مقدمة

تركز هذه الدراسة السوسيولوجية على الطابع المهني المميز للمجتمع الصحفي، وما يحققه من تأثيرات على الحياة العامة. “وجدير بالذكر أن علماء الاجتماع المهني يدرسون المهنة على أنها أكبر من أن تكون وسيلة لغاية، فإلى جانب أنها وسيلة للكسب من أجل العيش، فهي تخدم أغراضًا ووظائف أخرى، فالمهنة بالنسبة للكثيرين وسيلة ارتباط بالمجتمع، وهي الأداة التي من خلالها يحققون ذواتهم، وهي التي تمنحهم الإحساس بتقدير الذات”(1).

هذا ينطبق على الإعلام الذي أصبح يلعب دورًا محوريًّا في صناعة الأحداث وتوجيهها، وكلما امتلك وسائل أكثر تطورًا رفع من سقف تأثيره على الأحداث إيجابًا أو سلبًا، لدرجة صناعته ذوق وثقافة الأفراد المستقبلية. هذا ما زاد من أهمية دراسة المجتمع الصحفي والإعلامي بشكل خاص لأهمية ما ينشره من رسائل؛ “فمنذ 1948، كان هارولد لاسويل (Harolod lasswell) يعرف بالطريقة التالية الأسئلة الاستفهامية الملائمة لدراسة وسائل الإعلام (من؟ يقول ماذا؟ وبأية وسيلة؟ ولِمن؟ وبأي أثر؟). في هذه الصيغة، يمر قياس التأثير عبر دراسة مقارنة لمواقف وآراء الذين توجَّه إليهم الرسائل قبل تلقي الرسائل، وبعد ذلك”(2). كما “يتبنَّى بول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld) وبرنارد بيريلسون (Bernard Berelson) هذا المسعى عندما يدرسان آثار الحملات الانتخابية على اختيارات الناخبين”(3).

وتأثير المجتمع الصحفي ليس أحادي الاتجاه بالضرورة بل صيرورة الأحداث والسياقات غالبًا ما تترك بصمتها على الفعلين في المجتمعات الصحفية. ولعل ما شهدته المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة وضعت المجتمع الصحفي في حالة المؤثِّر والمتأثر لدرجة قد تنتج الأوضاعُ إعلامَها الخاص وتتجاوز فكرة مرحلة التلقي دون صناعة الرسالة وصناعة معتقدات وقناعات الصحفي لذلك آثرنا البحث في هذا الموضوع في سياق محاولة الإجابة عن الأسئلة التالية:

– كيف تفاعل المجتمع الصحفي مع تجارب التحول السياسي في المجتمعات العربية؟

– ما الذي صنع التمايز على مستوى مرافقة المجتمع الصحفي لمحاولات التأسيس للتحول الديمقراطي؟

– ما مدى مساهمة مسارات التحول السياسي في إنتاج وتجديد النخب القيادية والموجهة؟

1- الإجراءات المنهجية للدراسة

الفرضيات

تحاول الدراسة الإجابة عن الحقل الاستفهامي المطروح في شكل بناء افتراضي يعتمد الفرضيات التالية:

أ- خصوصية المجتمع الصحفي في البلدان العربية انعكست على نوعية التماهي والمرافقة للتحول السياسي.

فالبيئة المجتمعية والمؤسساتية في المجتمعات العربية تشكِّل بيئة حاضنة للمجتمع الصحفي، قد تبدو متشابهة إلا أنها تتميز عن بعضها البعض بخصائص أثَّرت بشكل واضح على ماهيتها وموقعها وحجم الدور الذي تلعبه في مجتمعاتها.

ب- انفجار النزاعات داخل تجارب المجتمعات العربية أسَّس لانقسامية النخب التي تخندقت في النزاع بعيدًا عن الموضوعية والحيادية المفترضة.

الأزمات تنقل الواقع إلى مستوى من التفاعل الاستثنائي يعطِّل أدوات الضبط والرقابة القائمتين على ضمان الحد الأدنى من الخدمة العمومية المتوازنة للمجتمع الصحفي؛ مما يفرض قراءة متأنية في مجمل التحولات التي تُحدثها النزاعات القائمة.

ج- صدمة عسر مسارات التحول السياسي في العالم العربي عطَّلت إنتاج نخب قيادية عابرة للانقسامات المجتمعية والسياسية.

السياقات المتأزمة عادة ما تعيد إنتاج الانقسامات التقليدية وتنتج انقسامات أخرى؛ مما يطرح بقوة إشكالية تعطيل إنتاج نخب تتجاوز التفكيك المجتمعي الحاصل، لبناء مشاريع مجتمع تستوعب التناقضات والاختلالات الموروثة وتحويلها إلى جزء من التنوع غير المهدد لتماسك المجتمع.

تحديد المفاهيم

– المجتمع الصحفي:

نقصد بالمجتمع الصحفي مجتمع الصحفيين في كل الفضاءات والمؤسسات، لأن مهنة الصحفي لم تعد محصورة في المؤسسات الإعلامية بل التطور التكنولوجي سهَّل أداء العمل الصحفي ووسَّع دائرة التأثير من خلال استعمال شبكات التواصل الاجتماعي والوسائط الاجتماعية، وحتى الصحفيون أنفسهم أصبحوا لا يكتفون بالتزاماتهم المهنية في مؤسساتهم الإعلامية، بل بات الكثير منهم ينشط صحفيًّا على مختلف الوسائط الاجتماعية، وأصبح اليوم من الصعب التحديد الوظيفي للصحفي بناء على الانتماء للمؤسسات الإعلامية.

– النخبة:

النخبة هي جماعة اجتماعية تتشارك نفس الخصائص التي لا توجد عند غيرها، مما يكسبها التميز والمكانة الاجتماعية التي تتحدد حسب ما لديها من أدوات مؤثرة في تفاعل الجماعات الاجتماعية الأخرى. وينطوي مفهوم النخبة، حسب فلفريدو باريتو (Vilfredo Pareto)، “على ضرب من تقدير النجاح الذي يؤدي به الفاعلون الاجتماعيون فاعلياتهم. وبما أن التقدير يعني أن نقارن وأننا لا يمكننا أن نقارن إلا ما يكون قابلًا للمقارنة، فإننا لا نستطيع الكلام على نخبة إلا داخل فرع من الفاعلية”(4). أما غايتانو موسكا (Gaetano Mosca)، فقد أكد أن “هناك استعدادًا سيكولوجيًّا لدى البشر لأن يتفوق كل منهم على الآخرين ويؤدي ذلك إلى تفوق البعض على البعض الآخر بالفعل”(5).

 

المنهج

تعتمد الدراسة المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى عرض تفاصيل دور المجتمع الصحفي العربي بالحياة العامة، وتحليل نتائج وآثار ذلك الدور الملاحَظ من الواقع بالاستعانة بالنموذج الجزائري.

أهداف الدراسة

تهدف الدراسة إلى إبراز المؤثرات المختلفة التي تضغط باتجاه تكييف العمل الصحفي وفق ما يخدم البيئة الحاضنة له، دون الاكتراث بأخلاقيات المهنة القائمة بالدرجة الأولى على الموضوعية في نقل الخبر، بدون تزييف للوقائع أو توجيهها، فالسياقات غالبًا ما تفرض نوعية التغطية؛ الشيء الذي أنتج فوضى كبيرة قلَّلت من مصداقية المجتمع الصحفي، دفعت الباحث إلى محاولة إظهار الآليات والعوامل الضاغطة حسب مختلف النماذج المطروحة في الدراسة، بهدف إعادة توجيه العمل الصحفي لتحقيق الخدمة العمومية التي وُجد من أجلها مهما كانت العوائق والصعوبات، لإعادة تفعيل دور المجتمع الصحفي كسلطة رابعة.

 

أهمية البحث

تكمن أهمية البحث في فتح النقاش حول أخلاقيات مهنة الصحفي عمومًا وما يعترضها من إشكاليات ضاغطة تعيد صياغة دوره، خاصة ما تعلق بالتشكيك في ضرورة الالتزام بالحيادية مع الإبقاء على الموضوعية، مما يفتح الباب واسعًا لتخندق المجتمع الصحفي ضمن أطراف الصراع، فالبحث يدعم فتح النقاش قبل أن يحاول تقديم الإجابات.

2- تطور الدور بتطور الوسائل

للمجتمع الصحفي دور مهم في حياة الأفراد والجماعات داخل البيئة الاجتماعية التي يوجدون فيها ويتفاعلون من خلالها، هذا باختلاف ما يستخدم من وسائل، بداية بالصحف التي تعتبر من أقدم وسائله (مرتبطة باكتشاف الطباعة)، استخدمها لقرون مضت في نشر أفكاره وفرض الرقابة أو المشاركة في إحداث التغيير… وغيرها من المهام التي جعلت من الصحف جزءًا من الحياة اليومية للأفراد القارئين لها. لتظهر بعد ذلك وسائل أخرى سهَّلت وعقَّدت من دور المجتمع الصحفي في نفس الوقت؛ حيث -وإن كانت الصحف تستقطب شرائح اجتماعية محدودة بمتغيرات كالمستوى العلمي والانتماء الجغرافي وبعض الميول الشخصية- نجد الإذاعة وبعدها التلفاز وسيلتين أحدثتا ثورة في كيانه، بسرعة ما يمكن نقله من أخبار ومعلومات من خلال هاتين الوسيلتين تجاوزت الحدود الجغرافية والفكرية والطبقية مما جعلها محل اهتمام الباحثين.

