ملخص

حاول كارلوس سانشيز في هذا الكتاب استقصاء الأسباب الجوهرية للتخلف التاريخي لإسبانيا، والتي يُرجعها بالأساس إلى الأدوار السلبية للنخب السياسية والاقتصادية، في ظل تحالفات موضوعية بين شبكات المصالح المصرفية والصناعية وجماعات الضغط التي رعتها الأوليغارشيات الإقليمية في منطقتي الباسك وكتالونيا، التي انساقت وراء حلم الحكم الذاتي للإقليمين لتثبيت السياسة الحمائية التي اتخذتها في الواقع غطاء للسيطرة على الأسواق مع تغليف مساعيها بمسوح قومية لتحصين امتيازاتها.

بحكم تخصصه في الصحافة الاستقصائية فقد تتبع الكاتب ارتدادات التواطؤ بين منصات القرار وشبكات المصالح على القرار الاقتصادي للبلاد وعلى تكريس الزبونية والمحسوبية في تدبير الشؤون الوطنية والمحلية. تكمن أهمية الدراسة في طابعها العملي؛ إذ حلَّلت آليات تأثير النخب على المسالك التشريعية والسياسية في صنع وتدبير السياسات الاقتصادية بإسبانيا باعتبارها نموذجًا للدول التي تأخرت في إنجاز ثورتها الصناعية وعانت عسر الانتقال إلى الديمقراطية.

الكلمات المفتاحية: الزبونية، النخب الاقتصادية، شبكات المصالح، السلطة السياسية.

Abstract

In this book, Carlos Sanchez tried to investigate the fundamental causes of Spain’s historical backwardness, which is mainly due to the negative roles played by political and economic elites, in the light of objective alliances between networks of banking and industrial interests and pressure groups sponsored by the regional oligarchies of the Basque and Catalonia, which coordinated behind the dream of autonomy of these regions to install the protectionist policy that they had already taken as a cover to control the markets while wrapping their endeavors with national surveys to fortify their privileges.

By virtue of his specialization in investigative journalism, the writer traced the repercussions of collusion between decision platforms and reformist vehicles on the country’s economic decision and on the dedication of the section of clientelism and nepotism in the management of national and local affairs. The importance of the study lies in its practical nature, referring the mechanisms of influence of elites on the legislative and political tracks in the making and management of economic policies in Spain as a model for countries that delayed the completion of their industrial revolution and suffered from a difficult transition to democracy.

Keywords: clientelism-elites-networks of interests-economic decision-political power.

عنوان الكتاب

رأسمالية المحسوبية: كيف تلاعبت النخب بالسلطة السياسية

Capitalismo de amiguetes: Cómo las élites han manipulado el poder político

المؤلف: كارلوس سانشيز سانز (Carlos Sánchez Sanz)

قراءة: عبد الرفيع زعنون

دار النشر: هاربر كولان إيبيريا (HarperCollins Ibérica)

تاريخ النشر: فبراير/شباط 2024

اللغة: الإسبانية

الطبعة: الأولى

عدد الصفحات: 173

يقع كتاب “رأسمالية المحسوبية” (1)، الصادر عن الفرع الإيبيري لدار النشر الأميركية، هاربر كولينز (Harper Collins)، في ثمانية فصول تناقش أربعة محاور كبرى عن سياقات التخلف التاريخي لإسبانيا وتشكُّل الأرستقراطية الاقتصادية الجديدة، وانعكاسات سياسات الانغلاق والانفتاح الاقتصادي على مسارات “التنخيب” (Processes of elitization)، وطبيعة العلاقة بين مختلف شبكات المصالح وآليات تأثيرها على الأنظمة السياسية والتشريعية والمالية، وكذا الرهانات الزبونية المُغذِّية لنزعات الحكم الذاتي والانفصال وخاصة في إقليمي الباسك وكتالونيا.

درس المؤلف، الذي وُلد في مدريد سنة 1956، العلوم السياسية والاقتصاد الدولي والسياسات المالية. بدأ مساره المهني في الإعلام والصحافة الاستقصائية، حيث بدأ مسيرته الإعلامية في سنة 1984، وتقلب في عدة مناصب في الصحافة المكتوبة والتليفزيون وتخصص في الصحافة الاستقصائية.

عُرف سانشير بأنه من الباحثين الذين حاولوا التصدي لتضارب المصالح واستغلال مواقع المسؤولية العمومية لمراكمة الامتيازات، من خلال عدة تقارير ومساهمات بكتب جماعية. وكتابه الذي نحن بصدده هو آخر كتاب في ثلاثيته التي عبَّر فيها عن رؤيته لتحولات الأرستقراطية الاقتصادية الإسبانية ومستويات تأثيرها في القرار العمومي الاسباني.

صدر الكتاب الأول من الثلاثية في 2003 تحت عنوان “أموال جديدة” (Dinero Fresco)، ليصدر بعد أربع سنوات كتابًا ثانيًا عن الآمال الجديدة لإسبانيا (Los Nuevos Amos de España).

يناقش المحلل السياسي، كارلوس سانشيز سانز (Carlos Sánchez Sanz)([i])، في هذا الكتاب الجذور المُورِّثة لمعضلات الديمقراطية والتنمية بإسبانيا، وفق مقاربة تزاوج بين التحليل السياسي باستعراض التمايزات بين جماعات الضغط وشبكات المصالح وآليات تأثيرها على الأجندة العمومية، وبين الاستقصاء الصحافي بتقديم إطار سردي يرصد تطور أنماط الفساد والزبونية التي تنخر النسق السياسي/الاقتصادي في إسبانيا، انطلاقًا من بيانات تم تجميعها على فترات زمنية متباعدة امتدت من مرحلة ديكتاتورية بريمو دي ريبيرا (1923-1930) إلى مرحلة استعادة الديمقراطية مرورًا بالجمهورية الإسبانية الثانية (1931-1939) ونظام فرانكو (1939-1975).

