أو إدوارد سنودن (Edward Snowden)، لذا لا عجب أن وفاته أثارت غضبًا واسع النطاق.
إن الأداء الكلي لجهاز الدولة الصيني، وفقًا لجيجك، يتعارض مع شعار ماو تسي تونغ القديم “ثِقْ في الشعب!” وبدلًا من ذلك، تعمل الحكومة على أساس أنه لا ينبغي للمرء أن يثق في الشعب: يجب أن يكون الشعب محبوبًا، ومحميًّا، ويحظى بالرعاية، ومراقبًا، لكن لا أن يُوثَق به. إن أخطر ما يمكن فعله اليوم في الصين هو الإيمان جديًّا بالأيديولوجية الرسمية للدولة.
قال الطبيب لي من على سريره في المستشفى قبل وفاته بقليل: يجب أن يكون أكثر من صوت واحد في مجتمع صحي، لكن هذه الحاجة الملحَّة لسماع أصوات أخرى لا تعني، في رأي جيجك، بالضرورة ديمقراطية متعددة الأحزاب على النمط الغربي، فهي تتطلب الإفساح في المجال لنقل ردود فعل المواطنين الناقدة فحسب.
ويرى الكاتب أن تطور الوباء في جميع أنحاء العالم، جعلنا ندرك أن آليات السوق لن تكون كافية لمنع الفوضى والجوع. إن الإجراءات التي تبدو لمعظمنا اليوم أنها “شيوعية” يتعين النظر فيها على مستوى عالمي: يجب أن يكون تنسيق الإنتاج والتوزيع خارج إحداثيات السوق. ويعتقد جيجك أنه حان الوقت لإسقاط شعار “أميركا (أو أيًّا يكن) أولًا”. وكما قال مارتن لوثر كنغ (Luther King) منذ أكثر من نصف قرن: “ربما نكون قد وصلنا جميعًا على متن سفن مختلفة، لكننا في القارب نفسه الآن”.
وشبَّه الكاتب مصير أوروبا في ظل تفشي جائحة كورونا بمصير سفينة الصيد الأميركية “أندريا جيل”(Andrea Gail)(4). إن ثمة علامات، يرى جيجك، تشير إلى أن القارب الذي يسمَّى أوروبا يقترب أكثر بكثير من الآخرين من مصير أندريا جيل؛ ففوق أوروبا تتجمع ثلاث عواصف وتندمج قوتها: وباء الفيروس التاجي في تأثيره البدني المباشر (الحجر الصحي والمعاناة والموت) وآثاره الاقتصادية التي ستكون أسوأ في أوروبا من أي مكان آخر؛ لأن القارة راكدة بالفعل، وهي أيضًا أكثر اعتمادًا من مناطق العالم الأخرى على الواردات والصادرات. أما العاصفة الثالثة في نظر جيجك فيمكن تسميتها “فيروس بوتوغان” (بوتين/أردوغان)؛ ذلك أن الانفجار الجديد للعنف في سوريا بين تركيا ونظام الأسد (المدعوم مباشرة من روسيا) جعل بوتين وأردوغان يستغلان معاناة الملايين من النازحين لمكاسبهم السياسية الخاصة.
ومن الأشياء القليلة الجيدة في الوباء، وفقًا لجيجك، أنه جعلنا ندرك بشدة الحاجة إلى تعاون عالمي. وهذا ما ذهب إليه أيضًا يوفال نوح هراري (Yuval Noah Harari): “يتوجب على البشرية الاختيار: هل سنسير على طريق الشقاق، أم سنسلك مسار التضامن العالمي؟ إذا اخترنا الشقاق، فإن هذا لن يؤدي إلى إطالة أمد الأزمة فحسب؛ بل قد يؤدي كذلك إلى كوارث أشد سوءًا في المستقبل. وإذا اخترنا التضامن العالمي، سيكون نصرًا، ليس على فيروس كورونا فحسب، بل على كل الأوبئة والأزمات التي قد تفتك بالإنسانية في القرن الحادي والعشرين”(5).
لقد تسبَّب الانتشار المستمر لوباء الفيروس التاجي في قَدْح شرارة وباء واسع النطاق من الفيروسات الأيديولوجية، كانت كامنة في مجتمعاتنا: الأخبار المزيفة، ونظريات المؤامرة البارانُووِيَّة، وانفجارات العنصرية. ووجدت الحاجة الطبية المبررة للحجر الصحي صدى في الضغط الأيديولوجي لإنشاء حدود واضحة ولحجر الأعداء الذين يشكِّلون تهديدًا لهويتنا(6).
