مقدمة
مع قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، وما ترتب عليها من تحولات على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكذلك الأمنية والعسكرية، برزت مجموعة من القضايا بل والتحديات التي كانت محلًّا للاهتمام، ليس فقط على مستوى الممارسين والمنخرطين في العملية السياسية في مصر، ولكن أيضًا على مستوى الباحثين والمتخصصين في العلوم السياسية عامة، وفي قضايا التحول الديمقراطي خاصة. وكان من أهم هذه القضايا، قضية العلاقات المدنية-العسكرية أمام تعاظم الدور الذي تقوم به المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2011 وحتى الآن.
هذا الدور الذي لم يكن وليد التحولات التي شهدتها مصر شعبيًّا عام 2011 وعسكريًّا في 2013، ولكنه يعود بجذوره القريبة إلى العام 1952 مع الانقلاب الذي شهدته مصر في 23 يوليو/تموز من ذلك العام، والذي شكَّل البداية الرسمية لتغلغل، بل، وهيمنة المؤسسة العسكرية على العديد من مفاصل الدولة، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا بل وإداريًّا وتنظيميًّا وتشريعيًّا حتى برزت مقولة كاشفة عند البعض وتفسيرية عند البعض الآخر تقوم على أن هناك وضعًا معكوسًا في مصر يتمثَّل في وجود “جيش له دولة وليست دولة لها جيش”. وذهب أحد المتخصصين إلى إطلاق اسم “جمهورية الضباط”(1) على الدولة التي تشكَّلت في مصر بعد 1952، وترسخت بعد انقلاب 2013.
وفي إطار هذه الاعتبارات، تأتي هذه الدراسة للبحث في محددات ومؤشرات دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013 ومساراتها، وكيف يمكن إدارة العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، استنادًا إلى هذه المحددات وتلك المؤشرات.
- الإطار النظري والمنهجي للدراسة
أ- أهمية الدراسة
تنبع أهمية هذه الدراسة من عدة اعتبارات، يمكن التمييز في إطارها بين مستويين أساسيين:
– أولًا: الأهمية العلمية:
حيث تشكِّل قضية العلاقات المدنية-العسكرية إحدى أهم قضايا التحولات السياسية التي شهدتها الدول العربية منذ العام 2011، ورغم جذرية هذه التحولات في كثير من الحالات، إلا أنها ما زالت تحتاج إلى المزيد من البحوث والدراسات حول أبعاد هذه القضية، ونماذجها وتجاربها المختلفة، وآليات إدارتها، وهو ما تسعى هذه الدراسة إلى المساهمة فيه، من خلال تناول محددات وأبعاد هذه القضية في الحالة المصرية، وخاصة بعد 2013، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، ما تفرضه هذه القضية على المستوى النظري التحليلي من أهمية عدد من المفاهيم، وضرورة العمل على التأصيل المعرفي لها، وخاصة ما يرتبط منها بنظريات ونماذج إدارة العلاقات المدنية-العسكرية.
– ثانيًا، الأهمية العملية:
كشفت السنوات المنصرمة، بعد انقلاب 2013، في مصر عن أزمة حقيقية لدى معظم، إن لم يكن كل، النخب السياسية والفكرية، وكذلك العسكرية، حول آليات ومسارات إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، وخاصة مع التغلغل الكبير للمؤسسة العسكرية المصرية في معظم مفاصل وقطاعات ونشاطات الدولة على كافة المستويات، لدرجة الربط بين هذه المؤسسة وبقائها والدولة وبقائها، وكأن العلاقة بينهما علاقة بقاء ووجود، وهو ما يكشف عن اختلالات عميقة في المفاهيم أولًا، وفي الأدوار ثانيًا، وفي كيفية الفصل والتوزيع ثالثًا، ولذلك جاءت أهمية هذه الدراسة، عمليًّا، من محاولتها الإسهام في دعم عملية صنع القرار بين النخب المدنية والعسكرية فيما يتعلق بإدارة العلاقات فيما بينهما، والنماذج العملية لهذه الإدارة.
ب- أهداف الدراسة
في إطار الاعتبارات السابقة تسعى الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
- بيان المحددات الأساسية لدور المؤسسة العسكرية في مصر وموقعها من الحكم بعد 2013.
- تحديد مؤشرات ومقومات هذا الدور، وتأثيراته على العلاقات المدنية-العسكرية.
- بيان درجة اقتراب الحالة المصرية في العلاقات المدنية-العسكرية من النماذج النظرية المتعارف عليها، ومدى قدرة هذه النماذج على تقديم إسهام قابل للتطبيق في مصر.
ج- منهجية الدراسة
تعتمد الدراسة مدخلًا نظريًّا يرتكز على نموذج الدور الذي يقوم على عدد من الافتراضات، من بينها أن بعض أنماط السلوك تُعَدُّ صفة مميزة لدى الأفراد الذين يعملون داخل إطار معين، وأن الأدوار غالبًا ما ترتبط بعدد من الأفراد الذين يشتركون في هوية واحدة، وأن الأفراد غالبًا ما يكونون مدركين للدور الذي يقومون به، وأن الأدوار تستمر جزئيًّا بسبب النتائج التي تترتب عليها من ناحية، وبسبب أنها غالبًا ما تكون داخل نظم اجتماعية أكثر اتساعًا من ناحية ثانية، وأن الأفراد يجب أن يتعلموا الأدوار التي يقومون بها، أي يتم تأهيلهم للدور الذي يُعهد إليهم(2)، بما يضمن الحفاظ على استمرارية وترسيخ هذا الدور.
وفي إطار هذه الافتراضات، تتبنى الدراسة التعريف الإجرائي التالي لمفهوم الدور، باعتباره الجهود والنشاطات التي تقوم بها جماعة من الجماعات السياسية أو الاجتماعية للدفاع عن مصالحها وترسيخ وجودها في المجتمع الذي توجد فيه، والتي تختلف من مجتمع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، ومن جماعة إلى أخرى، باختلاف خصائص وسمات هذه المجتمعات والبيئات وتلك الجماعات.
والدور بهذا التعريف يقوم على عدد من المؤشرات الأساسية، من بينها: وجود مجموعة من الوظائف، تحكمها واجبات وحقوق محددة، مع التمايز في هذه الوظائف وتلك الواجبات والحقوق، والارتباط بمركز أو كيان مُعين يُمثِّل أحد جوانب النسق الاجتماعي القائم، مع ضمان الاستمرارية والثبات النسبي، وإمكانية التنبؤ بهذه الأدوار في ظل ما يرتبط بها من توقعات، وما تتسم به من ثبات واستمرارية، وهذا ما يسعى الباحث لاختباره في هذه الدراسة.
- بنية المؤسسة العسكرية في مصر ومهامها
في ضوء مشكلة الدراسة والأهداف التي يسعى إليها البحث، يتناول هذا المحور مطلبين أساسيين، المطلب الأول: دور المؤسسة العسكرية في مصر: المحددات والمؤشرات، والمطلب الثاني، يتناول مستقبل دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013 (الاستمرارية، الثبات، التوقعات).
1.2. دور المؤسسة العسكرية في مصر: المحددات والمؤشرات
يُقصد بتلك المحددات العوامل والاعتبارات التي تحكم دور المؤسسة العسكرية في مصر، والتي يمكن التمييز في إطارها بين العوامل التالية، التي يرى الباحث، أولويتها، ومحورية تأثيرها في هذا الدور، وهي تلك النابعة من الداخل المصري، سواء من داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، أو من داخل النظام السياسي المصري وما يقوم عليها من فاعلين وتفاعلات، ومن بين هذه العوامل:
أ- العامل التاريخي
يقصد به تطور دور المؤسسة العسكرية منذ 1952، والذي قام الباحث يزيد صايغ بالتأصيل له في “جمهورية الضباط”، التي ظهرت في أعقاب الإطاحة بالنظام الملكي عام 1952، وتثبيت جمال عبد الناصر رئيسًا للبلاد عن طريق الاستفتاء الشعبي، في عام 1956، حيث تم تصوير القوات المسلحة على أنها عامل تغيير اجتماعي وقيادة “الثورة من أعلى”، فأشرفت على إعادة توزيع الأراضي و”تمصير” القطاعين الصناعي والمالي في الخمسينات من القرن العشرين، وأشرفت على السياسات الاشتراكية بدءًا من أواخر عام 1961. ومع بدايات حكم مبارك في ثمانينات القرن الماضي، تم استقطاب كبار الضباط إلى النظام الرئاسي القائم على التمتُّع بالنفوذ والمحسوبية، واستمالة القوات المسلحة ونزع الصبغة والدور السياسيين عنها، وتغلغلت جمهورية الضباط في الحياة المدنية لدرجة أصبح معها وجودها أمرًا اعتياديًّا وطبيعيًّا، ليس في نظر الآخرين وحسب، بل أيضًا، وهذا الأهم، في نظر أفرادها أنفسهم.