حاول كارلوس سانشيز في هذا الكتاب الإجابة عن سؤال مؤرق ظل يشغل بال الباحثين في التاريخ السياسي والاقتصادي: لماذا تأخرت إسبانيا عن ركب الثورة الصناعية؟ لضبط متغيرات هذه الإشكالية انطلق الكاتب من فرضية تربط التخلف الاقتصادي في إسبانيا بغياب المنافسة وترسخ الأصول الريعية للاقتصاد و”ترسيم” مسالك المحسوبية في إسناد مناصب المسؤولية، مع الاستئناس بالنتائج التي توصل إليها بعض المتخصصين في التاريخ الاقتصادي الإسباني مثل الاقتصادي وعالم السياسة، خواكين كوستا (1846-1911)، الذي استخلص من خلال دراسته لعوامل الانحطاط في إسبانيا استمرار نمط الزعماء المحليين (Caciquismo) بصيغ جديدة، وهو النمط الذي كان بموجبه يمنح النظام السياسي حكم المناطق والمقاطعات إلى زعامات محلية تمتلك الموارد المادية والرمزية التي تُخوِّل لها الحصول على تفويض من السلطة المركزية لخدمة المصالح المشتركة، وكأن الأمر يتعلق بتعاقد من الباطن (Subcontratación) لصالح التاج(2).

ضمن المنحى نفسه، يرى البروفيسور، خوسيه ماريا جوفر (José María Jover)، أن النظام الاجتماعي في إسبانيا ظل حبيس التحالف المصلحي بين النظام الملكي والأقليات المتنفذة في ظل موانع عديدة حالت دون بروز أي صيغة إسبانية لميثاق أعظم (Magna Carta) تضع الملك وحكومته تحت القانون، وتؤطر العلاقة بين الأنساق السياسية والاقتصادية والاجتماعية (3). كما انتهى وينسيسلا فرنانديز فلوريس (1885-1964) من خلال عمله في الصحافة البرلمانية إلى أن الرأسمالية الصناعية في إسبانيا ظلت لصيقة بمعاطف الوزراء على نحو رسَّخ نموذج الشركات التي لا تستطيع الاستمرار بدون محاباة من السلطة. كما استشهد الباحث على امتداد الدراسة بباحثين آخرين للاستدلال على يسميه بـ”الاختطاف المستمر للسلطة” من طرف تكتلات زبونية تمتلك نفوذًا يتجاوز الدولة: البرجوازية الباسكية والاتالونية، والطوائف الدينية، واتحادات المحامين والمهندسين، ومنتجي الحبوب القشتاليين (los cerealistas castellanos)، وغيرها من التشكيلات التي رسَّخت نظامًا زبائنيًّا (Sistema Clientelar) يتغذى على الفساد السياسي والمحسوبية وتعبئة الموارد العمومية لخدمة المآرب الفئوية (ص 13).

ينتمي الكتاب إلى أدبيات دراسة النخب التي تدرس كيفيات تأثير الأقليات على المقدرات العمومية، معتمدًا على تعريف ماكس فيبر (Max Weber) للنخب بكونها مجموع جماعات المصالح المحيطة بالسلطة (ص 24)؛ إذ تناول التاريخ الاقتصادي لإسبانيا في ضوء دور جماعات الضغط في توجيه إدارة الشؤون العامة لخدمة المنافع الخاصة، مع التركيز على نخب المصرفيين الذين شيدوا النظام البنكي على هواهم، والمهندسين المدنيين الذين تحولوا تدريجيًّا إلى قوة فعلية داخل الدولة جعلتهم يتحكمون في برمجة أشغال عامة “فرعونية” (obras públicas faraónicas) لا يحتاجها اقتصاد البلاد، وفي بناء طرق لا تفضي إلى أي مكان(4).

لدرء أي خصوصية مزعومة في دراسة تأثير الأقلية على الموارد العمومية في إسبانيا، أقر الكاتب منذ البداية أن كل دولة لا تخلو من جماعات الضغط بما في ذلك الدول الصناعية الكبرى، وأن النظام الرأسمالي يقوم بحكم سياقات نشأته على قيم الزبونية، لكن الحالة الإسبانية تؤشر على وجود ما يسميه الباحث بميثاق ضمني (pacto tácito) كرَّس تحالفًا براغماتيًّا وليس أيديولوجيًّا بين النخب الاقتصادية والسلطة السياسية، فمن جهة تؤثر شبكات المصالح بشكل منهجي على السياسات العامة في ظل وزراء تُبَّع يوظفون امتيازات الدولة لخدمة مصالح أسيادهم الرأسماليين، ومن جهة أخرى كانت البرجوازية الصناعية والزراعية مجندة لمواجهة المخاطر التي تهدد النظام السياسي (كوارث، اضطرابات، مجاعات…). كما يتميز النموذج الإسباني بالتوظيف الزبوني للمصالح الاقتصادية في التأسيس للنزعة الانفصالية، مستشهدًا بالرموز الأولى للكتالونية السياسية كفرانسيسك كامبو  (Francesc Cambó)(5) الذي أسهم في تعبئة رجال الأعمال الكتالونيين والباسكيين لمواجهة السلطة المركزية بمدريد؛ إذ تم استغلال دعاوى الخصوصية الإقليمية للتحكم في النظام المصرفي بموجب قانون تنظيم البنوك الذي دعَّم سطوة الأوليغارشيا المصرفية بكيفية رسمية ومؤسساتية عبر واجهة المجلس المصرفي الأعلى الذي أُسندت إليه لفترة طويلة صلاحيات ضبط القطاع المصرفي بدلًا من البنك المركزي. وعن هذه النقطة، يبدو أن المؤلف قد بالغ في تأكيد التأثير المصلحي لكامبو (1876-1947) على السياسة الاقتصادية مُهمِلًا الدور الفكري الذي قام به الرجل في التأسيس لخط سياسي توفيقي بين المحافظة والعقلانية، من خلال مسؤولياته رئيسَ وزراء ولايات عديدة وعبر كتابات مختلفة عكست الرغبة في تحقيق التوازن بين المركز والمحيط عن طريق إصلاحات توخَّت استيعاب النخب الاقتصادية الإقليمية(6).