فمثلًا “التلفاز إنما ينقل لنا ما يسميه جان بودريار (Jean Baudrillard) “عالم الواقع المفرط”، فالواقع الحقيقي لم يعد موجودًا بالفعل، بل استُعيض عنه بما نشاهده على شاشات التلفاز من مشاهد وصور وأحاديث وتعليقات”(6). وهذا ما انتقده جون تومسون (John Thompson) (1995)، الذي يعتبر هذا الرأي يتسم بالسلبية المفرطة؛ إذ إن “وسائل الإعلام الحديثة لا تحرمنا من فرصة التفكير النقدي.. فالأفراد يناقشون رسائل وسائل الإعلام عند استقبالهم لها، ويحولونها فور ذلك خلال سردهم لها وتفسيرها وإعادة تفسيرها، والتعقيب عليها والسخرية منها وانتقادها. إن امتلاكنا لهذه الرسائل وإدماجها في حياتنا يجعلنا قادرين على تنمية مهاراتنا ومخزوننا المعرفي وإعادة تشكيله. ثم اختبار مشاعرنا وأذواقنا وتوسيع آفاق تجربتنا الحياتية”(7). ويمكن تشبيه الفرد المتلقي لمختلف هذه الرسائل بـ”لوحة فنية ترسمها الانفعالات والأحاسيس المتباينة التي قد تختلف من لحظة لأخرى باختلاف الموقف الاتصالي”(8).

لذلك، ترتبط هيمنة المجتمع الصحفي اليوم بما يمتلكه من وسائل ومؤسسات ودرجة حداثتها وما لديه من هوامش حرية، كي لا يترك تلك الوسائل في أيدي من هم أقل خبرة وكفاءة، خاصة وأن “تملُّك المؤسسات الإعلامية والاتصالية لا يقتصر على الاحتكار الاقتصادي والمالي، بل إن جوهره يكمن في البعد السياسي. ومن هنا، فإن ملكية وسائل الإعلام المختلفة تقترن في أكثر الأحيان بالرقابة التي تفرضها الدولة على البث الإعلامي بجميع أشكاله وأدواته. وعلى هذا الأساس، ترتبط حرية الوسائل الإعلامية إلى حد كبير بالتعددية، أي بإتاحة حرية التعبير والمشاركة العامة لمختلف القوى والفئات والشرائح في المجتمع. وبعبارة أخرى فإن الحرية الإعلامية هي من مظاهر الديمقراطية”(9).

لكننا اليوم “أدى انتشار وسائل الإعلام الجماهيرية وسطوة صناعة الترفيه الجماهيرية إلى تشويه طبيعة المجال إلى حد بعيد؛ ذلك أن مناقشة القضايا السياسية أصبحت مرهونة بما يدور في البرلمانات وفي وسائل الإعلام، فيما تجذَّرت سطوة المصالح التجارية والاقتصادية وهيمنت على الصالح العام. ولم يعد الرأي العام يتشكَّل من خلال النقاش العقلاني المفتوح، بل غدا مصلحة لعمليات الاستمالة والتلاعب والسيطرة المفروضة عليه، كما تبدو على سبيل المثال في الحملات الدعائية والترويجية”(10).

– الدور:

يمكن تلخيص دور المجتمع الصحفي ومسؤوليته المجتمعية في الحياة العامة في النقاط التالية:

– التأثير في عملية التنشئة الاجتماعية والسياسية، والتعليم والإعلام (إيصال المعلومة) والتثقيف (التأثير في الثقافة الرسمية والثقافات الفرعية وإنتاج رأسمال ثقافي سياسي لدى الأفراد بالحفاظ على ما هو قائم من ثقافات أو التغيير فيها جزئيًّا أو كليًّا)، وإيصال المعلومة لأكبر عدد من الناس في نفس الوقت بسبب التكنولوجيا، ورفع مستوى الوعي السياسي وتوجيهه بمناقشة ومعالجة قضايا المجتمع بمختلف مجالاتها وتوجهاتها.

– اقتصادي تجاري، حيث يبيع الاشتراكات ومساحة للإعلانات وحتى الأوهام والأحلام.

– دور واضح في عولمة الأفكار والمواقف، فالمجتمع الصحفي مرآة عاكسة للمجتمع بما فيه من أطياف وأيديولوجيات وهموم ومشاكل وتحديات ورهانات.

– التقليل من حالة الاغتراب خاصة السياسي منه أو تأزيمها أكثر.

– المشاركة السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل التحاور ومتابعة الجماعات والتكتلات السياسية والحملات الانتخابية (الترويج للمرشح أو تهديمه)، وأعضاء الحكومة والبرلمان، والسياسة الخارجية، وتحليل مواقف وتوجهات كل طرف من أجنحة النظام أو المعارضة أو الموالاة وإيصال صوت الشعب وحكامه بتوفير منابر لكل الآراء.

– تخطي التأثير المحلي المجتمعي لتأثير دولي خاصة في القضايا المتمحورة حول حقوق الإنسان وإشكالية تطبيق الديمقراطية وبعض القضايا الأيديولوجية المسيَّسة (القبائل مثلًا)، وإيصال صوت الأقليات والفئات الاجتماعية باختلافها، مما يحوله لجماعة ضاغطة أو لنقل: قوة وسلطة ضاغطة تتمكن من التفاوض وتحقيق مكتسبات ومن المقاومة غير العنيفة والمشاركة في اتخاذ القرارات بشكل غير مباشر، لكن ذلك يسهم في توفير الاندماج والتوازن الاجتماعييْن وفي الرفع من معنويات الشعوب.

3- المجتمع الصحفي ومراحل التحول الديمقراطي: ما بين التماهي والاشتباك  

يطرح الحديث عن التغطية الإعلامية لثورات الربيع العربي الكثير من الإشكاليات، لأننا نتعامل مع وضع استثنائي فحالة الثورة تأخذ معنى خاصًّا، وهو “التغيير الجذري والشامل للأوضاع السائدة، والاتجاه نحو إحلال أوضاع جديدة بدلًا منها تتجاوز الواقع إلى المأمول وهو ما يطمح إليه الشعب، كما أنها تعني التحرك الشعبي أو الجماهيري لإسقاط النظام القائم، وتغييره بنظام آخر يتفق وأهدافه وطموحه في حالة جديدة تحقق نقلة كبيرة في حياته الشاملة، بعبارة أخرى الثورة هي: حالة شعبية جماهيرية، وهي حالة لوضع جديد يشمل الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بمعنى آخر، هي حالة شاملة وليست أحادية الجانب أو جزئية”(11). وهذا ما يستلزم مبدئيًّا التسليم بعدم التعاطي بنفس المقاييس والمعايير عند قراءة التجارب المختلفة، فلكل تجربة بيئتها وظروفها وسياقاتها الخاصة، كما أن استنفاد زمن التجربة يضفي شَرْعَنَة أقوى على الانتقاد؛ لأن دراسة التجارب في أوج تفاعلاتها وإفرازاتها تحجب الرؤية العقلانية الموضوعية وتسقطنا في تتبُّع الدلالات الجزئية التي لا تعكس بالضرورة السياقات والمسارات الكلية، وهذا يعني الاعتراف بأن قراءتنا الحالية تبقى كذلك ظرفية طالما أن حراك المجتمعات والظواهر التي تصاحبها لها أعمار طويلة تتجاوز حدود بضع سنوات في الغالب كما هي حال العمر الافتراضي لتجارب ثورات الربيع العربي.

ولعل خصوصيات التجارب قد تحيلنا إلى ذكر بعض العوامل التي صاحبتها وصنعت خصوصيتها، ومنها أن:

– النظم الإعلامية الموجودة انعكاس للنظم السياسية، فهناك فرق كبير بين نظام سلطوي ونظام ليبرالي ونظام مختلط وحتى النظم السلطوية المتشابهة قد تختلف معالجتها الإعلامية بحسب تقاليدها المتبعة ونمط السقف المتاح والمعتمد في التعاطي مع الشأن الداخلي والخارجي.

ومن هنا، نلاحظ اختلاف تعاطي الإعلام الرسمي لدول الربيع العربي مع الاحتجاجات، ويظهر الفرق شاسعًا بين الإعلام السوري والمصري حيث إن الإعلام المصري عاش اللحظة وحاول التعاطي معها بالتماهي بينما الإعلام والتليفزيون السوري استخف بعقول الناس وفرض قراءة واحدة، قراءة المؤامرة، هنا تمَّ إهمال بل وقمع أهم عنصر في الإعلام وهو البرمجة التي تعتبر مهمة في إيصال الرسالة، فهي “ذلك الفن الخاص بالتصميم والذي يكون موضوعه إعطاء كل حصة الفرص الكافية للقاء الجمهور”(12)، ولن يتأتى ذلك إلا بمحاكاة الواقع وعدم إنكاره بل الانطلاق من الحقيقة لخلق وعي مزيف.