وبعد عام 1991، سارت عملية الدمج في نظام المحسوبية التابع لمبارك من خلال الوعد بمنح “بدل ولاء” يحصل عليه كبار الضباط عند التقاعد، وذلك مقابل امتناعهم عن الانخراط في السياسة وقبولهم لرواتب متدنية نسبيًّا، خلال سنوات الخدمة في القوات المسلحة. ويمكن للمتقاعدين العسكريين الذين تربطهم علاقات مع جهات نافذة أن يتم تعيينهم في وظائف في الجهاز الحكومي المدني توفر لهم فرصًا تمكِّنهم من تأمين دخل إضافي أو مضاعفة موجوداتهم المادية إلى جانب الرواتب والمعاشات. وأحيانًا يتم التعيين الثاني بالتزامن مع الخدمة الفعلية في القوات المسلحة، بما يخدم تكوين السيَر الذاتية وبناء العلاقات تمهيدًا للحصول على مناصب أفضل بعد التقاعد. وفي كثير من الأحيان، يتولى هؤلاء الضباط مناصب قيادية عليا في فروع القوات المسلحة التي ينتمون إليها، ثم ينضمون إلى مجالس إدارات الشركات التجارية المملوكة للدولة بعد تقاعدهم من الجيش.
ووفقاً ليزيد صايغ، فقد تضخمت “طائفة” كبار الضباط بشكل كبير لعدة اعتبارات، من بينها: استحداث رتبة عسكرية رفيعة جديدة، هي فريق أول، في نهاية فترة التدخل المصري في الحرب الأهلية في اليمن بين العامين 1962 و1966، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة ومستمرة في عدد الضباط الذين يمكن ترقيتهم إلى رتبة فريق ولواء، والترقية التلقائية من رتبة عميد عند التقاعد (السن القصوى 54 سنة) إلى رتبة لواء. بما يزيد من مكافأة نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي والعلاوات والبدلات الأخرى، ويزيد عدد الألوية المتاحين للتعيين في الجهاز الحكومي المدني والشركات التجارية المملوكة للدولة.
يضاف إلى ذلك ما يعرف بآلية “الاستدعاء”، وهي العقود التي تبلغ مدتها ستة أشهر قابلة للتجديد والتي يتم إصدارها لجميع الضباط الكبار عند التقاعد، وتسمح لهم بالبقاء في الزي العسكري وفي الخدمة الفعلية، ويمكن تجديدها لمدة تصل إلى عشر سنوات، وفي بعض الأحيان ضعفي هذه المدة حتى لو كان المتقاعدون يشغلون مناصب أخرى مقابل راتب في القطاع المدني، الأمر الذي يعزز من نفوذ العسكريين بشكل كبير خارج الحدود الرسمية للمؤسسة العسكرية (3).
ب- بنية المؤسسة العسكرية
ظلت بنية المؤسسة العسكرية منذ يوليو 1952، قائمة على تمركز إدارة المؤسسة في مجموعة من القيادات تُدير الأوضاع داخل المؤسسة العسكرية، تضم رئيس الجمهورية كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة ووزير الدفاع، وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة (رئيس الأركان، قائد القوات الجوية، قائد قوات الدفاع الجوي، قائد القوات البحرية، رئيس هيئة العمليات). كما تم تأسيس مجلس الدفاع الوطني المصري، ليكون مسؤولًا عن وضع الأطر العامة لتأمين البلاد، وتحديد العقيدة الأساسية، والعقيدة البيئية، والعقيدة التنظيمية للجيش المصري (4).
وفي عام 1968، تم تشكيل “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” من قِبَل الرئيس جمال عبد الناصر بموجب القانون رقم 4 لعام 1968، بعد هزيمة 1967، وكان الهدف الرسمي من تشكيله هو تنسيق استراتيجية وعمليات القوات المسلحة في زمن الحرب، ولهذا السبب سعى الرئيس أنور السادات إلى الحصول على مشورته قبل حرب 1973.
وعلى خلاف “مجلس الدفاع الوطني”، لم يكن وضع “المجلس الأعلى للقوات المسلحة” مصونًا في الدستور، وبدا أنه لا يجتمع إلا في المناسبات السنوية للحروب السابقة، مثل “ذكرى حرب أكتوبر”، لكن دوره أصبح محوريًّا في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011(5).
وفي منتصف عام 2011، اتخذ المجلس قرارًا استثنائيًّا يقضي بأن أعضاء المجلس العسكري لن تنتفي عنهم الصفة العسكرية حتى لو تم إخراجهم من الخدمة بسبب ما أو عند إحالتهم للمعاش، وأنهم يظلوا على قوة الاستدعاء للمجلس العسكري، وبالتالي أي قائد عسكري يصبح عضوًا في المجلس العسكري في أي وقت من بعد 2011، وإلى وقتنا هذا يُصبح مستدعى على قوة المجلس حتى لو خرج من الخدمة، ولا يتسنى لأي قائد أن يتخذ قرارًا منفردًا إلا بعد أن يرجع إلى المجلس ويأخذ موافقة أعضائه الحاليين والمستدعين، كالرغبة في الترشح لرئاسة الجمهورية أو الرغبة في الترشح في الانتخابات البرلمانية وما شابه ذلك.
ووفقًا للقانون رقم 20 لسنة 2014، الذي أضفى الطابع الرسمي على هيكل “المجلس العسكري” ومهمته، والذي أصدره الرئيس المؤقت، عدلي منصور، بعد أحداث الثالث من يوليو/تموز 2013، يتكوَّن “المجلس” من خمسة وعشرين عضوًا، ثم أصبح 26 عضوًا بعد استحداث منصب قائد القيادة الموحدة في سيناء. كما نص القانون على عدد من البنود الأساسية:
(أ) يُشكَّل المجلس برئاسة وزير الدفاع، ويكون رئيس أركان حرب القوات المسلحة نائبًا لرئيس المجلس، ويتولى أمين عام وزارة الدفاع أمانة سر المجلس، ويحدد وزير الدفاع أعضاء المجلس من مساعدي الوزير للتخصصات المختلفة. (المادة 1/ فقرة 1)، ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية ضمَّ أعضاء بالمجلس من قيادات القوات المسلحة (م 1/ فقرة 2).
(ب) يدعو وزير الدفاع المجلس للانعقاد مرة كل 3 أشهر، وكلما دعت الضرورة لذلك، ولا يكون انعقاد المجلس صحيحًا إلا بحضور أغلبية أعضائه، وتصدر قرارات وتوجيهات المجلس بأغلبية أصوات الأعضاء الحاضرين، وفي حالة قيام حرب أو إعلان التعبئة العامة يعتبر المجلس منعقدًا بصفة مستمرة، ولرئيس الجمهورية دعوة المجلس للانعقاد كلما دعت الضرورة لذلك، ويتولى رئيس الجمهورية رئاسة الاجتماع في حالة حضوره (المادة 2/ فقرة 2)، و”لوزير الدفاع دعوة أي من قيادات القوات المسلحة أو من يرى من المختصين أو الخبراء من خارج القوات المسلحة لحضور اجتماع المجلس إذا تطلبت دراسة الموضوعات المعروضة ذلك، دون أن يكون لهم صوت معدود” (المادة 3/ فقرة 1)، ويحق للمجلس استدعاء أي وزير عند الحاجة، وللحديث بشأن موضوع بعينه (المادة 4)، وتصدر قرارات المجلس في صورة قرار أو توجيه من وزير الدفاع، وتوقع محاضر وقرارات المجلس من رئيسه وأمين سر المجلس وترسل للجهات المختصة للتنفيذ (المادة 5).