يحاجج الكاتب بأن تأخر إسبانيا عن ركب التقدم يرجع بالأساس إلى ضعف قاعدتها الإقليمية؛ إذ أفضت التحولات السياسية إلى تكريس دولة لا مركزية تتميز بالموقع الهش للعاصمة من النواحي الاقتصادية والسياسية مقارنة بالأطراف التي تحولت إلى مراكز جذب اقتصادي، وهو ما يعكسه متوسط الدخل الإقليمي بمدريد الذي كان دائمًا أقل من بلباو وبلنسية والبليار وبرشلونة التي استفادت من التوطين المبكر للمراكز الصناعية ومن تدابير الحماية الجمركية، أما الاقتصاد الأندلسي فقد ظل أكثر تخلفًا جرَّاء الافتقار إلى الرساميل الكافية واليد العاملة المؤهَّلة وضعف الاعتماد على المكننة (Mecanización)، ناهيك عن البعد عن المراكز التجارية ومصادر الطاقة في أوروبا. ارتباطًا بذلك، يتهم كارلوس سانشيز النخب الاقتصادية بكونها ترفل في نعيم الإيرادات الريعية تحت رداء الديمقراطية، فعلى عكس الرأسمالية الأوروبية التي استثمرت قيم المبادرة الحرة والمنافسة في مراكمة الثروات فقد غاب هاجس المنافسة الدولية عن رجال الأعمال الإسبان الذين آثروا -بدلًا عن ذلك- الهيمنة على السلطة السياسية للحصول على احتكارات طويلة الأمد في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة والمالية. وهي النزعة التي ستكرِّس لاحقًا ثقافة سائدة تمجد الريع والمحسوبية بدل التنافس وروح المبادرة التي حفزت ديناميات التحول الرأسمالي بالدول الأوروبية المتقدمة.

ويستمر المؤلف في المقارنة، فيرى أن التخلف التاريخي للاقتصاد الإسباني لا يمكن تشخيصه إلا بالمقارنة مع الدول التي أنجزت ثورتها الزراعية الخاصة مثل هولندا وإنكلترا، فيما ظلت إسبانيا أسيرة التقنيات القديمة ومسلكيات الاحتكار والاحتماء التي كرست تحكم اللوبي الزراعي في سلَّة الغذاء. ويسري الأمر نفسه على المواد المصنَّعة، فعلى عكس دول شمال أوروبا لم تحرص الحكومات الإسبانية المتعاقبة على قيادة التصنيع الذي يعد المحرك الاقتصادي للتاريخ، بل إن السلطة السياسية اختارت أيسر سبيل بالاستعانة بالمصادر الخارجية لرجال الأعمال المقربين من دوائر القرار، وهو ما ساعد على تشكل أرستقراطية اقتصادية جديدة ظلت تقاوم باستمرار كل محاولة لتخفيض التعريفات الجمركية والانفتاح على المنافسة الأجنبية التي تهدد مصالحها الخاصة حتى ولو كان في ذلك تدمير اقتصاد البلاد (ص 45).

من بين هذه المحاولات، يشير الكاتب إلى تأسيس جمعية إصلاح التعريفات الجمركية التي تجندت لمواجهة لوبي الصناعيين الكبار بقيادة القس لويس رودريغيز (1804-1872)، وزير المالية وأحد رواد الاقتصاد السياسي في إسبانيا بإصداراته العديدة عن فلسفة الاقتراض ومعضلة الديون؛ إذ سيسهم كتابه عن “حرية البنوك” في إثارة الانتباه إلى إضرار لوبي المصارف الاحتكارية باقتصاد البلاد(7). ضمن هذا السياق اندرجت جهود رائد التجارة الحرة بإسبانيا، لوريانو فيغيرولا (Laureano Figuerola)، وزير المالية في الحكومة المنبثقة عن “الثورة المجيدة” لسنة 1868 الذي كرس سياسة تجارية مفتوحة من خلال تخفيض التعريفات الجمركية وإبرام معاهدات تجارية مع الدول الأوروبية. كما سعى إلى الترويج لتوجهات الليبرالية الاقتصادية التي حفزت الثورة الصناعية الثانية بإنكلترا وخاصة طروحات آدم سميث (Adam Smith) وجان باتيست ساي (Jean Baptiste Say). غير أن نموذج إسبانيا الحمائية (la España proteccionista) سرعان ما استُعيد على إثر آخر الحروب الكارلية (las guerras carlistas)، التي انطلقت في 1875 على يد أوليغارشية جديدة وجدت ضالتها في الطروحات الحمائية لفريدريش لست (Friedrich List) وألكسندر هاميلتون (Alexander Hamilton) لإضفاء مسوغات أيديولوجية على تدابير تقييد التجارة الخارجية.