– نوعية مسار الحراك والتطورات تفرض تغطية إعلامية تتناسب مع طبيعة صيرورة الأحداث ومن ذلك اضطرار القنوات والصحف للتنازل عن مصداقية وكفاءة وأهلية المراسلين مقابل شجاعة ومغامرة المراسل. فمن الصعب إيجاد مراسلين يغامرون بحياتهم في حروب دامية مثل المشهد السوري، دون أن يكونوا منخرطين بشكل أو بآخر في النزاع، وبالتالي تصبح القنوات تتعامل مع مراسلين ومصورين غير محترفين يقبلون بمخاطرة الموت، ومن زاوية أخرى مراسلين بقبعة مناضلين ومحاربين أكثر من صحفيين ومراسلين.

– صعوبة التأكد من المعلومة والوصول إلى مصدر الخبر من مشهد لآخر، وفي مثل هاته النزاعات فإن التركيز على قوة المراسلين على الأرض مهم جدًّا لتصبح الخدمة الإعلامية تستمد قوتها من النقل على الأرض خاصة وأن تسارع الأحداث لا يتيح وقتًا كافيًا لتمحيص الخبر، نظرًا لكثرة وسرعة المادة الإخبارية.

وهكذا، يفرض السياق نمط التغطية والمرافقة الإعلامية، فالتطورات الخاصة بالحالة السورية ميَّزت مأساوية وفوضى التغطية الإعلامية مقارنة بإيجابية الحالة التونسية وبنسبة أقل الحالة المصرية.

 

البديل المفروض أو الخيار المتاح

تنتج الأزمات واقعها الخاص ومن السهل إصدار أحكام قيمية على مآلات الأحداث ومخرجاتها خارج ظروف وضغوط السياق المرافق، ومن جملة منتجات التأزيم الحاصل في المشهد السوري واليمني والليبي أنه أنتج فئة جديدة من الإعلاميين والصحفيين -وهم المواطنون الصحفيون- أملتها ضرورات الثورة. بدأت باحتشامٍ البحثَ عن أية أخبار، وسرعان ما احتلَّت مكانة رئيسية في التغطية ونقل الأخبار تحت غطاء صحافة المواطن باستعمال تعابير تسمح بتقبلها من قبل المشاهد مثل: شاهد عيان، من قلب الحدث، أو ناشط حقوقي…إلخ.

تمَّ التأسيس لنوع جديد من الإعلام لا يلتزم بالضرورة بأخلاقيات المهنة، يستمد شرعيته من استبداد النظم وجور الأنظمة، وتطور هذا الدور بتملك الكثير من المواطنين الصحفيين والمراسلين غير المحترفين للممارسة مع مرور الوقت وساعدهم على ذلك الخبرة في التعامل مع الكاميرا التي بدأت باستعمال المباشر في الهاتف.

ومن هنا، ظهر ما سُمِّي بإعلام الربيع العربي كإعلام مُعفى من الأخلاقيات المهنية التي يلتزم بها الإعلام عمومًا وبدأ يطرح إشكاليات متعلقة بطبيعة الأدوار المنوط بأدائها، وعلى رأسها: هل هو بالضرورة إعلام معارضة للأنظمة الاستبدادية؟ وهل يجب أن يكون إعلامًا مقاومًا وإعلامًا تحرريًّا؟ وهل هو إعلام فعل -أي صناعة حالة- أم رد فعل؟ ثم انتقلنا إلى مستوى آخر من الإعلام الذي تمليه النزاعات وهو الإعلام المهاجر أو إعلام ثورات المهجر.

وبالتالي، أصبحنا أمام حالة إعلامية لم تستقر ولم يكتمل تشكُّلها. ومن هنا، فإن معايير تقييم التجربة تختلف وفق ما بيَّنَّا من سياقات، قد توسع دائرة الاختلاف داخل الوطن الواحد من منطقة لأخرى بحسب التقسيمات الإثنية والعرقية والأيديولوجية والجهوية مما يفرض تجزئة التجربة عند الدراسة أحيانًا حسب النوع والمكان والموضوع.

4- انعكاس التمايز على مستوى أداء المجتمع الصحفي

كلما ارتفع سقف الضغط زاد احتمال انحراف تغطية المجتمع الصحفي، فمثلًا الانطلاقة في التجربة التونسية والمصرية كانت مريحة إلى حد بعيد وسمحت للمجتمع الصحفي بالتحرر النسبي والتماهي مع الأحداث والإبداع أحيانًا في التغطية لكسب مصداقية تسمح بالتأثير في تلك الأحداث. وكان نموذج التجربة المصرية متميزًا من حيث القدرة على التلوُّن مع الأحداث ثم الاصطفاف لإعادة إنتاج النظام. ولعل التجربة المصرية تحتاج إلى وقفة قصيرة؛ لأن تأثيرها كان ولا يزال كبيرًا جدًّا في وأد الفعل الثوري المصري. وقد صنعت العواملُ التالية خصوصيةَ التجربة الإعلامية المصرية:

– أداء الإعلام الرسمي المصري كان أذكى ورفع السقف لكي يبقى مؤثرًا في الحالة السياسية والمجتمعية فاستطاع ذلك عكس الإعلام السوري الذي بقي منغلقًا على نفسه يسوِّق لنظرية المؤامرة.

– أهم سلاح بالنسبة للإعلام للتأثير في الأحداث عادة ما يكون القدرة على تقديم صورة قابلة للتصديق حتى وإن كان خبرًا غير حقيقي يكسبك قوة، ولم يجد المجتمع الصحفي المصري صعوبة كبيرة لتحقيق ذلك، نظرًا لامتلاكه إمكانيات تسمح له بأن يمرِّر رسائل قوية بطريقة غير مباشرة، مثل الدراما والفكاهة، وتنوع البرامج الذي يسمح بإيصال الرسائل بطريقة أو بأخرى بحسب نوعية الجمهور في ظل امتلاك حوالي 50 قناة فيها كل اللغات والتعابير.

– ومن بين العوامل التي ساعدت المجتمع الصحفي المصري على تمرير الرسائل بذكاء كبير لاحتواء الغضب والتذمر وإعادة إنتاج منظومة الحكم أو تثبيتها: توظيف النكتة السياسية بما أن لديها تراثًا في مصر، والنظام المصري كان دائما متساهلًا مع السخرية السياسية التي كانت تُمرَّر في المحتوى الاجتماعي كآلية تنفيسية لاحتقان المجتمع، وكان ذلك واضحًا في برامج الكوميديا الاجتماعية.

– مقارنة بسيطة بين التجربة المصرية والسورية وحتى العراقية تبيِّن دور السخرية السياسية في تحديد الفارق على مستوى الاحتقان وردود الأفعال الراديكالية التي يخلِّفها، فتراث الفكاهة تراث مصري عكس سوريا وعراق صدام الذي يتميز بالجدية المصطنعة بلغة خشبية لمواطنيها. ورغم ما حدث في مصر من اعتداء على الإرادة الشعبية، لم تتطور الأحداث المأساوية التي خلَّفتها في تجارب أخرى، وهذا لا يرجع لعامل التنفيس وتمرير الرسائل عبر السخرية السياسة فقط وإنما هناك عوامل أخرى قد نتعرض لها من خلال هذه الوقفة.

– من أهم نقاط قوة المجتمع الصحفي في مصر أنه استطاع مقارعة الإعلام الخارجي مما ساعده على عدم اللجوء لتبني الرؤية الأحادية والانغلاق على الذات، كما استعان بسلاح قوي جدًّا وهو الدراما التي تماهت بسرعة قياسية مع الأحداث وانتقلت إلى تبني الثورة بمنتجات متنوعة ولكن سرعان ما أعادت تصويب البوصلة ضد الثورة بشكل ناعم، عندما صوبت قدرتها الإنتاجية لخلق مواد سينمائية وتليفزيونية لضرب النخب الثورية ورسائلها بالتشكيك وإضفاء معاني تعمل على تمييعها ودفع الكثيرين لمعارضتها؛ فأوجدت بيئة حاضنة ومؤيدة لفكرة الإقصاء والاستئصال النسبي للنخب التي أنتجتها الثورة المصرية، وكمثال على ذلك شهرة ونجاح المسلسلات التي عالجت ظاهرة الإرهاب وتنظيم “الدولة الإسلامية”.

من هنا، يمكن أن نستشف كيف تؤثِّر الخصوصيات في كل تجربة على تطور الأحداث، ومن ثم التأثير على أداء المجتمع الصحفي. فإذا كانت التجربة المصرية نموذجًا متميزًا لاحتواء الحراك الثوري لدرجة يمكننا معها تسمية انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 بالثورة المضادة لمدينة الإعلام في مصر، فإن المجتمع الصحفي السوري يُمثِّل النموذج النقيض.

فقد نتفهم أن إعلام الدولة هو صوت رسمي ويصعب تحويله إلى صوت شعب، ولكن كان يمكن أن يتسم بنوع من الذكاء في التغطية ويبتعد عن الرؤية الاستبدادية التخوينية لمواطنيه الناقمين على التسيير السيء لحياتهم اليومية وإهدار موارد البلاد، ويبتعد أيضًا عن شمَّاعة المؤامرة الأجنبية والأيادي الخارجية التي تتفنَّن الأنظمة الاستبدادية في إشهارها عند أي تهديد داخلي لاستحضار شرعية مكافحة الآخر العدو المتربص، فكان المشهد السوري بكل دمويته التي لا تزال مستمرة لغاية كتابة هذا البحث.