وطبقًا للقانون 20 لسنة 2014، فإن مهام المجلس العسكري تتمثل في: تحديد الأهداف والمهام الاستراتيجية بما يحقق الأهداف السياسية وأهداف السياسة العسكرية التي تحددها القيادة السياسية للدولة، وتحديد حجم وشكل القوات المسلحة وتركيبها التنظيمي والتطور المستقبلي، والاستعداد القتالي للقوات المسلحة، وإعداد سياسة استكمال القوات المسلحة وأسس التعبئة لها، ووضع سياسة إيواء القوات المسلحة ودراسة حالة الانضباط العسكري والروح المعنوية، وإقرار سياسة تدريب القوات المسلحة وإجراء المناورات والتدريبات المشتركة، وإقرار سياسة تجهيز مسارح العمليات الحربية، وإعداد مشروعات القوانين والقواعد المنظمة لخدمة الأفراد بالقوات المسلحة والاقتراحات الخاصة بنظام التجنيد، وإقرار سياسة المحافظة على أمن وسلامة القوات المسلحة. وكذلك استعراض تقارير قادة الأفرع الرئيسية ورؤساء الهيئات وقادة الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية ومديري الإدارات للوقوف على حالة الاستعداد القتالي للقوات المسلحة، ودراسة إعلان حالة الحرب أو إرسال قوات عسكرية إلى خارج الدولة، وإعداد تقدير الموقف السياسي العسكري، وإصدار وثيقة التهديدات والتحديات العسكرية للدولة، وإعداد وثيقة السياسة العسكرية، وإعداد الدولة للحرب أو الدفاع بالتعاون مع مجلس الدفاع الوطني ومجلس الأمن القومي، والتعاون والتنسيق مع مجلس الأمن القومي بشأن تحديد العدائيات الداخلية ارتباطًا بدور القوات المسلحة في هذا الشأن.
هذا، بالإضافة إلى الموافقة على تعيين وزير الدفاع ويسري ذلك لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارًا من تاريخ العمل بدستور 2014، وإبداء الرأي في إعلان الحرب أو إرسال القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة، وأي موضوعات أخرى يرى وزير الدفاع عرضها على المجلس مثل الأوضاع الاقتصادية في البلاد والأوضاع الأمنية، ووضع خطط مواجهة الاحتجاجات (6).
ج- ترسخ الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية
المقصود بالدور التنموي للمؤسسة العسكرية هو مجموعة الأنشطة والممارسات التي تسهم في تحقيق التنمية والتقدم للدولة، والقائمة على المجالات الاقتصادية بالأساس، وأيضًا الجوانب الاجتماعية الثقافية والتربوية والصحية، وبدرجة أقل أدوار التنمية السياسية والتدريبية، وتتمثَّل أهم المجالات التي تقوم فيها المؤسسة العسكرية بدور تنموي من واقع الخبرات الدولية فيما يلي:
- مجالات التعليم والتثقيف والتدريب: يمكن للمؤسسة العسكرية أن تلعب دورًا في رفع المستوى التثقيفي والتعليمي سواء في صفوفها أو بين المدنيين، باعتبار أن المجندين يجب أن يحصلوا بالضرورة على قدر من التدريب على المهارات اللفظية والتقنية من أجل ملء المناصب العسكرية بكفاءة.
– مجال الصحة والإغاثة: كثيرًا ما استخدمت المؤسسة العسكرية في جميع أنحاء العالم للتعامل مع حالات الأزمات الطبيعية (السيول، الزلازل، الأعاصير) التي تؤثر على قطاعات من السكان المدنيين، وهي مناسبة لهذه العمليات، لأنها يمكن أن توفر معدات النقل والاتصالات في مهلة قصيرة، ولأن تدريبهم قد جهزهم للتعامل مع حالات مماثلة في السياق العسكري.
– المجال الاقتصادي: من خلال المشاركة في تطوير البنية التحتية الاقتصادية للدولة، والمشاركة في تطوير أنشطة اقتصادية محددة مثل الزراعة أو الصناعة. وكثيرًا ما تتشارك وتتداخل أدوار الجيش مع الجهات المعنية بتنمية الهياكل الأساسية للدولة سواء وزارات أو مؤسسات، وبخاصة في مجالات بناء وتحسين شبكة الطرق والاتصالات، وهو ما يزيد فعالية دور المؤسسة العسكرية في تقدم الدولة ويعمل على تحسين إمكاناتها الاقتصادية (7).
وفي الخبرة المصرية، فقد تعزز وترسخ دورها في هذه المجالات، للدرجة التي أصبح الكثيرون يرون استحالة استبعادها، أو الفصل بينها وبين القيام بهذه النشاطات، ولم يعد التعامل معها على أنها مظهر من مظاهر الدور، بل محددًا له (8).
وقد اتسع النشاط الاقتصادي للجيش المصري بشكل ملحوظ عقب تولي عبد الفتاح السيسي رئاسة البلاد، واستفاد الجيش من استبدال نظام البيع المباشر بنظام المناقصات العامة داخل مؤسسات الدولة، وأسند السيسي للجيش مهمة تنفيذ حوالي 1600 مشروع بالأمر المباشر (9)، وامتد نشاط الجيش لبعض الأنشطة الجديدة، وأعلنت الهيئة الهندسية عن إنشاء مصنع للحديد في أبريل/نيسان 2016، بتكليف مباشر من السيسي، وحصل الجيش على رخصتين لإنشاء مصانع الحديد من أصل 4 رخص خططت الحكومة لطرحها (10).
كما أصدر السيسي قرارًا أتاح للقوات المسلحة تأسيس، وإنشاء شركات بمفردها أو بالمشاركة مع رأس المال الوطني أو الأجنبي، وتظهر توسعات الجيش في الاقتصاد في صورة التدخل في حل الأزمات الطارئة في السوق المصرية، بسبب تراجع استثمارات القطاع الخاص جرَّاء السياسات الاقتصادية، وانخفاض سعر صرف العملة المحلية، الأمر الذي ترتب عليه توتر علاقة القوات المسلحة ببعض شرائح القطاع الخاص بسبب التضييق على أنشطة رجال الأعمال، إضافة إلى مصادرة أموال بعض رجال الأعمال الآخرين (11).
وتكللت هذه السيطرة مع قرار السيسي بتمثيل القوات المسلحة في لجنة حصر أملاك هيئة الأوقاف، وتحديد وسائل الاستفادة منها، وتمثيل وزارة الدفاع في المجلس القومي للاستثمار الذي يرأسه رئيس الدولة (12).
د- الامتيازات الاستثنائية
تناول براين لوفمان (Brian Loveman) الامتيازات العسكرية التي تتمتع بها المؤسسات العسكرية في ظل عمليات الانتقال والتحول السياسي، ومنها: الاستثناءات كعنصر أساسي في الدساتير، وتعليق الحماية القضائية للحريات والحقوق المدنية خلال حالات الطوارئ، أو عند تطبيق قوانين الأمن القومي، والنص على قوانين أساسية تزيد من ترسيخ الدور السياسي والاستقلال النسبي للقوات المسلحة، وإقرار المحاكمات العسكرية على المدنيين بتهمة ارتكاب “جرائم ضد الأمن الداخلي”، أو حتى إهانة الضباط، والتمثيل الرسمي للقوات المسلحة في صنع السياسات، والاستقلال الذاتي للقوات المسلحة في ميزانيتها، من خلال التأكيد على وجود حد أدنى للميزانية ثابت دستوريًّا، ونسب مئوية من عائدات التصدير، أو عائدات شركات معينة، أو الضرائب العامة، وعدم خضوعها للرقابة من السلطة التشريعية، وكذلك الاستقلال الذاتي الدستوري والقانوني الواسع للجيش من الرقابة على المسائل المهنية الداخلية مثل التعليم العسكري، والترقيات، والتقاعد(13).