يأمل جيجك أن يتيح فيروس كورونا انتشار فيروس أيديولوجي آخر وأكثر إفادة فيصيبنا فيروس التفكير في مجتمع بديل، مجتمع ما بعد الدولة القومية، مجتمع يحقق نفسه بأشكال التضامن والتعاون العالميين. وفي هذا الصدد، شخَّص الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران (Edgar Morin)، أبعاد الجائحة: “فكونها أزمة كونية، فإنها تسلِّط الضوء على المصير المشترك لجميع البشر المرتبطين بالمصير الطبيعي والبيئي لكوكب الأرض؛ وتفاقم في الوقت نفسه أزمة البشرية التي لم تتمكن من تشكيل نفسها بإنسانية. وكونها أزمة اقتصادية، فإنها تخلخل كل المسلَّمات التي تحكم الاقتصاد وتهدد بأن تتفاقم لدرجة الفوضى والعوز في مستقبلنا. وباعتبارها أزمة وطنية، فإنها تكشف النقاب عن أوجه القصور في سياسة قدمت رأس المال على حساب العمل، وضحَّت بالوقاية والحيطة لزيادة الربحية والتنافسية. وباعتبارها أزمة اجتماعية، فإنها تسلِّط الضوء بشكل كبير على عدم المساواة بين أولئك الذين يعيشون في مساكن صغيرة مكتظة بالأطفال والآباء، وأولئك الذين تمكنوا من الفرار إلى إقاماتهم الثانية المحاطة بالخضرة. وباعتبارها أزمة حضارية، تدفعنا إلى إدراك أوجه القصور في التضامن والتسمم الاستهلاكي الذي طورته حضارتنا، وتدفعنا للتفكير في بلورة سياسة حضارية. وكونها أزمة فكرية، يجب أن تكشف لنا الثقب الأسود الهائل في تفكيرنا، الذي يجعل تعقيدات الواقع الواضحة غير مرئية لنا… ينبغي أن يشجع الحجر الصحي على رفع الحجر عن العقول”(7).
- كورونا روح جديدة للشيوعية
يعتقد جيجك أن الفيروس التاجي سيجبرنا أيضًا على إعادة اكتشاف الشيوعية على أساس الثقة في الشعب والعلم. ولا يمكننا المضي في الطريق الذي نحن عليه الآن، فالتغيير الجذري مطلوب. وبخصوص الثقة في العلم، يرى موران أن كورونا يشكِّل “فرصة لاستيعاب أنه على النقيض من الدِّين، فإن العلم ليس سجلًا للحقائق المطلقة وإن نظرياته قابلة للتحلُّل تحت تأثير الاكتشافات الجديدة”(8). أما يوفال نوح هراري فيدعونا إلى الثقة كذلك في وسائل الإعلام ويقلب الآية فيطلب من الشعب أن يثق في السلطة: “لتحقيق مستوى من الامتثال والتعاون، فإنك تحتاج إلى الثقة. يتعين على الناس أن يثقوا في العلم، وأن يثقوا في السلطات العامة، وأن يثقوا في وسائل الإعلام. فطوال السنوات القليلة الماضية، تعمَّد السياسيون غير المسؤولين تقويض الثقة في العلم، وفي السلطات العامة، وفي وسائل الإعلام. والآن قد يستسلم الساسة غير المسؤولين أنفسهم لإغراء سلوك الطريق السريع نـحو التسلط، زاعمين أننا لا نستطيع أن نثق في قدرة عامة الناس على القيام بالتصرف السليم”.
ويدرك هراراي أن إعادة بناء هذه الثقة التي تآكلت طوال سنوات لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. ولكن هذه ليست أوقاتًا عادية… فبدلًا من بناء نظام رقابة، لم يفت الأوان بعد لإعادة بناء ثقة الناس في العلم، وفي السلطات العامة ووسائل الإعلام(9).
يحثنا سلافوي جيجك على التفكير في الحقيقة المحزنة، وهي أننا بحاجة إلى كارثة حتى نتمكن من إعادة التفكير في الخصائص الأساس للمجتمع الذي نعيش فيه. إن أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام التي أثارها وباء كورونا، هو: أين تنتهي البيانات وتبدأ الأيديولوجية؟ وثمة مفارقة تتجلى في هذا المقام وهي أنه: كلما زاد ارتباط عالمنا، يمكن أن تؤدي كارثة محلية إلى إثارة خوف عالمي وفي نهاية المطاف كارثة. ففي ربيع 2010، عطَّلت سحابة منبعثة من ثوران بركاني طفيف في أيسلندا (اضطراب صغير في آلية الحياة المعقَّدة على الأرض) حركة الملاحة الجوية في معظم أوروبا. لقد كان ذلك تذكيرًا قويًّا بحقيقة أنه على الرغم من قدرة البشرية المدهشة على تحويل الطبيعة، فإن البشرية ليست سوى نوع واحد من الكائنات الحية على كوكب الأرض.
إن التأثير الاجتماعي الاقتصادي الكارثي لانفجار طفيف سببه هشاشة تطورنا التكنولوجي (الملاحة الجوية): ولو حدث ذلك قبل قرن من الزمان ما كان ليلاحظه أحد. إن التكنولوجيا تجعلنا، أكثر استقلالية عن الطبيعة من ناحية، ومن ناحية أخرى، أكثر خضوعًا لنزواتها. إن الأمر نفسه يسري على انتشار فيروس كورونا، فلو حدث قبل إصلاحات دينغ شياوبنغ، فربما لم نكن لنسمع به.
من المؤكد، في رأي جيجك، أن العزلة وحدها، وبناء جدران جديدة والمزيد من الحجر الصحي، لن يؤدي المهمة. فالحاجة ماسَّة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسقة عالميًّا، وهو شكل جديد لما كان يُطلق عليه اسم الشيوعية. إذا لم نوجِّه جهودنا في هذا الاتجاه، فقد تكون ووهان اليوم أنموذجًا لمدينة مستقبلنا.
وربما يمكن للمرء أن يأمل في أن تكون إحدى العواقب غير المقصودة للحجر الصحي للفيروس التاجي في المدن في جميع أنحاء العالم هي أن بعض الناس سيستخدمون وقتهم -على الأقل الذي تم تحريره من النشاط المحموم- للتفكير في لا معنى (عبثية) مأزقهم.