من هنا، فإن الأداء الإعلامي يختلف ويأخذ مجرى بحسب درجة التنازع، وكلما ضاقت مساحات التعبير عن الخبر والوصول إليه يرتفع سقف الخروج عن الأخلاقيات المهنية للعمل الصحفي ليصبح الاهتمام بتلك الأخلاقيات أمرًا عبثيًّا مقارنة بحجم المأساة، فتنزلق التغطية تدريجيًّا لتتحوَّل إلى جزء من مشهد النزاع والصدام.

ومن المشاهد التي تختزل التغطية الإعلامية في المشهد السوري نجد أنفسنا أمام عوائق راجعة لضعف مصادر التمويل وعدم القدرة على الوصول إلى مصدر الخبر، بغياب مراسلين مثلًا وضعف الالتزام بالقواعد المهنية، أو الظروف المعيشية، والمشاركة في النشاطات النضالية المختلفة التي تعطل الأداء الصحفي وتغلب حالة الناشط على صفة الإعلامي. فالإعلام الذي لا يمتلك مثلًا التغطية المباشرة والميدانية يتحوَّل إلى إعلام رأي وخطاب وتعبئة، يركز على الطابع الخطابي اللفظي، لأنه محروم من أهم أداة لنقل وتوصيف الخبر وهي النقل المباشر للأحداث. هذا الذي حوَّل الإعلام على الأقل في المشهد السوري إلى جزء من الأزمة عوض أن يكون جزءًا من الحلِّ، فقد تورَّط المجتمع الصحفي في الأزمة وظهرت مؤشرات التأزم من خلال المظاهر التالية:

– البحث عن إثارة الشارع بابتزاز المشاهد وعرض تماثل في مقارنة مستفزة، وهذا ما يرتبط عادة بمدى مناعة المتلقي وقدرته على التعاطي الحذر والعقلاني مع الرسائل وحتى تقديره لذاته وثقته بها؛ لأن “التقدير القوي للذات يعزز مقاومة الدعاية والإغراء الشكلي للخطاب، وحتى تمجيد القيم الغريبة عن أخلاق الفرد. وبالعكس، فإن الأفراد الأكثر قابلية للتأثر يكونون عمومًا فريسة للشك والارتياب سواء على الصعيد الفكري أم الوجودي. إلا أنه ينبغي توضيح أن التقدير القوي للذات لا يكون متلازمًا بشكل آلي مع المستوى الثقافي الجيد. وهو يرتكز على عوامل نفسية ونفسية-اجتماعية مترابطة فيما بينها بطريقة معقدة”(13).

– حالة سيولة في الأخبار الصحيحة والكاذبة في ظل عدم القدرة على التثبُّت، وفي نفس الوقت حتمية المحافظة على المُشاهِد فيتم التضحية بأخلاقيات المهنة، وهذا ما يدفع بدوره إلى تمييع المجتمع الصحفي كمصدر للمعلومة التي تساعد المواطن على اتخاذ القرار المناسب فيرتبك المواطن ويحجم عن التدخل وقد يفضل ترك المشهد والهروب من الأزمة. ويزيد من تعميق الأزمة أن الحصيلة المعرفية للمواطن الصحفي الفاعل على شبكات التواصل الاجتماعي تتحول إلى جزء من التأزيم؛ إذ “لن تتولد هذه الحصيلة المعرفية عن فراغ، بل ستتشكَّل ملامحها، نتيجة لصيرورة التفاعل الدائم بين ثقافة المجتمع الذي تستوطنه الجماعات المتخيلة وأفرادها، والتي تؤثر بدورها في الأنماط التي تسود على مستوى الفضاء الاجتماعي الرقمي، والذي سينعكس لا محالة على الأنشطة والممارسات المعرفية للجماعات المتخيلة، والتي سينشأ عن حصيلتها النهائية صبغ ممارسات المواطن الرقمي العربي بسمات تجعله يختلف من بقية المواطنين الرقميين الذين يقيمون في فضاء اجتماعي آخر”(14).

– الاصطفاف الأيديولوجي من خلال التغطية الإعلامية للأحداث والتخندق الجهوي والإثني، ولو أن هذا التخندق اتسمت به كل التجارب، ولكن مع مرور الأيام واشتداد الصراع في المشهد السوري أخد الصراع يرتكز على الشرعية الدينية ليبرر فكرة الاقتتال تحت معاني الشهادة ومجابهة الطاغوت والكفار…من جهة، ومكافحة الإرهاب ورد العدوان الخارجي من جهة أخرى.

– خطاب التشرذم والعمالة والشعارات المسيئة طغى في خضم الصراع وصار التراشق بالتهم سمة المعالجة الإعلامية ولغة المجتمع الصحفي في الغالب خاصة عندما يُسقى النزاع بدماء الأبرياء من الطرفين.

– الخطاب الإعلامي أصبح شبه خطاب حزبي فقد ضاقت مساحات الاختلاف وتقبل الرأي الآخر، ودخلت الأزمة السورية مرحلة الاصطفاف المباشر والتجنيد باسم المكونات القائمة، بما في ذلك المكونات الحزبية التي كانت جاهزة تنظيميًّا للاستثمار في الحدث السياسي فوجدت نفسها طرفًا في نزاع عسكري، وهذه حال المشهد اليمني الذي أخذ شكل النزاع المسلح مما استدعى خطاب التعبئة الحربية.

هذا النوع من النزاعات يُشَيْطِن الخصم ويضخم مساوئه لكي يبرر اللجوء للاقتتال ويكسب شرعية استئصال الآخر، فننتقل من خطاب الاختلاف إلى مستوى خطاب الاستئصال.

 – في ظل التهم المتبادلة، اشتغل الإعلام بالرد على الإعلام، أي الرد على الرسائل الإعلامية وابتعد عن وظيفته الأساسية المتمثلة في نقل الخبر الصحيح وتزويد المتلقي بالمعلومات المؤكدة.

هذا الوضع أدى تدريجيًّا لإنتاج قنوات أو إعلام متعاطف مع الثورة، ولكن يعمل بعقلية إعلام النظام مثل الانتقال من التشبيح للنظام إلى التشبيح للأطراف الداعمة والممولة. وبالتالي، لم يتحرر الإعلام المعارض -إن صح القول- من عقلية النظام السائدة وأعاد إنتاج نموذج مشابه يعكس بيئة النظام التي نشأ فيها.

– مع مرور الوقت، اشتدت الفوضى الإعلامية وتوالت السرديات غير الواقعية، تحت شعار المظلومية، واضطراب الخطاب بشأن الآخر، وأدى تفاقم الوضع إلى استسهال التعاطي مع المعلومة وتركيز الإعلام المتخندق في جبهات الصراع على الهجمات المتبادلة الدائرة عليها، واشتغل المجتمع الصحفي بالرد على الآخر وتحوَّلت الخطابات إلى منابر دعائية. ومما عمَّق من أزمة المجتمع الصحفي اضطراب النظرة تجاه المؤسسات والأدلجة والتحيز الفكري في جوٍّ من الاصطفاف والانقسام والتخوين مما أدى بهم لأن يفقدوا توازنهم العقلاني داخل الجماعة فتطفو على السطح صفات الجماعة على حساب صفات الفرد، بحيث “هذه الصفات العامة في الطباع المحكومة باللاشعورية الموجودة في جميع أفراد كل أمة بدرجة واحدة تقريبًا هي التي لها المقام الأول في حركة الجماعات، فتختفي مقدرة الأفراد العقلية في روح الجماعة وتنزوي بذلك شخصيتهم، وبعبارة أخرى تبتلع الخواص المتشابهة تلك الخواص المتغايرة وتسود الصفات اللاشعورية”(15).

وكلما اشتد النزاع تراكمت الأخطاء وتحوَّلت إلى مادة دسمة تضفي شرعية أقوى للتعاطي الإعلامي الموجه، فيكفي دخول عشرات الآلاف من المقاتلين من مختلف البلدان لسوريا لمحاربة النظام كي يتحرر الإعلام الحكومي ويجاهر بكل اطمئنان بنظرية المؤامرة التي تحاك ضد الوطن، ويصبح يركز مثلًا على جنسيات المقاتلين الأجانب لاستعطاف المشاهدين واستحضار مشاعر الوطنية لكسبهم في صف النظام أو على الأقل تحييدهم من النزاع، ونفس الشيء بالنسبة للإعلام المصري الذي ركز على المؤامرة الأجنبية واستغل شبكة العلاقات الواسعة لحركة الإخوان المسلمين مع مئات التنظيمات في شتى البلدان ليؤكد التخابر والتآمر الدولي، عندما سارع مجمل التنظيمات للتضامن مع ضحايا الانقلاب وتبني مظلوميتهم، وبالأخص عندما تضامنت حكومات بشكل رسمي وعارضت الانقلاب مثل ما حدث مع تركيا، وإن كان هناك فارق تجلى في أن الإعلام المصري العمومي والخاص استطاع خلق استقطاب في الشارع، أنتج حالة رفض عارمة للإخوان سهَّلت عملية الانقلاب على الشرعية باستعمال نفس الشرعية التي استخدمت للإطاحة بحسني مبارك وهي شرعية خروج الجماهير للشارع.