وفي التطبيق المصري لهذه الامتيازات وتلك الاستثناءات، يمكن رصد عدد من المؤشرات الأساسية، من بينها:
أولًا: حماية كبار القادة العسكريين في الدستور والقوانين
– أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في يوليو/تموز 2011، القانون رقم 133، وهو عبارة عن “حكم قانوني استثنائي” ينص على أن الأشخاص الذين كان يتكوَّن منهم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تلك الفترة، يبقون في الخدمة العسكرية الاحتياطية حتى بعد بلوغهم سن التقاعد. وقد ضمنَ ذلك لكبار القادة العسكريين خروجًا آمنًا من السلطة؛ إذ لم يعد بالإمكان محاكمتهم أمام محاكم مدنية بموجب هذا القانون ولكنه يمنعهم أيضًا من الترشح لمناصب سياسية، كما حصل مع سامي عنان.
– في مايو/أيار 2012، قام البرلمان بتعديل القانون رقم 25، الصادر في العام 1966، بما يُجيز للمحاكم العسكرية النظر والتحقيق في الجرائم المالية فقط بعد تقاعد الضابط المتَّهم. والهدف من القانون هو تعطيل التحقيقات في الجرائم المالية المحتملة، فالانتظار إلى حين تقاعد المتَّهم من أجل المباشرة بالتحقيقات يزيد من صعوبة جمع الأدلة بغية الشروع في الإجراءات القضائية.
– نصت المادة 204 من دستور 2014، على أن القضاء العسكري يمتلك دون غيره سلطة مقاضاة أفراد القوات المسلحة والمخابرات العامة والفصل في كافة الجرائم التي يمكن أن يكونوا قد ارتكبوها بصفتهم العسكرية كعناصر في القوات المسلحة، هذا على الرغم من أنه في الكثير من دول العالم، ينحصر اختصاص القضاء العسكري بالجرائم التي تُرتكَب ضد المؤسسة العسكرية أو أفراد القوات المسلحة.
ونظرًا لعدم تحديد طبيعة هذه الجرائم، تحمي المادة المذكورة العسكريين في الخدمة من المثول أمام المحاكم المدنية ليس فقط في جرائم القمع الجسدي إنما أيضًا في مجموعة من الجنايات الأخرى، منها الجرائم المالية. حتى في حال أقدمت محكمة عسكرية، على محاكمة ضابط في جريمة مرتكَبة ضد شخص من المدنيين، نادرًا ما يكون القضاة محايدين.
– قانون 2018 (14)، الذي يُتيح للسيسي اختيار ضباط كبار للخدمة مدى الحياة، وهو ما يُفيد كبار القادة العسكريين الذين يتمتعون بالدعم من السيسي، من الإفلات من العقاب في قضايا الفساد والجرائم المالية، فحتى القضاء العسكري لا يمكنه النظر في هذه الجرائم. وهذا يشكِّل عاملًا إضافيًّا يضمن ولاء كبار الضباط السياسي للسيسي، الذي يُعتبَر الشخص الوحيد القادر على تأمين هذه الحماية، فيما يعمل على ترسيخ سلطته بصورة مطردة.
وتحمي هذه القوانين كبار الضباط من أية محاكمات داخلية أو دولية محتملة في تهم القمع. كما أنها تولِّد منظومة قضائية تقود إلى الفساد، نظرًا إلى أن الإشراف القانوني الوحيد على أفراد المؤسسة العسكرية يتم عن طريق المحاكم العسكرية بعد تقاعد المتَّهم، وحتى هذا الإشراف الضعيف يمكن تجاوزه من خلال قرار صادر عن الرئيس باستدعاء أي ضابط رفيع المستوى للخدمة مدى الحياة أو الخدمة الاحتياطية. على ضوء التوسُّع الاقتصادي للجيش في الأعوام القليلة الماضية وانخراطه في أنشطة اقتصادية واسعة النطاق في القطاع الخاص، تتسنَّى للضباط العسكريين فرص متزايدة لممارسة الفساد الجماعي وتكديس الثروات الشخصية.
وقانون 2018 يزيد من خضوع كبار الضباط للرئيس الذي يمتلك القدرة على مواجهة التطلعات السياسية لكبار الجنرالات بمجرد استدعائهم للخدمة مدى الحياة؛ وهذا يؤدي إلى تثبيت قبضة الرئيس على المؤسسة العسكرية، ويدفع بأفراد القوات المسلحة إلى الرضوخ له سعيًا وراء تحقيق منافع شخصية (15).
ولا يُحدِّد القانون رتبة عسكرية، مما يُتيح للرئيس أن يختار الضباط الذين ستُطبَّق عليهم نصوص القانون. وهذا يحول فعليًّا دون تمكُّن المنافسين المحتملين في صفوف كبار الضباط العسكريين من الترشح للرئاسة، كما يمنع العسكريين في الخدمة الفعلية من تسلُّم مناصب سياسية، أو الترشح لها (16).
– تعديلات دستور 2014: والتي وافقت عليها لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، في 14 أبريل/نيسان 2019، وتم التصويت عليها خلال الجلسات العامة للبرلمان يوم الثلاثاء 16 أبريل/نيسان 2019، وتم الاستفتاء في 19 و20 و21 أبريل/نيسان 2019 للمصريين المقيمين خارج مصر، و20 و21 و22 أبريل/نيسان للمقيمين داخل مصر، وتم إعلان النتيجة في 23 أبريل/نيسان 2019، بموافقة 88.8% من المشاركين في الاستفتاء(17)، وتضمنت التعديلات فيما يخصص المؤسسة العسكرية، مزيدًا من ترسيخ دورها كمؤسسة فوق دستورية، مسؤوليتها صون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها.
جدول رقم (1) يوضح التعديلات الدستورية في 2019 مقارنة بنصوص دستور 2014(18):
النصوص الأصلية لدستور 2014 | التعديلات التي تم إقرارها في أبريل/نيسان 2019 |
مادة 200/ الفقرة الأولى: القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها. والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية. | مادة 200/ الفقرة الأولى (مستبدلة): القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد. والدولة وحدها هي التي تنشئ هذه القوات، ويحظر على أي فرد أو هيئة أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية. |
مادة 204/ الفقرة ثانية: لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثِّل اعتداءً مباشرًا على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثِّل اعتداءً مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم. | مادة 204/ الفقرة الثانية (مستبدلة): لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثِّل اعتداءً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها أو المنشآت التي تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثِّل اعتداءً مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم. |
مادة 234: يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسري أحكام هذه المادة لدورتين رئاسيتين كاملتين اعتبارًا من تاريخ العمل بالدستور. | مادة 234 (مستبدلة): يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. |
- قرارات تخصيص أراض وشركات للقوات المسلحة
– في 9 يونيو/حزيران 2016، أصدر السيسي، قرارًا جمهوريًّا باستثناء المنطقة الاقتصادية بشبه جزيرة سيناء من القانون رقم 14 لسنة 2012 والتي خُصِّصت للقوات المسلحة بتنفيذ مشاريع فيها، وجاء في القرار الذي نشرته الجريدة الرسمية “تستثنى المنطقة الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة الواقعة بشبه جزيرة سيناء الصادر بشأنها قرار رئيس الجمهورية رقم 330 لسنة 2015، من أحكام المرسوم بقانون رقم 14 لسنة 2012، بشأن التنمية المتكاملة في شبه جزيرة سيناء والمعدل بقانون رقم 95 لسنة 2015 (19).
– في 9 يونيو/حزيران 2016، نشرت الجريدة الرسمية القرار الجمهوري رقم 233 لسنة 2016 بشأن تخصيص أراض صحراوية لوزارة الدفاع، واعتبارها من المناطق الاستراتيجية العسكرية (20)، وأصدر السيسي توجيهاته بتكليف القوات المسلحة لتكون الجهة المسؤولة عن مراقبة الأراضي التي تقع على مسافة 2 كم من جانبي الشبكة القومية للطرق وإزالة جميع التعديات المقامة عليها، إلا إذا كان مصدقًا عليها من الأجهزة المعنية للدولة، وذلك لإتاحة الفرصة أمام أجهزة الدولة المختصة لإقامة عدد من المشروعات التنموية عليها (21).
– في 15 يونيو/حزيران 2016، أصدر السيسي قرارًا جمهوريًّا بالموافقة على إعادة تخصيص قطعة أرض من الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة بمساحة 3017 كم2 بمنطقة رأس الأدبية بمحافظة السويس، لتنفيذ المشروع القومي للترسانة البحرية حمل القرار الذي نشر في الجريدة الرسمية، رقم 271 لسنة 2016(22).