ويُمَنِّي جيجك النفس بأن يتحلى بعض الإسرائيليين، في هذا الوقت من العزلة والهدوء القسري، بالشجاعة ليشعروا بالعار من سياسات نتنياهو وترامب باسمهم، وليس بالطبع أن يشعروا بالعار من كونهم يهودًا، بل على العكس من ذلك، الشعور بالعار مما تقترفه السياسة الإسرائيلية في الضفة الغربية في حق التراث الأثمن لليهودية.
ويرى الكاتب أن تكرار وسائل الإعلام بلا نهاية عبارة “لا داعي للذعر!” يتناقض تمامًا مع جميع البيانات التي نحصل عليها، والتي لا يمكن إلا أن تسبِّب الذعر، وأن الوضع يشبه حالة يتذكرها من شبابه في بلد شيوعي، عندما كان المسؤولون الحكوميون يطمئنون الجمهور بانتظام بأنه لا يوجد سبب للذعر. فكان الناس يعدون تلك التطمينات علامة واضحة على ذعر المسؤولين.
إن الذعر ليس الأسلوب المناسب لمواجهة تهديد حقيقي. عندما نأتي رد فعل ونحن في ذعر، فإننا لا نحمل التهديدات على محمل الجد، بل على العكس من ذلك، نحن نستهين بها. فكِّر فقط في مدى سخافة فكرة أن وجود ما يكفي من ورق التواليت سيكون مهمًّا في غمرة وباء مميت. إذن ما هو رد الفعل المناسب لوباء الفيروس التاجي؟ ما الذي يجب أن نتعلمه وما الذي يجب أن نفعله لمواجهته بجد؟
عندما ادَّعى جيجك أن وباء الفيروس التاجي قد ينفخ حياة جديدة في الشيوعية، تعرضت دعواه للتسفيه كما يقول، وعلى الرغم من أن نهج الدولة الصينية تجاه الأزمة قد نجح كما يبدو، أو على الأقل عمل بشكل أفضل بكثير مما يحدث الآن في إيطاليا، فإن المنطق الاستبدادي القديم للشيوعيين في السلطة أظهر أيضًا حدوده بوضوح.
ولكن، إذا لم تكن الشيوعية الصينية هي التي يُبَشِّر بها جيجك، فماذا يعني بالشيوعية؟ لفهم ذلك، يدعونا إلى قراءة الإعلانات العامة لمنظمة الصحة العالمية فحسب، وهذا آخرها:
قال رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس (Tedros Adhanom Ghebreyesus): “إن سلطات الصحة العامة في جميع أنحاء العالم لديها القدرة على مكافحة انتشار الفيروس بنجاح، وتشعر المنظمة بالقلق من أن مستوى الالتزام السياسي في بعض البلدان لا يتطابق مع مستوى التهديد. هذه ليست مناورة. هذا ليس وقت الاستسلام. هذا ليس وقت الأعذار. لقد كانت البلدان تخطط عقودًا لسيناريوهات مثل هذه. لقد حان الوقت للعمل وفقًا لتلك الخطط. من الممكن صدُّ هذا الوباء، ولكن من خلال نهج جماعي ومنسق وشامل فحسب يشرك الجهاز الحكومي برمته”.
ولتوضيح فكرته أكثر يضعها في سياق أوسع، فيقول: إن مثل هذا النهج الشامل يجب أن يتجاوز إلى حد بعيد آلية الحكومات التي تعمل بشكل منفرد، وأن تشمل التعبئة المحلية الجهات التي هي خارج سيطرة الدولة وكذلك التنسيق والتعاون الدولي القوي والفعال. كما يجب على الدولة التدخل كما تفعل في ظروف الحرب عندما تكون الحاجة لآلاف البنادق. كما ينبغي أن تسعى للتعاون مع الدول الأخرى، كما هي الحال في حملة عسكرية، يجب تبادل المعلومات وتنسيق الخطط بالكامل. وهذا ما دعا إليه كذلك يوفال نوح هراري: “فمثلما تُؤَمِّم البلدان الصناعات الرئيسة أثناء الحرب، فإن الحرب الإنسانية ضد فيروس كورونا قد تتطلب منَّا “أَنْسَنَة” خطوط الإنتاج الحيوية”(10).
إن وباء الفيروس التاجي لا يشير إلى حدود عولمة السوق فحسب، بل يشير أيضًا إلى الحدود الأكثر فتكًا من الشعبوية القومية التي تصر على السيادة الكاملة للدولة “لقد انتهى الأمر مع “أميركا (أو أيًّا يكن) أولًا!” لأن أميركا لا يمكن إنقاذها إلا من خلال التنسيق والتعاون العالمي. لست طوباويًّا هنا، أنا لا أنشد التضامن المثالي بين الناس، بل على العكس، فإن الأزمة الحالية تُظهر بوضوح كيف أن التضامن العالمي يصب في مصلحة بقاء الجميع وكل واحد منَّا. إن الخيار الذي نواجهه هو البربرية أو نوع من الشيوعية المعاد ابتكارها”.
خصَّص جيجك جزءًا غير يسير من كتابه للسجال مع الفيلسوف اليساري الإيطالي، جورجيو أغامبن (Giorgio Agamben)، الذي تفاعل مع وباء الفيروس التاجي بطريقة مختلفة جذريًّا عن أغلب المعلقين، وشجب تبني إجراءات طوارئ محمومة وغير منطقية وغير مبررة إطلاقًا للتصدي لوباء مفترض، فيروس كورونا، وهو مجرد نسخة أخرى من الإنفلونزا، وتساءل أغامبن: لماذا تبذل وسائل الإعلام والسلطات قصارى جهدها لخلق مناخ من الهلع، مما يثير حالة استثناء حقيقية، مع قيود شديدة على الحركة وتعليق الحياة اليومية وأنشطة العمل في مناطق بأكملها؟
ويرى أغامبن أن السبب الرئيس وراء هذه “الاستجابة غير المتناسبة” في الاتجاه المتزايد لاستخدام حالة الاستثناء كنموذج تحكُّم طبيعي هو أن الإجراءات المفروضة في حالات الطوارئ تسمح للحكومة بتقييد حرياتنا بموجب مرسوم تنفيذي.