بشكل عام، ساد النهج الحمائي في إسبانيا إلى حدود سنة 1953، تاريخ توقيع اتفاقية تعاون مع إدارة رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ترومان، فُتح بموجبها المجال للرساميل والسلع الاستهلاكية الأميركية، مقابل قروض ومساعدات اقتصادية سخية لنظام يبحث عن مخرج من الانهيار الاقتصادي(8)، مع تسهيل الاندماج في النظام المالي الدولي بإرجاع إسبانيا إلى الأمم المتحدة وانضمامها إلى مؤسسات بريتون وودز (Bretton Woods). وسيشكل هذا الواقع سياقًا مُحفِّزًا للبرجوازية العليا الكتالونية للمطالبة بتسريع الإصلاحات الاقتصادية على يد المصرفي والجمهوري الكتالوني، خوان ساردا ديكسيوس (Juan Sardà Dexeus)، وتلميذ جون مينارد كينز (John Maynard Keynes)، مفكر الديمقراطية الاجتماعية الذي أسهمت توصياته في إنقاذ النظام الرأسمالي بعد كارثة 1929؛ إذ وجَّه “ساردا” مذكرة إلى وزارة المالية، في فبراير/شباط 1959، دعا فيها إلى تثبيت سعر الصرف وتخفيض قيمة عملة البيزيتا (Peseta) لتعزيز قوتها في أسواق التداول الدولية وكذا تقييد الائتمان المصرفي فضلًا عن إلغاء دعم الأسعار وتوفير المرونة للاستثمارات الأجنبية، كما تصدى ساردا لطروحات الكنيسة والمحافظين الذين يعدون الليبرالية عقابًا إلهيًّا (ص 88).

ارتباطًا بذلك، يشير المؤلف إلى الدور السلبي للنخب الدينية في تأخير بروز الرأسمالية التجارية مُستندًا على خلاصات بعض الباحثين الأجانب، وخاصة مارجوري جريس هاتشينسون (Marjorie Grice-Hutchinson)، الخبيرة الإنكليزية المتخصصة في مدرسة “سالامانكا”، التي ترى أن محاكم التفتيش منحت الحصانة للمراقبين المقربين من السلطة للانتفاع من الوضع من خلال نهب ممتلكات المسلمين واليهود الذين فُرض عليهم الطرد (ص 34)، كما أن منع هؤلاء في المراحل السابقة من تملُّك الأراضي أجبرهم على التخصص في “المهن غير المسيحية” وخاصة الاقتراض المحظور بموجب القانون الكنسي، وقد أدى طرد اليهود إلى تصفية هذ النشاط المالي الذي كان يشكِّل عصب النشاط الاقتصادي. وبسبب معضلة السيولة المالية، فقد اضطرت إسبانيا إلى الاعتماد على قروض كبار المرابين في جنوة وفرنسا وإنكلترا. كما أن الأفكار التي روجت لها مدرسة سالامانكا (Escuela de Salamanca) أسهمت في تنفير الطبقات الغنية من الأعمال التجارية ومن التقدم العلمي (9).

وعن هذا الاستنتاج، يلاحَظ أن الكاتب يستحضر دور التيارات البروتستانتية في إسناد التقدم الاقتصادي بألمانيا في ضوء التفسير الذي قدمه ماكس فيبر في كتابه “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية”، منتقدًا بذلك قراءة الكاثوليكية الإسبانية المحافظة للمسيحية من خلال جرد بعض المفارقات، من ضمنها أنه في السنة التي نشر فيها ديدرو (Diderot) ودالمبرت (d’Alembert) “الموسوعة” التي تلخِّص معرفة عصر الأنوار (1772) كانت جامعة سالامانكا لا تزال تناقش: هل يجوز تدريس نيوتن وهوبز وديكارت ولوك في الفصول الدراسية؟ ولذلك، فقد تأخر ظهور الأفكار الليبرالية في ظل توجس الكنيسة والتاج والنخب الاقتصادية والاجتماعية من قيم الثورة الفرنسية؛ بحيث طال الانتظار إلى سنة 1858 لإقرار نظام التعليم الحديث الإلزامي بموجب قانون “مويانو” نسبة إلى الفقيه كلوديو مويانو (Claudio Moyano) الذي أقنع الكنيسة بالتخلي عن احتكار التعليم (10). لقد حصلت الفجوة نفسها في إنشاء المعاهد العليا، بحيث لم تُحدَث الأكاديمية الإسبانية للعلوم الفيزيائية والدقيقة إلا في 1847، أي بعد نحو قرنين من تأسيس الجمعية الملكية البريطانية (Royal Society)، وإذا كانت فرنسا قد أنشأت، منذ 1872، معهد العلوم السياسية (Sciences Po) فإن نظيره بإسبانيا لم يظهر إلا بعد عقود عديدة وبمواصفات أقل بكثير من النموذج الفرنسي، وهو ما يدل على تخوف النظام السياسي من تأثير مثل هذه المعاهد على إنتاج نخب “مزعجة” قد تؤثر على منظومة الحكم وعلى محيط اتخاذ القرار (ص 37).

من الناحية التاريخية كذلك، يزعم كارلوس سانشيز أن “رأسمالية التاج” كانت وراء تمركز مناطق الجذب الاقتصادي في إسبانيا في مثلث بلباو-برشلونة-مدريد، لكون معظم الألقاب مُنحت لنخب محلية ساعدتها على مراكمة الثروات وزيادة المشاريع مما أخل بالتوازن الاقتصادي والديمغرافي بباقي المناطق في الدخل التي أصبحت أكثر فقرًا وأمية، وجرَّاء ذلك فليس من باب الصدفة أن أكبر تجمعات رجال الأعمال وُلد في برشلونة وبلباو وهي التجمعات التي أصبحت تتحكم في سياسات إسبانيا، فقد عارض رجال الصناعة الكتالونيون الاتفاقيات التجارية التي تجرأت على تخفيف المستوى الحمائي لتعريفة سنة 1891. كما سعت العائلات الأرستقراطية القديمة إلى الإسهام في الصناعة المالية للتحكم في القرار السياسي، على غرار أوركويخو أوروتيا (Urquijo Urrutia) -المقرب من عائلة روتشيلد- الذي أصبح يتحكم في بعض الأنشطة الحساسة مثل المعادن والكهرباء بفضل إغراقه نخب مدريد بالقروض.