– في 15 يونيو/حزيران 2016، أصدر السيسي قرارًا جمهوريًّا رقم 272 لسنة 2016 بالموافقة على إعادة تخصيص قطعة أرض من الأراضي المملوكة للدولة ملكية خاصة بمساحة 1284638م2، في منطقة العين السخنة بمحافظة السويس لصالح القوات المسلحة وذلك نقلًا من الأراضي المخصصة للأنشطة السياحية (23).
– في 11 يونيو/حزيران 2016، أصدر السيسي قرارًا بتخصيص 2815 فدانًا بمحافظة كفر الشيخ لصالح جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، وتم نشر القرار بالجريدة الرسمية بتاريخ 23 يونيو/حزيران 2016(24).
ولا يرتبط الإشكال الحقيقي في قرارات التخصيص بما هو منصوص عليه فيها فقط، ولكن الأهم هو منحها الحق في التصرف في هذه الأراضي بيعًا وشراء وهبات ومنحًا وتنازلًا، بما يترتب عليه ترتيبات خارجية لصالح أطراف خارجية، وخاصة في شبه جزيرة سيناء ذات الأهمية الاستراتيجية.
ه- العلاقات الخارجية للمؤسسة العسكرية
تأرجحت العلاقات الخارجية للمؤسسة العسكرية، في مصر منذ 1952، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية، وتباينت العلاقات بين مصر وإسرائيل في وقت الحرب ووقت السلم، إلا أنه يمكن القول من خلال تحولات الفترة من 1952 إلى 2019: إن أكبر قوتين كان لهما التأثير على المؤسسة العسكرية في تعاملها مع ثورة يناير/كانون الثاني 2011، هما: الولايات المتحدة وإسرائيل، لما لهما من علاقات استراتيجية مع المؤسسة العسكرية في مصر منذ العام 1978.
فبعد توقيع الرئيس السادات “اتفاقية كامب ديفيد”، في 17 سبتمبر/أيلول 1978، أصبح هناك تحالف استراتيجي بين المؤسسة العسكرية المصرية والولايات المتحدة، يحصل بموجبه الجيش المصري على معونة عسكرية سنوية تقدمها الولايات المتحدة، وأصبح تسليح الجيش المصري أميركيًّا بشكل كبير، وباتت التدريبات العسكرية والدورات العسكرية التي يتلقاها ضباط القوات المسلحة المصرية تتم في الولايات المتحدة بشكل عام، هذا بخلاف التدريبات العسكرية الضخمة التي تقام سنويًّا بين الجيشين، المصري والأميركي، كتدريبات النجم الساطع.
وبعد كامب ديفيد أيضًا أصبحت العلاقات بين مصر وإسرائيل في تقارب متنام حتى وصلت إلى ذروتها في عهد عبد الفتاح السيسي بعد انقلاب 2013، ويظهر عمق وتقارب تلك العلاقة في العمليات العسكرية المشتركة التي يقوم بها الجيش المصري بمشاركة مع الجيش الإسرائيلي في شبه جزيرة سيناء، وكذلك التدريبات العسكرية المشتركة التي تقام سنويًّا بينهما (25).
وبعد انقلاب 2013، اتجه نظام السيسي إلى تنويع شبكة تفاعلاته الخارجية، مستفيدًا من الدور الوظيفي للمؤسسة العسكرية المصرية في المنطقة لصالح الأطراف الإقليمية والدولية، والتي تولَّى بعضها مهمة تمويل تسليح الجيش المصري بعد 2013، بصفقات ضخمة من روسيا وفرنسا وألمانيا والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة.
ومن خلال رصد صفقات التسليح التي أبرمتها القوات المسلحة المصرية خلال العام 2018 فقط، نجد أن القوات الجوية كانت أهم فرع تم دعمه بالعديد من الصفقات (16 صفقة)، ثم القوات البحرية (14 صفقة)، ثم القوات البرية (8 صفقات)، ثم قوات الدفاع الجوي (8 صفقات)، وتوضح الصفقات خريطة التنوع في الدول التي شكَّلت المصادر الأساسية للتسليح المصري خلال هذا العام، والتي توضح أيضًا شبكة العلاقات والمصالح الاستراتيجية بينها وبين النظام المصري:
- في مجال التسليح الجوي: طائرات الأباتشي الأميركية، وطائرات MiG-29M/M2 الروسية، والمروحيات البحرية الهجومية “قرش كلب البحر” (Ka-52K Katran) الروسية، والمروحيات البحرية مُتعددة المهام طراز “القط البري” (AW159 Wildcat” الإيطالية، وطائرات (MiG-29M/M2) الروسية، وطائرات الاستطلاع الموجهة (RQ-20B Puma AE II) الأميركية، وطائرات الرافال الفرنسية، ومقاتلات (F-16) الأميركية، ومروحيات “تمساح” (Ka-52 Alligator) الروسية، والطائرة الفرنسية بدون طيار (Patroller)، والطائرات بدون طيار (Wing Loong-1D) الصينية، وأنظمة الاتصالات الخاصة بحاملتي المروحيات “ميسترال” من شركة (Intel-Tech) الروسية، وصاروخ جو-جو حراري طراز “سايد ويندر” (AIM-9 Sidewinder) الألماني.
- في مجال التسليح البحري: شراء كورفيتات جويند (Gowind) الشبحية الفرنسي، وبناء فرقاطات مع شركة “تيسين كروب” (TKMS) الألمانية، وشراء الغواصات القزمية الكرواتية (Drakon 220)، وبناء الزوارق المطاطية الفرنسية داخل مصر، وشراء فرقاطات ميكو الفرنسية.
- في مجال التسليح البري: شراء الدبابة الروسية من طراز “تي-90″، ومدافع الهاوتزر الكوري الجنوبي، والجيل الرابع من قذائف دبابات (M1 Abrams) الأميركية، ومجموعة باراماونت جنوب الإفريقية، وبنادق (CZ 807) الهجومية التشيكية، وبنادق آلية روسية من نوع “أك-103”.
- في مجال تسليح قوات الدفاع الجوي: منظومات (S-300VM) الروسية، ومنظومات (S-400) الصاروخية الروسية، ومنظومات الدفاع الجوي (Buk-M3) الروسية، وصواريخ الدفاع الجوي قصيرة المدى (RIM-116) من الجيل الثاني الأميركية، ورادارات الإنذار المبكر والدفاع الصاروخي الأميركية، ونظام الدفاع الجوي الألماني متوسط المدى (IRIS-T SLM) (26).
2.2. مستقبل دور المؤسسة العسكرية في مصر بعد 2013 (الاستمرارية، الثبات، التوقعات)
في إجابته على تساؤل إذا كان الجيش في مصر حاكمًا فعليًّا، أو له تأثير قوي على سياسات الحكومات المنتخبة أو حق الاعتراض عليها، فما هو تفسير القيام بانقلاب 2013؟، طرح الباحث والأكاديمي، عمر عاشور، عددًا من التفسيرات الأساسية (27):
– التفسير الأول: أن الجيش لم يكن بأي شكل من الأشكال خاسرًا في العملية الانتقالية في مصر بين العامين 2011 و2013. ولم تكن له سلطة في بعض المجالات تحت حكم الرئيس، محمد مرسي، فحسب، بل إن هذه المجالات كانت قانونية ودستورية، حيث نصَّ دستور 2012 على أن يكون وزير الدفاع حصريًّا ضابطًا عسكريًّا (بحسب المادة 195)، وأن تكون غالبية مجلس الدفاع الوطني من القادة العسكريين (بحسب المادة 197). وهذا من شأنه أن يُعطي الجيش فعليًّا حق النقض على أية مسألة تتعلق بالأمن القومي أو السياسة الخارجية، وتسمح المادة 198 بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية “في حالة وقوع جرائم تضر بالقوات المسلحة”، ومُنحت الحصانة القانونية من المحاكم المدنية.