من الواضح بشكل جلي، يقول الفيلسوف الإيطالي، أن هذه القيود لا تتناسب مع التهديد الذي تمثِّله، وفقًا لمركز اللاجئين النرويجي، أنفلونزا عادية، ولا تختلف كثيرًا عن تلك التي تؤثر علينا كل عام. قد نقول إنه بمجرد استنفاد الإرهاب مبررًا لاتخاذ تدابير استثنائية، فإن اختراع وباء يمكن أن يقدم الذريعة المثالية لتوسيع نطاق هذه التدابير بما يتجاوز أي قيود. والسبب الثاني هو “حالة الخوف، التي انتشرت في السنوات الأخيرة إلى وعي فردي والتي تترجم إلى حاجة حقيقية لحالات الذعر الجماعي، والتي يقدم الوباء مرة أخرى ذريعة مثالية”.
يصف أغامبن جانبًا مهمًّا من أداء سلطة الدولة في الوباء المستمر، ولكن ثمة أسئلة لا تزال مشرعة: لماذا تهتم سلطة الدولة بتعزيز مثل هذا الفزع الذي يصاحبه عدم الثقة في سلطة الدولة (“إنهم عاجزون، ولا يفعلون ما يكفي…”)، والذي يزعج التكاثر السلس لرأس المال؟ هل من مصلحة الرأسمالية وسلطة الدولة أن تثير أزمة اقتصادية عالمية من أجل تجديد عهدها؟ هل الإشارات الواضحة إلى أن سلطة الدولة نفسها، وليس فقط عامة الشعب، مذعورة أيضًا، مدركة عدم قدرتها على السيطرة على الوضع، هل هذه العلامات هي مجرد خدعة؟
وفقًا لجيجك، فإن رد فعل أغامبن ما هو إلا الشكل المتطرف لموقف يساري واسع الانتشار لقراءة “الذعر المبالغ فيه” الناجم عن انتشار الفيروس باعتباره مزيجًا من ممارسة السيطرة الاجتماعية مقترنة بعناصر العنصرية الصريحة، كما هي الحال عندما يشير ترامب إلى “الفيروس الصيني”. ومع ذلك، فإن مثل هذا التفسير الاجتماعي لا يجعل حقيقة التهديد تختفي. هل يجبرنا هذا الواقع على تقييد حرياتنا بشكل فعال؟ وبالطبع، فإن الحجر الصحي والإجراءات المماثلة تحد من حريتنا. لكن التهديد بالعدوى الفيروسية أعطى دفعة هائلة للأشكال الجديدة من العزلة المحلية والعالمية، وقد أظهر بجلاء الحاجة إلى مراقبة السلطة نفسها. وعن هذه المراقبة للسلطة، يقول يوفال نوح هراري: “إن تكنولوجيا المراقبة نفسها من الممكن استخدامها عادة ليس لمراقبة الأفراد فحسب؛ بل قد يستخدمها الأفراد أيضًا لمراقبة الحكومات”(11).
والناس، في نظر جيجك، على حق في تحميل سلطة الدولة المسؤولية: “لديك القوة، الآن أرنا ما يمكنك القيام به! التحدي الذي يواجه أوروبا هو إثبات أن ما فعلته الصين يمكن أن يتم بطريقة أكثر شفافية وديمقراطية. يجب ألا تُخْتَزَل الإجراءات التي يتطلبها الوباء تلقائيًّا إلى الأنموذج المعتاد للمراقبة والتحكُّم الذي روجَّه مفكرون مثل فوكو. ما أخشاه اليوم أكثر من الإجراءات التي تطبقها الصين وإيطاليا، هو أنها تطبق هذه الإجراءات بطريقة لن تعمل على احتواء الوباء، وأن السلطات ستتعامل مع البيانات الحقيقية وتخفيها.
ربما هذا هو الشيء الأكثر إزعاجًا والذي يمكن أن نتعلمه من الوباء الفيروسي المستمر: عندما تهاجمنا الطبيعة بالفيروسات، فإنها بطريقة ما ترد إلينا بضاعتنا الخاصة، وهي: ما فعلته بي، أفعله بك الآن”.
لا يعتقد سلافوي جيجك أن أكبر تهديد هو الانتكاس نحو البربرية المطلقة، ثم العنف الوحشي من أجل البقاء فضلًا عن الاضطرابات العنيفة… وما إلى ذلك. إن ما يخشاه، أكثر من البربرية المطلقة، هو البربرية بوجه إنساني، وفرض إجراءات قاسية من أجل البقاء، وتُضفَى عليها الشرعية بآراء الخبراء.
وأعرب الفيلسوف السلوفيني عن اختلافه مع جورجيو أغامبن الذي يرى في الأزمة المستمرة علامة على أن مجتمعنا لم يعد يؤمن بأي شيء سوى البقاء على قيد الحياة. فمن الواضح، أن الإيطاليين مستعدون للتضحية عمليًّا بكل شيء -ظروف الحياة الطبيعية والعلاقات الاجتماعية والعمل وحتى الصداقات والعواطف والمعتقدات الدينية والسياسية- لدرء خطر الإصابة بالمرض. إن مجرد البقاء على قيد الحياة -وخطر فقدانها- ليس شيئًا يوحِّد الناس، بل يعميهم ويفصل بينهم.