وفي هذا السياق، يرى الباحث أن انحطاط إسبانيا يعود إلى استيلاء القلة على الريع باسم المصلحة العامة؛ لأن التفاف الأغنياء حول الدولة أدى إلى نسج شبكة زبائنية لاستغلال الموارد الطبيعية والحصول على قروض تفضيلية والسيطرة الاحتكارية على الأسواق، وبسبب ذلك فقد سقطت الدولة ضحية اقتسام “الغنائم” بين شبكات المصالح في خضم الزواج الكاثوليكي بين المال والسلطة، الذي سيجعل الأوليغارشية الرأسمالية (Oligarquía capitalista) تتنافس على منافذ السطو على مراكز النفوذ بدل الانشغال بإنتاج الثروة. وعلى الرغم من ظهور بعض الإصلاحات الجريئة فإن التحالف المصلحي سرعان ما وأدها في المهد، على غرار محاولة زعيم التيار التقدمي بالحزب الليبرالي، سانتايغو ألبا بونيفاس (1872-1949)(11)، استغلال تداعيات الحرب العالمية الأولى لصالح الاقتصاد الإسباني؛ إذ قدم خلال ولايته الثانية وزيرًا للمالية، في سنة 1918، خطة إستراتيجية لتقوية قدرات تحصيل الضرائب والحد من التهرب الضريبي، مع إجبار الشركات الكبرى المستفيدة من الموقف المحايد لإسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى على دفع ضرائب جديدة على الأرباح، إسهامًا في تصحيح ضبط توازنات الميزانية العامة التي تضررت من سوء التدبير ومن الكلفة الباهظة لمواجهة ثورة الريف في المغرب بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي خلال عشرينات القرن الماضي، كما حاولت خطة “ألبا” استلهام تجربة رئيس الوزراء البريطاني، لويد جورج (1863-1945)، لتلبية الحد الأدنى من المطالب العمالية وتعزيز التشريعات الاجتماعية. لكن هذه الإصلاحات قُوبِلت برفض عارم من طرف المجمعات الصناعية والمصرفية بالباسك وكتالونيا بحجة أن الخطة تخدم مصالح البرجوازية القشتالية وليس الاقتصاد الإسباني (ص 21).

واعتمادًا على التحليل نفسه، يرى كارلوس سانشيز أن الرأسمالية الصناعية في إسبانيا نشأت في معاطف السلطة وغير قادرة على الاستمرار بدون مساعدة دائمة من الدولة عبر الامتيازات ومختلف أشكال المحاباة، وسيؤدي تغلغل ثقافة الريع إلى جعل الحكومات المتعاقبة أسيرة المركب المصلحي الصناعي الذي شدَّد الخناق على كل وزير يحاول تحديث اقتصاد البلاد في إطار من التنافسية والشفافية، منذ الإرهاصات الأولى للتصنيع في عهد بريمو دي ريبيرا (Primo de Rivera)‏ الذي حاول الانفتاح على الرساميل الأجنبية التي أبدت اهتمامها بالاستثمار في الصناعة الكهرومائية وصناعة الصلب والسكك الحديدية وهي القطاعات التي ظلت تحتكرها البرجوازية الباسكية والكتالونية عقودًا، التي وحَّدت جهودها في إطار اتحاد الصناعات الوطنية لمواجهة الرساميل الأجنبية بدعوى تهديد السيادة الإسبانية. أما في عهد فرانكو (Francisco Franco) فقد استفادت التجمعات الصناعية من سياسة الانكفاء في إعاقة كل انفتاح يهدد امتيازاتها وخاصة الشركات التي أسهمت في تمويل الانقلاب على الديمقراطية بشرط ابتعادها عن العمل السياسي المباشر، كما استغلت هوس نظام فرانكو باستدراك النقص الكبير في مجال التصنيع للاستحواذ على المحفظة العمومية عبر وساطة المصارف الست الكبرى التي مُنحت حصة 49% من الهيئة الوطنية للصناعة (INI) فيما ظلت تحتفظ الدولة بباقي الأسهم (ص 111).

يبدو أن الكاتب متأثر جدًّا بسطوة اللوبي المصرفي في إسبانيا، ولذلك انشغل برصد مسارات تطوره في مختلف محاور الكتاب؛ إذ أرجع تمركز المصارف بمنطقتي كتالونيا والباسك إلى كثافة التراكم الرأسمالي في ظل توطين معظم المراكز الصناعية بها، زيادة على الأموال الضخمة التي عاد بها التجار الكبار من القارة الأميركية منذ بداية القرن العشرين. وقد أفرزت عمليات الاندماج تحكم ثلاثة بنوك كبرى بالخريطة البنكية للبلاد بامتلاكها حوالي 60 بالمئة من سوق الائتمان. وهو ما سيجعل النظام المصرفي الوليد تحت رحمة الأوليغارشية المالية. وبشكل تدريجي ستسهم المصارف في ترسيخ الطابع الزبائني للرأسمالية الإسبانية في القرنين 20 و21 بحكم امتلاكها لأدوات تأثير مهمة على النظام السياسي. وللاستدلال على قوة اللوبي المصرفي يشير الكاتب إلى أن قانون البنوك ظل ساريًا بمقتضياته المُحابية للمصرفيين بدون أي تغيير على امتداد فترات طويلة استغرقت نظامين ديكتاتوريين وجمهورية وعدة ديمقراطيات إلى حدود 1994 لما ضغط الاتحاد الأوروبي وأوصى بمنح استقلالية للبنك المركزي في مواجهة السلطة السياسية والبنوك الخاصة. لكن الجرعة الإصلاحية التي جاء بها القانون المذكور سرعان ما أُبطل مفعولها تحت تأثير اللوائح التنظيمية وسياسات المحاباة التي نهجتها حكومات “المسار الديمقراطي” تجاه اللوبي المصرفي (ص 66).