– التفسير الثاني لسلوك المؤسستين الأمنية والعسكرية وقراراتهما يمكن فهمه من خلال إجراءاتهما التنظيمية، ويقوم على أنه لكل مؤسسة مجموعة من “إجراءات التشغيل القياسية” الخاصة بها، والتي تشمل القواعد الرسمية وغير الرسمية التي على أساسها يتم تحديد الأفعال وردود الأفعال، وفي حالة مواجهة الاحتجاجات على الوضع الراهن، كانت إجراءات التشغيل القياسية التي اعتمدتها السياسة المصرية، هي نشر تكتيكات التخويف والقمع، حتى طرحت ثورة يناير/كانون الثاني 2011 تحديًا كبيرًا لهذا النموذج، ليس فقط على صعيد مواجهة المؤسسات القسرية، مثل قوات الأمن الداخلية أو الشرطة العسكرية فحسب، بل أيضًا من حيث المساءلة.
– التفسير الثالث: يتعلق بالانقسامات داخل الجيش والمؤسسات الأمنية، فالانقسام الذي حدث بعد انقلاب 2013، كان انقسامًا بين تحالفين يؤيدان الانقلاب: تحالف يدعو إلى القضاء على المعزول، وآخر يدعو إلى دمج محدود للمعزول وقمع بطريقة مسيطر عليها، كما حدث في مصر عقب انقلاب عام 1952، حين أراد أحد فصائل المجلس العسكري العودة إلى الديمقراطية البرلمانية الدستورية، حتى لو عادت الأحزاب الموالية للوضع الراهن للسلطة عبر الانتخابات، في الوقت الذي أراد الفصيل الآخر حكمًا عسكريًّا دون رادع، وقمع منافسيه المحتملين.
– التفسير الرابع: وهو تفسير سيكولوجي يقوم على أنه منذ انقلاب 1952، نمت عقدة التفوق بثبات داخل صفوف الجيش، ولم يكن مقبولًا بالنسبة للعديد من القادة العسكريين أن يعلن شخص مدني نفسه “القائد الأعلى للقوات المسلحة”، كما تشكِّل قضية الرقابة المدنية، حتى وإن كانت ضمن ترتيبات مؤسسية ضعيفة، إشكالية سيكولوجية أيضًا (28).
وفي إطار هذه التفسيرات، يبرز العامل الأهم، وهو أن الجيش يهيمن فعليًّا، ويريد استمرار الهيمنة على مفردات ما يعرف بـ “السيطرة المدنية”(29)، التي تسعى إليها القوى المدنية سواء في الديمقراطيات المستقرة، أو في مراحل الانتقال والتحول الديمقراطي، والتي تتمثَّل في:
- اختيار النخبة وتوظيفها: المؤسسة العسكرية حدَّدت حدود المجال السياسي ومن المسموح له بالمشاركة ابتداء؛ فاستبعدت تيارات إسلامية بالكامل من المشاركة في الحياة السياسية، بل ومن الوجود الفعلي عبر القتل والتصفية الجسدية والاعتقال، وعبر الحرمان من الوصول إلى المناصب التنفيذية المهمة أو الجهات الإدارية المتخصصة.
- السياسات العامة للدولة: تخضع للسيطرة الكاملة للمؤسسة العسكرية بحيث تتحول الوزارات إلى جهات تنفيذية في أحيان كثيرة تُنفذ السياسات والرؤى الموجودة لدى المؤسسة العسكرية أو تعمل بحرية فقط في المجالات التي تترك لها المؤسسة العسكرية حرية الحركة بها. أيضًا، تشارك المؤسسة العسكرية في أحيان كثيرة، من خلال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، في تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية والمشاريع الكبيرة.
- السيطرة على الحياة السياسية: الجيش قد يتخلى عن السيطرة على المشهد السياسي والانتخابات والنخبة الحاكمة بشكل مباشر ليترك ذلك للمدنيين، على أن تظل السيطرة غير المباشرة موجودة عبر قيادات الجيش السابقين الموجودين في الأحزاب المختلفة، أو عبر التأثير غير المباشر أو التحالفات غير العلنية مع بعض التيارات السياسية. وبرلمانيًّا، إذا كان يمكن تخيل أن يتنازل الجيش عن السيطرة على الانتخابات البرلمانية لصالح قوى مدنية، فإنه من الصعب تصور حدوث ذلك على مستوى الانتخابات الرئاسية (30).
وهنا، يكون السؤال الرئيس المطروح: كيف يمكن إدارة العلاقات المدنية-العسكرية في مصر، في ظل السيطرة، بل الهيمنة، العسكرية القائمة الآن؟
هنا يتم التمييز بين مسارين أساسيين:
– المسار الأول: وهو خارج سيطرة المؤسسة العسكرية، ويكون من خلال نجاح وفاعلية حركة الاحتجاجات الشعبية، أي أن تكون المؤسسة العسكرية في مواجهة احتجاجات شعبية واسعة، نجحت في تحقيق أهدافها، وبالتالي لن يكون هناك خيار آخر أمام المؤسسة العسكرية إلا الرضوخ لهذه الضغوط الشعبية، والخروج من السلطة مع عدم وجود خيارات أخرى بديلة لديها، ولأن نتيجة هذا المسار هي خروج العسكر بلا ضمانات وبلا تفاوض، مع وجود محاسبة على الجرائم السياسية والإنسانية التي تم ارتكابها، لذلك فإنه ليس مستغربًا توقع أن الجيش المصري سيقف غالبًا في وجه أي احتجاجات شعبية ضده، وسيعمل على استخدام كل الوسائل الممكنة لقمع هذه الاحتجاجات وضمان عدم تهديدها لمصالحه ووجوده.
– المسار الثاني: وتديره المؤسسة العسكرية، ويتمثَّل في انسحاب العسكر من السلطة، عندما تتغير الظروف وموازين القوى بما يُجبر المؤسسة العسكرية على تغيير موقعها من السلطة، وتتخذ أشكالًا أخرى، ورغم أنها قد تجبر على الانسحاب من السلطة في شكلها المباشر، فإنها تظل متحكمة في السياسة والمسار السياسي بصورة أو بأخرى، ويكون هذا الخروج من السلطة إما من خلال المؤسسة العسكرية نفسها أو من خلال عملية تفاوضية مع المدنيين، وبما يضمن أن تظل محتفظة بجزء من مصالحها ونفوذها، ويأخذ هذا المسار وقتًا أطول وتكون تحدياته أكثر تعقيدًا.
وهذا المسار يتطلب توفر مجموعة من الاعتبارات وفقًا للباحث والأكاديمي، عبد الفتاح ماضي (31):
أولًا: إدراك العسكريين لصعوبة بقائهم في السلطة، وتقوم المؤسسة العسكرية نفسها ببدء مسار الخروج من السلطة بعد أن أصبح السياق الاجتماعي والسياسي غير موات للحكم العسكري، يدعم ذلك ظهور جناح إصلاحي داخل المؤسسة العسكرية مؤيد لخروج العسكريين من السلطة.
ثانيًا: عقد اتفاق وطني للانتقال داخل عملية إصلاح ممتدة يشارك فيها إصلاحيون من داخل المؤسسة العسكرية، ومدنيون من خارجها للاتفاق على مسار سياسي وخطوات إصلاحية.
ثالثًا: النجاح (أو الفشل) في الاقتصاد، فالفشل الاقتصادي قد يسهم في تصاعد الغضب الشعبي؛ مما يزيد من الضغط على المؤسسة العسكرية للخروج من السلطة. كذلك، فإن النجاح الاقتصادي قد يؤدي إلى الضغط على المؤسسة العسكرية من خلال ظهور طبقة وسطي واسعة ومطالب شعبية للمشاركة السياسية.
رابعًا: تحييد العامل الخارجي أو كسبه، فمساندة العامل الإقليمي والدولي للانتقال السياسي أو عدم ممانعته يشكل عاملًا حاسمًا في عمليات الانتقال الديمقراطي (32).
كما أن هذا المسار له مجموعة من الاشتراطات، من بينها: إحكام المدنيين للسيطرة على السياسات العامة للدولة، وأن تتغير الثقافة الموجودة لدى المؤسسة العسكرية في عدم الثقة بالمدنيين أو أن تُجبر على تغيير هذه القناعات بسبب الظروف المحيطة، وأن يكون لدى المدنيين سياسات وأفكار مناسبة تُسهم في حل المشاكل الموجودة بطرق أكثر فاعلية من تلك التي كان يقوم بها الجيش، وأن تستطيع هذه السياسات تحقيق نتائج ملموسة تكتسب بها ثقة المواطنين وتعزز من موقفها أمام المؤسسة العسكرية، وقدرة المدنيين على اقتناص الفرصة من أجل تعزيز نفوذهم داخل المجال السياسي وإضعاف تأثير المؤسسة العسكرية فيه(33).