إن الأمور أكثر غموضًا، يقول جيجك؛ لأن خطر الموت يوحِّد الناس كذلك، فالحفاظ على التباعد الجسدي يعني أنك تُظهر الاحترام للآخر، لأنك قد تكون حاملًا للفيروس.
- الشيوعية أو البربرية بوجه إنساني
يدعونا جيجك، ونحن عالقون في أزمة ثلاثية، طبية واقتصادية ونفسية، إلى تعلم التفكير خارج إحداثيات سوق الأسهم والربح وأن نجد طريقة أخرى لإنتاج ورصد الموارد اللازمة. وهذا ما يدعونا إليه كذلك إدغار موران: “أرجو أن يمنحنا هذا الوباء الاستثنائي والقاتل الذي نزل بنا، ليس فحسب، الوعي بأننا نؤخذ إلى داخل المغامرة غير المعقولة للبشرية، ولكن أيضًا بأننا نعيش في عالم يتسم بعدم اليقين ومأساوي في الوقت ذاته. إن الاقتناع بأن المنافسة الحرة والنمو الاقتصادي هما البلسم الاجتماعي يواري مأساة التاريخ الإنساني التي يفاقمها هذا الاعتقاد”(12).
ويرى جيجك في العرض الذي قدمه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لشركة كيورفاك للتكنولوجيا الحيوية لتأمين لقاح ضد فيروس كورونا لأميركا فقط حالة أنموذجية من الصراع بين الخصخصة/البربرية والجماعية/الحضارة. ومع ذلك اضطر ترامب، في الوقت نفسه، إلى التذرع بقانون الإنتاج الدفاعي للسماح للحكومة بتوجيه القطاع الخاص لزيادة إنتاج الإمدادات الطبية الطارئة، وأعلن عن اقتراح للسيطرة على القطاع الخاص.
هل يمكن للمرء أن يتخيل مثل هذا قبل الوباء؟ وهذه ليست سوى البداية: ستدعو الحاجة إلى تدابير أخرى من هذا النوع. وكذلك التنظيم الذاتي المحلي للمجتمعات إذا انهارت النظم الصحية التي تديرها الدولة تحت ضغط كبير. لا تكفي العزلة والبقاء على قيد الحياة فحسب، وحتى يكون ذلك ممكنًا، سيتعين على الخدمات العامة الأساسية مواصلة العمل: الكهرباء والماء والغذاء والدواء يجب أن تبقى متوافرة.
هذه ليست رؤية شيوعية خيالية، في رأي جيجك، إنها شيوعية تفرضها ضرورات البقاء على قيد الحياة. إنها للأسف نسخة مما أُطلق عليه في الاتحاد السوفيتي عام 1918 اسم “شيوعية الحرب”.
يقول الجميع اليوم إنه سيتعين علينا تغيير نظامنا الاجتماعي والاقتصادي. ولكن، كما لاحظ توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في تعليق بصحيفة “لونوفيل أوبسرفاتور” (Le Nouvel Observateur)، فإن ما يهم حقًّا هو: كيف نغيره، وفي أي اتجاه؟ وما التدابير المطلوبة؟
تعرض سلافوي جيجك للسخرية والنقد من طرف آلان باديو (Alain Badiou) وبيونغ تشول هان (Byung-Chul Han) وآخرين كثر، من اليمين واليسار، لمَّا قال مرارًا بحلول شكل من أشكال الشيوعية نتيجة لوباء كورونا. إن الفكرة الرئيسة في خضم الأصوات التي انتقدت جيجك، هي أن الرأسمالية ستعود بشكل أقوى، باستغلال الوباء لتضخيم الكارثة؛ وسنقبل جميعًا بصمت سيطرة أجهزة الدولة على حياتنا بشكل كامل أسوة بالصين باعتبارها ضرورة طبية. لكن جيجك يُحَاجِج منتقديه بأن ما كان يبدو مستحيلًا سابقًا يحدث بالفعل: على سبيل المثال، في 24 مارس/آذار 2020، أعلن بوريس جونسون عن التأميم المؤقت لسكك الحديد في المملكة المتحدة. وأن ما أخبر به جوليان أسانج (Julian Asange) يانيس فاروفاكيس (Yanis Varoufakis) في محادثة هاتفية قصيرة يؤكد هذا: “هذه المرحلة الجديدة من الأزمة، على الأقل، توضح لنا أن أي شيء مباح، وأن كل شيء ممكن الآن”. ويوضح جيجيك أن كل شيء يتدفق في جميع الاتجاهات، من الأفضل إلى الأسوأ. “لذا، فإن وضعنا الآن ذو طبيعة سياسية بعيدة الغور: نحن نواجه خيارات جذرية”.
في ظل هذه الأوضاع يدعونا سلافوي جيجك إلى أن نتبع إيمانويل كانط (Emmanuel Kant)الذي كتب فيما يتعلق بقوانين الدولة: “امتثلْ، لكن فكِّرْ، حافظ على حرية الفكر” نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى ما أسماه كانط “الاستخدام العام للعقل”(13). من الواضح أن الأوبئة ستعود، مقترنة بالتهديدات البيئية الأخرى، من الجفاف إلى الجراد، لذلك يجب اتخاذ قرارات صعبة الآن.