قد يبدو في هذا التحليل تضخيم للتأثير السياسي لجماعات الضغط المصرفية، لكن المتتبع لتفاعلات المشهد السياسي المعاصر بإسبانيا يعرف جيدًا أن الطبقة السياسية بيمينها ويسارها لا تزال أسيرة لوبيات البورصة المعروفة إعلاميًّا بـIBEX35 (12). ولعل هذا ما جعل التيارات السياسية الجديدة المنبثقة عن” الربيع الإسباني” تأخذ مسافة من كل ما يمت بصلة لشبكات المصالح المصرفية (13)؛ إذ ما فتئ بابلو إغليسياس (Pablo Iglesias)، أستاذ العلوم السياسية والرئيس المؤسس لحزب “قادرون” (Podemos)، يحذر من اللجوء إلى القروض لتمويل الحملة الانتخابية؛ لأن البنوك أصبحت لوبيات مالية تتحكم في المشهد السياسي(14). وبسبب ذلك، فقد تعرض الحزب لهجوم منسق من طرف “الديكتاتورية الاقتصادية” للبنوك، فقد عبَّر مدير بنك ساباديل (Sabadell) غير مرة عن قلقه من خطاب بوديموس المُهدِّد لمصالح الدوائر المالية الإسبانية داعيًا إلى ضخ المزيد من الدعم للأحزاب المؤيدة للمبادرة الحرة والتطور الاقتصادي(15)، في إشارة إلى حزب “مواطنون” (Ciudadanos) الذي ظل متشبثًا بالتمويل الذاتي لأنشطته وحملاته(16)، لكن صعوبات التمويل في خضم فترة متقلبة شهدت إعادة الانتخابات مرات عدة عجَّلت بـ”اختفاء” هذين الحزبين من المشهد السياسي، مقابل استمرار هيمنة الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي على الخريطة الانتخابية بفعل تحالفهما الأبدي مع مركبات المصالح الصناعية والمالية والزراعية.

برزت المحاولات الأولى لمأسسة جماعات الضغط على يد التاجر والسياسي، بوش إي لابروس (Bosch i Labrús)، بطل الأفكار الحمائية والمدافع الكبير عن الصناعيين الكتالونيين (ص 26)، الذي كان قد أسس منظمة الترويج للإنتاج الوطني (Fomento de la Producción Nacional) وللدفاع عن امتيازات الأرستقراطية المصرفية الإسبانية التي أصبحت تتحكم في المفاصل المالية للاقتصاد منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولتدعيم موقفه المعارض للتجارة الخارجية استلهم بوش طروحات كبار المفكرين الحمائيين مثل فريدريش ليست (Friedrich List) وهنري تشارلز كاري (Henry Charles Carey‏). وبالرغم من تنصيص مشروع دستور 1978 على ضبط مساطر إنشاء ومراقبة وتسجيل مجموعات المصالح فإن الصيغة النهائية للدستور قد خلت من أي مقتضى بهذا الخصوص، كما لم يصدر أي نص تشريعي لإضفاء الطابع المؤسسي على جماعات الضغط(17)، التي تحبذ الاستمرار في العمل بالظل مستفيدة من الفجوات القانونية، على حد تعبير آدم سميث “نادرًا ما تخلو اجتماعات أصحاب الأعمال من مدارسة كيفيات التآمر على الجمهور أو من أجل زيادة منسقة في الأسعار” (ص 166).

في تحليله لطبيعة الشخصيات المهيمنة على الحكم يُرجع الكاتب ضعف تأثير النخب التقنية إلى تأخر إحداث مدارس الهندسة وإدارة الأعمال مقارنة بالدول الغربية، فإذا كانت كليات إدارة الأعمال قد برزت منذ نهاية القرن 19 بفرنسا وألمانيا وأميركا فإن النظام البطريركي بإسبانيا (El patriarcado) قد أخَّر تدريس التنظيم الصناعي، بحيث لم تنشأ أول كلية للاقتصاد إلا في 1943 فيما لم يتم الشروع في تشييد معاهد إدارة الأعمال إلا مع بداية الخمسينات على شاكلة المدارس الأنكلوسكسونية، في محاولة لاستلهام تجربة مدرسة لندن للاقتصاد التي أُنشئت في 1895 بمبادرة من زعماء جمعية “فابيان” كبرنارد شو (Bernard Shaw) وبياتريس وسيدني ويب (Beatrice y Sidney Webb) الذين يُعدُّون من المهندسين الأوائل لما يسمى اليوم بدولة الرفاهية (welfare state). وبسبب خبرتها التقنية وافتقارها للحس السياسي -مقارنة بالصحافيين والمحامين والمدرسين- فقد أصبح المهندسون فاعلين أساسيين في “هندسة” السياسات العامة منذ “نظام فرانكو” إلى “نظام 1978” في ظل تواشج علاقات المصاهرة والشراكة بين عائلات المهندسين والسياسيين. وفي هذا الصدد يشير الكاتب إلى أن آخر لقب نبيل هو الذي منحه خوان كارلوس إلى قطب الأعمال والمهندس المدني، خوان ميغيل فيلار مير (Juan-Miguel Villar)، مالك أكبر شركة للبناء والأشغال العامة بإسبانيا (OHLA) التي نالت، في إطار كونسورتيوم دولي، صفقة مدِّ خط السكك الحديدية الفائق السرعة بمكة المكرمة مقابل عمولات غير قانونية لفائدة الملك الإسباني السابق، وهي الصفقة التي أثارت جدلًا كبيرًا بشأن تضارب المصالح انتهت بهروب خوان كارلوس من البلاد(18).