خاتمة: نموذج مقترح
يفرض تعزيز مدنية الدولة في مصر، والحد من عسكرتها، أن يكون الجيش خاضعًا للرقابة الديمقراطية، من خلال عدد من الأدوات، منها:
- سيطرة مدنية: حيث يكون للسلطات المدنية السيطرة على مهمات الجيش وتكوينه، والميزانية والمشتريات العسكرية، وأن تكون الموافقة على سياسة الجيش من قبل القيادة المدنية، مع تمتع الجيش بالحرية في تحديد العمليات المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة العامة التي تحددها السلطة المدنية.
- حكم ديمقراطي: من خلال مؤسسات برلمانية وقضائية ديمقراطية، ومجتمع مدني قوي ووسائل إعلام مستقلة تشرف على أداء الجيش. وهذا يضمن المساءلة أمام كل من المواطنين والحكومة، ويعزز الشفافية في قراراتها وأفعالها.
- خبرة مدنية: بأن يتوافر للمدنيين الخبرة اللازمة للإدارة والإشراف على المسؤوليات الدفاعية، ويحد من ذلك احترام المدنيين للخبرة المهنية للعسكريين.
- الحياد الأيديولوجي وعدم التدخل في السياسة الداخلية: حيث لا يؤيد الجيش أو أي من أفراده أية أيديولوجية أو توجه بخلاف الولاء للدولة.
- حد أدنى من الدور الاقتصادي: للجيش دور اقتصادي في القطاعات المرتبطة بالدفاع، لكنه يجب ألا يؤدي إلى تمييع ولاء الجيش للقيادة المدنية الديمقراطية، أو أن يدخل الجيش بمنافسة غير متكافئة مع القطاع الصناعي المدني (34).
وهذه الأمور، قد يكون من الصعب إن لم يكن من المستحيل تحقيقها في ظل التوازنات القائمة في الداخل المصري، وفي بيئته الإقليمية والدولية الراهنة. لذا، فإن الوضع يتطلب التفكير في منظور معكوس لما افترضه صمويل هنتنغتون (Samuel Huntington) (35)، حول الاحتراف العسكري، الذي يمكن أن ينجح في الديمقراطيات المستقرة، وكذلك تجاوز نموذج موريس جانوويتز (Morris Janowitz) (36)، القائم على قصر تدخل العسكريين على بعض مجالات السياسة الخارجية وسياسات الدفاع، مع سيطرة النخبة السياسية من خلال مجموعة من القواعد الرسمية، لأن هذين النموذجين يصطدمان بعدد من المعوقات الأساسية، منها:
أ- أن عملية التحول عن الحكم العسكري هي في غاية التعقيد، والمسؤولية الرئيسية فيها تقع على قدرة التيارات السياسية المدنية على الاتفاق حول الترتيبات المناسبة لإقرار نظام ديمقراطي، وبالتالي يكون فشل المدنيين -وليس قوة العسكريين- هو السبب الرئيسي لاستمرار التدخل العسكري في العملية السياسية.
ب- الوصول إلى السيطرة الديمقراطية الكاملة على القوات المسلحة صعب التحقق بالنسبة إلى الديمقراطيات الناشئة، ولابد للنخب المدنية في الدول التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي أن تضع الاستراتيجية المناسبة لإدارة علاقاتها مع النخبة العسكرية وفقًا للظروف الخاصة بدولها، بما لا يقضي على العملية الديمقراطية، لكن قد لا يتحقق التحول الديمقراطي دفعة واحدة.
ج- تفرض المشكلات الأمنية والاقتصادية المتزايدة على الأنظمة السياسية -في ظل ضعف بنية الدولة- القبول بتدخل الجيش في الحياة المدنية، إما للمساهمة في فرض النظام والقانون وإما لدعم عملية التنمية، وهو الأمر الذي لا يتعارض مع جوهر النظام الديمقراطي في حال ما كان الجيش يقوم بتلك الأدوار تحت سيطرة السلطات المدنية ووفق فترة زمنية محددة، وشريطة ألا تتوسع تلك الأدوار بدرجة أكبر لتصل إلى مرحلة التدخل في الحياة السياسية (37).
د- تفرض الحالة المصرية معضلة حقيقية ليس فقط بسبب تسلم الجيش للسلطة بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ولكن أيضًا لما للنظام المصري من جذور تاريخية في الشرعية العسكرية منذ حكم الجيش في 1952، حيث تقوم المؤسسة العسكرية باستخدام مصطلح الأمن القومي، دون تحديد أو تعريف ماهيته وحدوده، لِشَرْعَنَة ممارساتها والإبقاء على امتيازاتها (38).
وهنا، يرى الباحث ضرورة التفكير في نموذج يجمع بين النظريات الأساسية في إدارة العلاقات المدنية-العسكرية، ليس باعتبارها اتجاهات فكرية متعارضة، ولكن باعتبارها مراحل متدرجة لهذه الإدارة، على النحو التالي:
– المرحلة الأولى: التوافق المدني-العسكري، وفق ما قالت به ريبكا شيف (Rebecca Schiff) في دراستها التي جاءت بعنوان “الجيش والسياسات الداخلية: نظرية التوافق في العلاقات المدنية العسكرية”(39)، وتقوم على اتفاق العسكر والمدنيين على أربعة مؤشرات أساسية، يتم من خلالها تحديد دور المؤسسة العسكرية، وهي: التركيبة الاجتماعية للضباط، وعملية اتخاذ القرارات السياسية، وطرق التوظيف، والنمط (العقيدة) العسكري، وذلك حسبما ترتضيه الأطراف المتشاركة.
– المرحلة الثانية: المسؤولية المشتركة، وفق ما قال به دوجلاس بلاند (Douglas Bland)، والتي تقوم على الاشتراك في المسؤوليات بين المدنيين والعسكريين، سواء من خلال توزيع الأدوار، أو دمج بعضها دون انصهارها (40).
– المرحلة الثالثة: ويمكن أن تندرج ضمن مقولات بيتر فيفر (Peter Feaver)، حول “نظرية الوكالة”(41)، التي تنظر للعلاقات المدنية-العسكرية على أنها شكل من أشكال التفاعل الاستراتيجي بين المدنيين والعسكريين، وفي إطارها يختار المدنيون الطرق التي يمكن من خلالها مراقبة الجيش، مع مراعاة مزايا التخصص التي يتسم بها العسكريون.
– المرحلة الرابعة: وتكون المحصلة النهائية لمراحل التطور، وفيها تصل العلاقات المدنية-العسكرية، إلى ما أطلق عليه صمويل هنتنغتون “الاحتراف العسكري”(42)، التي ترتكز على عدة منطلقات أساسية، تشمل تطوير المؤسسات العسكرية لتخصصاتها المختلفة، ونمو الدول القومية، وصعود الأفكار الديمقراطية كأساس لتنظيم المؤسسات السياسية، وضرورة وجود مصدر واحد للسلطة الشرعية على القوات المسلحة (43).
يدفع للتفكير في هذه المراحل وتلك الخطوات، من جانب المؤسسة العسكرية المصرية، طبيعة التحديات الأمنية والعسكرية والسياسية التي تتعرض لها منذ انقلاب 2013، وما ترتب عليها من تداعيات سلبية على صورتها الذهنية، ابتداءً وعلى درجة الاستقرار السياسي والاقتصادي في مصر، التي يشير كثير من التقارير الدولية إلى تراجع مؤشراته، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، إدراك التيارات المدنية لعدم قدرتها على التخلص الجذري من هيمنة المؤسسة العسكرية، وحرصها في الوقت نفسه على بقاء هذه المؤسسة مستقرة في ظل الانهيارات التي تعرضت لها معظم المؤسسات العسكرية العربية منذ 1991 وحتى الآن. ومن ناحية ثالثة، التحولات الإقليمية والدولية الراهنة، التي هي في الكثير منها خارج سيطرة النخب المدنية والعسكرية، وتفرض عليهما التعاطي معها بفاعلية، وإلا ستكون حركة الجماهير الغاضبة، وموجات الانتفاضات المتتالية، عامل تغيير جذري، ينال ليس فقط من استقرار هذه النخب، ولكن أيضًا من بقائها واستمرارها.