إن هذه المخاطر التي عدَّدها جيجك أوحت له بفكرة الشيوعية الجديدة. وهي، كما يقول، ليست حلمًا غامضًا، ولكن ببساطة مسمى لما يحدث بالفعل (أو على الأقل ينظر إليه الكثيرون على أنه ضرورة)، وهي تدابير يجري النظر فيها بالفعل وحتى فرضها بشكل جزئي. إنها ليست رؤية لمستقبل مشرق ولكن “شيوعية الكوارث” بوصفها ترياقًا لرأسمالية الكوارث. لا ينبغي للدولة أن تضطلع فحسب بدور أكثر نشاطًا، وتنظيم إنتاج الأشياء التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها مثل الأقنعة، ولوازم الفحص وأجهزة التنفس، ومصادرة الفنادق والمنتجعات، وضمان الحد الأدنى لبقاء جميع العاطلين الجدد، وما إلى ذلك، إنما القيام بكل هذا عن طريق التخلي عن آليات السوق.
كما سيتعين على النظام الصحي المؤسسي الاعتماد على مساعدة المجتمعات المحلية لرعاية الضعفاء والكبار. وبالمقابل، سيتعين إقامة نوع من التعاون الدولي الفعال لإنتاج وتقاسم الموارد. إن هذه التطورات هي ما يقصده جيجك عندما يتحدث عن “الشيوعية”، ولا يرى أي بديل عنها سوى البربرية الجديدة. مع أنه لا يستطيع أن يقول إلى أي مدى ستتطور، لكنه، يعرف، فحسب، أن الشعور بالحاجة إليها يحصل بشكل عاجل في كل مكان، ويجري إعمالها، كما رأينا من طرف سياسيين مثل بوريس جونسون، وهو ليس شيوعيَّا بالتأكيد. ويذهب الكاتب إلى أن الخطوط التي تفصلنا عن البربرية تُرسَم بشكل أكثر وضوحًا.
إن ما يجري حاليًّا شيء نعده مستحيلًا، يؤكد سلافوي جيجك؛ فالإحداثيات الأساسية لحياتنا الطبيعية تختفي. كان رد فعلنا الأول على الفيروس هو النظر إليه على أنه مجرد كابوس سنستيقظ منه قريبًا. الآن نعلم أن هذا لن يحدث، سيتعين علينا أن نتعلم كيف نعيش في عالم فيروسي، يجب إعادة بناء طريقة جديدة للعيش بما ينطوي عليه ذلك من ألم.
وذهب سلافوي جيجك إلى أن الجائحة جعلت عجز السلطة مكشوفًا، وجعلت المسؤولين عن الدولة يشعرون بالذعر؛ لأنهم لا يعلمون أنهم لا يسيطرون على الوضع فحسب، ولكن أيضًا أننا، رعاياهم، نعرف ذلك.
وعلى الرغم من أن مَنْ هم في السلطة يحاولون جعلنا مسؤولين عن نتيجة الأزمة، ويصرون على أننا مسؤولون بشكل فردي عن الحفاظ على مسافة مناسبة من بعضنا البعض، وغسل أيدينا، وارتداء قناع وما إلى ذلك، فإن الحقيقة هي بالضبط على النقيض من ذلك. إن رسالتنا نحن الرعايا، إلى سلطة الدولة هي أننا سوف نتبع أوامرك بكل سرور، لكنها أوامرك، ولا يوجد ضمان أن طاعتنا لهم ستنجح نجاحًا كاملًا.
ويسائل سلافوي جيجك أولئك الذين يحذرون من أن سلطة الدولة تستخدم الوباء ذريعة لفرض حالة طوارئ دائمة، عن الترتيبات البديلة التي يقترحونها. ويرى أن الذعر الذي يرافق رد فعلنا على الوباء ليس شيئًا دبَّره أولئك الذين في السلطة، فبرغم كل شيء، لماذا يخاطر رأس المال الكبير بأزمة ضخمة من هذا النوع؟ لكن التركيز شبه الحصري على الفيروس التاجي في وسائل إعلامنا لا يعتمد على حقائق محايدة، فمن الواضح أنه يعتمد على خيار أيديولوجي. وفي هذا المقام ربما يمكن للمرء أن يسمح لنفسه بنظرية مؤامرة بسيطة.
ماذا لو كان ممثلو النظام الرأسمالي العالمي الحالي على دراية، بطريقة ما، بما يشير إليه المحللون الماركسيون النقديون منذ فترة: أن النظام كما نعرفه في أزمة عميقة، وأنه لا يمكن أن يستمر بشكله الليبرالي القائم المتساهل. ماذا لو كان هؤلاء الممثلون يستغلون الوباء بلا رحمة من أجل فرض شكل جديد من الحكم؟! والنتيجة الأكثر احتمالًا للوباء هي أن الرأسمالية البربرية الجديدة سوف تنجح. سيتم التضحية بالعديد من كبار السن والضعفاء ويُتركوا ليموتوا؛ سيتعين على العمال قبول مستوى معيشي أقل بكثير؛ سيظل التحكم الرقمي في حياتنا سمة دائمة؛ سوف تصبح الفروق الطبقية على نحو متزايد مسألة حياة أو موت. إلى أي مدى ستبقى الإجراءات الشيوعية التي يضطر أصحاب السلطة إلى اتخاذها الآن؟
وفي الأخير، يدعونا جيجك لئلا نضيع الكثير من الوقت في التأملات الروحية للعصر الجديد، في كيف “ستمكِّننا أزمة الفيروس من التركيز على ماهية حياتنا حقًّا؟”. سيكون الصراع الحقيقي حول الشكل الاجتماعي الذي سيحل محل النظام العالمي الجديد الرأسمالي الليبرالي، وهذا هو موعدنا الحقيقي في سامراء.