يرى الكاتب، بشكل عام، أن تواطؤ شبكات المصالح مع منصات القرار يظل عنصرًا محددًا للسياسة الاقتصادية بإسبانيا، إذا لم تحل استحقاقات الانتقال الديمقراطي دون استمرار تأثير النخب الاقتصادية في صنع السياسات العامة. لقد نشأ تحالف جديد بين النخب الاشتراكية التي صعدت إلى الحكم والأوليغارشية القديمة التي نمت. وقد أثَّرت ضغوط مجموعات المصالح على اختيارات أول حكومة اشتراكية بعد التحول الديمقراطي؛ فقد استبعد رئيس الوزراء، فيليبي غونثاليث (Felipe González)، في 1982 تأميم البنوك والشركات الكبرى مع تعهده بدعم المصرفيين لـ”شراء” الاستقرار المالي. وأكثر من ذلك فقد وجَّه المركَّب الصناعي/المالي السياسات الحكومية لخدمة أجندة معارضة للتوجه الاشتراكي للحكومة، التي قدمت حزمة حوافز للفاعلين الكبار في القطاع الطاقي لمواكبة قرارها استبدال الغاز الطبيعي بالطاقة النووية الطاقة لتوليد الكهرباء في 1989؛ إذ استغل المصرفي جوردي بوجول (Jordi Pujol)، رئيس الحكومة الإقليمية بكتالونيا وزعيم حزب التجانس والوحدة (Unio i Convergènce) تحالفه مع “غونثاليث” وعلاقاته القوية بوزراء الصناعة والاقتصاد للتأثير على السياسة الطاقية، خصوصًا أنه صاحب أكبر شركة للغاز الطبيعي. وكذلك شأن السياسي، دوران فاريل (Durán Farell)، صاحب شركة كتالونيا للغاز التي كان من المسهمين فيها وزراء اشتراكيون على رأسهم نائب رئيس الحكومة. وقد أسفر تضارب المصالح عن ضجة سياسية هائلة عندما وافق مجلس الوزراء على بيع 91 في المئة من الشركة الوطنية للغاز (Enagás) إلى شركة كتالونيا للغاز بدعم فيليبي غونثاليث الذي كان دائم الثناء على دوران فاريل لدوره في ضمان إمدادات الطاقة لشريان التصنيع الإسباني في كتالونيا (ص 11).

عود على بدء، أعاد الكاتب التأكيد في نهاية المؤلف على أن مسببات تأخير النهضة الصناعية في إسبانيا، وفي مقدمتها غياب المنافسة التي خنقت الاقتصاد وجعلته منكفئًا في ظل بنية مؤسسية مترهلة تسيطر عليها النخب الريعية (las élites extractivas)، أما السبب الثاني فيرجع للمقاربة المعتمدة في تحفيز الاقتصاد بالتركيز على تحصين شبكات النخب الملتفة حول السلطة بدل تحفيز النشاط الاقتصادي، وهما سببان سيسهمان في تشكيل منظومة المحسوبية (patronage) التي غذت قيم استغلال النفود والتحايل على القواعد وتبخيس الكفاءة الاقتصادية، معتبرًا أن الاقتصاد الإسباني المعاصر ابتلي بجمعيات أصحاب العمل والمنظمات الاجتماعية والنقابية ومجموعات الضغط التي تحولت إلى “إمبراطورية مجهولة” (El imperio anónimo) دفعت الدولة -من خلال شبكاتها الأخطبوطية المحيطة بمراكز القرار- إلى إصدار قرارات سيئة دمرت القطاعات الاقتصادية الواعدة، وتغاضت عن معاقبة الشركات الفاسدة والمحتكرة، كما كرست فسادًا منهجيًّا يولِّد باستمرار وضعيات الظلم والتمييز ويضر بمصداقية السلطات العامة.

في ضوء ذلك، أكد الكاتب أنه ليس من قبيل المصادفة أن الديمقراطيات الأكثر تقدمًا هي التي يقل فيها الفساد وتتعاظم بها مؤشرات الشفافية. وهنا يبدو أن الكاتب قد ناقض الحكم الذي انتهى إليه في السابق عند حديثه عن حكم “الطوائف الاقتصادية” (Las Castas Económicas) التي تشكل أساس الدولة العميقة في مختلف الفترات يستوي في ذلك حالات قوة الدولة أو ضعفها، والطابع الديمقراطي أو الديكتاتوري للنظام السياسي(19)، والحال أن إسبانيا قد مرَّت من تجربة ديمقراطية أصبحت مثالًا يُحتذى عبر العالم عبر إصلاحات متعاقبة قلصت الفجوة بين الدولة والمجتمع، وارتقت بمؤشرات حكامة تدبير الشؤون العامة، ولذلك، فقد كان على الكاتب أن يبرز بالملموس الأعطاب المزمنة للنظام الديمقراطي في إسبانيا التي تجعله -على حدِّ تعبيره- غير قادر على لجم الشبكات الزبونية في سعيها للاستحواذ على النظام الاقتصادي.