أما التجربة التونسية فقد عاشت الاستقطاب الداخلي وانحصر النزاع في شق أيديولوجي ونقاش سوسيو اقتصادي حول آليات التسيير الجيد ليوميات المواطن التونسي، ومما ساعد التجربة التونسية في تخفيف حجم الاحتقان وتهذيب التغطية الصحفية، توالي المواعيد الانتخابية السلسة والناجحة التي فتحت النقاش حول برامج وتصورات الأحزاب للحل في تونس، وإشكالية التوافق ونجاعة العمل السياسي التشاركي، خاصة عندما استطاع الإسلاميون -ممثَّلين في حركة النهضة- أن يتخندقوا في ائتلاف وتحالف جمع أهم مشارب وتيارات الحياة السياسية في تونس مما خفَّف عنهم عناء الرد على الهجمات الأيديولوجية طالما أن حلفاءهم ينتمون لنفس الخندق الأيديولوجي المتهجِّم.

وبقيت التجربة التونسية محاصَرة سوسيو اقتصاديًّا عندما رفضت الدول الكبرى الغنية وحتى الصديقة مساعدة تونس ماديًّا وتركتها سجينة الوضع الاقتصادي الهش. ويرى الباحث أن ذلك كان كافيًا ولا يزال لكبح ومنع نجاح التجربة التونسية كي لا تتحوَّل إلى نموذج نجاح جذَّاب لباقي الشعوب العربية.

أما التجربة اليمنية، فبعد فترة تدافع سلمي ونقاش وتبادل اتهام عبر الرسائل الإعلامية والاصطفاف الصحفي، دخلت مرحلة النزاع المسلح، وسرعان ما انتقلت إلى مرحلة النزاع الدولي بشن السعودية حربًا على اليمن تحت مبرر رد العدوان غير المباشر للإيرانيين على اليمن. وبالتالي، دخلت الأزمة مرحلة العبث بمستقبل وحاضر اليمن واشتد النزاع بحيث لم تعد هناك فسحة للخطاب غير المنخرط في النزاع المسلح، وضاقت مساحات التعبير الموضوعي بارتفاع سقف الضغط الخارجي الذي بلغ درجة استئصال الخطاب المعارض عن طريق اغتيال الصحفيين وقصف مقرات المحطات الصحفية بتنوعها.

5- تحديات انخراط المجتمع الصحفي في مسارات التحول السياسي بالعالم العربي

يمكن تلخيصها فيما يلي:

– الانخراط لا يتوقف على الرغبة والإرادة فقط، بل يتطلب إمكانيات وموارد مهمة، وما يتوفر اليوم من إمكانيات وقدرات عند مجمل القنوات لا يرتقي لمستوى قنوات حقيقية وبالتالي لا يسمح بتقديم الحد الأدنى من الخدمة المطلوبة للانخراط في هذا المسعى.

– أخذ المجتمع الصحفي العمومي في الكثير من الحالات شكل الامتداد المباشر للخطاب الرسمي، الذي لا يخاطب الشعوب بالضرورة بل تحوَّل إلى امتداد لوزارات الخارجية أي أذرعًا للدبلوماسية الخارجية.

– مشكلة نموذج المقارنة مع الغرب واعتماد التجارب الغربية كمرجعية لتحديد مسار التحول يزيد من تأثير بعض المؤسسات الغربية في بعض النخب العربية، ويتجلى ذلك من خلال تدريب الشباب دون مراعاة لخصوصية المجتمعات العربية مما يزيد من تعقيد الأزمة عند العجز عن إنتاج تصور للتحول الديمقراطي يتماشى مع خصوصياتنا.

– السؤال المهني والأخلاقي الذي يبقى مطروحًا: هل من الضرورة أن تؤيِّد الوسيلةُ الإعلامية النظامَ أو تعارضَه؟ وما هو خط الاعتدال؟ وأين يجب التوقف؟ والأهم من ذلك: من يحددها؟

– الواقع المتحرك يستلزم رسالة إعلامية متغيرة وفي ظل الإعلاميين غير المختصين المؤهلين من الصعب جدًّا أن ينتج المجتمع الصحفي الرسائل الإعلامية المتوازنة والبنَّاءة التي تخدم طبيعة المرحلة وترافق حجم التحولات السريعة.

يحدث الإشكال على مستوى بناء المعنى بسبب انكفاء الكثير من المثقفين عن إنتاج الأفكار والقراءات الإبداعية المعالجة لبيئة النزاع والاحتقان وهشاشة الرسالة الإعلامية التي قد تعيد تغذية النزاعات عوض حلِّها، وبالتالي يصبح المجتمع الصحفي يعمل دون نية مسبقة على إبعاد المجتمعات المأزومة عن مسار التحوُّل الآمن أو على التشويش على التسوية، وحق لنا التساؤل: هل الأداء الإعلامي لما يسمى بإعلام الربيع العربي هو خدمة إعلامية؟

– قد نكتشف فيما بعد أن الصورة والرسالة، التي كانت واضحة عند كل من يعارض النظام، حول النظام ذاته ومكوناته وخياراته وآليات التعاطي معه كانت مشوشة. أخذت الصورة الشعبوية العاطفية أكثر من الطرح الموضوعي السليم، فاستعدت الأنظمة وخلقت منها أطراف نزاع استئصالية عطَّلت عملية احتوائها أو على الأقل استمالة أطراف وأجنحة منها. أي بتعبير آخر: نجد أنفسنا أمام إعلام معارض وليس إعلامًا مهنيًّا، لأن العيب ليس في عدم الحياد وإنما في التلاعب بمصداقية وموضوعية الخبر الذي يتعرض للانتقائية والتلاعب والتوجيه.

– بسبب ضعف الإمكانيات وعدم وجود مجال لتقديم خدمة عمومية مناسبة لحجم الأحداث والرهانات، تصبح صحافة المواطن بديلًا اضطراريًّا وحتميًّا والمتنفس والمنقذ من التعتيم والضبابية المفروضة بمنطق السلاح والنار، غير أن صحافة المواطن عادة ما تلعب دورًا كبيرًا في نشر التفرقة والفكر التعصبي العنصري التخويني، والتعميم السلبي والتراشق والاتهام التعسفي. فتُعَقِّد من دور المجتمع الصحفي في المساعدة على التحوُّل السياسي السلس، ليغرق في التأكيد والتكذيب، ويضيع وسط تدفق الخبر والمعلومة والصورة عبر صحافة المواطن.

– مع استمرار التأزيم، تنتشر فكرة الرغبة في الاستماع إلى رأي واحد فقط مما يجعل المواطن ينظر للإعلام الذي يطرح التعددية بأنه مصدر للتشتت والتفرقة والبلبلة، وبالتالي يفرض التخندق وتتقلص مساحة القبول بالآخر، الشيء الذي يعطل مبدأ التسوية والحوار والتفاوض، ليصبح الشغل الشاغل هو محاولة السيطرة على الخبر، وهذا ما يستنزف الكثير من الجهد والموارد؛ لأنه غير قابل للتحقيق مهما كلَّفت المحاولات. إلا أن سياق النزاع وسطو مشاعر البحث عن هزيمة الآخر ومحاولة إخضاعه، أو استئصاله، تغيِّب صوت العقل فيصبح جزء من المجتمع الصحفي غير قادر على التفريق بين خطاب المظلومية وخطاب كشف المظالم.

– في الكثير من الحالات يصبح المجتمع الصحفي جزءًا من المشكلة وليس جزءًا من الحل، ويتحوَّل للتشكيك في كل شيء، خاصة المبادرات التي قد تتحوَّل إلى فرص ضائعة بسبب أداء المجتمع الصحفي فتضيع بوصلة التوجيه والترشيد.

6- المجتمع الصحفي الجزائري: النَّفَس الثاني لمحاولة التحرر

لا شك أن الظروف التي ولدت فيها الصحافة المستقلة في الجزائر تؤثر بشكل كبير في تحديد منتوجها الإعلامي وتقييمه، لذلك يمكن القول: إن المجتمع الصحفي في الجزائر وُلِد ولادة قيصرية في وضع مضطرب وفضاء هش من الحرية وافتقار للهوامش.

ولعل ما يميز وضعية المجتمع الصحفي في الجزائر ضبابية المركز القانوني؛ حيث لا تسمح السلطة للمجتمع الصحفي بالاستقرار القانوني فمثلًا أهم القنوات التليفزيونية الخاصة الحاضرة بقوة في المشهد الإعلامي اليوم، وهي تعد على الأصابع، لها تراخيص مكاتب أجنبية مؤقتة مما يدفعها إلى العمل في الغالب في وضعيات غير قانونية تجعلها معرَّضة للمساءلة القانونية في أية لحظة وبالتالي يصبح بقاؤها واستمراريتها مرتبطة بمزاج السلطة وقرارها الانفرادي.

وما زاد من عرقلة التغيير لانطلاقة جديدة للمجتمع الصحفي الجزائري هو هشاشة الوضع المالي والاضطراب الدائم لمداخيل الصحف والقنوات المستقلة في ظل الفساد الهائل الذي عمَّمته السلطة في المجتمع، بحيث يمكن اعتبار التعميم في الحالة الجزائرية “أحد أشكال إعادة التوزيع بين الفئات الاجتماعية لمصلحة الموظفين والوسطاء. وعندما تنتشر هذه الممارسة على نطاق واسع، يجب الظن بأن ذلك يجري بعلم وقبول قادة النظام، لا بل قد يكون أحد الأشكال الواقعية لشبكات الأمان للموظفين خصوصًا، لتعويض الرواتب المتدنية، وزيادة مستوى الدخل والرفاه بما يعوض جزئيًّا الجمود في الحراك الاجتماعي الصاعد لدى بعض الفئات”(16). في ظل مناخ الفساد صارت السلطة تتلاعب بالإشهار بشكل واضح وتربط الحصول عليه بمدى تطابق الخط الافتتاحي مع توجهات السلطة أو على الأقل عدم تعطيلها أو فضح فساد النظام. ويعتبر الإشهار بمثابة السرطان الذي يتهدد المجتمع الصحفي، فحتى القطاع الخاص لا يملك الجرأة على منح إشهار للمجتمع الصحفي دون مراعاة مزاج السلطة وتعليماتها غير الرسمية بالخنق والتضييق أو غض البصر والتساهل، ليبقى الإشهار يُشكِّل الآلية الرئيسية للتحكم في المشهد الصحفي.