إن هذا الموعد الذي يدعو جيجك البشرية إليه في سامراء يبدو أنها ستُخْلِفه، وأن ما جاء به من قرائن تدل على أنها تسير في اتجاه الشيوعية التي يُبَشِّر بها، ثمة أضعاف مضاعفة من القرائن تشي بأنها تصرفت وتتصرف على النقيض مما يراه حتمية تتجه البشرية نحوها. وهذا ما يؤكده يوفال نوح هراري الذي يقول: إن المجتمع الدولي أصابه شلل جماعي، وكان المرء يتوقع أن يرى اجتماعًا لزعماء العالم لوضع خطة عمل مشتركة، وإن مؤتمر الدول السبعة بالفيديو انفضَّ دون أن يسفر عن أية خطة(14).
هل كان للمرء أن يتصور تخلي الاتحاد الأوروبي على أحد أعضائه المؤسسين، وهو إيطاليا، ويتركه فريسة للجائحة، وأغلقت دول الاتحاد حدودها، وأكثر من هذا يسرق بعضها بعضًا، في حين نجد دولًا من خارج أوروبا، مثل قطر والصين..، تمد يد العون إلى إيطاليا.
إن الإجراءات التي اتخذتها بعض الدول ورأى فيها جيجك تجسيدًا للشيوعية التي يُبَشِّر بها، إجراءات مؤقتة تقتضيها ظروف الأزمة، ولن تستمر. ولا يوجد ما يوحي بأنها ستستمر. إن البشرية تعيش مرحلة من عدم اليقين، وفقًا لإدغار موران، ستضطر معها إلى إعادة النظر في الكثير من المسلَّمات، لكنها لن تتجه نحو الشيوعية التي يُبَشِّر بها جيجك، فحاله كحال دون كيشوت (Don Quixote) يحارب طواحين الرأسمالية، بدل طواحين الهواء، بفكرة كانت مثالية فصرعها الواقع.
بينما يرى سلافوي جيجك، وهو يتحدث بلسان الواثق، حتمية الشيوعية لخلاص البشرية من جائحة كورونا، يدعونا إدغار موران إلى “إنسانية متجددة”، لكن بإثارة كثير من الأسئلة النابعة من مرحلة عدم اليقين التي تمر بها البشرية، وستحدد طبيعة الإجابة عن هذه الأسئلة المصير الذي اختارت البشرية التوجه نحوه: “ما الذي سنتعلمه -نحن المواطنين- من تجربة الحجر الصحي؟ وما الذي ستتعلمه السلطات العمومية؟ هل سنتعلم القليل؟ وهل سننسى كل شيء؟ هل ستكون نهاية الحجر الصحي بداية الخروج من الأزمة الكبرى أم بداية تفاقمها؟ هل ستكون طفرة أم ركودًا أم أزمة اقتصادية ضخمة أم أزمة غذاء عالمية؟ هل ستكون استمرارًا للعولمة أم انكفاء للاكتفاء الذاتي؟
هل ستتعزز مظاهر التضامن، التي كان لا حصر لها ومتفرقة قبل انتشار الوباء؟ هل سيستأنف الخارجون من الحجر الدورة الخدَّاعة والمتسارعة والأنانية والاستهلاكية أم ستزدهر من جديد حياة الود والمحبة نحو حضارة تتكشف فيها شاعرية الحياة، ويُزهر فيها “الأنا” في “النحن”؟
لا يمكننا أن نعرف ما إذا كانت السلوكات والأفكار المبتكرة ستكتسب زخمًا بعد الحجر، ولا نعلم ما إذا كانت ستحدث ثورة في السياسة والاقتصاد، أم أن النظام المترنح سيستعيد توازنه. يمكننا أن نخشى بشدة من تراجع عام كالذي حدث بالفعل خلال العشرين عامًا الأولى من هذا القرن (أزمة الديمقراطية، والفساد، والديماغوجية المنتصرة، والأنظمة الاستبدادية الجديدة، والنزعات القومية والمعادية للأجانب والعنصرية). تبقى كل هذه النكسات (والركود في أحسن الأحوال) واردة طالما لم يتبلور المسار السياسي-الإيكولوجي-الاقتصادي-الاجتماعي الجديد الذي تحكمه إنسانية متجددة. وهذا من شأنه مضاعفة الإصلاحات الحقيقية، التي ليست مجرد تخفيضات في الميزانية، بل هي إصلاحات في الحضارة والمجتمع مرتبطة بإصلاحات في الحياة”(15).
يبدو أن كتاب جيجك جُمع على عجل، ويظهر ذلك من أحد التعبيرات الصحافية: “قال رئيس منظمة الصحة العالمية… يوم الخميس …”. ولا أدري كيف سمح جيجك، الفيلسوف، لنفسه بالاقتباس من موسوعة ويكيبيديا، والتي يُمنَع على تلاميذ الابتدائي الاعتماد عليها. فقد نقل منها قصة “موعد في سامراء”، وهي من قصص ألف ليلة وليلة، وقد اقتبس هذه القصة سومرست موم، وغارسيا ماركيز. كما سمح جيجك لنفسه بتوظيف عبارة نابية لا يقتضيها السياق.