لقد وقف كارلوس سانشيز على ملامح مهمة في رصد تأثيرات النخب الاقتصادية على السياسات العامة، لكنه لم يتمكن من الإحاطة بكامل الصورة؛ لأن تحليله توقف عند مرحلة التسعينات مهملًا الفترات اللاحقة التي شهدت متغيرات حاسمة في الحياة السياسية والاقتصادية في إسبانيا، وخاصة الأزمة الاقتصادية الكبرى (2008-2014) التي أرخت بظلالها على المشهد السياسي؛ حيث طفت على السطح حالات سافرة لمبلغ التأثير الذي تلعبه مركبات المصالح في “فبركة” الخريطة السياسية في إسبانيا، مثل قضية الصندوق الأسود المخصص لتمويل الحزب الشعبي برعاية المصرفي لويس بارسيناس، والتي ستطيح بحكومة ماريانو راخوي في 2018 بعد سلسلة من التحقيقات انطلقت منذ 2009. كما تميزت هذه الفترة بظهور فاعلين جدد في ظل واقع متغير ورفض اجتماعي جعل قطاعات واسعة من المجتمع تصطف خلف تيارات أقصى اليسار واليمين التي تميز خطابها بمعاداة لوبيات المصالح. وبالرغم من عدم معالجة الكاتب لهذه الأحداث فإن تحليله يبدو صائبًا في جزء منه أمام استمرار إمساك مركبات المصالح الاقتصادية بتلابيب اللعبة السياسية. والأمر نفسه بشأن الطابع البراغماتي للنخب الإقليمية إذا ما تجاوزنا حالة إعلان استقلال كتالونيا في 2018، وحتى مآلات هذه الأخيرة تبرز بالملموس تأثير الأوليغارشيات المالية والصناعية في المشهد السياسي بكتالونيا وبإسبانيا بشكل عام؛ حيث لعبت دورًا ملحوظًا في التقارب الذي حصل بين اليسار الجمهوري الكتالوني “ERC” وبين الحزب العمالي الاشتراكي (PSOE) بزعامة بيدرو سانشيز (Pedro Sánchez) في مسعاه لتشكيل الحكومة المنبثقة عن انتخابات يوليو/تموز 2023، مقابل فشل زعيم الحزب الشعبي الذي كان يسنده اللوبي الزراعي وجماعات الضغط القشتالية المناهضة للقوميات الإقليمية.

المراجع

(1) Carlos Sánchez Sanz, Capitalismo de amiguetes: Cómo las élites han manipulado el poder político, ) Madrid :Harper Collins Ibérica, 2024(.

(2) كارلوس سانشيز سانز: باحث في العلوم السياسية وصحفي متخصص في الاقتصاد الدولي والسياسات المالية من خلال عمله مديرًا مساعدًا للصحيفة الليبرالية “إل كونفيدنسيال” (El Confidenciale)، من أهم إصداراته: الآمال الجديدة لإسبانيا (2007)، وأموال جديدة (2003).

(3) Joaquín Costa, oligarquía y caciquismo..como la forma actual de gobierno en España: urgencia y modo de cambiarla, )Madrid: Biblioteca Omegalfa, 2021(, p.149-150.

(4) José María Jover. Política, diplomacia y humanismo popular: estudios sobre la vida española en el siglo XIX, )Madrid: Turner, 1976(, p. 262.

(5) Carlos Sánchez Sanz, p.14.

 (6) فرانسيسك كامبو (1876 –1947): سياسي إسباني عمل وزيرًا في عدة حكومات، عُرِف بدفاعه الشرس عن مصالح البرجوازية العليا بكتالونيا من خلال مسؤولياته وزيرًا في عدة حكومات متعاقبة ورئيسًا للرابطة الكتالونية (La Liga de Catalunya). لُقِّب بمنظِّر الديكتاتورية الإسبانية؛ حيث كان أول الداعمين لانقلاب بريمو دي ريفيرا، سنة 1923، مقابل حماية مصالح الصناعيين الكتالونيين، كما أسهم في تمويل تمرد فرانكو على الجمهورية الثانية (1931-1939) بسبب توجسه من إضرار الإصلاحات الاشتراكية بامتيازاته.

(7) Borja de Riquer i Permanyer, “Francesc Cambó: un regeneracionista desbordado por la política de masas”, Revista de Historia Contemporánea, No.28 )1997( ,p. 94.

(8) Pastor, Luis María, La libertad de banco y cola del de España, )Madrid :imprenta a cargo de B. Carranza, 1865( ,124-125.

(9) Carlos Sánchez Sanz, p.75.

(10) Ibid., p. 33.

(11)  كلوديو مويانو (1809-1890): سياسي ليبرالي وفقيه قانوني إسباني دافع من خلال عضويته بالأكاديمية الملكية للفقه والتشريع والأكاديمية الملكية للعلوم الأخلاقية والسياسية وبالبرلمان عن ضرورة تحديث التعليم، وقد أثمرت جهوده إصدار قانون التعليم العمومي، في 1857، الذي ظلت مقتضياته الخاصة بتنظيم وإصلاح التعليم سارية إلى حين صدور القانون العام للتربية في 1970.

 (12) يعد المحامي والسياسي سانتياغو ألبا بونيفاس (Santiago Alba Bonifaz) الذي تولى لفترة طويلة عدة مناصب وزارية، من أبرز القادة البارزين لحركة التجديد (Régénérationnisme) التي حاولت التصدي للعوامل المكرِّسة لانحطاط إسبانيا.

 (13) نبيل دريوش، إسبانيا الآن…تحولات المشهد السياسي الإسباني (2008-2023)، (الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، 2024،)، ص 115.

 (14) المرجع السابق، ص 15.

(15) Ana Marcos, “Podemos o cómo financiar campañas sin los bancos”, EL PAIS, 20/03/2019, accessed August 11, 2024. https://bit.ly/3WXcWug

 (16) دريوش، ص 77.

(17) Gregoria Caro, “Podemos quiere prohibir que los bancos financien campañas electorales y medios de comunicación”, ABC, 25/03/2019, accessed August 01, 2024. https://bit.ly/46Bore7

(18) Galcerà, Irene Araguàs. “La regulación de los lobbies: hacia la consecución de la transparencia y el control de las actividades desarrolladas por grupos de interés”, Revista Vasca de Administración Pública. no. 106 (2016) p. 253.‏

(19) Juan Martínez, Claves: “Qué es el caso del AVE a La Meca y por qué se involucra al rey Juan Carlos?”, 20 minutos.es, 08/06/2020, accessed July 28, 2024.  https://bit.ly/3WAPwJD