إن عدم الاستقرار على سقف محدد من الحرية واضطراب الهوامش المتاحة التي تتأرجح بين التضييق والفتح الجزئي، لا يسمحان ببناء استراتيجية تطور، فكل شيء مبني على المستقبل القريب المجهول وقد رأينا قنوات إعلامية تستثمر في برامج ومسلسلات وتنفق أموالًا ضخمة ليتم منع بثها لأسباب واهية ودون سابق إنذار، ويتم تسويق المنع بشكل سري أو عن طريق رسائل غير مباشرة، ولكنها فاعلة مثل المنع الكلي للإشهار، وهذا مجرد مثال فقط.

ومع ذلك، اتسع في العقود الأخيرة هامش تأثير المجتمع الصحفي بشكل واسع لأسباب متنوعة، ولكن كلها صبَّت في صالح النخب الصحفية الجديدة، ولعل أهم عامل مساعد هو تصحُّر الفضاء السياسي وحتى النقابي بشكل أقل، فقد وجد الصحفيون أنفسهم أمام ساحة فارغة من الرهان السياسي، فتحولوا لقضاة أكثر من صحفيين موضوعيين وباتوا ينتقدون هشاشة المشهد السياسي والنخب المدنية واستماتوا في انتقاد الركود الحاصل مما تقاطع مع آراء الكثير من الجزائريين في ظل انتشار جلد الذات والتذمر من الواقع اليومي قبل بداية الحراك الشعبي، في 22 فبراير/شباط 2019. وخلال فترة وجيزة تحوَّل الصحفيون إلى صنَّاع رأي واكتسبوا ثقة في النفس، ومما ساعدهم على ذلك استراتيجية النظام القائم في انتقاد المجالس المنتخبة والفاعلين السياسيين لكي يثني الناس عن المشاركة السياسية، فتسهل عملية إعادة إنتاج النظام بسهولة كبيرة. فخلال السنوات الأخيرة اشتغل النظام على توسيع دائرة انتقاد البرلمان وبعض المسؤولين، خاصة المنتخبين، لتشويه سمعة المجالس المنتخبة وبالتالي تمييع المشاركة السياسية ككل، وكلما تميَّع الفضاء السياسي وتحوَّل لمجرد فضاء لتحقيق الترقية الاجتماعية والمصالح الخاصة، اتسع هامش انتقاد المجتمع الصحفي وسقف الانتقاد، الشيء الذي ساعد على تعاطف المجتمع مع الإعلام إلى حد بعيد.

هذا الوضع ساعد على دفع المجتمع الصحفي لاحتلال مساحات واسعة للتعبير عن ضمير المجتمع واستيائه، ومن حُسن حظ المجتمع الصحفي أن الانتقاد اللاذع للفاعلين في الساحة السياسية والسوسيو اقتصادية تقاطع مع رغبة السلطة في تمييع الفضاءات وتعطيل كل أنواع المشاركة السياسية والنقابية والمجتمعية؛ حيث اكتفى النظام بوضع خطوط حمراء محدودة على رأسها صحة رئيس الدولة وصلاحيات أخيه، السعيد بوتفليقة، صاحب الأمر بعد مرض عبد العزيز بوتفليقة، فهكذا احتل الصحفيون مكانة نقدية مهمة في المجتمع ساعدتهم على التفاعل مع الحراك بإيجابية منذ انطلاقته، بل يمكن القول: إنهم أسهموا بقوة في ولادته بفضل توظيف الإعلام للشأن الاجتماعي والاقتصادي لكشف مدى الفساد الذي كان ينخر المنظومة الاقتصادية، الذي انعكس آليًّا على الوضع الاجتماعي وفجَّر الكثير من الآفات الاجتماعية والظواهر الغريبة على مجتمعنا، خاصة ظاهرة “الحرقة” (الهجرة السرية) ومحاولات الانتحار والتسرب المدرسي والطلاق وخطف الأطفال…إلخ.

وقد استفاد المجتمع الصحفي من تراجع مصداقية الإعلام العمومي بسبب عقود من التلاعب بخطه الافتتاحي وتمييع تغطيته الإعلامية للظواهر والأحداث، فوجد الإعلام المستقل نسبيًّا أرضية جاهزة لكسب المشاهد والقارئ والمستمع نظرًا لعدم وجود بدائل تُذكر. إلا أن في هذه المرة نظرًا لهشاشة مؤسسات الدولة التي تجلت بشكل واضح طوال العهدة الرابعة للرئيس، عبد العزيز بوتفليقة، وزخم الحراك الشعبي الضخم، سارع صحفيو القطاع العمومي إلى التماهي مع الحراك الشعبي ونظموا عدة وقفات احتجاجية داخل المقرات للمطالبة بالحرية في توفير التغطية الملائمة للحراك الشعبي، بل وأصبحوا ينادون بتغيير النظام ورفع القيود عن العمل الصحفي، كما بادروا بإنشاء نقابات حرة لتمثيل المجتمع الصحفي. وتكلَّل الضغط في الأسابيع الأولى بفتح هامش الحرية والسماح بتغطية الحراك واستضافة المعارضين في مختلف استوديوهات الإعلام العمومي، حتى كاد ينافس القطاع الخاص، ولكن بعد مرور أسابيع فقط وبمجرد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عاد التضييق من جديد وهاته المرة من قِبَل المؤسسة العسكرية التي أصبحت الآمر الناهي في البلاد ليتبيَّن أن الانفتاح السابق كان مجرد عملية موجهة بطريقة غير مباشرة لانتقاد جناح من النظام للقضاء عليه، ولشرعنة وتبرير إبعاده بالرغم من أن هذا الجناح عاث فسادًا في الجزائر وإبعاده كان مطلبًا جماهيريًّا بامتياز.

وهكذا، تغير الآمر بالغلق للفضاء الإعلامي العمومي من جناح إلى آخر ليبقى المجتمع الصحفي العمومي في السجن الناعم مسموحًا له بالاشتغال على زاوية نظر واحدة وعدم الانفتاح على الآراء الأخرى. ومع ذلك لمدة أسابيع فقط من الانفتاح الجزئي ظهر جليًّا توجه النخب الصحفية التواقة للتحرر من الغلق والتضييق، فبات واضحًا أن النظام فقد قدرته على الإقناع ولم يعد له أتباع ولا أنصار داخل المجتمع الصحفي العمومي، بل مجرد مستخدمين ينظرون له نظرة المسيء المخطئ العاجز، ويطالبونه بالإصلاح والتغيير بل والانسحاب، وبتعبير آخر، تبيَّن أن كل شروط الانفتاح على تطلعات المجتمع للحرية والاستقلالية وتقرير المصير قد نضجت، ولم يعد من الممكن تعطيلها إلا بالاستبداد والقمع والحرمان. ومن هنا، لم يحدث الاستثناء في المشهد الجزائري بل تم تعطيله مؤقتًا من جديد، ومع ذلك ارتفعت أسهمه وزادت حظوظ التأسيس لواقع جديد من الانفتاح.

7- متطلبات المراحل الانتقالية

مهما كانت قوة المجتمع الصحفي، فإن شروط التغيير في المراحل الانتقالية ومراحل التحول الديمقراطي تتجاوز فكرة الانفتاح أو التحرير الجزئي؛ لأن مسألة التحول تتجاوز الجزء وتمتد للكل، فعلى سبيل المثال كيف يمكن للمجتمع الصحفي التحرر والتحول إلى سلطة رابعة دون تحرر السلطات الأخرى التشريعية والقضائية والتنفيذية، فما قيمة الحرية بدون قضاء مستقل؟ كيف يستطيع الصحفي ممارسة مهنته بكل حرية في ظل منظومة قضاء غير مستقلة تعاقب الصحفي بالشبهة ولا توفر له الحماية الكافية من كل أنواع المضايقات والإكراهات؟ وهل يمكن للمجتمع الصحفي أن يمارس صلاحياته إذا كانت السلطة التشريعية غير مستقلة وتُستعمل لكبح الحريات تحت شعار البحث عن تحقيق مصالح الشعب؟

إذن المعادلة تتجاوز الجزء للكل، ولكن قد يكون المجتمع الصحفي مؤهلًا لقيادة قاطرة التغيير نظرًا للموارد التي يتمتع بها، فمقارنة بالسلطات الأخرى الإعلام أكثر مرونة وقدرة على صناعة المعنى وهذا هو الحاصل في الجزائر، بحيث هناك تهافت واستماتة في الصراع على القنوات الإعلامية المختلفة ومحاولة توجيه خطها الافتتاحي أو على الأقل تفادي انتقاداتها، وبالتالي المعركة اليوم على أشدها بين السلطة والشارع على الفضاء الإعلامي والصحفي، فمثلًا أثناء الحراك الشعبي في الجزائر لم تخل مسيرة واحدة من مسيرات الجمعة ومسيرات الطلبة يوم الثلاثاء من محاولة استمالة المجتمع الصحفي بالضغط واللوم والتخوين، وأحيانًا بالتشجيع عندما يستجيب نسبيًّا لتطلعات الحراك.