في المقال الخامس بعنوان “المراحل الخمسة للجوائح”، اقتبس جيجك أنموذج كوبلر (نسبة إلى إليزابيث كوبلر روس “Elisabeth Kubler Ross”)، المسمى “المراحل الخمسة للصدمة”(16)، لتفسير رد فعلنا على جائحة كورونا، وكان قد وظفه من قبل في كتابه:“Against the Double Blackmail: Refugees, Terror and Other Troubles with the Neighbors” على رد فعل أوروبا تجاه معضلة اللاجئين، علمًا بأن الفروق بين النازلتين تبدو لكل ذي عينين.
يُحسَب لسلافوي جيجك أنه حاز قصب السبق في تناول جائحة كورونا؛ لأنه مهموم بتحديات الواقع الراهن، ما يجعله يتابع تطوراته عن كثب ولا يدع قضية إلا ويدلو فيها بدلوه ويبدي فيها رأيه. وتتوزع إسهاماته بين الكتاب والمقالة، والمناظرة(17)، والمحاضرة، والفيلم الوثائقي(18).
المراجع
(1) Christopher Kul-want & Piero, Introducing Slavoj Žižek, Kindle Edition (London: Icon Books Ltd, 2012).
(2) Slavoj Žižek, Pandemic! COVID-19 Shakes the World, Kindle edition (London, New York: OR Books, 2020).
يقول الفيلسوف الفرنسي إدغار موران جوابًا عن هذا السؤال: “تسببت استراتيجية الإنتاج المبرمج، التي عوضت استراتيجية التخزين، في كثير من البلدان، من بينها فرنسا، في حرمان نظامنا الصحي من الأقنعة الطبية ومعدات الفحص وأجهزة التنفس الاصطناعي، زد على ذلك العقيدة الليبرالية التي أضفت الطابع التجاري على المستشفى وقلَّصت موارده، ما أسهم في المسار الكارثي للوباء”.
(3) Edgar Morin, Un festival d’incertitudes, Collection Tracts, Série Tracts de crise (no 54), Gallimard, (April 21, 2020): 4.
(4) للتوسع في قصة غرق هذه السفينة، انظر:
Sebastian Junger, The Perfect Storm: A True Story of Men Against the Sea (Norton & Company, 1997).
وقد حوَّل المخرج ولفغانغ بيترسون (Wolfgang Petersen)هذا الكتاب إلى فيلم سينمائي في سنة 2000 بالعنوان نفسه.
(5) Yuval Noah Harari, “The world after coronavirus, Financial Times,” March 19, 2020, “accessed, June 20, 2020”. shorturl.at/jrFG1.
(6) يقصد المهاجرين. للاستزادة، انظر للمؤلِّف:
Slavoj Žižek, Against the Double Blackmail: Refugees, Terror and Other Troubles with the Neighbors (Penguin Press, 2017).
وقد تطرق في هذا الكتاب لمسألة الهجرة والهوية الأوروبية.
(7) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 11-12.
(8) Ibid, 6.
(9) Harari, The world after coronavirus, op. cit.
(10) Ibid.
(11) Ibid.
(12) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 9.
(13) يرى إيمانويل كانط في مقاله الشهير “ما الأنوار؟” أن نشر الأنوار لا يحتاج سوى الحرية، ويعني بذلك حرية المرء في استعمال عقله استعمالًا عموميًّا في كل المجالات، وهذا الاستعمال ينبغي أن يكون دائمًا حرًّا، ولا يمتثل المرء لنداء “لا تفكر” الذي يأتيه من كل حدب وصوب: فالضابط يقول: “لا تفكر، بل قم بالتمارين!”، وجابي الضرائب يقول: ” لا تفكر، بل ادفع!”، والكاهن يقول: “لا تفكر، بل آمن!” (لا يوجد في العالم سوى سيد واحد يقول: “فكر كيف تشاء وفيما تشاء، إنما أطع!). إن هذا الاستعمال العمومي للعقل، يقول كانط، هو وحده القادر على نشر الأنوار بين الناس، بينما الاستعمال الخاص قد يكون في حالات عدة مقيدًا بشكل صارم، وهذا لا يعيق بوجه خاص تقدم الأنوار، ويقصد باستعمال المرء عقله الخاص استعمالًا عموميًّا أنه يستعمل عقله بوصفه مفكرًا أمام جمهور يتكوَّن بأكمله من عالم القرَّاء. ويسمي كانط استعمالًا خاصًّا ذلك الاستعمال للعقل من طرف المرء الذي يتولى مسؤولية أو وظيفة، وفي هذه الحالة ثمة آلية ضرورية تفرض على بعض أفراد الجماعة أن ينقادوا تمامًا، لخدمة الغايات العامة أو على الأقل عدم إفسادها، فلا مجال للتفكير، إنما للطاعة فحسب.
Immanuel Kant, “An Answer to the Question: ‘What is Enlightenment?’,”.
(14) Harari, the world after coronavirus, op. cit.
(15) Morin, Un festival d’incertitudes, op. cit, 14-15.
(16) عندما يصاب الإنسان مثلًا بمرض عضال أو يفقد قريبًا، أو حبيبًا، أو ثروة. وهذه المراحل هي: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول. انظر:
“On Death and Dying” By Elisabeth Kubler-Ross.
(17) يمكن متابعة ما يسمى بمناظرة العصر:”Happiness: Capitalism vs. Marxism” بين جيجك وجوردن بيترسون (Jordan Peterson)، على الرابط الآتي: https://bit.ly/2Z5UXTp
(18) يمكن مشاهدة فيلم “The Pervert’s Guide to Ideology” الذي كتب قصته جيجك وكان الشخصية الرئيسة فيه، وأخرجته صوفي فينيس (Sophie Fiennes).