المراجع
(1) صايغ، يزيد، “فوق الدولة: جمهورية الضباط في مصر”، مركز كارنيغي، 1 أغسطس/آب 2012، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
https://carnegie-mec.org/2012/08/01/ar-pub-48996
(2) علي صالح ربيع، ماجدة، الدور السياسي للأزهر من 1952-1981، (رسالة دكتوراه في العلوم السياسية، قسم العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 1990)، ص 17.
(3) صايغ، فوق الدولة، مرجع سابق.
(4) طبقًا للقانون رقم 4 لسنة 1968 الذي أصدره الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر، في شأن القيادة والسيطرة على شؤون الدفاع عن الدولة وعلى القوات المسلحة وتعديلاته؛ فالمجلس كان مكلفًا بالنظر في الشؤون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها. وكان هو من يقرر الدعوة إلى التعبئة العامة في البلاد وكان قرار الحرب يؤخذ من خلاله، وكان المجلس يتكوَّن من رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس النواب ووزير الدفاع وقادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة يترأسهم رئيس الجمهورية.
(5) جمال، محمود، “المجلس العسكري المصري”، المعهد المصري للدراسات، 13 فبراير/شباط 2018، (تاريخ الدخول: 9 أبريل/نيسان 2019):
(6) قراران جمهوريان بتشكيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني، المصري اليوم، 27 فبراير/شباط 2014، (تاريخ الدخول 11 يناير/كانون الثاني 2018):
http://www.almasryalyoum.com/news/details/401724
(7) سيلمان إسماعيل، هاني، “الدور التنموي للمؤسسة العسكرية: خبرات دولية ودروس مستفادة”، سلسلة بدائل، القاهرة، مؤسسة الأهرام، عدد 28، مايو/أيار 2018.
(8) مارشال، شانا، “القوات المسلحة المصرية وتجديد الإمبراطورية الاقتصادية”، كارنيغي، 15 أبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 14 مارس/آذار 2019):
(9) أبو دومة، حازم، “القوات المسلحة تنفذ 1600 مشروع تنموي عملاق”، الأهرام، 1 أغسطس/آب 2016، (تاريخ الدخول: 14 مارس/آذار 2019):
https://bit.ly/2LpwDrT
(10) حمامة، محمد، “هذه هي القطاعات الاقتصادية التي دخلها الجيش في 12 شهرًا”، مدى مصر، 3 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 14 مارس/آذار 2019):
(11) هاشم، محمد، “ما الذي حدث لرجال الأعمال في مصر؟”، إضاءات، 9 سبتمبر/أيلول 2016، (تاريخ الدخول: 14 مارس/آذار 2019):
(12) رمزي، سمير، “أثر تزايد الدور التنموي للجيش على الاستقرار السياسي في مصر”، موقع البديل، 11 يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 22 مارس/آذار 2019):
(13) Loveman, Brian, “Protected Democracies and Military Guardianship: Political Transitions in Latin America, 1978-1993”, (Journal of Interamerican Studies and World Affairs, volume 36, 1994), pp. 123-124.
(14) “نص قانون معاملة قادة القوات المسلحة”، موقع مصر العربية، 3 يوليو/تموز 2018، (تاريخ الدخول: 4 أبريل/نيسان 2019):
(15) مندور، ماجد، “حصانة للقوات المسلحة في مصر”، مركز كارنيغي، 25 يوليو/تموز 2019، (تاريخ الدخول: 5 أبريل/نيسان 2019):
(16) كما حدث مع العقيد أحمد قنصوة، الذي تم القبض عليه في ديسمبر/كانون الأول 2017، ومع الفريق سامي عنان، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية السابق، الذي تم القبض عليه في 23 يناير/كانون الثاني 2018.
(17) “نتيجة الاستفتاء في مصر: 88.8 في المئة من الناخبين صوتوا بنعم للتعديلات الدستورية”، بي بي سي العربي، 23 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 29 أبريل/نيسان 2019):
(18) “الهيئة المصرية العامة للاستعلامات”، 15 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 24 أبريل/نيسان 2019):
(19) “استثناء المنطقة الاقتصادية بسيناء من أحكام القانون 14 لسنة 2012″، المصري اليوم، 9 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(20) “السيسي يقرر تخصيص أراضٍ صحراوية لوزارة الدفاع”، المصري اليوم، 9 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(21) انظر: “الرئيس يكلف القوات المسلحة بمراقبة وإزالة التعديات على جانبي الشبكة القومية للطرق”، بوابة الأهرام، 9 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(22) “قرار جمهوري بإعادة تخصيص قطعة أرض مملوكة للدولة بالسويس لتنفيذ المشروع القومي للترسانة البحرية”، بوابة الأهرام، 15 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(23) “قرار جمهوري بالموافقة على تخصيص قطعة أرض مملوكة للدولة بالعين السخنة لصالح القوات المسلحة”، بوابة الأهرام، 15 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(24) “السيسي يخصص 2815 فدانًا بكفر الشيخ لصالح القوات المسلحة”، مصر العربية، 23 يونيو/حزيران 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(25) غنيم، هيثم، “العملية العسكرية: سيناء 2018 ممارسات وتداعيات”، المعهد المصري للدراسات، 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(26) جمال، محمود، “مصر: سياسات التسليح العسكري 2018″، المعهد المصري للدراسات، 5 أبريل/نيسان 2019، (تاريخ الدخول: 29 أبريل/نيسان 2019):
(27) عاشور، عمر، “الجيش والسياسة في مصر ما بعد الثورة”، بروكنجز، 19 ديسمبر/كانون الأول 2013، تاريخ الدخول: 29 أبريل/نيسان 2019):
(28) المرجع السابق.
(29) Croissant, Aurel; Kuehn, David; and Lorenz, Philip, “Breaking With the Past? Civil-Military Relations in The Emerging Democracies of East Asia”, (Policy Studies 63, No. 63, 2012), (Visited on 29 April 2019):
(30) محسن، أحمد، “العلاقات المدنية العسكرية في الديموقراطيات الناشئة”، المعهد المصري للدراسات، 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(31) ماضي، عبد الفتاح، “الجيوش والانتقال الديمقراطي: كيف تخرج الجيوش من السلطة؟”، سياسات عربية، يناير/كانون الثاني 2017، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(32) محسن، “العلاقات المدنية العسكرية في الديموقراطيات الناشئة”، مرجع سابق.
(33) المرجع السابق.
(34) Centre for the Democratic Control of Armed Forces (Geneva), Democratic Control of Armed Forces, DCAF Backgrounder Series, 05 (2008), p. 2
(35) Huntington, S. The Solider and the State, (the Belknap of Harvard university press, Cambridge, 1975), pp.1-3.
(36) janowitz, M. Military Institution and Coercion in Developing nations, (University Chicago press, Chicago, 1977), pp. 81-83.
(37) فيصل علام، عبد الله، من الحكم العسكري إلى الديمقراطية: العلاقات المدنية-العسكرية في أميركا اللاتينية، المستقبل العربي، فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(38) المهدي، رباب، “العلاقات المدنية العسكرية في مصر”، الشروق، 8 يناير/كانون الثاني 2012، (تاريخ الدخول: 12 أبريل/نيسان 2019):
(39) Rebecca, Schiff, “Concordance Theory, Targeted, Partnership, and Counterinsurgency”, Armed Forces and Society, (Vol. 38, No. 2, 2012).
(40) Douglas, Bland, “A Unified Theory of Civil-Military Relations”, Armed Forces & Society, (Vol. 26, No. 1, 1999).
(41) Peter, Feaver, “An Agency Theory Explanation of American Civil-Military Relations during the Cold War”, Working Paper for the Program for the Study in Democracy, (Duke University, USA, 1997).
(42) Huntington, The Solider and the State, op, cit.
(43) في عرض مضامين هذه النظريات، انظر: فيصل علام، عبد الله، العلاقات المدنية العسكرية والتحول الديمقراطي في مصر يوليو/تموز 1952-يوليو/تموز 2013، (مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2018)، ط 1، ص 22-29.