كما تظهر أثناء المراحل الانتقالية المبرمجة أو العفوية والواقعية إشكالية معقدة تعيق وتُهدِّد إمكانية مساهمة المجتمع الصحفي في إنجاح مرحلة التحول الديمقراطي أو التخفيف من أعبائها، وهي صدام النخب الصحفية والإعلامية بالمثقف الأكاديمي وسطوة النخب الإلكترونية أو الشبكية. فقد تعوَّد الإعلاميون على حالة التصحر السياسي والنخبوي فملؤوا الفراغ الحاصل وتحوَّلوا إلى نخب جاهزة لملء الفراغ في كل شيء، وانتقلوا بعد شعورهم بالشهرة والتقبل لدى الناس لمرحلة توجيه الأحداث والتأثير فيها، وساعدهم على ذلك انكفاء النخب الأكاديمية خوفًا من تكلفة المواقف المنتقدة والمعارضة، وبحكم أن الصحفيين أقرب للاحتكاك مع أصحاب القرار أو النخب الموالية للسلطة فإنهم أكثر قدرة على توسيع هامش حرية الانتقاد والطعن في التسيير، لأنهم الأقدر على التفاوض مع السلطة واللعب معها في معركة الهوامش، وإذا ما شعروا بغضب حقيقي لدى النخب الحاكمة تراجعوا قليلًا لامتصاص الغضب.

هذه الوضعية أكسبتهم ثقة في النفس أحيانًا مبالغًا فيها، فتطاول الكثير منهم على المثقفين والأكاديميين أصحاب أنصاف المواقف والانهزاميين، ليتولَّد نوع من الانفصام بين النخب الإعلامية والأكاديمية، وأصبح كل طرف يهاجم وينتقد الآخر، فتشكَّل نوع من القطيعة دفع الكثيرين من النخب لمقاطعة المجتمع الصحفي والتحفظ على التصريح خوفًا من التأويل والتحريف، وبالتالي عطَّل التصادمُ الناعم التعاونَ الوظيفي الصحي الذي كان من المفترض أن يُشكِّل البنية الفكرية للتحول الديمقراطي.

ووجدت السلطة الفعلية في هذا التشنج فرصة لالتقاط الأنفاس والتشويش على محاولات التحرر. فلا المجتمع الصحفي قادر على إنتاج معنى للحراك وتفسير الواقع في شكل مسار تراكمي للفعل الاحتجاجي المطلبي الذي يستهدف تغييرًا أو إصلاحًا عميقًا للنظام، ولا المثقف الأكاديمي يستطيع التأثير في وعي الجماهير دون المرور الحتمي على المجتمع الصحفي والاستعانة بموروثه النضالي وثقافته السياسية وشبكة علاقاته لتحقيق أكبر قدر من الاختراق ورفع سقف الوعي وتصحيح الإدراك.

ومن هنا، اقتضت متطلبات التحول الديمقراطي والمراحل الانتقالية حتمية إجراء مصالحة لتصحيح الوضع المرضي الذي أنتجته الأنظمة المستبدة وعلى رأسها المصالحة بين المثقف والشعب، ويدخل في إطارها المصالحة بين المثقف والأكاديمي.

ويرى الباحث أن المثقف مطالب في بعض المجتمعات بالاعتذار للشعوب؛ لأنه فضَّل الركون للظالم والسكوت على الباطل مقابل الحفاظ على مصالحه الخاصة وتحقيق ترقية ولو كانت مُذِلَّة وتحمل في طياتها نوعًا من الخيانة لثقة المجتمع، الذي بذل الغالي والنفيس لتعليم أبنائه ولم يكن يتصوَّر أن هؤلاء الأبناء عندما يكبرون ويتعلمون سيديرون له ظهورهم وينظرون له نظرة ازدراء وكأنه هو السبب في التخلف وليست الأنظمة المستبدة، بل قد يعتبرون أن مؤسسات النظام الفاسد أكثر ديمقراطية وحداثة من الشعوب التي كانت أصلًا ضحية فساد الأنظمة.

ومن جهة أخرى، قد يعترض نجاح التحول الديمقراطي أو المراحل الانتقالية بروز المثقف الشبكي، أي المثقف الإلكتروني الذي لم يتحصل بالضرورة على تحصيل علمي ولم يتأطَّر قط في تكوين مؤسساتي أو نشاط جمعوي، ليصبح منافسًا شرسًا للنخب الأكاديمية عن طريق امتلاكه قدرة التأثير في شبكات التواصل الاجتماعي، لما يوفره للمتابعين والمعجبين من حرية الانتقاد والنقاش والتحاور وتعديل مواقفه مقارنة بالمثقف التقليدي الذي يكتفي فقط بإعادة إنتاج رابطة الشيخ والمريد، أي إملاء الأفكار والتوجيهات في شكل أوامر وعلى الآخرين الاستجابة والتطبيق وإلا تحملوا مسؤولية ما ينجرُّ عن عدم التزامهم.

وبطبيعة الحال، يبقى المثقف الشبكي أكثر جاذبية وقدرة على توسيع دائرة المعجبين والأصدقاء والمتابعين الإلكترونيين، مما يسمح له بالتأثير بشكل أكبر مقارنة بالمثقف التقليدي الذي لم يتعوَّد بعد على هذا النوع من التواصل والتفاعل.

ومع ذلك، يبقى المجتمع الصحفي يشكِّل حجر الزاوية في إنجاح أي تحول ثقافي، ولا يستطيع التقدم دون الارتكاز على المثقف الأكاديمي، ونموذج الحراك الجزائري يبيِّن ذلك بوضوح، فكلما تراجع الخطاب الشعبوي واسترجعت السلطة توازنها وبادرت باحتواء الحراك تدريجيًّا، وجد المجتمع الصحفي نفسه في حاجة لقراءة المشهد من جديد، لأن القراءات المبسَّطة لم تعد كافية لإنتاج المعنى المطلوب، وصارت الحاجة ملحَّة لإنتاج معان وأفكار جديدة تعيد قراءة المشهد، ليتمكَّن المتخندقون في محور التغيير من مراجعة الأدوات والآليات المعتمدة بعد تكيُّف النظام مع محاولات التغيير.

8- المجتمع الصحفي وإشكالية إنتاج النخب

تجربة الحراك لحد الآن رفعت السقف عاليًا للنخب الصحفية، لأن الحراك في جزء منه راديكالي المطالب رغم أنه لا يعتمد أدوات راديكالية بل صور الاحتجاج أقرب للسياق الإصلاحي، ومع ذلك وضع المجتمع الصحفي في الزاوية ورفع سقف التقدير والاعتراف للصحفي، لدرجة الفعل البطولي، فلا يرضى بتفهم الخطوط الحمراء التي يضعها الإعلام العمومي أو ملَّاك المؤسسات الإعلامية الخاصة. وقد كان منذ الأسابيع الأولى يضغط على المجتمع الصحفي ويدفعه للتحرُّر الكلي أو الاستقالة والتمرد. وقد سقط جلُّ الصحفيين في المحظور عندما التزموا بالخط الافتتاحي لمؤسساتهم، رغم أنه في الغالب يعادي الحراك أو على الأقل يتجاهله، خاصة ابتداء من الجمعة الحادية عشرة بعد أن أصبحت شعارات الحراك الشعبي في الجزائر تنتقد قيادة الجيش الوطني الشعبي وتتهمها بالخيانة والالتفاف على الحراك.

هذا الوضع يضع المجتمع الصحفي في مفترق طرق، فبعد أن روَّج الجميع للحراك الشعبي وغازله بدأ المجتمع الصحفي بالتراجع شيئًا فشيئًا، وبدأ الهامش المتاح في البداية بالتراجع والتضييق، وعاد الشارع من جديد للإقرار بعدم تحرُّر الفضاء الإعلامي واستمرار توظيفه من قبل النخب الحاكمة، مما يزيد من متاعب الصحافة ولكن هذه المرة أصبحت النخب الصحفية تملك أدوات التأثير في الحقل الإعلامي دون المرور بالضرورة على القنوات الرسمية.

فالإعلامي اليوم أصبح له عشرات الآلاف من المعجبين والمتابعين، جزء منهم يستطيع التحوُّل إلى أتباع للنخب الصحفية في ظل غياب فاعلين متمكِّنين في الحياة السياسية والسوسيو اقتصادية يتمتعون بالمصداقية، مما يزيد من حظوظ هاته النخب في التحوُّل إلى نخب قيادية.

 وإذا علمنا أن آلاف الطلبة في تخصصات الإعلام والاتصال يتخرجون سنويًّا، فهذا يعني بالضرورة زيادة الضغط على الفضاء الإعلامي وخلق مزيد من المنافسة التي تمر حتمًا عبر كسب قلوب الجماهير، الأمر الذي يتطلَّب بالضرورة التخندق إلى جانبهم في معركة الحرية.

وإذا أردنا أن نختزل المعوقات التي تهدِّد أو تعطِّل إنتاج نخب المجتمع الصحفي كي تستطيع المساهمة بشكل أكبر في التحول السياسي يمكن أن نحصرها فيما يلي:

– التساهل مع الرسائل الإعلامية وعدم تمحيصها بالشكل الكافي؛ إذ إن “قادة الرأي العام، من رجال سياسة ومسؤولين نقابيين، وكذلك صحفيين، ومحرري افتتاحيات، هم الأكثر تيقظًا لرسائل وسائل الإعلام، وبالتالي الأكثر تعرضًا للخضوع لتأثيرها. وفي النهاية، من جهة أخرى، فإن بعض الرسائل تُبثُّ لا لتكون موجَّهة أولًا للجمهور، وإنما لبعض القادة. ووسائل الإعلام نفسها: من صحافة مكتوبة ومسموعة ومرئية تشكِّل نوعًا من منظومة تفاعل يقرأ فيها الصحفيون والسياسيون المختصون، ومسؤولو الزوايا أو البرامج السياسية لبعضهم، ويؤثرون على بعضهم بعضًا بشكل متبادل، ويظهرون بشكل خاص، وهم خاضعون لبعضهم بعضًا في تقديماتهم وتعليقاتهم”(17)؛ مما قد يتحوَّل إلى عائق حقيقي لتمحيص الرسائل وغربلتها.

– حرمان الصحفيين من دورات تطوِّر أداءهم وتكوينهم، وهو ما يهددهم بتراجع المستوى وعدم مسايرة ارتفاع سقف التطلعات لدى المتلقي ولا حتى التمكن من مسايرة ما يعرفه هذا المجال من تطورات. فكل دول العالم تقريبًا أصبحت لديها قنوات موجهة للعالم والمشاهد العربي وبالتالي المهارات والموارد والاستعدادات المطلوبة للتميز المهني تبقى في ارتفاع مستمر مواز لارتفاع الرهانات المتصاعدة لدخول نادي النخب الصحفية المؤثرة.

– إذا كانت الثورات سمحت بتحرير مساحات التعبير، فإنها أسهمت بقوة في صناعة حالة حادة من الاستقطاب كل حسب مستواه، وتشكُّل نوع من الانحراف النسبي، الذي لم يسلم منه المجتمع الصحفي وتحوَّل لنوع من السجون الناعمة التي تحجر على الرأي الآخر.

– في ظل ضعف مداخيل الإعلام، يصبح الرهان على الدور السياسي لتحقيق الترقية، مما يصطدم بالأداء المهني النزيه ويؤثر غالبًا على مصداقية الصحفي، الذي يفقد نسبيًّا القدرة على التأثير؛ الشيء الذي يستدعي بالضرورة البحث عن تنويع مصادر التمويل لتحرير وسائل الإعلام ولو جزئيًّا.

– ضرورة تعلُّم كيفية تسيير المشوار المهني للصحفي، وكمثال على ذلك تعتبر برامج “التوك شو” في التليفزيونات الغربية تتويجًا لمشوار وليس بداية له، ليشكّل حصادًا لمراحل مهنية مختلفة، أما استباق قطف الثمار فيضيِّع مبدأ الاستثمار.

– إنتاج النخب الصحفية يحتاج إلى الاستثمار في صيرورة من الأداء الإعلامي الذي لا يتوقف عند لحظة التشكُّل، وإنما ينخرط في مسار بناء نخبة الغد.

– الرقيب الذاتي الذي زُرع داخل وعي الصحفي، أصبح مراقبًا لأدائه ويبقى سجنه الداخلي دائمًا سجنًا ناعمًا للمجتمع الصحفي يفرض نوعًا من التحدي والتضحية والمغامرة أحيانًا للتخلص منه.

– النشر بدون تدقيق أو تمحيص يتعارض بل ويقتل أبجديات أخلاقيات المهنة. كما أنه من الضروري أن يكون هناك توازن موضوعي بين التأثير في الأحداث والتأثر بها، أي: مَنْ يصنع مَنْ؟ فهل مثلًا الثورات تصنع المجتمع الصحفي أم أن المجتمع الصحفي يصنع الثورة؟ فمن المهم الحفاظ على مسافة الأمان التي تضمن الاستقلالية عن الأحداث لنقل المشهد بموضوعية.

– ضرورة الانتباه إلى الدور المتصاعد للإعلام الرقمي والتفاعلي، لأنه لا يحتاج إلى تجاوز عقبات الإعلام التقليدي مثل الرخصة والإمكانيات الضخمة والمنشآت، ويتمتع بمساحة أكبر من الحرية قد تساعد على إنتاج نخب صحفية مشوشة التكوين والأداء، ولكنها تتحوَّل إلى منافس شرس في المجتمع الصحفي دون استئذان ولا رخص مسبقة.

– الشهرة والتقبُّل لدى المتلقين لا يُغني عن الانتباه لتراجع المستوى الفني والتقني أثناء الأداء. ورغم كل التحديات فإن الوضع صحي؛ إذ “تحول مفهوم الأزمة من وجهة النظر التقليدية التي تصفها كحدث يدمر أو يؤثر في المنظمة ككل، إلى وجهة النظر الاستراتيجية، بكونها لحظة حاسمة ونقطة تحول نحو الأفضل أو الأسوأ”(18).

 

خاتمة

بعد كل ما استعرضناه في الدراسة يتبين أن الظروف المهنية ومساحات الحرية ونوعية الترقية الاجتماعية التي يتمتع بها المجتمع الصحفي في البلدان العربية حددت نوعية التعاطي والمرافقة للتحول السياسي، وكلما كان قريبًا من السلطة القائمة ومستفيدًا من امتيازاتها قلَّت مشاركته في التحول السياسي، وبقدر طبيعة وحجم النزاعات يتحدد نوع التخندق مع الأطراف، بحيث تصبح أخلاقيات الموضوعية والحيادية مسألة ثانوية أمام نصرة الطرف الموالي والاجتهاد في تبرير مواقفه، الشيء الذي يحلينا للإجابة عن الفرضية الثالثة لتأكيد تعطيل إنتاج نخب قيادية عابرة للانقسامات المجتمعية والسياسية. وبالتالي، تكتمل حلقة تأزيم واقع ومستقبل أداء المجتمع الصحفي في العالم العربي. ويبقى الخيار الأقرب لتخفيف الاحتقان هو الاجتهاد في الالتزام بالشفافية والموضوعية بقدر ما تسمح به الهوامش المتاحة ثم العمل على توسيعها بالتراكم النضالي والمهني، كما لابد من المقاومة والاعتراض حسب المساحات الممكنة للحفاظ على الأقل على الحد الأدنى من الاستقلالية والنزاهة المطلوبة.

ومع ذلك، فإن المجتمعات الصحفية في العالم العربي دفعت -ولا تزال- أثمانًا باهظة في مسار متذبذب من التدافع ينشد الحرية وتوسيع الهوامش المتاحة بالدماء والتضحيات والأخطاء والانتكاسات والمراجعات.. ويبقى الرهان الحقيقي هو: كيف يمكن تقليص حجم هاته التكلفة؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن استثمارها كي لا تتحول إلى تضحيات عبثية؟

المراجع

(1) محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، (مصر، دار المعرفة الجامعية، 2016)، ص 426.

(2) فيليب برو، علم الاجتماع السياسي، ترجمة محمد عرب صاصيلا، (لبنان، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1998)، ص 239-240.

(3) المرجع السابق، ص 240.

(4) ريمون بودون وفرانسوا بوريكو، المعجم النقدي في علم الاجتماع، ترجمة أسعد وجيه، (سوريا، الهيئة العامة السورية للكتاب ،2007)، ج 2، ص 432.

(5) أحمد زايد، مقدمة في علم الاجتماع السياسي، (مصر، مكتبة الأنجلو المصرية،2001)، ص 77.

(6) أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، ط 4 (لبنان، المنظمة العربية للترجمة، مؤسسة ترجمان، 2005)، ص 512-513.

(7)  John B. Thompson,The Media and Modernity, A social theory of the media (Cambridge: Polity Press, 1995), 42-43.

(8) انشراح الشال، مدخل إلى علم الاجتماع الإعلامي، (مصر، دار الفكر العربي، 2001)، ص 64.

(9) غدنز، علم الاجتماع، مرجع سابق، ص 531-532.

(10) المرجع السابق، ص 512.

(11) حنة أرندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008)، ص 57-58.

(12) Jean Pierre Paul, Economie de la communication TV-Radio, (France: Presses Universitaires de France, 1991), 30.

(13) برو، علم الاجتماع السياسي، مرجع سابق، 241.

(14) حسن مظفر الرزو، فضاء التواصل الاجتماعي العربي: جماعاته المتخيلة وخطابه المعرفي، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2016)، ص 219.

(15) غوستاف لوبون، روح الاجتماع، (القاهرة، مؤسسة اقرأ، 2015)، ص 16.

(16) نعمة أديب، الدولة الغنائمية والربيع العربي، (بيروت، دار الفارابي،2014)، ص 101.

(17) برو، علم الاجتماع السياسي، مرجع سابق، 241-242.

(18) محمود كاظم محمود التميمي، ميثم عبد الكاظم هاشم الساعدي، علم النفس والسياسة، (الأردن، دار صفا، 2015)، ص 254.